آخر 10 مشاركات
الــــسَــــلام (الكاتـب : دانتِلا - )           »          1- لمن يسهر القمر- روايات أحلام القديمة- آن هامبسون (كتابة /كاملة)* (الكاتـب : جين اوستين333 - )           »          على أوتار الماضي عُزف لحن شتاتي (الكاتـب : نبض اسوود - )           »          طوق من جمر الجحيم * مميزة ومكتملة * (الكاتـب : samar hemdan - )           »          بعينيكِ وعد*مميزة و مكتملة* (الكاتـب : tamima nabil - )           »          زوجة لأسباب خاطئة (170) للكاتبة Chantelle Shaw .. كاملة مع الرابط (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          شيء من الندم ..* متميزه و مكتملة * (الكاتـب : هند صابر - )           »          281 - أميرة رغم عنها - صوفي ويستون **تصوير جديد** (الكاتـب : Hebat Allah - )           »          و أَمَةٌ إذا ما ابتُلِيَت في شرَكٍ ما جنتَ *مميزة* *مكتملة* (الكاتـب : فاطمة عبد الوهاب - )           »          استسلمي لي(164)للكاتبة:Angela Bissell (ج1من سلسلة فينسينتي)كاملة+رابط (الكاتـب : Gege86 - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى الروايات والقصص المنقولة > روايات اللغة العربية الفصحى المنقولة

إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 28-05-15, 10:53 AM   #21

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي





الجزء العشرون




جلس الجميع على مائدة العشاء في الوقت المعتاد، و ظل المقعد المقابل لليلى شاغرا. التفتت رانيا التي تجلس على المقعد المجاور و هتفت في حيرة :
ـ أين عمي فراس؟

لم يكن فراس قد عاد إلى القصر بعد، مع أنه كان دوما من أكثر المحافظين على موعد العشاء المحدد... دقيق جدا في مواعيده. و مع أن السيد نبيل ينزعج في العادة كلما تأخر أحد أفراد العائلة عن الموعد، إلا أنه هذه المرة كان يتناول حساءه في هدوء و لم يعلق بكلمة... كأنه يدرك جيدا سبب غياب فراس و يتفهمه... تكلم أمين مبديا استغرابه :
ـ لم يكن طبيعيا اليوم! حين جاء إلى المستشفى هذا الصباح بدا مرتبكا... كأنه أضاع شيئا ما، ثم غادر بسرعة... أشك أن لديه مشاكل في العيادة...

أكملت ليلى شطيرتها في هدوء و قد سرحت نظراتها إلى الفراغ... يبدو أنه لم يكن طبيعيا مع الجميع... أمره غريب ذاك الـ فراس! تمر لحظات من الهدوء تراه فيها طبيعيا، و لحظات أخرى يدهشها فيها بنظراته القاسية و تصرفاته المحيرة... هل تكون تلك أعراض الاضطراب النفسي الذي لازمه منذ وفاة حنان؟ تنهدت بصوت مسموع و هي تضع المزيد من الحساء في صحنها...


كانت الليلة حارة نوعا ما. لم تستطع النوم و هي تفكر في والدها و في قدوم عمر بعد يومين فقط... لم تعد ألغاز القصر تشغل تفكيرها مثل السابق... لديها ما يكفيها من الهموم الشخصية! تقلبت في سريرها دون جدوى... و بعد لأي، ارتدت ملابسها ثانية و قررت النزول إلى الحديقة...

كان القصر مظلما تقريبا و قد أوى أغلب سكانه إلى النوم. سارت في هدوء في الممر المضاء بمصابيح ليلية خفيفة الإنارة ثم نزلت إلى الأسفل، مرورا بالبهو... كانت الحديقة هادئة، لا يسمع فيها سوى صوت الصراصير الليلية التي لا تمل الغناء، و حفيف أوراق الشجر التي يحركها النسيم بين الفينة و الأخرى.

اتخذت مجلسها على الأرجوحة الكبيرة في الفناء الأمامي، استرخت و أخذت تهزها في حركة بطيئة إلى الأمام و إلى الخلف، مثل مهد الطفولة... لشد ما تحتاج الآن إلى من يهدهدها و يمسح على شعرها حتى يغلبها النعاس... أمها لم تكن الشخص المناسب أبدا لمثل هذه الحركات... و أبوها يحتاج إلى من يرعاه في هذه الفترة. و هي؟ من يرعاها و يخفف عنها و يواسيها في محنتها؟ سالت العبرات على وجنتيها في صمت... كانت قررت أن لا تبكي أمام والدها حتى لا تشغل باله عليها... و لا تريد أن تبكي أمام منال أو أمين حتى لا يعتقدا بضعفها و قلة حيلتها... لكن على الأقل يمكنها أن تستسلم لدموعها حين تخلو إلى نفسها... حيث لا أحد يشهد على ألمها سوى النجوم و نسيم الليل الذي يداعب وجهها...


فجأة انتبهت إلى ظل شخص يقف غير بعيد عنها. لكن الإنارة كانت مسلطة على الأرجوحة في حين خيم الظلام على بقية أنحاء الحديقة، إلا من أعمدة إضاءة قليلة متفرقة... لم تتمكن من تمييز ملامح الشخص الواقف أمامها كأنه تمثال لا يبدي حراكا. لفت السترة على جسمها في إحكام و هتفت في شك :
ـ من هناك؟

بعد صمت قصير، جاءها صوت مألوف...
ـ إنه أنا...

قال ذلك و هو يتقدم إلى دائرة الضوء حتى تتمكن من رؤيته...

كان فراس قد عاد إلى القصر منذ دقائق قليلة و قد تجاوزت الساعة منتصف الليل... كان قد خرج في نزهة ليلية بعد يومه المتعب، ليروح عن نفسه، و يتفادى لقاء والده مجددا... لم يتصور أن الموضوع قد يشغل باله إلى تلك الدرجة. فقد كان تركيزه قليلا طوال النهار و قد أضناه التفكير المتواصل في كل ما يحصل معه في الأيام القليلة الماضية...

دخل من البوابة الخلفية، و تسلل في هدوء إلى المدخل الجانبي... لكن استرعى انتباهه ضوء الفناء الأمامي الذي كان مفتوحا على غير العادة، خاصة في تلك الساعة المتأخرة... اقترب في حذر ليتثبت من الأمر... و هناك رآها، كما لم يرها من قبل... كانت مستلقية على الأرجوحة العريضة، مطمئنة إلى وحدتها... تضم ذراعيها حول جسدها رغم حرارة الطقس... كأنها... كأنها تحمي نفسها، تغلق أبواب صدرها على آلامها و تخفيها داخلها في حرص... قفز إلى ذاكرته مشهد مشاجرتها مع رجاء منذ يومين... نفس الحركة، التي أشعرته بضعفها و خوفها... بحاجتها إلى مصدر أمان في حياتها... لكن والدها لم يعد قادرا على إشعارها بالأمان بعد الآن... فمن يمكنه ذلك؟ هل هو صديقها الذي أهداها باقة الورود؟ انقبض صدره لهذه الفكرة... لماذا انزعج اليوم حين رآهما في الممر؟ بل لماذا تضايقه فكرة وجود شخص ما في حياتها؟ أرقه هذا السؤال طوال اليوم، و هو لا يفهم لتصرفاته معنى يريحه... و يرضيه!

لبث مسمرا في مكانه يتأملها في صمت، يحاول أن يقرأ أفكارها... في من تراها تفكر الآن؟ ابتسم في سخرية و هو يقول في نفسه : ليس فيك على أية حال! فجأة حركت رأسها، فلمح آثار الدموع تلمع على وجنتيها... أحس بألم في صدره. إنها تبكي مجددا، و هو لا يحتمل أن يراها تبكي... تذكره بدموع حنان... لا... لا، دموعها مختلفة... دموع ألم و خوف... أما دموع حنان...

انقطع حبل أفكاره حين رفعت رأسها في اتجاهه... و رأته. لم يستطع أن يختفي بعد أن افتضح أمره. ما الذي جاء به إلى هنا، و كيف نسي نفسه و هو يطالع الفتاة بكل وقاحة؟! لا يدري كم مضى عليه من الوقت في وقفته تلك... لم يعد بإمكانه الهروب. تقدم بعد تردد قصير، و رأى الدهشة في عينيها حين تعرفت عليه...

اقترب حتى لم يعد يفصلهما سوى مترين أو ثلاثة و هو يخفي كفيه في جيبي سرواله... أطرق و هو يقول بصوت هادئ :
ـ كيف حالك ليلى؟ آسف لأنني أخفتك...

بدت متفاجئة من هدوئه بعد انفعاله الظاهر هذا الصباح. مسحت دموعها بكمها و حاولت أن ترسم ابتسامة على وجهها و هي تهمس بصوت شبه مسموع :
ـ لا بأس... أنا بخير...

رفع رأسه ببطء لينظر إليها، و ابتسم بدوره... تلك الابتسامة النادرة التي تحوله إلى شخص آخر مختلف تماما! قال بصوت دافئ و هامس :
ـ يحزنني ما يحصل ما والدك حقا... و أتمنى لو كان بيدي أن أقدم شيئا... لكن ما أريده منك هو تطمئني إلى وجود عائلة إلى جانبك، يهمها أمرك و تحرص على حمايتك... مهما حصل في المستقبل، أنت ستبقين فردا منا... تأكدي من ذلك...

نظرت إليه في ذهول و هي لا تكاد تصدق أذنيها... فراس بنفسه يرحب بها بينهم؟! هل صفا قلبه تجاهها أخيرا؟ و نظراته هذا الصباح؟ هل يكون قد استوعب أخيرا أنها شخص آخر غير حنان؟ همهمت في امتنان :
ـ شكرا لك... فراس...

خيم الصمت عليهما قبل أن يحس فراس بحرج الموقف بالنسبة إليها. قال أخيرا :
ـ تأخر الوقت... قد يكون من الأفضل لو تعودين إلى غرفتك...

وقفت على الفور، كأنها تنتظر إشارة منه، عبرت الفناء بخطوات سريعة... ثم توقفت عند المدخل و التفتت... كانت ابتسامتها واضحة و هي تقول :
ـ تصبح على خير...

هز رأسه و هو يهمس بدوره :
ـ تصبحين على خير...

ظل واقفا مكانه لبضع دقائق بعد اختفائها... لا يدري لماذا فعل ذلك... لكنه لم يستطع أن يقف متفرجا على ضعفها... أراد أن يشعرها بالأمان و لو للحظات... و تصرفه ذاك خلف في صدره ارتياحا غريبا، لم يستشعره منذ زمن...


********


استيقظت كعادتها مبكرة، لتشرف على إعداد وجبة الغداء الخاصة التي يحضرها العم هاشم لوالدها... تذكرت موقفها مع فراس ليلة البارحة و هي تسوي وشاحها أمام المرآة، فارتسمت على شفتيها ابتسامة... ما إن عادت إلى غرفتها و وضعت رأسها على الوسادة، حتى راحت في سبات عميق... نامت مرتاحة البال، كأن الأمر الذي كان يشغلها قد حل بعصا سحرية! عجيب أنت يا فراس...

قبل أن تغادر، تذكرت شيئا... فتحت الصندوق الخشبي الصغير و تناولت القلادة... القلادة المكتملة بشقيها المتلاصقين. تأملتها للحظات، ثم وضعتها حول عنقها، و خرجت على الفور لتلحق بخالها الذي يرافقها اليوم إلى المستشفى...


وضعت سلة الطعام على الطاولة و خرجت من غرفة المريض لتغير الماء في آنية الزهور... حين عادت، كان والدها و خالها منسجمين في حديث هامس... ما إن دخلت حتى توقفا و التفتا إليها في نفس الوقت. بدا لها الأمر غريبا، كأنهما يخفيان عنها أمرا ما... ربما يتحدثان عن الشراكة التي بينهما و يظنان أنها لا تعلم بعد! ضحكت في سرها... أمركما مكشوف عندي، لو تدريان!

بعد قليل، دخل فراس رفقة الطبيب المشرف على علاج والدها... يبدو أنهما على معرفة سابقة... تشاغلت بتصفيف الورود في الآنية، ريثما قام الطبيب بالفحص الروتيني... أما فراس فقد كان مطرقا طوال الوقت، يتجنب نظرات والده الذي لم يتوقع أن يجده هنا...

حين انصرف الطبيب، التفت نجيب إلى ليلى و هو يقول :
ـ تعالي ليلى... اقتربي...

تركت ليلى الورود التي لم تنته من تنسيقها بعد، و هبت إليه على الفور، تناولت كفه بين كفيها الصغيرتين و قالت باسمة :
ـ ها أنا عندك... أمرك!

نظر إليها والدها مطولا، ثم التفت إلى فراس الذي كان يتابع المشهد في بعض التوتر... ابتسم مجددا و هو يقول محدثا ليلى :
ـ صغيرتي... هناك موضوع هام، أود أن أتحدث معك فيه...

امتقع وجه فراس و كأنه عرف مسبقا أي موضوع هو... تنحنح و هو يقول مقاطعا :
ـ أستأذن أنا إذن... و أترككم على راحتكم...

استوقفه والده قائلا :
ـ انتظر قليلا، سننصرف معا بعد قليل...

نظر إليه فراس في استعطاف و قال بصوت خفيض :
ـ أنا آسف... يجب أن أذهب الآن...

ابتسم نجيب و هو يهز رأسه متفهما و قال :
ـ نعم يا بني... انطلق إلى عملك... لا بأس يا نبيل، دعني أهتم بالأمر...

ثم انسحب فراس يتبعه نبيل من الغرفة. في حين ظلت ليلى في حيرة من أمرها. كانت تعتقد أنها على علم مسبق بالموضوع الهام، لكنها لم تفهم سر توتر فراس المفاجئ... التفت إليها والدها مجددا و على شفتيه ابتسامة غامضة... فجأة، انتبه إلى القلادة التي تزين صدرها. مد أصابعه إليها في عدم تصديق، قلبها ليتأكد من أنها القلادة المكتملة، ثم فتحها ليطالع الصورة التي بداخلها و الأرقام المنقوشة. نظر إلى عينيها اللتين اغرورقتا بالدموع، و قال :
ـ مضى وقت طويل... مذ رأيتها مكتملة آخر مرة! سبعة عشر عاما أو تزيد...

نزعت القلادة عن عنقها و مدتها إليه. ضغطت على كفه، و هي تقاوم رغبتها في البكاء... قالت بصوت خفيض :
ـ المهم أننا استرجعناها الآن...

هز نجيب رأسه مجددا و هو لا يزال يتأمل القلادة و في عينيه نظرة حزينة. ثم ما لبث أن تنهد بعمق و رفع رأسه قائلا :
ـ أنتظر اليوم الذي ينقش فيه تاريخ زواج ابنة الوحيدة داخل القلادة...

احمرت وجنتاها و غضت بصرها في حياء و قد تسارعت دقات قلبها. هل الفرصة مناسبة لتحدثه عن عمر؟ واصل والدها قائلا :
ـ نعم يا ابنتي... لا يمكنني أن أرحل عن هذا العالم و أنا غير مطمئن إلى مستقبلك، و إلى وجود رجل إلى جانبك، يحميك و يضعك في عينيه... رجل يستحقك و يناسبك...

ربتت على كفه مجددا و هي تهمس :
ـ أطال الله عمرك... حتى ترى أحفادك... الله كريم...

ابتسم ابتسامة فاترة و هو يتذكر كلمات الطبيب التي يخفيها عنها، ثم قال :
ـ نعم... أسأل الله أن أراهم و أهتم بهم و أدللهم كما دللتك... رحمة الله واسعة...

ابتسمت في ارتياح... والدها مستعد للحديث في هذا الأمر، لذا يمكنها أن تدخل في الموضوع مباشرة و تمهد لزيارة عمر القريبة... أخذت نفسا عميقا و همت بالكلام... لكن والدها قاطعها فجأة و هو يقول بصوت جاد :
ـ ليلى... ما رأيك بفراس؟

أطبقت شفتيها دون أن تنطق و نظرت إليه في حيرة... فراس؟ ما علاقة فراس بموضوعنا؟
حين رأى أنها لم تعلق، واصل نجيب قائلا :
ـ خالك نبيل طلبك مني، لابنه فراس...

ثم نظر إليها مبتسما و أضاف :
ـ و أنا وافقت!

تسمرت في مكانها من الدهشة و الحيرة و الفزع و الارتياع... كل تلك المشاعر تجسدت في نظراتها الجامدة و هي تطالع والدها... ما الذي يقال هنا؟ إنها بالتأكيد تحلم! والدها يريد منها الزواج من فراس؟!

تكلمت أخيرا و هي لم تستفق بعد كليا من صدمتها :
ـ و لكن... فراس...

أجابها والدها على الفور :
ـ نعم، أعلم أن فراس كان زوج حنان... و أنه عانى كثيرا بعد وفاتها و أصيب بصدمة عنيفة، لا تزال آثارها قائمة إلى يومنا هذا... لكن هذا لا يمنع أنه إنسان متميز، و فيه من الخصال التي أتمناها في زوج ابنتي الكثير...

لم تعرف هل من حقها أن تحدثه بالشكوك التي أثارتها في نفسها مذكرات حنان، و عن نقاط الاستفهام الكثيرة التي تدور حوله... لكنها لا تملك دليلا، و ليس من الهين أن توجه إليه أصابع الاتهام بدون مبرر منطقي قوي... ظلت صامتة لبضع لحظات، تبحث في رأسها عن ترتيب مناسب للكلام.

واصل نجيب قائلا :
ـ هل تعلمين... طوال السنوات الماضية، بعد طلاقي من نجاة، ظللنا على اتصال... كنت أحاول الاطمئنان على حنان بين الفترة و الأخرى، و أحيانا أسافر لألتقي نبيل و أسأله عن أحوالها... لكنني لم أكن قريبا بما فيه الكفاية... تركت نجاة تفعل ما تريده بابنتها... كان بيننا اتفاق، أن لا يتدخل أحدنا في حياة الآخر، و أن يربي كل منا "ابنته" على طريقته... كنت أعلم أن نجاة ليست أما صالحة... لكنني لم أستطع التدخل... أعترف أنني أخطأت حين وافقتها على كل هذه المهزلة و تخليت عن ابنتي ببساطة... لكن لم يكن لدي خيار آخر...

كانت علامات الأسى بادية على وجهه و هو يشد على ملاءة السرير بقبضة متشنجة. سكت نجيب، فاحترمت صمته و أفكار كثيرة تعج في رأسها... التمعت الدموع في عيني نجيب و هو يستطرد :
ـ لكن، حين أخبرتني بأن فراس تقدم لحنان... أرسلت أشخاصا ثقات ليسألوا عنه، عن شخصيته... و عن أخلاقه... عن كل شيء يخصه... نجاة أيضا حدثتني عن مواقفه معها... و عن أشياء كثيرة، جعلته يكبر في عيني... و صدقيني، اقتنعت أن أفضل ما حصل مع حنان في حياتها هو زواجها من فراس!

نظرت ليلى إلى والدها في عدم تصديق... أنت لا تعلم بما كتبت حنان في مذكراتها! لن تصدق مقدار التعاسة التي عاشتها بعد زواجها منه!

تنهد نجيب و هو يقول في هدوء :
ـ أنت و فراس... كلاكما يحتاج إلى الآخر... فراس لا يزال يعاني من عقدة نفسية منذ وفاة حنان... و أنت قادرة على إخراجه من أزمته!

عقدت ليلى حاجبيها في دهشة :
ـ أنا؟!

هز رأسه مؤكدا و هو يردف :
ـ نعم أنت... أنت قادرة على إخراجه من سجن الذكريات التي لا يزال يعيش داخلها... أنت بإمكانك الأخذ بيده حتى ينسى المأساة التي شهدها و يغير نظرته إلى الحياة... إنه ليحزنني حقا أن أراه على هذه الحال!

أطرقت ليلى في صمت... و مشاعر كثيرة تتنازعها... ما الذي عليها فعله؟





لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 28-05-15, 10:53 AM   #22

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي




الجزء الواحد و العشرون




جلس فراس في سيارته الباسات البيضاء المتوقفة غير بعيد عن الساحل الصخري. لا يدري كيف وصل إلى هناك... لكنه خرج من المستشفى، و أخذ يقود السيارة بدون تركيز... ضرب بيده على مقود السيارة في حنق... لا شك أنها تعلم الآن! لماذا لم ينتظروا؟ لماذا لم يمهلوني حتى أحسم أمري؟ ضرب المقود بقبضته في عنف أكبر... أي موقف أنت فيه يا فراس!

أسند رأسه على الكرسي المريح و أغمض عينيه في إعياء... زفر بقوة و أفكار كثيرة تتداخل في رأسه... يحتاج إلى بعض الهدوء و التركيز... يحتاج إلى وقفة جادة مع نفسه حتى يفهمها...
استقام في جلسته من جديد، تناول الهاتف و كون رقما ما... انتظر لثوان قبل أن يصله الرد.

ـ آنسة هند... أرجوك، ألغي جميع مواعيد اليوم و أغلقي العيادة... لا يمكنني المجيء اليوم...

ـ هل كل شيء على ما يرام دكتور فراس؟

ـ بعض الأمور العائلية فقط لا غير... سيكون كل شيء على ما يرام...

أغلق الخط و سرح بتفكيره بعيدا... هل سيكون كل شيء على ما يرام حقا؟

نزل من السيارة و تقدم في اتجاه الشاطئ... إلى ملاذ الحيارى... كم تحمل يا بحر بين أمواجك من حكايا... لفح النسيم العليل وجهه فأطفأ شيئا من النيران التي تحتدم داخله... راح يتمشى بخطوات تائهة، مطرقا، و كفاه مختبئان في جيوب سرواله... كيف كانت ردة فعلها يا ترى؟ هل تعيش حيرة مثل حيرته... أم تراها حسمت أمرها منذ الوهلة الأولى؟ تذكر مشهد الهاتف... و باقة الورود... هناك رجل ما في حياتها، هذا مؤكد! لماذا تتعب نفسك إذن؟ الأمر محسوم منذ البداية!

لكن... لكن شيئا ما هناك... في صدره... يتحرك، يريد أن يعبر... ربما ينفجر قريبا... لكنه شيء مزعج، مزعج حقا... يفقده التركيز، يعبث بدقات قلبه، بألوان وجهه... شيء لم يعرفه من قبل... و لا يريد أن يعرفه! يرفضه بكل قوته... مثل جسم دخيل... يصارعه منذ أيام، دون أن ينتصر عليه...

تنهد بعمق... أنت الخاسر الوحيد في هذه اللعبة! خاسر قبل أن تبدأ... و لم يعد بإمكانك أن تنسحب...


*********


ألقت ليلى نفسها على الفراش في إعياء... لبثت تحدق في السقف بنظرات جامدة... كأنها لم تستوعب الأمر بعد... فراس؟! غير معقول... مستحيل... لماذا فراس بالذات؟! ربما لو لم تكن قرأت مذكرات حنان لكان الأمر مختلفا... لكنها لا تستطيع تجاهل ما قرأته عنه، حتى لو كان رأي جميع المحيطين به مختلفا، فهناك ذرة من الشك...

و عمر؟! عمر سيكون هنا غدا! أتى خصيصا للقاء والدها... ترك كل شيء وراءه و جاء من أجلها! لا يمكنها أن تخبره بكل بساطة بأنها خطبت لابن خالها الذي عرفته منذ أقل من أسبوعين! غطت وجهها بكفها و هي تحس بالضياع... يا إلهي، ألهمني الخيار الصواب...

لا تريد أن تخالف والدها الذي سبق واتفق مع خالها... و لكن في نفس الوقت، لا يمكنها أن تتجاهل مشاعرها، و خاصة بعد أن أعطت عمر الأمل، و وعدته بمحادثة والدها...

ترددت كثيرا قبل نزولها وقت العشاء. لا يمكنها أن تواجهه بهذه السهولة... لكنها تريد أن تبدو عادية، و غير متأثرة, ريثما تتوصل إلى حل للخروج من هذا المأزق. تقدمت في حذر و يدها على صدرها... أطلت من الباب. كان الجميع قد اتخذوا مقاعدهم حول المائدة، تقريبا... كرسيها و كرسي فراس كانا شاغرين. تنفست الصعداء و تقدمت بهدوء. حانت منها التفاتة إلى خالها... كان يطالعها و ابتسامة صغيرة على شفتيه. خفضت عينيها بسرعة. لم يبد أن أحدا من أفراد العائلة قد علم بالموضوع، عدا المعنيين بالأمر. انتهت من عشائها بسرعة... لم تأكل شيئا تقريبا، تظاهرت بتحريك ملعقتها حتى لا ينتبه خالها، ثم صعدت إلى غرفتها.

فراس لم يعد بعد... تذكرت ليلة البارحة. تلك اللحظات في الحديقة، كانت غريبة... أحست بقشعريرة تسري في جسدها حين تذكرت كلماته، نظراته، نبرة صوته... كل شيء فيه كان مختلفا... كان شخصا آخر... ليس هو نفسه، فراس الذي يصيبها بالرعب... كانت في حاجة إلى يد تطبطب عليها، و هو كان تلك اليد التي أعادت إليها الطمأنينة... تنهدت بعمق... أي سر عميق أنت يا فراس؟!


*********


وصلت إلى المستشفى بسيارتها... نزلت منها و هي تتأفف، ضلت طريقها و لبثت تقطع الطرقات جيئة و ذهابا حتى وجدت المستشفى أخيرا. و حركة المرور المزدحمة لم تكن ذات عون كبير لها. لكنها أصرت على الذهاب بمفردها، رغم محاولة أمين إقناعها باصطحابها... لا تريد أن تتحدث إلى أحد، لا تريد أن ترى أحدا... و لا تريد خاصة أن يسألها أحد عما بها... كانت تعبر الممر المؤدي إلى غرفة والدها حين رن هاتفها. تطلعت إلى الرقم المحلي المجهول في ارتياب. أجابت بصوت مرتعش و هي تتوجس خيفة :

ـ السلام عليكم

ـ و عليكم السلام و رحمة الله...

غاص قلبها بين ضلوعها. إنه هو! لقد وصل!
ـ حمدا لله على سلامتك...

كان صوته مفعما بالشوق، و الارتياح :
ـ شكرا لك ليلى... وصلت منذ ساعتين فقط...

ابتلعت لعابها بصعوبة. موقف صعب... رفعت عينيها فلمحت مأمون يخرج من غرفة والدها...

ـ هل من سبيل إلى لقاء والدك اليوم؟

كان مأمون يتقدم باتجاهها مبتسما... بادلته الابتسامة... عليها أن تنهي المكالمة بسرعة...
ـ حسن... أعطيك العنوان...

وقف مأمون ينتظرها ريثما أملت عنوان المستشفى على عمر. ثم أنهت المكالمة بسرعة...
ـ تبدين مرهقة...

لم تنم ليلة البارحة تقريبا... بضع ساعات بعد صلاة الفجر. بالكاد أراحت جسدها، قبل أن تستيقظ مجددا لتستقبل يوما جديدا، الله وحده يعلم كيف سينتهي! أجابت في لامبالاة :
ـ بعض الأرق فقط...

هز رأسه متفهما
ـ إن احتجت إلى أي شيء، اتصلي بي على الفور... لا تنسي ذلك!

ودعته بابتسامة امتنان و دخلت على والدها. لم يثر معها الموضوع من جديد... يمنحها الفرصة حتى تفكر بروية... ستقتنع بمفردها، هذا مؤكد... هكذا كان يفكر... أما هي فقد كانت تتطلع إلى هاتفها باستمرار في توتر ملحوظ... بعد نصف ساعة تقريبا، رن هاتفها من جديد... خرجت على الفور بعد أن استأذنت من والدها

ـ أنتظرك في مقهى المستشفى...

ذهبت إليه في خطوات متعثرة، تكاد دموعها تتساقط على خديها من ألمها. ماذا ستقول له؟

رأته يقف مستندا على طاولة المشرب الدائرية، و قد ولى ظهره للمدخل، بقامته الفارعة و منكبيه العريضين، يرشف قهوته في سكينة... وجوده يطغى على كل شيء في المكان... إنه هو، فارسها... أخذت نفسا عميقا و تقدمت في اتجاهه... أحس بوقع خطواتها فالتفت إليها مبتسما... دون أن تشعر، ارتسمت ابتسامة عذبة على شفتيها استجابة إلى نداء التفاؤل الذي نطقت به ملامحه المنشرحة...

ـ ليلى... كيف حالك...

لم تكن قد رأته منذ ذاك اليوم... حين عبر للمرة الأولى عن رغبته في الارتباط بها... و هاهو اللقاء يتكرر... في مكان غير ذاك المكان... و ظروف غير تلك الظروف...

ـ الحمد لله على كل حال...
قالت ذلك و هي تتنهد... آه لو تعلم يا عمر كم يحمل هذا القلب الصغير من العذاب... لا يمكنها أن تسترسل في الحديث و تفضي إليه بمكنونات صدرها...

ـ إذن والدك في المستشفى؟ عسى أن يكون بخير...

هزت رأسها نافية، و سالت العبرات على وجنتيها في هدوء. قالت بصوت تخالطه الغصة :
ـ أبي مريض... مريض جدا...

أخذ يدعك جبينه بأصابعه في توتر. لم يكن يتوقع أن يجدها في مثل هذه الحال. ربما لم يكن الوقت مناسبا... هل استعجل المجيء؟ نظر إليها في عطف، و قال مترفقا :
ـ شفاه الله... أنا آسف حقا... يبدو أن توقيتي ليس مناسبا... لكنني أريد أن أكون إلى جانبكم في هذه الظروف...

أضافت موضحة، لعله يفهم... أي توقيت آخر قد يعني فوات الأوان!
ـ إنه يموت يا عمر! أصابه المرض الخبيث في رئتيه!

نزل الخبر كالصاعقة عليه... ما الذي يمكنه أن يفعله من أجلها؟
ـ أنا آسف حقا...

بماذا يفيدها أسفك؟ كان مرتبكا، لا يجد الكلمات المناسبة ليخفف عنها... و هل هناك ما يخفف عنها في هذه الحال؟ فجأة رآها تترنح، تكاد تفقد توازنها... هب بسرعة ليدني منها المقعد القريب... ألقت بنفسها على المقعد في إعياء... لم تأكل شيئا منذ صباح الأمس، و البكاء و التفكير و السهاد... كل ذلك زاد من ضعفها. وقف عمر أمامها، يطالعها في قلق
ـ ليلى أنت بخير؟

هزت رأسها في صمت، لتطمئنه، ثم قالت بصوت هامس :
ـ أحس ببعض الضعف... لم آكل جيدا...

تناول على الفور فنجان القهوة الذي كان أمامه على طاولة المشرب. جلس على المقعد المجاور و قرّب الفنجان من فمها. قال بصوت حنون :
ـ اشربي هذا... القهوة الدافئة ستشعرك بتحسن...

تناولت من يده الفنجان و ابتسمت في ذبول
ـ شكرا لك...

في تلك اللحظة حانت منها التفاتة إلى مدخل المقهى... تسمرت مكانها حين رأت الشخص الذي يقف عند المدخل دون أن يبدي حراكا، كأنه تمثال من الشمع. كان فراس يطالعهما بنظرة غريبة، لكنها واثقة بأن فراس الذي أمامها هو فراس المرعب الذي عرفته... لا يمت بصلة إلى فراس الذي ظهر للحظات في ظلمة تلك الليلة...

كان فراس قد وصل إلى المستشفى منذ لحظات... إحساسه بواجبه تجاه السيد نجيب و معرفته الوثيقة بالطبيب المعالج جعلاه يعوده يوميا، ليطمئن على تطور حالته... خرج من مكتب الطبيب و هو يحس بألم شديد في رأسه. كلامه كان قاسيا و مخيفا... كان يفكر في ليلى و في مصيرها إن حصل مكروه لوالدها... أحس بحاجة إلى فنجان من القهوة، مع أنه ليس من مدمنيها... قدره ساقه إلى ذاك المكان، و في تلك اللحظات بالذات. ما إن خطا داخل المقهى، حتى أوقفته الصدمة في مكانه. رآها تجلس على أحد المقاعد، و شاب يجلس قبالتها، شاب آخر غير صاحب الباقة! يميل عليها و يدني فنجانه من شفتيها و هي تأخذه من يده مبتسمة! كان الموقف قاسيا... قاسيا جدا عليه... ليلى!! إنه لا يصدق ما تراه عيناه... ظننتك مختلفة... ظننتك طاهرة نقية... فتاة عفيفة، نادر وجودها في هذا الزمان! و لكن لا... تاه عنه أنها ابنة نجاة، و توأم حنان! مهما اختلفت المظاهر، فنفس الدم الفاسد يجري في عروقها! كان يجب يعلم أنها لا تختلف عنهن... كيف خدع فيها؟ كيف؟!!! والدها على فراش الموت و هي تجلس إلى الرجال في المقاهي، تشرب من يد هذا، و تتلقى الورود من ذاك!

لبث للحظات ينظر إليها في ذهول... لم يعد هناك أدنى شك... ذاك الشيء الذي في صدره، يجب أن يسكت إلى الأبد... إلى الأبد... تراجع بسرعة و غادر المكان لا يلوي على شيء...

انتبهت ليلى على صوت عمر و هو يقول ثانية :
ـ ليلى... أنت على ما يرام؟

هزت رأسها في ذهول... لكن عقلها سرح بعيدا... و عشرات من الأسئلة تتاقذفها...




لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 28-05-15, 10:54 AM   #23

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي




الجزء الثاني و العشرون






قادت سيارتها في اتجاه القصر، و هي تحس بتعب شديد. لم يتركها عمر حتى تناولت فطورا كاملا أمام عينيه أعاد إليها بعضا من القوة التي فقدتها، ثم غادرها على أمل العودة بعد يومين آخرين، ريثما تكون قد استعادت صحتها و فاتحت والدها في موضوعهما...

بالكاد استطاعت التركيز على الطريق و قد أخذت الهواجس تتنازعها... والدها أعطى موافقته لخالها دون أن يسألها رأيها! و فراس فاجأها رفقة عمر في المقهى... ما الذي يظنه بها الآن؟ تنهدت بعمق و هي توقف سيارتها أمام المرآب...

لأول مرة تغادر المستشفى خلال النهار... اعتذرت منه بسبب تعبها... متعبة، متعبة جدا... كم يقدر قلبها الصغير على التحمل! صعدت الدرج بخطوات واهنة في اتجاه غرفتها. تريد أن تلقي بنفسها على السرير و تنام... هذا كل ما تتمناه في هذه اللحظة... بعض الراحة. فوجئت حين رأت أمين يقف أمام غرفتها مستندا على الحائط و على وجهه علامات الغضب، كأنها ينتظرها منذ فترة. ما إن رآها قادمة من آخر الممر حتى هب للقائها في لهفة. اعترض طريقها و هو يهتف في عنف :
ـ ليلى... أخبريني أنك رفضت! أرجوك... رفضت أليس كذلك؟

نظرت إليه في برود. لم تعد تستطيع التعبير حتى، و قالت بصوت ضعيف :
ـ أمين أرجوك... أنا متعبة، هلا أجلنا الحوار إلى ما بعد؟

همت بتجاوزه في اتجاه غرفتها. لا تستطيع الكلام. متعبة، متعبة... ألا يفهم هذا! لكن أمين أمسكها من ذراعها بسرعة ليستوقفها و هو يهتف بقوة أكبر :
ـ ليلى! لا تتجاهليني! لا تتجاهلي ألمي! يجب أن ترفضي فراس!

نظرت إليه في قسوة و هي تقول في صوت هادئ و حازم في آن :
ـ أبعد يدك عن ذراعي!

أطلق ذراعها في استسلام، فابتعدت عنه دون أن تضيف كلمة واحدة. حين وصلت إلى الباب التفتت إليه و قالت في برود قاس :
ـ أمين... ما الذي تريده بالضبط؟

نظر إليها في تردد... كانت لهجتها مؤلمة و نظراتها مخيفة. قال أخيرا :
ـ أريد حمايتك من فراس!

سكت للحظات ليرى وقع كلماته عليها. لكنها بدت جامدة، كأنها تنتظر بقية الكلام. واصل بصوت مختلج من الانفعال :
ـ ليلى... ألا تحسين بي؟ أنا... أنا...

قاطعته و هي تقول في ضيق :
ـ أمين... شكرا على عرضك حمايتي... لكنني لست في حاجتك، أستطيع الاهتمام بنفسي... و رفضي لفراس أو قبولي به سيكون قرارا شخصيا... و لا أريد أن يؤثر علي أحد...

دلفت إلى الغرفة و أغلقت الباب وراءها، مخلفة أمين يضرب الهواء بقبضته في حنق... ارتمت على السرير و لبثت تحدق في السقف المنقوش في سهوم... آسفة أمين، كان يجب أن أكون قاسية معك... يجب أن تفهم أنني لست حنان، و لن أكون حنان... أغمضت عينيها تبحث عن النعاس، تستجديه أن يزور جفونها... ما لبث أن استجاب لرجائها، و غابت في نوم عميق...


**********



فتحت عينيها في فزع، و جلست على السرير و هي تلهث بشدة... بسم الله الرحمان الرحيم... مسحت على وجهها بكفها... كان كابوسا... تعالت الطرقات على بابها من جديد... نعم، لقد أيقظتها الطرقات من نومها. قامت في تثاقل و هي تستند إلى الكرسي... من تراه يكون؟ لا شك أن خبر تقدم فراس لها قد انتشر الآن، و ستصلها الزيارات بين مهنئ و معارض! ابتسمت في سخرية... كيف ستنتهي هذه المهزلة يا ترى؟

فتحت الباب، فطالعها وجه لم تتصور أن تراه عند بابها. كانت رجاء! نظرت إليها في حذر و رفعت كفها لتلمس خدها بصفة تلقائية. كان الجرح قد التأم و لم تعد يظهر منه سوى خط رقيق مزعج. دفعت رجاء الباب في حدة و خطت إلى داخل الغرفة في جرأة. نظرت إلى ليلى التي لاتزال تطالعها إليها في ذهول، و هتفت :
ـ أغلقي الباب... أريد أن أحادثك في أمر هام!

لم تكن ليلى مطمئنة إلى زائرتها، و ذكرياتها عن آخر لقاء لهما لم تكن مبشرة. لكنها أغلقت الباب كما طلبت و لبثت ترمقها في صمت. نظرت إليها رجاء في ثقة و قالت بصوت جاد :
ـ لن آخذ من وقتك الكثير... لكنني أردت أن أنبهك إلى أمر هام... إن كنت تعتقدين أنك الرابحة في الصفقة، فاعلمي أن هناك من هو أدهى منك!

عقدت ليلى حاجبيها و هي لا تفهم بعد إلام ترمي رجاء. فتحت رجاء حقيبتها على الفور و أخرجت رزمة من الأوراق ألقتها على سرير ليلى و هي تضيف :
ـ تريدين أن تعرفي لماذا تزوج فراس من حنان؟ إليك التفسير!

اقتربت ليلى من السرير و تناولت إحدى الورقات في اهتمام. قالت رجاء موضحة :
ـ هذه نسخ من كشوف حسابات شركة خالك العزيز... قبل زواج حنان و فراس و بعده... التواريخ واضحة و جلية. الشركة كانت في أزمة مالية كبيرة... كانت موشكة على الإفلاس! و نجاة كانت تملك السيولة المالية الكافية لحل الإشكال و إنقاذ الشركة... نبيل كان في حاجة إلى ملايين أخته المكنوزة و كان يجب أن يتصرف! بزواج حنان من فراس أصبح فراس شريكا لحنان في كل ما تملك... و نجاة كانت قد كتبت كل ثروتها لابنتها... و بعد وفاة كليهما، عادت الأموال إلى فراس... هل تفهمين الآن؟

كانت ليلى تقلب الأوراق بين يديها في ذهول... ما الذي يعنيه كل هذا؟ إنها لا تعي ما تقول! خالها... السيد نبيل... هو الذي خطط لكل هذا؟ و فراس... سايره في مخططاته و قام بما يلزم!! و وفاة نجاة، ثم حنان في فترة وجيزة بعد الزواج... ماذا يعني كل هذا؟! جلست ليلى على طرف السرير محاولة أن تستعيد هدوءها... كانت لا تزال تحملق في الأوراق بين يديها غير مصدقة.

كانت رجاء تراقب انفعالاتها في اهتمام، فتابعت و هي ترى وقعا جيدا لكلماتها :
ـ أمين كان متعلقا بحنان... لذلك لم يكن الشخص المناسب لتنفيذ الخطة... أما فراس، فهو ابن أبيه المدلل، و لا يرفض له طلبا! لا أعلم إن كان مشتركا في خطة التخلص من حنان و والدتها فيما بعد... لكن أشك في أنه حزن من أجل إحداهما!

رفعت ليلى رأسها إلى رجاء و هي ترفض التصديق. قالت بصوت حاولت أن يكون هادئا :
ـ لماذا تخبرينني بكل هذا الآن؟

هزت رجاء كتفيها و هي تبتعد في اتجاه الباب و قالت مبتسمة :
ـ كنت أخبئ تلك الأوراق إلى أن تحين اللحظة المناسبة... و أظنها قد حانت! لا يجب أن تتزوجي فراس!

واصلت بحماس أكبر :
ـ أؤكد لك بأن نفس المخطط يتكرر للمرة الثانية! لا أملك بعد الإثباتات الكافية، لكن اصبري قليلا، و سوف أحصل على المستندات التي تثبت صحة كلامي! خالك يقوم بفتح فرع جديد للشركة، و البنوك ترفض إقراضه بسبب المشاكل المتكررة التي تعرض لها في السنوات الأخيرة... المشروع في حاجة إلى تمويل، و ليس من السهل أن يجد من يشاركه... و فجأة يجد أمامه الحل المثالي! صديق عمره على فراش الموت، و ابنته الوحيدة في حاجة إلى من يقف إلى جانبها في محنتها... يقترح على صديقه أن يرسل ابنته لتقيم عنده، بما أنها ابنة أخته في نفس الوقت... ثم رويدا رويدا يحوك الشباك حوله لإقناعه بالمصاهرة و عقد شراكة... مصالح مشتركة... و فراس الذي شارك في تنفيذ الخطة الأولى هو الشخص المثالي للمشاركة في الثانية! هل فهمت الآن يا عزيزتي؟

تمالكت ليلى نفسها و نظرت إليها في برود :
ـ ظننت أنك تكنين بعض المشاعر إلى فراس!

قلبت رجاء شفتيها في امتعاض و هي تقول في حقد :
ـ يوما ما سيدرك أنني الأنسب إليه! لكن إلى أن يحصل ذلك، لن أقف مكتوفة اليدين...

ـ هل تعلمين أنه قد يدخل السجن، إن ثبتت عليه التهم التي توجهينها إليه؟

ابتسمت رجاء ابتسامة صفراء و قالت :
ـ أفضّل أن يدخل السجن، على أن يتزوج من أخرى للمرة الثانية! عندها، لن يجد غيري ليقف إلى جانبه، و حينها سيدرك قيمتي...

وضعت يدها على المقبض و واصلت و هي تهم بالمغادرة :
ـ أترك الوثائق بين يديك... لتفكري على مهلك في مصيرك... لا تستعجلي القرار!

ثم توارت عن أنظار ليلى التي ظلت جالسة على طرف السرير، تنظر في الأوراق التي بين يديها و هي غير قادرة على التفكير بوضوح...


**********



جمعت حاجياتها في سرعة. أخذت حقيبة صغيرة تضم بعض الملابس الكافية لثلاثة أيام أو أكثر... تحتاج إلى الابتعاد عن هذا المكان لبعض الوقت... إلى الابتعاد عن فراس و أمين... و رجاء أيضا... لم تعد تحتمل المزيد من الإرهاق العصبي. صحتها النفسية و الجسدية في تدهور يوما بعد يوم... تحتاج إلى قسط وفير من الراحة، بعيدا عن هنا... حتى تواجه الموقف... جمعت الأوراق التي أحضرتها رجاء أيضا. تريد مراجعتها لاحقا بأعصاب هادئة... تنهدت و هي تلقي نظرة أخيرة على الغرفة... أخذت كل ما تحتاج إليه في الأيام القادمة. نزلت في هدوء و هي تتلفت حولها. تتمنى أن لا تقابل أحدا في طريقها إلى الخارج. و لكن إلى أين ستذهب؟ ليس لديها خيارات كثيرة، فهي غريبة في هذه البلاد... و لا تعرف فيها الكثيرين. يمكنها البقاء في نزل مثلا. أو ربما الذهاب إلى المزرعة... يجب أن تقرر بسرعة...

ـ ليلى...

التفتت على حين غرة، حين وصلها صوت مألوف ينادي باسمها. كان ياسين يقف أسفل الدرج و يطالعها في اضطراب. بالتأكيد، منظر حقيبتها الصغيرة يثير استغرابه! ربما كان ياسين أكثر الأشخاص الذين وقفوا إلى جانبها من هذه العائلة، لكنها لا تريد من أحد أن يتدخل في شؤونها في هذه الظروف بالذات.

ـ ليلى, هل من الممكن أن أتحدث إليك قليلا؟

همت بالاعتذار... لكن أمام نظرة عينيه الملحة، تراجعت. هزت رأسها موافقة، في استسلام... فتح ياسين باب مكتب والده وسبقها إلى الداخل. تبعته في تردد، و هي على يقين بأنه يريد محادثتها بشأن هذا الزواج! دخلت، فأغلق ياسين الباب خلفها في هدوء. نظرت إليه في شك. ما الذي يفعله؟ همت بالاحتجاج، لكنه بادرها بصوت جاد :
ـ ما سأخبرك به يجب أن يبقى بيننا... الأمر هام جدا و خطير!

عقدت حاجبيها في اهتمام، في حين واصل ياسين قائلا :
ـ عديني أولا بأنك لن تخبري أحدا... و لا حتى والدك!

نظرت إليه في دهشة... يبدو أن الأمر خطير بالفعل! أجابت في ذهول :
ـ أعدك... و لكن ما الأمر؟

أخذ نفسا عميقا، ثم أردف في جدية :
ـ ليلى... لا يجب أن تتزوجي من فراس!

حملقت فيه و قد تزايدت دهشتها : حتى أنت يا ياسين!

استطرد ياسين بصوت حزين، و قد تجمعت حبيبات من العرق على جبينه :
ـ فراس أخي، و أحبه كثيرا... و لا أتمنى له إلا الخير... و لكنني خائف عليك منه...

ـ خائف علي منه؟!

هز رأسه مؤكدا و هو يواصل :
ـ فراس شخص هادئ و طيب القلب جدا... لكنه أحيانا يصبح عنيفا و تصرفاته خارجة عن السيطرة!

مرت بذهنها كلمات حنان في مذكراتها... فراس ممثل بارع... فراس ذو شخصية مزدوجة... فراس يعذب حنان و يعاملها بقسوة! و هاهو ياسين يؤكد لها ذلك!! لكن من أين يستقي ياسين معلوماته؟ تذكرت وريقات المذكرات التي وجدتها في خزانته... ماذا لو أنه... بادرته على الفور :
ـ هل قرأت مذكرات حنان؟

حان دوره ليرفع رأسه إليها في دهشة :
ـ هل قرأتها أنت؟

ـ قرأت جزءا يسيرا منها... بعد أن احترق معظمها!

نظر إليها ياسين لوهلة و قد بدت على وجهه علامات الذهول. لكنه ما لبث أن أطلق ضحكة قصيرة ساخرة و هو يقول :
ـ رغم كل ما فعلته لأتخلص منها، يبدو أنها وصلت إليك!

ـ أنت؟ تتخلص منها؟!

هز رأسه بهدوء و تابع قائلا :
ـ جميعنا كنا نعلم أن حنان كانت تكتب مذكراتها... و بعد وفاتها، بحثنا عنها في كل مكان، علنا نجد فيها تفسيرا لما حصل لها، لكن دون جدوى... لكنني كنت أبحث عنها لأتخلص منها، لأنني كنت أشك بأن ما كتب فيها سيوجه أصابع الاتهام إلى فراس! الجميع ظن أنها تخلصت منها، لكنني اعتقدت أن فراس نفسه أخفاها عن العيون، أو تخلص منها بنفسه. ثم أتيت أنت و اكتشفت مكان المفكرة عند تغييرك لورق الجدران... منال أخبرتني بأنك لم ترغبي بقراءة ما فيها و قررت تسليمها لفراس... لذلك... راقبتك في ذلك اليوم... رأيتك و أنت تذهبين للقاء فراس، فاختبأت في الحديقة، في انتظار مرور فراس... كنت أعلم أنه سيرغب في قراءة ما جاء فيها، و أنه سينسحب من الحفلة على الفور... لذلك انتظرته هناك، و أخذت منه المفكرة. خفت أن ينتبه إليها أحد أو تقع في يد أي كان و لكن لم يكن لدي أفكار كثيرة للتخلص منها... فكرت في إحراقها... و رأيت المشواة غير بعيد عني... عدت أدراجي إلى هناك... اقترحت على هاشم أن أعوضه قليلا في شوي اللحم ريثما يحضر بعض المعدات من المطبخ... وافق على الفور و رحب بالمساعدة. و كانت فترة غيابه كافية حتى أردم المفكرة تحت الفحم. ظننت أن الأمر سينتهي عند ذاك الحد! لكن يبدو أن هناك من انتبه إليها رغم كل شيء!

نظرت إليه ليلى و هي لا تكاد تصدق ما يقول و قالت :
ـ لكن، كيف اقتنع فراس بإعطائك المفكرة و قد كان منفعلا جدا حين أخذها مني!

ـ أقنعته بأنه لا فائدة من قراءة ترهات حنان... و أنه من الأفضل إليه أن يتجاوز الماضي المؤلم الذي ستذكره فيه تلك المذكرات اللعينة... فيكفيه ما عاناه من بعد وفاتها... إنه لا يزال يتألم من تلك الذكريات الرهيبة، و ألمه جعله يستمع إلي، و يسلمني الكراس دون مقاومة كبيرة...

لم تكن ليلى مقتنعة بما يرويه ياسين. هتفت في إصرار :
ـ و لكن كيف يعطيك الكراس و هو يعلم أن فيها اتهامات موجهة إليه؟ ألم يخف أن تقرأها؟

هز ياسين رأسه ببطء و هو يقول شارحا :
ـ لم يكن لديه الكثير ليخفيه عني، بعد أن رأيته بنفسي في إحدى نوباته الانفعالية!

ـ ماذا؟!!

ـ نعم، كان ذلك قبل زواجهما بفترة قصيرة، رأيتهما في الحديقة... كان فراس منفعلا بصفة رهيبة... رأيته يضربها حتى سقطت أرضا! ركضت إليهما حتى أخلصها من قبضته... ففرت حنان بسرعة في اتجاه القصر في حين أخذت أهز فراس بقوة حتى عاد إليه هدوءه... و هل تدرين بم علل عنفه معها؟ بأنها عادت متأخرة من المدرسة و خرجت للتسكع! مع أنها تتسكع كل يوم، و تتأخر كل يوم، و ليس من عادة أحد أن يهتم... لم يكن انفعاله مفهوما! لذلك... لذلك فإنني أخاف عليك من انفعالاته المشابهة التي لا يسيطر عليها! فراس ليس سيئا، بل يكون هادئا في العادة... لكن تلك الانفعالات لا يسيطر عليها أبدا...

كانت ليلى تستمع إليه في إطراق... إن كان كل ذلك حصل قبل الزواج، فلماذا تزوجته؟

تابع ياسين في هدوء :
ـ يومها، سقطت من حنان قلادتها... لم تكن تضعها كثيرا... لكن بعد أن انصرافا، وجدتها على الأرض... كان فيها بعض الاعوجاج، بسبب دوس فراس عليها... فأخذتها إلى الصائغ على أن أعيدها إليها لاحقا بعد إصلاحها... لكن ما حصل في الأيام الموالية جعلني أنسى أمرها تماما!

ـ ما الذي حصل؟

ـ تقدم فراس المفاجئ لخطبة حنان، و موافقتها الغريبة! أنا متأكد من أن أبي و نجاة ضغطا عليها من أجل هذا الزواج! لا يمكن أن تكون قد وافقت بإرادتها خاصة أنها كانت تحمل مشاعر لأمين! حاولت أن أثني فراس عن ذلك, لكنني وجدت منه أذنا صماء!

راحت ليلى تفكر في صمت... هل يكون كل من أمها و خالها قد طمع في ثروة الآخر فأصرا على إتمام الزواج؟ أم أن بينهما اتفاقا من نوع آخر لا يعلمه غيرهما؟

واصل ياسين روايته :
ـ كنت قد نسيت أمر القلادة و لم أعد لاستلامها من عند الصائغ، و حنان نفسها لم تبحث عنها... و بعد وفاتها بأيام قليلة، تلقيت اتصالا من الصائغ يذكرني بها، بعد أم مرت شهور على إحضارها! لذلك، احتفظت بها عندي كل هذه المدة... لم أعلم ما الذي يجب أن أفعله بها... كانت شاهدا على تعاسة تلك الفتاة و معاناتها التي و لا شك تواصلت بعد زواجها، حتى أدت بها إلى الانتحار! ثم حين رأيت قلادتك التي تشبهها كثيرا الأسبوع الماضي، تذكرتها و أخرجتها حتى أسلمك إياها... لأنها من حقك... ذكرى وحيدة من أختك التوأم...

تحسست ليلى القلادة التي تتدلى على صدرها في حزن... نعم ذكرى أخيرة!
اقترب منها ياسين و هو يقول في عطف :
ـ ليلى... أنا لم أكن قادرا على حماية حنان في الماضي... لكنني سأحاول حمايتك هذه المرة... لا تتزوجي فراس! إنه لا يناسبك... كما أنك لا تناسبينه... تذكرينه بالماضي و بآلام الماضي... كلاكما سيسبب ألما للآخر!

نظرت إليه ليلى في حيرة و قالت :
ـ و لكن أبي و خالي اتفقا دون استشارتنا! كيف السبيل إلى إبطال هذا الاتفاق؟

هز ياسين رأسه في تفهم و قال :
ـ اتركي الأمر لي... سأحاول التحدث إلى فراس...

خرجت من المكتب و قد أصبحت رؤيتها ضبابية، بسبب ستار الدموع الذي غطى عينيها... حزينة حقا لما سمعته من ياسين... تحمل في حقيبتها أدلة رجاء... و في قلبها آلاما كثيرة...




لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 28-05-15, 10:56 AM   #24

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


الجزء الثالث و العشرون



وصلت إلى المزرعة و هي تحس بتعب شديد. ليست متعودة على شوارع المدينة بعد... أخطأت الطريق الزراعية في البداية، و اضطرت إلى العودة مجددا إلى مركز المدينة لتبحث عن المنفذ الجانبي المناسب! كادت تستسلم و تقرر النزول في أحد الفنادق، خاصة أن الشمس كانت قد بدأت تميل إلى الغروب... لكنها أخيرا تعرفت على المسار الذي سلكته سابقا بضع مرات... لكن الرحلة كانت أطول من العادة!

نزلت من سيارتها و تناولت حقيبتها الصغيرة... كانت السماء شبه مظلمة. حمدت الله لأنها وصلت في الوقت المناسب... فهي لم تتعود السياقة في الليل! كان المنزل الريفي هادئا كالعادة، و ضوء خافت يصل من ناحية المطبخ. دلفت من الباب الأمامي الذي يؤدي مباشرة إلى قاعة الجلوس المفتوحة، و هتفت بصوت عال لتلفت انتباه ساكنة المنزل :
ـ خالة مريم... أنت هنا؟... خالة مريم!

أطلت المربية العجوز من باب المطبخ في نهاية الممر و قالت في همس :
ـ ليلى... تعالي إلى هنا... لا تحدثي ضجة!

نظرت إليها ليلى في استغراب، فأشارت مريم إلى أريكة في قاعة الجلوس. التفتت ليلى على الفور، للتسمر مكانها من المفاجأة... على الأريكة العريضة المقابلة يرقد آخر شخص كانت تتوقع أن تلقاه هنا و قد غاب في نوم عميق : فراس! لبثت تتأمله للحظات... كان يستلقي على ظهره و يضع ذراعيه خلف رأسه و وجهه إلى السقف... كان يعقد حاجبيه حتى و هو نائم! غريب أمر ذاك الرجل...

لحقت بالخالة مريم إلى المطبخ. ما إن رأت حقيبتها حتى ابتسمت و قادتها إلى الطابق الأول. قادتها إلى غرفة النوم التي استعملتها في زيارتها السابقة. وضعت حاجياتها و أدت صلاة المغرب قبل انقضاء وقتها، ثم جلست على طرف السرير و هي تفكر... ما الذي ستفعله الآن؟ أرادت الفرار من مواجهة فراس فإذا بها تجده هنا! لا تستطيع المغادرة الآن، فهي بالكاد وجدت الطريق في وضح النهار، فكيف بها بعد أن غابت الشمس؟ خاصة أنها تخاف السياقة ليلا... تنهدت في حيرة. يبدو أنها لا تملك خيارات كثيرة... لكن ربما كانت الفرصة مناسبة حقا... طالما أنها وجدت نفسها مع فراس في مكان واحد دون تخطيط منها، فربما كان في ذلك حكمة من الله... لمَ لا تتحدث إليه إذن؟ إنه معني بالأمر مثلها، و بغض النظر عن كل الكلام الذي سمعته اليوم، لا ضير من المحاولة!

نزلت إلى المطبخ في هدوء و انضمت إلى المربية التي كانت تعد طعام العشاء... جلست إلى المائدة في إطراق و قد سرحت أفكارها بعيدا... لبثت صامتة لبضع دقائق، ترتب أفكارها و تستعد للمواجهة القريبة... أنهت مريم عملها و اقتربت منها. جلست قبالتها و قالت مبتسمة :
ـ ما الذي يشغل صغيرتي؟

تنهدت ليلى و هي تضع وجهها بين كفيها و تسند مرفقيها إلى المائدة، ثم قالت في ضجر :
ـ أخبرك عن موضوع الزواج، أليس كذلك؟

هزت مريم رأسها موافقة :
ـ نعم أخبرني...

صمتت لبعض الوقت ثم أضافت و هي تطالع ليلى في دهاء :
ـ لكنه أخبرني عن أشياء أخرى أيضا...

التفتت إليها ليلى في استغراب :
ـ أشياء أخرى؟

تكلمت مريم ببطء و هي تصاحب كل كلمة بنظرات ذات معنى :
ـ عن باقة الورود... و القهوة...

حملقت فيها ليلى للحظات في دهشة، ثم ما لبثت أن عبست و هي تقول :
ـ غير معقول! باقة الورود و القهوة! ماذا بشأنها؟

صمتت الخالة لبعض الوقت ثم أضافت :
ـ المواقف التي رآها تثير نقاط استفهام كثيرة...

هتفت ليلى في احتجاج :
ـ نقاط استفهام؟ بخصوص ماذا؟ كيف وصل به الأمر إلى التشكيك في أخلاقي؟ ألم يكن بإمكانه أن يتأكد من الأمر قبل أن يحوك القصص و ينشرها؟

ربتت مريم على كفها مهدئة و هي تقول :
ـ هوني عليك يا صغيرتي... ليس الأمر كما تظنين، لكن أخبريني ما الذي حصل بالضبط؟

هزت كتفيها في لامبالاة و هي تقول :
ـ مأمون، مساعد والدي أحضر له باقة ورود البارحة... لكن كان هناك ضيوف بالداخل فلم يرد أن يزعجهم، و كنت قد خرجت لبعض الأمور فالتقيته في الممر فطلب مني أن أوصل الباقة إليه مع تمنياته بالشفاء... هذا كل ما في الأمر! و قد فوجئت حقا حين رأيت فراس يخرج من غرفة والدي و ينظر إلي بتلك الطريقة الغريبة، كأنني ارتكبت بحقه جرما!!

ـ حسن، و ماذا عن القهوة؟

ابتسمت في سخرية و هي تقول :
ـ مساعدة إنسانية! الرجل رآني أكاد أسقط على الأرض لأنني لم آكل شيئا لأكثر من أربع و عشرين ساعة، فأسعفني ببعض القهوة... فتحولت إنسانيته إلى تهمة ضدي و ضده! أمر لا يصدق!!

اتسعت ابتسامة المربية و هي تقول في ارتياح :
ـ رائع! حلت المشكلة الطرف الأول! و أنت، أخبريني الآن... ما الذي يزعجك في الزواج من فراس؟

لم تفهم ليلى إلامَ ارمي مريم بملاحظتها، لكن سؤالها شدها، فنظرت إليها و قد اكتست ملامحها الاهتمام و الجدية و قالت :
ـ في المرة الماضية، قلت أن لديك فكرة عن أسباب زواج حنان و فراس... أرجوك أخبريني عنها، أحتاج إلى أن أفهم طبيعة علاقتهما!

همهمت المربية في تردد :
ـ و لكنني... لست متأكدة...


ـ أنا سأخبرك بما تريدين!


التفتتا في نفس الوقت إلى باب المطبخ حين وصلهما صوت رجالي هادئ... كان فراس يستند إلى الباب و قد عقد ذراعيه أمام صدره. أضاف و هو يتقدم ليجلس على أقرب مقعد :
ـ اسألي ما شئت... سأجيبك عن كل شيء...


كان فراس قد استيقظ منذ قليل و هو يحس بألم في رأسه... ذهب إلى العيادة في الفترة الصباحية، لكنه لم يستطع المكوث أكثر. آلام مفاجئة داهمته في رأسه و صدره لم يستطع مقاومتها... اعتذر من مرضاه لليوم الثاني على التوالي، و أجل مواعيده إلى الغد... يجب أن يرتاح لبعض الوقت، و يسيطر أكثر على انفعالاته. خيبة أمله كانت من النوع الثقيل. مع أنه تعود على الألم و الكتمان، إلا أن هذه المرة كانت أقسى من كل المرات السابقة. لم يكن يعلم أن الصورة التي رسمها لها في خياله غالية إلى تلك الدرجة... و تحطم الصورة بتلك السرعة و القسوة أثر فيه كثيرا...

حين وصل إلى المزرعة، كان شبه منهار، لم يكن بإمكانه العودة إلى القصر و رؤيتها مجددا بعد أن تشوهت صورتها في عينيه... كان ذلك ليكون مؤلما جدا... و لم يستطع أن يكتم حزنه و ألمه عن الخالة مريم. كانت ملامحه تفضح ما في صدره، و كان في حاجة إلى المواساة... ما إن سألته، حتى وجد نفسه يقص عليها الحكاية منذ البداية... مختلف الأحاسيس التي راودته... من النفور إلى اللامبالاة إلى الاحترام إلى الإعجاب... إلى ذاك الشيء الغريب الذي يحسه في صدره منذ أيام... وصولا إلى الألم الشديد الذي أخذ يمزق أحشاؤه منذ هذا الصباح... كان يحس بالضعف و هو يلفظ أمامها مشاعره التي تعود كتمانها... يلفظها كشيء سخيف، يحتقره، و يسبب له الكثير من المعاناة...

استسلم إلى النوم و دموعه على وجنتيه، مثل طفل صغير. بكى من القهر... بكى من استيائه من نفسه، و من مشاعره. بكى ضعفه المفاجئ و ألمه الذي لم يقدر على السيطرة عليه. حين استيقظ، كان لا يزال يحس بصداع شديد... سمع صوت الخالة مريم و هي تحرك القدر في مطبخها... ظل مستلقيا في مكانه، يفكر بما ألمّ به... فجأة تناهى إليه صوت أقدام تنزل الدرج الخشبي المؤدي إلى الطابق الأول في حذر... تسمر في مكانه ينتظر في استغراب، من يكون الشخص الثالث الذي انضم إليهما؟ و ما لبث أن سمع صوتها و هي تتحدث إلى الخالة مريم في خفوت... كأنهما تخشيان إيقاظه...

تسارعت دقات قلبه بجنون و قام على الفور من رقاده. ما الذي جاء بها إلى هنا؟ مسح وجهه بكفه في ضيق... اقترب من المطبخ بهدوء، يحاول أن يستمع إلى محادثتهما... وقف ينصت لبضع دقائق و كانت قسمات وجهه تتغير مع كل كلمة و ضربات قلبه على جدار صدره تعلو... إذن هذا كل ما في الأمر؟ إنها بريئة من كل ما اتهمها به! و إنه ليعجب الآن من نفسه، كيف وضعها في نفس المرتبة المتدنية مع حنان و نجاة! كيف تسرع في الحكم عليها مع ما يعلمه من نقاء سريرتها؟ استند إلى الحائط الفاصل بين قاعة الجلوس و المطبخ في إرهاق... يحس كأنه قطع مسافة طويلة من الجري دون توقف... العرق يملأ وجهه... لكن هناك، في صدره، كانت العضلة التي تسمى القلب تضخ الدماء إلى جسده بكرم لا مثيل له و تنشر معها ذاك الشيء الذي أزعجه في السويعات القليلة الماضية، و تمنى لو يخنقه... تبثه في جميع خلايا جسمه بسرعة رهيبة، فيسري خدر عجيب في أوصاله... مزيج من الارتياح و السعادة و الألم! ألغام تتفجر في صدره و الموسيقى الداخلية التي تعزفها نبضاته تطغى على حواسه الخارجية كلها... لم يعد يقاوم... لم يعد يريد المقاومة... ربما كان في ذاك الشيء راحته بعد رحلة التعب الطويلة !

لم يكن اتصاله بالعالم الخارجي قد انقطع بعد... سمعها و هي تسأل ذاك السؤال الذي أخفى إجابته عن الجميع طوال السنوات الماضية... تمالك نفسه و استقام في وقفته... عليه أن يريح قلبها، مثلما أراحت قلبه... هكذا فكر و هو يخطو باتجاه المطبخ، كأنه يخطو نحو مرحلة جديدة من حياته، ربما آن لها أن تبدأ...


نظرت ليلى في دهشة إلى الشخص الذي تقدم نحوها في هدوء و جلس غير بعيد عنها، و في عينيه نظرة غريبة. ليست تلك النظرة التي تثير ذعرها و ارتيابها... و لكنها أشبه بتلك النظرة التي تربكها و تشعرها بصفاء و دفء الشخص الماثل أمامها... لم تستطع أن تحرك ساكنا أمام الذهول الذي اعتراها. أي الأشخاص أنت يا فراس؟ قطع عليها تأملاتها و هو يستطرد بصوت متعب :
ـ لم أكن أنوي أن أتحدث إلى أي كان بما حصل، لكن أجدني في موقف حرج يجبرني على البوح بكل ما كتمته طوال السنوات الماضية...

تعلقت عيناها بشفتيه و هو يتابع :
ـ سأروي لك الحكاية كلها منذ البداية... و إن بقيت لديك تساؤلات بعدها فلا تترددي...

هزت رأسها موافقة دون أن تتكلم. لا تكاد تصدق أنه هنا أمامها و مستعد ليشرح كل شيء بنفسه! إنه أقصى ما كانت تطمع فيه! تنهد فراس و هو يردف قائلا :
ـ الحكاية، لست أدري كيف بدأت بالضبط... حكاية ضياع حنان... و انحراف عمتي... نجاة... لكن حكايتي مع حنان بدأت في يوم ما، منذ ثلاث سنوات و نصف تقريبا... يوما تلقيت اتصالا من مجهول، يعلمني بأن حنان موجودة في إحدى حانات الحي الشعبي، و يطلب مني أن أذهب لأخذها!

هتفت ليلى في دهشة :
ـ اتصال من مجهول؟ حانة؟

هز رأسه مؤكدا ثم واصل قائلا :
ـ لست أدري لماذا و كيف وصلني ذاك الاتصال... و إلي أنا بالذات... لكن منذ ذاك اليوم، أصبحت مسؤولا عن حنان بدون اختيار مني! ذهبت إلى العنوان الذي أملاه علي المتصل المجهول، وجدته بعد بحث طويل، فالأحياء الشعبية مليئة بالأزقة المتعرجة، و العنوان وحده لا يكفي للعثور على مكان ما... المهم، وصلت إلى المكان المقصود... دفعت الباب فطالعني مشهد مقرف...

تغيرت ملامحه، كأنه يطالع المشهد من جديد، بعيني ذاكرته :
ـ كان داخل المبنى مظلما تقريبا و الروائح العفنة تتصاعد منه، مختلطة مع روائح الخمور التي يتعاطاها رواد المكان... لم أصدق أن حنان قد ترتاد مكانا كهذا، و ظننت أن صاحب الاتصال قد أخطأ، لكن بعد أن تعودت عيناي على الظلام، أجلت بصري في الداخل، فلمحتها... في مشهد مخز... حنان شبه ثملة، تترنح بين ذراعي شاب ثمل هو الآخر، و ضحكاتها تملأ المكان! لم أصدق عيني، و لم أستطع أن أبعدهما عن المنظر المؤلم... لبثت مسمرا في مكاني لبعض الوقت، لا أقدر على الحراك من الصدمة، لكنني انتبهت إلى نظرات مريبة من بعض الأشخاص المحيطين بي من فاقدي العقول بصفة مؤقتة... فاندفعت إلى طاولتها بسرعة، جذبتها من ذراعها بشدة و قدتها أمامي إلى السيارة...

تنهد بصوت مسموع قبل أن يستطرد :
ـ لم أكن أعلم كيف أتصرف. دفعت إليها قارورة ماء كي تشرب و تغسل وجهها، علها تستيقظ و تدرك ما كانت تفعله. فتاة في السابعة عشر من عمرها، تدخل الحانات، و تتصرف بفجور! في الطريق ظللت صامتا، و هي كانت مطرقة. ظننت أنها نادمة. حين وصلنا إلى القصر نزلت و سبقتني إلى الداخل. لحقت بها في الحديقة و استوقفتها. أردت أن أتأكد من أنها واعية بخطئها و لن تعيد الكرة. لكنها نظرت إلي بوقاحة، و هتفت بأن ذلك ليس من شأني و أنها حرة في أفعالها ! لم أصدق ما أسمع، و لم أستطع تحمله... فار الدم في عروقي، و للمرة الأولى و الأخيرة في حياتي... ضربتها! كنت قاسيا عليها... ما هكذا يعامل المراهقون في عمرها... لكنني لم أكن أملك خبرة في التعامل مع مثل هذه المواقف الحرجة، و هي استفزتني ببرودها و إصرارها على رأيها...

قالت ليلى بصوت هادئ :
ـ و حينها، رآكما ياسين...

التفت إليها في دهشة :
ـ كيف عرفت؟

هزت كتفيها في استهانة و هي تقول :
ـ ليس ذلك مهما، واصل أرجوك...

ـ أقسم أنها كانت المرة الأخيرة التي وضعت فيها يدي عليها... لم ألمسها بعد ذلك اليوم بخير أو شر...

طالعته ليلى في دهشة، ثم همست في اهتمام :
ـ ما الذي حصل بعد ذلك؟

تنهد مجددا، فالحديث الذي يحمله في صدره ذو شجون...
ـ حاولت في الفترة الموالية أن أراقبها و أمنعها من التهور ثانية... لكن مشاغلي كانت كثيرة، خاصة مع تزايد الضغط في السنوات الأخيرة من الدراسة... لذلك لم يكن لدي الكثير من الوقت لأخصصه لرعاية المراهقة التي كانت، خاصة بعد أن تركت الدراسة و ملكت حريتها كاملة! عمتي كانت تعيش في عالم آخر... سهرات و رحلات و أعمال كثيرة... والدي لم يكن شخصا متفرغا ليهتم بأمر حنان، و ياسين مسؤول عن عائلته الصغيرة، بعد ولادة رانيا... لم أرد أن أزعجه بهذه المسؤولية الإضافية... أما أمين، فكان يجب أن يبقى خارج المسألة بأسرها، لأنه سريع التأثر بكل ما يخص حنان! خشيت أن تأخذه معها في طريقها... كما أنني من ناحية أخرى، أحسست بأن لوصول ذاك الاتصال إلي أنا بالذات حكمة ما... حكمة لا يعلمها إلا الله... لذلك قررت ستر أمرها، فربما تعود إلى الجادة قريبا... ربما...

نظرت إليه ليلى بعينين مليئتين بالدموع. كم كان يبدو صادقا في كل كلمة قالها. كم بدا متعبا و هو يتحدث عن تلك الأحداث التي تحملها بمفرده في الماضي... لكن يبدو أن القصة لا تزال في بدايتها...

ـ بعد أسابيع قليلة، تبين إلي أن أملي في هدايتها قبل أن يصيبها مكروه ذهب أدراج الرياح! فقد واصلت حماقاتها المتهورة، و لم يكن شيء ليردعها عن تحقيق ما في رأسها الصغيرة... في ذاك المساء، طرقت حنان باب غرفتي... دخلت و هي ترتعش بشدة، كورقة خريف تعصف بها الرياح بقوة... ألقت بنفسها عند قدمي و أخذت تبكي و تتوسل و تتحدث بكلمات مبهمة... في البداية، لم أفهم شيئا من كلامها... لكن رويدا رويدا بدأت العبارات تتضح و تتخذ معان في رأسي... معاني قاسية و محطمة! ما لم أكن أعلمه، هو أن ذاك النوع من الحانات، يهيئ لرواده غرفا خاصة في الطابق الأول للممارسة الرذيلة!! حنان، المراهقة ذات السبعة عشر عاما، سقطت في الفخ بسهولة... و بعد مغامرة من مغامراتها، وجدت نفسها حاملا! حاملا من شخص مجهول الهوية!

شهقت ليلى بقوة و غطت فمها بكفها لتكتم صرخة كادت تنطلق من حلقها. حنان... شقيقتها التوأم... كانت حاملا قبل زواجها؟! في السابعة عشر من عمرها؟! أين مراقبة الأهل؟ أين مسؤوليتهم في رعايتها؟! يا للمأساة! يا للفضيحة!

أطرق فراس و هو يقول في ألم :
ـ للأسف، لم أكن في مستوى المسؤولية... لم أستطع أن أمنعها عن ذاك الطريق و هاهي تصل إلى نقطة اللارجعة! جاءت إلي ترجوني أن أساعدها لتقوم بعملية... الإجهاض! بما أنني في المرحلة النهائية من دراسة الطب، و لأنني على علم سابق بجزء من سرها، فكنت الشخص المناسب الذي يمكنها اللجوء إليه! في اليوم الموالي، رافقتها إلى المستشفى للقيام بالإجهاض، لكن الطبيب قال أن بنيتها ضعيفة جدا، و لا يمكن التخلص من الجنين دون تعريض حياتها إلى خطر محقق! رجعنا خاليي الوفاض، و حنان أخيرا بدأت تدرك فظاعة ما صنعته بنفسها... في تلك الليلة، لم أستطع النوم... ظللت أفكر طوال الليل في جميع الحلول الممكنة... فكرت في العار الذي سيلحق العائلة كلها إن افتضح الأمر... والدي لم يكن ليتحمل المزيد، بعد انتحار أماني... فكرت في أمين المتعلق بها إلى درجة غير معقولة... بإمكانها أن تقنعه بسهولة بالزواج و الهرب، أو أي شيء مجنون آخر، لحماية نفسها... و أمين لم يكن ليرفض! و فكرت في الصغير المسكين الذي لا ذنب له، كيف سيأتي إلى الحياة و هو مجهول النسب، فوالدته متعددة العلاقات! في تلك السن الصغيرة، تسمح لكل وحش بأن ينهش جسدها الغض ثم يرميها... و هي الخاسرة الوحيدة في نهاية المطاف!

شقت عبرات ليلى طريقها على خدها في صمت. نظرت إلى فراس في إكبار و إشفاق و ندم، ثم همست في ألم :
ـ لذلك قررت أن تتزوجها؟

هز رأسه و هو يستطرد :
ـ لم يكن أمامي الكثير من الحلول... كان ذاك هو الحل الذي يخرجنا من المشكلة بأخف الأضرار... ضمان مراقبة حنان، حفظ سمعة العائلة من الفضيحة، إبعاد حنان عن أمين، ضمان نسب للطفل القادم... حل مناسب على جميع المستويات!

همهمت الخالة مريم في حزن و هي تمسك بكف فراس و تحتضنها بين كفيها :
ـ يا بني... فكرت في كل شيء، كل شيء... لكنك لم تفكر في نفسك!

ابتسم في مرارة و هو يواصل :
ـ كنت أنوي أن يدوم زواجنا إلى حين ولادة الطفل، ثم أجد عذرا مناسبا للطلاق... لم أفكر جيدا في المرحلة الموالية، فقد كان كل همي هو الخروج من المأزق الحالي... لكنني لم أكن أعلم أن الأمور قد تتطور بتلك الطريقة، و تصل بها إلى تلك النهاية...

تكلمت ليلى بصعوبة و هي تقاوم دموعها :
ـ ثم... ما الذي حصل بعد ذلك؟

..................................................




لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 28-05-15, 10:58 AM   #25

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


الجزء الرابع و العشرون



.............................................. .

تكلمت ليلى بصعوبة و هي تقاوم دموعها :
ـ ثم... ما الذي حصل بعد ذلك؟

تنهد فراس بعمق قبل أن يتابع :
ـ في الغد، تحدثت إلى والدي و طلبت منه أن الزواج من حنان و بسرعة... لم يعارض و لم يلح في السؤال مثلما توقعت، بل وافق على الفور! و في أسابيع قليلة، وجدت كل الترتيبات تمضي على قدم و ساق استعدادا للحفل المرتقب... في الأثناء، بدأت أحس بجسامة الأمر... كل شاب و كل فتاة له أحلام خاصة عن شريك الحياة المنتظر، و عن ليلة العمر و شهر العسل... لكنني أدركت حينها أنني وضعت كل أحلامي جانبا و تورطت في زواج لا أريده و لا أرضاه لنفسي! كدت أتراجع مرات عديدة و أنا أرى الموعد يقترب و أفكر في الحلول البديلة... لكنني في النهاية استسلمت لقدري و أنا أتمنى انقضاء أشهر الحمل بسرعة حتى أسترجع حريتي! و في المقابل، كنت أرى حزن أمين و صدمته بل و كراهيته لي... و أنا غير قادر على إخباره بحقيقتها. سبحان الله... كيف تكون فتاة أحلام أخي، كابوسا في حياتي! عمتي لم تعارض أبدا، و كأنها على علم بالأمر، و حنان كانت مستسلمة أيضا... فلم تكن لديها خيارات كثيرة لتداري فضيحتها! المهم، تم كل شيء و تزوجنا... لا أذكر شيئا عن حفل الزفاف، لأنني كنت في عالم آخر تماما... أشك أن كل المدعويين تفطنوا إلى سعادة العروسين الغائبة عن الحفل! ثم سافرنا في شهر العسل... والدي هو الذي أصر على ذلك، مع أنني حاولت الامتناع و التعلل بقرب اختبارات نهاية السنة... لكننا في النهاية سافرنا إلى لندن لمدة أسبوعين... كانا أسبوعين من الوحدة في غرفة النزل لحنان، و أسبوعين من التسكع في الشوارع بالنسبة إلي!

ابتسم في تهكم و هو يقول ذلك، ثم أردف :
ـ لم أكن أستطيع النظر في وجهها... كلما رأيتها أمامي تملكني الغضب! لو لم تكن حماقتها لما كنا وصلنا إلى هناك! حين تجلس بجانبي في مكان ما، الحافلة أو سيارة الأجرة أو الطائرة، أتمالك نفسي بصعوبة كي أحافظ على هدوئي... لكنني في المقابل، حاولت أن أحافظ على كرامتها أمام الجميع، حتى لا ينتبه أحد إلى مدى سوء العلاقة بيننا... أو فلنقل، غياب العلاقة النهائي بيننا! كانت زوجتي بصفة صورية، لم أقترب منها يوما، و إن حادثتها فلضرورة... أظنها كانت أشهرا طويلة من العذاب لي و لها! مع أنني كنت أشفق عليها بين الحين و الآخر، حين ألمح نظراتها الذابلة، و علامات الضعف و الندم التي تركت آثارها على جسدها... كان الحمل مرهقا بالنسبة إليها، و هي كانت أقرب إلى الهزال منها إلى متانة العود... إلا أنني مضيت في عقابي إلى النهاية... لم أكن أدرك أنها قد تضع حدا لحياتها بتلك الطريقة الشنيعة...

أشاح بوجهه ليخفي دمعة التمعت في مقلتيه... سرحت ليلى مع كلماته و هي تتذكر كل ما كتبته حنان في مذكراتها...

"... لست مضطرا إلى تحمل أخطائي و لا إلى تحمل مسؤولية زلاتي... لكن معك حق، فشخص مثلي لا أمل له في الحياة..." "... أعلم أنك تحتقرني، بل تكرهني... و لا تحتمل حتى النظر في وجهي. لكنني لم أعد أحتمل إهاناتك المستمرة و نظراتك السامة التي تطالعني بها كلما صرنا بمفردنا..."

الآن ترى الصورة بشكل أوضح. فراس كان يعاقب حنان بالفعل... و حنان كانت تتعذب... لكنها جنت على نفسها، فاستحقت العقاب...
أسند فراس جبينه على كفه و هو يقول بصوت متعب :
ـ أنا السبب... أنا السبب في انتحارها... لم أساعدها على التوبة، بل جعلت مشاعر الغضب و الحقد تعميني عن واجبي تجاهها بعد أن ارتبطت بها على سنة الله و رسوله... لم أقم بواجبي معها، و لم أرعها كما ظننت أنني سأفعل، بل قدتها إلى نهاية شنيعة...

وقفت الخالة مريم و هي تهتف في حزم :
ـ ليس الخطأ خطأك... هي أذنبت بحق نفسها و حق عائلتها، فاستحقت ما حصل لها... أما أنت فقد حاولت، لكنك حملت نفسك ما لا تطيق، فلا تلمها على ذلك!

نظر إليها في ذهول، و قد بدا أنه يغالب دموعه... دموع القهر و تأنيب الضمير...
أطرقت ليلى في تفكير و خجل من نفسها... خجلة من شكها فيه طوال الفترة الماضية و خوفها منه... لا تدري كيف يمكنها الاعتذار على ظنونها، و هو الذي دفع بنفسه إلى تلك المغامرة دون تفكير في العواقب... حنان هي الأخرى كانت صادقة في ما كتبت... كانت تشعر بالوحدة و العزلة، ربما ندمت و تابت، لكنها لم تجد تشجيعا و مساندة... من الملام؟ ليس فراس بالتأكيد، فلم يكن بوسعه أن يقدم أكثر... يكفي أنه أخرجها من محيطها الفاسد و أبعدها عن أسباب انحرافها... انتحارها لم يكن متوقعا... لكنها اتخذت قرارها!

عادت الخالة مريم و هي تحمل صينية شاي مع بعض الكعك و قالت و على شفتيها ابتسامة واسعة :
ـ مناسبة اليوم تستحق الاحتفال... بعد أن تصافت القلوب...

احمر وجه ليلى حين تذكرت ما سهت عنه لفترة... عرض الزواج و اتفاق خالها و والدها! الوقت مناسب. رفعت رأسها، فلمحت شبح ابتسامة على شفتي فراس و هو يرفع كأس الشاي الساخن ليرتشف منه. ترددت... لكنها قالت أخيرا بلهجة جادة :
ـ فراس... أحتاج إلى مساعدتك في أمر ما...

أعاد كأسه إلى الصينية و التفت إليها في اهتمام :
ـ طبعا... تفضلي... أنا في الخدمة...

بلعت ليلى ريقها بصعوبة ثم قالت في حياء و هي تتجنب النظر إليه :
ـ بالنسبة إلى موضوع... الزواج... يجب أن نفعل شيئا...

تعلقت عيناه بشفتيها في لهفة و قد تسارعت ضربات قلبه. واصلت ليلى بصوت أكثر وضوحا و ثباتا :
ـ إذا رفضنا أنا و أنت كل من جهته، فإن والدينا لن يجبرانا على زواج لا رغبة لنا فيه...

اختفت الضربات فجأة، كأنه قلبه توقف... أو أن الضباب الذي لف عقله للحظات أخفاها عنه. لم يصدق ما سمعه. لبث يحدق فيها في ذهول... يرى شفتيها تتحركان، لكنه لم يستوعب شيئا بعد تلك الكلمات... إنها ترفضه! تقول له في وجهه لا أريد هذا الزواج! ارتعشت أصابعه على الطاولة. بحث عن شيء يتشبث به ليخفي توتره... شد على كأس الشاي بكفيه الاثنتين. لسعته الحرارة، فاستيقظت حواسه من جديد... مهلا، قد تكون رافضة لزواج مدبر و ليس لشخصه هو... ربما تظنه غير راغب فيها، يطيع والده فحسب! و لكن... هناك احتمال آخر... أن يكون أحد ما قد سبقه إليها، و احتل قلبها... تسارعت أنفاسه في اضطراب... يريد إنهاء معاناته بسرعة...

كانت لا تزال تتكلم، عن حق الأبناء في تقرير مصيرهم، و اختيار شريك الحياة... حين قاطعها بصوت واهن :
ـ هل هناك شخص آخر في حياتك؟

نظرت إليه في دهشة، فقد فاجأها بسؤاله غير المتوقع... لكن سرعان ما تضرج وجهها و خفضت رأسها حياءا و هي تقول في خفر :
ـ نعم...

لبث يحدق فيها بعينين جامدتين... كم بدت سعيدة و بريئة و هي تطلق السهم الذي اخترق صدره... يحس له ألما حادا في معدته... كأنه هناك، عالق بين ضلوعه... يحس بذرات الهواء تتناقص تدريجيا... كأن شيئا ما يسحبها إلى خارج رئتيه... يحس بالاختناق... اشتد ارتعاش يديه حتى أوشك الكأس أن ينسكب لولا أنه أفلته في اللحظة المناسبة... و هي... كانت غارقة في أحلامها... لا تنتبه إليك... لا تشعر بك... لست شيئا في حياتها... مجرد وجه من الوجوه الكثيرة التي مرت بها... كان يجب أن تعلم أنه لا أمل!

انتبهت الخالة مريم التي كانت تتابع حوارهما إلى تغير وجهه و سوء حالته، و هي العالمة بكل ما يجول بخاطره، فالتفتت إلى ليلى على الفور و هي تقول :
ـ تعالي يا ابنتي... ساعديني في وضع مائدة العشاء...

ـ حالا يا خالتي...

وقفت ليلى و اتجهت إلى ركن الأواني... رنت مريم إلى فراس في إشفاق قبل أن تلتحق بها...

لم يعد بإمكانه الجلوس هناك أكثر... يحتاج إلى الاختلاء بنفسه إلى بعض الوقت، ريثما يتعود على إحساسه الجديد... خرج من الباب الخلفي و وقف في الشرفة و قد خيم الظلام في الخارج... هبت ريح قوية، هزت قميصه و بعثرت خصلات شعره... تنهد في حرقة... ليتها تنتزع الألم الذي في صدره معها... لم يعد يستطيع الاحتمال... كل هذه الانفعالات القوية التي هزت قلبه الغر في يوم واحد! كل تلك الاهتزازات العنيفة التي تارة تطير به إلى السماء، و أخرى تهوي به إلى الحضيض... من أقصى حالات الارتياح إلى أقسى لحظات الألم... لم يكن قد عرف أيا منها من قبل... لذلك قلبت كيانه بشدة... لكن سعادته لم تدم سوى دقائق قليلة... و رحلة الألم قد تطول...

لطالما اعتبر المشاعر ضعفا، فقاومها... حاول تحصين قلبه ضدها... لكنه في لحظة واحدة، ترك حصونه كلها تنهار... فتح لها أبوابه على مصراعيها و تركها تتغلغل في أعماقه، لكنه الآن يدرك فداحة خطئه... يدرك أنه ترك التيار يجرفه بعيدا... و رحلة العودة وعرة و شاقة... أسند رأسه إلى العمود الحجري... لم يعد يتحمل ثقلها... أغمض عينيه و استنشق الهواء بقوة... صدره يضيق و دمه يحتاج إلى كمية أكبر من الأكسيجين...

ـ فراس... هل أنت بخير؟

التفت في ذعر حين وصله صوتها. كانت تقف على عتبة الباب، تطالعه في قلق. اقتربت منه أكثر، فتسارعت أنفاسه أكثر... يحتاج إلى الهواء! خفضت رأسها في خجل وهي تقول :
ـ أنا آسفة... لأنني ذكرتك بأحداث مؤلمة... لا شك أنها أثرت فيك كثيرا طوال السنوات الماضية...

اجتهد كي يبتسم، و يهز رأسه في صمت... يخاف أن يخونه صوته إن هو تكلم. واصلت قائلة :
ـ هناك شيء آخر أردت سؤالك عنه...

نظر إليها في اهتمام، فمدت إليه يدها... تراجع في دهشة. لكنه سرعان ما انتبه إلى أنها تمد إليه أوراقا! يا لغبائك يا فراس... ما الذي كنت تتصوره! أخذ منها الأوراق في ارتباك... لا شك أنها لاحظت تصرفاتك الغريبة. لكنها تابعت و هي تشير إلى الأرقام التي على الأوراق :
ـ رجاء زارتني اليوم و أحضرت إلي هذه الملفات... حسابات الشركة للفترة السابقة و الموالية لزواجك من حنان، ثم وفاتها... الملفات تثبت أن الشركة مرت بأزمة مالية، و أن الأزمة انفرجت مباشرة بعد وفاة حنان... رجاء قالت بأن خالي كان مستفيدا من وفاة حنان، و أن الأموال التي ورثتها عن نجاة أنقذت الشركة من الإفلاس... هل كنت على علم بذلك؟

أمسك الأوراق و أخذ يحملق فيها بدون تركيز... لا تزال حواسه تائهة. رفع رأسه إليها في دهشة و همهم بذهن مشتت :
ـ ماذا تقصدين؟ لم أكن أعلم شيئا عن هذا!

تنهدت ليلى و هي تأخذ منه الأوراق من جديد و قالت :
ـ لا بأس... ربما كانت كذبة ملفقة لا أساس لها من الصحة...

خطت بعيدا عنه باتجاه المدخل... عادت إليه ذكريات مشوشة... هتف فجأة :
ـ انتظري لحظة...

التفتت إليه في انتباه... قال محاولا التركيز في كلامه :
ـ بعد وفاة عمتي، أصبحت الوصي على حنان... لكن أبي اقترح علي أن أترك الوصاية له، و أنه سيستثمر أموالها و ينميها لها... فتنازلت له عنها عن طيب خاطر، فقد كان آخر ما أتمناه أن أكون مسؤولا عن مالها... لكن هل يعني ذلك شيئا؟

حدقت ليلى للحظات في الفراغ... هل يعني ذلك شيئا؟



*********



لم تكن قد استسلمت إلى النوم بعد. أوت إلى غرفتها منذ ساعتين تقريبا، لكنها لم تعرف إلى النعاس طريقا لبثت مستلقية على ظهرها، تحدق في الفراغ و قد سرحت مع أفكارها... حديثها اليوم مع فراس فاق جميع تصوراتها. كانت خائفة من مواجهته، تهاب نظراته الحادة و سحنة وجهه القاسية... لكنها لم تكن تعلم كم من الألم يخفي خلف قناع التجهم و العبوس الذي يضعه على وجهه... تذكرت مشاهد الصفاء القليلة التي رأته عليها... حين اصطدمت به في الممر بعد حفلة الشواء... حين أراد الاعتناء بجرحها بعد عراكها مع رجاء... حين فاجأها على الأرجوحة بعد عودة والدها... كان ذاك هو فراس الحقيقي... فراس الكريم، ذو الإحساس المرهف و القلب الحنون...

دمعت عيناها و تسللت العبرات على خديها في صمت... كانت تجربة قاسية عليه... مع الإحساس بالذنب الذي لازمه بعد انتحار حنان و أثر على حياته كلها... لكنه أخطأ أيضا، أخطأ في قراره ذاك... ما كان عليه أن ينسب الطفل لنفسه... كان ليشارك في الجريمة دون يدري... جريمة اختلاط الأنساب!

تنهدت و هي تغير وضعيتها لتستلقي على جانبها الأيمن... ربما كان ما حصل أفضل له و للجنين... لكنه قطعا الأسوأ بالنسبة إلى حنان... سوء خاتمة و العياذ بالله! تململت في ضيق، تبحث عن وضعية مريحة... لكن عبثا، النعاس جافى جفونها... عادت بأفكارها إلى سهرة الليلة... فراس لم يكن طبيعيا. كان يتحاشى النظر إليها على مائدة العشاء، و يسرح كثيرا و إذا تحدثت إليه الخالة مريم رد في توتر... هل أعادت إليه الذكريات انزعاجه من الشبه الذي بينها و بين حنان؟ مسكين أنت يا فراس...

تنهدت من جديد و هي تتقلب للمرة الألف... فجأة سمعت صوتا غريبا يأتي من الأسفل. صوت ضربات على باب المدخل الرئيسي... ليست طرقا، بل... بل كأن أحدهم يحاول خلع الباب بالقوة... استوت جالسة على سريرها و قد تسارعت دقات قلبها... من يكون هناك؟ تعالى القرع أكثر فأكثر ثم سمع دوي مكتوم، كأن الباب استسلم و انفتح! وقفت على الفور و ارتدت ملابسها في ذعر و اضطراب... يجب أن توقظ فراس! فتحت باب غرفتها، فلمحت فراس قد سبقها إلى خارج غرفته... كأنه لم ينم بعد هو الآخر... أشار إليها أن تبقى في الخلف و تحافظ على الهدوء و تقدم في اتجاه السلم و أخذ ينزل درجاته في حذر... لم تستطع ليلى أن تقف متفرجة تنتظر، لحقت به بخطوات متعثرة تحاول استطلاع ما يحدث في الأسفل. التفت فوجدها تنزل على إثره، شد على أسنانه و أشار إليها بالبقاء في الخلف... كانت نظراته قوية و حازمة. وقفت في منتصف الطريق، في حين تابع هو النزول... حين وصل إلى الأسفل، رأى الباب مفتوحا على مصراعيه، و نسيم ليلي بارد يتسلل إلى الداخل... أجال بصره في المكان يبحث عن المقتحم... كان قد تسلح في طريقه بعصا المكنسة، فربما يحتاج إلى استخدامها... لكنه لم ير أحدا... فجأة سمع وقع أقدام خلفه، فاستدار بسرعة و رفع العصا متحفزا... غطت ليلى وجهها بذراعيها و أطلقت صرخة صغيرة من الذعر حين التفت إليها بتلك الهيئة. أبعد العصا و هو يتنهد في ارتياح، ثم نظر إليها مقطبا مؤنبا و هو يهمس :
ـ ألم أطلب منك أن تبقي في غرفتك؟

أبعدت ذراعيها عن وجهها و هي تبتسم في اعتذار :
ـ ماذا وجدت؟


ـ كنت أعلم أنني سأجدكما هنا!


التفتا في نفس الوقت حين قطع عليهما حوارهما الهامس صوت رجالي قوي... حدقا في الظل الذي ظهر أمامها على حين غرة في دهشة. كان يقف أمام باب المطبخ مختبئا في الظلام... تقدم في اتجاههما، و ضغط على زر الإنارة، فظهر لهما وجهه و الشرر يتطاير من عينيه... هتفت ليلى في دهشة حقيقية :
ـ أمين!

هز رأسه و هو يقول في تهكم :
ـ نعم، أمين المغفل! أمين الذي ظن قلقا عليك طوال الليل، يبحث عنك في كل مكان، و يتصل بالمستشفيات و مراكز الشرطة... و أنت هنا... تقضين الليلة مع حبيب القلب!

قاطعه فراس في صرامة :
ـ أمين... انتق ألفاظك، و احترم نفسك!

استدار أمين لينظر إليه عن كثب و قال متضاحكا في استهزاء :
ـ آه... أصبحت تتكلم أخيرا! مبارك! لكن لا تظن أنني سأسمح لك بالسخرية مني للمرة الثانية! ستدفع الثمن غاليا على كل شيء!!

حدقت فيه ليلى في قلق و توجس و همست في توسل :
ـ أمين... ليس الأمر كما تتخيل... اهدأ أرجوك و دعنا نتحدث...

رنا إليها أمين و قد لانت نظراته فجأة، و التمعت العبرات في عينيه... كأنه يعاتبها في صمت... لكن سرعان ما توجهت عيناه مجددا إلى فراس و قد اشتعلت نظراته حقدا و هتف :
ـ لا تحاولي ردعي... فقد آن أوان تصفية الحسابات... لن أسمح له بتحقيق مخططاته مهما كلفني ذلك!

و في لحظة خاطفة، كان قد أدخل يده في جيبه و أخرج جسما معدنيا و أشهره في وجه أخيه... شهقت ليلى من الذعر... كان الخنجر... الخنجر المعقوف ذي المقبض الأزرق المنقوش... لا يمكنها أن تخطئ تلك الخناجر المميزة من مجموعة هاجر الأثرية... هتفت في استجداء و هي تندفع نحوه تحاول إبعاد الخنجر :
ـ اعقل يا أمين... ما هكذا تسوى الأمور...

أتاها صوت فراس هادئا حازما :
ـ ليلى، ابتعدي أرجوك...

ثم توجه إلى أمين قائلا بنفس الهدوء العجيب :
ـ لو كنت تعلم أي جميل أسديته إليك بإبعادك عن حنان، لما حقدت علي كل هذه السنين...

ضحك أمين في سخرية لاذعة ثم قال صرخ بصوت هادر :
ـ أنت... لك فضل علي؟! أنت دمرت كل أحلامي، و ضحكت من مشاعري!

التفت إلى ليلى و قد غلف الحزن نظراته :
ـ و أنت أيضا... تجاهلتني، و ركضت إليه! لا تنكري هذه المرة!

هزت ليلى رأسه نافية و قد سيطر عليها الذهول، و هتفت :
ـ صدقني يا أمين، أنت تفهم كل شيء بشكل خاطئ... حين أتيت إلى المزرعة لم أكن أعلم أن فراس هنا... كل شيء كان بالصدفة... صدقني...

ـ إذن... تهربين معي؟

حدقت فيه في دهشة متزايدة، يبدو أنه فقد عقله! هتفت في اعتراض :
ـ ما الذي تقوله... لا يمكنني الهرب إلى أي مكان ووالدي على فراش المرض!

صر على أسنانه في حنق و هو يتمتم : كفاك تعلات سخيفة! أنت مثلها تماما... تسخرين مني...

ثم تغيرت نبرة صوته إلى الانفعال و هو يتقدم باتجاه فراس :
ـ واجهني إذن يا فراس! لن أتركك تسخر مني إلى الأبد!

صرخت ليلى بقوة و هي تراه يرفع يده و يهوي بالخنجر نحو صدر فراس، و هو يزمجر من الغضب و الحقد الذين أعميا بصيرته... تحرك فراس في اللحظة المناسبة ليتفادى الطعنة و مال بجسده إلى اليمين... لكن ليس بما فيه الكفاية ليبتعد تماما عن مسارها... صرخ فراس مع انخراط ليلى في بكاء مرير... أما أمين فقد وقف مذهولا و كأن أصوات الصراخ و البكاء أيقظته من جنونه، و ترددت عيناه بين نصل خنجره الذي غطي بالدماء، و بين أخيه الذي سقط يتلوى على الأرض... كان الخنجر قد أصاب فراس في عضده... جرح عميق أخذ ينزف بشدة. انهارت ليلى على ركبتيها إلى جانب فراس الذي أمسك عضده و هو يعض على شفتيه من الألم... رفعت عينيها الباكيتين إلى أمين و صرخت فيه :
ـ ماذا فعلت أيها المجنون!

ثم قامت بسرعة إلى المطبخ، و هي تتعثر في ثوبها، تبحث في الأدراج في سرعة و جنون، تدور حول نفسها باحثة عما يمكن استعماله لوقف النزيف... عادت أخيرا و هي تحمل مناديل المطبخ، لم تجد غيرها... ساعدت فراس على لفها على منطقة الجرح بأصابع مرتعشة و هي تتألم لألمه... كل ما يحصل له بسببها...

نزلت الخالة مريم أخيرا، بعد أن أفسد الصراخ نومها... نظرت إلى الجميع في حيرة و هي لا تكاد تفهم ما يحصل... هتفت ليلى و هي تسرع إلى الأعلى، لتحضر مفاتيح سيارتها :
ـ خالتي، سنأخذ فراس إلى المستشفى، تعالي معي...

تمتمت مريم و هي لا تفهم شيئا :
ـ مستشفى؟

لكن ليلى كانت قد ارتقت الدرجات في وثبات رشيقة... صحيح أنها تخاف القيادة ليلا، لكن للضرورة أحكام... عليها أن تفعلها... نزلت من جديد، و خرجت رفقة فراس و المربية... في طريقها ألقت نظرة أخيرة على أمين، فيها شيء من الحزن و الشفقة... و الاحتقار...

لبث أمين وحده في المنزل الريفي الذي عاد إليه الهدوء مجددا... ألقى خنجره على الأرض، ثم استند على الجدار ليمنع نفسه من السقوط وراءه... خارت قواه دفعة واحدة، فانهار على الأرض تسبقه دموعه... جملة واحدة ظلت تتردد في ذهنه بصدى مؤلم "ماذا فعلت أيها المجنون!"





لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 28-05-15, 10:59 AM   #26

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي




الجزء الخامس و العشرون





أوقفت ليلى السيارة أمام المستشفى الخاصة و هي تتنهد من الانفعال. كانت الساعة قد تجاوزت الثالثة بعد منتصف الليل، و هي لم تتعود أبدا قيادة السيارة في مثل تلك الساعة المتأخرة... الظلام كان مخيما طوال الطريق الزراعية، ما عدا أعمدة إنارة قليلة و متباعدة، قبل أن تصل أخيرا على شوارع المدينة المضاءة بشكل جيد... لكنها كانت مقفرة تقريبا من السيارات... فتحت الباب الخلفي، و أفسحت المجال لفراس كي ينزل. كان يكتم أنينه بصعوبة طوال الرحلة، فالجرح العميق لم يتوقف عن النزيف... تركت الخالة مريم تساعده و سبقتهما إلى قسم الحالات المستعجلة... كانت القاعة فارغة، و لم يكن هناك أحد في الاستقبال... جرت في كل الاتجاهات و هي تهتف منادية على موظفي القسم. كانت متوترة و متعبة... و تخاف أن تزداد حال فراس خطورة إن تأخر الإسعاف... و أخيرا خرج ممرض من إحدى الغرف، تظهر آثار النعاس على وجهه، و هو يتثاقل في مشيه...

ـ أخي أرجوك... معنا جريح يحتاج إلى تدخل عاجل...

همهم الممرض و هو يحاول طرد النوم عن جفونه :
ـ حسنا، أدخلوه إلى قاعة الكشف ريثما أستدعي الطبيب...

ثم غاب ثانية في نهاية الممر... وصل فراس و الخالة مريم فقادتهما ليلى إلى قاعة الكشف المفتوحة... جلس فراس على طرف السرير و هو لا يزال يضغط على مكان جرحه بوهن. كان المنديل الذي يلف الجرح قد اصطبغ باللون الأحمر القاتم، بعد أن تشرب كمية كبيرة من الدماء. وقفت المربية إلى جانبه و هي تمسك بكفه في حنان، تشد أزره... أما ليلى فكانت تروح و تجيء، و في عينيها نظرة قلقة... لا تردي كيف يمكنها أن تستعجل الطبيب النائم!

أخيرا ظهر الطبيب من آخر الممر و هو يتقدم بخطوات سريعة و مئزره الأبيض يرفرف حوله... اعتذر عن التأخير و شرع في العمل على الفور. عاين الجرح بسرعة، ثم طلب من الممرض إحضار السرير النقال لأخذ المصاب إلى غرفة العمليات حتى يقوم بتدخل سريع... و في لحظات كانا ينطلقان به خارج الغرفة تحت أنظار المرافقتين القلقة...

وقفت ليلى في قاعة الانتظار و هي في غاية التوتر... لم تكن تتخيل أن تصل الأمور إلى هذه الدرجة من التعقيد! أمين فقد عقله! يرفع السلاح في وجه أخيه و يطعنه بتلك الوحشية! انحصر تفكيرها في نقطة واحدة لم تعد ترى غيرها : يجب أن تبتعد عن هذا المكان... يجب أن تبتعد عن هذه العائلة... زواجها من فراس لا يمكن أن يتم! لن ينتج عنه سوى المزيد من الشقاق بين الإخوة و الألم للكثيرين... و هي أولهم! فراس وعد بمساعدتها... و سيفي بوعده. لا يجب أن يقفا مكتوفي الأيدي أمام قرار مصيري كهذا! تنهدت بصوت مسموع و هي تتذكر والدها. لم تمكث إلى جانبه كثيرا نهار البارحة. كانت متعبة، و هاهي الآن أشد تعبا!

وجدت نفسها تخرج من قاعة الانتظار و تجوب أروقة المستشفى على غير وجهة... تحاول تخفيف توترها في انتظار انتهاء عملية تقطيب جرح فراس... تخشى أن يكون الجرح قد أصاب العصب، أو مزق الأربطة العضلية... فكيف لطبيب أن يمارس مهنته بذراع مصابة! كما أنه فقد الكثير من الدماء... كانت تتوقع أن يفقد وعيه بين لحظة و أخرى، لكنه ظل صامدا إلى حين وصول الطبيب... قادتها قدماها إلى جناح الغرف الخاصة، إلى حيث والدها... كانت أقسام المستشفى موصولة ببعضها البعض، لذلك تمكنت من المرور دون أن يستوقفها العسس... كان الوقت متأخرا، و هو بالتأكد يغط في نوم عميق... لكنها تود أن تلقي نظرة سريعة، علها تحس بالأمان لوجودها إلى جانبه... تشتاق إليه أكثر من أي وقت مضى...

ما إن وصلت إلى الممر المقصود حتى لفت انتباهها باب الغرفة المفتوح... حثت الخطى في قلق و قد هاجمتها الهواجس... لا يمكنها أن تتحمل المزيد من المفاجآت المؤلمة. كانت الغرفة مضاءة و لكن سرير المريض كان خاليا! تلفتت حولها في شك... ربما يكون قد خرج إلى الحمام. لبثت تنتظر لعله يعود بين لحظة و أخرى... مرت الدقائق ثقيلة على قلبها و هو لا يظهر بعد. توجهت نحو غرفة الممرضات في نهاية الممر، و هي بالكاد تسيطر على نسق دقات قلبها، و تردد دعاء اللطف بوالدها بلسانها...

ـ من فضلك أختي... هل تعلمين أين ذهب المريض في الغرفة الثانية في هذا الممر؟

نظرت إليها الممرضة في دهشة، و لسان حالها يتساءل عن كيفية وصولها إلى هناك في مثل ذاك الوقت... لكنها قامت على إثرها إلى الغرفة... فكيف لمريض أن يختفي في مثل تلك الساعة المتأخرة... توجهت على الفور إلى اللوح المعلق إلى جانب السرير، و الذي يكتب فيه الطبيب المعالج ملاحظاته. قرأت ما فيه ثم نظرت إلى ليلى و قالت بعد تردد قصير :
ـ المريض في... العناية المركزة!

وقفت ليلى دون حراك و هي تحس بالضياع... لا يمكن أن تكون العناية المركزة بشير خير بأي حال من الأحوال! فرت الدموع إلى عينيها و إحساسها بالخطر يتزايد. أمسكت بذراع الممرضة في لهفة و هتفت بصوت فيه غصة :
ـ أرجوك خذيني إلى هناك...

هزت الممرضة رأسها في تعاطف و هي تقول :
ـ لن يسمحوا لك بالدخول... لا فائدة من الذهاب إلى هناك... عودي إلى منزلك و استريحي الآن...

تشبثت بها ليلى و قالت في صوت أقرب إلى البكاء :
ـ أرجوك، أريد أن أكون إلى جانبه...

كانت علامات الألم في ملامح وجهها الطفولي الباكية أقوى من أن تقاوم... رضخت الممرضة إلى طلبها و قادتها إلى قسم العناية المركزة... تبعتها ليلى بخطوات مضطربة و قد بلغ منها التشنج أقصى درجاته. كانت الغرفة مغلقة و لا سبيل إلى دخول أحد غير الممرضين و الأطباء. استندت على الباب في ضعف و سالت العبرات على وجنتيها... تحس بأنها تفقده... تفقد سندها الأخير في هذه الدنيا! إحساس فظيع... ضمت ذراعيها إلى جسدها و أخذتها الرعشة. ساعدتها الممرضة على الجلوس و قالت في ود قبل أن تختفي :
ـ سأستدعي الطبيب... ربما يمكنه إفادتك بحال مريضك...

بعد لحظات، عادت يرافقها الطبيب المعالج الذي رأته مرات عدة في غرفة والدها... ربما كان من حسن حظها أنه كان يناوب في تلك الليلة... وقفت من فورها و هبت إليه في لهفة :
ـ أرجوك أخبرني... هل هو بخير؟

كان الطبيب قد تعرف عليها بدوره. زم شفتيه و ظل صامتا للحظات... ثم ما لبث أن هز رأسه في أسف و هو يقول :
ـ الأزمة كانت حادة هذه المرة... عليك بالدعاء...

انهارت مجددا على المقعد أمام غرفة العناية، و أخذت تدعو الله بحرقة، تسأله أن يعيد والدها سليما معافى. مر أمام عينيها شريط ذكرياتها القديمة مع والدها... كان كل عائلتها و محور حياتها، تستمد منه قوتها... لكنه علمها أن تعتز بدينها و تؤمن بقدراتها... أن تثق بنفسها و تحافظ على حيائها و عفافها... أخذت تتذكر كلماته في مواقف كثيرة... تشجيعه و نقده... إرشاده ونصحه... فهل سيكون إلى جانبها مجددا بعد الآن؟ هل سيخرج من هذه الغرفة ليكون الوالد المحب لها و السند الذي يشعرها بالأمان؟ ضمت كفيها إلى صدرها و هي لا تتوقف عن الدعاء و التضرع... لم تدر كم مر عليها من الوقت و هي على تلك الحال... غائبة عن العالم الخارجي، غارقة في بحور ذكرياتها القريبة و البعيدة... كل لحظة حلوة مرت بها، شاركها إياها... و كل موقف صعب أرقها، كانت له يد في إخراجها منه... باختصار، لم تعش أبدا بدون أن تستشعر لمساته من حولها... إلا الأيام القليلة التي قضتها مع عائلة خالها... ربما كانت تلك بداية النهاية! نهاية الأيام الهانئة بقربه...

اقتربت منها الممرضة التي ظلت تروح و تجيء، تطمئن على حالها. رمقتها بعطف و هي تقول :
ـ لن يسمح لك برؤيته قبل الصباح... لا داعي للانتظار هنا، من الأفضل أن تستريحي...

رفعت إليها ليلى عينين مغرورقتين بالدموع، كأنها ترجوها أن تفعل شيئا من أجلها... قد تكون هذه ساعاته الأخيرة! لكن الممرضة هزت رأسها في صمت، علامة قلة الحيلة...

وقفت ليلى في تثاقل، و عادت أدراجها إلى قسم الحالات العاجلة... مرت أكثر من ساعة مذ تركت فراس و الخالة مريم هناك... يجب أن تطمئن على حال فراس أيضا... يا رب، إنها لليلة قاسية... ليتها تمر بأخف الأضرار... اللهم عافنا و اعف عنا! حين وصلت، لم تكن الخالة مريم في قاعة الانتظار و كان باب غرفة الكشف شبه مغلق... دفعته بهدوء و أطلت برأسها. كان فراس ممددا على السرير و قد بدا أنه لا يزال تحت تأثير المسكن... أما الخالة مريم، فقد كانت تجلس على أحد المقاعد و رأسها يميل على صدرها، و قد أخذتها سنة من النوم. ارتسمت على شفتيها شبه ابتسامة و هي تتأمل ملامحها المتعبة. اقتربت منها في هدوء و هزتها من كتفها في لطف. استفاقت المربية فزعة، و نظرت حولها في استغراب :
ـ بسم الله الرحمان الرحيم... أين أنا؟

ربتت ليلى على ذراعها مهدئة و هي تقول :
ـ نحن في المستشفى... فراس لا يزال نائما... لمَ لا تتمددين على السرير الشاغر هناك؟ خير لك من النوم على الكرسي... سأوقظك حين يستفيق فراس...

لم تعارض الخالة مريم و استلقت على السرير المجاور لتريح جسدها العجوز... جلست ليلى على المقعد، و أخرجت مصحفها الذي تحتفظ به في حقيبتها على الدوام، و جلست تقرأ في سرها... تحاول شغل نفسها بالتلاوة، علها تنسى أو تتناسى مصاب والدها و لو لبعض الوقت... لكنها لم تستطع السيطرة على دموعها، فأخذت تسيل على خديها في هدوء...

فتح فراس عينيه و هو يحس ببعض الدوار... عقد حاجبيه و هو ينظر حوله حاولا تذكر ما حصل. و ما لبثت الذكريات أن عادت إليه فتجلى العبوس على وجهه. حطت عيناه على عضده الملفوف بالضمادات البيضاء... لم يكن يحس بالألم، و من خبرته كطبيب أدرك أنه لا يزال تحت تأثير التخدير الموضعي... لم يكن قد تم تخديره بالكامل، لكن التخدير الموضعي القوي كان كافيا لبث الاسترخاء في جسده مما جعله يستسلم للنوم، كما أن كمية الدماء التي فقدها جعلت جسده يضعف... رفع رأسه بصعوبة، فوقع نظره على ليلى الجالسة غير بعيد عنه. ابتسم و هو يتذكر كل ما فعلته من أجله... دموعها و نظرات القلق في عينيها... رغم كل الألم الذي كان يعانيه إلا أن وجودها إلى جانبه كان يؤلمه أكثر... يؤلمه أنها بهذا القلب، و بهذا القرب... و لكن لا نصيب له فيها! آه يا ليلى، ماذا كنت ستفعلين لو حصل مكروه لمن تحبين؟ انتبه إلى العبرات في عينيها و على خدها... إنها تبكي مجددا. و هو لا يحتمل أن يراها تبكي... ليته يستطيع رسم الابتسامة على شفتيها للمرة الأخيرة، قبل أن يختفي من حياتها تماما...

ـ ليلى... أنت بخير؟

رفعت رأسها حين سمعت صوته، و ارتسمت ابتسامة ارتياح على شفتيها على الفور. أغلقت كتابها و اقتربت من السرير و هي تهمس :
ـ كيف تشعر الآن؟

تجاهل سؤالها و هو يقول في اهتمام :
ـ امسحي دموعك... لا داعي للبكاء...

أدهشته ردة فعلها العكسية، فقد قطبت جبينها و ارتعشت شفتاها منذرة بنوبة بكاء جديدة. أخفت وجهها بكفيها و هي تقاوم و لكن بلا فائدة. جاهد فراس ليستوي في جلسته و هو يهتف في قلق :
ـ ليلى ماذا هناك؟ هل حصل شيء لا أعلمه؟ هل أقدم أمين على عمل أحمق جديد؟

هزت ليلى رأسها نافية، فهتف مجددا و هو يحثها على الإفصاح :
ـ ماذا إذن؟ أخبريني أرجوك؟

انفجرت هذه المرة و هي تهتف بصوت مختنق من العبرات :
ـ إنه أبـ...ـي... إنه يــ....ـمـ...ــوت يا فراس... يموت...

تسارعت دقات فلبه بشكل مؤلم. فهو يعلم أكثر منها مدى خطورة حاله... يعلم حقا أن نجيب ليس بعيدا عن المرحلة الأخيرة، و الأعمار بيد الله أولا و أخيرا... فكيف يمكنه أن يخفف عنها؟ يحسها كطفلة صغيرة، تحتاج إلى الرعاية و الحنان... ربما يمكنه أن يقدم لها شيئا أخيرا، ربما يمكنه أن يهدئ من روعها و يشعرها ببعض الأمان و لو للحظات... فربما تكون اللحظات الأخيرة بينهما قبل أن ينفذ ما قرره...

همس بصوت دافئ حان :
ـ ليلى، اسمعيني جيدا... أنت فتاة مؤمنة... و تعلمين بأن لله حكمة في كل شيء... و القدر لا مفر منه... ربما كان قدرنا أن نفارق من نحب، لكن يجب أن نفهم أن الله يحرمنا ليبتلينا، هل نصبر أم نيأس... فكيف نقابل هذا الابتلاء؟ أجيبيني؟

تمتمت ليلى بصوت ضعيف :
ـ نصبر...

واصل و كأنه يكلم نفسه و يقنعها في نفس الوقت :
ـ نعم نصبر... و ندعو و نسأل الله السلوى...

هزت رأسها موافقة، فابتسم و هو يضيف :
ـ إذن أريني كيف تصبرين...

مسحت دموعها بكف مرتعشة، و هي بالكاد تسيطر على انفعالاتها، فواصل قائلا :
ـ و لا تنسي أنك لست وحدك... لديك عائلة تحتضنك و تقف إلى جانبك... و...

هم بأن يقول بأن هناك رجلا ينتظرها، و يمكنه أن يحميها في المستقبل و يعوضها فقيدها... لكنه لم يقدر... لا يزال جرحه طريا، و لا يتحمل المزيد من القسوة... أشاح بوجهه في استياء... من نفسه... يحاول إخفاء الدموع التي تداهمه... و لحسن حظه كانت ليلى منشغلة عنه بمصابها، سارحة في أفكارها... فلم تنتبه إلى التغير المفاجئ الذي انتابه... لكن الخالة مريم التي استيقظت على صوت حديثهما لمحته في لحظة الضعف تلك، فأطرقت في إشفاق على صغيرها الذي كتب عليه المزيد من الألم...


**********


وصلت إلى المستشفى و قد تجاوز الوقت الساعة السابعة بدقائق قليلة، بالكاد نامت ساعة واحدة بعد أن أوصلت فراس و الخالة مريم إلى القصر و عادت بسرعة لتطمئن على حال والدها. لولا إلحاح مرافقيها عليها لتنال قسطا من الراحة لما تركت المستشفى لحظة واحدة! عبرت الممر بخطى سريعة، و هي تكاد تسمع دقات قلبها العالية. توقفت حين رأت غرفة والدها مغلقة. بلعت ريقها بصعوبة و تقدمت في اضطراب واضح... طرقت على الباب بخفة ثم أدارت المقبض بكف مرتعش... أطلت لتلقي نظرة على الغرفة، و لم تكن تتوقع أن تجد أحدا... لكن و لدهشتها، كان والدها نائما على السرير في هدوء! دخلت بسرعة و اقتربت منه، أخذت تهزه برفق، كأنها تريد التأكد من كونه على قيد الحياة

ـ أبي، أبي... أنا ليلى, هل تسمعني؟

فتح نجيب عينيه و نظر إليها في استغراب :
ـ ليلى؟ كم الساعة الآن؟

كان يبدو على ملامحه التعب، ظهرت على وجهه علامات الهرم في الأيام القليلة الماضية... نظرت إليه في شوق و حب و هي تقول :
ـ إنها السابعة... لكنني اشتقت إليك كثيرا، فأتيت مبكرة اليوم...

لم ترد أن تخبره أنها تعلم بشأن الأزمة التي هاجمته في الليلة الماضية, ربما يريحه ذلك أكثر...حمدت الله في سرها كثيرا، لأنه استجاب إلى دعائها فتجاوز والدها مرحلة الخطر بسلام... حاولت أن تكون مبتسمة طوال الوقت و أن تبتعد عن موضوع المرض قدر الإمكان... و هو أيضا، لم يشأ أن يعلمها، حتى لا يعكر صفو اللحظات التي تجمعهما... فربما تكون الأخيرة... لكنها كانت تلمح في عينيه نظرة رجاء، كأنه يذكرها بالعرض الذي لم تعط قرارها بشأنه بعد... لم تكن مستعدة بعد للكلام. تنتظر أن يتعافى فراس أكثر و يتحدث إلى والده. لا يمكن أن ينسى... هو وعدها بالمساعدة!

كانت متعبة جدا ذاك الصباح، فهي لم يغمض لها جفن إلا لساعة واحدة أو أقل. و الأحداث الأخيرة المضطربة لا تزال تؤثر على تركيزها. ذهبت إلى المزرعة بحثا عن الراحة، فلحقتها المتاعب إلى هناك... لكنها كتمت كل ذلك عن والدها و حاولت التصرف بصفة طبيعية. عند الساعة العاشرة، دخلت الممرضة إلى الغرفة مبتسمة و هي تحمل سلة طعام و باقة ورود كبيرة. تسلمتها منها ليلى في استغراب... أخبرتها الممرضة أن سائق عائلة القاسمي هو من أحضر السلة، فهي لم تملك الوقت الكافي لإعداد الطعام مع عم هاشم مثل كل صباح... لكن شخصا آخر قام بذلك عنها. ابتسمت في امتنان و هي تقرأ قصاصة الورق المصاحبة : "الطعام صحي مائة بالمائة، معد تحت إشراف متخصص... ليلى أيتها العنيدة، فكري بأخذ قسط أوفر من الراحة"... فراس كلف نفسه بالمهمة رغم إصابته الحديثة و إرهاقه... يا له من رجل حقا! انتقلت إلى الباقة ذات الورود الخلابة... تناولت بطاقة الإهداء و ما إن قرأت ما كتب عليها حتى اختلجت أصابعها و تسارعت دقات قلبها... "مع خالص تمنياتي بالشفاء العاجل... عمر"!

استند نجيب إلى مرفقيه و استوى في جلسته و هو يقول :
ـ ممن الهدايا؟

تركت ما بين يديها و هي تغالب المشاعر التي راودتها في تلك اللحظة. اقتربت منه مبتسمة و قالت :
ـ حين خرجت صباحا كنت مسرعة فلم أجهز سلة الطعام كالعادة... لكن فراس اهتم بذلك و أرسلها مع السائق...

اتسعت ابتسامة نجيب في رضا و قد سره اهتمام فراس فأضاف :
ـ و الباقة... هل هي منه أيضا؟

بدا الارتباك على ليلى و هي تقول في تلعثم :
ـ الباقة؟ لا... إنها... إنها من الدكتور عمر... أستاذي في جامعة باريس...

مدت إليه البطاقة التي ظلت تحتضنها بين كفيها. هز نجيب رأسه و هو يعقد حاجبيه متفكرا. لم يكن الاسم غريبا عنه... كانت ليلى قد حدثته عنه مرات و مرات... عن تصرفاته و مواقفه و علاقته المتميزة مع طلبته و مكانته لديهم رغم صغر سنه. نظر إليها في شك و هو يسألها :
ـ جزاه الله خيرا... لكن كيف علم الدكتور بمرضي بهذه السرعة؟ و هل يرسل الورود إلى كل من يمرض من عائلات طلبته؟

تزايد ارتباك ليلى و تجلى الاحمرار في وجنتيها بشكل يدعو إلى الريبة. لكنها أجابت محاولة التهرب :
ـ الدكتور عمر هنا في المدينة لحضور بعض المؤتمرات العلمية... و قد علم عن مرضك عن طريقك سحر... فاتصل ليطمئن...

لم يبد الاقتناع على نجيب الذي هز رأسه و هو يشجعها على المزيد من التوضيح. أحست ليلى بأنها واقعة في مأزق و لم يعد هناك فرصة للتراجع... بل ربما كانت تلك الفرصة المناسبة التي جاءتها دون تخطيط منها حتى تصارحه بشأن عمر... أخذت نفسا عميقا ثم قالت بهدوء :
ـ أبي... هناك أمر ما كنت أود إخبارك عنه منذ زمن... قبل سفري إلى هنا... الدكتور عمر اتصل بي و طلب تحديد موعد معك... لأنه... لأنه يريد أن يتقدم لخطبتي...

سكتت ليلى ريثما يستوعب والدها ما قيل. أما نجيب فقد نظر إليها في دهشة و هو يهتف :
ـ لماذا لم تخبريني منذ البداية؟

أجابت على الفور :
ـ لأن الوقت لم يكن مناسبا لمثل هذه المواضيع... ففي اليوم نفسه فاجأتني بقرار السفر و كل ما تبعه من أحداث غريبة... ثم حين رجعت، لم تترك لي المجال و فاجأتني مجددا بمسألة الارتباط من فراس...

سكت نجيب بدوره للحظات، ثم رفع رأسه إليها ثم نظر إلى الباقة و قال :
ـ لم تخبريه بعد عن ارتباطك بابن خالك؟

أطرقت في حيرة و اضطراب... لا يمكنها أن تصده بهذه البساطة، فهي لم تعط رأيها النهائي بعد! تابع نجيب و هو يقول بصوت واهن :
ـ ليلى... أنا اتفقت مع خالك بشأن الزواج... حتى أننا عقدنا شراكة في الأموال أيضا، لأنني لن أجد أفضل من خالك ليهتم بالحفاظ على مالك، و لا من فراس ليحفظك و يصونك...

هزت رأسها في تفهم... مع أنها لم تعد متأكدة من كون خالها الشخص المناسب بعد ما أخبرته به رجاء!

تنهد و هو يرفع رأسها بكفه لينظر إلى عينيها و قال :
ـ هلا أرحت قلب والدك يا حبيبتي و كفيته عناء التفكير في مستقبلك!

جمعت أطراف شجاعتها بصعوبة، فليس من عادتها أن تعارض والدها، لكنها فرصتها الأخيرة ربما :
ـ و لكن أبي... عمر تقدم إلي أولا، قبل أن أتعرف على فراس أصلا... و لولا ظروف السفر الغريبة لكان فاتحك في الموضوع منذ زمن... و قد جاء إلى هنا خصيصا ليتحدث إليك... أرجوك، أعطه فرصة...

تأمل نجيب مطولا ملامحها التي اتضحت فيها علامات الرجاء... لم يعد لديه شك... سألها في هدوء :
ـ أنت معجبة به؟

أطرقت ليلى في حياء و قد تصاعدت الدماء إلى وجهها و ارتسمت على شفتيها ابتسامة خفيفة. تنهد والدها من جديد و ربت على كفها في حنان و هو يقول :
ـ هل ترينه الشخص المناسب لك؟

لم تتكلم، لكنها بعد تردد قصير هزت رأسها ببطء علامة الإيجاب، و أصابعها تلهو بطرف وشاحها في توتر. عقد نجيب حاجبيه و بدا عليه التفكير. رفعه عينيه إليها أخيرا و قال :
ـ هل هو جاد في طلبه؟

هزت رأسها مجددا و هي ترمقه في ترقب ثم أضافت :
ـ إن وافقت على لقائه فسيكون عندك صباح الغد...

ابتسم أخيرا و هو يقول مداعبا :
ـ غدا صباحا! يبدو أنه مستعجل جدا... حسن إذن، فلننظر في أمر هذا الـ "عمر"!

ارتمت ليلى في حضنه و ضمته بقوة و هي تقول في حماس :
ـ سأخبره بموافقتك على الفور... لقد كان هنا البارحة أيضا و رغب في لقائك... لكن الوقت لم يكن مناسبا...

لكنها تذكرت شيئا آخر غاب عن ذهنها، فابتعدت عن حضنه قليلا و قالت في قلق :
ـ و ماذا ستفعل مع خالي؟

مسح على رأسها في حنو و قال مطمئنا :
ـ اتركي الأمر علي... سأتحدث إليه...

ابتسمت ابتسامة هادئة، لكن عقلها لم يهدأ أبدا... ما الذي تخبئه لها الأيام القادمة؟


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 28-05-15, 11:00 AM   #27

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي




الجزء السادس و العشرون





فتح عينيه ببطء و رفع رأسه بصعوبة... أجال بصره في المكان، يحاول التعرف عليه... كانت رؤيته ضبابية، لكن الأشكال بدت مألوفة... إنها سيارته! كان يجلس على مقعد القيادة، و رأسه مستند إلى المقود... أحس بألم في جبينه. رفع يده ليتحسس مكانه، فلمست أصابعه مادة لزجة متخثرة... إنها دماء! نظر إلى أصابعه المصبوغة باللون الأحمر في دهشة، عادت إليه حواسه رويدا رويدا، و تزايد إحساسه بالألم في أماكن مختلفة من جسده... و ما لبثت أن عادت إليه ذكريات الليلة الماضية...

ليلى تركته و رحلت مع فراس! تلك الحقيقة الجارحة سيطرت على أفكاره حتى أنه لم يعد يرى شيئا عداها... عبثت به ذكرياته مع حنان في الطفولة و بداية الشباب... كانت حلمه في حياتها، و أصبحت هاجسه بعد مماتها... فراس حرمه منها مرتين... و هذه هي المرة الثالثة! حرمه منها حين تزوجها رغم ما يعلمه من مشاعره تجاهها... ثم حرمه من وجودها حوله حين قادها إلى نهايتها البشعة... و الآن و قد عادت إليه بصورة لم يتوقعها أبدا... عادت أجمل و أبدع و أروع... يريد أن يحرمه منها مجددا!!

انهار على الأرض و هو يحس بالضياع... لماذا يا فراس، لماذا؟ لماذا تجبرني على إيذائك؟ أنا لم أرد ذلك... لم أرد أن نصل إلى هذه الدرجة من الكراهية... لكنك لم تترك لي الفرصة... دمرت حياتي و وأدت أحلامي... حياتي لم يعد لها معنى...

ضائع... ضائع بأتم معنى الكلمة... لقد حاولت أن أقتل أخي! ما الذي ألمّ بي حتى أفعل شيئا فظيعا كذلك؟ إنك حقا على حافة الجنون... على شفير هاوية سحيقة... نظر إلى يديه المرتعشتين في ذهول. ماذا فعلت بيديك هاتين؟ وقعت نظراته على بركة الدماء التي خلفها جرح فراس على الأرض... أنت فعلتها! صوت داخلي يصرخ في رأسه، يصم آذانه، يصيبه بجنون حقيقي... دارت نظراته في المكان، و قد أصابه الدوار... دوار فظيع... لمح الخنجر على الأرض فالتمعت في عينيه نظرة غريبة... زحف إليه على ركبتيه. تلطخ سرواله بدماء أخيه... أمسك الخنجر بين يديه اللتين لم تفارقهما الرعشة... حواسه كلها مضطربة. رفعه أمام عينيه و صور كثيرة تغلي في رأسه... أمسك بمقبضه الأزرق بإحكام، و قرب نصله الحاد المعقوف من معصمه الأيسر... الوريد... حنان قطعت وريدها وتركت دماءها تسيل على ملاءة السرير البيضاء... لا يزال يذكر المشهد كما لو أنه حصل بالأمس... وجهها هادئ و نظراتها خالية من الحياة... كأنها لم تشعر بالألم. هل الموت بتلك الطريقة خال من العذاب؟ كانت في سكينة عجيبة. اختارت طريقها. هل هي طريق مريحة؟ وضع حد النصل على معصمه و ضغط عليه برفق... تذكر وجه فراس حين رأى حنان مسجاة في تلك الوضعية. تذكر كل شيء... رآه و هو يركض نحو السرير في جزع و يهزها بعنف علها تستيقظ... ثم رآه و هو يسقط أرضا مغشيا عليه. فراس كان أكثر من تألم لوفاتها... مرض لفترة طويلة و نفسيته تأزمت. هو أيضا افتقدها... ربما أكثر مما كنت تتصور... أو أكثر مما تتحمل! حقدت عليه أكثر، لأنه لم يحافظ عليها و بعد فوات الأوان راح يبكيها!

ضغط على النصل أكثر ليوقف الأفكار المؤلمة التي تحاصره... أفكار مشوشة مبعثرة متداخلة... لمح أولى نقاط الدم تتسلل إلى الخارج... دم أحمر قان... تأملها في ذهول... إنه لا يحس بالألم! معقول؟ هل يجد راحته في هذا؟ كان يهم بالضغط مجددا على الخنجر حين أحس بالألم يجتاحه... أليافه العصبية أخذت بعض الوقت قبل أن تنقل السيالة العصبية إلى المركز! إنه يحس بالألم الآن... توقف مترددا، ثم ما لبث أن رمى الخنجر على الأرض و قام من مكانه... هرول في اتجاه المطبخ. بحث عن منديل يلف به جرحه ليوقف النزيف. كان الجرح بسيطا، لا داعي للقلق... لف معصمه بخرقة ثم دخل إلى الحمام ليغسل يديه من آثار الدماء. نظر إلى صورته في المرآة، و ابتسم في تهكم... أنت جبان! نعم جبان... لم تقدر حتى على اللحاق بها!

خرج و إحساسه بالسخط يسيطر عليه... سخط على نفسه، على حياته، على مشاعره، على ليلى و فراس! ركب سيارته و انطلق. كانت المزرعة غارقة في الظلام. لم ينبلج الصبح بعد... قاد السيارة بسرعة جنونية... إلى أين يذهب؟ لا يدري... ماذا يريد؟ لا إجابة... هل لحياتك معنى؟ ماذا تنتظر من أيامك القادمة؟ هل تستحق الحياة؟ ربما كانت النهاية...

لم يشعر بنفسه إلا و هو يندفع في الظلام في طريق خالية... لا يرى شيئا تقريبا و حواسه شبه مفقودة... فجأة أحس بقوة كبيرة تهز جسده و تسحقه على المقود... ألم كبير هاجمه، يكاد يحطم ضلوعه... لم يستطع أن يصرخ، بل ربما لم يحاول... استسلم إلى الألم الذي ابتلع جسده المحطم... كأنه يهوي إلى فج عميق لا قرار له... و غاب عن الوجود...

تحولت نظراته إلى معصمه. كان لا يزال ملفوفا في قطعة القماش، و كأن النزيف قد توقف... نزع المنديل عن معصمه و مسح به جبينه الذي كان يؤلمه أكثر... حاول استخراج جسده من المقعد. لكن بدا أن الكرسي قد ضغط بشدة إلى الأمام حتى علق جسده بينه و بين المقود! فتح باب السيارة الذي تحطم زجاجه تماما و أخذ يدفع بصدره إلى الخارج مستندا إلى كفه السليمة. جر نفسه بصعوبة و هو يقاوم آلامه التي لم يعد يدري مصدرها... وجد نفسه أخيرا ملقى على الأرض إلى جانب السيارة... الحمد لله تمكن من الخروج... رفع عينيه إلى سيارته فهاله المنظر : كانت مقدمة السيارة قد تحطمت بالكامل بعد أن ضغطت بقوة على شجرة ضخمة. لقد تعرض إلى حادث! كان ينظر حوله في ذهول و هو لا يصدق ما حصل معه. حاول الوقوف على قدميه، فأحس بألم فظيع في ساقه اليمنى... لا يستطيع الاستناد عليها... هل هو كسر؟ زحف مجددا باتجاه السيارة، بحث في الركام عن هاتفه الجوال... يجب أن يتصل بأحد ليخرجه من هنا! وجده أخيرا. جلس على الأرض في حيرة... بمن سيتصل؟ من ذا الذي سيهتم لأمره؟ من المؤكد أن الجميع متحلقون حول فراس الآن في المستشفى يطمئنون إلى سلامته... هل سيهمهم في شيء إن كنت على قيد الحياة أو غير ذلك؟ أنت حاولت قتل أخيك... لا تنس ذلك!

نزلت دموعه على وجنتيه في صمت. ما فائدة البكاء الآن؟ أمرك منته! فجأة أخذ الهاتف في الرنين. التقطه في لهفة و دهشة... شخص ما فكر فيه! نظر إلى الرقم في ذهول... رقم معروف لديه، مع أنه مر زمن طويل لم يره على شاشة هاتفه... غير معقول... لبث يحدق في الشاشة في غير تصديق، كأنه لم يعد يسمع الرنين... فراس! هل يرد عليه؟ كيف سيواجهه بعد فعلته تلك؟ شعر بغصة في حلقه، و انهمرت الدموع من عينيه بغزارة هذه المرة. حين انتبه من جديد، كان الهاتف قد توقف عن الرنين. وضعه إلى جانبه في أسى و غطى وجهه بكفيه. لا فائدة... لا يمكنه أن يتصل به. ستظل مرميا هنا في الخلاء حتى يعثر عليك بعض المارة... يمكنك أن تدعي فقدان الذاكرة، و ترحل بعيدا... لا فائدة من الرجوع إلى تلك العائلة. لا يهمها أمرك... فجأة انطلق الرنين مجددا. نفس الرقم ظهر على الشاشة... هذه المرة لم يستطع أن يقاوم. مد يده و أنفاسه المضطربة تتردد بسرعة في صدره... ضغط على زر الرد دون أن يتكلم. جاءه صوت فراس من الناحية الأخرى و هو يهتف في قلق :
ـ أمين؟ أين أنت؟

نظر حوله للمرة الأولى... كانت المراعي الشاسعة تمتد حوله بدون أي إشارة حياة... مكان مهجور تماما... لا يدري كيف وصل إليه، و لا كم مضى من الوقت منذ خروجه من المزرعة حين حصل له الحادث... إنه تائه حقا... تائه قلبا و قالبا... همهم بصوت شبه مسموع :
ـ لست أدري...



*********


أوقفت ليلى سيارتها في المرآب و ترجلت في اتجاه الحديقة الأمامية. ارتسمت على شفتيها ابتسامة حين لمحت منال تجلس في الشرفة. لوحت لها من بعيد و هي تقترب من مكانها. مرت بضعة أيام على آخر جلسة هادئة بينهما... فما أصعب الأيام الماضية! حين أصبحت أمام السلم المؤدي إلى الشرفة، انتبهت إلى أن منال لم تكن تجلس بمفردها. كان فراس قد استرخى على الأريكة المقابلة و هو يضع رانيا على أحدى ركبتيه. إحساس غريب غامرها حين التقت نظراتهما. أحست بارتباكه... أشاح بوجهه عنها و عاد إلى ملاعبة رانيا. لكنها قالت متجاهلة ذاك الإحساس و هي تشير إلى ذراعه الموصولة إلى عنقه برباط عريض أبيض :
ـ أنت طبيب، و مع ذلك تتجاهل توصيات طبيبك!

ابتسم و هو يهز كتفيه في لامبالاة :
ـ أنا بخير... الجرح بسيط و الطبيب يبالغ في الحذر... كما أن الجلوس مع حبيبتي رانيا أفضل من المكوث في السرير طوال اليوم...

ثم أشار إليها و هو يقول بجدية :
ـ لكن أنت من يتجاهل صحته بالكامل! تصلين الليل بالنهار و لا تفكرين بأخذ لحظة واحدة من الراحة...

ارتمت على الأرجوحة القريبة في إعياء و هي تقول :
ـ معك حق... إن غلبني النعاس و أنا جالسة هنا فلا يلومني أحد منكم...

ثم أغمضت عينيها متظاهرة بالنوم... كانت منال تنقل بصرها بينهما في تعجب. بالأمس كان كل واحد منهما لا يوجه كلمة للآخر، و اليوم يتحدثان ببساطة... بل كأنهما صديقان قديمان! عقدت ذراعيها أمام صدرها و هي تهتف في احتجاج :
ـ هناك شيء ما يتجاوز إدراكي المتواضع هنا...

التفتت إليها ليلى في استغراب، في حين احمر وجه فراس فجأة و قال على الفور مغيرا الموضوع :
ـ منال من فضلك... هلا أحضرت بعض الكعك... ابنتك تكاد تلتهم أصابعي من الجوع!

نظرت إليه في خبث فتطلع إليها في استجداء... قامت في امتعاض و هي تقول :
ـ ليلى... تعالي معي، أحتاج مساعدتك في إحضار العصير...

تبعتها ليلى في استسلام، و ما إن وصلتا إلى المطبخ حتى بادرتها منال قائلة :
ـ يبدو أن فكرة الزواج راقتك أخيرا!

توردت وجنتا ليلى فجأة و لم تجب... لا شك أن فراس أعلمها بشأن عمر... هتفت منال و هي تحتضنها في فرح حقيقي :
ـ كان يجب أن أعلم! واضح جدا من تغير ملامح فراس حال رؤيتك! كان مزاجه عكرا طوال النهار، و ما إن حضرت الأميرة حتى ظهرت الابتسامة على وجهه!

حدقت فيها ليلى في دهشة :
ـ منال... ما الذي تقولينه؟ الأمر ليس كذلك أبدا!

غمزتها منال في خبث و هي تقول :
ـ هل تحاولين المداراة؟ أنت أيضا تغيرت معاملتك تجاهه! أين الكلام الذي قلته عنه منذ أيام قليلة؟

خفضت ليلى رأسها في خجل و هي تهمس :
ـ أرجوك لا تذكريني في تلك السخافات... لست أدري كيف أعتذر منه على سوء ظني...

ربتت منال على كتفها ضاحكة :
ـ لا داعي للاعتذار الآن، صفحة جديدة بدأت... و حياتكما معا ستكون أفضل بالتأكيد...

تنهدت ليلى و هي تقول :
ـ منال أنت لا تفهمين... زواجي من فراس لن يحصل أبدا! لقد اتفقنا على رفض ذلك...

عقدت منال حاجبيها في دهشة و هي تتمتم :
ـ لم أعد أفهم شيئا...

كانت ليلى قد انتهت من ملأ أكواب العصير فقالت و هي تحمل الصينية و تتوجه إلى الخارج :
ـ ستفهمين قريبا يا عزيزتي... الآن هلا جهزت طبق الكعك و لحقت بي؟

تابعتها منال و هي تخرج من المطبخ و في عينها نظرة غريبة... مستحيل، ما رأته في عيني فراس شيء آخر... شيء لا يمكن أن يخطئه حدسها الأنثوي! فراس متغير منذ أيام... و ستعرف حتما ما وراء هذا التغيير...

وضعت ليلى الصينية على الطاولة و هي لا تزال تفكر فيما قالته منال عن تغير فراس... نعم إنها تشعر بذلك أيضا، لكنها لم تعره اهتماما كبيرا... ربما لأن أشياء أخرى أهم حصلت في الأثناء... حين رفعت رأسها انتبهت إلى أنها و فراس كانا بمفردهما في الشرفة... نظرت إليه في ارتباك و هي تقول :
ـ أين ذهبت رانيا؟

لم يكن أقل منها ارتباكا و هو يهمهم :
ـ ذهبت لإحضار كرتها...

همت بالعودة إلى المطبخ لمساعدة منال، لكن فجأة تذكرت أمرا ما و وجدت أن الفرصة مناسبة لتسأل عنه. التفتت إليه في اهتمام وقالت و هي لا تزال واقفة :
ـ فراس... أردت أن أستفسر عن أمر ما... في الليلة الأولى من إقامتي هنا، حصل أمر غريب... هل تذكر؟

نظر إليها في انتباه و تساؤل، فواصلت :
ـ سمعت صراخا أثناء الليل، و حين خرجت لأرى ما يحصل وجدت باب غرفتك مفتوحا و أمين يقف في الداخل... قال أنك ترى كوابيس عن حنان... لكن، لكن قبل ذلك كنت واقفة في الشرفة، و رأيت شخصا ما يتسلل إلى غرفتك عن طريق الشرفة...

نظر إليها و قد بدت الدهشة على ملامحه، لكنه سرعان ما ابتسم في مرارة و هو يقول :
ـ إذن رأيت ذلك!

هتفت ليلى في لهفة و حماس :
ـ إذن كان ذلك حقيقيا و ليس تهيؤات كما ادعى أمين!

هز فراس رأسه موافقا و هو يقول :
ـ نعم... كان ذلك أمين!

ـ أمين!!

ـ نعم... بعد وفاة حنان، كان يبحث عن مذكراتها المفقودة... كنا جميعا نعلم أنها تكتب مذكراتها في كراس صغيرة... و بحثنا عنها جميعا لأننا اعتقدنا بأنها قد تكون كتبت فيها عن أسرار انتحارها. أمين كان يعتقد أنني أخفيت المذكرات لأن فيها ما يثبت تورطي في قضية انتحارها... و لبث يطاردني باتهاماته طويلا دون أن ييأس... في ليلة قدومك إلى هنا، تعمد أن يذكر حنان و ماضيها أمامي حتى يستفزني. كان يعتقد أن استثارة ذكرياتي عنها سيجعلني أخرج المفكرة من مخبئها!! كان قد فتش غرفتي مرات قبل ذلك دون جدوى... و أعاد الكرة في تلك الليلة... كنت قد أويت إلى النوم، لكن نومي كان مضطربا بسبب... بسبب ظهور نسخة من حنان أمامي فجأة...

قال ذلك و هو يبتسم في خجل، ثم واصل :
ـ استيقظت أثناء الليل و تناولت منوما... فقد كنت أعاني السهاد منذ زمن، لكن بصفة متقطعة... حين فتحت عيني للمرة الثانية، رأيت شبحا يتجول في غرفتي بمصباح يدوي! حين انتبه إلى استيقاظي التفت إلي و أخذ يطالبني بإعطائه المذكرات... كان في حالة من الهيجان الشديد، في حين كنت نصف نائم، لذلك كانت موازين القوى مختلة! حين لم ير مني التجاوب المطلوب، دفعني بعنف... و كان مفعول المنوم قد أخذ بدأ يظهر في جسدي، فسقطت على السرير و فقدت وعيي على الفور...

همهمت ليلى متفكرة :
ـ هكذا إذن...

ثم أضافت في تساؤل :
ـ أمين كان ليفعل المستحيل حتى يحصل على المذكرات... و أنت؟ ألم يكن لديك فضول لمعرفة ما كتبت حنان في كراسها؟ كيف تخليت عنها بكل سهولة حين طلبها منك ياسين؟

فاجأه سؤالها مجددا. نظر إليها بصمت للحظات، ثم أشاح بوجهه و هو يقول في حزن :
ـ نعم... الجميع كانوا متشوقين لقراءة مذكراتها... لكن أنا... كنت خائفا... خائفا مما قد تكون كتبته عني... و عن حياتها بعد زواجنا... فقد تعذبت بما فيه الكفاية دون أن أقرأ شيئا... فكيف سيكون حالي إن قرأت ما يؤكد ذنبي تجاهها؟

أطرقت ليلى في تأثر و هي تتذكر مجددا كلمات حنان... نعم، كانت كلماتها قاسية، و لا شك أنها كانت لتكون مدمرة بالنسبة إليه...

قال فراس مغيرا الموضوع :
ـ هل علمت أن أمين في المستشفى؟

رفعت رأسها في اهتمام و استغراب... لم تكن قد سمعت عن أمين شيئا منذ حادثة الليلة الماضية :
ـ أمين؟ ما الذي حصل؟

ـ تعرض إلى حادثة الليلة الماضية... لم ينتبه إلى الطريق... و لا يعلم أين هو! ذهب ياسين مع العم صابر للبحث عنه... وجدوه في طريق مهجورة غير بعيدة عن المزرعة و نقلوه إلى المستشفى عند الظهر... أصيب بكسور في مستوى الضلوع و الساق اليمنى... سيكون بخير بعد بضعة أيام إن شاء الله...

تنهدت ليلى في ارتياح... طالما لم تصب الأعضاء الحيوية بضرر فهو بخير إن شاء الله... ذاك الفتى المتهور... كانت ليلة صعبة على الجميع... إصابات عديدة... فراس و والدها، ثم أمين... لكنها مرت بسلام و الحمد لله...

ارتفع رنين هاتف فراس الجوال. نظر إلى الرقم ثم قال مبتسما :
ـ إنه الدكتور جمال... أحد أصدقائي في المستشفى... ربما يحمل أخبارا عن حالة أمين... مرحبا جمال... طمئنني، كيف الأحوال؟

راقبته ليلى و هو يستمع إلى محدثه في اهتمام متزايد... رأت ابتسامته تتلاشى مع تدفق الكلمات إلى أذنيه، و علامات الانقباض تحتل ملامحه... لم ينطق بكلمة إضافية، بل أنهى المكالمة في هدوء، و سرحت نظراته الذاهلة للحظات... هتفت ليلى في قلق :
ـ فراس... ماذا هناك؟

كانت منال قد وصلت حاملة طبق الكعك، و ضعته على الطاولة و هتفت في مرح :
ـ آسفة إن كنت تأخرت عليكم...

لكنها بترت عبارتها و هي تلمح الوجوه الواجمة. جلست إلى جوار ليلى و هي تتساءل :
ـ ماذا هناك؟

ـ فراس... ما الأمر؟ أمين بخير؟

كانت علامات التردد واضحة على وجهه، يبحث عن الكلمات المناسبة... نظر في عيني ليلى و قال و هو يحاول أن يكون هادئا :
ـ ليلى... هل تذكرين حديثنا هذا الصباح؟

حدقت فيه في دهشة و تساؤل، فأردف موضحا :
ـ عن الصبر و الاحتساب عند الابتلاء...

هزت رأسها ببطء و قد أخذت العبرات تتجمع في عينيها. واصل في صوت راح يتهدج :
ـ و أنت مؤمنة و قوية... و ترضين بقضاء الله... أليس كذلك؟

لم تكن تحتاج إلى المزيد من الكلمات كي تفهم قصده. سالت الدموع على وجنتيها في صمت. لم يقاوم دموعه هو الآخر فأشاح بوجهه ليخفي عبراته عنها و هو يتابع :
ـ هاجمته نوبة حادة بعد خروجك بقليل... لكنه لم يصمد أمامها هذه المرة... الفريق الطبي فعل ما بوسعه، لكن لا راد لقضاء الله...

نزل عليها الخبر كالصاعقة... انتهى كل شيء... انتهى! إنها الآن بدون عائلة... فقدت مصدر طاقتها الأخير و الوحيد... لا ليس الوحيد... هزت رأسها موافقة و تمتمت بشفتين مرتجفتين :
ـ إنا لله و إنا إليه راجعون... إنا لله و إنا إليه راجعون...

أشار فراس إلى منال التي ظلت تراقبهما في ذهول و قد عقدت الصدمة لسانها، فاحتضنتها في حنان و تركتها تبكي على صدرها في هدوء... أما فراس فقد أطرق في حزن، و هو يحس بأن الموقف سيزداد تأزما... تذكر حواره مع والده منذ سويعات قليلة فاختلج قلبه في صدره... لكنه سيقف إلى جانبها و يساندها... مهما حصل...

رفعت رأسها و قد تمالكت نفسها و قالت في هدوء عجيب :
ـ أريد أن أراه...

هز رأسه موافقا و هو يقوم لاستدعاء السائق... كان الله في عونك يا ليلى...



لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 28-05-15, 11:01 AM   #28

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


الجوء السابع و العشرون





أشرقت شمس يوم جديد على قصر آل القاسمي. تسللت أشعتها الدافئة لتداعب الجفون و الأجساد التي أنهكها السهر، لكنها لم تتجاوز حواجز الحزن التي غلفت القلوب و خلفت فيها آثار الصقيع...

لم تنم ليلى. فبعد زيارتها الأخيرة لوالدها في المستشفى و رؤيتها لجثته الباردة المسجاة بدون حراك، أدركت أن مرحلة جديدة من حياتها على وشك البدء. مرحلة البحث عن الاستقرار... و الأمان. كانت تثق بأن الله لن يهملها، بعد أن توكلت عليه بكل جوارحها... و عليها الآن أن تنظر في قراراتها المستقبلية و شؤون حياتها الخاصة بحكمة و صبر و تأن... لن تدع الحزن يعصف بها و يشغلها عن واجباتها... نعم واجباتها تجاه والدها، و تجاه نفسها... ألم تعده بأن تكون قوية و مسؤولة؟ و قد آن أوان البرهان...

لم ينم نبيل. مشاغل كثيرة تنتظره. يجب أن يعد لصهره و صديقه القديم جنازة مناسبة، تليق بمقام العائلة الرفيع و تترك أثرا في نفوس الناس... و خاصة في نفس ليلى. يجب أن يكسب ودها و رضاها، حتى تحس أنها محاطة بعائلة تحبها و تحميها. يجب أن يؤكد لها انتماءها إليهم... الآن، و فيما بعد! وفاة والدها ستؤخر زواجها من فراس، لكنها ستعمق في نفسها حاجتها إلى العائلة، و هو سيحرص على إعطائها ما تحتاجه. إنه أقل ما يمكنه فعله تجاه ابنة أخته اليتيمة... تذكر حنان... كان زواجها من فراس خطأ فادحا... كل شيء سار بشكل خاطئ... لكنه متأكد من سلامة الطريق هذه المرة...

لم ينم أمين أيضا... كان قد عاد إلى القصر في المساء، بعد أن عولجت جراحه و جبرت كسوره... لكن إحساسا بالذنب لم يفارقه. مكالمة فراس كانت حبل النجاة الذي أنقذه في الوقت المناسب. أنقذه من نفسه و من الضياع الذي كان على مشارفه... أعاد إليه إحساسه بالانتماء إلى عائلة و جعله يعيد حساباته بخصوص علاقته مع أخيه، شقيقه الذي لا يكبره إلا بثلاث سنوات. رغم سوء علاقتهما و تراكم الخلافات بينهما، فراس قلق بشأنه... فكر فيه و لم يتردد في الاتصال للاطمئنان. كم مضى من الوقت لم يحس فيه بالاهتمام من أحد؟ لكن حين وجد نفسه في مأزق، جاءه الاهتمام من حيث لا يحتسب... ياسين اكتفى بتعنيفه على تهوره. لكنه أحس باهتمامه هو الآخر... لولا ذاك الاهتمام لما ترك أعماله و خرج للبحث عنه. ربما كان مخطئا في تقديره لمشاعر إخوته تجاهه. و ربما كانت الفرصة مناسبة لإضفاء بعض الدفء على العلاقات... لكن ما يحزنه، هو والده! حين فتح عينيه لم يجده أمامه في المستشفى، كما تعود أن يرى في الأفلام و المسلسلات! و حين عاد إلى القصر، لم يكن موجودا... ربما لم يلاحظ غيابه أصلا... مسؤولياته الكثيرة تأخذ الكثير من وقته... بل كل وقته! تناول عشاءه وحيدا في غرفته، فهو لم يكن قادرا على الحركة... علم من العم صابر بمأساة والد ليلى، لكنه لم يجد في نفسه الشجاعة لمواساتها. لا يزال خجلا من تصرفاته الصبيانية المتهورة في الليلة الماضية... ربما عليه أن ينزوي عنهم جميعا لبعض الوقت، ريثما يستعيد قدرته على المواجهة...

فراس لم ينم هو الآخر... لكن مشاعره كانت مختلفة... يعيش حالة من التمزق، بين حزنه على ليلى و خوفه من التصرفات والده المرتقبة... و بين خوفه عليها من مشاعرها و اندفاعها نحو مستقبل مجهول... في لحظات، تغيرت نظرته إلى الأمور. البارحة، حين علم بتعلقها بشخص آخر، عاهد نفسه على مساعدتها برفض الزواج المفروض من والديهما. حين قرر ذلك، كان والدها لا يزال على قيد الحياة. كان لديها مصدر حماية، ينظر في المتقدم إليها بعين الحكمة و لا يدعها تتسرع في قرارها... تلجأ إليه إن حصلت خلافات بينها و بين زوجها في المستقبل و تجد في حضنه المواساة و الأمان... لكن الآن، كل شيء تغير! أصبحت الأمور أكثر تعقيدا... لم يعد واثقا من أن زواجها من ذاك الشخص المجهول هو القرار المناسب! لا يعلم عنه سوى أن مشاعرها متعلقة به. لكن قرارها هذا يعني سفرها إلى بلاد غريبة. حيث لا عائلة لها و لا سند... حيث لا يمكنها أن تشكو إلى أحد و لا تجد من يقف إلى جانبها إن دارت عليها الدوائر... لكن... إن بقيت هنا... معه هو، ستكون في أمان... سيحميها من الجميع، و من نفسها... هل تعتقد ذلك حقا يا فراس؟ لم يكن واثقا... لا أحد يعلم ما الذي تخفيه الأيام القادمة... لكن مشاعره لم ترض بالبقاء حبيسة صدره، و هاهي تعلن الثورة و تطالب بحقها في الوجود...

خرج من غرفته بعد أن أراح جسده لسويعات قليلة بعد أذان الفجر. إنه يوم جديد... و بداية مرحلة جديدة في حياته... و حياتها. أمامه بعض الوقت حتى تنقضي أيام العزاء، ليرتب أفكاره و يحدد مساره. حيى العم صابر الذي اعترضه في الممر. رآه يتوقف عند باب ليلى. هم بالعودة ليطمئن على حالها، لكن حين رأى الباب يفتح حث خطواته بسرعة في اتجاه السلم... لا يريد أن يرى الحزن في عينيها، و هو لا يملك أن يفعل شيئا من أجلها... لذلك فضل الهروب! كان في اتجاهه نحو الشرفة حين سمع صوتا حازما يناديه :
ـ فراس...

التفت ليجد والده يقف عند باب المكتب و يطالعه بنظرات صارمة :
ـ هلا تبعتني إلى المكتب؟ أحتاجك قليلا...

تنهد و هو يعود أدراجه في اتجاه المكتب. لا تزال آثار المشادة الكلامية الأخيرة بينهما تحز في نفسه. و هو يعلم يقينا بأن الموضوع سيتكرر، و الحوار المتعب نفسه سيثقل كاهله أكثر من ذي قبل... لأن صراعا جديدا نشأ في نفسه، و يخاف أن تهتز ثقته و يطيع مشاعره التي توافق رغبات والده...

وقف نبيل وراء المكتب و على وجهه علامات الاهتمام و الجدية. بعد صمت قصير قال :
ـ فراس... لا أريد أن أعيد عليك الكلام الذي قلته سابقا، لكن المسألة أصبحت أكثر دقة و خطورة... لذا سأكون أكثر وضوحا و شفافية...

لم يعلق فراس الذي وقف واضعا كفه الطليقة في جيب سرواله متظاهرا باللامبالاة. تنهد نبيل و هو يواصل :
ـ ربما يجب أن أعلمك بكل ما يحصل... ثم يمكنك أن تتخذ قرارك بعد التفكير فيما سأقوله... ليلى الآن شابة ثرية... و من المؤكد أن الأطماع ستكثر حولها و يتقدم لخطبتها الكثيرون ممن يضعون أعينهم على ثروة والدها... و قد تفكر بالعودة إلى فرنسا... لكن أنا و المرحوم نجيب... كان بيننا عقد شراكة. و بوفاته، أصبحت ليلى شريكتي في نصف المعمل الجديد. العقود وقعت منذ فترة قصيرة، و العمل قد بدأ للتو. نجيب يمتلك السيولة الكافية للتجهيز، و أنا أمتلك الخبرة و البناية و اليد العاملة... و إن تزوجت ليلى من شخص غريب فقد يقنعها بفض الشراكة التي بيننا حتى يستثمر الأموال بعيدا عنا... أو ليسلبها إياها بدون أي وازع أو رقيب... فكر جيدا في الأمر...

نظر إليه فراس في حيرة. عادت إليه كلمات ليلى عما أخبرتها به رجاء. حسابات الشركة بعد زواجه من حنان. الوصاية. الأزمة المالية... و هاهو نبيل القاسمي أمامه، يؤكد أهمية المال في هذا الزواج... هل هو اعتراف ضمني بما ينسب إليه من اتهامات؟ هل هو حرص حقيقي على ثروة ليلى... أم طمع و استغلال؟

سكت نبيل قليلا، ثم واصل بصوت أكثر لينا :
ـ ليلى الآن أمانة في رقبتي... أنا مسؤول عنها بعد والدها و لا يمكن أن أترك للغرباء فرصة العبث بها... ليلى يجب أن تبقى بيننا و تستقر معنا... حتى نحميها و نحمي أموالها... أليس كذلك؟ فهل ستتخلى عن ابنة عمتك و هي في هذه الظروف الصعبة؟

رفع فراس عينيه إلى والده في دهشة متزايدة... كأنه يذكره بما فعله مع حنان، و بتضحيته في ذاك الوقت! حينها لم يضغط عليه أحد. اختار طريقه بنفسه... مع أنه كان معاكسا لرغباته و مشاعره و طموحاته... أما الآن...

استطرد نبيل بصوت حان و هو يرى علامات التأثر على وجه ابنه :
ـ صدقني، ليلى مختلفة جدا عن حنان... فتاة يتمناها كل شاب. و يتمناها كل والد لابنه... أنت ظلمت نفسك بزواجك من أختها. لكن تأكد من أنك تتخذ القرار الصحيح هذه المرة...

واجهه فراس بنظرات جامدة، تخفي ما في صدره من انفعالات عنيفة، و قال في تحد :
ـ إلى أي مدى يمكنك المضي من أجل الحفاظ على مصلحة الشركة؟

عقد نبيل حاجبيه و هو يطالع فراس في شك و ريبة :
ـ ما الذي تقصده؟

نظر إليه فراس في قوة و قال :
ـ أليس الغرض الرئيسي من هذا الزواج مصلحة الشركة؟ و في السابق، ألم توافق على زواجي من حنان من أجل مصلحة الشركة؟ إن كنت مقتنعا بأنها لا تناسبني لماذا لم تنصحني؟ لماذا لم تمنعني؟ أم لأن مصلحة الشركة تقتضي ذلك؟!

تجهم وجه نبيل و هو يقول مدافعا :
ـ زواجك من حنان كان خطأ، خطأ فادحا... و جميعنا نتحمل مسؤوليته، و قد فعلنا بما فيه الكفاية... لكن زواجك من ليلى سيكون في مصلحة الجميع... مصلحة ليلى، و مصلحتك... و مصلحة العائلة...

هز فراس رأسه في عدم اقتناع و قال :
ـ أنا آسف يا والدي... أعلم أن طاعتك علي واجبة... لكن ليس في أمر كهذا... لا يمكنني أن أوافقك على إجبارها على هذا الزواج... دعها تختار بنفسها، و لا تتدخل في قرارها... إنها عاقلة راشدة، و تعرف حقوقها جيدا... ليست في حاجة إلى وصاية من أحد...

و أضاف و هو يشيح بوجهه :
ـ يجب أن تعلم ليلى بكل شيء... و أن لا تجبرها على أي شيء... و إلا... فأنا سأظل رافضا!

قال ذلك و اندفع في اتجاه الباب... كانت دموع قهر قد تجمعت في مقلتيه... صورة والده التي اهتزت في عينيه اليوم. هل أعمى بصيرته الطمع؟ لطالما كان بالنسبة إليه الأب الحاني و إن أخذته المشاغل بعيدا عن أولاده. لم يشك يوما في مشاعره تجاههم. لكنه الآن لم يعد يفهم... بل لا يريد أن يستسلم للأفكار الجديدة التي بدأت تتسلل إلى قلبه و عقله... فليترك له فرصة أخيرة ليثبت العكس...

فتح الباب بقوة، ففوجئ بها تقف خلفه. نظر إليها في دهشة. كانت علامات الإرهاق بادية على وجهها... سهاد و حزن و تعب...

ـ أنت بخير؟

نظرت ليلى إلى وجهه المكفهر لبرهة ثم هزت رأسها ببطء و هي تقول في ارتباك :
ـ هل خالي بمفرده في المكتب؟ طلب مجيئي منذ قليل...

أفسح لها المجال لتمر إلى الداخل و تغلق الباب خلفها. وقف في مكانه و علامات التوتر تكسو ملامحه... منذ متى تقف أمام الباب؟ هل سمعت جزءا من حوارهما؟ كان صوت صراخه عاليا... لم يتحكم جيدا في أعصابه. تنهد في ألم... لم يعد ذلك مهما الآن، فمن المؤكد أن والده قد استدعاها إلى المكتب ليتحدث إليها في الموضوع! ألا يمكن أن ينتظر بعض الوقت؟ الرجل لم يوارى الثرى البعد! تنهد مجددا و هو يهز رأسه في أسف... ربما يكون مخطئا... ربما ليس والده بذاك السوء... مهما بلغ به الحرص على مصلحة الشركة فلن يتحدث إلي ليلى الآن... يا رب... لا يزال هناك بصيص أمل ... و إن كان ضئيلا...

توجه إلى الشرفة بخطى متثاقلة. جلس على الأرجوحة، مكانها المفضل. أغمض عينيه و ترك جسده يتهادى مع نسق الأرجوحة البطيء... متعب... متعب جدا من كل ما يحصل معه و حوله في هذه الفترة... كانت حياته هادئة، و إن لم تكن سعيدة... لكنها كانت رتيبة و مستقرة. من أين له بالاستقرار الآن؟

فتح عينيه فجأة، لم يدر كم مر عليه من الوقت هناك... ربما كان قد غفا! كان ما أيقظه رنين هاتف قريب... تلفت حوله باحثا عن مصدره. لم يكن هاتفه... كان الصوت قادما من تحت الأرجوحة. انحنى ليلتقط مصدر الإزعاج... أمسكه بين يديه في دهشة، إنه هاتفها! لم يكن ليخطئ لونه الوردي الأنثوي! و بسرعة عاد إلى ذاكرته مشهد وقوفها في ممر المستشفى، و هي تحتضن الهاتف في شاعرية. اعتصر الألم قلبه... و سرح للحظات مع أحلامه الموءودة في المهد... لكنه سرعان ما انتبه إلى أن الهاتف لا يزال يرن في يده. وقف و خطا إلى الداخل في اتجاه البهو، ليعيد إليها هاتفها. توقف فجأة... هل تراها انتهت من لقاء المكتب؟ كان الباب مغلقا. ربما كانت في الداخل... و ربما عادت إلى غرفتها. الهاتف لا يزال يرن، لكنه قد يتوقف في أية لحظة... شيء ما جعله يعود أدراجه. راوده إحساس بأنه يعرف من المتصل رغم أن الرقم لم يكن مسجلا على الهاتف. ربما كانت فرصته... فرصته ليتعرف على حبيبها و يختبر كفاءته! نعم، لا يمكنه أن يوافقها على قرارها بسهولة قبل أن يتأكد من أن الآخر يستحقها! هكذا فكر... و دون تردد، ضغط على زر الرد و قال بصوت واثق :
ـ مرحبا...

أحس بارتباك مخاطبه الذي قال بصوت مضطرب :
ـ السلام عليكم...

ـ و عليكم السلام و رحمة الله...

يحاول تحليل نبرات صوته و أسلوبه... لا شك أنه هو... غريمه!

ـ أليس هذا هاتف الآنسة ليلى كامل؟

ـ نعم هذا صحيح... لكن ليلى لا يمكنها الرد في الوقت الحالي. هل من رسالة تريد أن أوصلها إليها؟

يحس بتفوقه مع كل كلمة. إنها ابنة عمته هو، و تقيم في مكان واحد معه هو، و هاتفها بين يديه هو! أما أنت أيها الغريب، فمن تكون و ما مدى علاقتك بها؟ اختنقت ثقته فجأة و هو يصل بتفكيره إلى نقطة الضعف... ربما تفوقت عليه في كل هذا... لكنه هو ملك قلبها! و أنت خسرته!

عاد إلى مخاطبه و هو يحس ببعض المرارة... سمعه و هو يقول في توتر :
ـ في الحقيقة، كنت على موعد معها... أقصد مع والدها، اليوم... لكنه لم يكن في الموعد... أرجو أن يكون المانع خيرا...

قال فراس بأسى واضح، على حالها... و حاله :
ـ عمي نجيب توفي مساء البارحة... البقاء لله...

ظهرت علامات الدهشة في صوت المتكلم و هو يقول في صدمة جلية :
ـ السيد نجيب كامل؟ لا إله إلا الله... إنا لله و إنا إليه راجعون...

بادره فراس و هو يقول :
ـ ستقام الجنازة اليوم بعد العصر... يمكنك المجيء إن أردت...

ـ نعم طبعا...

أملى عليه فراس العنوان، ثم قال على الفور :
ـ إن وجدت صعوبة في إيجاد المكان أستاذ...

ـ عمر!

ـ تشرفنا أستاذ عمر... إن وجدت صعوبة في الوصول، يمكنك الاتصال بي على هاتفي الخاص، سأكون في استقبالك...

ـ عذرا، لكن من المتكلم؟

أجاب بثقة :
ـ فراس القاسمي... ابن خالها...

أخذ عمر منه الرقم شاكرا، ثم أنهى المكالمة. تنهد فراس و هو يجلس على الأرجوحة من جديد. ربما لم يكن من حقه أن يرد على مكالماتها الخاصة، لكنه مسؤول عنها الآن... و هو من اختار هذه المسؤولية! و مسؤوليته تفرض عليه أن يتأكد من كون الرجل الذي اختارته مناسبا لها... تنهد مجددا و هو يتأمل الهاتف في كفه. أصبحت التنهيدات تتردد في صدره أكثر من الأنفاس هذه الأيام... يخاف أن تكون مشاعره هي التي تقوده في تلك الطريق... لكنه لم يعد قادرا على التراجع...

أيقظه صوت منال من أفكاره، و هي تهتف :
ـ و الآن؟

رفع رأسه ليجدها تقف أمامه عاقدة ذراعيها أمام صدرها، فقال في استغراب :
ـ ماذا الآن؟

قالت و هو تضيق عينيها كمن يحاول سبر أغوار نفسه :
ـ لا تحاول أن تقنعني بأنك لم تكن تفكر في صاحبة الهاتف! و الآن، ماذا ستفعل؟

نظر إليها في حيرة و قال :
ـ ماذا سأفعل بشأن ماذا؟

هتفت في حزم :
ـ بشأن الزواج طبعا! ليلى أخبرتني أنكما اتفقتما على الرفض... لكنه ما أراه يوحي إلي بأشياء أخرى!

امتقع وجهه و هو يردد في ارتباك :
ـ أشياء أخرى؟

ـ إلى متى ستظل تردد كلماتي؟ نعم أشياء أخرى! و ما وجهك الملون هذا إلا دليل واضح عليها!

خفضت صوتها لتقول بعطف أكبر :
ـ هل ستظل تخفي مشاعرك عنها طويلا؟ إنها في حاجة إليك الآن... و أنت أيضا في حاجة إليها!

أطرق و لم يعلق. لم تكن تنقصه سوى تحليلات منال حتى يفقد ذرات المقاومة القليلة المتبقية! تابعت منال في حماس :
ـ لا يجب أن تقف متفرجا! تقرب منها حتى تحس بك!

أشاح بوجهه في ألم و قال :
ـ أنت لا تعلمين شيئا يا منال... الأمر ليس بتلك البساطة...

أجابت في عناد :
ـ ما أعلمه هو أنكما مناسبان لبعضكما البعض... جدا... و هناك مشاعر من الطرف الأول... و ليس من الصعب أن تتولد مشاعر من الطرف الثاني، طالما كان هناك قبول، و محاولات من الطرف الأول...

ابتسم في سخرية و هو يقول :
ـ و ماذا لو كان الطرف الثاني غير مستعد لتقبل تلك المحاولات؟

ـ نتسلل إلى قلبه رويدا رويدا!

رفع رأسه و هو يقول في استسلام :
ـ لا يا منال... لا يمكنني أن أفرض نفسي عليها... لا أريد أن أشكل ضغطا إضافيا...

لم تجبه منال و لكنها هتفت فجأة و هي تنظر باتجاه المدخل :
ـ ليلى... كيف حالك يا حبيبتي؟

تسارعت دقات قلب فراس و هو يراها تقترب. هل سمعت شيئا؟ ما الذي دهاه حتى يساير منال في كلامها! بهذه الطريقة سيورط نفسه عاجلا أم آجلا! لم تكن ملامحها أقل إجهادا مما كانت عليه حين رآها أمام المكتب... أي حديث تراه كان بينها و بين والده منذ قليل؟
توجهت منال نحوها و احتضنتها في ود. في حين بقي فراس ساكنا، و التوتر يحرق أعصابه التالفة. ابتسمت ليلى ابتسامة شاحبة تعبيرا عن امتنانها، ثم نظرت إلى فراس و هي تقول في صوت هادئ :
ـ كنت أبحث عن هاتفي... يبدو أنني نسيته هنا ليلة البارحة...

نظر فراس إلى حيث تشير، فانتبه إلى أنه كان لا يزال يلهو بهاتفها بين أصابعه... مده إليها في ارتباك و هو يقول :
ـ وجدته تحت الأرجوحة... كنت سأعيده إليك...

ابتسمت و هي تأخذه شاكرة... ثم انصرفت دون أن تضيف كلمة واحدة. تابعها بنظراته في صمت حتى اختفت في الداخل. ربما كان عليه أن يخبرها عن الاتصال. لكنه لم يفعل! نظرت إليه منال في عتاب، و قالت :
ـ ألم يكن بوسعك أن تكون أكثر حرارة؟ البنت فقدت والدها البارحة! حاول أن تشعرها بوجودك إلى جانبها بأية طريقة!!

هز كتفيه في استهانة، و استرخى على الأرجوحة... بعد ساعات قليلة سيتوافد المعزون على القصر و سيمتلئ المكان بالخلق، ممن عرف المرحوم و من لم يعرفه... أغمض عينيه مجددا و سرح بعيدا... يفكر في لقائه المنتظر... بعد العصر...





لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 28-05-15, 11:02 AM   #29

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي




الجزء الثامن و العشرون



جلست ليلى على طرف السرير في شرود. لم تستطع منع نفسها من التفكير في كل ما سمعته هذا الصباح. خالها كان حانيا و متلطفا معها حين ناداها للقائه في المكتب. أعلمها بكل الإجراءات التي اتخذها لتكريم والدها و نقله إلى مثواه الأخير... لكنها لم تستطع أن تصدق علامات التأثر البادية على وجهه بعد ما سمعته... لم تقصد التجسس على حديثه مع فراس. لكنها كانت هناك، أمام الباب، تهم بطرقه و الدخول. تسمرت في مكانها و هي تسمع هتاف فراس المختنق : "أليس الغرض الرئيسي من هذا الزواج مصلحة الشركة؟" تراجعت و قد جفلت أوصالها... لم يكن الصوت واضحا جدا خلف الباب المغلق و كلمات خالها الهادئة غابت عن مسامعها تماما. لكنها ميزت بضع كلمات أخرى حين ارتفع صوت فراس من جديد : "يجب أن تعلم ليلى بكل شيء... و أن لا تجبرها على أي شيء... و إلا فأنا سأظل رافضا!". رنت تلك الكلمات في أذنيها من جديد فابتسمت في حزن... فراس يقف إلى جانبها و يحاول مساعدتها حتى لو اضطر إلى الوقوف في وجه والده! لا تملك سوى أن تكبر موقفه النبيل...

تذكرت ملامحه الممتقعة منذ قليل. كان مرتبكا و هو يمد يده إليها بالهاتف. تصرفاته بدت غريبة في الفترة الأخيرة... لا يمكنها أن تنكر أن فراس كان غريبا على الدوام، منذ عرفته! تحس بأنه لم يتماثل بعد إلى الشفاء بعد صدمة وفاة حنان المؤلمة و الأزمة التي عرفها بعدها... ثلاث سنوات كاملة لم تكن كافية لاستعادته التوازن الكامل...

سرعان ما نسيت أمر فراس و تذكرت مشكلتها العويصة التي عليها مواجهتها بكل رباطة جأش... تناولت هاتفها و هي تحس برغبة ملحة في الارتماء على صدر حنون يمنحها بعض العزاء. لم يكن أمامها سوى سحر، صديقتها الوحيدة... كونت رقمها بأصابع مرتجفة و ما إن وصلها صوتها الدافئ مرحبا حتى هتفت بصوت مرتجف :
ـ سحر... أنا في حاجة إليك...

استمر حديثها مع سحر لبعض الوقت. لم تقل الشيء الكثير، بل تركت لدموعها التي كبتتها طويلا العنان لتسيل على وجنتيها في هدوء و استسلام... استكانت على صوت سحر الهادئ و هي تواسيها في رقة و عطف... لم تشأ أن تحدثها عن أمر خالها و شكوكها المتزايدة. ربما خشيت أن يزيد خيال سحر الخصب الأمور تعقيدا بالنسبة إليها... و هي جد مكتفية بما يؤرقها حتى الساعة! أنهت المكالمة و قد استعادت بعض الهدوء. كان ذلك ما تحتاجه... بعض المواساة من قلب تثق في صفائه و حبه تجاهها، و هو ما تفتقده بشدة في هذا المكان الموحش و بين أصحابه الغرباء...

سرحت للحظات... العزاء سيكون بعد ظهر هذا اليوم. تعلم أن القصر سيعج بالناس... لكن من ذا الذي سيشاركها حزنا صادقا على فقدان المرحوم؟ ربما لا أحد!! أحست بالاختناق لذاك الخاطر. والدها غريب في بلده. مضت سنوات طويلة على رحيله عنها و لم تعد له فيها عائلة تذكره أو تهتم لأمره. وهي، ربما لن يكون شأنها مختلفا جدا عنه... غريبة ابنة غريب...

أمسكت بهاتفها و أخذت تلهو بأزراره في عصبية... تحاول شغل نفسها بأي شيء... فتحت قائمة الاتصالات المتلقاة. ابتسمت في حزن حين وقع بصرها على الرقم الأخير. لم يكن يحمل اسما، لكنها تعرفت عليه بسهولة. الرقم المحلي الوحيد الذي لا يحمل اسما... فجأة تذكرت الموعد! نعم، كان يجب أن يلتقي والدها هذا الصباح!! لكنها في غمرة حزنها و ارتباكها نسيت الموعد تماما... لا شك أنه انتظر طويلا ثم رحل بعد أن يئس من قدومها... همت بالاتصال بالرقم. من واجبها أن تعلمه بما جد من أحداث. كانت تضع إبهامها على زر الاتصال حين انتبهت فجأة إلى تاريخ الاتصال الأخير. عمر اتصل بها منذ أكثر من ساعة، و وقع الرد على المكالمة! لكن الأكيد هو أن من أجاب على الاتصال لم يكن هي! فهي كانت قد فقدت هاتفها منذ البارحة دون أن تنتبه إلى ذلك... ثم وجدته مع فراس... فراس الذي كان في غاية الارتباك و هو يسلمها إياه... توقفت أفكارها عند تلك النقطة و قد سيطرت عليها الدهشة. حتى أنت يا فراس! كيف سولت لك نفسك مثل هذا التصرف؟ رمت الهاتف عنها في حزن... أنت وحيدة الآن بالفعل... لم يعد أحد في صفك هنا...


**********


لم ترد أن تنزل إلى البهو. العم صابر طرق بابها مرات عدة ليخبرها بأن خالها يطلب نزولها لاستقبال أفواج المعزين. لكنها لم تتحرك من سريرها. ظلت مكورة على نفسها، متشبثة بوسادتها و الحزن يعتصر قلبها أكثر من أي وقت مضى. تحس بالوحدة أكثر من أي وقت مضى... كلهم جاؤوا لنعي السفير السابق و رجل الأعمال المرموق نجيب كامل، أو لتملق صهره صاحب النفوذ و الشركات المعروفة نبيل القاسمي... لكن مَنْ مِن كل هؤلاء جاء ينعى نجيب الصديق، نجيب الأخ، نجيب القريب؟ لا أحد! لا أحد يشاركها حزنها... كانت تعلم ذلك جيدا منذ أمد بعيد، منذ وعت على هذه الدنيا و أيقنت بأن والدها هو كل عائلتها. لكنها لم تحسب حساب هذه اللحظة... و حتى إن حسبت حسابها، فإن ذلك لن يغير من الأمر شيئا!!

تعالت الطرقات على بابها من جديد. لم يعد بإمكانها الاحتمال أكثر. صرخت بصوت مختنق دون أن ترفع رأسها عن الوسادة التي ابتلت بدموعها :
ـ لا أريد أن أرى أحدا...

مضت لحظات من الصمت قبل أن تسمع صرير الباب و هو يفتح. انكمشت على نفسها أكثر في مقاومة مستميتة للدخيل الذي يحاول اقتحام عالم حزنها. تناهى إليها صوت أنثوي هادئ ينادي في رقة :
ـ ليلى...

لم تتعرف على الصوت مباشرة. لكن قبضتيها ارتختا و انبسطتا على سطح الوسادة و هدأت أنفاسها المضطربة. تحاول التعرف على الشخص الغريب الذي تردد صوته مرارا في أعماق ذكرياتها.
ـ ليلى... هل تذكرينني؟

رفعت رأسها هذه المرة و استدارت في رفق لتطالع وجه مخاطبتها. ألفت نفسها أمام سيدة قد تجاوزت الثلاثين من عمرها ببضع سنوات. تضع وشاحا محكما يظهر استدارة وجهها البرونزي الممتلئ. كانت ابتسامتها الرقيقة و نظراتها الحانية مألوفة جدا بالنسبة إليها... لكن ذاكرتها أخذت بعض الوقت حتى تستعيد الصورة التي خبأتها في أعماقها، أو ربما لم يستوعب عقلها المشوش الأمر بالسرعة الكافية لأنه بكل بساطة لم يكن متوقعا مطلقا. و سرعان ما تهللت أساريرها و استيقظت جوارحها و هي تهتف في استبشار :
ـ هالة!!

تقدمت هالة ناحيتها و قد اتسعت ابتسامتها و هي تقول :
ـ نعم هالة يا حبيبتي... خفت أن تكوني قد نسيتني...

عانقتها ليلى في عنفوان، و دفنت رأسها في صدرها... كأن الله قد استجاب إلى أمنيتها و أرسل إليها الصدر الحنون الذي تحتاجه، و القلب الصادق الذي يشاركها مشاعرها. تركتها هالة تبكي على صدرها و لبثت تمسح على رأسها في حنان. لم تكونا قد التقتا منذ بضع سنوات. فمنذ زواج هالة و عودتها إلى البلاد مع زوجها لم تجمعهما سوى مناسبات معدودة. لكنها و شقيقها مأمون كانا بمثابة الأخوين في طفولتها و بداية شبابها إبان إقامتها في بريطانيا... الأخوين الأكبر سنا الذين يراجعان معها دروسها و يصطحبانها في نزهات قصيرة في حدائق لندن الخلابة... و والدها كان في مكانة الأب لهما بعد وفاة والدهما. كانا صديقين مقربين، و إن كانت المستويات الاجتماعية متباينة. لكن ذلك لم يمنع العائلتين من الاحتكاك و التآلف...

مضت بضع دقائق قبل أن ترفع ليلى رأسها و تتساءل في حيرة :
ـ كيف وصلت إلى هنا؟

ابتسمت و هي تغمز بعينها في مرح :
ـ بطرقي الخاصة!

ثم أضافت موضحة حين عقدت ليلى حاجبيها في استغراب :
ـ رجاء ساعدتني...

ـ رجاء؟!!

ـ نعم... تلك قصة طويلة يطول شرحها... لكن الآن، يجب أن نتحرك بسرعة...

ـ نتحرك؟

قالت هالة في لهجة جادة أحست معها ليلى بنبضاتها تتسارع :
ـ ليلى... هل تثقين في أخي مأمون؟

هزت رأسها على الفور و هي تجيب :
ـ نعم... بالتأكيد...

ـ إذن، يجب أن نخرج من هنا... و على الفور!

حملقت ليلى فيها في دهشة و عدم استيعاب، لكن هالة أضافت في تأكيد :
ـ ستنتقلين للسكن معي... لا يمكن أن نتركك هنا بعد الآن...

ـ ما الذي حصل؟

ـ مأمون سيحدثك بالتفاصيل... إنه ينتظرنا قرب البوابة الخلفية... و رجاء ستساعدنا على التسلل إلى الخارج. جهزي حقيبة صغيرة بسرعة... سنغادر بعد قليل...

وقفت ليلى في اضطراب و أوصالها ترتجف من الإثارة. إنها تثق في مأمون و هالة كثيرا... أكثر بكثير مما تثق في خالها و عائلته! حتى فراس خيب أملها فيه. أباح لنفسه الرد على مكالماتها و التدخل في خصوصياتها و هي التي كانت تعتقد برغبته الصادقة في مساعدتها... وضعت بضع ملابس و حاجيات ضرورية في حقيبتها الصغيرة و سوت خصلات شعرها النافرة تحت وشاحها و رتبت مظهرها قبل أن تقول بلهجة حازمة :
ـ أنا جاهزة...

تأملتها هالة للحظات قبل أن تقول :
ـ انتظري...

نزعت عنها عباءتها السوداء الفضفاضة و وضعتها على كتفي ليلى ثم غطت رأسها بوشاح طويل أسود كذلك حتى لم يعد يظهر من ملابسها شيء. ابتسمت و هي تقول :
ـ هكذا لن يتعرف عليك أحد إن لمحك خارجة من القصر...

أخرجت من حقيبتها وشاحا عريضا آخر وضعته على كتفيها و هي تضيف :
ـ أنا جاهزة أيضا الآن...

في تلك اللحظة، تعالت دقات على باب الغرفة من جديد. أجفلت ليلى و امتقع وجهها و قد أيقنت بفشل الخطة. لكن هالة أشارت عليها بالهدوء و اقتربت من الباب بخفة لا يوحي بها جسدها الممتلئ و همست في صوت خافت :
ـ من هناك؟

جاءها صوت هامس من الجانب الآخر تعرفت عليه ليلى على الفور :
ـ أنتما جاهزتان؟

فتحت هالة الباب بسرعة و دخلت رجاء. تبادلت مع ليلى نظرة طويلة فيها الكثير من التساؤلات من طرف ليلى و المعاني المبهمة من طرف رجاء. و أخيرا قالت رجاء في لهجتها الجافة المعتادة :
ـ آسفة حقا لوفاة والدك قبل اكتشاف الحقيقة كاملة... لكنني على وعدي، و الوقت لم يفت بعد لاتخاذ القرار المناسب...

نظرت إليها ليلى في أسف حقيقي... ربما كانت رجاء محقة، و ربما كانت مساعدتها ثمينة بالنسبة إليها... لكنها تأسف لمشاعر الحقد العميقة التي تحركها. أيقظها صوت هالة و هي تسأل رجاء في اهتمام :
ـ هل الطريق آمنة؟

تحولت رجاء عن ليلى و هي تجيب :
ـ نعم، البوابة الخلفية مفتوحة، و المدخل الخلفي أيضا... اطمأننت إلى انشغال الخدم في البهو الرئيسي و الحديقة الأمامية مع الضيوف... كما أرسلت صابر كبير الخدم في مهمة ستشغله لبعض الوقت... يمكنكما الخروج الآن...

تقدمت هالة في اتجاه الممر في حذر و تبعتها ليلى و مشاعر متداخلة تنتابها. توقفت للحظات أمام رجاء و قالت بصوت هادئ حزين :
ـ كان بودي أن نكون أصدقاء... لكن الظروف التي جمعتنا لم تكن ملائمة... شكرا لك على أية حال...

رمتها رجاء بنظرة ساخرة و هي تقول :
ـ لا أنتظر منك العرفان على ما أفعله، فمصالحنا مشتركة...

ثم أضافت و هي تدفعها في اتجاه الباب في رفق :
ـ أرجو أن لا أراك ثانية يا عزيزتي!

لم تملك ليلى أن تعلق بكلمة واحدة، بل استجابت لنداء هالة التي كانت تستعجلها، و تبعتها بخطى مضطربة عبر الطريق الخلفية...



**********



كان فراس يذرع الشرفة جيئة و ذهابا في صبر نافد. الحديقة الأمامية تغص بالخلق، من رجال الأعمال و السفراء و موظفي الوزارات و الشخصيات الكبيرة المعروفة في البلاد... فمثل هذه المناسبات تعد فرصة ملائمة لتجديد العلاقات التي قد تكون فترت بطول المدة و استعادة المعاملات إلى سابق عهدها أو إنشاء علاقات جديدة... كان السيد نبيل يتصدر البهو و يستقبل جموع المعزين في وقار و رصانة يحسد عليهما. علامات الحزن كانت جلية على ملامحه و لا يطغى عليها إلا تهلله لزيارة صديق قديم أو عميل معتبر يهمه أمره.

ارتفع رنين هاتف فراس فجأة. تأمل الرقم الغريب للحظات قبل أن يرد في اهتمام باد :
ـ نعم، تفضل... أنا قادم لاستقبالك عند البوابة...

شق طريقه بين الضيوف في اتجاه البوابة الرئيسية و عيناه تعملان بدقة و سرعة، تتصفح الوجوه و تبحث عن الضيف المنشود. فجأة، توقفت نظراته على وجه بدا له مألوفا. بل لم يمض على لقائه به أيام معدودة... تذكر على الفور مشهد المقهى... فنجان القهوة بين يدي ليلى و الرجل المنحني بالقرب منها. تصاعد الدم إلى وجهه بسرعة. إحساسه بأن ليلى استغفلته و سخرت منه كاد يسيطر عليه. لكن في تلك اللحظة التقت نظراته بنظرات الرجل الذي تقدم منه بخطى واثقة و قال و هو يبسط يده إليه ليصافحه :
ـ دكتور فراس؟

صافحه فراس في برود ظاهر و هو بالكاد يكتم انفعالاته و قال و هو يقوده إلى ممر جانبي بالحديقة :
ـ تفضل دكتور عمر...

تبعه عمر عبر الممر بخطى بطيئة و هو يجول بناظريه في المكان في انبهار واضح. رغم معرفته بثراء عائلة ليلى، إلا أنه لم يزر سابقا قصرا بمثل تلك الفخامة و لم ير تجمعا كبيرا كذلك من رجال الأعمال و أفراد المجتمعات الراقية. التف فراس حول الحديقة و هو يقود ضيفه في اتجاه الحديقة الخلفية، حيث يمكنه أن ينفرد به و يتحدث إليه في هدوء بعيدا عن العيون. و لم تفت عمر نية مضيفه و هو يراه يبتعد عن الجموع و يتخذ مسارا جانبيا... تبعه في توجس و تساؤلات كثيرة تعتمل في رأسه. توقف فراس عند طرف الحديقة قرب زاوية المبنى على بعد بضعة أمتار من المدخل الخلفي. التفت إلى عمر و قد تمالك نفسه و عاد إليه الهدوء. تفحص وجهه بشيء من الفضول و سرعان ما أيقن بأنه أمام منافس قوي. كان عمر مديد القامة بصورة ملفتة في حين كان فراس ذا قامة متوسطة، بل هو أقصر أخويه... كما أن بنيته لم تكن قوية... لكنه لم يشكُ من ذلك قط و لم يبد له قصر القامة عيبا... قبل أن يلتقي عمر في ذاك اليوم! فقد أحس بضآلته و هو يقف أمام الرجل و يرفع رأسه لينظر في عينيه. تنحنح ليجلو صوته قبل أن يقول :
ـ شكرا لمجيئك... هذا لطف منك...

هز عمر رأسه دون أن ينطق و لبث يطالع مخاطبه في ترقب. بادره فراس و هو يشد قامته و يضع كفيه في جيبي سرواله :
ـ وددت أن أستفسر منك عن موعدك مع عمي نجيب... رحمه الله...فربما أمكنني أن أخدمك بشيء...

ارتبك عمر و بدا عليه التردد. مع أنه كان يتوقع الأغرب بعد أن رد فراس على هاتف ليلى، إلا أنه لم يكن ينتظر دخولا مباشرا في الموضوع. لكنه لم يجد من الحكمة أن يحدثه في شأن الخطبة في مثل تلك الظروف. خاصة بعد أن دخل القصر و رأى علامات الغنى الفاحش، وجد في نفسه بعض الاضطراب... ربما لن يستقبله خال ليلى و عائلتها بمثل الحفاوة التي تريدها و يتمناها. لذلك آثر المراوغة و التأجيل ريثما تتجاوز ليلى أزمتها و يتحدث إليها مباشرة و يستوثق من موافقتها فيقوى موقفه... أجاب محاولا مداراة ارتباكه و هو يحك ذقنه في عصبية ظاهرة :
ـ في الحقيقة... أنا أستاذ ليلى في كلية الحقوق بباريس... و ليلى كانت من أنجب طلابي و أنا أتنبأ لها بمستقبل باهر في القضاء... لكنها تحتاج إلى إشراف نخبة من الدكاترة المتميزين كأولئك المشرفين على الجامعة في باريس... لذلك اغتنمت فرصة تواجدي هنا في المدينة بمناسبة مؤتمر علمي... و أردت الحديث إلى السيد نجيب كامل حتى يسمح لها بمواصلة المرحلة الثالثة من دراستها معنا... في الكلية... لكن يبدو أنني وصلت في وقت غير مناسب...

هز فراس رأسه متفهما و هو يداري ابتسامة ساخرة كادت تطفو على شفتيه... هكذا إذن أيها الدكتور... لا تملك الشجاعة للمواجهة. هل تراك تراجعت حين أصبح الأمر جادا؟ تكلم أخيرا متظاهرا بالاهتمام :
ـ نعم... مستقبل ليلى يهمنا جميعا... لكن كما ترى، لا أظن الظروف ملائمة في الوقت الحالي... و لا أظن من المناسب أن تعود إلى فرنسا بمفردها بعد الآن...

سكت للحظات ليلاحظ تأثير كلماته على وجه عمر، ثم أضاف في هدوء غريب :
ـ كما أنها بعد زواجنا ستستقر هنا بصفة نهائية... و قد سجلت في الجامعة لمواصلة بحوثها...

لم ينجح عمر في إخفاء علامات الصدمة التي ارتسمت على وجهه أمام الخبر غير المنتظر الذي فاجأه به فراس و التمعت حبيبات العرق على جبينه واشية بمدى تأثره، و انفرجت شفتاه لينطق... و لكن قبل أن تند عنه أدنى كلمة، كان فراس يردف مستمتعا بانتصاره :
ـ لكنها ستكون ممتنة حتما بالمحافظة على اتصالاتها بأساتذتها في فرنسا و الاستفادة من خبراتهم على الدوام...

في تلك اللحظة، حانت منه التفاتة إلى الجانب الآخر حين سمع صرير الباب الخافت و هو يفتح. ظهرت سيدتان غريبتان عند المدخل. التفتت إليه إحداهما للحظة، ثم حثتا الخطى في اتجاه البوابة الخلفية. تابعهما في دهشة و استغراب و قد نسي لوهلة وجود عمر على قيد خطوات منه... لم يكن على سابق معرفة بهما خاصة و هما تخفيان جزءا كبيرا من وجهيهما وراء أوشحة سميكة. لكن ما أثاره هو تسللهما المريب من الباب الخلفي... فهو قليل الاستعمال من قبل أهل الدار، فما بالك بالزوار... ظل يتابعهما و هما تتقدمان في خطوات متعجلة، كأنهما تفران من شيء ما دون أن تلتفتا إلى الخلف... بدا شكل إحداهما مألوفة بالنسبة إليه، و إن كانت عباءتها السوداء التي تلف جسدها بالكامل تزيد من شكوكه. فجأة، توقفت عيناه عند حقيبتها الصغيرة التي تتأرجح في عصبية مع حركتها المطردة السريعة. كانت الحقيبة معروفة بالنسبة إليه. معرفة جدا... سبق و رآها مع صاحبتها. اتضحت الصورة في رأسه دفعة واحدة و لمعت كلمة واحدة أمام عينيه. و في نفس اللحظة التي قفزت فيها السيدتان في سيارة رمادية كانت تنتظرهما أمام البوابة الخلفية، هتف فراس بتلك الكلمة التي توقفت عند شفتيه في صوت مكتوم :
ـ ليلى...





لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 28-05-15, 11:03 AM   #30

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي




الجزء التاسع و العشرون






انطلقت السيارة بسرعة و هي تقل الراكبتين الجديدتين. التفتت ليلى إلى الخلف في توجس فلمحتعبر البلور الخلفي المظلل فراس الذي خرج راكضا قد وقف يلهث أمام البوابة الخلفية و هو يرى السيارة تبتعد عن القصر و تنحرف في شارع ضيق دون أن يقدر على اللحاق بها... و في لحظات كانت قد اختفت عن ناظريه دون أدنى أثر. تنهدت في إعياء و هي تزيح عنها الوشاح الأسود الذي كان يغطي معظم وجهها و يخفي ملامحها، في حين ربتت هالة على كفها مطمئنة و هي تبادلها ابتسامتها العذبة المريحة. طالعها مأمون من خلال المرآة العاكسة و قال و على شفتيه ابتسامة هادئة :

ـ ستكونين بخير...

ترددت نظراتها بين وجهي هالة و مأمون كأنها تبحث عن إجابة فيهما. لكن لم يبد أن أحدهما كان ينوي الكلام في تلك الآونة تاركين إياها تبحر في حيرتها. بعد دقائق قليلة كانت السيارة تخرج من مركز المدينة و تأخذ طريقا سريعة. طوت العجلات الأرض طيا في اتجاه الضاحية الجنوبية و خيم الصمت على الركاب الثلاثة طوال الرحلة. سرحت ليلى و هي تتأمل المناظر الطبيعية التي تحف الطريق السيارة من الجانبين، لكن أفكارا كثيرة كانت تشغلها و تمنعها من الاستمتاع بالمناظر الخلابة... هاهي قد فرت من منزل خالها. فهل كان ذلك القرار الصواب؟

انتبهت من تخيلاتها حين هدأت سرعة السيارة بدخولها إلى حي سكني. رغم كون المباني المحيطة كانت في حال جيدة، إلا أنه لم يخف عنها أن المكان لا يقارن بالحي الفاخر الذي يقع فيه قصر عائلة خالها، حيث كل الممتلكات من صنف القصور و تحيط بها حدائق شاسعة تخفي واجهات المباني التي تتوسط المساحة. أما هنا، فالمنازل الصغيرة البيضاء تتلاصق فيما بينها في حميمية و الحدائق الصغيرة التي تتقدم بعض الديار تتميز برونقها البديع و تصميمها الجذاب... استأنست نفسها بالمكان و بجماله البسيط و نظافة شوارعه الضيقة التي كانت السيارة تتقدم خلالها ببطء...

أخيرا توقفت أمام أحد المنازل. سبقتها هالة بالنزول و أخذت عنها حقيبتها الصغيرة. ما إن خرجت من السيارة حتى استنشقت هواءا رطبا ذا عبق مميز... لا شك أن البحر قريب! قادتها مضيفتها عبر ممر ضيق تحفه من الجانبين حديقة متواضعة، لكنها بدت في غاية الترتيب و التنسيق. تبعتها و هي تجيل عينيها في المكان في حياء في حين تأخر مأمون في الخارج ريثما يركن السيارة في وضع مناسب، فلم يكن هناك مرآب إضافي. ابتسمت هالة و هي تدخلها إلى قاعة الجلوس و قالت :
ـ أهلا بك في منزلي... صحيح أنه لا يشبه في شيء قصر آل القاسمي، لكنني سعيدة فيه... و آمل أن تجدي بيننا راحتك...

ابتسمت ليلى في امتنان و خجل و هي تتخذ مجلسها على أريكة قريبة. نادت هالة بصوت عال :
ـ فرح، هشام... تعاليا لتسلما على الخالة ليلى...

ثم التفتت إلى ليلى و هي تغمز بعينها قبل أن يظهر الأطفال :
ـ أحمد زوجي مسافر في رحلة عمل لبضعة أيام و لن يعود قبل نهاية الأسبوع... خذي راحتك تماما...

و ما هي إلا لحظات حتى كان الصغيران يقفزان أمامها و يقفان في احترام و هما يرددان بصوت طفولي مضحك كأنه وقع تلقينهما ما يجب قوله بصفة مسبقة :
ـ مرحبا خالة ليلى...

كانت فرح تقترب من السادسة أما هشام فهو لا يتجاوز الرابعة. كانا طفلين جميلين موفوري الصحة، يشبهان أمهما كثيرا. قبلت ليلى وجناتهما في حنو، ثم اتخذ كلاهما مجلسه على أحد جانبيها و لبثا يتأملانها في فضول طفولي بريء... جلست هالة قبالتها و هي تقول في عتاب رقيق :
ـ كان يجب أن تزوريني منذ زمن...

هزت ليلى رأسها و هي تعبث بأناملها في خجل بخصلات هشام القصيرة و قالت :
ـ أعلم أنني مقصرة، لكنني انشغلت في الفترة الماضية بحياتي الجديدة مع عائلة خالي و لم يخطر ببالي أن أتصل بك... كان يجب أن أفعل...

في تلك اللحظة، دخل مأمون القاعة. التفتت إليه هالة و قالت و هي تقوم من فورها :
ـ سأعد لكما الشاي حالا...

ثم التفتت إلى الصغيرين محذرة قبل أن تبتعد في اتجاه المطبخ :
ـ و أنتما... اجلسا هادئين!

جلس مأمون في ارتباك على الأريكة المقابلة و لبث مطرقا لبضع ثوان قبل أن يرفع رأسه و علامات الحزن واضحة على محياه :
ـ عظم الله أجرك... في المرحوم...

تجمعت الدموع في عيني ليلى و هي تهمس في صوت ضعيف :
ـ و أجرك... كان والدك مثلما كان والدي...

هز رأسه ببطء و تنهد في ألم و هو يضيف مداريا دموعه :
ـ فقدت والدي مرتين... مرة بوالدي الحقيقي... و مرة بعمي نجيب... رحمهما الله...

خيم عليهما صمت حزين للحظات قبل أن يستطرد مأمون و هو يرفع رأسه :
ـ كنت عنده البارحة... وصلت بعد دقائق من رحيلك...

نظرت إليه في اهتمام و هي تسأل في لهفة :
ـ هل شهدت لحظاته الأخيرة؟

هز رأسه علامة الإيجاب وعض على شفته السفلى و هو يسترجع ذكريات الأمس القريب :
ـ كان يحس بدنو أجله، لذلك استبقاني إلى جانبه لبعض الوقت حتى... يوصيني عليك... لكنني لم أستطع أن أبلغك الخبر بنفسي بعد رحيله، فلم تكن نفسيتي مناسبة أبدا... لذلك طلبت من الطبيب أن يتصل بالعائلة...

تنهد من جديد، ثم أخذ نفسا عميقا قبل أن يواصل بصوت جاد :
ـ لعلك تتساءلين عن سبب إحضارك إلى هنا و عن وصية والدك في لحظاته الأخيرة... لكن قبل أن أحدثك عن ذلك، يجب أن أقص عليك كل شيء بالتفصيل، منذ اتخاذ عمي نجيب قرار سفرك للإقامة عند خالك...

ضمت ليلى كفيها المرتجفتين في حجرها و رنت إليه في انتباه شديد مصغية بكل جوارحها. عقد مأمون حاجبيه و هو يستطرد :
ـ كل شيء بدأ منذ ثلاث سنوات تقريبا، بعد وفاة حنان بفترة وجيزة. لم يكن عمي نجيب قد حضر جنازتها، و تألم كثيرا لاتصال السيد نبيل المتأخر. فهو و إن كان قد ابتعد عنها منذ سنوات طويلة إلا أنه يظل والدها و من حقه توديعها... لبث حزينا لفترة طويلة، كأنه يراجع نفسه ويلومها على ما فرط فيه من تخل عن حنان حتى ألقت بنفسها إلى الانتحار... لكنه سرعان ما استعاد هدوءه و عاد إلى حياته العادية... بعد بضعة أسابيع تلقى اتصالا من مجهول... يخبره بأشياء غريبة عن ابنته الراحلة...

هتفت ليلى على الفور في دهشة :
ـ اتصال من مجهول؟

استرجعت بسرعة ما رواه فراس عن الاتصال الذي ورده من شخص مجهول الهوية يدعوه إلى اللحاق بحنان في الحانة الشعبية. تعلقت نظراتها بشفتي مأمون حاثة إياه على المواصلة... أصبحت تنتظر مفاجآت أكبر من حديثه.

ـ المتصل لم يرض أن يكشف عن شخصيته الحقيقية، و كان من الواضح أنه يستعمل أداة لتغيير الصوت إمعانا في الحيطة و الحذر... كان يتحدث عن مؤامرات و جرائم قتل و أشياء أخرى لم يفهمها عمي نجيب منه جيدا، لكن ما شده في كلامه هو ادعاؤه أن حنان لم تنتحر بل كانت ضحية جريمة قتل مدبرة للخلاص منها... بل أن المتصل اتهم أشخاصا بعينهم...

انخفض صوت مأمون ليصبح أقرب إلى الهمس و هو يقول :
ـ من العائلة...

تسارعت أنفاس ليلى في توتر و هي تذكر تحليلات سحر و تحذيراتها... رباه، هل تكون محقة؟!!

واصل مأمون بوضوح أكبر و هو يعقد حاجبيه في تركيز محاولا تذكر كل التفاصيل :

ـ عمي نجيب لم يرد تصديق الكلام الذي سمعه مع أنه كان مثيرا للشكوك ـ خاصة مع التفاصيل الدقيقة التي ذكرها المتصل و التي ليس من الممكن أن يعرفها إلا شخص قريب جدا من حنان و من العائلة ـ لكن تعوده على الاتصالات السخيفة المشاغبة إضافة إلى أن علاقته بالعائلة كانت شبه مقطوعة بعد طلاقه، جعلاه يخمن أن شخصا ما يحاول استغلال وفاة ابنته لإدخال بعض البلبلة على حياته... و سرعان ما نسي أمر الاتصال برمته مع انشغاله بأعماله الكثيرة... و مضت فترة طويلة بعد ذلك دون أن يفكر في الموضوع مجددا أو يذكره لأحد، و لم يسمع عن تلك القصة شيئا جديدا... و منذ قرابة ستة أشهر، وصلته دعوة من شركة أجنبية تمتلك فرعا هنا في بلادنا و تعرض عليه صفقة ما... فسافر إلى هنا لبضعة أيام.

هزت ليلى رأسها موافقة و هي تقول :
ـ نعم، أذكر جيدا تلك السفرة...

ـ في اليوم الأخير من إقامته في المدينة، خطر بباله أن يعيد العلاقات و يتصل بالسيد نبيل. كان بينهما لقاء وجيز، حضرته معهما... بدا فاترا في البداية لكن سرعان ما اتصل بينهما الحديث و تحدثا في أمور المال و الأعمال و عن إمكانية التعامل بينهما... و في سياق الحوار، تحدث عمي نجيب عنك. فبهت السيد نبيل الذي لم يكن يعلم حتى تلك الساعة بوجود ابنة ثانية لشقيقته المتوفاة و أبدى رغبته في التعرف عليك و توثيق العلاقات العائلية من جديد... و بقي الحديث معلقا دون أن يعد عمي نجيب بشيء...

سرحت بنظراتها و هي تذكر كلام الخالة مريم عن والدتها... كانت حريصة على نسيان كل ما يتعلق بها، حتى أنها أخفت حقيقة وجودها عن الجميع. لم تكن تعني شيئا بالنسبة إليها!

ـ كان من المقرر أن نسافر إلى فرنسا في مساء ذاك اليوم. قبل مغادرة الطائرة ببضع ساعات، تلقى عمي نجيب اتصالا جديدا على رقمه الدولي من الشخص المجهول عينه و أعاد على مسامعه نفس الكلمات... هذه المرة كان عمي نجيب أكثر انتباها و قد بدأت تساوره الشكوك، فأعلمه بوجوده في المدينة و برغبته في لقائه في نفس اليوم قبل موعد الطائرة حتى يستمع إلى روايته و يبرهن على صدق كلامه... كان الموعد في صالة استقبال الفندق الذي أقمنا فيه طيلة فترة الزيارة للبلاد. لم يكن عمي نجيب قد أخبرني بشيء من تفاصيل الحكاية إلى ذلك الحين، فنزل بمفرده إلى البهو و لبث ينتظر وصول الزائر المجهول... لكن الوقت مر بسرعة و اقترب موعد الطائرة دون أن يظهر أحد. و حين كنا نسلم مفاتيح الغرف إلى موظف الاستقبال، أخرج من الدرج مظروفا و أخبر عمي نجيب بأن شخصا ما طلب منه تسليمه إياه حين مغادرته... فض عمي نجيب المظروف على الفور فوجد بداخله بضعة أوراق ممزقة ألقى عليها نظرة سريعة ثم أخفاها عني و لم يقل شيئا عنها حتى عودتنا إلى فرنسا...

قاطعته ليلى في اهتمام :
ـ ألم يطلعك على ما في تلك الأوراق؟ أو عن الشخص المتهم في جريمة القتل؟

هز مأمون رأسه نافيا و هو يضيف :
ـ كان حتى تلك اللحظة يعتزم الاحتفاظ بالأمر لنفسه و أخفى شكوكه عن الجميع... لكن ظهور المتصل المجهول في ذلك اليوم بالذات جعله يشك في علاقته بالعائلة... فهو بلا شك قد علم بلقائه بالسيد نبيل و اتصل به على الفور ليذكره بالقصة القديمة... و بعد عودته إلى فرنسا ظلت الحكاية تؤرقه لفترة طويلة و شكوكه تزداد يوما عن يوم... ثم حصل أن أخذت صحته تتدهور، و بدأت مخاوف جديدة تشغله... مخاوف بشأن مستقبلك و حياتك من بعده... و كان في الأثناء قد تبادل بضعة اتصالات مع السيد نبيل و في كل مرة كان خالك يسأل عنك و يطلب منه اصطحابك في زيارة مقبلة... و كان اليوم حاسم حين ذهب للقيام بالكشف الصحي بعد أن ازداد سعاله و هاجمته آلام في الصدر... في ذاك اليوم عاد إلى الشركة متعبا و أغلق على نفسه المكتب لساعات طويلة ملغيا جميع ارتباطاته و مانعا أي نوع من الاتصال... ظللت في مكتبي لوقت متأخر، فلم أكن أستطيع المغادرة و أتركه على تلك الحال، لأنه لم يتعود أن يخفي عني شيئا من أمور العمل... و كأنه قد علم بتواجدي في الشركة رغم تأخر الوقت، طلبني إلى مكتبه و أغلق الباب من جديد... و بصوت حزين و حازم أطلعني على مشروعه الجديد...

تابعته ليلى في ترقب و نفاد صبر، فتابع :
ـ أخرج من مكتبه المظروف الذي استلمه من موظف الاستقبال منذ أشهر و وضع الورقة الممزقة أمام عيني... كانت ملطخة ببقع متناثرة من الدماء و قد كتبت عليها بضع كلمات مبعثرة... بخط مرتجف غير ثابت...

ـ أية كلمات؟

رفع مأمون عينيه إلى وجهها المتشنج و ملامحها المضطربة في تردد، ثم قال بعد صمت قصير :
ـ بعض الأسماء... لكنها ليست واضحة كفاية... الظرف موجود... يمكنك الاطلاع عليه حين نذهب لاستلام حاجيات عمي من المستشفى...

عقد ذراعيه أمام صدره هو يواصل :
ـ كان الأمر محيرا بالفعل، و لم يكن هناك دليل على أن حنان كتبت الورقة قبل وفاتها و لا على أنها كتبت اسم قاتلها... لكن بدا أن صاحب الاتصال أراد إقناع عمي نجيب بذلك. بل المثير للشك هو أنه لم يسلم "الدليل" إلى الشرطة و احتفظ به كل تلك السنين حتى يرسله إلى والد الضحية التي لم يكن له علاقة بها يوما... كان كل ذلك مريبا. لكن عمي نجيب كان متأثرا بما حصل لابنته، و بدأ يقتنع بأن انتقامه لها و كشف حقيقة ما حصل معها سيكفر عن ذنبه تجاهها و يخفف عنه عذاب الضمير... و مع إحساسه بقرب أجله فقد أصبح شغله الشاغل هو اكتشاف الحقيقة... لذلك انقاد بسهولة إلى تلك الأفكار و طلب مساعدتي في تنفيذ المخطط الذي وضع خطوطه العريضة بنفسه...

أطرقت ليلى و همست في خفوت :
ـ و أنا كنت جزءا من مخطط الانتقام...

هز مأمون رأسه بشدة علامة النفي و هو يضيف :
ـ لم تكوني كذلك في البداية... كانت الخطة تقتضي أن يتظاهر عمي نجيب باهتمامه بمشروع شراكة مع صهره ثم يرسلك للإقامة عند خالك... كان يريد توجيهك للبحث عن المعلومات التي يريدها دون أن ترتابي في شيء... لكن عوامل أخرى تدخلت لتسير الأمور بشكل مختلف... السيد نبيل فاتح عمي نجيب في موضوع المصاهرة... و وقع اختياره على فراس! لم يكن يريد تعريضك للخطر... لكنه كان يثق في ذكائك و نباهتك... و اعتقد أنك ستتمكنين من اكتشاف أشياء كثيرة بوجودك داخل العائلة... و قد وجد أن زواجك من فراس سيكون الطريقة المثلى لتحقيق الهدف...

قاطعته ليلى في احتجاج و قد لمعت الدموع في عينيها من جديد :
ـ لكن كيف... كيف يفكر في تزويجي من فراس و هو يشك في تورط أحد أفراد العائلة في قتل حنان؟ كان يجب أن يحدثني بكل شيء! كان يجب أن يوضح الأمر لي أكثر! كيف يضعني في موقف كهذا؟!!

أطرق مأمون و هو يجيب في هدوء :
ـ زواجك من فراس كان سيجعلك أقرب إلى العائلة... و الأهم، أقرب من فراس الذي كان زوج حنان و أعلم أفراد العائلة بحالها... و ربما كان فراس أكثر من يثق فيه عمي نجيب من بين أفراد العائلة، لذلك لم يجد ضررا في زواجك منه ـ رغم كل المخاطر التي قد تنتج عن هذا الارتباط ـ و ربما لم يكن في نيته أن يمضي إلى نهاية المطاف و الارتباط الرسمي، بل ربما كان ليطلب منك الانسحاب حالما يتوصل إلى النتيجة المبتغاة... كما أنه كان ينوي إطلاعك على كل شيء في مرحلة متقدمة من تحقيقه... حين يحتاج مساعدة حقيقية من داخل القصر...

رفع عينيه و أضاف في حرارة :
ـ صدقيني يا ليلى... لم أكن موافقا على كل هذا... لكنني لم أملك أن أقف في وجهه و أنا أرى كل ذلك التصميم منه... و قررت أن أقوم بتحقيقي الخاص و بطريقتي الخاصة... حتى تكوني في أمان...

هتفت ليلى مجددا و هي لا تزال تحت وقع الصدمة :
ـ لكن كان يجب أن يعلمني بكل شيء! كيف يخفي عني أمرا هاما كهذا؟ كيف يتركني أتخبط وسط شكوك غامضة و هو يمسك ببعض خيوط الحقيقة؟!

رفع مأمون صوته و هو يقول مؤكدا :
ـ لم يرد أن يعلمك بشأن الاتهامات التي وصلته عن طريق المتصل المجهول لأنه لم يكن يثق في صحتها... و كان من الممكن أن توجهك توجيها خاطئا... كما أنه لم يرد إرباكك قبل أن تتعرفي على أفراد العائلة و تتقربي منهم... كان واثقا من أنك لن تمانعي في التضحية إن علمت بالهدف من وراء ذلك... فقد كانت رغبته الصادقة في التكفير عما جناه في حق حنان مسيطرة على تفكيره...

غطت وجهها بكفيها تخفي العبرات التي سالت على وجنتيها في سخاء، و هي تردد بصوت متقطع :
ـ لماذا فعلت ذلك يا أبي؟ لماذا؟!

في تلك اللحظة، دخلت هالة و هي تعلن بصوتها الدافئ المبحوح :
ـ الشاي حضر...

لكن سرعان ما تقلصت ابتسامتها و هي ترى حال ليلى المؤثرة. وضعت الطبق على المائدة القريبة و سارعت بالجلوس بقربها. احتضنتها في حب و هي تهتف :
ـ ما بال صغيرتي؟ هوني عليك يا حبيبتي...

ثم رفعت رأسها إلى مأمون و هتفت في استياء :
ـ مأمون! بم أزعجتها؟

وقف مأمون في ارتباك و هم بالانصراف دون أن يعلق. كان قد تجاوز باب قاعة الجلوس حين استوقفته ليلى و هي تهتف بصوت مختنق :
ـ انتظر...

استدار ليواجهها في صمت، فأضافت و هي تشير إليه بالجلوس :
ـ أرجوك، أخبرني بكل شيء... و لا تخف عني شيئا واحدا...

أومأ برأسه موافقا و هو يعود أدراجه إلى الأريكة. جلس في هدوء و لبث صامتا ينتظر أن تتمالك نفسها و تستعيد سكينتها... ثم قال :
ـ ما حصل هو أنه أرسلني إلى هنا قبل مجيئك بأيام قليلة، حتى أقوم ببعض التحقيقات عن الشركة... و عن العائلة... عرفت بسهولة أن الشركة رغم نجاحها تمر بين الحين و الآخر باضطرابات مالية، و السيد نبيل يبحث باستمرار عن مساهمين جدد و مصادر تمويل. لذلك فقد كان عرض عمي نجيب مغريا جدا بالنسبة إليه. و استوثقت من أن عرض المصاهرة لم يكن إلا لضمان ديمومة العلاقة و استمرارها...

هزت ليلى رأسها في أسى تسأله المتابعة فقال :
ـ لكنني لم أتوقف عند ذلك الحد، بل استغللت زياراتي المتكررة إلى الشركة حتى أبحث عن أسباب هذه الاضطرابات المتكررة، مع أن السوق تعتبر مستقرة نسبيا و الأسعار في ارتفاع مستمر... لم تكن عملية البحث سهلة، لذلك كان علي الاستعانة بأشخاص من داخل الشركة... أو ممن يمكنه التجوال بين جميع مكاتبها دون رقابة... و هنا التقيت رجاء عبد الفتاح... رجاء هي ابنة شقيقة زوجة السيد نبيل الثانية. و هي كثيرة التردد على الشركات و لها علاقات متشعبة مع جميع الموظفين. كانت هي من لاحظني في البداية، فأثار اهتمامها تواجدي هناك مع أن الشراكة الفعلية لم تبدأ بعد... و بعد بضعة محادثات قصيرة اكتشفنا أننا نبحث عن نفس الشيء. لكن الفرق هو أن رجاء كانت تبحث بعشوائية و دون خطة مسبقة، في حين كنت في حاجة إلى معلومات معينة... و هي كانت قادرة على إيجاد تلك المعلومات! لا أعلم أي الأساليب اتبعت... لكنه كان سريعا و مجديا! و خلال الأسابيع القليلة الماضية اكتشفنا أشياء رهيبة!!

انحنى إلى الأمام و هو يقول حدة :
ـ فساد كبير و صفقات مشبوهة و تبييض أموال و أشياء كثيرة أخرى!!

حدقت فيه ليلى مصدومة، فتابع مؤكدا :
ـ القضية معقدة جدا، و الشبكة كبيرة... و لولا مهارة رجاء لما وصلنا إلى الخيط الذي قادنا إلى كل هذا... لم أكن قد حصلت على الأدلة إلا مساء البارحة، فذهبت إلى المستشفى لإعلام عمي نجيب بكل ما حصل... وجدته في حالة سيئة جدا... و رغم ألمه فقد أصر على قراءة التقرير كاملا... بعد ذلك، رفع رأسه مبتسما و أخبرني بأنك كنت على حق حين رفضت الزواج من فراس... و من ألطاف الله أن عقد الشراكة لم يوقع بعد، مع أن الإجراءات قد قطعت شوطا هاما... لذلك لا يزال بإمكاننا أن ننسحب دون أضرار. خالك سيصر على إتمام العقد على أنها رغبة المرحوم و لم يكن بإمكاني أن أتحدث إليك و أنت بينهم، و ربما كنت ستوافقين على إمضاء العقد و المضي في الإجراءات دون دراية بالحقيقة... لذلك كان يجب أن أخرجك من هناك...

ابتسم ابتسامة باهتة و هي يضيف :
ـ كانت مخاطرة حقيقية، لكنك الآن في أمان... إن شاء الله...

فاجأته ليلى بسؤالها :
ـ و ماذا عن قاتل حنان؟

التمعت في عينيه نظرة واثقة و اتسعت ابتسامته و هو يقول مطمئنا :
ـ سنصل إليه... قريبا إن شاء الله...



لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:22 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.