شبكة روايتي الثقافية

شبكة روايتي الثقافية (https://www.rewity.com/forum/index.php)
-   الروايات الطويلة المكتملة المنفردة ( وحي الأعضاء ) (https://www.rewity.com/forum/f118/)
-   -   سُلاف الفُؤاد *مميزة ومكتملة * (https://www.rewity.com/forum/t458525.html)

Hend fayed 30-09-19 03:32 PM

سُلاف الفُؤاد *مميزة ومكتملة *
 
https://upload.rewity.com/uploads/153510673142682.gif

https://upload.rewity.com/uploads/15351067313711.gif

https://upload.rewity.com/uploads/157441867056313.gif


سلاف الفؤاد
https://upload.rewity.com/uploads/157441867042651.jpg




سلاف : تعني أجود وأحسن أنواع الخمور؛ إلا أننا لن نتناول الحديث عن الخمور بهذا المنطلق فيما عدا اقتباسنا لإحدى خصائصه التي تخدم موضوع روايتها وهي أنه يعمل ك... مُخدر.







https://upload.rewity.com/uploads/157367004165162.jpg


https://upload.rewity.com/uploads/157367004168823.jpg


https://upload.rewity.com/uploads/15736700417254.jpg


https://upload.rewity.com/uploads/157367004174675.jpg


https://upload.rewity.com/uploads/157367004176946.jpg


https://upload.rewity.com/uploads/157367004180347.jpg


https://upload.rewity.com/uploads/157367004182768.jpg


https://upload.rewity.com/uploads/157367004185589.jpg


♢*♢

المقدمة
نحتاج جميعًا إلى مخدر من نوع ما في وقت ما لأجل إخماد ثورة داخلية أو انفلات الأعصاب الناتج عن موقف معين يضطرنا قسرًا إلى إخراج أسوء ما فينا تاركاً الأثر من خلفه لا يعاني منه سوانا نحن.
منا من يسعى للصلاة والذِكر واجداً فيهما السكينة المنشودة والهدوء المطلوب، ومنا من يسلك إحدى دروب التجاهل واللامبالاة راسما لنفسه منهجا يسير عليه وحده مهما اختلفت معه وجهات النظر شرط ألا يشعر في أي لحظة بأي ألم لأي سبب كان،،، لكن أيضًا نجد منا هذا النوع الذي يهرب من نفسه ومشاكل الدنيا التي تزاحمه ليُلقي بها على كتف من يحب.. موقنا كل اليقين بأنه سيحظى على الدعم المرجو دون خيبات كما يفعل معه الآخرين، حينها نجد أن العلاج يكمن في العشق.. نجده هو الدواء الذي يستطيع القضاء على كل العلل والأزمات.. نجده الشفاء والترياق المُراد.
يكون القلب يحترق والروح تئِن ألماً لكنهما فور أن يرتشفا نظرة حنان ممن يحبا أو يلحظا لمحة من أمان واهتمام في عينيّ المُحب فإن تلك الآلام تسكن وكأنها فجأة قد أصابها الخِدر فتلاشت أمامه أي مشاعر أخرى من أي نوع وبقى هو سائدا على العرش لا سلطان علينا من سواه، وهذا ال 'سواه' ما هو إلا 'العشق' .
*كما تعمل أنواع الخمور على تخدير العقل وسائر الجوارح فللعشق نفس المقدرة على إثباط قوى العقل والجوارح حتى يظل هو المهيمن الوحيد على قوى القلب والروح، ويصبح هو المخدر الخاص بهما.
*تُذهب الخمر العقول ويُذهب العشق القلوب، وإن اعتبرناهما قوتان كبيرتان في سباق طويل.. سباق نهايته لا يمكن التنبؤ بها فيا تُرى أيهما تستحق الفوز؟ وأيهما ستتمكن في النهاية من رسم طريقها الخاص والوصول إلى العرش مُتوجة بلا خسائر أو جروح؟

♢*♢


*ملاحظة/ مواعيد تنزيل الفصول ستكون يوم الثلاثاء من كل اسبوع في تمام الساعة الخامسة '5' مساءً بتوقيت مصر إن شاء الله.


وأخيرا... أتمنى أن ينال العمل استحسانكم ويلقى عندكم القبول الطيب والله حسبي وهو نِعمَ الوكيل.


https://upload.rewity.com/uploads/157441867060184.gif

المقدمة .. اعلاه
الفصول الاول والثاني والثالث والرابع .... بالأسفل

الفصول الخامس والسادس والسابع نفس الصفحة
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر والحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر والرابع عشر
الفصل الخامس عشر والسادس عشر
الفصل السابع عشر والفصل الأخير
الخاتمة
https://upload.rewity.com/uploads/157441867063325.gif

متابعة قراءة وترشيح للتميز : مشرفات وحي الاعضاء
التصاميم لنخبة من فريق مصممات وحي الاعضاء


تصميم الغلاف الرسمي :


تصميم لوجو الحصرية ولوجو التميز ولوجو ترقيم الرواية على الغلاف :كاردينيا73

تصميم قالب الصفحات الداخلية الموحد للكتاب الالكتروني (عند انتهاء الرواية) : كاردينيا73

تصميم قالب الفواصل ووسام القارئ المميز (الموحدة للحصريات) : DelicaTe BuTTerfLy

تنسيق ألوان وسام القارئ المميز والفواصل وتثبيتها مع غلاف الرواية : كاردينيا73

تصميم وسام التهنئة : كاردينيا73

تصميم البنر الاعلاني : DelicaTe BuTTerfLy




https://upload.rewity.com/uploads/157441867066866.gif
يجب ان ترد لمشاهدة المحتوى المخفي


https://upload.rewity.com/uploads/157441867069987.gif




قصص من وحي الاعضاء 30-09-19 08:51 PM

اهلاً وسهلاً بك بيننا في منتدى قصص من وحي الأعضاء ان شاء الله تجدين مايرضيك موفقة بإذن الله تعالى ...

للضرورة ارجو منكِ التفضل هنا لمعرفة قوانين المنتدى والتقيد بها
https://www.rewity.com/forum/t285382.html

كما ارجو منك التنبيه عندما تقومين بتنزيل الفصول على هذا الرابط
https://www.rewity.com/forum/t313401.html

رابط لطرح اي استفسار او ملاحظات لديك
https://www.rewity.com/forum/t6466.html



واي موضوع له علاقة بروايتك يمكنك ارسال رسالة خاصة لاحدى المشرفات ...

(rontii ، um soso ، كاردينيا73, rola2065 ، رغيدا ، **منى لطيفي (نصر الدين )** ، ebti )



اشراف وحي الاعضاء



Hend fayed 30-09-19 08:51 PM

|| الفصل الأول ||

** كانت ترتب الفراش وهي تدندن بخفوت وعلى ثغرها ترتسم ابتسامة تعبر عن سعادتها الغامرة، أما روحها فكانت تتعانق مع السحاب من شدة فرحها وكيف لا تكن كذلك وهي تمتلك أكثر زوج محب عطوف في العالم وطفلين من أجمل الأطفال الذين قد رأتهم في حياتها
وفجأة انفتح الباب بقوة واندفع الصغير راكضاً إليها وهو يصرخ بخوف شديد " يا أمي انجديني "
فتحت حبيبة ذراعيها له وما إن وصل إليها حتى ضمته بحنان إلى صدرها وقالت " مِمَن حبيبي؟ "
رمش الصغير بتوتر وهو يفسر فعلته دون إنتظار سؤال أمه " لقد جرحت ريحانة وحينما رأى أخي الدماء التي تغطيها ب... بكى كثيرا "
قطبت حبيبة دون تعقيب بينما قال هو بعد أن لمح العتاب الصامت في عيني أمه " والله لم أتعمد ذلك يا أمي.. أنا طلبت منه أن أمتطيها لكنه رفض ف... "
سكت وهو يشعر بالخزي من فعلته فربتت حبيبة على كتفه وهي تقول " أكمل حديثك حبيبي أنا أسمعك "
ازدرد ريقه بإرتباك قبل أن يتكلم بخفوت: " فأنتظرت حتى خرج من الدار مع قاسم ثم... ثم امتطيتها ولأنني لا أعرف كيف أتعامل معها وهي لم تتقبل أن اقترب منها فقد غضبت وضربتها بالسوط فجُرِحَت "
فغرت حبيبة فاهها بذهول وهي تطالع ابنها متمتمة بدون شعور " ضربتها بالسوط؟ كيف استطعت فعلها يا زيد؟ "
أطرق الصغير رأسه وهو يزم شفتيه بقوة بينما تابعت هي بأسى: " ما فعلته بريحانة خطأ كبير سيجعله يخاصمك "
شهق زيد باكياً وهو يقول: " ألن... ألن يسامحني أبداً؟ "
ربتت حبيبة على كتفه بحنان وهي تقول " بلى سيفعل، لكنه الآن سيكون غاضبا منك "
أجهش زيد في البكاء بشدة وهو يقول " لكن... لكنه قال أنه لن يسامحني أبدًا.. والله يا ماما لم أقصد أن أؤذي ريحانة "
قبل أن تتكلم حبيبة رأت الآخر يندفع إلى الغرفة بملامح متصلبة والغضب يشع من نظراته التي يوجهها إلى زيد رغم أن عينيه تؤكدان صحة قول الأخير بأنه بكى كثيرًا، أما زيد أمام تلك النظرات الحادة من أخيه فلم يستطع إلا الاختباء خلف ظهر أمه وهو يتشبث بثوبها بشدة بينما يوجه النظرات الآسفة إلى أخيه.. يرجوه الصفح والعفو دون كلام لم يجد له سبيل بينهما في تلك اللحظة الحرجة
ابتسمت حبيبة بحنان وهي تفتح له ذراعيها في دعوة صامتة حتى يقترب منها لكنه بعناد أشاح بوجهه عنها وهو يقول بصوت متشنج " ابنك المدلل أذى فرسي في غيابي "
مالت نظرات حبيبة بأسى لحال الفرس المسكينة وهي ترد بمهادنة " أخوك لم يتعمد ايذائها يا حبيبي.. هو أراد امتطائها فحسب "
صرخ يوسف بقوة " لم يكن عليه الإقتراب منها.. هو يعلم كما الجميع أن ريحانة لا تتقبل غيري.. إنها ملكي وحدي فبأي حق اقترب منها من الأساس؟ "
حاولت حبيبة أن تقترب منه لكن زيد ظل متشبثا بثوبها يرفض أن تتركه فتنهدت تقول " أخبرني أولاً كيف حالها الآن؟ "
رفع يوسف رأسه باعتداد رغم نظرة اللوم التي وجهها إلى أخيه قبل أن يرد على أمه " ماذا تظنين أمي؟ بالتأكيد بخير رغم الجروح العديدة التي تسبب فيها السوط الغليظ بفضل ابنك لكنها بخير أو هكذا ستكون قريباً "
ابتسمت حبيبة بحنان عذب تقول " ألن تقترب من ماما وتمنحها قبلة الصباح أم ماذا؟ "
حينما ظل على جموده وتجاهله لها ناكفته هي بطفولية لذيذة يفقد أمامها كل غضبه وحنقه " هل ستعاقبني معه على ذنب ليس لي دخل فيه؟ ظننت أن والدك علمك سمات العدل "
رمش لبرهة قبل أن يتقدم منها مطرق الرأس بانكسار آلم قلبها على صغيرها فتراجع زيد للخلف خطوة وترك ثوبها بينما هي خفضت رأسها قليلاً فقبل يوسف جبينها وهو يقول " آسف أمي.. لم أقصد أن ازعجك مني "
ابتسمت حبيبة بمحبة خاصة وهي تقول " هل لو طلبت منك أن تسامح أخاك لأجل خاطري ستفعل؟ "
ران الرفض في نظراته وهو يقول بصوت حمل الغضب وغصة البكاء " لقد... لقد ضربها حتى جرحها وأدماها.. كيف اسامحه على هذا؟ "
انتفض بين ذراعيها وقد هزته موجة بكاء عنيفة كان يكبتها ببسالة بينما يضيف " هل لأنها مخلوق ضعيف لا تستطيع النطق والشكوى بما يؤلمها أو الدفاع عن نفسها مثلنا يعطيه هذا الحق حتى يتجبر عليها؟ هذا ظلم "
وفي لحظة التالية كان يبتعد عنها وهو يهتف بقهر من الغضب الذي يشعر به " لن أسامحك يا زيد على ما فعلته بفرسي.. ظننتك موضع ثقتي وسندا لي في غيابي.. ظننت أنك ستحمي ممتلكاتي من أي شخص يحاول أن يقترب منها لكنني لم أتخيل أن تكون أنت من عليّ حماية ممتلكاتي منه "
ران على حبيبة البؤس وهي ترى الصدع الذي حدث بين ولديها فقالت بعد لحظات بمهادنة في محاولة لحل الأمر " نعم هو أخطئ لكنه نادم على ما فعل ويريد أن يعتذر لك وأيضًا سيعدك بألا يكررها ثانية.. سامح أخاك تلك المرة فقط يا صغيري "
بعناد وغضب متفاقم كان يوسف يرد " لأنه أخي ما كان عليه أن يؤذي ريحانة.. أنا لن اسامحه أبداً ومهما فعل "
خرج بعدها صافقاً الباب من خلفه بينما زيد عاد إلى البكاء وهو يقول بنبرة آسفة حزينة " يا إلهي! ماذا فعلت أنا بغبائي؟ والله لم أقصد أن يحدث كل هذا كنت غاضباً من رفضها لي فحسب.. أنا آسف والله آسف يا ماما "
ضمته حبيبة إلى صدرها وهي تقول بأسى " لا تبك يا حبيبي.. ما فعلته كان خطأ لكن أخاك سيغفره لك فقط ككل مرة.. يوسف قلبه حنون ويحبك كثيرا.. دعه حتى يهدأ الآن وبعدها سنحاول معاً أن نسترضيه من جديد.. اتفقنا "
هز زيد رأسه بأمل قبل أن تلتمع في ذهنه فكرة ما فأبتسم بحماس واستأذن أمه خارجا من جناح والديه وهو يهرول بسرعة تجاه البوابة الخارجية للدار
***
بعد عدة دقائق / في الأسفل
كانت الدار خالية من رجالها على نحو مفاجئ بعدما خرج الحاج عبد الرحمن كبير العائلة بصحبة ثلاثة من أبنائه _خالد، سليم، مختار_ منذ الصباح الباكر لحضور جلسة صلح ستعقد للفض بين نزاع كبير حدث بين عائلتين على قطعة أرض
أما الآخرين _محمد، محمود_ فقد خرجا منذ ساعة متوجهان إلى المزرعة الخاصة بالخيول والتي تنتمي ملكيتها للعائلة
كانت الحديقة الخلفية للدار مقتصرة على إسطبل صغير خاص _بريحانة_ بجانب أنها مهيئة لتكون مناسبة للهو ولعب أطفال العائلة لكنها خلت من الجميع خوفاً من إثارة غضب ابن عمهم خاصة بعد العراك الحاد الذي دار بينه وبين أخيه لأجل فرسه المجروحة
في تلك الأثناء كان يوسف يجلس على الأرض رافعا ركبتيه ضامهما إلى صدره ومستندا بظهره على الحاجز الخشبي من خلفه حيث تقبع ريحانة ومن جوارها جواد آخر بني اللون ملتصقا بها وكأنه يواسيها بطريقته
كان يشهق بين الفينة والأخرى في بكائه ونشيجه المكتوم يكاد يفتك بروحه المقهورة مما لحق بفرسه الأثيرة من أذى
كان يتحدث معهما وكأنهما من البشر ويفهمان ما يقول " إنه لم يتعمد ايذائك يا ريحانة.. زيد يغضب سريعاً ويتصرف بدون تفكير لكنه يحبك جداً وهو نادم على تصرفه الخاطئ معك.. سامحيه أرجوك لأنني لن أفعل ومن الظلم أن نعاقبه كلانا بالخصام... "
قطع استرساله في الكلام فجأة وهو يهب واقفا على قدميه بينما يقول بحماس " سوف أذهب الى عمي محمود في المزرعة وأطلب منه أن يأتي حالاً لرؤيتك حتى يداويك بنفسه "
نظر لها مبتسماً وهو يمسح دموعه بظهر كفه بينما يربت على رأسها بيده الأخرى وهو يقول " لن اتأخر عليكِ كثيراً يا ريحانتي (ثم التفت إلى الجواد الآخر وربت على رأسه أيضا وهو يحدثه) وأنت أهتم بها في غيابي حتى أعود إليكما بعد قليل "
انصرف بعدها متعجلا حتى يلحق بعمه في المزرعة التي لا تبعد كثيرا عن الدار، كان يركض بسرعة وحماس وفي داخله رغبة قوية بألا يتأخر على فرسه فيكفي ما نزفته من دماء وما تعانيه من جروح بسبب ما فعله أخاه المدلل بها
بعد مرور ما يقارب النصف ساعة كان قد وصل أخيراً إلى المزرعة، توقف للحظة أمام البوابة الضخمة يلتقط أنفاسه قبل أن يدلف للداخل، كان سعيداً بوصوله السريع وقبل أن يتحرك من مكانه وصله صوت طلق ناري جعل جسده يرتجف فزعاً ليدرك في لحظة أن الصوت قريب جداً
صرخ حينها بهلع " الصوت من الداخل.. من المزرعة.. يارب سلم "
راعه اختفاء الحارسين من أمام البوابة فتوجه إليها ودفعها بيديه فانزاحت أمامه مفتوحة على مصراعيها فدخل مهرولا تسبقه أنفاسه المضطربة كجسده وما هي إلا بضعة خطوات حتى شلت قدميه وتوقفت تماماً عن الحركة وهو يرى أمامه عدد كبير من الرجال الملثمين يحملون بين أيديهم أسلحة نارية ثقيلة
رفع قبضته سريعا يضعها على فمه ليكتم شهقته بينما عينيه تنتقلان من هؤلاء الرجال الى الناحية الأخرى حيث اثنين آخرين من هؤلاء الملثمين كل واحد منهما يمسك أحد عميه محمد، محمود بطريقه مهينة
فتح فمه ليتكلم لكنه لم يجد القدرة على إخراج حرف واحد وما جعل عينيه تتسعان ذعرا هو رؤية أخيه مقيد المعصمين واقفاً باستكانة أمام أحد الرجال الذي يوجه سلاحه إلى منتصف جبهته، حينها صرخ بذهول مضطرب من الوضع " لقد تركتك في الدار "
رفع زيد رأسه بلهفة حينما سمع صوت أخاه ونظر إليه دامع العينين وهو يرد بلهفة " جئت من أجل ريحانة.. أردت أن أحضر معي طبيب المزرعة ليعالجها حتى تشفى وتسامحني "
رفع يوسف سبابته يشير إلى الرجال الغرباء الملثمين وهو يحدث عميه " من هؤلاء؟ وكيف... كيف يتجرأن عليكم بهذه الطريقة؟ "
لم يرد أياً منهما في حين لوح أحد الملثمين بسلاحه في وجهه وهو يقول بغلظة " تعال هنا يا فتى "
رغم صعوبة الموقف وادراكه للخطر المحيط بهم إلا أن روحه الأبية التي تربى عليها رفضت ما يحدث فهتف بقوة " لن يرحمكم جدي أيها الأوغاد "
ضحك أحدهم بخشونة وهو يقول بتهكم " هذا إن استطاع جدك الوصول إلينا وأنتم لازلتم على قيد الحياة "
هزته الكلمة بشدة وتركته ورقة جافة في مهب الريح
قيد الحياة!..
هل هذه هي النهاية؟
هل حان الأجل وخط القدر كلمته؟
هل سيموت قبل أن يداوي فرسه الجريحة ويسامح أخاه؟
حاول التفكير في مخرج لتلك الورطة التي وقعوا فيها لكن عقله توقف فجأة عن العمل وتركه وحده في مواجهتهم، كان لا يزال في أفكاره وحيرته وفزعه مما يحدث حينما سمع عمه محمود يوجه حديثه إلى أحد الرجال والذي بدى أنه كبيرهم " أرجوك دعهما يرحلان فلا ذنب لهما فيما بيننا "
رد الرجل المعنيّ ببرود " لم نطلب منهما المجيء من البداية ولكن طالما حضرا فلا ضرر من ذلك فلن يختلف مصيرهما عنكما (ثم تابع متهكما) هذا عقابا لغبائهما "
صرخ محمد بقهر نضح به صوته رغماً عنه " هذا ظلم "
ضحك الرجل بخشونة ساخراً " وهل تريدنا أن نتعامل معكم بالعدل وأنتم لا تعرفون السبيل إليه؟ يؤسفني أن أخبرك أن ما تطلبه هو الظلم بعينه "
نكس محمد رأسه وسكت مجبراً بينما قال محمود بمهادنة " لكم عندنا ثار وجئتم لتأخذوه وهذا حقكم طبعاً لكن كما تعرف ثأركم لا يجوز من طفلين فهما لا دخل لهما فيما حدث بيننا ونحن جميعا رجال عقلاء بالطبع لن نضع الذنب على طفلين صغيرين.. ما لكم عندنا هو دم رجلين مقابل من قُتِلا من عندكم وها أنا وأخي أمامكم فأفعلوا بنا ما يحلوا لكم لكن أتركهما يرحلان "
سكت الرجل لحظات قليلة قبل أن يشيح بوجهه ويسلط نظراته على الصبيين وهو يقول " لكني أفكر في شيء آخر.. اممم مثلا لو أخذت بثأري منهما سيكون ذلك كافياً ليطفئ نيران غلي وحقدي عليكم "
صرخ محمد بإنفعال وهو يشعر بانفلات اعصابه بينما يحاول دفع الرجل الممسك به " أيها الحقير الجبان هل تريد التجبر على طفلين صغيرين؟ ألا يكفي أنك لم تستطع مواجهتنا كالرجال فأتيت تحتمي خلف أمثالك من أشباه الرجال؟ "
كان الرد الوحيد على كلامه هو لكمة عنيفة تلقاها من ذلك الرجل الذي وجه له كلامه لكنه رغم ذلك لم يتراجع بل تابع " ألا يكفي أنك اتجهت إلى الخديعة معنا بعدما يأست من الإيقاع بنا فأتيتنا متخفيا كاللصوص وقطاع الطرق.. ألا يدل ذلك على أنك كنت ولازلت مجرد جبان يا فؤاد؟ "
تزامنت قبضة فؤاد التي انفجرت من جديد في وجه محمد مع صوته وهو يصرخ بغضب " أخرس أيها الحقير "
صرخ محمد في المقابل بغل ودون تفكير وهو يبصق الدماء من فمه " الحقير هو أنت ولا سواك يا فؤاد.. الحقير هو من يظن نفسه صاحب حق وهو في الأصل مجرد جرذ اعتاد أن يحيا على ظلم الناس والتجبر عليهم.. الحقير هو من قتل أخويه طمعا فيهما وألصق التهمة والذنب فينا "
مع نهاية جملة محمد علت الهمهمات بين رجال فؤاد وكل واحد منهما ينظر إلى الآخر بحيرة جعلت الأخير يقطب بغضب دون أن يفطن أحد إلى أن مقلتيه غامتا بالخوف من انكشاف ما سعى لسنوات في اخفائه
كان يفكر في حل سريع في حين علا صوت أحد الرجال يقول " ما هذا الكلام الذي يقوله ذلك الرجل يا فؤاد؟ "
أخفى فؤاد توتره خلف قناع من الغضب الزائف وهو يصيح " هل يعقل أن تصدق ما يقوله ذلك الحقير يا عمران؟ إنه يحاول أن يجد لنفسه طريقة للخلاص من الموت "
لم يبد أن عمران أقتنع برد فؤاد فسأله بإقتضاب من جديد " لكنه يبدو واثقاً مما يقول وكأن لديه دليل "
ارتبك فؤاد ولم يسعفه عقله في إيجاد ما يرد به بينما اقتنص محمد الفرصة ليصيح بتشفي " بالطبع عندي وهل كنت لأتكلم في أمر خطير كهذا دون أن يكون لدي دليل قاطع "
قطب آخر باستنكار يسأله " ولكن إن كان ما تقوله صحيح فلماذا لم تظهر دليلك هذا عندما أعلن فؤاد أن قاتل أخويه من عائلة الجبالي وأراد الثأر منكم منذ سنوات؟ "
رد محمد بغل مكبوت " ماذا تظن أنت؟ بالطبع لو كان ذلك الدليل بحوزتي وقتها لكنت فضحته وأخبرت الجميع من يكون القاتل الحقيقي لكني لم اعثر على ذلك الدليل إلا منذ بضعة أشهر قليلة بمساعدة خاصة ولقد ذهبت إليه في داره بنفسي وأخبرته أنني سأكشفه أمام أهل المدينة كلها حتى نرفع عنا ذنب دم أخويه فكان رده هو تهديد دنئ مثله "
حينما أراد فؤاد الرد سبقه رجل آخر يقول " أنا رأيتك منذ أيام خارجاً من دار الناصر بالفعل "
عبس عمران وهو يقول " هل ما يقوله ذلك الرجل صحيح يا فؤاد؟ إذن ما الحاجة لوجودنا هنا؟ "
قبض فؤاد على كفيه إلى جانبيه يخفي رجفة الخوف والتوتر التي سرت في جسده بينما يهتف " هل ستُكذب ابن عمك وتصدق ذلك الحقير يا عمران؟ "
رد عمران بنفس العبوس " الحق أحق أن يتبع يا ابن عمي "
ظل فؤاد على توتره الخفي للحظات قبل أن تلتمع عينيه بالمكر وهو يقول " وإن كان ما يقوله صحيح فأين هو ذلك الدليل الذي يتحدث عنه؟ "
تمتم محمد بقهر وغل " أنت تعلم أين هو؟ فأنت من سرقت ذلك التسجيل من الأساس أم تراك ستنكر ذلك أيضاً؟ "
شعر فؤاد بالراحة حينما تأكد أن محمد لم يوصله عقله لأن يقوم بنسخ التسجيل للاحتياط مما جعله يتحدث بثقه عادت له وهو يقول " أرأيتم أنه يكذب؟ لم يكن لديه أي دليل منذ البداية وأراد أن يعبث بعقولكم ويصرفكم عن نيل حقكم وثأركم منهم لكنه بالطبع لا يعلم من هم رجال عائلة الناصر "
حينما رأى التحفز عاد إلى رجاله عدا عمران والذي لم يستطع منع نظرة الخيبة وقلة الحيلة التي رمق محمد بها زادت ثقته وهو يجذب محمد من مقدمة شعره بينما يغمغم بغل من بين أسنانه " أرأيت أنك خاسرا في كلا الحالتين وبإشارة صغيرة مني لهم سأجعلهم يفتكون بك دون رحمة؟ "
زمجر محمد بغضب وهو يحاول التحرر من ذلك الرجل الذي يمسك به بينما يقول " حييت عمرك كله وضيع يا فؤاد ولا عجب في ذلك فهذا طبعك وما تربيت عليه.. ما أتعجب منه حقاً هو حال هؤلاء الجراذ الذين سلموك عقولهم لتشكلها على هواك وكأنهم مسلوبي الإرادة "
ابتسم فؤاد بمكر وهو يغمغم بنفس الخفوت " لتحيا ملكاً عليك أن تجد لنفسك عبيداً يطيعونك دون نقاش وأنا اخترتهم حمقى حتى لا يعنيني كثرة سؤالهم "
بصق محمد في وجهه وهو يصرخ بسخط " أيها القذر المهووس بالطمع والسلطة أ نسيت أنك أيضاً عبدا وأن المَلك وحده هو الله كما المُلك له؟ "
رد فؤاد تجسد في لطمة قوية منه شجت شفتي محمد وصرخ على إثرها إبنيّ أخاه خوفاً وفزعا
أما محمود فكان يشعر بالضعف وخوار القوى بجانب أنه لم يستطع التفوه بكلمة واحدة وكأنه أخرس وبداخله يقين ترسخ من العدم بأن هذه هي النهاية لا محالة
صاح زيد فجأة بهلع " شفتيك تنزفان يا عمي "
طمأنه محمد بلطف قدر ما إستطاع " لا تخف يا بني إنه جرح بسيط "
هز زيد رأسه برعب واجهش فجأة في البكاء وهو يقول " الدم.. أنا أقصد الدم.. يوسف يخاف رؤية الدماء، لقد رأى منها الكثير اليوم "
لم تمض لحظة إلا وعلا نشيج يوسف وهو يضع كفيه على وجهه بينما يتمتم برعب " من ينزف يموت وأنا لا أريدك أن تموت يا عمي.. أرجوك لا تمُت "
رد محمود بحنان " لقد كبرت على هذا الخوف يا بني إنه مجرد جرح لا يميت لا تخف "
أزاح كفيه عن وجهه وقال بتقطع من بين شهقات بكائه " ح... حقاً عمي؟ "
اومأ له محمود دون أن يرد بينما قال زيد " هل سيقتلوننا يا عمي؟ "
قطب محمود بألم وهو يرد " إن شاء الله لن يمسكما أذى وهذا جلّ ما أتمناه اللحظة "
أشار زيد إلى أخيه أن يقترب وهو يبكي ففعل الآخر مهرولا إليه يحتضنه بقوة وهو يربت على رأسه قائلاً بحنان " لا تبكي.. سنكون بخير "
شهق زيد يقول " لكنني خائف "
ربت يوسف على رأسه من جديد وقال بصلابة " لا تخف يا أخي أنا معك.. لن أدع أذى يصيبك "
غمر زيد رأسه في صدر أخيه متنهدا براحة لأنه ليس وحيدا، لأن توأمه إلى جواره ومحيط به ولن يدع أحد يمسه بسوء
صاح أحد الرجال فجأة " بما تأمرنا يا كبير؟ "
تلاقت نظرات فؤاد ومحمد للحظات قصيرة قبل أن يقطعها الأول وهو يصيح بنبرة مشبعة بالغل " انتهوا منهم "
قطب عمران يقول بحذر " والصبيين؟ "
ارتجف زيد خوفاً فصرخ يوسف وهو يشدد عليه بين ذراعيه الفتيتين " إياك أن تفكر بالاقتراب من أخي.. أقسم بالله سأقتلك "
رد فؤاد بسخرية " حقاً وكيف ستقتلني؟ أريد أن أعرف فقط فقد أثرت اهتمامي "
قطب يوسف بغضب يفوق سنوات عمره الخمسة عشر وهو يرد " بيدي المجردتين أيها الحقير الجبان أم تظنني مثلك اتخفى خلف اللثام واحتمي وراء ظهور الرجال؟ أنا لست خائفا منك "
رغم الغضب الذي دب في داخله من تلك الإهانة التي تلقاها من صبي صغير إلا إنه لم يستطع أن يخفي إعجابه بشجاعته الفتية ولكن كان لزاما أن يقتص حقه منه فهو فؤاد الناصر كيف يهينه طفل صغير أمام رجاله وينتقص من قدره؟
كانوا جميعا غافلين عن تلك العينين المتسعتين بصدمة وهما تطالعان ما يحدث بدون تصديق وكأنه فجأة انفصل عن الواقع، عقله تجمد فجأة فلم يستطع فعل شيء وظل في مكانه متخفيا يلاحق ما يدور بينهم ويسجله في ذاكرته
بعد لحظات أخرى قال فؤاد ببرود قاس " العين بالعين والسن بالسن والبادي أظلم.. اثنان مقابل اثنان "
أشار بعدها إلى رجاله وما هي إلا لحظة وكان جسد محمد ومحمود يهويان على الأرض مدرجان في دمائهما بدون أن يملكا حتى الحق في المقاومة أو الدفاع عن نفسيهما
صرخ زيد وهو يهوي على ركبتيه أرضاً أمام جسدي عميه يناظرهما بهلع " لاااا.. لا تموتا "
في تلك اللحظة أشار فؤاد خفيه إلى أحد رجاله بطريقة ذات معنى وهو يقول " هيا نحن.. وأنت تأكد من أنهما فارقا الحياة ولا تنس أن تتأكد من أن الصبيين لن يفتحا فاهيهما بكلمة "
اومأ الرجل مبتسما بمكر وقد وصله أمر سيده وحينما سمع هدير انطلاق السيارات إلتفت إلى زيد فوجده على حالته يبكي ويصرخ بينما يوسف كان جامداً في مكانه لا يحرك ساكناً وقبل أن يعي أن أجله قد حان ويطلب أمنيته الأخيرة كان ذلك الملثم يرفع سلاحه مصوبا إياه تجاهه لكن في لحظة خاطفة كان آخر يندفع أمام يوسف خارجا من مخبأه ليحميه من مصير لم يخطه القدر له فتكون تلك الطلقة الغادرة من نصيبه هو
وخلال لحظات معدودة سقط يوسف على الأرض مغشيا عليه بعدما فقد كل ذرات طاقته وقدرته على تحمل رؤية المزيد من الدماء وقد كان سبقه إلى الأرض جسد آخر لصبي غريب
حينها خرس زيد تماماً وهو يرى أمامه ثلاثة أجساد تغرق في بركة كبيرة من الدماء وإلى جانبهم أخاه
كان جاحظ العينين جامد العقل، لم يستطع لحظتها التمييز بين جسدي الصبيين وتحديد أيهما قد أصيب ودون وعي منه أخذ لسانه يردد " أنا السبب.. لو لم أؤذي ريحانة لما كان جاء إلى المزرعة.. أنا السبب.. أنا من قتله "
كان زيد يشعر بالضياع والتيه، لا يعرف ماذا حدث بالضبط فصرخ بعجر وهو يهز جسد أخاه: " لا.. لا تمُت يا أخي.. أرجوك أبقى معي أرجوك.. بالله عليك لا تتركني.. رد عليّ (وضع رأسه على صدر أخيه وهو يتمتم بنشيج حاد) رد عليّ يا توأمي.. رد عليّ "**
،،،
*كعادته كلما أعاد عقله الباطن سرد تفاصيل ذاك اليوم البائس عليه خلال كوابيسه التي لا تفارقه وبأبشع الصور كان يحاول فتح فمه كي يرد على زيد ويطمئنه على أن أخاه بخير وتلك الطلقة لم تصبه لأنه هو من تلقاها بدلا منه لكنه لم يستطع وهو يشعر بأن هناك ما يكبل لسانه ويخرسه
يظن في كل مرة يتذكر تلك التفاصيل بأن باستطاعته الرد على هذيان زيد كما يستطيع الأخير سماعه لكنه يكتشف في لحظة ما بأنه هو من يهذي داخل كابوسي طويل لا يكاد يفارق نومه في أي ليلة
كان كمن يصارع السقوط في لجة سوداء عميقة تجذبه للأسفل بقوة بينما هو يتشبث بما يملك من قوة لكي يظل على السطح
غزا العرق جسده بالكامل وهو يحرك ذراعيه بعنف دافعا عنه شيء يجثم بثقله على صدره ويمنع الهواء من الوصول إلى رئتيه بسلام
بدأت أنفاسه تتعالى وتتهدج بشكل مؤلم، كلما حاول فتح عينيه تعيد تلك الأيادي الخفية سحبه نحوها بقوة أكبر من قدرته فيسقط أسيرها من جديد
وكلما حاول مقاومتها والافلات من بين براثنها تعيد التشبث به فلا يجد منها مفر وهي تطبق عليه من كل إتجاه وتحكم من حوله الحصار
أخذ يركض هنا وهناك يبحث عن منفذ دون جدوى، يبحث عمن يساعده في الهروب من ذاك الجحيم فلا يجد والأشباح السوداء تحيط به من كل إتجاه
كلما اصطدم بواحد منها يدفعه بغلظة نحو البقية فيقل الهواء أكثر من حوله ويرتفع معدل البرودة فيرتجف جسده خوفاً وبردا وكأنه أصبح هيكل خاوي من الداخل كما الخارج
سكنه اليأس وهو يشعر بأنه سيظل محتجز في هذا المكان البارد الموحش بظلامه المخيف للأبد، لن يخرج منه ولن يرى النور من جديد
توقفت حياته عند هذا الحد وقد ظن بأنه أصبح أسيراً لتلك الأشباح القوية المخيفة فسكن جسده بتخاذل عن المقاومة
جلس بينهم أرضاً في جلسته الشهيرة والتي يلجأ إليها ليحتوي نفسه بنفسه كلما شعر بالخوف أو الضياع كمثل حالته الآن
جلس ضاما ركبتيه إلى صدره مطوقا إياهما بذراعيه المرتجفتين وهو ينظر إلى الأشباح السوداء التي تقترب منه ببطء، سلم أمره واستسلم إلى أن تلك الرصاصة الغادرة إن لم تكن قتلته فعلاً كما يظن فهو على كل حال هالك على أيدي تلك الأشباح البشعة
رآها تقترب منه فلم يتحرك!
عددها يتضاعف فلم يتأثر!
كان حقاً يشعر بالسكون في كل خلية أو عضلة من جسده إلا ذاك المسكين الصغير المرتجف بهلع بين جنبيه
سالت من عينه دمعة حارة وهو ينتظر لحظة أن يمتصوا منه روحه ويجردوا جسده من كل شعور كل يمتلكه يوماً
وحينما فعلوا وظن أن ذلك سيتبعه سكون في كل أوصاله ومفاصله كان مخطئ فها هو صغيره المسكين لازال يأنّ متألما متوجعا دون حول منه ولا قوة
سالت دموعه بغزارة تلك المرة وهو يشعر بالعجز والحسرة على ذاك الصغير المسكين
يريد الموت والخلاص عله يرتاح ويريحه من ظلم وشقاء ظل يتحمله لسنوات وسنوات، وكاد يصرخ من قهره وصميم وجعه ' أما آن لي أن أحظى بالقليل من السلام والراحة.. أما آن لقلبي العليل أن يشفى وتطيب أوجاعه؟ '
ومن صميم وجوف كآبة اليأس زارته طمأنينة الفرج
فجأة ومن بين الظلام المحيط رآها هناك تشق بنورها الوهاج صفوف تلك الأشباح وكأنها عين ماء وانفجرت من الأرض لتروي ظمأ عطشان في وسط صحراء جرداء
وقفت على مسافة منه تفتح له ذراعيها بترحيب جلي وابتسامتها الجميلة تنير له كل ظلام حوله
كانت سلطانة بهية بثوبها الأبيض الزاهي الملائكي الطلة الذي كانت ترفل فيه، كانت خيالية بالنسبة له فأخذ يحدق فيها ملء عينيه يتأكد من حقيقة وجودها بنقائها ونورها بين تلك الوحوش المخيفة دون أن تهابها
اتسعت ابتسامتها وكأنها تناديه فلم يجد السبيل لصدها أو تجاهلها وهب من جلسته على الأرض يحث الخطى تجاهها وهو ينظر تارة للأشباح المحيطة به خائف من أن تمنعه من الوصول إلي ذات النور البهي وتارة أخرى ينظر إليها ليتأكد من أنها لازالت هنا موجودة.. وتنتظره
حينما أيقن أن نورها جعل تلك الأشباح تتراجع عنه خوفاً منها هرع إليها مهرولا وهو لا يطيق صبرا ليلقي بنفسه بين ذراعيها
سبقه لسانه يناديها بلهفة تنبض بالأمل قبل أن يصل هو إليها ' أمي.. كنت أعلم أنكِ لن تتركيني وحدي ولن تسمحي لتلك الأشباح المخيفة بأذيتي '
وصل إليها أخيراً وألقى بنفسه بين ذراعيها الحنونتين وحضنها الدافئ فأكتنفه أخيراً السكون
سكون الطمأنينة والراحة والسلام لا سكون الوحشة والاستسلام الذي كان يعتريه من قبل
وهدأ الصغير المسكين فجأة
لم يعد يتألم أو يشكو من أوجاعه وعلة لازمته لسنوات ، لم يعد خائف أو يخشى الموت ولا الأشباح
زينت ثغره ابتسامة صغيرة وشفتيه تفرجان عن تنهيدة راحة طويلة وعميقة أخرجت معها كل شعور سيء كان يشعر به قبل وصول أمه
أمه؟!..
قطب بحيرة وهو يحرك رأسه يدفنها أكثر بين احضانها بينما عقله يومض بالتفكير فجأة بعد خمول طال
لماذا أمه قصيرة لهذا الحد وكأنها صبية صغيرة في طور مراهقتها؟
شهق بإدراك متأخر وهو يشعر بالغرابة لقد كان منحنيا لكي يتمكن من معانقتها كما يجب ولكي يتمكن من غمر نفسه بين ذراعيها
لقد كان هو من يغمرها بين أحضانه وليس العكس!
أبعد نفسه عنها ببطء تدريجيا حتى يتمكن من تأمل وجهها فلم تمانع هي
وقف على مسافة خطوة منها ينظر إلى ابتسامتها الجميلة التي لم تخبت وإلى ملامحها العذبة التي تفيض بالحنان دون أن تتبدل فيزهو قلبه الصغير المسكين بالخضرة بعد أن كان قد أصابه التيبس والذبول
كاد يبتسم فرحا بنجاته لكنه عاد يقطب من جديد بإرتباك وهو يدقق النظر في صاحبة الضياء الدافئ الآمن فهذه ليست أمه
في لحظة كان عقله يعقد مقارنة سريعة بين أمه وتلك التي تقف أمامه
أمه أطول وهذه قصيرة
أمه امرأة ناضجة أما هذه صبية
عينيّ أمه صافيتين كصفحة السماء أما هذه فعينيها محيطين لا قرار لهما
تراجع عنها بيأس وإحباط وهو يسألها ' من أنتِ؟ أنتِ لستِ أمي '
لم تخبت ابتسامتها رغم حديثه لكنها لم تعقب فسأل هو بأمل أن تكذبه ' أنتِ لستِ هي أليس كذلك؟ '
كان يعلم إجابة سؤاله منذ البداية لكنه تشبث بأمل كاذب في أن تكون هي، أن تخبره أنها أمه
لكنها لم تفعل
لم تمنحه الطمأنينة الواهية التي كان يرجوها بل ردت بصدق تفصح له عن هويتها ' نعم لست أمك.. أنا لست هي '
سألها بقنوط وعدائية نضحت بها نبرته رغما عنه وهو يشعر بنفسه يكاد يسقط في لُجة الضياع من جديد ' إذن من أنتِ؟ '
ردت عليه ببساطة وكأن اجابتها بديهية لا تحتاج لسؤال ' أنا سُلاف الفؤاد.. سُلاف فؤادك أنت.. إذا ما نظرت فيه وجدتني وإذا ما احتجت إليّ يوماً لا تكلف نفسك سوا النداء عليّ وحينها ستجدني '
أولته ظهرها وهمت بالرحيل فاستوقفها بلهفة ' بماذا أناديكِ إذا احتجتكِ؟ '
ضحكت برقة وهي تلتفت له برأسها تقول بصوت منغم حلو النبرة ' بما تريد وتحب يا غريب فأنا منك.. نبض يسكنك ويخفق به فؤادك '
اختفت فجأة كما ظهرت له فجأة، أخذ يصرخ ويصيح مناديا عليها ولكن.. دون جدوى*

وعلى أرض الواقع كان تخبطه فيما ومن حوله بلا فائدة وبينما تعاود الأشباح زحفها نحوه من جديد إذ بأذان الفجر يصدح فجأة من العدم فينتشله من الضياع المحيط به
صاحب ذلك طرقات خفيفة بعيدة على باب جناحه تلاها وقع أقدام كانت تقترب من غرفة نومه ثم من فراشه بهدوء حذر
كان يسمع كل هذا لكنه لا يستطيع التجاوب معه حتى شعر بعد لحظات بيد تهزه وصوت حنون يناديه بخفوت " صخر.. بني أستيقظ لقد أذَّن الفجر "
فتح عينيه بغتة وهو ينتفض جالساً شاهقا بقوة وكأن أحدهم كاد يسحب روحه منه
طالعه معتز بصمت وهو يتفحص هيئته التي اعتادها بعدما يوقظه من كل كابوس مُخيف يحلم به
شعره الناعم كان مشعث وغرته ساقطة على جبينه المكلل بالعرق الغزير كسائر جسده المرتجف بوضوح
ربت معتز على كتفه بلطف وهو يقول " أسرع صخر حتى نلحق وقتنا قبل أن تفوتنا صلاة الجماعة في المسجد "
وخرج بعدها دون أن يشير أو يعقب على حالة صخر فتنهد الأخير بكآبة وهو يتحرك بتثاقل وهمّ من الفراش متجها إلى الحمام لكي يتوضأ عله يجد في الصلاة ملاذاً ومخرجا كما أعتاد
،،،
بعد قليل / في المسجد
سجد وأطال السجود كعادته كلما أحتاج للشكوى أو الإفضاء بمكنونات فؤاده لبارئه لكن هذه المرة شعر بأنه مثقل بالهموم فلم يمكنه لسانه من الإفصاح عن شيء لذا نطق بتنهيدة حارة عميقة " رُحماك ربي.. وحدك أعلم بحالي وبما يسكن فؤادي "
***
صباحًا / في شقة مختار زين الدين
كانت تشعر بنظراته المسلطة عليها رغم أنها لم تنظر إليه لمرة واحدة مذ جلسوا على مائدة الإفطار
مرة تغص في الطعام فتسارع أمها بإعطائها كوب الماء دون تعقيب، ومرة ترتطم يدها بالطاولة دون وعي منها لشدة اضطرابها فتكتم آه الألم حتى لا تسترعي انتباه والديها لها، لتفاجئ في النهاية بكلامه العجيب الذي أشعرها بالريبة منه لأول مرة " ارفعي وجهكِ إليّ نبض.. أريد رؤية لون عينيكِ "
نظرت باستنكار إلى أمها التي رانت الحيرة عليها بينما قال مختار متدخلا " أنت تعرف أن عينيها زرقاوتين "
عبس وهو يرد " أعرف ورغم ذلك أريد رؤيتهما بوضوح (ثم وجه حديثه لنبض) نظرة واحدة إذا سمحتي يا نبض "
عادت تنظر إلى أمها بحيرة فأبتسمت الأخيرة تطمئنها لتفعل، فرمشت لوهلة بتوتر قبل أن ترفع وجهها دون أن تنظر إليه مباشرة وقالت بإرتباك " هكذا "
شدد على كلماته " لا.. قلت انظري إليّ "
رمشت من جديد وهي تشيح بوجهها عنه بإرتباك وهي تتورد بشدة لخجلها من غرابة طلبه فزفر هو بحنق قائلا " لن آكلكِ "
نهضت فجأة من مقعدها متمتمة بإرتباك وهي تغادر المائدة متجه إلى غرفتها " لا أدري ما بك اليوم؟ أنت تبدو غريبا وتخيفني "
بعدما اختفت نبض في غرفتها سأل مختار بحيرة حقيقية " ما بكَ يوسف؟ نبض محقة.. أنتَ تبدو غريبًا اليوم "
قطب يوسف مجيبا " لا أعرف عماه.. أنا أيضاً أشعر بأني غريب عن نفسي.. نمت واستيقظت على هذا الحال (زفر بعمق وهو يكمل) يبدو أن حالتي تلك تتعلق بكوابيسي المعتادة "
ربتت مريم على كتفه بحنان وهي تسأله بأسى " ألم تتخلص منها بعد؟ "
هز رأسه سلبا وهو يرد بتنهيد " لا يبدو لي منها خلاص "
ابتسمت بمرح وهي تقول مناكفة إياه " وما دخل لون عينيّ نبض بكوابيسك المعتادة؟ "
لم يجيبها وهو يفكر بأن ما يحدث معه أمر غريب فعلاً وخاصة في تلك المرات التي تترابط وتتشابه كوابيسه مع كوابيس صخر
شتم نفسه في سره بسبب الطلب المتهور الذي تفوه به قبل لحظات
ليته ما ألح على صخر حتى يخبره بالكابوس الذي رآه فجر اليوم، لكن لسوء حظه فقد استجاب له صخر للمرة الأولى وقص عليه ما رآه من مقتطفات الماضي والكابوس الذي لحق بكل هذا
لو لم يعرف بالطبع لما أثاره الأمر وجعله يطلب من نبض أن تنظر له ليتأكد من لون حدقتيها هل هما ذاتا زرقة قاتمة أم صافية؟
تنبه من أفكاره على صوت مريم تناكفه من جديد باسمة " يبدو أن كوابيسك أصبحت تأخذ منحدر آخر لا أظنه مخيف أو غير مرغوب فيه كما كانت في البداية أليس كذلك؟ "
رفع حاجبا بمكر يجاريها قائلا: " معك حق.. أظنها باتت مرغوبة بعدما احتلتها زرقاء العينين وسكنتها تماما "
ضحكت مريم وهي تغمز له بطرف عينها قائلة: " أظن الكوابيس ستتحول إلى أحلام وردية عما قريب "
رد لها غمزتها بمناكفة يقول " بالطبع.. كوني أكيدة من ذلك طالما سكنتها الأميرة ابنتكِ "
قطب مختار يقول بجدية مصطنعة " يبدو أنه عليّ الحذر على ابنتي منك منذ اليوم خاصة بعدما تحالفت معك الملكة بجلالة قدرها "
أمال رأسه متصنعا الأسى وهو يقول " ظننتك أنت من سيحرضني على اختراق كل الخطوط الحمراء لكي أحظى بقلب الأميرة "
رفع مختار حاجبيه ببرود مصطنع يقول " لا أسمح بهذا الانحلال في بيتي "
نهض من مقعده بهدوء وهو يتابع بمرح " لكن خارجه ربما.. تروقني الفكرة "
رفع يوسف حاجباً باستفزاز يقول " ألا ترى عماه أنك سرعان ما تغير مبدأك؟ "
ابتسم مختار بمكر يقول " أنا على أتم الاستعداد لتغييره طالما ستساعدني في التخلص من نبض "
نظر يوسف بطرف عينه لمريم قبل أن يعود ببصره إلى مختار قائلًا بمناكفة " قلبي يخبرني أن نواياك ليست بريئة تماما عماه "
ابتسم مختار يرد بمكر " بالطبع.. طالما تخص ملكتي ومالكة فؤادي فهي أبداً لا ولن تكون بريئة "
هتفت مريم بحرج " مختار! لا مزاح في هذا "
اتسعت ابتسامته بشقاوة وهو يقول " وأنا لا أمزح حبيبتي "
زفرت بغيظ وهي تتصنع الضيق لتخفي توردها من الخجل " بِتَ لا تطاق يا مختار.. أذهب إلى عملك أفضل "
حرك كتفيه بلامبالاة يقول " حسناً سأذهب حبيبتي لكنني سأعود فكوني في انتظاري "
قطبت بعبوس طفولي وهي ترد " لن انتظر أحد.. أنا أشعر بالإرهاق اليوم وسأنام باكراً "
ضحك مختار وهو يرفع حاجبا بمكر قائلا " اممم هكذا إذن (التفت إلى يوسف يكمل بمرح) هيا بنا لنرى ما ينتظرنا من عمل حتى أعود لملكتي المرهقة باكراً "
سحب يوسف كف مريم وقبلها سريعاً وهو يهمهم بالوداع ليترك الساحة خالية لمختار الذي مال يقبل وجنتها وهو يبتسم بمناكفة هامسا " حاولي ألا ترهقي نفسك حبيبتي حتى أعود ونتباحث سويا في سبب هذا الإرهاق "
أشاحت بوجهها عنه دون رد وهي تتصنع التأفف والضيق فكتم مختار ضحكته وهو يتخطاها حتى وصل إلى الباب حينها التفت لها من جديد يقول بخبث " هل تظنين أن سبب الإرهاق هذا ليلة أمس؟ "
صرخت بغيظ وهي تقذفه بتفاحة التقطتها من طبق الفاكهة على المائدة فتلقفها هو ببساطة دون أن تصيبه ثم قال بعدها باستفزاز " وأنا أيضا سأشتاق إليكِ.. انتظريني حبيبتي لن اتأخر عليكِ.. سلام "
خرج مختار وهو يأكل من التفاحة باستمتاع وابتسامة واسعة ترتسم على شفتيه بينما عقله يخبره بقناعة راسخة أن سعادته دائما وأبدًا تتعلق بوجود ملكته الحبيبة في عالمه وحياته
***
في مؤسسة الجبالي بالعاصمة
بعد إنتهاء اجتماع طويل دام لساعتين كاملتين كان كل واحد منهم يخرج بمشاعر مختلفة عن الآخر وإن كان يجمع بينهما شعور واحد وهو الإرهاق
خرجوا من غرفة الإجتماعات ويفترض بكل منهم التوجه إلى مكتبه إلا أنهم لم يفعلوا بل دلفوا جميعاً إلى مكتب زيد الذي ما إن وصل إلى كرسيه المريح حتى ارتمى عليه ملقيا ما بيده من أوراق على سطح مكتبه وهو يقول " لقد تعبت اليوم كثيراً "
زفر ياسين وهو يجلس على الأريكة الجلدية هاتفاً بنزق " العمل والعمل والمزيد من العمل.. ما هذه الحياة البائسة التي نحياها؟ "
ابتسم عاصم وهو يقول بمناكفة " أرى أن الحل الوحيد لتغيير مزاجك النزق هذا هو الزواج "
ابتسم ياسين ساخراً وهو يشير إلى حمزة بينما يقول " يبدو أن حلك مفعوله سلبي يا ابن عمي فنظرة واحدة لوجه أخيك العابس الذي تحدد عرسه بعد شهر تجعلني أجزم بأن الزواج ليس الحل المناسب للهروب من ضغط العمل "
كتم عاصم ضحكته وهو يرى كيف زم حمزة شفتيه بطريقة طفولية بينما يقول ببرود " وهل عليّ حمل لافتة بوجه ضاحك حتى أعبر عن سعادتي كوني مقدم على الزواج؟ "
زفر قاسم يقاطع حديثهم وهو يصيح بضيق " هلا توقفتم عن ثرثرة النساء تلك؟ صدعتم رأسي "
عقد ياسين ساعديه أمام صدره وهو يغمغم بصوت حانق " لما لا تنهض وتصفعنا أيضاً؟ "
في حين قطب حمزة وهو يقول " ثرثرة نساء! سامحك الله يا ابن عمي "
عبس قاسم وهو يرد " أصبحت تتحدث كثيراً يا حمزة يبدو أن زهراء أثرت عليك سلبا "
هتف حمزة بغيظ " وما بها زهراء يا أستاذ قاسم؟ "
أشاح قاسم بوجهه عنه وهو يتأفف دون تعقيب فأومأ زيد إلى عاصم خفية حتى يتدخل فقال الأخير مغيراً الموضوع " لم تخبرني عن رأيك في الصفقة الجديدة يا قاسم "
كاد زيد يصرخ غيظا لإتجاه حديثهم نحو هذا الموضوع الذي ود لو تناساه الجميع لبعض الوقت حتى يرتب احجياته ويفهم على أي بر سيرسو في النهاية بدلاً من تلك الحيرة والتخبط الذي يشعر بهما لكنه ورغم ذلك لم يعقب بشيء والتزم الصمت مترقبا سماع آراء أبناء عمومته وخاصة رأي قاسم
قطب قاسم بجدية وهو يرد " الصفقة تبدو جيدة لكن كما تعلم يا عاصم أنا لدي تحفظ تجاه العمل مع هذا الرجل "
اومأ عاصم بتفهم وقال " أنا افهم اسبابك جيداً لكن تلك الصفقة تستحق أن نغامر قليلاً للفوز بها "
كان حمزة هو من تدخل ورد بدلاً من قاسم " أسمح لي أخي أنا الآخر اعترض وأرى أن رأي قاسم في محله تماماً.. نحن أمامنا الكثير من الصفقات ولن يضيرنا التخلي عن تلك الصفقة فهذا الرجل يثير حفيظتي ناحيته "
زم ياسين شفتيه وهو يضيف " الحمد لله لست وحدي من شعر ناحيته بالانقباض ظننت أن بي خلل ما.. أنا الآخر لست مستبشرا خيرا بالعمل معه "
تنهد عاصم وهو يقول مؤكدا " بصراحة أنا أيضاً لا أشعر بالراحة في فكرة العمل معه لكن زيد متمسك بتلك الصفقة "
توجهت الأنظار إلى زيد في تساؤل ترجمه قاسم بصوت غامض " أليس من الغريب أن تقبل العمل مع رجل كهذا يا زيد سبق وكان مسجونا في قضية تهريب أثار إلى جانب تعاطيه للممنوعات وربما يكون يتاجر فيها أيضاً؟ "
قطب زيد بضيق مكبوت وود لو يصرخ فيهم أنه ليس المتمسك بتلك الصفقة وإنما ذلك المجنون المتهور الآخر لأسباب لا يعلمها إلا الله لكنه على خلاف ذلك رد بإقتضاب " هذه الصفقة مهمة بالنسبة لي بشكل خاص.. سوف تتم حتى لو اضطررت لأن اعقدها معه بعيداً عن أعمال العائلة "
بدى على الجميع الذهول التام بينما رفع قاسم حاجباً بسخرية يقول " تبدو عاقداً العزم والنية دون أن تهتم حتى لرأينا يا ابن عمي "
تنهد زيد وهو يشعر بالحنق من ذاك المتهور الذي وضعه في ذلك الموقف المحرج أمام أبناء عمومته وقال بهدوء " بالطبع رأيكم جميعاً يهمني وكالعادة لا يتم شيء دون أن نتشاور فيه ونتفق عليه لكن كما أخبرتك يا قاسم تلك الصفقة مهمة بالنسبة لي "
تدخل عاصم بمهادنة يقول " لما لا تخبرنا عن وجهة نظرك يا زيد؟ لربما كنت أنت على صواب واقنعتنا بحجتك "
والله كاد ينفجر ضاحكاً على حديث ابن عمه، أي وجهة نظر يطلبها منه؟ وأي حجة؟
هو شخصياً لا يريد إتمام تلك الصفقة بل إنه يوافقهم في رأيهم بأن العمل مع ذلك الرجل من الممكن أن يسبب لهم مشاكل هم في غنى عنها.. لكن كيف يخبرهم أنها ليست رغبته وليست حجته وأنه لا يملك أي مبرر واضح أو حجة مقنعة بل لا يعرف حتى ما هو الأمر المهم أو المغزى من تلك الصفقة حتى اللحظة؟
أطرق برأسه للحظات في صمت حتى قال حمزة فجأة بغموض " يبدو أنك لا تملك إجابة على سؤال عاصم من الأساس "
رفع عينيه إلى حمزة ينظر له بهدوء تام بينما الأخير يضيف بصوت قاتم " تبدو كمن ينتظر أن تأتيه الإجابة من مكان ما أو ربما من... شخص بعينه "
قطب زيد وقبض على أصابعه بتوتر يخشى أن يتمادى حمزة في تحليله للأمر فيفسد ما عمل لسنوات على اخفائه
حمزة أكثرهم قرباً من زيد، أكثرهم فهماً لأفكاره وشروده الحائر، لطالما كانا رفيقين منذ الصغر ورغم الانقلاب الذي حدث منذ بضعة سنوات في العائلة وجعل زيد يتباعد قليلاً عن الجميع إلا أن حمزة ظل على عهده يسعى خلفه ويحلل كل صغيرة وكبيرة تصدر منه مما جعل زيد أحيانا يغضب منه
تصنع زيد الانشغال بالأوراق التي سبق وألقاها بإهمال على مكتبه وهو يقول " لا فائدة من إطالة الحديث في هذا الأمر فهو بالنسبة لي منتهي "
نهض قاسم بهدوء وهو يرد بصوت بارد حاسم " إذن يجدر بك العلم بأنك مضطر لعقد تلك الصفقة بعيدا عن أعمال العائلة بالفعل لأنني لن أسمح لك بأن تورط إسم الجبالي مع أي مجرم من أي نوع كان "
بعد تلك الكلمات القاطعة انصرف كل إلى مكتبه لكن حمزة قبل أن يخرج قال بصوت يحمل الشجن " لازلت انتظر اللحظة التي ستفصح لي فيها عما يشغل تفكيرك كما كنت تفعل دومًا.. سأظل في إنتظار تلك اللحظة للأبد ولن أيأس يا ابن عمي "
استند زيد برأسه للخلف على ظهر مقعده وقال يحدث نفسه ببؤس " ليتني أملك الحق في الإفصاح يا حمزة.. ليتني أحمل المزيد من القوة للمواجهة لكنت أخبرتك بكل شيء علك تجد لي الحل كما كنت تفعل دوماً لكن للأسف الأمر أصبح خارج مقدرتي.. لم يعد يخصني وحدي بل لم يعد يخصني من الأساس "
***
قرابة الغروب / المدينة الجبلية
في دار الجبالي
كانت ملك تجلس شاردة على الأرجوحة في الحديقة حتى سمعت فجأة الصوت المألوف لوصول سيارات شباب العائلة
ابتسمت بسعادة طفولية وهي تفكر في أبناء عمومتها وكم أنها تحب لحظة وصولهم وتترقبها كل يوم بصبر ودون ملل
تشعر بالراحة حينما تراهم يدخلون إلى الدار معاً سالمين، لا تتخيل أن يصيب أحدهم مكروه وكلما فكرت أن الثأر القديم وإن هدأت نيرانه لكنها لم تنتهي تماماً ينقبض قلبها بخوف وهلع ولسان حالها يهتف بجزع ترى من القادم؟
دخل عاصم أولاً والذي سارعت حلا في استقباله ليتلقفها بين ذراعيه ضاحكاً وهو يقول " حلاي الشقية كم اشتقت إليكِ! "
ترد الصغيرة ضاحكة بدلال " وحلا أبيها أيضاً اشتاقت إليه كثيراً "
مد حمزة يده يعبث في شعرها بينما يقول بكآبة مصطنعة " وأنا يا حلا.. ألا تحملين بعض الشوق ولو قليلاً لعمو حمزة المسكين؟ "
ترد حلا عليه وهي تبتسم بمكر يفوق سنوات عمرها التي تعد على أصابع اليد " أنت لا تحضر لي حلوى "
عبس حمزة وهو يقول " وما ذنبي إن كانت هذه أوامر والدك؟ "
حركت كتفيها بدلال وهي ترد " إذن أبحث عن أخرى تقول لك اشتقت إليك لأنني لن أفعل "
ضحك عاصم وهو يضمها إلى صدره قائلاً " مصيبة أنتِ يا حلا.. ليرحم الله من يقع تحت قبضتيكِ "
قطب حمزة بغيظ طفولي يقول " تحكماتك تأتي بنتائجها السلبية عليّ وحدي يا عاصم.. يبدو أنني سأحضر لابنتك الحلوى حتى أسمع منها كلمة طيبة قبل أن أموت غيظاً بسببها "
ضحك عاصم بصخب شاركه فيه ياسين الذي هتف باستفزاز " الحمد لله لم يتزوج قاسم بعد ليبتليني الله بابنة أخ تثير غيظي أنا الآخر "
رد حمزة بحنق " أتمنى أن يرزقك الله بذرية كلها بنات يصيبنك بالجنون لا بالغيظ "
ضحك ياسين يغيظه وهو يقول " إن شاء الله تكن بناتي ملائكة هادئة كأمهن تماماً "
تدخل زيد يقول بحاجب مرفوع بتعجب ساخر " حقاً أمهن ستكون ملاك هادئ؟ سبحان الله! وأنا الذي ظننتك لا تميل لتلك النوعية من الفتيات "
قطب ياسين وهو يقول من بين أسنانه " لا بأس إن لم تكن هادئة تماماً "
رد زيد بنفس التعبير " لا أظنها ستكون هادئة من الأساس.. أعترف يا ياسين أنك لا تريدها أن تكون كالحمل الوديع "
زفر ياسين بغيظ وهو يقول " أنا جائع.. سأذهب لأرى هل يوجد طعام في هذه الدار أم سأبيت ليلتي جائعا؟ "
هتف زيد ساخراً في اعقابه " لا تخش من تلك الناحية أظن أن هناك الكثير من الطعام.. كُل حتى تشبع لكي تتمكن من إيجاد إجابة على سؤالي "
انزل عاصم ابنته أرضا وهو يقول بهدوء " لماذا تناكفه بغلاظة هكذا يا زيد؟"
حرك زيد كتفيه بلامبالاة وهو يرد " لا لسبب محدد "
تنهد عاصم وهو يربت على كتفه قائلاً " أما آن لك أن تبحث عن نصفك الآخر يا زيد؟ شباب العائلة بأكملها وإن لم يتم ارتباطهم رسمياً لكن كل واحد منهم يعلم من يريدها "
أطرق زيد رأسه بحسرة وهو يفكر بأن نصفه الآخر موجود ورغم أنه ليس فتاة لكنه لا يشعر بأن من يكمله سواه
لكن أين هو نصفه الآن؟
تنهد بعد لحظة يرد " لا أعلم يا عاصم لكن لا أجد في نفسي رغبة للارتباط بأي فتاة.. لا أشعر بأنني قادر على مبادلة أي فتاة مشاعر الحب.. أشعر أنني لا امتلك مثل تلك المشاعر من الأساس "
قطب عاصم وهو يرد بكآبة تمكنت منه بسبب حديث زيد " لا أصدق بأن من يصف نفسه بأنه يفتقر لمشاعر الحب هو أنت يا زيد؟ لطالما كنت محباً عطوفاً كعمي سليم "
ابتسم زيد بفخر وهو يرد " وهل هناك من يشبه سليم الجبالي! "
رد عاصم بجدية " لما لا تدع لنفسك فرصة فكل ما تحتاجه هو المحاولة يا زيد وإن فشلت لن تخسر شيء؟ "
تنهد زيد بعمق وهو يرد بصوت متباعد شارد " لا أستطيع حتى المحاولة يا عاصم.. ليس من حقي فقد أنجح في ارتباطي بفتاة ما أحبها وتحبني ثم... (صمت لحظة وهو يقبض على كفيه بشدة قبل أن يتابع بصوت غامض) ثم يأتي القدر ويصدر حكمه بإعدام هذا الحب حينها لن أكون الخاسر الوحيد يا ابن عمي "
كاد عاصم يعقب بشيء لكن زيد قاطعه وهو يحرك رأسه سلباً " لن اظلمها يا عاصم لا يمكنني فعلها بأي فتاة.. كسر الخاطر والفؤاد ليس بالهين وأنا لا أضمن عمري قد... (قطب بحيرة من أفكاره الكئيبة لكنه تابع بغصة خانقة) قد أموت واتركها خلفي كسيرة محطمة.. هذا الموقف صعب جداً جربته مرة حين فقدت أمي و... "
صمت زيد وسالت من عينه دمعه فربت عاصم على كتفه بمؤازرة وهو يقول " لازلت غير متقبل فكرة موته أليس كذلك؟ لازلت لا تستطيع نطق اسمه حتى "
ازدرد زيد ريقه وهو يقول بصوت متحشرج " كيف أفعل وأنا... أنا من حكمت عليه بما حدث له؟ أنا السبب فيما هو فيه؟ "
قطب عاصم بحيرة وهو يقول " فيما هو فيه؟ "
جحظت عيني زيد من الذلة التي نطقها دون شعور فقال بتوتر " أقصد ما حدث له "
ربت عاصم على كتفه من جديد وهو يقول " لا تحمل نفسك فوق طاقتها يا زيد.. ما حدث كان ليحدث على أي حال إنها إرادة الله وقضائه "
اخفى تأثره وهو يقول بشجن " ونعم بالله لذلك أنا لا أتمنى أن أرى أحد في هذا الوضع أبداً "
***
بعد بضعة ساعات قليلة
حينما وصل إلى باب المجلس الذي يتصدره جده كالعادة وصلته أصوات الاعتراض فتيقن أن خبر موافقته على تلك الصفقة البائسة قد وصل لهم مما جعل شعوره بالبؤس والتعب يتضاعف
ألا يكفيه ما ناله من توبيخ منذ قليل وكأنه صبي صغير؟ لقد سمع الكثير ولم يستطع النطق بكلمة اعتراض واحدة وهو يشعر بالغباء من نفسه لأنه لم يتدارك الأمر منذ البداية ويحسن التفكير والتصرف كما كان يجدر به أن يفعل
تنهد وهو يسند رأسه على الحائط المجاور للباب بينما يتذكر محتوى الرسالة التي وصلته منذ قليل والتي كانت بدايتها صاخبة بالتوبيخ
**هل أنت ولد صغير تحتاج إلى التوجيه لكي تقع في خطأ كهذا؟ كيف تخبرهم عن تلك الصفقة اللعينة؟ ألم أخبرك أن الأمر سيظل بيننا يا أحمق؟ أين كان عقلك وأنت تخبرهم وتطلب منهم المشورة وأنت تثق بأنهم سيرفضون خاصة وأنك شخصياً كنت معارضا؟**
حينها شعر بكم هائل من الغباء فكان رده الوحيد
*على ما يبدو أنني نسيت أنك نبهتني أن تلك الصفقة لا يجب أن يعلم أحد عنها لهذا أخبرتهم*
كان رده دون أن يشعر أكثر غباءا مما فعل مما جعل الآخر غضبه يشتد
**نسيت! كيف تنسى أمر مهم كهذا؟ لقد نبهت عليك أكثر من مرة.. هل تريد أن تصيبني بالجنون؟ ستدمر كل ما أفعله.. منك لله يا زيد**
اغتاظ زيد من كثرة التوبيخ فأرسل له ببرود
*هل تدعو عليّ؟ عامة شكراً.. مقبولة منك*
انتظر لحظات طوال ولم يصله أي رد حتى شعر باليأس وكاد يغلق الهاتف لتأتيه رسالة طويلة بعد لحظة أخرى، كانت زاخرة بالتوبيخ والتأنيب والصراخ على ما يبدو
**لو كنت أمامي في هذه اللحظة ما كنت ترددت لحظة في قتلك.. منك لله بسببك أشعر بدنو إحدى النوبات القلبية.. اسمعني جيداً وأقسم لك إن فعلت أي خطأ جديد فلن أخبرك عن شيء آخر ولتضرب رأسك الغبي اليابس هذا في أضخم حائط أمامك ولن يهمني.. أسمع زيد وافهم كلامي ونفذه بالحرف دون أن تضع عليه إحدى لمساتك الفنية فلست في وضع يسمح لي بتحمل المزيد منك.. أظن أن الخبر ما إن يصل إلى الجميع حتى سيواجهونك بموجة عاتية من الغضب ولا استبعد أن يضربك جدك وصراحة لن ألومه بل سيكون سدد لي معروف كبير.. كل ما أريدك أن تفعله هو...*
قطع سيل أفكاره صوت والده الذي وصله بوضوح وهو يحاول تهدئة غضب جده يقول " أهدأ يا أبي حينما يأتي سنفهم منه كل شيء وكما قال عاصم إنه لم يوقع العقد بعد فلا مشكلة حتى اللحظة "
سحب نفس عميق وزفره على مهل وهو يغمغم بحنق " يبدو أن جدي سينفذ أمنيتك ويضربني بعصاه فعلاً.. ليتك هنا أيها المتعجرف لترى قدر المصائب التي تلحق بي بسبب تهورك وينعتني بالأحمق عجباً والله! (سحب نفس عميق وهو يتمتم) توكلت عليك يا ربي "
بعد لحظة كان يدلف للداخل بهدوء وهو يحيي الجميع " السلام عليكم "
ردوا التحية بإقتضاب بينما والده يوجه له نظراته المعاتبة فقابلها بأخرى تشي بقلة حيلته وأن لا يد له فيما يحدث
ما إن استوى في جلسته حتى بادره جده بالسؤال بلهجة حادة " أين كان عقلك وأنت تفكر ولو مجرد التفكير في التعامل مع ذاك الرجل سيء السمعة؟ "
تنحنح زيد وهو يستدعي شجاعته لكي ينهي تلك المعركة قبل أن تبدأ فقال " أنا أعتذر يا جدي.. أعلم أنها كانت فكرة متهورة... "
قاطعه جده بغضب " غبية "
عبس زيد وهو يقول " حسناً فكرة غبية لكنها كما قلت مجرد فكرة وذهبت إلى حال سبيلها "
كان الذهول بادياً على أولاد عمومته من تراجعه السريع حتى هتف ياسين بدهشة " لقد كنت مصراً منذ بضعة ساعات فقط فماذا حدث الآن لتغير رأيك بهذه السرعة؟ "
رد زيد بهدوء " يمكنك أن تقول أنني من ضغط العمل لم أكن في قمة تركيزي وأنا أوافق على تلك الصفقة لكن الآن وبعد أن فكرت مليا فيها وجدتها فعلا غير مناسبة "
عقد حمزة ساعديه أمام صدره وهو يقول ببرود مقصود " لكن الصفقة تبدو مناسبة جداً بل ومربحة للغاية وإنما العيب الوحيد فيمن سنشاركه "
عبس زيد بحنق وهو يرد " لهذا رفضت "
عاد حمزة يقول بنفس النبرة " اعتراضك كان على الصفقة وليس صاحبها "
كان واضحا أن زيد يتحكم في أعصابه بصعوبة حتى لا يصرخ أمام الجميع وظل على صمته لحظات طوال وبعدها قال بإقتضاب " إنتهينا حمزة.. لا الصفقة ولا حتى صاحبها شخصا مناسبا لكي نتعامل معه هل هذا جيد؟ "
ابتسم حمزة بسخرية دون أن يرد بينما قطب خالد بتفكير وهو يميل على أخيه سليم قائلاً بصوت خفيض " يبدو مضغوطا ولا أظن قرار الموافقة كان قراره من الأساس "
تنهد سليم عميقا وهو ينظر إلى ابنه بينما يرد على أخيه " هذا هو ما هداني إليه عقلي أنا أيضاً يا أخي.. أنا خائف عليه "
سأل خالد بكآبة غريبة على طبعه الصارم الشديد المعتاد " على أيهما بالضبط؟ "
أجفل سليم وهو ينظر إلى عينيّ أخيه التي غامتا في بحر من الحزن فرد بصدق " على كليهما "
أشاح خالد بوجهه وهو يقول بنفس الصوت الخفيض وإن تحشرج قليلاً بغصة خانقة " زيد معنا وبيننا لا خوف عليه أما هو... وحيد تماماً بلا أهل أو عائلة تحتويه وتدعمه في حياته "
أطرق سليم رأسه بانكسار بينما خالد يتابع " نحن هنا وهو هناك لا نعلم عنه شيء ولا نستطيع حتى رؤيته.. وكأنه آفة ضارة اقتلعناها من بيننا حتى لا تلوثنا ونبذناها بعيداً "
طرفت عينيّ سليم بالدموع بينما خالد يكمل " أمَّا آن له أن يعود؟ "
تسارعت أنفاس سليم ورد بجزع " ليقتلوه! "
واجهه خالد بنظرات قاسية وهو يرد من بين أسنانه المطبقة " أوَ ليس ميتاً من الأساس؟ "
كان وقع الكلمات على سليم كالخناجر التي تمزق جسده دون رحمة فازدرد ريقه وهو يقول بصوت اختنق بالبكاء " بالله عليك لا تزد يا أخي.. يكفيني ما أعانيه "
لكن خالد لم يصمت بل تابع بنفس القسوة " إن بقيت على خوفك هذا طويلاً ستكون سلبته آخر أنفاس يحيا عليها، ستكون انتزعت بيديك روحه.. لا يعقل بأن يظل في الغربة للأبد.. ألم تشتاق إليه؟ "
قبض سليم على كفيه بشدة وهو يقول بصوت عميق بالشجن " بلى إشتقت.. يكاد يقتلني حنيني وشوقي إليه لكن... "
قاطعه خالد بصلابة يقول " ليس هناك لكن.. دعه يعود "
انتفض سليم في جلسته وهو يهتف بصوت مرتفع دون شعور منه لتلك الأنظار التي إلتفتت له في إهتمام " لا.. لم يحن الوقت بعد يا أخي "
كان الجميع يتبادل نظرات الحيرة فيما بينهما عدا الجد عبد الرحمن الذي فهم حديث ولديه وزيد الذي شحب تماماً كالموتى
كاد عاصم أن يسأل مستفهماً عما يحدث لولا أن هب سليم من جلسته وخرج مطرقاً الرأس وتبعه خالد بعد لحظات بوجوم
***
منتصف الليل / في العاصمة
كانت تقف أمام الباب المغلق بملامح بائسة محبطة وقلب منقبض حزين
يصلها صوتيهما بوضوح وهما يتجادلان في نفس الموضوع الذي باتت تحفظ تفاصيله تماماً
كان الجدال بينهما بين مد وجزر ولم يصلا إلى شاطئ الأمان ليرسوا بسفينتيهما بعد ومع كل هتاف حاد من والدها وصرخت اعتراض من ابنة عمه وزوجته الأولى كانت تغلق عينيها بقوة وكأنها تحاول الإفلات دون جدوى من بين قبضة كابوس مُخيف لا ينتهي
أخيراً تنهدت براحة طفيفة حينما سكتت الأصوات وساد الصمت
ورغم أن ذلك لا يبشر بالخير بل دليل على أن كلاً منهما صمت ليشحن طاقته قبل أن يعاود الهجوم من جديد إلا أنها كانت ممتنة للحظة الصمت التي سادت واختارت تلك اللحظة لتطرق الباب بهدوء ثلاث دقات متتالية خفيفة كما اعتادت قبل أن تمسك بالمقبض وتديره بخفة مندفعة بخفة للداخل
رسمت على شفتيها ابتسامة صغيرة وهي تحييهما ببساطة كما لو أنها لم تسمع شيء من شجارهما منذ لحظة مضت " مساء الخير "
رمقتها مروة بحقد قبل أن تشيح بوجهها عنها في تجاهل تام بينما تنهد أكرم بعمق وهو يشير لها بيده حتى تقترب منه دون أن يتفوه بحرف
اقتربت منه بخفة وهي تشعر بانقباض قلبها يزداد وبتلك القبضة التي تقبض على روحها تشتد أكثر وتعتصرها دون رحمة وما إن وصلت إليه حتى جذبها إليه محيطاً إياها بذراعيه وهو يضمها إلى صدره بقوة
كانت تشعر بأنفاسه الحادة التي تضرب بشرة عنقها وهو يغمر وجهه بين طيات شعرها متمتماً بهمس شديد الخفوت " يا الله كم أحب راحتك! وكم أحبك يا شمسي! "
رفعت ذراعيها تحيط عنقه وهي تبتسم برقة متذكرة أنه أخبرها مراراً أنها ورثت من أمها ملامحها الناعمة وروحها المفعمة بالحياة كما ورثت منها رائحتها العطرة التي كان مدمناً عليها
أخبرها أنها الأحب إليه ورغم أنها ليست ابنته الوحيدة إلا إنها دوماً كانت المفضلة لديه
أجفلت فجأة حينما هتفت مروة من خلفها بصوت ممتعض " لم ننهي حديثنا بعد يا أكرم "
شعرت بتشنجه وزفرته الحارة قبل أن يخفف من قيد ذراعيه من حولها وللحظات ظل أكرم ينظر إليها دون أن يرد على مروة حتى ظنت أنه سيتجاهلها لكنه بعد لحظة أخرى رد بصوت جامد دون أن يحيد ببصره عن ابنته " لكنه بالنسبة لي انتهى "
هتفت مروة بضيق " لا لم ينتهي.. لم تسمعني بعد "
رفع حاجباً ببرود وهو يرد " أظن أنني سمعت ما يكفي يا مروة لذا أقول لكِ بأن الموضوع أغلق تماماً ولا مجال للنقاش فيه مرة أخرى "
صرخت باعتراض " لكن أنا... "
لكنها لم تتم جملتها حينما صرخ أكرم بصوت عالٍ صارم يقاطعها " قلت إنتهى "
قطبت مروة بغضب مكبوت وهي تتمتم من بين أسنانها " حسناً يا أكرم.. كما تريد "
بعد خروج مروة رفعت شمس رأسها تنظر إلى والدها بتوتر وقالت بخفوت " عمتي مروة ليست راضية يا بابا "
ابتسم أكرم ساخراً وهو يرد " ومتى كانت عمتك مروة راضية عن شيء؟ "
قطبت شمس بحيرة وهي تسأله " لا يبدو أنك تنوي ارضائها "
وضع كفيه في جيبي بنطاله وهو يرد بلامبالاة " لم أخطئ في حقها لكي أراضيها "
زادت تقطيبتها وهي تقول " لكنها غاضبة "
حرك أكرم كتفيه وهو يرد بنفس ببساطة " وما الجديد؟ "
خفت صوتها فجأة وهي تقول " بسببي "
حينها قطب بشدة وهو ينظر إليها قائلاً بحذر" سؤال هذا أم تقرير؟ "
رمشت شمس لوهلة ثم قالت بصوت أشد خفوتاً وكآبة " إنه إقرار بالأمر الواقع يا بابا.. عمتي مروة لا تحبني لذا هي تتشاجر معك كل يوم بسببي "
أخرج أكرم يديه من جيبيه ممسكا كتفيها وهو يقول بصوت شديد البأس " أحبتك أم لم تفعل هذا لن يغير من كونك ابنتي، مدللتي ومن يفكر في مسك بسوء فلا يلومن إلا نفسه لأنني لن أرحمه "
تهدل كتفيها بإحباط وهي تقول " أنا لا أريدك أن تتشاجر معها يا بابا.. لا أحب أن أراها حزينة بسببي.. أرجوك لا تفعل "
تنهد أكرم وهو يرد " وأنا لا أريد أن اتشاجر معها يا حبيبتي لكن... حسناً.. لا تشغلي نفسك بنا "
صمت لحظة ثم ابتسم بمكر يقول: " هناك موضوع مهم أريد مباحثته معكِ "
رفعت وجهها إليه بحماس وهي تقول " ماذا؟ "
سحبها أكرم من يدها حتى وصلا إلى الأريكة الوثيرة فجلس وأجلسها إلى جواره وهو يقول بصراحة ودون مواراة " ألم تشتاقي إلى عائلة أمكِ رحمها الله؟ "
رمشت شمس بقوة وهي تقول بحيرة: " وكيف سأشتاق لهم وأنا لا أعرف أي فرد منهم؟ "
قطب أكرم وشرد ببصره وهو يقول " لقد حافظت على قسم رقية لسنوات طويلة لكن لا استطيع الاستمرار أكثر.. أشعر بالذنب لمنعكِ عنهم "
مالت شمس برأسها جانباً وهي تقول بخفوت " وما دخل ماما رحمها الله في هذا الأمر؟ "
زفر أكرم وهو يقول بإقتضاب " سأخبركِ "
اومأت شمس برأسها بخفة وانتظرته أن يتحدث وبعد لحظات صمت طويلة قال " عندما تزوجت من ابنة عمي مروة لم تكن تلك رغبة مني بل إرضاءا لأبي بعدما انتكست حالته الصحية جداً وكانت أمنيته الأخيرة أن يراني مستقراً في حياتي.. (سكت لحظة ثم تابع بصوت متباعد) كانت حياتي تسير بنمط روتيني إلى أبعد حد.. نمط ممل لم يرضيني لأن شخصيتي غير نمطية أبداً ولكنني كنت اتعايش مع الأمر وكأنني أقضي فترة عقوبة على ذنب لا أعرف كنهه "
وضعت كفها على كتفه فعاد بوجهه إليها وهو يبتسم بحنان قائلاً " لكن هذا الروتين لم يدم طويلاً بعدما دخلت أمكِ إلى حياتي واقتحمت كل حصوني "
ابتسمت شمس برقة وهي تقول " وكيف تعرفت على ماما رحمها الله فهي ليست من العاصمة؟ "
حرك كتفيه بخفة يقول " أحد اخوتها كان شريكاً لي في مشروع ما.. كان مشروع كبير وبعد أن تم بنجاح دعاني ذات يوم إلى بلدتهم لحضور حفل زفاف أحد أبناء عائلته وهناك رأيت أمكِ "
تنهد بعمق ثم ضحك فجأة بصوت عالٍ تعجبت له شمس فقالت " علام تضحك بابا؟ ما الأمر؟ "
تعالت ضحكاته أكثر حتى دمعت عينيه ليجيب بعد وقت طويل " المجنونة صفعتني.. أنا أكرم الباسل صفعتني فتاة قزمة لم يصل طولها إلى مستوى كتفي حتى "
رفعت شمس حاجبيها بذهول وهي تقول " هل تقصد ماما؟ "
اومأ إيجاباً من بين ضحكاته فقالت بحيرة " لا تبدو غاضباً من تلك الذكرى "
تنهد بقوة وهو يحاول كبت ضحكاته ثم قال " بالطبع لست غاضباً.. إنها الذكرى الأحب إلي قلبي.. يكفيني أنها كانت أولى الخيوط التي جمعتني بها "
عبست شمس وهي تقول " أنا لا أفهم شيء.. ألم ينتفض كبرياء السيد العظيم أكرم الباسل مطالباً بأخذ ثأره من تلك القزمة التي تجرأت وصفعته؟ "
حرك رأسه سلباً وهو يرد " لا.. للأسف لم يحدث.. حتى أنا شعرت بالحيرة من نفسي.. حينها كان جلّ همي أن أعرف من تكون تلك الفتاة لأنها أعجبتني وليس لآخذ ثأري منها كما تقولين وكان يفترض بي وقتها أن أفعل "
عقدت ساعديها أمام صدرها وهي تنظر له بغموض قائلة " أعجبت بفتاة وأنت متزوج من أخرى.. لا تبدو لي من هذا النوع العابث يا سيد أكرم "
ابتسم أكرم بمكر وهو يقول " وما ذنبي أنا هي المخطئة؟ لم أستطع مقاومتها كانت... "
صرخت شمس بخجل تقاطعه " أبي "
ضحك أكرم وهو يميل عليها مقبلاً وجنتها وهو يقول " هي الأخرى كانت تذوب خجلاً وتتورد من اللاشيء حتى كلمتي صباح الخير مني كانت توترها "
ضحكت شمس وهي تقول " يبدو أن نيتك لم تكن بريئة تماماً وأنت تقولها يا بابا "
غمز أكرم بطرف عينه وهو يرد ضاحكاً " أكيد "
ابتسمت شمس وصمتت بينما شرد أكرم من جديد وهو يقول " عائلة أمكِ في الجنوب كانت تسير على قوانين ثابتة لا يستطيع أحد مخالفتها مهما بلغت مكانته ومن ضمن هذه القوانين ألا تتزوج أي فتاة من خارج العائلة "
ردت شمس ببساطة " لكن ماما فعلتها "
اومأ برأسه بشرود وهو يقول " الأمر لم يتم بتلك البساطة يا شمس لقد طلبتها رسمياً وكنت أعلم بقرار الرفض مسبقاً لسببين.. الأول أنني كنت متزوج ولم أظن أن تقبل عائلتها بي وهي لم يسبق لها الزواج والثاني هو أنها لا يمكن أن تتزوج بي كوني من عائلة أخرى لا تمس لعائلتها بأي صلة ورغم ذلك لم أخفِ رغبتي في الزواج منها لكن... "
صمت أكرم فجأة فحثته شمس على المتابعة بخفوت مترقب " لكن ماذا يا بابا؟ أنا أسمعك "
نظر لها طويلاً قبل أن يتابع حديثه " لكني فوجئت بل صدمت بموافقتهم أو لأكن أكثر وضوحاً بموافقة أخيها خالد والذي كان شريكي "
صمت مجدداً فقالت شمس بصبر " وماذا بعد؟ "
تنهد بإحباط يقول: " لم تهمني موافقته ولم أشعر بالسعادة أبداً حينها لأنها كانت رافضة لقد قالتها صراحة في وجهي *أنا لا أريدك وإن كنت رجلا على حق فغادر حالاً ولا تريني وجهك ثانية* "
قطبت شمس تقول " لكنك لم تغادر أليس كذلك؟ "
عبس وهو يقول " كنت على وشك أن أغادر فعلاً لكني علمت بأن أخاها هددها إن لم تتزوجني فسوف يزوجها من آخر ويبدو أن هذا الآخر كانت ترفضه أكثر مني وبعد ساعة من رفضها لي وجدتها تقف أمامي تتوسلني أن اتزوجها "
قطبت شمس بعدم وهي تقول " وأين والدها من كل هذا يا بابا؟ "
عبس أكرم بضيق وهو يرد " رغم هيبة جدك وسطوته إلا أنه كان يأخذ كثيراً برأي ابنه خالد كونه بكريه خاصة وأنه الوحيد الذي كان يرافقه في كل مكان ويهتم بأمور البلدة أما بقية إخوته فكان جلّ همهم هو دراستهم غير مبالين بما يدور من حولهم "
رمش أكرم بعينيه لبرهة قصيرة قبل أن يتنهد طويلاً وهو يقول بصوت حزين " أتعلمين أنني شعرت حينها بضربة قوية شطرت قلبي نصفين.. شعرت بإهانة شديدة أراقت كبريائي وأنا اسمعها تخبرني بصراحة... *يبدو أن نصيبي العاثر لن يحالفني أبداً وتبدو لي أخف البلايا لذا أنا أقبل الزواج منك ولا أريد أي شيء سوا أن تخرجني من هذه البلدة.. لقد سئمت قوانينهم ولم أعد أطيق أن أظل لحظة أخرى تحت ظلال هذه الدار.. خذني بعيداً أرجوك* "
حملقت شمس في عيني والدها وهي تتمتم بذهول بالغ " قالت أنك أخف البلايا! ماما قالت ذلك وأمامك بهذه البساطة "
زفر أكرم وهو يشيح بوجهه عنها قائلاً " هذا ما حدث بالفعل وكدت... أقسم بالله كنت على وشك صفعها حينها من شدة وقاحتها لكن... (تنهد بعمق وهو يتابع بصوت يحمل الكثير من الشجن) نظرة الرجاء في عينيها غلبت غضبي منها ووجدت نفسي طوع بنانها تطلب فأجيب وتأمرني فأطيع "
ابتسمت شمس برقة وهي تقول بمشاكسة " أنت عاشق من الدرجة الأولى سيد أكرم "
ابتسم وهو يكمل حديثه بهدوء " لم يعارض أبي على فكرة زواجي من أخرى فهو كان يعلم بتلك الخلافات التي لا تنتهي بيني وبين مروة فلم يشأ أن يثقل عليّ أكثر لذا ترك حرية القرار لي "
استرخى أكرم في جلسته واستند برأسه على ظهر الأريكة مغمضا عينيه وهو يتابع بصوت شارد " لم نقيم عرس بناءًا على رغبة أمكِ وبعدما عقد قرآننا مباشرة أتينا إلى العاصمة.. كان أبي أكثر من مرحب بها وقد ألتمس فيها السكن الذي كنت أبحث عنه لكن مروة كانت لا تترك فرصة حتى تهينها وأمكِ كانت صامدة في مواجهتها لا يهزها شيء دوماً كانت رقية ثابتة في تلك المواقف مما زاد فخري وحبي لها "
سألته شمس بحيرة " لم تخبرني بابا على أي شيء أقسمت ماما؟ "
قطب أكرم دون أن يفتح عينيه وهو يرد " رقية حينها كانت غاضبة لكنها كبتت لجام غضبها بصلابة حتى تم عقد القران ثم فاجأت الجميع بقرارها (صمت طويلاً وزادت تقطيبته ليقول بعد ذلك بصوت جامد) وقفت أمام الجميع بتحدي وهي تقول *ها قد تمت الصفقة وربح من دفع أكثر.. هذه أرضكم التي خرجت منها مجرد لاجئة تهرب إلى يد من تشعر أنه سيقدرها أكثر وهذه داركم التي هددتموني فيها حتى أقبل الزواج بغريب متخليين فجأة عن قوانينكم التي ظللتم تتغنون بها منذ قديم العهد والدهر* "
صمت أكرم قابضاً على أصابعه في قبضتين متصلبتين إلى جانبيه قبل أن يتابع ما قالته رقية بغضب مكبوت " *لم أعد أريد منكم لا الأرض ولا الدار ولا حتى صلة الوصل بيننا فقد قطعتموها بسكين ثلم بهذا العقد وأقسم ألا تطأ قدماي أرضكم هذه حتى النفس الأخير في صدري وإن شاء الله وكانت لي ذرية فقسمي جارٍ عليهم أيضاً* "
تشنجت ملامحه بشدة فأشفقت شمس عليه كثيراً من تلك الذكريات السيئة فمالت برأسها تستند برأسها على كتفه وهي تربت على صدره برقة دون كلام
تنهد براحة حينما بدأت شمس في التربيت على صدره وكأنه طفل صغير يبكي فتهدهده أمه ليهدأ
شعر بالسكينة في صمتها ومواساتها له دون كلام، دوماً كانت أقرب إليه من نفسه، تشعر بألمه دون أن يفصح وتهب لنصرته دون طلب
رفع ذراعيه يحيطها بخفة ويضمها إليه أكثر وهو يقول بخفوت وكأنه يخشى أن يبدد لحظات السكون تلك " حينها كان جدك على وشك صفعها أمامي فلم أطيق ذلك ووقفت في وجهه اتحداه أن يفعلها وأنا أصرخ دون خوف أو مهابة له بأن لا حق له في ذلك وأنها أصبحت زوجتي ولن أسمح لمخلوق بمسها بسوء أياً كان ورغم أنها نظرت لي حينها بامتنان إلا أنني كنت أتمنى لو كان حباً "
استمرت شمس في تربيتها الحاني واستمر هو في كلامه " منذ تزوجتها ولم أرفع صوتي عليها قط وهي لم تغضبني أبداً.. دوماً كانت تخفي عني خلافاتها مع مروة ولم أرها يوماً إلا مبتسمة في وجهي.. مهما تأخرت في عملي تنتظرني وإن سافرت لعمل ضروري في الخارج كانت تنهال عليّ باتصالات لا حصر لها حتى تطمئن على أكلي وشربي ونومي وعملي.. لم تكن تفوتها أي صغيرة أو كبيرة تخصني إلا وسألتني بشأنها "
تنهد بشجن وهو يقول " كنت أشعر أني ابنها أكثر مني زوجها وحينما كنت أحب مشاكستها اناديها 'أمي' كنت أظن أن الكلمة ستزعجها كونها فتاة صغيرة لازالت في ريان شبابها فأنتظر أن تهب روح الأنثى بداخلها لتهاجمني لكنها كانت تفاجئني في كل مرة بأن تتقبلها مني برحابة صدر وابتسامة.. يا الله لم أر أجمل منها يوماً إلا حينما أراكِ تبتسمين.. كانت أمكِ تبتسم لي فتشرق شمس صباحي ويتلون نهاري بأزهى الألوان "
ابتسمت شمس وهي تقول بمناكفة " ألم أقل أنك عاشق من الدرجة الأولى؟ ها قد صدق حدسي "
ابتسم أكرم وظل على حالته مغمض العينين وهو يرد " معكِ حق.. أنا كنت ولازلت عاشقاً لأمكِ حتى بعد رحيلها لا أظن ذلك شكل فارقاً أو انتقص من عشقي لها ولو مقدار ذرة "
صمت بعدها وصمتت هي تتأمل ملامح وجه والدها الحبيب وهي تخبر نفسها أنها لو وجدت يوماً عاشقاً مخلصاً مثل أبيها ستخطبه لنفسها بل ستطلب منه الزواج وتحبسه في قفصها وتقصقص أجنحته قبل أن يحلق بعيداً باحثاً عن أخرى
كتمت ضحكتها وهي تصل بتفكيرها إلى تلك النقطة في حين تابع أكرم غافلاً عنها " منذ تزوجنا ولم تذهب لزيارة عائلتها أبداً حتى أنها رفضت رفضاً قاطعاً أن يزورها أياً منهم هنا (تنهد وهو يقول) أخبرتني ذات يوم أنها رغم أنها أحبتني ورغم أنها لا تشعر بنفسها كانت ستكون كاملة وسعيدة مع رجل غيري إلا إنها لا تستطيع أن تغفر لهم ما فعلوا معها.. كنت أمني نفسي بأن هذا رد فعل أو قرار لن يدوم وسيتبدل مع مرور الأيام وأنه مهما بلغ غضبها منهم إلا أن قلبها الحنون المتسامح بطبعه سيلين لهم ذات يوم لكن... "
اختنق صوته وارتعشت أصابعه المحيطة بها وهو يكمل بصوت متحشرج " لكنني لم أتخيل أن تنتهي رحلتنا سوياً بهذه السرعة.. لم أتخيل أن ترحل وتتركني قبل مضي عام على زواجنا.. قبل أن أشبع جوعي إلى حنانها ورأفتها التي تذيب الجليد.. قبل أن انهل المزيد من بحر عشقها الذي لا ينضب ومن أمومتها التي كانت تغدقني بها بدون شروط "
رمشت شمس فانهمرت عبراتها على وجنتيها حينما فلتت شهقة صغيرة مكتومة من بين شفتي والدها قبل أن يتابع بألم " بكيت ليلتها كما لم أبكي من قبل.. كنت ممسكا بكفها اتوسلها أن تجيبني أن... أن تطمئنني ولو بكلمة لكنها لم تفعل.. كنت أتألم بشدة ولم أصدق أنها ظلت صامدة أمام آلام الولادة الصعبة كما اخبرتنا الطبيبة.. أنها ظلت تحارب وتقاوم حتى أتمت مهمتها بنجاح وعلى أكمل وجه فخرجتِ أنتِ إلى النور بينما هي... فاضت روحها إلى بارئها "
فرت دمعة يتيمة من عين أكرم وهو يقول بهمس مختنق " عندما خرجت الطبيبة تخبرني بأن... بأن النبض توقف وحاولوا انعاشها دون فائدة كانت تلك هي نفس اللحظة التي سمعت أحدهم من خلفي يسألني ماذا سأسمي الوليدة فلم أشعر بنفسي سوا ولساني يردد 'رحلت شمسي' كنت مصدوما وبعدها علمت بأن ابن عمي من كان يسألني وحينما سمعني أكرر الكلمة ظنني كنت أخبره بالاسم الذي أخترته لكِ فسماكِ شمس "
شهقت شمس مع انتهاء جملته وانخرطت في بكاء حاد فضمها أكرم إلى صدره أكثر ممسداً على شعرها وهو يقول " لا تبكِ يا شمسي.. لم أخبركِ لأبكيك.. أردت فقط أخباركِ بالماضي لتكوني على علم بكل شيء فأنتِ لم تعودي صغيرة "
تعالت شهقاتها أكثر فتمتم أكرم بخفوت " أنا واثق من أن رقية لو... لو طال بها العمر لكانت عادت إلى أهلها وعائلتها وغفرت لهم وأعادت بينهم الود من جديد لكن... القدر لم يحالفها لذا... "
خفت صوت بكائها قليلاً ورفعت وجهها المغرق بالدموع إلى والدها فقال بحزن وهو يتأمل ملامحها الحزينة " لذا أريد إعادة الود عن طريقك أنتِ يا شمس.. أشعر أن هذا سيريح رقية أكثر بعد مرور كل هذه السنوات فقد أوصتني بأهلها خيراً ولا أظن بأن هناك ما قد أفعله خيراً بهم أكثر من ذهابك إليهم.. يجب أن تزوريهم وتوديهم لأن هذه هي صلة الرحم وأنا لا أقبل بأن أعصي أمر الله ولا أرضى لكِ ذلك "
قالت بصوت متقطع من بين شهقات بكائها " لكن... لكن والد ماما أقصد... جدي أظنه سيكون... أظنه غاضباً من ماما لأنها أقسمت بأن... بأن تقاطعه "
اومأ أكرم وهو ينظر إليها بحنان قائلاً " بالطبع هو غاضبا فجدكِ صعب المراس كأمك رحمها الله تماماً لكن من يمكنه تجاهل قطعة الحلوى المسماة شمس.. ليس هناك شخص عاقل واحد يستطيع أن يظل غاضباً وأنتِ أمامه "
ابتسمت شمس رغم عدم توقف دموعها تقول " أنت تبالغ يا بابا لأنني ابنتك "
حرك أكرم رأسه سلباً وهو يقول " لا والله أقول الحق.. وسترين بنفسكِ أن الجميع سيحبك وأولهم خالكِ خالد "
ارتمت شمس على صدره وهي تحيط عنقه بذراعيها وعادت تبكي من جديد وتشهق وهي تتمتم " أنا أحبك كثيراً يا بابا "
تنهد أكرم وهو يربت على ظهرها بحنو " وبابا يحب شمسه كثيراً "
لحظات وانتفض أكرم غاضباً على صوت ابنه المرتفع في الخارج بينما شمس قطبت ببؤس لنهاية كارثية تعلم مجراها جيداً ككل ليلة يأتي فيها أخاها في ساعة متأخرة من الليل
استقام أكرم بهدوء ما يسبق العاصفة متوجهًا للخارج فهبت شمس من مكانها وهرولت خلفه تتبعه وهي تدعو الله أن تمر تلك الليلة على خير
وقف أكرم واضعاً كفيه في جيبي بنطاله في مواجهة ابنه الذي بالكاد يحاول الوقوف باتزان دون أن يترنح
سأله أكرم بهدوء ظاهري " أين كنت؟ "
قطب أنس وهو يرد ببرود " هل سيبدأ التحقيق اليومي الآن ونحن نقف على الباب؟ ألن تسمح لي بالدخول أولاً على الأقل؟ "
تصلب فك أكرم بشدة وهو يحاول كبت غضبه لأقصى حد وهو يقول من بين أسنانه " تكلم باحترام يا أنس ولا تجبرني على استخدام القوة معك "
زفر أنس بغيظ وهو يرد " حسناً.. ماذا تريد يا أبي لننتهي؟ "
تحرك أكرم مندفعاً بغضب ناحيته لكن شمس أدركته سريعاً وتشبثت بذراعه بقوة وهي تنظر إلى أنس بتهديد صامت حتى لا يتمادى في استفزاز والدهما بينما وجهت حديثها لأبيها " أرجوك يا بابا أهدأ.. أنس لا يقصد "
وقف أكرم مكانه صامتاً للحظة واحدة ثم سأله بإقتضاب " أين كنت حتى الساعة؟ "
عبس أنس وهو يرد ببرود " كنت مع رفاقي "
سأله أكرم بإيجاز " أين؟ "
سكت أنس متوترا ليس من سؤال والده وإنما من نظرة شمس الخائبة وهي تشيح بوجهها عنه
شعر وكأن أحدهم لكمه بعنف حينما رأى تلك النظرة في عينيّ شمس فهي دون الجميع لا يحب أن يرى خيبة الأمل في نظراتها له
أجفل أنس على صرخة والده الحادة " سألتك أين؟ "
ازدرد أنس ريقه قبل أن يجيب بإرتباك " في مقهى لن تعرفه "
رفع أكرم حاجبيه وابتسم ساخراً وهو يقول مشدداً على كلماته " حدد إذا سمحت 'مقهى' لا أعرفه أم 'ملهى' لا أعرفه؟ "
أشاح أنس بوجهه عن والده وهو يرد " قلت مقهى "
تصلب صوت أكرم وهو يقول " هل أنت واثق مما تقول؟ كنت في مقهى يا أنس؟ "
الآن توالت اللكمات عليه تباعاً دون رحمة وهو يسمع اسمه منطوقاً بنبرة عتاب ولوم من أبيه
لا يحب أن يعاتبه والده بهذه الطريقة يتمنى لو يضربه لا أن يعاتبه وأن تصرخ شمس في وجهه أو حتى تشتمه لا أن تخاصمه كما ستفعل الآن في نهاية المطاف
أطرق برأسه للحظات ثم قال كاذباً " أجل كنت في مقهى "
ما إن أنهى جملته حتى استدارت شمس وخطت بعيداً في طريقها إلى صعود الدرج وصولاً إلى غرفتها حيث ستختبئ وتخبأ معها خيبتها ويأسها منه
أراد أن ينادي عليها، يعتذر لها ويطلب منها السماح لكنها كانت قد ابتعدت واختفت وهو لم ينطق بحرف حتى اجفله صوت والده وهو يقول بتهكم " عليك إذن بتغيير ذلك المقهى لأنه مدعاة للشبهة خاصة مع رائحة الخمر التي تنبعث من بين أنفاسك مع كل كلمة تنطقها "
انتهى أكرم من حديثه وشيعه بنظرة لائمة محبطة ثم استدار عنه وابتعد هو الآخر
رفع أنس كفه يتخلل شعره بأصابعه بخشونة وهو يتأفف غاضباً من نفسه لأنه دوماً سبب في اغضاب والده وإيلام شمس
***
بعد ساعة كاملة كان أنس يقف أمام باب غرفتها المغلق يطرقه بهدوء ويناديها ولا تجيبه " أعلم أنكِ لازلتِ مستيقظة يا شمس "
صاحت شمس بغضب وهي تقف متكتفة خلف الباب من الناحية الأخرى " لا أنا نائمة.. هيا أذهب إلى غرفتك "
ابتسم أنس وهو يقول بمشاكسة " إن كنتِ نائمة فكيف أجبتني؟ "
ردت شمس بنفس الغضب " لا شأن لك بي يا أنس.. أنا... أخاصمك "
تحشرج صوتها مع نطقها لآخر كلمة فمال أنس يستند بجبهته على الباب وهو يقول بصوت حزين " وأنا جئت لكي اراضيكي.. هيا افتحي لي الباب "
شهقت باكية وهي تقول " لا أريدك أن تراضيني "
قطب بألم وهو يقول " لكنني أريد.. افتحي الباب يا شمس أنا آسف "
ضربت الباب بقبضتها وهي تهتف بغضب " كل مرة تقول آسف ثم تفعل نفس الخطأ يا أنس.. كل مرة... كل مرة... آه "
هتف أنس بضيق " توقفي شمس.. ستؤذين يديكِ "
ظلت شمس تبكي وتشهق بينما أنس يطرق الباب بحدة وهو يناديها " افتحي يا شمس.. أنا آسف.. أرجوكِ افتحي الباب "
خرج والديه فجأة من جناحهما وقد بدى والده غاضباً بينما أمه كان الحقد يسكن نظراتها وهي تقول " هل ستستمر طويلاً في توسل شمس هانم لتفتح لك باب رحمتها أم ماذا؟ "
نظر لها بجمود وهو يرد ببرود مغيظ " أجل سأظل مستمراً حتى تفتح لي باب رحمتها وإن لم تفعل فلن أرحل ولن أكف عن توسلها "
شعر أكرم بانقباض مفاجئ وهو ينظر إلى أنس، لا ينكر بأنه شاب مجتهد كفء في عمله ، ولا ينكر بأن أنس يكن لشمس مكانة خاصة ومحبة لا يمكن لأخر أن ينافسها عليها رغم أنها ليست شقيقته تماماً
تلك المكانة والمحبة هي ما تجعله مطمئناً على شمس إن تركها يوماً فهو يثق بأن أنس سيحميها ويفديها بروحه لو تطلب الأمر
لكنه غاضب منه ومن أفعاله المتهورة التي لا يكف عنها ولا يتركها إلا إرضاءا لشمس وما هي إلا فترة ويعود لها من جديد
تنهد أكرم قائلاً بإقتضاب لا يعكس دواخله " اذهب إلى غرفتك يا أنس طالما لا تريد شمس أن تفتح لك "
عقد أنس ساعديه أمام صدره وقال بإصرار وهو ينظر إلى أمه بإستفزاز " قلت لن أرحل إلا بعدما تفتح لي الباب واضمها إلى صدري واقبلها وربما رغبت أيضاً في النوم إلى جوارها الليلة "
كتم أكرم ضحكة كادت تفلت منه وهو يرى الشرر الذي بدأ يتطاير من نظرات مروة وهي تهتف بحقد ودون وعي " وهل الهانم ستظل في عملية إذلالك بهذا الشكل طويلاً؟ لا أفهم ما سر تعلقك بها لهذا الحد إنها مجرد فتاة مدللة سخيفة... "
أجفلت مروة وانخرست تماماً على صرخة أنس الحادة وهو يقول " كفى "
نظرت له بذهول وهي تقول " هل تصرخ في وجه أمك لأجل تلك ال... "
صرخ من جديد بصلابة أكبر " قلت كفى.. لا أقبل ولا أسمح لكائن من كان بأن يهينها.. لست متهاونا مع من يمس ما يخصني بسوء ولو بكلمة عرضياً فأرجوكِ لا تكوني أنتِ الأولى يا أمي "
شحبت مروة وهي تقول بصدمة " هل تهددني يا أنس؟ تهدد أمك ولأجل من؟ "
رد أنس ببرود " لأجل أختي "
صرخت مروة بغل " ليست أختك.. لا تقل أختك.. هي ليست ابنتي "
حرك أنس كتفيه بلامبالاة وهو يضع كفيه في جيبي بنطاله بينما يرد بهدوء مغيظ " معكِ حق هي ليست ابنتك لكنها اختي رغماً عني وعن الجميع يا أمي وليس معنى أنني وشمس لسنا من نفس الأم أننا لسنا أخوة فعلى ما يبدو أنه قد فاتك أن كوننا من نفس الأب سبب ودافع ورابط أقوى يجعل منا أخوين "
دون أن ينتظر منها رد كان يستدير ويطرق الباب وهو يقول بغيظ طفولي " افتحي الباب حالاً يا شمس وإلا أقسم س... "
قطع حديثه فهتفت شمس من الداخل بغيظ " س... ماذا؟ تابع سيد أنس أنت تثير اهتمامي جداً "
ضرب الباب بعنف وهو يصرخ " سأكسر الباب يا شمس.. إن لم تفتحي سأكسر الباب وسيقع فوقكِ وأنتِ تقفين خلفه فيتحطم رأسكِ ويتشوه وجهكِ وتصبحين بشعة "
صرخت شمس في المقابل وهي تضرب الباب بقبضتها " لن تفعل... آه "
صرخ أنس بغضب " توقفي عن ضرب الباب بقبضتك.. يا غبية الباب صلب وقبضتك رقيقة ستتأذى ولعلمك يا شمس.. سأفعل "
فتحت الباب بقوة وهي تهتف بشراسة " هيا أرني كيف ستحطمه "
لمعت عيني أنس ببريق النصر وهو يمسك معصميها هاتفاً بحماس " وما حاجتي لكسر الباب طالما فتحتي الباب بوداعة وأدب يا حمقاء؟ "
حاولت الإفلات منه دون جدوى فصرخت بغيظ " أنت مخادع.. اتركني أنس أنا اخاصمك "
نظر إلى وجهها العابس ببراءة وهو يقول " ألا يمكنكِ أن تمنحيني قبلة المساء وتخاصميني بدءاً من الغد؟ "
زفرت بغيظ منه قبل أن تميل على وجنته تقبله بسرعة وهي تقول " هل إنتهينا الآن؟ "
برم شفتيه بغير رضا وهو يقول " لا بأس بها (ثم أفلت يدها وهو يبتسم بحنان قائلاً) تصبحين على خير يا شمسي "
تنهدت مبتسمة وهي تقول " وأنت بخير يا أخي "
***

في ذات التوقيت / بالمدينة الجبلية في الجنوب
في عتمة الليل ووحشته الكئيبة كان يقف كالطود على جواده ، منتصب الظهر بثبات دون أن يرف له جفن، حدقتيه تدوران في المكان الفسيح الذي يقف فيه وهو يحاول ترصد أي حركة أو صوت دون جدوى
كان كل شيء ساكن من حوله ولا هدير عالٍ سوا أنفاسه المتسارعة
وفجأة ومض ضوء خافت على بُعد منه فضيق عينيه قليلاً وهو ينظر إلى ذاك الضوء محاولاً إكتشاف مصدره لكن طول المسافة نسبياً بينهما لم يساعده في ذلك مما جعله يعيد اللثام على وجهه من جديد قبل أن يشد اللجام الذي يمسك به بقبضة قوية فيصهل الجواد في استجابة له قبل أن يعدو به منطلقاً نحو مصدر الضوء
بعد دقائق معدودة كان قد وصل إلى وجهته فرفع وجهه إلى السماء يزفر بغضب مكبوت وهو يدعو الله في نفسه " يارب خيب ظني فلا أعلم إن صدق حدسي ماذا سيكون رد فعلي؟ يارب لا تجعل جحيم الماضي يؤثر عليّ.. يارب "
بضع خطوات أخر وتوقف تماماً عن الحركة وهو ينظر إلى الرجل العجوز الذي يفترش الأرض ودموعه تغرق وجهه
بصبر سحب نفس عميق ثم زفره على مهل قبل أن يقفز من فوق ظهر الجواد برشاقة ويتقدم بخطى هادئة قائلاً بخفوت حتى لا يجفل العجوز " السلام عليك عماه "
رغم خفوت نبرة صوته وهدوئها إلا أن الرجل أجفل بشدة وهو ينتفض في جلسته هاتفاً بصوت أقرب إلى الصراخ " ماذا تريد؟ أنا لم أؤذي أحد.. ابتعد "
أغمض عينيه للحظة قصيرة ثم فتحهما ببطء وهو يحدق في الرجل العجوز مطيلاً النظر إليه مما جعل الأخير ينكمش على نفسه قائلاً بصوت مرعوب " من أنت؟ أنا لم أؤذي أحد.. أقسم لم أفعل "
أخيراً وبعد صمت طويل تكلم الشاب الملثم قائلا بهدوء تام " وهل اتهمتك بشيء يا عماه؟ "
حرك العجوز رأسه سلباً وملامحه متشنجة خوفاً وهو يتمتم " من... من أنت؟ "
التفت الشاب بخفة حول نفسه وهو يتجاهل سؤال العجوز قائلاً بنفس نبرته الهادئة حد الغيظ " ماذا تفعل وحدك هنا في هذا المكان المقفر والجو البارد؟ "
سكت العجوز للحظات ثم رد بإرتباك حينما عاد الشاب الملثم ينظر له بنظرته الثاقبة من جديد " ليس... ليس لي مكان آخر أذهب إليه.. أنا هنا منذ بضعة أيام فقط ولم... ولم ازعج أو أؤذي أحد "
اومأ الشاب برأسه وهو يؤكد كلام العجوز بثقة تامة محدقا في عينيه بجمود " بالطبع لم تفعل وإلا لكنت عرفت بذلك ثم من ستؤذي في مكان خالي كهذا لا تطأه أقدام بشر؟ "
عادت حدقتي الشاب تدوران متأملة في المكان الخالي شبه المعتم الذي يقف فيه وكأنه يبحث عن شيء ما حتى تنبه على صوت العجوز يكرر سؤاله " لم تخبرني من أنت؟ "
زفر بحدة لسبب مجهول قبل أن يعيد بصره للعجوز قائلاً " هويتي لن تفيدك في شيء.. أخبرني ما إسمك يا عماه؟ "
قطب العجوز وهو يرد " عمران "
سأل الشاب بإهتمام " لا أظنك غريب عن البلدة.. من أي عائلة أنت يا عماه؟ "
زادت تقطيبة عمران دون أن يرد عليه فقال الشاب بصبر " انتظر ردك يا عماه.. من أي عائلة تكون؟ "
رد عمران بعد لحظة " هويتي لن تفيدك في شيء "
ارتفع حاجبي الشاب قليلاً ثم قال بشيء من اللامبالاة " لعلمك فقط أنا أعرفك "
نهض عمران من مكانه واقترب من الشاب بحذر وهو يقول " إن كنت تعرفني فما الداعي لسؤالك؟ "
رد الشاب ببساطة يخفي لهيب مشاعره في تلك اللحظة وهجوم ذكريات جاهد لكبتها " مجرد تأكيد ليس إلا "
صهل الجواد فجأة بقوة فاستدار الشاب على عقبيه ينظر حيث يصهل جواده ثم قال بعجلة وهو يعتلي جواده الأدهم " سأرسل لك أحد بعد قليل فأذهب معه حيث سيأخذك ولا تخف.. لك الأمان.. أراك على خير يوماً ما عماه "
ركض الشاب منطلقاً بجواده بعيداً والعجوز يشيعه بنظرات حائرة قبل أن يتمتم بشجن " سبحانك ربي لا تضيع عبادك أبداً ومن بعد وحشة اليأس تمنحنا سكينة الفرج "
***
أخيرا وفي نفس اللحظة وصل زيد إلى وجهته التي كان يقصدها ووقف على فرسه ينظر أمامه حيث ابن عمه بغضب مكبوت
بصوت قوي وقد زال به كل لمحة هدوء كان يهتف بضيق " دوماً حظك لا يحالفك يا ابن عمي "
قطب ياسين بضيق وهو يواجهه قائلاً " ماذا تفعل هنا في تلك الساعة؟ "
هتف زيد بصوت جاد " هذا السؤال من المفترض بي أنا أن أوجهه لك.. ماذا تفعل هنا يا ابن عمي؟ أو لأكون أكثر تحديداً من تنتظر هنا في تلك الساعة؟ "
ارتبك ياسين للحظة ثم أشاح بوجهه عنه وهو يحاول أن يخفي عنه توتره بينما يقول " لا أنتظر أحد.. أنا شعرت بالضيق فخرجت من الدار لكي... لكي أسير قليلاً وحدي "
رفع زيد حاجبيه بسخرية وهو يقول " سبحان من خلق الملكوت وأبدعه وخلق الصدف وجمعها! عجيبة تلك الصدفة فعلا وخاصة أن ملك شعرت بنفس الضيق فخرجت من الدار هي الأخرى لكي تستنشق الهواء الطلق في الخارج بل لأكون أكثر دقة في نفس المكان الذي قصدته أنت "
زاد توتر ياسين فهتف بحنق " بماذا تهذي أنت؟ انتبه لكلامك زيد فهو ليس بهين "
كانت نبرة زيد القوية أكثر سطوة من كافة الصراخ والهتاف وهو يقول " أنت من عليه الانتباه لكلامه ليس أنا... (رفع رأسه بشموخ وهو يتابع باعتداد) لست أنا من يهذي وأنت تعرف ذلك جيداً "
زفر ياسين واصابعه تتقبض بتشنج وهو يقول " ماذا تريد؟ "
رد زيد بصوت بارد " وجه سؤالك لنفسك أولاً يا ابن عمي وأعرف إجابته.. ماذا تريد من ملك؟ "
انتفض ياسين بغضب وهو يهتف " لقد تخطيت حدودك كثيراً يا زيد وأنا لا... "
قاطعه زيد بسخرية " وهل أكذب؟ "
زفر ياسين بضيق وهو يرد " أنا لم أطلب منها أن تلحق بي إلى هنا ولا لأي مكان آخر "
زفرة حادة خرجت من بين شفتي زيد قبل أن يقول من بين أسنانه " هذه هي المصيبة.. أنت لم تطلب منها لكنها تلاحقك وأنت لم تمنعها أبداً مما يجعلها تتمادى أكثر "
هتف ياسين بيأس شديد " ماذا تريدني أن أفعل؟ أنا أحبها "
أجفله صوت زيد وهو يقول بحدة " إن كنت تحبها حقاً فأذهب إلى جدها واخطبها منه.. أما غير هذا فيعد خطئا محسوبا عليك قبلها حتى وإن لم تفعل أو تشجعها على شيء "
زفر ياسين دون رد وقد غمره شعور بالحرج والخزي من تصرفاته الصبيانية الغير محسوبة لكنه كان تائه ولا يعرف أي السبيل يسلك.. حائر ولا يعرف الطريقة الصحيحة التي يجب أن يتصرف بها مع ملك حتى يصل معها إلى بر الأمان
بعد لحظات صمت في سكون الليل قال ياسين بصوت متعب " سأعود للدار.. أحتاج إلى النوم بشدة "
رد زيد بإيجاز " حسناً "
لم يكد ياسين أن يسير خطوتين حتى توقف فجأة وهتف بقلق " قلت أن ملك خرجت من الدار فأين هي إذن؟ ماذا حدث معها؟ "
قطب زيد وهو يرد ببرود " ملك في مكانها الصحيح حيث يجب أن تكون.. إنها في الدار.. لقد أعدتها بنفسي دون أن يشعر أحد بخروجها وحدها في تلك الساعة المتأخرة "
تنهد ياسين براحة وهو يقول " الحمد لله.. تلك الغبية تحتاج لصفعة تفيقها من طيشها "
رد زيد متمتماً بنفس البرود وهو يستدير بفرسه بخفة " ليست وحدها من تحتاج لصفعة حتى تفيق وإن كانت تحتاج إلى كسر عنقها على وقاحتها "
تذكر فجأة تلك الرسالة التي وصلته قبل وصوله إلى ياسين والتي كانت كلماتها تصرخ غضباً جعله يعرف في أي حال صاحبها الآن
**لقد سئمت التغطية على أفعالكم جميعاً بمن فيهم أنت وكأنني شبح يطارد الكون بمن فيه حتى يزيل آثار خباياكم واخطائكم**
ودون كلمة أخرى كان ينطلق بفرسه سالكاً طريق العودة إلى الدار
***
بعد ساعة دخل بملامح هادئة لا تعبر عن شيء ولا تفصح عن مكنون خلده وأفكاره
كان الصمت والسكون يعم الدار فعلم أن الجميع بالتأكيد قد خلدوا للنوم فتنهد شاعراً بالراحة
لكن خطوة.. اثنتين.. ثلاث ثم توقف في مكانه للحظة وهو يسحب عدة أنفاس يملئ بها رئتيه، أنفاس كانت محملة برائحة الطيب الذي يبث في روحه السكينة
شبح ابتسامة ظهر على شفتيه وهو يتمتم بهمس به لمحة من الشجن " ومن سواك يا أبي ينتظرني مهما تأخرت؟ "
أكمل خطاه بهوادة وكأنه يعد خطواته حتى وصل إلى الدرج فتسلقه بهدوء كذلك حتى وصل إلى تلك الغرفة الجانبية التي يتخذها والده مصلى وعزلة له عن الجميع
كان الباب مغلق لكن صوت والده العذب وهو يتلو آيات القرآن الكريم تشعرك وكأن كل الأبواب مفتوحة على مصراعيها، تناديك بأن تقتحمها دون مقاومة منها، تطلب منك سلكها ببساطة دون تعقيد
أغمض عينيه للحظة ثم فتحهما متنهداً بقوة قبل أن يطرق الباب ثلاثاً ويمسك بمقبض الباب يديره بخفة قبل أن يدلف للداخل مغلقاً الباب خلفه
كان والده يجلس في ركن قصي من الغرفة وفي يده مسبحته البيضاء يحركها بين أنامله بخفة مع صوت تمتماته الخافتة
ما إن دخل حتى رفع والده رأسه إليه ونظر له مبتسماً وهو يشير له بكفه ليقترب منه دون كلام
دون تردد اقترب منه وجثى على ركبتيه أمامه وهو يميل ليلثم كتفه قائلاً " السلام عليك يا أبي "
قبل سليم جبينه وهو يرد بحنان " وعليك سلام الله ورحمته وبركاته يا ولدي.. تأخرت الليلة "
تنهد بإرهاق وهو يعتدل في جلسته أمام والده مجيبا بهدوء " لقد طرأت لي بعض الأمور وكان عليّ حسم الأمر فيها دون تأخير "
ابتسم سليم وهو يسأله " وهل وفقك الله فيها؟ "
حرك كتفيه بخفة وهو يرد " أظن ذلك فدعواتك تلاحقني أينما أكون يا أبي "
اتسعت ابتسامة سليم وهو يقول " بالطبع ستلاحقك فقد وكلتها بحراسة ولدي الغالي وأتمنى أن تكون على قدر ثقتي بها فتحميك "
أطرق برأسه دون رد فقال سليم بقلق " ما بك يا زيد تبدو مهموما؟ "
رفع زيد رأسه ونظر إلى والده بإقتضاب قائلاً " لقد وجدنا العم عمران الناصر يا أبي "
قطب سليم بحيرة يقول " الحمد لله.. هذا خبر جيد لكنك تبدو منزعجاً "
قبض زيد على كفيه في قبضتين قويتين وهو يرد بضيق " حينما مررت عليه قبل قليل وجدته يبكي فلم أستطع أن أكلمه حتى "
زفر بحدة وهو يضيف " لا أصدق أن هناك ابن قد يفعل ما فعله ذاك الحقير بوالده.. لقد تطاول عليه وضربه يا أبي.. أي نوع من الأبناء هو ذاك ال... ال... استغفر الله العظيم.. أشعر بأنني سأموت كمدا وقهرا إن لم أقتله... "
قطع حديثه مجفلاً وذاهلا حينما انفجر والده في الضحك بصخب على غير عادته الرزينة
رمش مراراً وهو ينظر إلى والده حتى وجد نفسه يبتسم تلقائياً وهو يضيق عينيه قليلاً بينما يقول مناكفاً " ما الذي يضحكك هكذا يا سليم؟ اضحكني معك أم أنني لا حظ لي سوا في البؤس والحزن من هذه العائلة؟ "
دمعت عيني سليم من شدة الضحك فكانت يد زيد الأسرع وصولاً إلى وجهه وهو يمسح دمعاته بلطف شديد وحينما هدأت ضحكات سليم قال بابتسامة حنونه " حفظك الله للضعفاء يا ولدي "
غمغم زيد لنفسه بخفوت " بل حفظه هو للضعفاء يا أبي فلست أنا من وجد العم عمران من الأساس "
تنهد سليم قبل أن يضيف دون أن يلاحظ تمتمة زيد الخافتة " لكن تمهل قليلاً وأحذر من اندفاعك في ردود أفعالك.. يكفي واحد يا زيد "
قطب زيد وهو يقول بامتعاض " بالمناسبة هذا ال 'واحد' منزعج وبشدة "
ابتسم سليم بشجن وهو يرد " ومتى لم يكن هكذا؟ لقد أتى إلى الدنيا على هذا الحال "
صمت زيد دون تعقيب بينما تنهد سليم وهو يقول مغيراً الموضوع " ملك كانت في الخارج.. لقد رأيتها وهي تدخل الدار لكني لم أكلمها "
قطب زيد وهو يتذكر الرسالة الثانية التي وصلته في طريق عودته للدار
**إن أكتشف أحد ما فعلته تلك الحمقاء وسألك عن الأمر فتصرف بحكمة ورد بإيجاز دون أن تفصح عن الكثير حتى نجد لرعونتها حل ونضع لها حدا**
تنحنح بتوتر وهو يرد " لم تكن وحدها يا أبي ولم تبتعد كثيراً وقد أعدتها بنفسي إلى الدار لكنني لم أتمكن من الدخول معها بسبب أمر طرأ لي فجأة كما قلت لك "
أطرق سليم برأسه وهو يتلاعب بحبات مسبحته بين أنامله بينما يقول " هناك ما لا تريد الإفصاح عنه أليس كذلك يا ابن سليم؟ "
تنهد زيد بعمق وهو يرد بإيجاز " أجل "
ابتسم سليم وهو يربت على كتفه قائلاً " لا بأس بني يمكنك إخفاء ما شئت.. أنا أثق بك "
تنهد زيد وهو يطرق رأسه ناظراً لحظات المسبحة التي تتحرك بخفة بين أنامل والده وهو يحدث نفسه بشجن " ليتني إحدى حبات مسبحتك يا أبي.. تتنعم بدفئك ولا تغادر يدك أبداً "
عاد سليم إلى ملكوته الخاص وتمتماته بالذكر تسكب السكينة والراحة في نفس زيد المهمومة وظلا هكذا لقرابة الساعة
بعد مضي وقت طويل التفت سليم إلى ابنه فوجده يقف أمام النافذة ينظر للأفق البعيد بنظرة شاردة فناداه بلطف حتى لا يجفله " زيد! "
رمش زيد لبرهة ثم التفت برأسه إلى والده يرد بهدوء " نعم أبي "
ابتسم سليم وهو يقول " هل انتهيتم من ترتيبات العرس؟ "
عبس زيد بينما يرد " أظن ذلك رغم أن الفنانة لا تكف عن التذمر كل لحظة مطالبة بتعديلات لا أعرف من أين تأتي بها "
ضحك سليم بخفوت فتابع زيد بغيظ " لو كانت عروسي كنت طلقتها ثلاثاً وهربت منها أقسم بالله "
انفجر سليم ضاحكاً بينما زيد زم شفتيه عابساً وهو يعود ببصره إلى النافذة من جديد
بعد لحظات قال سليم " من حقها يا ولدي فهي العروس ويجب أن تنال كل الترتيبات رضاها.. إنها ليلة العمر ولا تتكرر "
بنفس العبوس رد زيد " هذا لا يعطيها الحق حتى تتذمر على كل شيء ولا شيء.... أكاد أجن بسببها "
ابتسم سليم وهو يقول " وماذا عن حمزة؟ "
رد زيد ساخراً " لا ينطق بكلمة وكأنه أصيب بالخرس كل ما يفعله أن يتأفف ويعبس في وجوهنا "
تنهد سليم وهو يقول " إنه يحب زهراء كثيراً ولا يريد أن يفسد عليها فرحتها كأي عروس لذلك يحتملها دون شكوى "
عقد زيد ساعديه أمام صدره وهو يرد متذمراً كطفل صغير " وما ذنبي أنا لأتحمل عبوسه وجنون عروسه؟ هل أخبرك سراً أبي؟ أنا لا أحبهما هل هذا مبررا كافيا لكي أتهرب منهما ومن عرسهما؟ "
ضحك سليم وهو يهز رأسه سلباً فزفر زيد حانقا وهو يقول " أنت تتخذ صف أبناء اخوتك يا سليم.. تقف معهم ضدي وهذا خطر عليك ففي لحظة لن أتوانى عن أخبار الحارس الحامي خاصتي ليرى العقاب المناسب لك (رفع سبابته وهو يشير الى والده بعبوس زائف) ها أنا احذرك "
أوشك سليم على الرد لكن صوت طرقات أحدهم على الباب قاطعه ليقول بهدوء " أدخل "
دخل حمزة ومن خلفه زهراء وكلاهما عابسين فنظر زيد إلى والده بطرف عينه وكأنه يقول
' ألم أخبرك أنَّ عليّ الهرب منهما؟ '
ابتسم سليم وهو يشير إلى زهراء لتدنو منه بينما قال حمزة " السلام عليكم "
رد زيد بخفوت دون أن ينظر إليه بينما ابتسم سليم بهدوء قائلاً " وعليك السلام يا ولدي.. لماذا لازلت مستيقظا؟ "
رمق حمزة زهراء بطرف عينه قبل أن يرد " كنت اتناقش مع زهراء في عدة أمور "
هز سليم رأسه بهدوء وهو يقول " وهل أثمر النقاش بينكما على خير؟ "
أراد حمزة أن يصرخ ب ' لا ' لكنه بدلاً من ذلك تمتم من بين أسنانه " تقريباً "
حينها رمقه زيد بنظرة ساخرة وهو يقول موجهاً الحديث لوالده " ألا ترى يا أبي بشارة الخير تكسو وجهه البشوش ما شاء الله؟ "
عبس حمزة بغيظ دون أن يرد بينما كتم سليم ضحكته في حين قالت زهراء بحزن " تصور يا عمي لا يريد أن نسافر إلى فرنسا في شهر العسل؟ "
رد سليم بمهادنة " ربما كان يريد اختيار مكان آخر ليس شرطاً أن تقضي شعر العسل في فرنسا "
ابتسم حمزة ساخراً وهو يقول " أخبرها يا عمي فقد مللت من محاولة اقناعها دون جدوى.. ألن يكون شهر عسل إن لم نذهب إلى فرنسا؟ "
هتفت زهراء بذهول وكأنها تخاطب مجنون " بالطبع لن يكون.. ألا تفهم؟ أنا أريد زيارة باريس مدينة العشاق ولن أقضي شهر عسلي في مكان أخر "
قطب حمزة وهو يقول باستنكار " مدينة العشاق؟ حقاً! لكن عمي سليم كان عاشقاً ولم يذهب إلى باريس في شهر عسله حتى حفصة وعاصم لم يذهبا إلى باريس هل هذا يعني أنهم ليسوا عاشقين أم أنهم لم يستمتعوا بشهر عسلهم الموعود؟ "
زمت زهراء شفتيها وهي ترد بعناد " لن أقضي شهر العسل سوا في فرنسا "
تمتم حمزة بتهكم " عسل! وأين هو العسل يا حسرة؟ لا أرى أياً من بوادره "
جحظت عيني زهراء وهي تقول " ماذا تقول يا حمزة؟ أنت... أنت لا تحبني "
أنهت كلماتها وانخرطت في البكاء فزفر حمزة بيأس وهو يقترب من زيد يقف إلى جواره أمام النافذة واضعا كفيه في جيبي بنطاله وكلاهما ينظران للخارج
كان سليم يهدئها ويحاول مناقشتها بلطف في حين تمتم حمزة بخفوت " هذا ما نأخذه من الحب "
رمقه زيد بطرف عينه وهو يقول متنهداً بنفس الخفوت " لازلت في بداية الطريق.. عليك بالصبر أكثر فقد فات الأوان.. لا يمكنك الندم الآن ولا حتى التراجع "
تنهد حمزة وهو يلتفت ناظراً إلى زهراء بهيام رغم كآبته وهو يقول " أنا لا أنوي التراجع في أي لحظة ولا أشعر بالندم أبداً لكن المشكلة أنني تعبت يا زيد.. كل ما أريده أن تكون زهراء أكثر تفهما "
ربت زيد على كتفه قائلاً " زهراء طفولية جداً لذلك يصعب ارضائها بسهولة لكنها هي الأخرى تحبك جداً وهذا وحده كافياً ليطمئن قلبك.. صدقني مهما عاندت في البداية سترضخ لك ولما تقرره في نهاية الأمر "
لم تمر لحظة حتى هتفت زهراء بنبرتها الطفولية بحماس " لِمَا لا؟ فكرة رائعة وأنا موافقة "
نظر حمزة إلى عمه بترقب وهو يقول " علام اتفقتما عماه؟ "
ابتسم سليم وهو يقول " زهراء وافقت على قضاء شهر العسل في أي بلد ستختارها أنت على أن... "
قطع سليم كلامه فجأة فحدق فيه حمزة بحذر وهو يقول " ماذا بعد؟ "
أكملت زهراء بسعادة " حينما يقرر زيد الزواج ويقيم العرس فسوف نذهب معه أثناء رحلة شهر عسله "
هتف حمزة بذهول " نذهب معه! "
في نفس اللحظة هتف زيد مستنكرا " شهر العسل خاصتي؟ من سيذهب معي؟ "
ابتسمت زهراء بسعادة وهي تقول " أنا وحمزة سنذهب معك وهكذا سأحظى برحلتين شهر عسل بدلاً من واحدة وسأسافر مرتين بدلاً من مرة واحدة "
قال زيد من بين أسنانه " فكرة من هذه؟ "
أشارت زهراء على عمها وهي تقول " فكرة عمي سليم.. أليست رائعة؟ "
رفع زيد حاجباً بغيظ ولسان حاله يقول
' تماديت يا سليم وقد أخبرتك أن انحيازك إلى صف أبناء اخوتك خطر عليك '
كتم سليم ضحكته وقد فهم ما يفكر فيه ابنه بينما قال حمزة بعبوس " لا يصح أن نشاركهما.. كل عروسين يحتاجان إلى بعض الخصوصية في تلك الرحلة "
ابتسمت زهراء وهي تقول ببساطة " سنسافر معهما ونقيم في أي فندق آخر غير ما سيقيمان فيه وهكذا لن نزعجهما إطلاقاً وسيحظيان بكل الخصوصية "
رفع زيد حاجبيه بذهول وهو يقول " هل تتحدثان جدياً في رحلة شهر العسل خاصتي بل وخصوصيتي أنا وعروسي التي هي وللعلم مجهولة حتى اللحظة وقد لا تكون هناك عروس من الأساس في حين أن الزفاف الذي سيقام قريباً يخصكما أنتما؟ "
ردت زهراء ببساطة " لا تقل هذا.. ستتزوج إن شاء الله قريباً جداً ومن عروس غاية في الجمال "
فتح فمه ينوي الحديث ثم اغلقه ثانية وهو يشعر بالذهول حتى تمتم بعد لحظات " سأذهب لغرفتي قبل أن أفقد الجزء الصغير المتبقي من عقلي الذي قضيت عليه تلك العائلة المجنونة.. تصبح على خير يا أبي وانتما... لا "
ضحك سليم وهو يرد " وأنت بخير يا بني "
فتح زيد الباب ليغادر لكنه التفت لهم مرة أخرى وهتف بحنق " هل يمكنني أن أطلب منكما طلب صغير؟ "
عبس حمزة بينما قالت زهراء مبتسمة " بالطبع.. أي شيء "
هز زيد رأسه بيأس قبل أن يهتف بغيظ " هلا تبرأتما مني؟ ستكون هدية تاريخ مولدي لهذه السنة وسأتقبلها منكما شاكراً أقسم بالله "
خرج بعدها صافقاً الباب من خلفه وضحكات سليم تتبعه في حين قطبت زهراء بحيرة تقول " هل جن تماماً؟ خسارة والله كان من زينة شباب العائلة "
***
وصل إلى غرفته يشتم في سره حمزة وزهراء وذلك الزفاف وبقية أفراد العائلة
مزاجه مكدر لا لسبب سوا أنه للمرة التي نسى عددها قد فشل في لقائه ، ها هو يأتي إلى البلدة ويرحل دون أن يراه وجهاً لوجه
يحمل بداخله الكثير من التساؤلات التي يريد إيجاد حلول وتفسير لها ومع تهرب ذاك المستفز من لقياه لا يجد سبيلا لحل شفرة تلك التساؤلات
جلس على طرف الفراش مطرق الرأس وبضعة دمعات تفر من عقال محبسها منهمرة على وجنتيه بحرقة وهو يتمتم " ألن تسامحني؟ ألن تغفر لي؟ أخبرني ماذا أفعل لترفع حاجز الماضي الذي يفرق بيننا ويحول بيني وبين رؤياك؟ لكم أشتاق إليك كثيرًا.. أخي "
فجأة أضاءت شاشة هاتفه الملقى إلى جواره برسالة نصية فسارع بالتقاط الهاتف وفتحه يقرأ الرسالة بلهفة
**أتمنى أن تكون أنجزت ما طلبته منكَ دون أخطاء**
كاد يسب ويلعن وهو يشعر بأحشائه تتفتت من الحرقة والألم، ها هو يرسل له بضعة كلمات مقتضبة موجزة للإطمئنان على سير الأمور التي سبق واطمئن أنها تسير كما خطط لها
سحب نفس عميق وزفره على مهل في محاولة منه لتهدئة أعصابه المحترقة بعدها كتب
*لا تقلق.. كل شيء يسير حسب اوامرك هل هناك شيء آخر؟*
أتاه الرد دون تأخير
**لا.. ليس بعد**
زم زيد شفتيه يمنع نفسه بصعوبة من التلفظ بسباب تليق بذلك المتعجرف البارد وهو يكتب بغيظ
*حسناً.. أين أنتَ الآن؟*
انتظر الرد طويلاً حتى أتاه بعد دقائق متمثلا في كلمتين موجزتين لا تعبران عن شيء
**في الطريق**
جحظت عينيه بغضب مكبوت وهو يتمتم " هل يريد اصابتي بالجنون أم ماذا؟ "
دون أن يتحكم في نفسه كتب ما يعبر عن غيظه وضيقه
*تباً لكَ*
أتاه الرد باردا كمحتواه
**أخلاقك أصبحت متدنية جداً**
***
على الجانب الآخر
كان يحدق في الطريق أمامه بعينين صقريتين غائمتين في بئر سحيق لا قرار له من الغموض
كانت نظراته القاتمة تنهبان الطريق كعجلات سيارته في تلك اللحظة
عقله لا يتوقف عن التفكير ورغم أن أفكاره متفرعة لعدة موضوعات وتشمل أكثر من جانب وجهة إلا إنه بحكمة ومهارة يمسك لجامها جميعا في قبضة يده
أجفل من أفكاره على صوت هاتف يوسف وقد علا رنينه فجأة فألتقطه الأخير من جيبه مجيبا " السلام عليكم "
ردت مريم بهتاف حانق " وعليكم السلام.. كم الساعة الآن يا بك؟ "
قطب قليلاً وهو ينظر إلى ساعة معصمه قبل أن يرد ببساطة " الواحدة صباحاً "
عادت تصيح من جديد " نعم الواحدة صباحاً ولازلت في الخارج "
زفر بإرهاق يقول " اهدئي أرجوك لا داع لكل هذا.. أنا لست ولدا صغيرا "
صمتت للحظة وقالت بعدها بحزم أمومي " حينما تصل أصعد مباشرة لشقتنا أريد رؤيتك قبل أن تنام.. مفهوم؟ "
تنهد بإحباط يقول " حاضر "
قالت هي بإقتضاب " في أمان الله "
أغلق الخط وهو يتمتم بيأس " حتى متى ستظلين تعاملينني كطفل صغير؟ اقسم بالله أنا كبرت "
بعد لحظات إلتفت يوسف إلى صديقه قائلًا " لماذا لم تخبره أنني كنت معك في المدينة؟ "
رد الآخر بلامبالاة " لا أريد لأحد أن يراك.. هذا أفضل لأجل سلامتك وأمانك ولا تنس أنه يظن بأنك أنت من وجدت العم عمران وأنك من تراسله "
ابتسم يوسف بمحبة يقول " بطلي المغوار يخشى عليّ إذن "
عبس الآخر يرد " لستُ بطلا "
ضحك يوسف وهو يسلط نظراته على الطريق من أمامه قائلا " ماذا عن فارسي المغوار؟ "
زفر الآخر بملل يقول " ركز في القيادة وأكرمني بصمتك يا يوسف "
كتم يوسف ضحكته يقول " تحت أمرك يا باشا "
***
بعد ساعة
تفاجئ بها تقف على الباب مكتفة الساعدين أمام صدرها ووجهها عابسا على غير عادتها
تنحنح قليلا بخفوت فأفسحت له ليدخل وهي تقول بغيظ " حمداً لله على سلامتك يا بك "
دلف بهدوء وهو يرد بعفوية " سلمكِ الله عمتي "
صفقت مريم الباب خلفها وهي تقول " الساعة أصبحت الثانية.. أين كنت كل هذا الوقت؟ "
رفع حاجبيه بتعجب وهو يرمق جلسة مختار على الأريكة، مكتف الساعدين واضعا ساق على الأخرى ويطالعه بهدوء تام لا يعبر عن شيء بينما كانت نبض إلى جواره، ضامة ركبتيها إلى صدرها وتطوقهما بذراعيها مستندة بجبهتها على ركبتيها ويبدو أنها سابحة بعيدا على بساط النوم السحري
تساءل يوسف بدهشة " هل هناك حالة استنفار أم ماذا؟ "
برم مختار شفتيه دون رد بينما صاحت مريم من خلفه " حدثني أنا.. سألتك سؤال ولازلت انتظر إجابة واضحة وصريحة عليه.. أين كنت؟ "
نظر لمختار باستجداء ليساعده لكن الأخير حرك كتفيه وهو ينظر له ببراءة مغيظة فلم يجد بُدا من الرد
التفت إليها بهدوء يقول " كان لدي عمل طارئ "
سألته وهي تكتف ساعديها أمام صدرها " أين؟ "
رد بإيجاز " خارج العاصمة "
سألته وهي ترفع حاجبا ببرود " أي عمل هذا الذي يستدعيك للخروج من العاصمة يا دكتور؟ "
رد مقطبا " ليس له علاقة بعملي كطبيب "
نظرت له بغيظ تقول " بالطبع ليس له علاقة.. أخبرني يوسف أين كنت بالضبط؟ "
زادت تقطيبته وهو يرد " هل لي بأن أحتفظ بالإجابة لنفسي؟ "
صرخت مريم بانفعال " لا.. ليس من حقك.. تكلم يا ولد حالا "
أجفلت نبض من خلفه وصدرت عنها صرخة قصيرة كتمتها بسرعة وهي تقول بإرتباك بينما تجاهد لتبقي عينيها مفتوحتين " ها! ماذا يحدث.. لماذا تصرخين ماما؟ "
التفت ينظر إليها بحنان وهو يقول " اذهبي إلى غرفتكِ يا صغيرة لقد تأخر الوقت ولديكِ مدرسة في الصباح "
أجفلته صرخة مريم وهي تقول بانفعال " لقد أتى الصباح بالفعل يا بك إن لم تكن لاحظت ذلك "
تنهد بعمق وهو ينظر إلى مختار الذي تطوع أخيرا بالتدخل " اهدئي مريم الأمور لا تؤخذ على هذا النحو من العصبية "
هتفت مريم بغيظ " من فضلك مختار لا تتدخل أنت.. هذا ابني وأنا أدري بالطريقة التي أتعامل بها معه "
نهض مختار من جلسته يغمغم بغيظ " حسناً مريم سأدعه لكِ عسى أن نستريح فقط من صراخكِ فلدينا عمل ونحتاج للراحة بضعة ساعات "
دلف لغرفته ببساطة بينما خطى يوسف نحو نبض وجلس القرفصاء أمام الأريكة حيث تجلس وهو يقول " وأنتِ صغيرتي ألا تحتاجين للراحة؟ "
تثاءبت نبض رغما عنها وهي ترد عليه دون أن ترفع رأسها المطرقة باسترخاء " نعم احتاج لكن... ماذا ستفعل ماما معك؟ "
تنهد بعمق يرد " لا أظنها ستضربني مثلا.. هيا انهضي إلى فراشكِ ولا تقلقي بشأني "
اومأت برأسها وهي تنزل ساقيها عن الأريكة الواحدة تلو الأخرى ببطء فانحسر ثوبها قليلا دون شعور منها مظهرا بشرة ساقيها البيضاء
أشاح يوسف بوجهه عنها سريعا وهو يضع كفيه في جيبي بنطاله متصنعا الانشغال بالنظر للساعة المعلقة على الحائط المقابل له في حين كانت نبض ترمش بقوة لكي تستفيق قليلاً دون جدوي
قالت مريم بحنان " تعالي حبيبتي سأذهب معكِ إلى غرفتكِ (ثم إلتفتت برأسها ليوسف وأكملت من بين أسنانها) وأنتَ أبق هنا حتى أعود "
تنهد بإحباط وهو يسحب كرسي منفرد ويجلس عليه باستسلام بينما اختفت مريم مع نبض خلف باب غرفة الأخيرة
زفر بحنق من نفسه وهو يتذكر الصغيرة نبض وما حدث منذ لحظات ليغمغم بخفوت " عليّ بالحذر أكثر في التعامل معها بل وتقليل ساعات تواجدي معها هنا (قطب بضيق يقول) بل المفروض ألا اتواجد معها في الشقة حتى تكون على راحتها دون أن يشعرها وجودي بالحذر أو الارتباك كما يحدث معها "
أتت مريم بملامح عابسة تقول " فيما تفكر؟ "
رفع وجهه لها يرد بصدق وصراحة " أظن بأن وجودي هنا أصبح غير مرغوبا فيه "
قطبت مريم بتعجب تقول " كيف؟ من أخبرك بهذه الترهات؟ "
رد بهدوء " لم يخبرني أحد بشيء هذه أفكاري أنا "
رمقه مريم شذرا وهي تقول ببرود " أفكار حمقاء "
تنهد يقول " اصبحت شاباً يا عمتي لم أعد ذاك المراهق الذي سمحتِ له بدخول بيتكِ لأول مرة "
نظرت له بترقب في حين تابع هو " ونبض لم تعد تلك الطفلة التي رأيتها من قبل هي الآن مراهقة "
قطبت بعدم فهم تقول " ماذا تقصد؟ "
نظر لها يرد ببساطة " نبض دائما حذرة متخوفة من وجودي (حاولت مقاطعته لكنه تابع بتصميم) أعلم أنكِ وعمي مختار تثقان بي وأنا الآخر أعلم قدري وأثق في نفسي كثيراً لكن هذا لن يساعد نبض في شيء "
سحبت كرسي وجلست عليه بينما تقول " لم أفهم "
تنهد عميقا قبل أن يقول بجدية " نبض تحتاج لأن تشعر بأنها حرة في بيتها وغير محاصرة أو ملزمة بفعل شيء محدد بسبب وجود أي شخص "
قطبت بترقب تقول " هل تنوي هجرنا وتتخذ من نبض حجة لكي تفعل ذلك بضمير مرتاح؟ "
اومأ سلبا وهو يقول " بل أريد أخباركِ بأن أيا مما سأفعله لاحقا لن يمس مكانتكم لدي أبدا ولن يبعدني عنكم مهما حدث "
لم تعقب على كلامه فتابع هو بلطف " نبض يحق لها مساحة من الحرية يا عمتي وكلانا نعلم أنها لطبيعتها الخجولة لن تشعر بها في وجودي "
قالت مريم بحنان " نبض لم تشكو من وجودك بل إنها تكون سعيدة جداً كلما رأتك بخير "
ربت على يدها بلطف وهو يقول " وأنا أثق في ذلك لكن هذا لا ينفي أنها دائما ما تكون حذرة أمامي "
عبست مريم تقول " هي لا تكن كذلك.. أنتَ تضخم الأمر وتعطيه أكثر مما يستحق "
لمعت عينيه ببريق السعادة وهو يرى تشبث مريم القوي به وبوجوده معهم، شعر بانتعاش روحه المرهقة وهو يلمح حنانها العذب الغير مشروط التي تغدقه عليه دوما وأبدا دون انتظار مقابل أو السعي لتحقيق هدف خاص
لكنه رغم ذلك لا يستطيع أن يكون انانيا فيتجاهل حقوق نبض والتي تعد لها الأولية على كل شيء آخر حتى على نفسه هو
رد بهدوء " إنها تجلس بكامل حجابها طيلة النهار ولا استبعد أن تكون تنام به أيضا.. أعلم أن ذلك ضروري وطبيعي أثناء وجودي في محيطها لكنه من غير العادل في حقها يا عمتي.. ألا ترين بأنني وبدون قصد مني أضيق من حولها الحصار بوجودي معكم؟ "
أشاحت بوجهها عنه فقال يتابع " أقسم لكِ أنني لا أنوي هجركم أو الرحيل بعيدا عنكم ليس بعد أن وهبني الله أم غاية في الحنان واللطف مثلكِ أو أب مراع لي ومهتما بي لأبعد الحدود كعمي مختار لكنني لست انانيا ولا استطيع أن أكون كذلك "
نظرت له بشجن فأكمل " لا يمكنني أن احرمها مما أحله لنفسي.. حريتها مهمة لها وإن لم تطلبها لكنها بحاجتها يا عمتي "
قالت بأمل " إذن أنتَ لن تتركنا "
رد بصدق " بالطبع لا.. (ثم أكمل يناكفها) وحتى إن أردت ذلك لا أظنك ستسمحين لي "
ردت بكبرياء وهي ترمقه بطرف عينها " طبعا.. أنتَ ابني ولن أسمح لكَ بهجري أبداً "
قطب يتصنع الحنق " تبدين أم متعنتة بشدة "
تكتفت تنظر له شذرا وهي ترد " هل لديك مانع؟ "
تأفف بتصنع دون تعقيب فقالت بترقب وهي تعود لجدية الموضوع " إذن ماذا تنوي بهذا الشأن؟ "
نظر لها بهدوء يجيبها " سآتي إلى البيت في وقت غيابها "
عبست مريم تقول " قرار غير صحيح "
تنهد يرد " ليس أمامي حل آخر وأرى أنه مريح "
قطبت تسأله " وماذا سأخبرها إن لاحظت غيابك عن البيت وسألتني عنكَ؟ "
رد ببساطة يقول " اخبريها أنني مشغول في عملي "
أشاحت بوجهها عنه تتمتم " لا أحب الكذب "
رفع حاجباً باستفزاز يقول " إذاً اخبريها الحقيقة بأنها باتت تشكل خطراً كبيراً على ثباتي واتزاني "
صاحت مريم بضيق " هذه ليست الحقيقة أنتَ تبالغ "
رمش ببراءة مصطنعة يقول " كيف أبالغ؟ ألا ترين ابنتك كيف هي زهرة جميلة تتفتح أمام ناظري وأنا شاب ككل الشباب لي مشاعري الخاصة و... "
قاطعته صارخة بحرج وهي تهب من جلستها قائلة بانفعال " أخرس يا ولد وكف عن وقاحتك تلك "
اومأ بأدب بأنه لن يتكلم فلكزته في كتفه بغيظ تقول من بين أسنانها " هل تعني أنكَ بت تنظر إليها نظرة غير أخوية؟ "
كتم ضحكته المتسلية وهو يرد ببراءة زائفة " نعم.. إنها جميلة و... "
قاطعته من جديد تصرخ " قلت أخرس "
اومأ من جديد وصمت فزفرت هي لاهية عن تسليه وكتمه لضحكته وهي تسأله " منذ متى؟ "
رد يوسف متصنعا التفكير " اممم... منذ متى؟ آه أظن منذ... "
قاطعته وهي تتحرك في مكانها بحرج " لا تقل.. أخرس تماما "
اومأ بطاعة وقد احمر وجهه قليلا من كتمه لضحكاته حتى لا يثير غضبها
قطبت مريم فجأة وهي تدقق النظر لوجهه قائلة من بين أسنانها " هل تتسلى على حسابي يا يوسف؟ "
اومأ إيجابا دون أن يرد فقالت بعينين لامعتين " إذن نبض لازالت تحتل مكانة الأخت الصغيرة لديك؟ "
اومأ برأسه إيجابا مرة أخرى فصاحت بغيظ وهي تضربه في كتفيه " كنت تتلاعب بأعصابي يا وقح يا قليل الحياء يا... يا... "
قاطعها وهو ينهض من كرسيه ممسكا بيديها بلطف بينما يقول ببسمة رقيقة " اهدئي عمتي.. كنت أمزح معكِ.. نبض أختي الصغيرة ولا اجرؤ على رفع عيني في وجهها بنظرة أخرى سوا هذه.. إنها صغيرتي كما هي صغيرتك في أمان معي كما هي معكِ "
ردت بإقتضاب بعدما هدأت قليلا " أعرف ذلك ولست في حاجة لتخبرني بما لدي يقين تام به "
رفع كفها إلى شفتيه يقبله برقة وهو يقول " الساعة باتت الثالثة يا مريمي.. أحتاج للنوم بشدة وحينما استيقظ إن شاء الله سآتي إليكِ بنفسي لتكملي توبيخكِ لي كما تريدين.. تصبحين على خير "
ابتسمت بحنان فياض وهي تشيعه بنظراتها وهو يبتعد عنها خارجا من الشقة بينما لسانها يتمتم " تصبح على جنة آمنة طيبة من الرحمن يا حبيبي "
***
في نفس التوقيت
كان يمني نفسه بحمام منعش وفراش وثير يريح فيه جسده المنهك من العمل الذي استهلك منه الكثير من الجهد اليوم لكن أمانيه ذهبت كلها أدراج الرياح وهو يرى أمامه آخر شخص كان ليتمنى رؤيته في تلك اللحظة
خطى ناحية الدرج بتجاهل تام لها وهو يدعو في داخله أن تتجاهله هي الأخرى فلا مزاج أو طاقة لديه لتحمل كلامها المغيظ لكنها أجفلته حينما شعر بها تتتبع خطواته بصمت فقطب وهو يكمل صعوده الدرج دون تعقيب
وصل إلى غرفته ففتحها ببساطة وقبل أن يغلقها بعدما دخل وجدها تقف أمامه بإبتسامة واسعة لا يعلم لما تشعره بالانقباض فتراجع للخلف خطوة تاركا الباب مفتوح قبل أن يوليها ظهره متجها نحو خزانة الملابس
دخلت هي مغلقة الباب خلفها واستندت عليه بظهرها مكتفة الساعدين أمام صدرها وحدقتيها متسعتان ومثبتتان على كل شاردة وواردة تصدر منه
كتم أنفاسه الغاضبة وهو يفتح أزرار قميصه بتأني وبرود عساها تمل وتشعر بالحرج منه فتخرج حينما ترى أنه لا أمل في أن يعطيها أي لمحة من الاهتمام
رمى القميص على الأرض بغيظ قبل أن يجلس على طرف الفراش مائلا بجذعه للإمام وهو يخلع حذائه وحينما انتهى وأستقام واقفا رمقها بطرف عينه فأشتعل الغضب بداخله أكثر وهو يراها لا تحرك ساكنا ولا تكف عن ملاحقته بنظراتها وابتسامتها
تحرك ناحية الحمام بضيق وقد قرر بأن يطيل المكوث فيه حتى ينفذ صبرها وتغادر الغرفة
وبالفعل أطال البقاء في الحمام لما يزيد عن الساعة حتى نفذ صبره هو وصبرها هي على ما يبدو طويل جدا ولازال في بدايته
حينما خرج كان القميص الذي بدله موضوع في سلة الملابس التي تحتاج للغسيل وحذائه موضوع بنظام إلى جوار البقية والأهم من كل هذا أنها هي كانت تجلس على الفراش متربعة وهي تحتضن دب أسود كبير يبدو أنها جلبته من غرفتها
رمى المنشفة التي كان يجفف شعره بها بغيظ على كرسي منفرد قابع في إحدى الزوايا ثم اتجه ناحية الفراش وأستلقى عليه موليا إياها ظهره والغضب يتآكله من الداخل
" أخشى أن تصاب بنزلة برد فمكيف الغرفة على أقصى درجة ومن الخطأ أن تنام عاريا هكذا وللتو أنهيت استحمامك "
جز على أسنانه وهو يسحب إحدى الوسائد ويضعها بعنف على رأسه ليشعر بها بعد لحظة تميل عليه قائلة " ألا تشعر بالبرد؟ "
أيضا لم يرد فتابعت هي " تمتلك جسد رياضي مثير لماذا لا تحاول استعراضه كما يفعل الشباب للإيقاع بالفتيات؟ "
حدث نفسه بكبت وسخط " يارب أصرفها عني قبل أن أقتلها تلك الوقحة "
أغمض عينيه بقوة حينما بدأت تحرك أناملها بخفة على ظهره وجذعه العاريين بينما تقول ببؤس طفولي " لماذا لا ترد عليّ؟ أعلم أنك تتجاهلني لكني أجهل السبب "
لم يتحمل المزيد منها فهب من استلقائه بحدة اجفلتها وجعلتها تتراجع بجذعها للخلف حينما صرخ في وجهها " السبب سهل وبسيط وهو أنني لا أريد محادثتك أو سماع صوتك .. هل وصلك الرد على سؤالك الآن؟ "
رفعت حاجبيها ببرود وهي تقول " لكن لماذا؟ "
زفر بعنف وهو يقول " لأنني أريد هذا بدون سبب أو تفسير "
ابتسمت بإتساع وهي تميل عليه من جديد فتجبره على التراجع للخلف حتى أستلقى على ظهره وهو يحدق فيها بغضب يكبته بقوة حتى لا يؤذيها
همست بفحيح أمام وجهه القريب الغاضب " أنت تخافني.. تدري أنني أعلم الكثير مما تود اخفائه لهذا تتجاهلني "
قطب بعبوس دون تعقيب فتابعت هي بإبتسامة أكبر وحماس " لكنني لستُ غاضبة أو منزعجة منك أتعلم لماذا؟ "
زاد تقطيبه فهتفت هي بنفس الحماس " لأنني أحبك جداً "
في تلك اللحظة شعر وكأن أحدهم قبض على قلبه فاعتصره بقسوة في قبضته دون رحمة
قبل أن يتدارك ما يحدث وجدها تميل إلى جواره مستلقية على صدره وهي تحتضن جذعه بقوة وكأنها تخشى أن يهرب منها
سكن جسده دون حركة وهو يشعر بها بعد لحظات من الصمت بدأت في الارتجاف ظن السبب برودة الغرفة لكن ما صدمة هو انفجارها فجأة ودون سابق إنذار في البكاء شاهقة بقوة
رمش ذاهلا مما يحدث ودون إرادة منه أشفق عليها فرفع يده ووضعها على رأسها يمسد على شعرها ليسمعها تقول من بين شهقات بكائها " أنتَ لست راضياً عما أفعله أليس كذلك؟ أنا أيضا لستُ راضية عن نفسي لكنى لا أعرف ماذا أفعل؟ "
ظل يمسد على شعرها دون رد فقالت هي بحرقة " أنا لا أكرهك كما أحاول أن أبدي لكَ وللجميع.. أنا أحبك جداً صدقاً أحبك.. لكنني لا أريدك أن تشعر بحبي لكَ "
أغمض عينيه بيأس ليسمعها تقول بعد لحظة " هل أنا مجنونة؟ "
أجبر نفسه على الصمت حتى لا يصرخ فيها بأنها أكبر مجنونة في العالم بل إن الجنون لم يُخلق لسواها لكنه شفقة عليها سكت وأكتفى بأن ضمها إلى صدره رداً على سؤالها فشهقت باكية من جديد وهي تتمتم بمرارة " لماذا أنا سيئة هكذا؟ لماذا أنا... "
قاطعها وقد بلغ منه الجهد والتعب مبلغه " اهدئي نغم.. أنتِ بين أحضاني الآن فاسترخي حبيبتي "
شهقت بحماس وفرح وهي ترفع رأسها عن صدره تطالعه والنجوم تتلألئ في مقلتيها " حبيبتك؟.. أنت قلت حبيبتي "
تنهد بعمق وهو يقول بخفوت وكأنه يهدهد طفلة صغيرة " نعم قلت حبيبتي وأعنيها تماما يا نغم.. أنتِ حبيبتي "
ارتمت عليه تعانقه بقوة صارخة بفرح " وأنا أحبك بجنون صخر.. يا الله كم أحبك! "
تنهد براحة أخيرا حينما سكنت بعد وقت طويل وغاصت في نوم عميق ليهمهم " رُحماك يارب "

♢*♢


Hend fayed 01-10-19 06:00 PM

سُلاف الفُؤاد
 
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد؛
|| الفصل الثاني ||

صباح اليوم التالي / بيت مختار زين الدين
كان يجلس على مائدة الإفطار بعينين حمراوتين وكأنه لم يذق للنوم طعم طوال الساعات الماضية وهذا بالفعل ما حدث ..فمنذ رأى ذلك الكابوس الذي يؤرق نومه ويرهق روحه واستيقظ منه مع صوت أذان الفجر وقد أبى أن يستسلم لسلطان النوم من جديد خاصة بعدما حاول مرارا مهاتفة صخر لكن الأخير كان هاتفه مغلقا على غير العادة مما زاد قلقه وكآبته
لم يشعر بمذاق الطعام في فمه، بل لم تكن لديه شهية من الأساس وهو ينظر إلى الأطباق الموضوعة أمامه بنظرة فارغة خاوية وكأنه لا يرى شيء من الأساس
كانت مريم ومختار لاهين عنه منشغلين بالحديث عن موضوع ما فلم يلاحظ حالته الغريبة سوا نبض التي وكالعادة تلتزم الصمت في وجوده وتكتفي بالمراقبة دون تدخل أو تعقيب
تنهد يوسف فجأة تنهيدة عميقة ود لو تخرج معها كل الشحنات السلبية التي تسيطر عليه وتجسم على روحه لكن ذلك لم يحدث فكما تقول المقولة الشهيرة 'ليس كل ما يتمناه المرء يدركه'
تنبهت له مريم بعد لحظات فسألته بقلق " ما بكَ بني؟ تبدو مرهقا "
رد دون أن يرفع نظراته عن طبقه " لم أستطع النوم هذا كل ما في الأمر "
عقب مختار بهدوء "على ما أظن أن اليوم جدولك ممتلئ.. من المفترض أن تكون استغليت الساعات الماضية لترتاح حتى تكون في كامل طاقتك وتركيزك "
غمغم بمزاج مكدر " لا تقلق عماه سأقوم بعملي على أكمل وجه بإذن الله "
رد مختار بإيجاز وهو يكمل تناول طعامه " جيد "
لكن مريم قطبت بقلق وهي تتفحص ملامحه المرهقة لتقول بعد قليل " هل عاودتك الكوابيس من جديد؟ "
أراد أن يخبرها بأنها لا تتركه من الأساس لكنه لم يرد أن يثير قلقها عليه فرد كاذبا " لا "
قالت مريم بخفوت وهي تربت على يده الموضوعة على سطح المائدة " تستطيع اخباري بني "
لم يستطع رفع عينيه إليها فأطرق برأسه وهو يجيبها بإقتضاب " لا تشغلي نفسك بي عمتي.. أنا بخير "
تنهدت مريم وهي تقول " وهذا ما أتمناه.. أن تكون بخير دائما بني "
بعد بضعة دقائق نهض من مقعده يقول " يجب أن أذهب الآن.. هل انتظرك عماه؟ "
رد مختار وهو يترك مقعده هو الآخر " نعم.. سأحضر هاتفي واوافيك حالا "
دلف مختار لغرفته بينما مال يوسف يقبل يد مريم وهو يقول " السلام عليكم مريمي "
ردت مريم بابتسامة حنونة " وعليكَ السلام والرحمة حبيبي "
نظر يوسف إلى نبض يقول " هل أحضر لكِ شيء معي يا نبض؟ "
هزت رأسها سلبا فسألها من جديد " هل أحضر لكِ عمي مختار الكتب التي طلبتها منه؟ "
هزت رأسها سلبا مرة أخرى دون رد فعقبت مريم بدلا منها " لقد نسى أن يحضرها معه بالأمس "
قال يوسف بلطف " لما لا تعطيني أسمائها فأشتريها لكِ أنا؟ "
هزت رأسها برفض قاطع وهي تنهض من مقعدها تجيبه بخفوت مقتضب " أبي سيحضرها لي "
قال يوسف ببرود مقصود " وماذا إن نسى أن يحضرها اليوم أيضًا؟ "
عبست وهي تخطو تجاه غرفتها مغمغمة " لا مشكلة.. لم أعد أريدها "
بعدما اختفت نبض ابتسمت مريم تقول " لا تشغل نفسك بها بني.. سأؤكد على مختار أن يحضرها معه اليوم "
اومأ بصمت وهو يتحرك ناحية باب الشقة لكنه قبل أن يخرج التفت إلى مريم يقول بعبوس طفولي " بل سأحضرها أنا وستقبلها مني رغما عنها شاكرة "
كتمت مريم ضحكتها وهي تلمح اقتراب نبض منهما والتي على ما يبدو سمعت ما قاله يوسف.. وضعت حقيبتها المدرسية على الكرسي بعنف وهي تتمتم بغيظ " لن أعطيك أسماء الكتب "
رد يوسف بلامبالاة " ليست مشكلة كبيرة.. سآخذها من عمي مختار "
عبست نبض وهي تقول " أبي لن يمنحك إياها "
وضع كفيه في جيبي بنطاله يرد بتحدي " سنرى "
التفتت له تصيح بغيظ متفاقم دون أن تنظر له " أنا لا أريد منك أي شيء.. ما الذي لا تفهمه في كلامي بالضبط؟ "
تبدلت ملامحه من التسلية إلى الشحوب وهو يرد بصوت بارد فقد كل تحديه " ورغم ذلك سأحضرها "
أشاحت بوجهها جانبا وهي تقول بكبرياء " لن أقبلها منكَ وستكون حينها أهدرت مالك دون فائدة "
رد بهدوء ظاهري " تستحقين أن أهدر مالي عليكِ "
لم يضف بعدها كلمة وخرج من الشقة فنظرت مريم إلى ابنتها بعتاب تلقته الأخيرة بعبوس شديد قبل أن تغمغم بالوداع وهي تخرج من الشقة هي الأخرى
***

في الشارع
كان هو يقف أمام السيارة كفيه في جيبي بنطاله ونظراته شاردة في الفراغ
رمقت نبض وقفته بعبوس وهي تتخطاه بتجاهل حاولت تصنعه لكنها فشلت وهي ترمش بعينيها حتى لا تطرفان بالعبرات التي تتراقص فيهما، ولم تبتعد عنه سوا خطوتين أو ثلاث حتى عادت له ووقفت أمامه مطرقة الرأس وأصابع كفيها متشابكة خلف ظهرها فقطب يوسف وهو ينظر لها قائلاً: " ماذا تريدين؟ "
ردت بصوت خافت رانت فيه نبرة الذنب " أنا آسفة.. سامحني .. لم أقصد أن أحتد عليكَ "
تنهد بعمق وهو يرد ببساطة " حسناً "
سألته بنفس النبرة " هل سامحتني؟ "
رد بنفس النبرة " نعم.. فعلت "
ابتسمت نبض برقة وهي على نفس وقفتها المطرقة تقول " إذن ً سأذهب أنا.. السلام عليكَ "
رد بحنان التمع بمقلتيه واصطبغت به نبرته " وعليكِ السلام صغيرتي "
ما إن همت بالتحرك حتى استوقفها يقول بجدية وحزم " نبض لا تكرري وقوفك معي في الشارع مرة ثانية لأي سبب.. مفهوم "
اومأت بطاعة وهي ترد دون جدال " حاضر "
خطت بعيدا وهو يتأمل طيفها الغارب عنه بنظرة شاردة قطعها مختار حينما وصل إليه يقول " هل نذهب؟ "
اومأ إيجابا وهو يتحرك ناحية مقعد السائق دون رد
***

في فيلا أكرم الباسل
كانت شمس تختلس النظرات إلى والدها تارة وإلى أخيها تارة أخرى ولم يعجبها الوضع بينهما خاصة وكل منهما يتجاهل الآخر ويتصنع اللامبالاة
تنحنحت قليلا وهي تقول " بابا هل يمكن أن تمنح أنس إجازة من العمل اليوم؟ "
نظر أكرم لها سائلاً ببعض التهكم " لماذا؟ هل أنس بك يشعر بالتعب من سهرة أمس في... المقهى؟ "
قطب أنس مغتاظا وهو يتشاغل بتناول طعامه بينما ردت شمس " ليس هذا هو السبب يا بابا "
وضع أكرم أدوات الطعام على المنضدة ثم شبك أصابع كفيه أمامه وهو يسألها بترقب " إذن؟ "
ردت شمس بهدوء " مر عليّ وقت طويل لم أخرج فيه من البيت وأريد التنزه اليوم بصحبة أنس "
أومأ أكرم برأسه موافقا لكنه قبل أن يتمكن من إضافة كلمة واحدة كانت مروة تهتف بحقد " وهل ابني الحارس الخاص بها أم السائق المسئول عن إيصال الهانم حيث تريد؟ "
زفر أنس بيأس لكنه لم يعقب في حين قال أكرم ببرود " الأمر في مجمله يعود إلى أنس فلو رفض الخروج معها ما كنت لأرغمه على فعل ما لا يريد (ثم شدد على كلماته الأخيرة) لكنني لا أظنه سيرفض "
وضعت مروة أدوات المنضدة بحدة وهي تصيح " أنا لن أقبل بهذا الوضع حتى لو وافق هو.. هذا كثير "
انكمشت شمس في مقعدها وشحب وجهها وهي تستمع إلى صياح مروة التي تابعت " عليها أن تعتمد على نفسها فابني ليس عاملاً لديها "
رد أكرم بهدوء مستفز " تلك الأمور عادية جداً بين الإخوة وذلك لا يقلل من شأن أنس أبداً "
ضربت مروة بقبضتها على سطح المنضدة وهي تقول " ليسا أخوين.. هذه ليست ابنتي و... "
قاطعها أكرم هادرا بغضب " كفى "
خرست مروة وقد انتابها الخوف عندما هب أكرم من مقعده وهو يقول " كنت أظن أن جزء من عقلك معطوب وبه خلل لكن ما لم اتخيله أنه بالكامل مختل "
كانت نظراته الغاضبة وكأنها حريق مستعر تكاد تحرقها وهو يتابع " والله لا أعلم هل جننت أم ماذا؟ هل تُحرمين ما شرعه الله؟ "
نظرت له بضيق لكنها لم تستطع الرد خوفاً منه فهو في لحظات غضبه غير مأمون العواقب
رفع أكرم سبابته ملوحاً بها في وجهها وهو يقول من بين أسنانه " ستكون هذه المرة هي آخر مرة تتفوهين بتلك الحماقات يا مروة.. أنس وشمس أخوين رغماً عنكِ وأقسم بالله... أقسم بالله إن سمعت منكِ كلمة أخرى في حق شمس لن تبيتي ليلة واحدة بعدها في هذا البيت "
قطبت وهي تقول بذهول " ماذا تقصد؟ "
أشاح أكرم بوجهه عنها وكأنه ما عاد بقادر على النظر إليها للحظة إضافية بينما رد بصوت جامد متصلب " لم أكن أتحمل حماقاتك لأجل أحد سوا أبي لكن... أبي رحل ورحلت معه آخر ذرات صبري عليكِ (التفت لها ناظراً لعينيها مباشرة وهو يقول بتهديد) خطأ واحد... فقط خطأ صغير ولو بدون قصد منكِ وأقسم بالله ستكونين طالق "
شهقت مروة بصدمة بينما شمس جحظت عينيها هلعا وهي تحاول رؤية أي لمحة من المزاح أو السخرية في عيني والدها لكنها لم تجد سوا الغضب مما أكد للجميع أنه لم يكن يمزح وأنه جاد في قسمه
كان أنس يستمع لما يحدث دون تدخل بل إنه شعر بشهية لتناول المزيد من الطعام على نحو مفاجئ، كان يبتسم بنصر وهو يرمق جلسة أمه المرتعبة وهي ترتعد خوفاً في مكانها رغم نظرات الحقد والغضب التي تكاد تردي والده قتيلاً
سعيد حد التخمة وهو يراها أمامه في موقف ضعف، وكم أشتاق لرؤيتها أمامه هكذا منذ سنوات طويلة!
بعد صمت طويل قال أكرم بهدوء بارد موجهاً كلامه لأنس " أنت اليوم إجازة من العمل.. كل ما عليك ومطلوب منك هو تدليل شمس كما يجب وإلا... (ونظر إلى مروة بشراسة مكملاً حديثه) اعتبر نفسك مطرود من العمل وأبحث لنفسك عن وظيفة أخرى خارج أسوار مؤسستي "
شهقت مروة للمرة الثانية بصدمة أكبر، كان أكرم يعلم جيداً أن ما يهمها هي الثروة والمال فأراد أن يوضح أنها لو كانت تظن نفسها أم ولي العهد ووريث أكرم الباسل مما يدعها تهين شمس فها هو سيجعل ولي العهد يجالسها في البيت لترى حينها كيف ستحصل على الثروة إن قرر هو حرمانهما من كل شيء؟
هبت مروة من مقعدها وهي تصرخ بانفعال " ما هذا الهراء؟ كل هذا لأجل هذه ال... "
قاطعها أكرم هادراً بغضب مكبوت " احترمي نفسك يا مروة وإياكِ والتطاول عليها.. لقد أقسمت ولن أتراجع فإن شئتِ أن تكوني الليلة في بيت أبيك انطقي حرف آخر وليس كلمة "
رفع أنس وجهه ينظر إلى والديه بشحوب وسكون تام أزال كل أثر سابق للتسلية بينما شمس كانت منزوية في مقعدها تبكي بصمت
في حين كانت مروة فاغرة الفاه، صدرها يعلو ويهبط بأنفاس متسارعة من غضبها المكبوت وصمتت مجبرة فإن كان هناك ما تعلمه جيداً عن أكرم فهو أنه رجل لا ينكث قسمه ولو كان الثمن في مقابل ذلك حياته
أما أكرم فكان ينظر لها بحاجب مرفوع وملامح باردة ساخرة وهو على تمام الثقة واليقين بأنها لن تنطق ليس خوفاً من حصولها على الطلاق وتدمير بيتها بقدر خوفها على تجريدها من صلاحياتها ومكانتها المرموقة في المجتمع كونها زوجة أكرم الباسل
***

بعد قليل
كانت شمس تسير إلى جوار أنس كل منهما يضع كفيه في جيبي بنطاله الجينز، مطرق الرأس يتلاعب بلامبالاة بحبات الحصى الصغيرة الملقاة على الأرض
كل منهما كان شارد العقل والروح، مثقل القلب بهموم لا طاقة لهما على تحملها ولا يد لهما فيها وفجأة هتف أنس بحنق " إنها لي "
توقفت شمس مقطبة بحيرة تنظر إلى حيث ينظر أنس فارتفع حاجبيها بدهشة وهي تفهم قصده حينما أدركت أنها ركلت الحصاة التي كانت أمامه فعبست بطفولية وهي تركلها في اتجاهه متمتمة " ها هي "
وهكذا استمر بهما الحال حتى وصلا إلى الشارع العام فقالت شمس بإحباط " لم تعد لي رغبة في التنزه.. دعنا نعود للبيت "
رمقها أنس بنفس الإحباط وهو يقول " ولا أنا "
تحرك عدة خطوات للخلف ثم استند بظهره على إحدى أعمدة الإنارة وأخذ يطالع مرور السيارات من أمامه بشرود.. في حين قطبت شمس ببؤس وهي تنظر إلى الناحية الأخرى من الطريق حيث توقفت للتو سيارة رمادية خرج منها رجل بسيط الهيئة وسيدة تعكس ملابسها عن ذوق رفيع ورغم تناقضهما في الظاهر إلا أنهما يبدوان على وفاق تام
تحرك الرجل ناحية المقعد الخلفي وفتح الباب لتترجل حينها طفلة صغيرة يبدو أنها في العاشرة.. كانت باسمة الثغر، جميلة بثوبها الأحمر القصير حتى ركبتيها وشعرها الأسود القصير الذي بالكاد يلامس كتفيها، أكثر ما كان يميزها هو عينيها السوداوتين الواسعتين الضاحكتين
تقدمت الفتاة والديها وهي تركض ضاحكة نحو مدخل العمارة الكبيرة التي على ما يبدو هم ساكني إحدى الشقق فيها.. أما الزوجين المتوافقين فقد أمسكا بأيدي بعضهما وهما يدلفان لداخل العمارة لاحقين بابنتهما
كم تمنت شمس في تلك اللحظة أن تكون هي بطلة هذا الموقف الذي رأته للتو، تمنت أن تكون بدلاً من الفتاة الصغيرة سوداء العينين
أغمضت عينيها وهي تشعر بغصة حارقة تستحكم حلقها، تشعر وكأن هناك أصابع خفية تقبض على قلبها بقبضة من حديد وتكاد تسحقه دون رحمة
روحها تأن بين جنبيها تطالبها بلحظة سعادة.. بلمحة من الحياة.. بإشراقة أمل تحيي فيها ما قد خبت
أجفلت فجأة عندما سمعت أنس من خلفها يقول بسخرية " لا تفكري مجرد التفكير حتى في إمكانية حصولكِ على عائلة سوية كتلك التي دلفت لعشها الصغير لأنكِ ستكونين واهمة "
إلتفتت برأسها تنظر إلى أخيها فوجدته يبتسم لها بمرارة وهو يتابع حديثه " لا تحزني هكذا فأنتِ في حال أفضل من غيركِ.. انظري لحالي وتأملي وضعي جيداً بين أبوين لا يطيق أحدهما الآخر وستعرفين حينها في أي نعمة تعيشين أنتِ؟ "
كان محق فعلى الأقل هي أمها ماتت دون أن تعرفها، دون أن تمتلك لها أي ذكرى بينما هو... هو ولسوء حظه أمه لازالت على قيد الحياة لكنها لا تعتبر نفسها أمه بل هي مروة الباسل زوجة أكرم الباسل رجل الأعمال المشهور فحسب
أنس لا يختلف عنها كثيراً يعتبر مثلها تماماً يتيم الأم، لذلك لا يمكنها أن تحزن فهي ليست وحدها المبتلاة في هذا الأمر بل أنس المسكين يفوقها ألماً وهو يجد المال والثروة لدى أمه أهم منه بل لا مجال للمنافسة حتى فهو بالتأكيد سيكون الخاسر كالعادة
تنهدت بحرقة لحالهما في نفس اللحظة التي اعتدل أنس في وقفته يقول بمرح مصطنع " هناك فكرة لاحت لي في الأفق للتو هل ستشاركينني فيها أم... "
قاطعته بمرح مصطنع مشابه له وهي تقول " لن اتركك تحظى بالمتعة وحدك بالطبع سأشاركك فيها .. هيا أخبرني "
إبتسم أنس وهو يقول مازحا " سنسرق مصرف "
حركت كتفيها بلامبالاة وهي ترد ببرود " أفكارك دوماً من الزمن الغابر "
رفع حاجبيه وهو يبتسم بمناكفة قائلاً " حسناً الساحة أمامك ابهريني بأفكارك الفذة "
طالعته بشقاوة وهي تقول " لما لا نجرب التسول؟ "
رمش أنس لبرهة ثم ما لبث أن ضحك بمرح حقيقي وهو يقول " معكِ حق.. الفكرة جديدة ولم نجربها من قبل "
ابتسمت بحماس وهي تقول " أتمنى أن يتم القبض علينا.. أريد دخول السجن لكي أعرف حال المساجين كيف يكون؟ "
كتم أنس ضحكته وهو يقول بغيظ مصطنع " نواياك بريئة جداً يا شمس على ما يبدو لكن.. هلا تمنيتِ ذلك بعيداً عني؟ أنا لدي فوبيا من الأماكن المغلقة وبالتأكيد لن أحتمل البقاء في السجن دقيقتين متتاليتين "
ثم أولاها ظهره وهو يخطو عائداً إلى الفيلا فنادته شمس بحنق طفولي " أين تذهب وتتركني؟ "
رد دون أن يلتفت لها " آسف شمس أنا أعلن انسحابي.. لم أعقد العزم على قضاء السنوات الباقية من عمري في السجن بعد "
ضربت شمس بقدمها الأرض بغضب طفولي وهي تصيح من خلفه " أنتَ جبان "
ضحك أنس وهو يرد " وأنتِ مجنونة "
عقدت ساعديها أمام صدرها ونظرت له وهو يبتعد عنها بغيظ حتى توقف أنس فجأة واستدار لها يقول بابتسامة حانية " يوماً ما ستحظين بسجن انفرادي وحينها ستتحقق أمنيتكِ بدخول السجن لكن رغم ذلك لن تتمكني من رؤية حال المساجين فأنتِ لن يشارككِ أحد في سجنكِ.. (ثم عبس بمناكفة وهو يقول) فتاة شريرة "
أخرجت له لسانها بطفولية ثم ركضت تسبقه عائدة إلى البيت فصرخ أنس من خلفها ضاحكاً " مجنونة "
***

في المدينة الجبلية
كانت الفتيات ملتفات في حلقة حول العمة فاطمة التي أخذت تحكي لهن عن آبائهن في طفولتهم وجميعهن تستمعن إليها بإنصات واهتمام شديد
كانت العمة فاطمة تمتلك حس فكاهي بجانب الكثير من الحنان الذي لم تضن به يومًا على أحد صغير كان أم كبير
امرأة من أصل طيب، تزوجت في سن صغير كما عادة أهل الريف وخاصة البلدات الجنوبية التي ترى في زواج الفتيات ستر وحفظ لهن
كانت تتحدث معهن عن تقاليد الزواج التي لم تتغير منذ الأزل حتى هتفت فرح فجأة بحماس " وأنتِ عمتي كيف تعرفتِ على الشيخ عبد الله رحمة الله عليه؟ "
رفعت فاطمة طرف حجابها تغطي به وجهها في خجل وهي ترد " والله لم أره سوا ليلة العرس وأبي يخبرني أنه بات زوجي "
ضحكت الفتيات بينما فرح تسأل من جديد " ألم يأخذوا رأيكِ أولاً؟ "
ابتسمت فاطمة بحنان وهي تجيبها " هكذا كانت تجري العادة يا ابنتي.. طالما أتى الزوج المناسب فلا تتردد الأهل في الموافقة وأنا حتى لو خيرني أبي ما كنت لأرفض الشيخ عبد الله أبداً "
تدخلت حفصة تقول بلطف " رحمه الله عمتي.. الجميع كان يحبه وكم أتمنى لو رأيته أنا الأخرى وتعرفت عليه "
ردت فاطمة بشجن ومودة خالصة " كان رفيق رحيم في معاملة الصغير والكبير فأحبوه.. ما كان يرى أحد مهموم إلا وبذل ما يستطيع لكي يذيل همه ويضحكه "
تنهدت بحزن وهي تشرد في ذكريات الماضي الجميل التي جمعتها بزوجها لتفيق بعد لحظات من شرودها على صوت حياة تقول " هل حقاً أنه ليس من أهل مدينتنا؟ "
اومأت فاطمة وهي ترد " أجل بنيتي.. الشيخ عبد الله كان من العاصمة وأتى إلى هنا للعمل فقد كان إمام المسجد الكبير في المدينة "
نظرت لهن فوجدتهن يبتسمن في انتظار أن تكمل حديثها عنه فتنهدت بعمق يحمل الحنين وهي تشرد بنظراتها بعيداً بينما تكمل " حينما جاء إلى هنا كان في أواخر الثلاثينات كان وقورا، سمح المحيا.. لم أره يوماً حزيناً حتى في مرضه كان يبتسم برضا وقناعة تامة غير قانط أو متبرم من قضاء الله وابتلائه... "
قاطعتها فرح لتسألها " الجميع يقول بأن عمي سليم تأثر كثيراً منذ صغره بالشيخ عبد الله.. أخبريني عمتي كيف حدث ذلك ومن البداية؟ "
ضحكت فاطمة وهي تقول " عمك سليم فرض نفسه على الشيخ عبد الله وتعرف عليه بالإجبار "
بدى الذهول على الجميع فتابعت فاطمة حديثها بإسهاب " ذات يوم كنا نجلس نتناول الغداء وفجأة سمعت طرق على الباب فبادرت بفتحه لكن الشيخ عبد الله استوقفني مازحا يقول *انتظري فاطمة.. طالما أنا هنا في البيت فاتركي لي هذه المهمة الصعبة وارتاحي أنتِ* فتنحيت جانباً وتركته يفتح هو وعلمت أنه لا يريدني أن أفتح الباب فقد يكون رجل غريب... "
قاطعتها فرح بمكر تقول " يبدو أن الشيخ كان يغار على فاطمته جداً "
ضحكت فاطمة بخجل حاولت أن تداريه وهي تضرب فرح على كتفها بخفة تقول " اصمتي يا ثرثارة وإلا لن أكمل كلامي "
ضحكت حياة وهي تعقب " يبدو أنها أتت لتقاطع الناس في حديثهم "
عادت فاطمة تكمل حديثها من حيث توقفت " بعدما فتح الشيخ الباب وجد أمامه خمس أولاد صغار وطفلتين لا تكادان تظهران من خلف الأولاد ذوي القامة الطويلة رغم صغر سنهم "
ابتسمت للحظات بصمت ثم تابعت " ادخلهم الشيخ ورحب بهم بشدة فهو كان يحب الأطفال كثيراً ( ثم أطرقت بحزن وهي تقول) كنت أتمنى أن أمنحه طفلاً يقر عينه به لكن... (تنهدت تكمل) الحمد لله طالما هي إرادة الله فقد رضيت بها "
ربتت حفصة على كتفها وهي تقول بلطف " لكنكِ كنتِ نِعمَ الأم ربيتِ الكثير من أطفال المدينة وأحبوكِ أكثر من أمهاتهم حتى "
ابتسمت فاطمة برضا تقول " يعلم الله كم أحببتهم أنا الأخرى وخاصة آبائكن.. كانوا في طفولتهم بهجة ومتعة للنفس والروح، تعلقت بهم وكأنهم خرجوا من رحمي أنا... (ثم أضافت بمكر) حتى أن جدتكن كانت كثيراً ما تغار مني لتعلقهم الشديد بي "
ضحكت الفتيات بينما هتفت فرح بنزق " أكملي عمتي حديثكِ الأول.. أريد أن أعرف ماذا حدث حينما ذهب عمي سليم لدار الشيخ عبد الله "
ابتسمت فاطمة وهي تقول " لقد ورثتِ من والدك الكثير من النزق يا فتاة.. ابنة أبيها على حق "
ضحكت الفتيات من جديد بينما هي شردت تتابع حديثها الأول " حسنا إسمعي...
^قبل سنوات عديدة^
*** أشار لهم الشيخ بالجلوس ففعلوا جميعا إلا طفل واحد ظل واقفاً عابساً فتقدم منه الشيخ يقول " ما بك يا بني؟ لماذا لم تجلس؟ "
رد الصبي بنفس عبوس ملامحه " أريد الجلوس إلى جوارك "
ابتسم حينها الشيخ بسرور وهو يسحبه من يده برفق بينما يقول " اوامرك مجابة "
ما إن جلس الشيخ وإلى جواره الصبي كما أراد حتى أشار إلى فاطمة التي كانت تقف في زاوية بعيدة وقال " تعالي يا فاطمتي.. لدينا الكثير من الضيوف.. أظنكِ ستحبين مجالستهم "
تقدمت فاطمة وجلست على الناحية الأخرى بجوار الشيخ فعاد يولي الصغار اهتمامه وهو يقول " أبناء من أنتم؟ "
رد أكبر الأولاد " أبناء عبد الرحمن الجبالي "
ابتسم الشيخ بود وهو يقول " ما شاء الله.. لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.. بارك الله لكم في والدكم وبارك له فيكم "
ما هي إلا لحظة صمت وصدح صوت إحدى الفتاتين تقول بصوت خافت خجول " أنا ابنة طه الجبالي "
كان صوتها منغم جميل وكأنه صوت بلبل يشجو بعذوبة فأبتسم الشيخ وهو يرد " أعرف الشيخ طه رحمه الله "
نظروا له بحيرة فقال بلطف " كان صديقاً لأبي رحمهما الله.. أحياناً كان يأتي لزيارتنا في العاصمة.. لقد تعلمت منهما الكثير أنا وأخي الأصغر "
سأله أحد الأولاد بحماس " وأين هو أخوك؟ "
ابتسم الشيخ وهو يجيب " إنه في العاصمة مقيم عند عمتنا "
سأله طفل آخر بحيرة " لماذا لم تحضره معك إلى مدينتنا؟ "
تنهد الشيخ وهو يرد بحنان " لأنه لازال صبي في الخامسة عشر لم يكمل دراسته بعد.. أنا ازوره كل فترة لكنه سيأتي إليّ ويقيم معي هنا بعدما ينهي دراسته بإذن الله "
ابتسم أحد الأولاد يقول بحماس " وهل تعرفان أبي أيضاً مثلما تعرفان عمي طه؟ "
ربت الشيخ على كتفه وهو يرد " بالطبع أعرفه.. الحاج عبد الرحمن غني عن التعريف طبعاً "
ثم التفت إلى الصبي العابس إلى جواره وقال " ما إسمك؟ "
رد الصبي " سليم وهذه.. (وأشار على الفتاة صاحبة الصوت الجميل) حبيبة "
ابتسم الشيخ وهو ينظر إلى حبيبة التي كانت تتلاعب بطرف جديلتها لاهية عنهم بينما سليم ينظر لها باهتمام ليضيف بعد لحظة " إنها ابنة عمي... أنا وحدي "
نظر الشيخ إلى فاطمة بذهول بينما الأخيرة كتمت ضحكتها وهي تحدث أحد الاولاد " وأنت يا صغير ما إسمك؟ "
رد الصبي مبتسماً " اسمي مختار "
إبتسم الشيخ بحنان وهو يقول " أخي أيضا إسمه مختار "
صاح مختار بحماس " حقا! "
اومأ الشيخ قائلا " نعم لكنه على ما يبدو يكبرك ببضعة سنوات "
سألت فاطمة بلطف " من الأكبر سناً بينكم؟ "
رد الصبي الذي يجلس على كرسي منفرد " أنا يا عمتي.. إسمي خالد ولدي ثلاثة عشر سنة وهذان (أشار على صبيين يجلسان متجاورين وممسكين بأيدي بعضهما) محمد ومحمود إنهما توأمين ولديهما أحد عشر سنة أما هذا... (أشار على مختار المتبسم) مختار ولديه تسع سنوات "
ثم التفت خالد ينظر إلى الفتاة ذات الشعر الأسود الطويل وقال بابتسامة صغيرة: " هذه رقية أختنا لديها ثمان سنوات وهذا... (رمق الصبي العابس بطرف عينه وهو يعرف الشيخ عليه) إنه سليم اصغرنا سناً لديه سبع سنوات "
لم يهتم سليم ببرود خالد معه وإنما هتف يقول بضيق: " نسيت حبيبة "
ضحكت فاطمة وهي تنظر إلى حبيبة تسألها: " كم عمركِ يا حبيبة؟ "
رفعت حبيبة عينيها الواسعتين كبركتين من العسل الصافي وهي تقول بصوتها الجميل " لدي القليل... (ارفقت قولها بأن رفعت كفها وبسطته أمام فاطمة تقول) هذا فقط "
ربتت فاطمة على شعرها بحنان وهي توضح لها باسمة " لديكِ خمس سنوات.. لكن هذا كثير "
حركت حبيبة رأسها سلباً ترد " لا.. أخبرني أن هذا قليل "
قطبت فاطمة بحيرة وهي تسألها " من أخبركِ بهذا الكلام يا حبيبة؟ "
رفعت حبيبة سبابتها تشير إلى سليم وهي تقول ببراءة " سليم "
ابتسم الشيخ وهو يناكفها بينما عينيه مثبتتان على سليم " ليس شرطاً أن يكون كل ما يقوله سليم صواباً؟ "
مالت برأسها قليلاً بحيرة وهي تقول: " كيف؟ سليم لا يكذب "
دوت ضحكات الشيخ وهو يعبث في شعر سليم الحريري قائلاً " يبدو أنك ذو سلطان وسحر خاص على الصغيرة يا سليم "
ابتسم سليم فرحاً باهتمام الشيخ به وهو يرد " أنا أحب حبيبة "
كانت فاطمة هي من ردت وهي تنظر إلى حبيبة بمحبة خاصة " ومن يرى أمامه ملاك كتلك الصغيرة ولا يحبها.. يا الله ما أحلاها! "
مالت ابتسامة الشيخ بشجن وهو ينظر إلى زوجته قبل أن يقول " تشبهك كثيرًا يا فاطمة (نظرت له بخجل فتابع بحب) حبيبة تملك إسم جميل لكنك أنتِ تملكين المعنى "
اخفت وجهها بطرف حجابها وهي تبتسم بخجل شديد فتنهد الشيخ يقول " سعدت كثيراً بتلك الزيارة الجميلة يا أولاد "
هتف مختار بابتسامته المعتادة " جميعنا سعداء أيضاً عماه "
بينما قال خالد " أعتذر إن كنا جئنا بدون موعد مسبق لكننا كنا متحمسين جدا لرؤيتك والحديث معك عماه "
ارتفع حاجبي الشيخ قليلاً وهو ينظر إلى خالد بإعجاب فهو يتحدث بطريقة ناضجة تفوق سنوات عمره وبعد لحظة قال بود " لا بأس بني.. بيتي مفتوح للجميع وأنا أكثر من مرحب بكم في أي وقت (ثم نظر إلى فاطمة ليتابع بعدها بمحبة) ويبدو أن العمة فاطمة أيضاً سعيدة جداً بزيارتكم وستطالبكم بتكرارها ثانية أليس كذلك يا فاطمتي؟ "
اومأت فاطمة وهي ترد بحنان " بالطبع يا شيخ.. البيت مفتوح للصغار في كل وقت "
سألت رقية بحماس " أين اولادك عمي أريد أن ألعب معهم؟ هل لديك بنات؟ "
أطرقت فاطمة بحزن وكآبة بينما رد الشيخ بابتسامة راضية وهو يشير إلى زوجته " لا أملك من البنات سوا تلك الأميرة التي تنير بيتي بوجودها فيه "
حاولت فاطمة أن تبتسم له لكنها لم تستطع وأطرقت برأسها من جديد وهي تتنهد ببؤس فأجفلت بعد لحظة على لمسة خفيفة من حبيبة وهي تقول " ليس لديكِ أبناء؟ "
نظرت لها فاطمة بحزن وأومأت لها إيجاباً دون أن ترد فأبتسمت حبيبة تقول برقة تذيب الجبال " لا بأس.. لا تحزني.. أنا معكِ "
تجمعت الدموع في عيني فاطمة بتأثر فقالت حبيبة بنفس رقتها " أنا ليس لدي ماما.. هل أستطيع أن أدعوكِ ماما؟ "
لم تشعر فاطمة سوا وهي تضمها إلى صدرها وتجهش في البكاء بشدة بينما تقول بسعادة " قولي ما شئت يا حبيبتي.. أي شيء تحبين أنا راضية " ***


لم تستطع فاطمة أن تكمل لهم سرد تلك الذكرى واجهشت في بكاء مرير ولم تستطع إحداهن التخفيف عنها أو تهدئتها وهي تقول " رحلت الحبيبة دون أن تودعني.. لم تسمعني صوتها لمرة أخيرة حتى.. حرموني من صغيرتي فلينتقم ربي منهم.. فلينتقم ربي منهم.. قتلوها حسرة وقهرا على صغيرها.. ما ذنبها حبيبتي؟ لم تفعل لهم شيء "
صاحت ملك فجأة بصوت يرتجف قهرا وملامحها ملبدة بكره أعمى " ليست وحدها الضحية يا عمتي ولا أظنها الأخيرة.. انظري لما فعلوه مع أبي وعمي بل ما فعلوه مع يو... "
لم تستطع أن تكمل وهي ترتجف حرفياً وقد أغرقت العبرات وجنتيها فهبت من جلستها تقول بغضب عنيف " كان صبي صغير مجرد صبي ولم... لم يرأفوا به.. ما كان ذنبه هو الآخر؟ كيف يأخذون بثأرهم من صبي صغير؟ إنهم أوغاد "
نظروا لها بشفقة بينما تابعت حديثها بكره أكبر وهي تصرخ بقسوة " أتمنى أن أرى ذلك الحقير ذليل مهان حتى آخر لحظة في حياته ثم... ثم يموت موته بشعة تليق به وبنفسه الحقودة المريضة.. أتمنى لو اقتله بيدي هاتين وازهق روحه ببطء ليتعذب حتى اللحظة الأخيرة له على قيد الحياة "
نهضت حياة من مكانها واقتربت منها تربت على كتفها بحنان لكي تهدأ لكن ملك دفعت يدها بعيداً بجفاء وهي تقول " لا أحتاج شفقة من أحد (رفعت سبابتها وهي تكمل بحقد) يوماً ما سأثبت لكم أنكم جميعًا كنتم مخطئين وأن ذلك الحقير لن يحيا بسلام طويلاً لأنه لا يستحق.. أبداً لا يستحق "
اندفعت بعدها للخارج وتركتهم من خلفها تخيم عليهم الكآبة والحزن فقالت حفصة بصوت مختنق بغصة البكاء " أنا خائفة عليها جداً.. تلك الطاقة بداخلها من الكره والحقد كافية لتدمير الكثير "
صمتت فأضافت حياة بصوت جامد " لا خوف عليها يا حفصة فملك تجيد استخدام ما تملك لتحصل على ما تريد "
تنهدت فاطمة وهي تقول بصوت مكتوم " كل ما يزيد عن الحد ينقلب إلى الضد.. وملك بكل ما تحمله بداخلها من طاقة سلبية أكثر عرضة لتدمير نفسها دون أن تشعر.. تظن نفسها تعرف ما تريد لكنها في الحقيقة لا تعرف ولا تفهم شيء (تنهدت بعمق قبل أن تكمل بشرود) إنها تائهة، مشتتة وليست هي وحدها فهذا حال الجميع.. الجميع لا يعرف الطريق الصحيح "
***

في مجلس الرجال
أتخذ الحاج عبد الرحمن صدر المجلس موقعا له بين ولديه وبعض المقربين للعائلة
كانوا يتحدثون في أمور تخص العائلة حتى سأل أحدهم عن موعد عرس حمزة وزهراء فرد الحاج يقول بهدوئه المعتاد " حددناه آخر الشهر بإذن الله "
دخل حمزة في تلك اللحظة بصحبة قاسم وياسين فأتخذ كل منهم مجلسه بهدوء بعد أن ألقوا السلام
ابتسم صالح بسرور مربتا على كتف حمزة وهو يهنئه " مبارك لكَ وعليكَ يا ولدي "
رد حمزة بأدب " بارك الله فيكَ عماه "
التفت صالح حينها موجها حديثه لقاسم " العقبة لديك بني "
هَمّ اعتمل بصدره فجأة وهو يرد " حينما يشاء الله عماه "
ابتسم صالح بمودة قائلا " العروس موجودة ولا ينقص سوا إشارة منكَ ليتحدد العرس "
غامت نظرات قاسم بحسرة وأفكاره تصرخ بأن تلك الإشارة ليس هو من سيمنحها للعروس بل العروس هي صاحبة الرأي والقرار ويا ليتها فقط ترأف بحاله
وجد أن الصمت هو الرد المناسب فلاحظ صالح شروده ولم يرد أن يثقل عليه فألتفت إلى حمزة معاتبا " آدم أخبرني أنكَ طلبت منه بعض الحاجيات من أمريكا لكنك مُصر على دفع ثمنها وهو يريد أن يهاديك إياها "
عبس حمزة وهو يقول بغيظ طفولي " كنت واثقا بأنه سيخبرك عماه رغم أني أقسمت عليه ألا يفعل "
إبتسم صالح بلوم وهو يقول " ورغم ذلك لازلت على اصرارك "
رد حمزة بهدوء " لا أريد أن أكلفه يا عمي.. كما أن تلك الأشياء أنا من طلبتها منه لذا فمن الطبيعي أن أدفع ثمنها "
قطب صالح وهو يقول بجدية " ليس هناك فرق بينكما إن دفع هو أو فعلت أنتَ لذا فهي هدية منه وانتهى الأمر "
عبس حمزة متمتما " ابنك لا يراع أنني أكبره ببضعة سنوات عماه، دومًا يستغل مكانتك لدي لينفذ ما يراه صوابا من وجهة نظره هو "
ضحك صالح بمودة وهو يقول " إن ذلك فقط من محبته لك ولكل ما يمس لعائلة الجبالي بصلة "
غمغم حمزة بنزق دون أن يسمعه أحد " وهذا ما يجبرني على تحمله "
ابتسم عبد الرحمن بمودة خاصة وهو يوجه حديثه لصالح صديق عمره " ووجودك في عائلة الجبالي فخرا لها لآخر العمر يا أبا آدم "
رد صالح الإبتسامة لصديقه وهو يرد عليه " بارك الله لنا فيكَ يا أبا خالد بل أنت الفخر لي.. أطال الله في عمرك "
تناظر خالد وسليم فيما بينهما بصمت بينما ابتسم حمزة وهو يشعر بالسعادة لتلك العلاقة الفريدة والتي تعدت الصداقة بين جده وصديق عمره العم صالح
في ذلك حين كان قاسم لازال على شروده الكئيب أما ياسين فقد أطرق برأسه للأرض ليفاجئ الجميع بقوله الحزين: " هل تذكر عماه ذاك الصبي الذي كان يتسابق وأخاه في أيهما يصل إليك ليحظى بالجلوس إلى جوارك؟ "
رد صالح بشجن " بالطبع أذكر.. وهل يمكنني نسيان الغالي الذي نال الحظوة لدي؟ "
تنبه قاسم من أفكاره على سحابة الكآبة التي لاحت على الجميع وكأنها عدوى وأصابت الكل فغمغم بمرارة " لست وحدك من منحته الحظوة لديك عماه.. لست وحدكَ "
تنهد حمزة معقبا " رحمه الله "
لم يلاحظ أحد تلك الرجفة التي سرت في جسد سليم على وقع كلمتي حمزة سوا صالح الذي عقب بغموض " جازت الرحمة على الميت والحي رغم أن بعض الأحياء يستحقونها أكثر من الموتى.. عل الله يرحمنا جميعا برحمته الواسعة "
أطرق سليم بحسرة صرخت بها نظراته التي سارع في اخفائها عن الجميع وهو يدعي الهدوء على عكس ما يشعر
بعد لحظة سأل عبد الرحمن مغيرا الموضوع " أين عاصم وزيد؟ "
رد حمزة بهدوء " عاصم سافر إلى العاصمة باكرا ليباشر سير العمل هناك أما زيد فلا أعرف أين اختفى من بعد صلاة الفجر "
ظل سليم على اطراقه ووحده يعلم أن زيد بعدما صلى الفجر ذهب إلى عمران الناصر للإطمئنان على حاله لكنه لا يعلم إن كان لازال عنده أم ذهب لمكان آخر
وفي نفس اللحظة إلتفت عبد الرحمن يسأل ابنه " أين ابنك يا سليم؟ "
أغمض سليم عينيه بيأس فهو لا يريد أن يكذب ولن يستطيع اخبار والده بالحقيقة الآن لكن القدر كان رحيما به حينما دخل زيد فجأة ملقيا السلام تتبعه حلا متذمرة وهو تصيح " أريد الحلوى خاصتي وإلا سأشكوك لجدي "
رفع زيد حاجبيه بتعجب وهو يرد " لقد أكلتها فكيف سأعطيكِ إياها؟ "
ضربت الأرض بقدمها وهي تصرخ بشراسة بينما تتخصر أمامه " ليس ذنبي.. تصرف واحضرها لي حالا "
عبس في وجهها بإغاظة وهو يقول " لن أحضر شيء، هذا ما عندي وإن لم يعجبكِ اضربي رأسكِ في الحائط "
توسعت عينيها بغيظ شديد ثم لم تلبث أن استدارت مهرولة للخارج وهي تصيح ببكاء حار " مامااا "
ضحك زيد بتسلية وهو يجلس بجوار أبناء عمومته قبل أن يسأله جده " أين كنت يا زيد؟ "
رد زيد بهدوء " كنت في الحديقة الخلفية أطعم الجرو الذي احضره ياسين بالأمس "
سعل ياسين بحرج حينما قال الجد بعبوس " جرو! مجددا ياسين؟ ألم احذرك من جلب المزيد؟ "
لكز ياسين ابن عمه في خاصرته بغيظ قبل أن يرد على جده بإرتباك وكأنه طفل صغير " آخر مرة جدي.. لن أحضر المزيد.. أعدك "
ضحك زيد بتسلية وهو يقول " آه لو تعرف يا جدي من أين يحضرها؟ اممم ستسعد كثيراً "
كشر ياسين عن أنيابه في وجه ابن عمه بتهديد ليتدخل حمزة قائلًا ببساطة " من الشارع بالطبع "
رفع زيد كفيه إلى مستوى كتفيه يقول ببراءة مصطنعة " أترى؟ هو من عرف بنفسه ولم أخبره بشيء "
تأفف ياسين وهو يشيح بوجهه عنه فعقب حمزة بمزاح " كم وصل عددهم؟ "
كتم زيد ضحكته بصعوبة بينما رد ياسين بخفوت نزق " ثمانية "
توسعت عيني حمزة بذهول وهو يقول مناكفا " الله أكبر.. هل سنسمع أخبار سعيدة قريبا؟ "
قطب ياسين بعدم فهم متمتما " أخبار سعيدة! "
تصنع حمزة الجدية وهو يسأله " ألا تنوي أن تزوجها؟ "
فغر ياسين فاهه ببلادة وهو يقول " أزوج من؟ الكلاب! "
اومأ حمزة كاتما ضحكاته ليتدخل قاسم بسخرية قائلا " فليزوج نفسه أكرم له وأولى "
انفجر حمزة وزيد ضاحكين بينما ياسين غمغم بحرقة بكلمات خرجت منه بدون تفكير أو سبب يستدعي ذلك حقا " الآن أصبحت مادة للتهكم والسخرية رحم الله يوما كنتم فيه تخشون التندر عليّ كيلا يغضب منكم ويخاصمكم.. ليته كان هنا اليوم كان ليلقنكم درسا من أجلي "
بعدها انسحب من الغرفة بخطوات هادرة تتسابق مع أنفاسه المشحونة وترك خلفه الجميع يتطلعون لطيفه الغارب بتعجب وحيرة وبعد لحظات من الصمت المطبق سأل صالح بقلق " ما به ياسين؟ لا يبدو اليوم على ما يرام "
لم ينتظر قاسم سماع رد أحد وخرج من فوره لاحقا بأخيه حتى يعلن منه ماذا يجري معه بالضبط؟
***

لم تتمكن ملك من اللحاق به وهو يمشي بسرعة وكأن الشياطين تحاصره وهو يحاول جاهدا الهروب منها وحينما وصلت إلى الطابق الذي تقبع فيه غرفته وقبل أن تصل إليها وجدت قاسم يطرق الباب فتخفت بسرعة حتى لا يراها وما إن دخل الأخير حتى تقدمت بحذر من الباب
فتح قاسم الباب ووقف متسمرا مكانه ينظر تجاه أخيه الذي كان يجلس على الأرض في إحدى زوايا غرفته يبكي بحرقة كما لم يبك من قبل إلا يوم موت ابن عمهم والذي كان يعتبره صديقه المقرب من بين جميع أبناء عمومتهم
دخل قاسم بهدوء مغلقا الباب من خلفه وتقدم نحوه بخطوات متمهلة وعينيه مثبتتان على ملامحه المنقبضة بألم شديد.. جلس أمامه ببساطة والتزم الصمت لوقت طويل في حين ظل ياسين يبكي دون حرج من وجود أخيه
أما في الخارج…؛
ظلت ملك على وقفتها أمام الباب المغلق تستمع إلى صوت بكاء ياسين الواضح فتحترق مقلتيها بدموع تهدد بالهطول
أجفلت فجأة حينما ربت أحدهم على كتفها فألتفتت بحدة لتجد أختها وابنة عمها زهراء وقبل أن تتفوه أيا منهن بحرف صدح فجأة صوت ياسين ليخرسهن
في الداخل...
شهق ياسين بقوة وهو يقول " لقد رأيته في منامي كان... كان يطعم ريحانة كما أعتاد أن يفعل واخبرني بأن... بأن عمي سليم سيحضر له فرس جديدة في يوم مولده بعد أيام لكن... "
اجهش في البكاء ثانية قبل أن يكمل حديثه " لكن ذاك اليوم أتى وهو غائب وحتى عمي سليم لم... لم يحضر الفرس... "
أغمض قاسم عينيه بألم وهو يقاطعه بمرارة " لا تكمل ياسين.. لا تزد يا أخي "
لكن ياسين لم يتوقف بل تابع بحرقة " بعدما صليت الفجر ذهبت إلى المزرعة بلهفة عسى أن أجده هناك.. ذهبت ونسيت أن المزرعة احترقت بالكامل ذاك اليوم وأن... وأنه رحل يا قاسم.. رحل ولم يعد له وجود "
سأله قاسم بصوت متحشرج " لماذا تذكرت كل هذا اليوم بالذات؟ "
رد ياسين بحسرة " اليوم هو يوم مولده "
فتح قاسم عينيه يطالع أخاه بنفس الحسرة التي نضحت بها نظرات الأخير
بعد لحظات قال ياسين " زيد لم يكن يطعم الجرو كما أخبرنا.. لقد كان يبكي في الحديقة الخلفية وحينما رأته حلا أخذ منها الحلوى التي كانت معها ليشتت انتباهها عن الحالة التي وجدته عليها "
نظر له قاسم بتساؤل صامت رد عليه بتنهيد " هي أخبرتني بعدما خرجت من المجلس "
تنهد قاسم بعمق وهو يقول " لازلت أرفض فكرة موته ليس اعتراضا مني على قضاء الله وقدره بل... بل... لا أستطيع وصف ما أشعر به لكنني أشعر بأن احشائي تحترق كلما ذهب تفكيري إلى تلك الزاوية التي اخصص لها الحيز البعيد في روحي حتى لا يقتلني الاشتياق إليه.. أجد نفسي أتقلب على جمر لاهب يكاد يحرق الأخضر واليابس دون رادع "
في الخارج...
ابتسمت ملك بمرارة تتمتم بخفوت وهي تقصد أختها بكلامها " هل سمعتِ حياة؟ لست وحدي من ترفض الفكرة حتى حبيب قلبكِ يرفضها.. هيا جادليه هو الآخر كما تفعلين معي "
قطبت حياة بجمود اخفت تحته ألم يكاد يفتك بها وهي ترد على أختها بنفس نبرتها الخافتة " كل شخص حر في وجهة نظره.. أنا لا اجادل أحد "
استدارت توليها ظهرها تخطو بعيدا في حين رفعت يدها تمسح عبرة سالت من عينها وهو تغمغم بحرقة " وكأن ما تحمله لا يكفيك يا حبيب الفؤاد "
أما زهراء فقد مسحت دموعها التي أغرقت وجهها وهي تتمتم بكآبة " كلنا نشتاق إليه يا ملك.. ليته كان معنا "
***

بعد بضعة أسابيع / مساءً
كان يسير بخطى ثابتة هادئة في الممر المؤدي إلى غرفته الخاصة، كفيه في جيبي بنطاله ونظراته مثبتة على اللاشيء
لقد أجرى عملية هامة وخطيرة لطفلة صغيرة في التاسعة رفض الكثير من زملائه مباشرة حالتها منذ البداية نظرا لسوء حالة قلبها لكنه بتحدي لنفسه وافق على أن يكون هو المسئول عنها
يفترض به أن يشعر بالزهو والفخر بنفسه لهذا المجهود الذي بذله لكنه ورغم ذلك لا يشعر سوا بالخواء
ترددت على مسامعه كلمات وجمل التهنئة والتشجيع من الكثير من زملائه لكنه لم يجد لها صدى في نفسه
" صخر "
قطب بضيق وهو يجبر نفسه على الإلتفات لكتلة السماجة في نظرة والأغراء في نظر غيره وبملامح لا تحمل أي تعبير كان يرد " نعم "
ابتسمت ريم وهي تقترب منه بلهفة معاتبة " لم أراك اليوم أبدا.. الجميع يأخذك مني والمرضى تحتل أغلب وقتك "
ببرود مقصود كان يردد بعض كلماتها " الجميع يأخذني منكِ "
تنحنحت بحرج طفيف تشرح مقصدها " أقصد أنكَ مشغول طوال الوقت بالمرضى و... "
قاطعها بملل " أليس هذا هو واجبنا تجاه عملنا دكتورة أم ترانا نأتي إلى المستشفى كل يوم لمجالسة الأصدقاء والتسامر؟ "
عبست بغيظ تقول " بالطبع لكن ليس الكل منشغل مثلك طوال الوقت أم أنكَ تتعمد ذلك حتى لا تفسح لي المجال للحديث معك؟ "
رفع حاجبا بترفع وهو يرد " أولاً دكتورة أنا لست مثل أحد ولا أقبل بأن تضعيني مع أحد في خانة واحدة، ثانيا وهذا المهم هو أنني لا أتعمد فعل شيء ولست في حاجة للتهرب منكِ لأنني وببساطة إن أردت ألا أسمح لكِ بذلك فلن اتجه للتهرب منكِ واختلاق الفرص حتى لا أتيح لكِ مجالا للحديث معي بل سأخبركِ بكل صراحة وجها لوجه بأنني... (شدد على نطقه لبقية جملته التي حملت تحذير مبطن) لا أريدكِ أن تقتربي من محيط تواجدي أبداً "
شحبت ريم وكأنها تلقت منه صفعة على وجهها وقبل أن تبرر أي شيء كان هو يوليها ظهره مكملا سيره دون أن يمنحها ولو نظرة شفقة منه أما هي فقد قطبت بغضب تتمتم لنفسها " حسنا صخر اليوم لكَ والغد لي أنا وحينها... (لمعت عينيها ببريق خبيث وهي تكمل) سأجعلك تعلم قدرك جيدا ومع من تتعامل وكيف تتعامل مع ريم الناصر بالطريقة التي تليق بي؟ "
***

كان يبدل ملابسه على عجلة من أمره حتى يتمكن من اللحاق بموعده الهام في حين يفكر في مكالمة عمته مريم والتي هاتفته منذ بضعة دقائق تذكره بأن اليوم هو الموعد الذي حدده لنبض حتى يشرح لها بعض دروس مادة البيولوجية
وبعد لحظات قطب بعبوس حينما ومضت شاشة هاتفة برسالة نصية تجاهلها ليكمل ارتداء ملابسه ليعلو بعد لحظة رنين الهاتف فالتفت لصخر الذي يرتدي حذائه قائلا " هلا أجبته رجاءً يا صخر؟ "
اومأ الأخير دون تعقيب وهو يتجه ناحية المكتب حيث الهاتف موضوع على سطحه وتناول الهاتف بعبوس ازداد حينما رأى هوية المتصل ليجيب بحنق " ماذا تريد؟ "
رد الآخر ببرود زائف بعد أن تأكد من الرقم الذي طلبه " لما لا ترسل لي صفعتين أيضا؟ "
زفر صخر بضيق يقول " أنجز يا أحمق ماذا تريد؟ "
رد الآخر بفكاهة " قُبلة "
غمغم صخر بغيظ من بين أسنانه " اعترف آدم من حرضك عليّ لتصيبني بالجنون؟ "
صدحت ضحكات آدم وهو يرد بتسلية " لا أحد.. أنتَ حبيبي "
عبس صخر بملل وهو يقول " وأنتَ لست كذلك بالنسبة لي.. هلا أخبرتني الآن ماذا تريد لأنني مشغول ولست متفرغا لهذرك السمج؟ "
كتم آدم ضحكته وهو يسأله بمكر " بمناسبة السماجة.. كيف حالة كتلة السماجة المسماة ريم؟ "
زفر صخر وهو يرد باستياء " رأيتها قبل قليل وليتني لم أفعل.. أشعر بأن أعصابي على وشك الانفلات مني وقريبا جدا سأكون قاتلها "
ضحك آدم بصخب قبل أن يقول " كم أشفق عليكَ يا صاحبي "
تنهد صخر متمتما " هيا أخبرني ماذا تريد؟ "
عبس آدم يرد بمسكنة " ألا ترى أنكَ كررت ذلك السؤال أكثر من مرة؟ ألهذه الدرجة تريد التخلص مني؟ "
رفع صخر يده يتخلل شعره بإرهاق مجيبا" آدم بالله عليكَ إن كان لديك كلمة مفيدة قلها وإن لم يكن فاتركني لحالي الآن فأقسم لكَ أكاد أنهار من شدة حاجتي للنوم ولازال أمامي عمل آخر قبل أن أحظى بخلوة أحلم بها وأنا يقظ "
قطب آدم بقلق يسأله " عمل آخر! ماذا تقصد؟ "
أغمض صخر عينيه بتعب يرد " عليّ شرح بعض دروس مادة البيولوجيا لنبض "
وصله صوت آدم مناكفا: " اممم قلت لي نبض.. كيف حالها صحيح؟ "
لم يفطن لنبرة التسلية والمزاح في صوت آدم من شدة ارهاقه فصمت وأعطى الهاتف ليوسف بعد أن نفذ صبره أما يوسف فرد بإقتضاب " ما لكَ أنتَ وما لها؟ لا تسأل عنها "
كتم آدم ضحكته يقول بمناكفة " وما لكَ أنتَ الآخر كشرت عن انيابك فجأة وكأنني سآكلها؟ "
صرخ يوسف بغيظ " آدم لا تستفزني.. نبض خط أحمر وأنتَ تعلم ذلك "
رد آدم بدهشة مصطنعة " وماذا فعلت أنا لخطك الأحمر؟ كنت أسأل فقط عن حالها من باب اللباقة "
رد يوسف من بين أسنانه " لا تسأل عنها من أي باب كان "
قال آدم ببساطة " حسنا ولكن أخبرني لماذا لن تشرح أنت لنبض؟ "
تنهد يوسف مجيبا " الليلة هو الموعد الأسبوعي الخاص بي كما تعرف وأخشى أن أؤجله فينشغل دكتور معتز ولا أستطيع رؤيته حتى وقت طويل لأنه سيسافر قريبا "
قطب آدم وهو يقول " لو قبلت عرضه وذهبت إلى بيته سيكون أفضل لك "
عبس يوسف هاتفا " أذهب إلى بيته حتى يعالجني هل أنت أحمق آدم؟ "
زفر آدم وهو يرد " وما المانع؟ "
زفر يوسف هو الآخر قائلا " سلام آدم فلست في حالة جيدة للنقاش "
رد آدم بهدوء " حسنا يوسف، كما تحب.. سلام "
كان صخر قد أنهى إرتداء ملابسه بالكامل وقبل أن يخرج من الغرفة نظر ليوسف بغموض قائلا " نغم ستسافر إلى إسطنبول ولن تعد إلا بعد ثلاثة أشهر على أقل تقدير "
بعدما خرج جلس يوسف متمتما بإحباط " ألا يمكن إخفاء أي شيء عنك؟ كيف علمت أنها سبب امتناعي عن الذهاب إلى بيتكم؟ "
***

بعد ساعة / في شقة مختار زين الدين
كان يقف أمامها متخصرا يزم شفتيه بقوة كيلا يتلفظ بما يليق بها في هذه اللحظة
تدخلت مريم بمهادنة تقول " لا خيار آخر أمامكِ حبيبتي طالما ترفضين الذهاب مع زميلاتك لأخذ درس خاص في المادة إذن دعي صخر يشرح لكِ "
غمغمت نبض بإرتباك وهي تكاد تغطي وجهها بحجابها من الحرج " هذا ليس تخصصه.. سأنتظر أبي "
رد صخر بغيظ من بين أسنانه " والدكِ لديه عملية بعد ساعتين وإشراف على بعض الحالات ولن يأتي الليلة على أي حال "
ردت نبض بنفس الخفوت " لا بأس سأنتظره "
شعر صخر بالضيق من عنادها الشديد فهتف بإنفعال بالغ " ولما الإنتظار يا ذات الرأس الصلب؟ أنا هنا وأستطيع القيام بتلك المهمة بدلا من والدكِ "
غمغمت بتذمر " ليس تخصصك "
صرخ هو بغيظ " وليس تخصص والدكِ أيضا (قطب فجأة وهو يسأل مريم بدهشة) لحظة عمتي.. عن أي تخصص تتكلم نبض أنا حتى اللحظة لم أفهم سبب رفضها؟ "
تنهدت مريم بقلة حيلة وهي ترد " هناك باب كامل في المادة يتحدث عن التكاثر والهرمونات التي يفرزها الجسم في الذكر والأنثى وهي... (رمقت نبض بطرف عينها وهي تتابع بشفقة على حرجها) تشعر بالحرج في أن تشرح لها هذا بنفسك حتى أنها رفضت أن يشرح لها يوسف أيضا "
قطب وهو يغمغم بغيظ " إذن يوسف كان يعرف أبعاد تلك الورطة منذ البداية ولم يخبرني.. النذل "
ثم تنهد بإرتباك طفيف وهو يقول بتمتمة " معها حق إذ كنت أنا شخصيا شعرت بالحرج لها "
قطبت مريم تقول " نعم! هل هذا يعني أنك لن تشرح لها؟ "
تنحنح يقول " لما لا ننتظر عمي مختار؟ "
هتفت نبض برضا " هذا ما كنت أقوله والله.. نعم لما لا ننتظر... "
قاطعتها مريم بعبوس " ششش.. أسكتي أنتِ (والتفتت إلى صخر تقول) وأنتَ يا بك هل تتهرب من واجبك نحو أختك؟ "
أشاح بوجهه جانبا وهو يقول بتهرب " ليست أختي لذا فلست مجبرا على الشرح لها "
رفعت مريم حاجبا ببرود تشير على كرسي منفرد مقابل لكرسي نبض حيث تجلس أمام الطاولة المستديرة وقالت " أجلس "
عبس بطفولية وظل متمسكا بوقفته البعيدة عنهما نسبيا حتى رضخ في النهاية لأمر مريم مع تشبث الأخيرة برأيها
سحب الكرسي بفظاظة وجلس عليه وهو يغمغم في سره شاتما المادة وما تحتويه.. هو بالفعل محرجا لكن شعوره ذلك ليس مرتبطا به هو فهو معرض لشرح تلك الأمور بطريقة أو بأخرى في موقف ما رغم أنها لا تمس لمجال تخصصه بصلة ولكن شعوره ذلك بسبب نبض
لا يتخيل أنه سيقوم بتلك المهمة الصعبة ملقيا تلك الكلمات العلمية ظاهرا والمحرجة لنبض باطنا.. إنها خجولة لأبعد حد وهو يتفهم ذلك و.... أجفلته مريم من زحام أفكاره قائلة بسخرية " لولا معرفتي الوثيقة بك وبجمودك المعتاد كمكعب مصقول من الجليد لظننتك لا قدر الله متحرجا من شرح تلك الأمور "
رمقها شذرا بغيظ دون أن يرد فأبتسمت بنصر وهي تقول " هيا ابدأ "
سحب الكتاب من أمام نبض ونظر إلى الصفحة المفتوحة ببرود ليتمتم بعد لحظة " طرق التكاثر في النبات "
أتاه صوت نبض خافتا يكاد لا يكون مسموعا وهي تقول " أنظر الصفحة التالية "
قلب الصفحة بنفس البرود لتتسع عينيه قليلا وهو يقرأ العنوان مغمغما بخفوت " التكاثر في الإنسان (رفع وجهه عن الكتاب ينظر لمريم ببرود مصطنع قائلًا) نبض محقة هذا ليس تخصصي "
لم تكد المسكينة نبض تتنهد براحة حتى ردت مريم بلامبالاة تقول " لم يطلب منكَ أحد إعطاء شرح مفصل ودقيق لكل نقطة في الدرس فقط شرح مبسط وسطحي.. إنها هوامش "
نظر للصفحة المفتوحة أمامه للحظة ثم رفع وجها محتقنا بالحرج وهو يقول " هوامش! إن كانت هذه الهوامش فكيف هي بواطن الأمور؟ "
ردت مريم كاتمة ضحكاتها متصنعة اللامبالاة وهي تقول " أنتَ تعلم كيف يا دكتور "
زفر صخر بقوة وهو يسحب ورقة بيضاء وبدأ في الرسم بينما مريم تمتمت بخفوت بجواره " لا أصدق أنكَ تشعر بكل هذا الحرج بالفعل.. ألست طبيبا؟ "
غمغم بنزق " ليس مجال تخصصي "
تنهدت وهي تقول " لكنك تظل طبيبا وقد تتعرض لأسئلة مشابهة من أحد معارفك مثلاً "
عبس ببرود وهو يرد " قطعت صلتي منذ اللحظة بكل المعارف والأقارب كي أتجنب الوقوع في تلك المأساة مجددًا "
ناكفته مريم بفكاهة " أصدقني القول صخر.. أنتَ لست طبيبا من الأساس وتخشى أن تخفق في شرح تلك الأمور البسيطة حتى لا تنكشف حقيقتك أليس كذلك؟ "
عبس في وجهها وهو يقول " أنا على وشك قتل أحدهم فأرجوك لا تكوني أنتِ "
كانت نبض تخفي وجهها بكتاب آخر تتصنع الإنشغال بالدراسة فيه لتنتبه فجأة على صوت صخر المتهكم وهو يقول " هل تجيدين القراءة والكتاب مقلوب؟ ما شاء الله طالبة متعددة المواهب "
احتقن وجهها حرجا وهي تضبط الكتاب مغمغمة بتوتر " لم أكن أقرأ كنت... (هبت من جلستها فجأة تقول) غيرت رأيي سأذهب غدا مع زميلاتي إلى الدرس الخاص "
قبل أن تنطق مريم كان صخر يهب بحماس هو الآخر صارخا بطفولية " الحمد لله.. كم أنتَ رحيم يا ربي "
كانت نبض تنظر إلى أمها بذهول من حماسته الزائدة ليفاجئها بأن مال عليها من فوق الطاولة يقبل وجنتها بقوة هاتفا " منقذتي الحلوة "
شهقت نبض بصدمة ورفعت كفها تضعه على وجنتها موضع قبلته وكأنه صفعها قبل أن تهرول إلى غرفتها صارخة بخجل " قليل الحياء "
كانت مريم هي الأخرى ذاهلة مما حدث في حين تسمر هو مكانه بوضعه المائل وهو يتمتم بصدمة من نفسه ومما فعل " تباً.. كيف فعلتها؟ "
نهضت مريم من كرسيها بهدوء وحاولت أن تتكلم متخطية ذهولها ليبادر صخر بإرتباك وإحساس بالذنب " أنا آسف.. أقسم بالله لم أقصد أن... أن... سأغادر "
وقبل أن تنطق بحرف كان هو يغادر الشقة بخطى واسعة وكأن الشياطين تلاحقه
***

في المستشفى
تفاجئ يوسف وهو يستعد للمغادرة بعد أن تأخر لساعة كاملة بسبب حالة طارئة بدخول صخر وملامحه متجهمة فاقترب منه بقلق يسأله " ما بكَ صخر؟ ما الذي أعادك إلى المشفى؟ "
صرخ صخر غاضبا " ابتعد عن وجهي اللحظة يا يوسف يكفي ما تسببت لي فيه "
قطب يوسف بحيرة يقول " وماذا فعلت أنا؟ "
قبض صخر على مقدمة قميصه يهزه بعنف وهو يصرخ " أخبرني أنك لم تكن على علم بما يحتويه ذاك الدرس اللعين الذي طلبت منك العمة مريم شرحه لنبض؟ "
تنحنح يوسف بحرج يقول " بلى كنت أعرف "
لكمه صخر في وجه صائحا " تباً لك "
تأوه يوسف وهو يتحسس موضع الضربة ثم سأله بحنق " لازلت لا أفهم ماذا حدث لكل هذا؟ "
استدار صخر مغادرا الغرفة وهو يهتف بغيظ " اسأل عمتك أيها البغيض "
قطب يوسف بتعجب وهو يقول مفكرا " أ يعقل أن تكون نبض طردته من البيت؟ "
تنهد بقوة وهو يغادر هو الآخر على عجالة حتى يلحق بموعده مع دكتور معتز مؤجلا التحقيق في الأمر لوقت لاحق
***

بعد نصف ساعة / في عيادة معتز
^قبل عشر سنوات^
*** كان يشعر بالضياع والخمول في عقله كما بقية حواسه.. يحاول أن يتذكر ما حدث وما الذي أتى به إلى هنا؟ لكنه فجأة ينشغل بشيء ما يشتت انتباهه وتركيزه عن التفكير فيما يريد الوصول إليه
وفجأة طرق أحدهم الباب قبل أن يدخل أحد الأطباء باسما بلطف وهو يقول " حمداً لله على سلامتك يا بطل.. بماذا تشعر الآن؟ "
قطب قليلاً وهو يرمش بحيرة فهو ليس مصابا ولو بخدش صغير من الأساس ثم رد بعد لحظات قليلة بخفوت وهو يشعر بجفاف حلقه " الحمد لله "
ابتسم الطبيب بلطف وهو يعاينه بإهتمام قبل أن يقول " رائع "
ازدرد ريقه ببعض الصعوبة وهو يسأل الطبيب بحذر " كيف وصلت إلى هنا؟ "
رفع الطبيب رأسه وناظره بحيرة فعدل سؤاله " أقصد مَن معي مِن عائلتي هنا؟ "
اومأ الطبيب بفهم وهو يرد " والديك "
قطب الصبي وهو يقول " وأخي؟ "
مال الطبيب برأسه قليلاً سائلا ببعض الحيرة " تقصد أختك؟ "
هز الصبي رأسه سلباً وهو يقول مؤكدا " بل أخي "
قطب الطبيب بحيرة للحظات ثم ربت على رأسه بلطف وهو يقول " أرتاح الآن ولاحقا سنناقش موضوع أخوك هذا "
زمجر بغيظ وهو يحرك رأسه بعيداً عن مرمى يد الطبيب قائلاً " أنا لست مجنوناً.. أريد أبي "
اومأ الطبيب بسرعة خوفاً من أن يؤذي نفسه وهو يقول " حسناً.. حسناً أهدأ وسأدخل لك والدك حالاً "
سكن في موضعه وصدره يعلو ويهبط بأنفاس متسارعة من انفعاله.. لحظات مضت وهو ينتظر دخول والده بعدما خرج الطبيب من عنده، كانت لحظات قاتلة لأعصابه والأفكار السوداء تعصف بعقله دون هوادة
وأخيراً أتى الفرج من عند الله
دخل الغرفة رجل باسم المحيا وسيم في بداية العقد الرابع، اقترب الرجل من فراشه بهدوء وهو يحييه بلطف " السلام عليكم.. كيف حالك الآن بني؟ "
قطب بحيرة وهو ينظر إلى ذلك الرجل الغريب، لا يعرف ما علاقة وجود هذا الرجل الذي أمامه الآن بما طلبه هو من الطبيب؟
لقد طلب رؤية والده ليجد ذلك الرجل يدخل بدلاً منه!
اكتنفه شعور بالضياع فجأة وهو ينظر إلى ملامح ذلك الرجل التي لم تتغير وهو يراقبه بصمت وفتح فمه ببطء بعد لحظات يرد بأدب " وعليك السلام عماه.. أنا بخير والحمد لله "
اومأ الرجل مبتسماً وهو يقول " الحمد لله سعدت كثيرا لأنك بخير فأنت ذا مكانة عزيزة لدي "
سأله الصبي بنفس التهذيب وإن تخلله بعد التعجب الحائر " لا أفهم عماه ما تقصد.. أنا حتى لا أعرفك ولا أظنني رأيتك من قبل "
اتسعت ابتسامة الرجل وهو يرد " أنا أيضاً لم تسبق لي رؤيتك من قبل لكنني أعرفك.. سبحان الله لقد رأيت كل أفراد عائلتك إلا أنت.. دومًا كنت منشغلا مع فرسك ريحانة حينما آتي لزيارتكم... "
انتظر هو بصبر أن يتابع الرجل حديثه الذي قطعه لكنه لم يفعل فخرج سؤاله بحنق رغماً عنه " هلا أخبرتني عماه من تكون؟ "
لم تتبدل ابتسامة الرجل وهو يجيبه " أنا الأخ الأصغر للشيخ عبد الله زين الدين رحمه الله.. هل تعرفه؟ "
أجاب الصبي ببعض الراحة " بالطبع أعرفه أبي حدثني عنه كثيراً لكن... لكن... "
أكمل الرجل جملته " لكن ما سبب هذا بوجودي هنا بدلاً من والدك أليس هذا ما تريد السؤال عنه؟ "
اومأ إيجاباً فتنهد الرجل وهو يسحب الكرسي الموضوع أمام الفراش ثم جلس عليه بهدوء وهو يقول " سأخبرك "
توترت أنفاسه وهو يشعر بالخوف مما سيخبره به هذا الرجل لكنه فجأة وجد نفسه يقول " أخي.. هل أخي بخير؟ أين هو؟ "
ربت الرجل على يده ورد " إنه بخير حال لا تقلق "
ازدرد ريقه بصعوبة بالغة وهو يقول " أخبرني عماه بالله عليك بما يحدث فأنا... أنا أشعر أني ضائع "
بعد لحظة من الصمت قال الرجل " اسمعني بني وزن كلامي جيداً فما سأخبرك به ليس هين ويحتاج منك أن تكن صلبا قويا.. يحتاج منك أن تفكر في الأمر بتروي وحكمة وألا تسرع في إطلاق الأحكام ففي كل الحالات لن يكن المتضرر سواك "
لم يستطيع النطق بكلمة فأومأ برأسه إيجاباً ليتابع الرجل " أولاً يجب أن تعرف أنه ومن اليوم ستكون تحت رعايتي ومسؤوليتي أنا "
رفع حاجبيه بذهول وهو يقول " كيف؟ "
ابتسم الرجل يناكفه قائلا " هكذا.. أحببت أن يكون لدي ولد فرزقني ربي الكريم بكَ "
أسرع لقول شيء حينما قاطعه الرجل يقول " هل تعلم أنك هنا في المشفى منذ ما يقارب الشهر ونصف؟ وأنك لست مريضا بل فقط يمكننا القول بأن أعصابك مرهقة مما حدث ولم تتحمل الصمود أكثر فانهارت تماما "
سأله بحيرة " وكيف علمت هذا؟ "
اعتدل الرجل في جلسته وهو يميل بجذعه إلى الأمام مجيبا " لأن الطبيب المسؤول عن معاينة حالتك اممم ماذا أقول؟ زميل عمل مثلا.. كما أنني لم افارقك لحظة منذ دخلت المشفى "
رمش الصبي لوهلة وهو يتفحص الرجل الوسيم من جديد قبل أن يقطب بحيرة متمتما " أنت لا ترتدي زي الأطباء "
ابتسم الرجل وهو يجيب ببساطة " لقد أخذت إجازة طويلة حتى أتمكن من مرافقتك كما يجب "
توتر الصبي وهو يرد بحرج " آسف لأنني اعطلك عن عملك عماه "
تنهد الرجل وهو يقول بحنان " لا داعي لاعتذارك بني فأنا سعيد بالتعرف عليك ومرافقتك رغم أني وددت لو حدث ذلك في ظروف أفضل من تلك "
ران عليهما الصمت طويلاً حتى قطعه الرجل يقول بهدوء " ما تريد أن تعرفه ستجده هنا (وضع شريحة صغيرة بجانبه على الفراش قبل أن يكمل) مسجلاً بصوت والدك.. لكن نصيحة مني لا تسمعه قبل أن تقف على قدميك وتسترد هدوء أعصابك لأنك ستكون بحاجة لكل ذرة قوة فيك حتى تتمكن من التفكير السليم وتقدير الموقف كما يجب "
نهض بعد ذلك من مكانه واتجه ناحيه الباب وفتحه ثم وقبل أن يخرج إلتفت له قائلاً بلطف ودود " مرحباً بكَ بني في عائلتي الصغيرة "
تذكر الصبي شيء فجأة فصاح بجذع " ماذا حدث لذلك الصبي الآخر الذي أصيب بدلا مني؟ أنا لا أعرفه حتى لكنني... "
قاطعه الرجل يرد بتنهيد حزين " يحتاج إلى دعائك بني.. اخلص لله الدعاء حتى ينجيه فحالته صعبة وحياته بين يدي الرحمن الرحيم " ***

^في اللحظة الحالية^
أجهش يوسف في بكاء حار، يخفي وجهه بين كفيه بينما كتفيه يهتزان في بكائه كالأطفال بعدما صمت فجأة ولم يقو على إضافة كلمة أخرى من سجل ذكرياته المرير
ظل معتز ثابتا، ساكنا في جلسته على الكرسي المقابل للسرير المنفرد الذي يجلس عليه يوسف دون أن يبدي أي رد فعل وقد أكتفي بالمراقبة ككل مرة
تكلم يوسف بعد لحظات بحرقة وهو يقول " شعرت حينها بأن روحي تُنتزع مني.. كانت تلك الكلمات الأخيرة التي قالها عمي مختار من أصعب الكلمات التي سمعتها في حياتي "
شهق بعنف وهو يكمل " لم أتخيل للحظة أن يضحي أحد بحياته لأجل أن يحميني.. لم أتخيل للحظة أن... أن أتسبب في موت أحد لكنني فعلت "
سأله معتز بهدوء " من تسببت في موته؟ "
رد يوسف بحسرة وشعوره بالذنب يطغى على كل حواسه وكأنه مُخدَر " قتلت أعز الناس على قلبي.. قتلت حبيبتي ومصدر كل شيء جميل في حياتي "
ردد معتز سؤاله بنفس الهدوء " من تقصد؟ "
نطقها يوسف وكأنه يلفظ معها آخر أنفاسه " أمي "
جادله معتز بأسلوب مستفز متعمد " كيف قتلتها وقد سبق وأخبرتني أنك لم تشهد لحظة وفاتها حتى؟ "
رد يوسف بغضب من نفسه " نعم لم أكن حاضرا لكنها ماتت بسببي.. حينما أخبروها أنني قُتلت لم تستطع تحمل الصدمة وماتت "
قطب معتز بهدوء مستفز وهو يقول " ولما لا تُحمل من أخبرها الذنب فعلى أي حال الخطأ خطؤه هو لأنه لم ينتظر حتى يتأكد من الخبر قبل نشره؟ "
أطرق يوسف رأسه بقهر وهو يقول " أخي من أخبرها فكيف سأحمل توأمي الذنب؟ "
رد معتز باستفزاز " أوَ لم يكن هو السبب في كل ما حدث حينها؟ إذن الذنب ذنبه وحده ونتائج كل ما جرى تقع على عاتقه هو "
عبس يوسف وهو يدافع عن أخيه " إنه لم يرتب لأي شيء مما حصل حينها.. كل ما حدث كان خارجا عن علمه وقدرته إذاً لا ذنب له "
عقد معتز ساعديه أمام صدره وهو يقول باستفزاز بارد " إذن أنت الآخر لا ذنب لك في موت أمك لأنك أولاً وأخيراً لم ترتب لهذا وما حدث كان خارجا عن علمك وقدرتك وبالتالي لا فائدة من بكائك على طلل لم يكن خرابه على يديك "
طالعه يوسف بتشتت فأردف معتز بهدوء " لا فائدة من تحميل نفسك ذنب لم تكن فاعله لأنك تؤمن أن ما حدث كان مخططا له الحدوث فهو قدرها أن تموت بتلك الطريقة دون أن يكون لك دخل في هذا "
أجهش في البكاء ثانية وهو يرد " لكنني لا أستطيع رفع ذلك الذنب عن عاتقي.. كلما نظرت إلى صورتي في المرآة أراها تطالعني باكية وفي حلمي تعاتبني بنظراتها دون كلام.. صعب أن أنسى أن... "
نظر له معتز بإهتمام شديد وهو يحثه على المتابعة قائلا " أكمل حديثك يوسف.. أن... ماذا؟ "
رد يوسف بمرارة " كلما جلست وحدي أفكر أن... لو لم تتأذى فرسي ذاك اليوم لما ذهبت إلى المزرعة وحينها لم يكن ليحدث كل ما حدث.. لم أكن لأرى عمايّ وهما يخران صريعان أمامي دون حول منهما ولا قوة، ولم يكن صخر ليتعرض للموت حينها ولما... لما ماتت أمي "
سكت لحظات حتى يتمالك نفسه رغم عدم توقف دموعه عن الهطول كزخات المطر وهو يضيف بصوت موجوع " أحيانا أتخيل أنني أجلس إلى جوارها كما كنت أحب رأسي بين أحضانها وهي تقص عليّ إحدى حكايتها السرية مع أبي.. أتخيل أن أول شيء سأفعله كالعادة بعدما أعود من عملي أن أذهب إليها وأخبرها كم أحبها وكم افتقدتها في الساعات التي قضيتها منشغلا عنها لكنني أصحوا فجأة على الحقيقة المُرة بأنني ما رأيتها أبدا بعد عودتي من العمل، ما أخبرتها عن مقدار حبي وافتقادي لها لأنها ببساطة رحلت قبل أن أبلغ تلك المرحلة من حياتي، فارقتني وأنا ابن خمسة عشر.. أتعلم؛ أحيانا أخرى أفتح عينيّ صباحا فأجدني أنتظر أن تأتي إليّ وتوقظني من نومي كما كانت تفعل كل يوم أجد نفسي يطول بي الإنتظار ويطول غيابها أكثر "
بعد وقت طويل كان معتز يتنهد بتعب وحسرة وهو يراقب يوسف في غفوته التي تلي كل جلسة مصارحة بينهما
غفوة جبرية لا يشعر بها يوسف ولا يستطيع حتى مقاومتها، بمجرد أن ينتهي من قص بعض ذكرياته وجداله مع معتز الذي يستنفذ آخر ما يملك من قوة وطاقة على التحمل يجد نفسه يقع في بئر عميق يسحبه إليه بإصرار فيستسلم له في نهاية المطاف وكأنه بالحديث مع معتز يشعر ببعض الراحة
يوسف ليس مجنونا ولا حتى مريضا وإنما مكبلا بشبح الذنب الذي يطارده في خياله ويرسمه له عقله الباطن لذا أختار معتز بحكم تخصصه حتى يتحدث معه بهذا الشأن وهو يثق بأنه سيتفهمه أكثر من أي شخص آخر
من خلف الباب المغلق كان يقف صخر مستندا بظهره على الحائط المجاور للباب وقد وصلت إلى مسامعه كل كلمة نطقا بها وانسكبت من عينيه كل دمعة زرفتها عينيّ يوسف وخط الألم والقهر علاماته على روحه قبل أن يضع بصمته على روح يوسف
وبنفس الصمت والسكون الذي أستمع به إلى حديثهما انسحب دون أن يشعرا به أو يعلما بوجوده من الأساس كحال كل جلسة ليوسف
***

في الصباح / بيت مختار زين الدين
كانت مريم تقف في المطبخ تعد الإفطار في حين رن جرس الباب فصاحت تقول " افتحي الباب يا نبض.. هذا يوسف "
توجهت نبض مطرقة لتفتح الباب وبالفعل كان هو ورغم حرجها منه لأن صخر بالتأكيد أخبره بما حدث ليلة أمس إلا إنها بتلقائية سألته السؤال المعتاد ككل مرة " لماذا لم تستخدم مفتاحك الخاص؟ "
رد وهو يدلف للداخل " هذا أفضل حتى تكوني وأمي على راحتكما "
حركت كتفيها بخفة وهي تتجه إلى غرفتها بينما تتمتم " كما تشاء "
قبل أن تبتعد عن مرمى بصره استوقفها يقول " هل تعرفين رجل يدعى تامر عبد الحميد؟ "
عبست قليلاً قبل أن ترد عليه بمراوغة دون أن تستدير إليه " لي زميلة في الصف إسمها علا عبد الحميد "
هتف يوسف بغيظ " سألتك عن تامر وليس علا "
زفرت بصوت مكتوم وهي ترد بنفس النبرة " لا أعرف تامر أو غيره فمن أين لي بمعرفته من الأساس؟ "
همت بالتحرك فقاطعها يقول بحنق مكتوم " حقاً! لكنني رأيتك تقفين معه بالأمس "
اتسعت عينيها بذهول وهي تغمغم " كيف رآني وهو حضر بالأمس من المشفى في وقت متأخر؟ "
خرجت مريم من المطبخ في تلك اللحظة ولاحظت الوضع المتوتر بينهما فسألت بلطف " ماذا هناك يا أولاد؟ "
قطب مجيبا " كنت أسأل نبض عن شخص ما "
ابتسمت مريم وهي ترد بالنيابة عن ابنتها " وبالطبع أنتَ منزعج لأنها لم تعرفه.. لكنك تعرف جيدا أن عدد من تعرفهم نبض قليل جداً "
رد بإقتضاب وهو ينظر لنبض " رأيتها تقف معه "
نظرت مريم بحيرة بينهما قبل أن تسأل ابنتها " من هذا الذي كنتِ تقفين معه يا نبض؟ "
غمغمت نبض بغيظ " حتى أنتِ يا أمي.. حتى أنتِ "
أعادت مريم سؤالها ثانية بحزم " انظري إليّ يا نبض واجيبيني.. مع من كنتِ تقفين؟ "
استدارت نبض تنظر إلى أمها وهي تشبك أصابع كفيها خلف ظهرها بينما تقول بخفوت مرتبك " مع الأستاذ تامر "
قطبت مريم تسألها باستفسار " تقصدين أستاذ تامر عبد الحميد مدرس اللغة الإنجليزية؟ هل عاد من أمريكا؟ "
اومأت برأسها وهي ترد " نعم منذ أسبوع تقريباً وقد تعين في المدرسة التي أدرس فيها "
ابتسمت مريم بلطف وهي تقول " كان صديقا لمروان ابن خالتك.. منذ صغرهما وهما معاً.. إذن هو أصبح جارنا أيضاً "
اومأت نبض من جديد وهي ترد " نعم ماما.. شقته في الدور الثالث "
صرخ هو فجأة مجفلا مريم ونبض " وكيف عرفتِ ونحن لا نسكن في نفس الطابق؟ "
ردت نبض بتلقائية " لأن الطابق الثالث حيث يسكن في الأسفل والطابق الخامس حيث نسكن نحن في الأعلى كما أنه أخبرني بالأمس "
جز على أسنانه بغيظ سائلا " وما سبب اخباره لكِ بكل هذه التفاصيل آنسة نبض؟ هل ظنك تعملين في السجل المدني؟ "
هزت رأسها سلبا وهي ترد ببراءة " لا.. هو يعلم أنني لازلت طالبة ولم أعمل بعد "
كتمت مريم ضحكتها وهي ترى بوادر انفجار وشيك في المكان بسبب براءة نبض المستفزة
تخصر يوسف وهو يقف أمامها بينما يسألها من جديد " ولماذا كنت تقفين معه في الشارع بالأمس؟ "
برمت شفتيها وهي تبرر موقفها " هو من ناداني ليخبرني أنني مرحب بي في أي وقت إذا ما احتجت لأي سؤال أو إستفسار في المادة "
ضيق عينيه وهو يميل بجذعه للأمام ناحيتها بينما يقول " مرحب بكِ! مرحب بكِ أين بالضبط؟ "
ردت بعفوية " أظنه يقصد في شقته بالطبع إذ أنه يعطي دروس خصوصية لبعض زميلاتي في الصف في شقته "
قطب يوسف بضيق وهو يقول " مرحب بكِ في شقته.. ويعطي الدروس لزميلاتك في شقته (ثم صرخ بإنفعال شديد وهو يتابع) ذلك الحقير لن يبقى في تلك البناية دقيقة واحدة إضافية "
ثم بخطى واسعة كان يتجه إلى الباب وبعد أن فتحه وقبل أن يخرج نظر لها ورفع سبابته في وجهها يقول " إن رأيتي وجهه اليوم في المدرسة أخبريه أن اليوم هو الأخير له في تلك المدرسة.. أخبريه أيضًا أن مستقبله المهني إنتهى للأبد "
خرج بعدها وصفق الباب خلفه بعنف وهو يهدر بغضب " الحقير، النذل.. يريدها في شقته أقسم بالله لأجعلنه يندم على طلبه الوقح هذا وأعلم من سيؤدي تلك المهمة على أكمل وجه "
***

وصل إلى المستشفى وهو يشعر بداخله كله يحترق ورغم كل ما فعله إلا إنه لازال يشعر بالضيق، توجه على فوره إلى غرفته الخاصة ليبدل ملابسه بينما عقله يعمل ويخطط لأكثر من شيء في ذات الوقت
خرج بعد بضعة دقائق وهو يتفحص هاتفه في انتظار مكالمة هامة من شخص ما ليأتيه الصوت الضاحك من خلفه يقول: " أحببت اللوحة الجديدة لك يا فنان "
أخفى شبح الابتسامة الذي كاد يظهر على شفتيه وهو يستدير بتمهل مجيبا " كنت أعلم أنها ستحظى على اعجابك ورضاك "
عقد مختار ساعديه أمام صدره وهو يقول " إعجابي نعم.. أما رضاي فلا "
قطب صخر يقول بضيق " لا يهم.. فعلى أي حال ما كنت لأتركه يتجرأ على ما يخصني دون أن أوقفه عند حده كما يستحق "
رفع مختار حاجباً باستفزاز وهو يقول " حولت من وجه الرجل وجسده لوحة تجريدية مخيفة لا معالم لها لأجل بضعة كلمات قالها بدون تفكير "
جز صخر على أسنانه وهو يجيب " إنه حقير وقد كشفت بضعة الكلمات التي قالها نواياه القذرة "
ابتسم مختار بلامبالاة يقول " لا أجد للرجل قطع غيار بديلة لما افسدتها "
برم شفتيه ببرود وهو يتخطاه ببساطة قائلاً " اتركه يموت ببطء.. هذا ما يستحقه هو وأمثاله "
صاح مختار من خلفه " ألا تخاف أن يقدم شكوى ضدك؟ "
رد بتهكم دون أن يتوقف عن سيره " فليفعلها إن لم يكن يريد التنعم بما بقي له من عمره "
زفر مختار بغير رضا وهو يتمتم " لن ترتدع بسهولة يا صخر، تحتاج إلى صدمة قوية لتصحو من غفلتك قبل أن تضيع نفسك "
***

بعد قليل / في مكتب صخر
قطب بحيرة حينما وجد مختار يدخل مغلقاً الباب خلفه فقال " أليس لديك حالات لتعاينها دكتور مختار؟ "
تجاهل مختار الرد على سؤاله وتقدم يجلس على الكرسي المقابل لمكتبه وهو يقول " يبدو أن تلك الصفقة لم تسير كما خططت لها "
رد بلامبالاة " إنها مجرد غطاء لما أسعى له وأنت تعرف هذا "
قطب مختار بجدية وهو يقول " إذن سترفضها "
هز رأسه سلباً قائلًا " إن رفضتها بتلك السرعة سأثير شكه "
طالعه مختار وهو يسأله بترقب " إذن ما الحل البديل من وجهة نظرك؟ "
سلط صخر نظراته الغامضة على قلمه الذي يتلاعب به بين أصبعيه بينما يجيب " من المفترض أن موافقتي قد وصلته في تلك اللحظة وبعد ساعة على أكثر تقدير ستكون كافة العقود قد تم الاتفاق عليها "
عبس مختار بغير رضا وهو يقول " من الغباء أن تورط نفسك مع شخص ذو سمعة سيئة وخارج عن القانون كهذا؟ "
رد ببساطة " إنه الوسيلة الوحيدة المتاحة أمامي للوصول إلى الحقير فؤاد "
زفر مختار بضيق يقول " أنت وحدك أمام التيار يا صخر.. ستخسر بني بل ستهزم شر هزيمة "
لمعت مقلتيه بقسوة مخيفة وهو يتمتم " لا تخف عماه هذا لن يحدث.. فأنا لم أعتد الهزيمة ولم أخط ذلك المصطلح في قاموسي يوماً ولن أفعل "
ضرب مختار بقبضته على سطح المكتب قائلا بضيق شديد " يا ولد أفهم أنت هكذا لا تعرض نفسك وحدك للخطر "
رد صخر بصلابة " وأنا لم أطلب من أحد المساعدة عماه استطيع فعلها وحدي وكما ترى أنا أجنب يوسف كل هذا حتى لا أورطه فيما أفعله حتى تلك الصفقة تخضع لإشراف كامل مني وبعيدا تماما عن مؤسسة الجبالي حتى لا أسبب لهم أي مشكلات "
خفتت نبرة مختار بأسى وشفقة وهو يقول " صخر يا ولدي.. لا تغامر أنت تتعامل مع وحوش بلا ضمائر كل منهم يسعى ليسلب الآخر ما يملك بحقارة وأنت... لست هكذا "
أشاح صخر بوجهه بجمود وهو يرد " إذاً عليّ أن أتعلم كيف أصبح مثلهم حتى أتمكن من التعامل معهم (ثم أكمل بلهجة ذات بأس وقوة) لن أتراجع عماه.. لي حق ولن أفرط فيه مهما بلغ الثمن الذي عليّ دفعه في المقابل "
زفر مختار بحنق قائلا " عن أي حق تتكلم أنت.. ها؟ الأمر منذ البداية لم يكن متعلق بك من الأساس.. وجودك هناك كان صدفة وما تلاه أنتَ وحدك من تسببت في حدوثه "
غمغم صخر بجمود " ما كنت لأترك شخص يُقتَل أمامي وأظل مكتوف اليدين دون أن أدافع عنه "
صاح مختار وهو يضرب على سطح المكتب بقبضته من جديد، غاضبا من صلابة رأس صخر التي لا تلين " أتمنى من كل قلبي أن تذهب مبادئك تلك إلى الجحيم أيها المغرور "
قطب صخر مشيحا ببصره بعيدا دون تعقيب فمرت بضعة دقائق بينهما على هذا الصمت الكئيب حتى سأل مختار مغيرا الموضوع " كيف حال آدم؟ "
رد صخر بعبوس طفولي " طالما يرفع لي ضغطي فهو بخير "
ضحك مختار قبل أن يقول بمحبة " أحب علاقتكما القوية ببعضكما البعض رغم طول المسافة بينكما "
تنهد صخر وهو يرد " طول المسافة ليس عائقا بين علاقتنا يا عمي طالما حبل الود موصول فقط ليته يظل موصول حتى الأبد ولا ينقطع عند لحظة تحت أي ضغط أو لأي سبب "
قطب مختار بعدم فهم يقول " ماذا تقصد يا صخر؟ هل هناك أي خلاف بينكما لا قدر الله؟ "
أطرق صخر بنظراته إلى سطح المكتب وهو يقول بغموض " حتى اللحظة لا.. لكن قريبا سيكون "
ثم تنهد فجأة وهو يردف " آدم عائد إلى البلاد عما قريب ولا يعرف بشأن تلك الصفقة التي أخطط لها "
سأل مختار بترقب " ولماذا لم تخبره عنها؟ "
قطب صخر بضيق يقول " لأنني لا أستطيع اخباره عن المغزى من وراء تلك الصفقة.. لا أريد أن أفصح له عما أخطط له "
سأل مختار بحيرة " ألا تثق به؟ "
رد صخر بإقتضاب " بالطبع أثق به كثيراً فآدم بمثابة أخ لي لكن... "
قطع حديثه فتابع مختار عنه " تخشى أن يرفض فكرة الإنتقام التي تسعى خلفها "
لم يرد صخر فأردف مختار بتساؤل حذر " ترى لأي سبب قد يرفض؟ خوفا عليكَ أم (نظر له صخر بإقتضاب شديد فأكمل مختار بهدوء) أم رفضا لإيذاء خاله؟ "
رد صخر ببرود مراوغا " في كلا الحالتين ما كنت لأتراجع عن قراري "
نهض مختار من مكانه قائلًا بهدوء " إن أردت رأيي فمن الأفضل أن تفصح له عما تخفيه عنه.. أشرح له قرارك ووجهة نظرك وأتركه يفكر ويتخذ قراره وحده وعن قناعة وبعدها فليكن ما يكون.. لكن ليس من العدل أن تخفي عنه أمر بهذه الأهمية "
رد صخر وهو يتخلل خصلات شعره بقلة حيلة " آدم يشعر تجاهي بحمائية شديدة أفشل في كثير من الأحيان في تفسيرها وأخشى أن يتخذ جانبي فيتورط معي في طريق لا رجوع منه ويتأذى "
قطب مختار يقول " هذه هي مشكلتك تتمسك برأيك لأبعد حد ظنا منكَ بأنكَ هكذا تحمي من حولك .. رهابك من أذية من حولك لا يأتي بنتائجه السلبية على أحد سواك .. وحدك المتضرر يا صخر "
رد صخر بخفوت كئيب " لطالما كنت كذلك دومًا فلا أرى ضير من أذى جديد يُضاف للائحة أوجاعي اللانهائية "
هز مختار رأسه بيأس وهو يخطو مغادرا الغرفة دون أن يعقب بشيء في حين رفع صخر هاتفه وطلب رقم ما أتاه الرد منه على الفور " نعم صخر بك "
رد صخر بجمود " سأبعث لكَ بصورة مرفقة بإسم أريد كافة المعلومات الخاصة بها في غضون أربعة وعشرين ساعة لا أكثر "
رد الطرف الآخر بطاعة " ليكون ما تريد يا باشا "
قال صخر بإيجاز قبل أن يغلق الخط " حسناً سأرسل لكَ الصورة الآن "
ضغط زر الإرسال قبل أن يلقي الهاتف على سطح المكتب بلامبالاة مغمغما بجمود " لنرى ما خلفكِ أنتِ الأخرى "
***

بعد مرور بضعة ساعات / في المدرسة الثانوية
كانت نبض تجلس في مقعدها إلى جوار نور زميلتها وجارتها في حرج شديد وهي تتحاشى النظر لوجه الأستاذ تامر الذي حضر إلى المدرسة في حالة مزرية كانت تعلم سببها بالطبع
كل فينة والأخرى ترمق ساعة معصمها بغيظ وهي تعد الثواني المتبقية على إنتهاء الحصة لكي تهرب سريعا من أمامه وتختبئ في أي مكان لا يمكن أن يجدها فيه لكن الدقائق كانت تمر بطيئة وكأنها لا تريد أن تنتهي
زفرت براحة حينما أعلن الجرس المدرسي عن إنتهاء حصة اللغة الإنجليزية وبدء فترة الراحة قبل إستكمال بقية الحصص
كانت تضع كتبها في حقيبتها على عجلة لتخرج من الصف حتى فوجئت بالأستاذ تامر يقف أمامها محدثا زميلتها " إن كنتِ انتهيت من لملمة أدواتك يمكنك الخروج من الصف نور "
تنحنحت نور بحرج وهي ترمق نبض بطرف عينيها في حين ردت " لقد انتهيت بالفعل.. بعد إذنك أستاذ "
اومأ لها بلا معنى فخرجت مهرولة وحينما همت نبض باللحاق بها استوقفها تامر قائلًا بجمود " انتظري نبض.. أريد الحديث معكِ "
تسمرت مكانها ورأسها مطرق للأرض وهي تكاد تبكي من الحرج في تلك اللحظة
همهمت بخفوت " نعم أستاذ "
رد تامر بإقتضاب " طبعاً أنتِ لستِ في حاجة للسؤال عما حدث وتسبب لي في هذا (وأرفق قوله بأن رفع يده مشيرا لوجهه المكدوم بحركة دائرية وهو يكمل) لأنك تعلمين أليس كذلك؟ "
رمشت بقوة وهي تتوسل للأرض بصمت أن تنشق وتبتلعها لتنقذها من ذلك الموقف المخزي
استجمعت شجاعتها وهي ترد بمراوغة " وكيف سأعرف أستاذ؟ "
هتف تامر بغيظ لم يتمالك كتمه " لا تستفزيني نبض .. تعرفين أن ذاك الهمجي قريبك هو من فعل ذلك "
فغرت فاهها بصدمة وحيرة للحظات وهي لا تفهم عن أي قريب يتحدث؟ لكنها سرعان ما تذكرت أن والدها أخبر الجميع من قبل بكون صخر قريبهم وأن يوسف محال أن تنتج عنه أي ردة فعل عنيفة إذن الفاعل هو صخر ولا غيره، قطبت بتعجب تفكر كيف وصل الخبر لصخر بهذه السرعة وهي أخبرت يوسف وحده؟ والأهم هو متى وأين رسم صخر تلك اللوحة التجريدية على وجه الأستاذ تامر؟
خرجت من أفكارها على إهانات تامر المستمرة التي يخص صخر بها فرفعت رأسها بحدة مقطبة بغضب صرخت به مقلتيها وهي ترد " صخر ليس همجي أستاذ تامر.. إنه طبيب محترم وأيا كان سبب شجاركما فليس من حقك أن تنعته بالهمجي.. (رفعت سبابتها في وجهه تقول بشراسة من بين أسنانها) لن أسمح لكَ بذلك "
طالعها بذهول وهو يقول " هل تدافعين عنه بعد ما فعله بي؟ "
التقطت حقيبتها وهي ترد ببرود مقصود " بالطبع فهو قريبي مهما فعل يفترض بي أن أدافع عنه في غيابه.. بعد إذنك أستاذ "
خطت خطوتين وتوقفت تقول بترفع وهي توليه ظهرها " بالمناسبة أستاذ تامر نسيت أن أشكرك على عرضك الذي أخبرتني به بالأمس لكني لست في حاجته فصخر.. (وشددت على بقية جملتها) يشرح لي كافة المواد "
خرجت بعدها من الفصل دون أن تعيره إهتمام مغمغمة بتذمر طفولي " منكَ لله يا صخر بسببك اضطررت للكذب "
***

ما إن وصلت إلى فناء المدرسة حتى تفاجأت بعدد لا بأس به من زميلاتها في الصف تقتربن منها بحماسة عالية بادية على وجوههن الباسمة بهيام سخيف مبالغ فيه من وجهة نظرها
صاحت إحداهن بفرح غير مبرر " قريبك هنا "
قطبت بحيرة تشير لنفسها قائلة " قريبي أنا "
قطبت الفتاة تقول " نور اخبرتنا أنه قريبك "
نظرت نبض بعدم فهم إلى نور تسألها " فسري نور ماذا تقصد هبه؟ "
ابتسمت نور بحماس كباقي الفتيات تقول " هبه تقصد صخر "
رمشت نبض بذهول وهي تتمتم " صخر هنا.. يا للمصيبة "
تنهدت أخرى بهيام وهي تتلاعب بخصلة من شعرها قائلة " معكِ حق هو مصيبة بالفعل.. لكنه مصيبة وسيمة للغاية .. ماذا ينقصه يا ترى؟ "
ردت أخرى بنفس الهيام " لا شيء بالطبع.. طبيب، وسيم، ذو عينين كحيلتين، طويل القامة، عريض المنكبين.. إنه كأبطال الروايات وأيضًا ذو شخصية جبارة "
فغرت نبض فاهها ببلاهة بينما ضحكت نور بتهكم تقول " نعم جبارة وليتها تنفجر في وجهك "
عبست الفتاة من سخرية نور بينما قطبت نبض تسأل " أين هو يا نور؟ "
ردت نور " في مكتب المديرة "
اتسعت عينيّ نبض بقلة حيلة وهي تغمغم " لا حول ولا قوة إلا بالله.. ضاع الأستاذ تامر المسكين في شربة ماء "
همت بالتحرك فسألتها نور " إلى أين أنتِ ذاهبة؟ "
ردت بعبوس وهي تسرع الخطى ناحية مكتب المديرة " يجب أن أنقذ ما يمكن إنقاذه قبل أن نجد المسكين معلق من قدميه كالذبيحة على بوابة المدرسة "
قطبت هبه بحيرة تسأل نور " مسكين! وذبيحة! ما الذي تقصده نبض؟ "
كتمت نور ضحكتها وهي ترد بمراوغة " لا أعلم.. دعينا نراقب في صمت "
***

وصلت إلى مكتب المديرة لكن قبل أن تطرق الباب كان صخر يفتحه فكادت تصطدم به من شدة اندفاعها لولا أنه تراجع للخلف في نفس اللحظة ليقف كليهما أمام بعضهما بملامح عابسة
أتى صوت المديرة من خلفه حينما لاحظت وجود نبض تطمئنها بالقول " لا تقلقي نبض.. ستحاول إدارة المدرسة اتخاذ الإجراءات اللازمة بشأن الأستاذ تامر في أسرع وقت "
ضيقت نبض عينيها بعدم فهم ليهمهم صخر بخفوت وهو يميل ناحيتها قليلًا " إياكِ وفتح فمك بكلمة أمام المديرة "
كادت تجادله لكن المديرة سبقتها تقول بلوم " في المرة القادمة حينما تكون لديكِ أي مشكلة أو شكوى تعالِ لمكتبي واخبريني مباشرة فليس هناك داعٍ لتعطيل دكتور صخر عن عمله بسبب تلك الأمور "
رمشت بضيق وهي تستشعر تغير في نبرة صوت المديرة، عبست وهي تفكر ترى هل تتخيل نبرة الدلال في صوتها؟
ماذا يحدث مع الجميع اليوم بسببه؟
غمغمت بخفوت " حاضر.. في المرة القادمة بإذن الله سأخبرك فورا أستاذة جهاد "
إلتفت صخر إلى المديرة قائلًا بلباقة " شكرا مرة ثانية أستاذة جهاد وسعدت بلقائك "
ابتسمت جهاد بإتساع وهي ترد " أنتَ على الرحب دكتور صخر.. لا تحرمنا من رؤيتك مجددًا حتى وإن لم تكن لدى نبض أي مشكلة "
مالت نبض من خلف كتفه تطالع المديرة بذهول جاحظة العينين وهي لا تصدق أن الأستاذة جهاد التي يضرب بها المثل الأعلى في العبوس تبتسم بل ويبدو أنها تغازل صخر
رد صخر متنحنحا بحرج " آه بالطبع قريباً إن شاء الله.. بعد إذنك أستاذة جهاد "
ردت جهاد بإبتسامة هائمة " مع السلامة دكتور صخر.. شرفت المدرسة وأنرتها والله "
تمتمت نبض بدهشة " والله! وأنار المدرسة! هل ظنته يعمل في مجال الكهرباء؟ مصباح هو ربما؟ "
إلتفت صخر إلى نبض قائلًا " هيا نبض "
اومأت برأسها وهي تتحرك معه بينما ترمش بذهول متمتمة بتفكير جاد " هناك لغز في شخصية صخر عليّ اكتشافه حتى أفهم ماذا يحدث مع كل الفتيات اللاتي تراه؟ "
حينما وصلوا إلى الفناء كانت هي لازالت على سيرها الشارد عنه تفكر فاستوقفها بتعجب يقول " توقفي نبض.. إلى أين أنتِ ذاهبة؟ "
توقفت بالفعل والتفتت حولها بحيرة للحظات ثم ثبتت في وقفتها أمامه مطرقة الرأس وهي تقول بهدوء ظاهري " هلا أخبرتني بما قلته للأستاذة جهاد عن الأستاذ تامر؟ "
رد ببرود " وما دخلك أنتِ؟ "
قالت من بين أسنانها بغضب مكبوت " لي دخل بالطبع.. أنتَ هنا لأجلي والأمر الذي جئت تتحدث عنه يخصني.. لذا فمن حقي أن أسأل ومن واجبك أن ترد "
رفع حاجبا باستفزاز وهو يضع كفيه في جيبي بنطاله قائلًا " لا أظن بأنني في حاجة لأن تخبرني طفلة قزمة مثلك عن واجباتي "
رددت ببهوت " قزمة! من القزمة؟ أنا! "
مال برأسه قليلا وهو يرد باستفزاز " ألم تطالعي صورتك في المرآة من قبل؟ "
فتحت فمها لترد حينما لفت انتباهها وقوف زميلاتها على بُعد قليل منهما تتهامسن وهن يُشرن على صخر فعبست بغيظ تقول " قف بانضباط وأخرج يديك من جيبيك.. لست هنا لتقدم عرض يا سيد "
رفع حاجبيه بذهول يقول " ماذا؟ "
ضربت الأرض بقدمها بطفولية وهي تتمتم بصوت حانق " نفذ ما قلته حالا يا صخر "
تلقائيا وجد نفسه يخرج يديه من جيبي بنطاله منفذا أمرها وهو ينظر لها بحيرة قائلا بتلقائية " هكذا؟ "
اومأت له دون أن تنظر له وهي تسلط أنظارها على الفتيات من خلفه واللاتي كن من صفوف أخرى غير صفها لتهمهم حينها بغيظ " ما هذا؟ أليس لديهن حصص أم ماذا؟ "
قطب صخر متحيرا في أمرها قبل أن يقول " هل ستعودين معي الآن لأقلك إلى البيت في طريقي أم ستكملين دوامك المدرسي؟ "
ردت بغمغمة نزقة " لن تسمح لي المديرة بالذهاب للبيت قبل إنتهاء الدوام طالما ليس لدي سبب يستدعي ذلك "
عقد ساعديه أمام صدره وهو يرد بعجرفة لكي يغيظها " يمكنني أن اتوسط لكِ عندها إن رغبت في العودة معي الآن "
تأففت غيظا من الفتيات اللاتي عاودن التهامس من جديد ونظراتهن تبدي إعجابهن الواضح به كان ذلك قبل أن تلاحظ وقفة صخر فتصرخ بإنفعال وهي ترفع سبابتها في وجهه " قف منضبطا قلت.. لماذا لا تنفذ ما أقول؟ "
نظر لها ملئ عينيه وهو لا يصدق بأنها أخيرا تنظر له مباشرة دون أن تشيح بوجهها عنه بعيدا كما تفعل في كل مرة تحدثه فيها وحين لاحظت هي صمته الطويل الشارد رمشت بتوتر وهي تخفض بصرها عنه متسائلة بإرتباك " ما بكَ؟ هل أكل القط لسانك؟ "
نسى كل شيء وهو يسألها بخفوت " نبض ما لون عينيّ؟ "
ردت نبض بتلقائية، مسهبة دون وعي منها " بنيتين كلون القهوة لكنهما تزدادان قتامة كلما غضبت أو انفعلت وكأنهما مرجلين يغليان حتى إن اشتعال أفكارك دوماً ينعكس في لون عينيك فيجعلهما أثيرتين ببريق خاطف "
كان يطالعها ببلاهة متسع العينين وظل صامتا للحظات طويلة قبل أن يتمتم بخفوت " كيف عرفتِ كل هذا وأنتِ لا تنتظرين إليّ مباشرة؟ "
أولته ظهرها بخجل دون أن ترد فاقترب منها خطوة يهمس جوار أذنها بنبرة رقيقة حنونة " وأنتِ عينيكِ تبارك الخلاق.. جوهرتين نفيستين كحجرين كريمين يلمعان كلما تحمستِ أو غضبتِ، تغيمان في قتامة مثيرة تنعش القلب العليل حينما تخجلين فلا حرمني الله من رؤية خجلكِ في كل لحظة "
كتمت شهقتها بسرعة وهي تخطو بعيدا عنه مغمغمة بتلعثم من الخجل " أظن بأن... بأنني سأكمل دوامي .. السلام عليكم "
استوقفها قائلاً بندم حقيقي " نبض أنا أعتذر.. لم أقصد ما حدث بالأمس "
ازدردت ريقها وهي تقف مكانها قائلة بحرج " لا بأس لكن... أتمنى ألا يتكرر ثانية.. أرجوك إنتبه "
تنهد بقوة وهو يرد " كانت ذلة أقسم لكِ ألا تتكرر مجددًا لا تقلقي "
ردت ببسمة رقيقة دون أن تستدير له " حسنًا الآن اعتذارك مقبول دكتور "
خطت عدة خطوات ثم توقفت من جديد واستدارت له بحدة تستوقفه وقد همَّ بالرحيل " صخر انتظر "
نظر لها بتساؤل فرفعت حاجبا بتهديد وهي تشير له بسبابتها قائلة " أخرج حالا من المدرسة وأستقل سيارتك مباشرة وعد لبيتك وإياك... إياك أن تقف مع أي فتاة لأي سبب "
قطب بعبوس يقول " لستُ ولدا صغيرا لتكلميني بهذه الطريقة.. ثم إنني لا أفهم سبب ما تقولين "
ردت ببرود مصطنع " هذا ما عندي وبدون سبب "
استدارت بخفة وخطى ثابتة ناحية مبنى الصفوف دون أن تضيف المزيد
رفع صخر حاجبيه يكلم نفسه " لقد ورثت تعنت أمها وتسلطها بجدارة لكَ الله عماه "
تنهد بعمق وهو يضع كفيه في جيبي بنطاله متوجها ناحية البوابة وقبل أن يصل إليها رأى الأستاذ تامر يقف في إحدى الزوايا يتحدث في هاتفه بعصبية فرمقه بترفع وبريق النصر يلتمع في مقلتيه مما جعل تامر يقطب بغضب مكبوت وهو يعجل في إنهاء المكالمة متوجها لصخر الذي تمهل عن قصد في الخروج من المدرسة
وصل إليه تامر قائلا بإندفاع " لا تظن نفسك حققت أي نصر عليّ.. أنتَ لا تعرف من هو تامر عبد الحميد وما بمقدوري فعله بكَ؟ "
نظر له صخر باستهانة وهو يقول " هل يفترض بي إعتبار هذا تهديد أستاذ تامر عبد الحميد؟ "
جز تامر على أسنانه وهو يرد بغل " يفترض بكَ أن تحذرني دكتور صخر فأنا لا أترك حقي "
رفع صخر حاجبا بترفع وهو يرد باستفزاز " وأنا لا أحب أن أبخس الناس حقوقها فإن كان لكَ عندي حق تعالَ وخذه "
قطب تامر يقول بغيظ مكبوت " ستندم عما قريب وستدفع الثمن غاليا.. هذا وعد مني "
رمقه صخر بنظرة مستخفة شملته باستهانة وهو يقول بلامبالاة " سأكون في الجوار أترقب.. فقط لا تتأخر فأنا لا أحب الإنتظار طويلًا "
ثم رفع اصبعيه السبابة والابهام إلى جانب رأسه بينما قبض على البقية وهو يشير له بتحية تشبه تحية الكشافة قائلا باستفزاز " سلام "
***

بعد بضعة أيام / صباحًا
كان أنس مستمتعا كالعادة بمناكفة شمس التي تتذمر عليه في البداية لكنها لا تلبث أن تطلق العنان لضحكاتها الراضية المرحة
كان أكرم يراقبهما بعين الأب الحنون السعيد من تلك العلاقة الوثيقة والفريدة التي تربط بين أنس وشمس رغم اختلاف أميهما
بينما مروة كانت تميد غيظاً من ابنها وحقداً على شمس، صحيح أن الفتاة لم تفعل يوماً ما يزعجها منها أو ما يغضبها لكنها لا تشعر ناحيتها بأي عاطفة إلا الحقد والقهر
لا يمكنها تناسي أن أكرم تزوج عليها ذات يوم وأحب زوجته الأخرى أكثر منها بل للحق إنه لم يحبها يوماً بتلك العاطفة التي تتولد بين الرجل وزوجته وإنما كان يبذل قصارى جهده ليعاملها بود ورحمة ليس أكثر
وهي مع انشغالها بالاجتماعات السخيفة التي تقيمها مع صاحباتها في النادي لم تجد الوقت لتحاول رأب الصدع في علاقتها بزوجها أو التفكير في حل لتلك الخلافات التي لا تنتهي بينهما
كان جلّ همها أن تظل بصورتها المنمقة كسيدة مجتمع مخملي راقي، تبذل الكثير للحفاظ على تلك الصورة أمام الجميع ولو كلفها هذا إهمال أسرتها لبعض الوقت بل لكثير من الوقت لكنها لا تبالي سوا بمظهرها
وفي سبيل الحفاظ على هذا المظهر المنمق هدمت الكثير من الروابط كان أولها علاقة الود بينها وبين زوجها فلم يعد أكرم يهتم بغضبها منه ولا يسعى لمراضاتها ولو لأجل صلة الدم والرحم التي تربط بينهما كما كان يفعل في السابق
كما هدمت العلاقة بينها وبين ابنها الوحيد، تلك العلاقة التي لم تكن يوماً من الأساس فهي وإن كانت تهتم به أحياناً فهذا لأنه يعد ولي العهد والوريث الوحيد لأكرم الباسل رجل الأعمال الثري ذا النسب والجاه أما دون ذلك فهي لا تهتم أبداً بل إنها كانت منزعجة منه منذ ولادته كونه سلبها الكثير من الوقت أثناء الحمل كان من الممكن استغلاله في عمل أكثر نفعاً من وجهة نظرها
ولم تفلت تلك المسكينة شمس منها بل كان لها الحظ الوافر من نقمتها وصب جام غضبها عليها كلما ازعجها أكرم أو أنس فلم تكن تجد لها منفذا لتفرغ فيه غضبها سوا شمس
وكم تحملت شمس منذ وعت على الحياة من تلك المرأة البغيضة دون شكوى أو تذمر، كان يكفيها حضن أبيها لتنسى يوماً كاملاً استغرقته في البكاء نتيجة لضرب مروة لها، أو ابتسامة صادقة وتربيته حانية من أنس لينجلي همها وحزنها وتشع روحها بالسعادة
تنحنح أكرم قليلاً مخرجاً نفسه من أفكاره وهو يقول بابتسامة هادئة " أتتك دعوة لحضور حفل زفاف يا شمس "
نظرت شمس إلى والدها مقطبة بحيرة تقول " دعوة، لي أنا!.. مِمَنَ؟ "
اتسعت ابتسامته أكثر وهو يرد بمكر " إنها مفاجأة "
ضيقت شمس عينيها وهي تقول " أشعر أنك تخفي عني أمر خطير بابا .. مفاجآتك دوماً تصدمني "
ضحك أكرم متسلياً وهو يرد " الأمر مختلف هذه المرة لكن بصراحة معكِ حق سوف أصدمك "
زمت شمس شفتيها وهي تتمتم بعبوس " رائع "
سأل أنس بجدية " ممن تلك الدعوة يا أبي؟ أنا لم اسمع عن حفل زفاف أياً من اقاربنا أو معارفنا حتى "
كانت مروة هي الأخرى تتابع الحديث بترقب واهتمام حتى أجاب أكرم ببساطة " هذا لأن الدعوة ليست من أياً من اقاربنا أو معارفنا "
عقد أنس حاجبيه بانزعاج من مماطلة والده بينما هتفت مروة بنفاذ صبر " ما هذا يا أكرم؟ لغز! لما لا تقل من قدم تلك الدعوة حتى ننتهي؟ "
رفع أكرم حاجبيه ببرود وهو يرد " الدعوة مقدمة لشمس لذا فهي وحدها من لها الحق بالسؤال عن هوية المرسل ولا أحد... آخر "
تشديده على الكلمة الأخيرة اشعرها بالحرج والإهانة مما جعلها تنهض مغادرة الغرفة وهي تتمتم بغضب وتسب شمس في نفسها
نظرت شمس إلى والدها بلوم وهي تقول " ألم نتفق يا بابا؟ "
نظر لها أكرم ببراءة مصطنعة وهو يسألها " نتفق! على أي شيء اتفقنا؟ "
قطبت شمس وهي تشيح بوجهها عنه في يأس متمتمة " لا أمل أبداً في تغيير شخصية السيد العظيم أكرم الباسل "
تجاهل أكرم ردها وابتسم يقول " حفل الزفاف سيقام غداً بإذن الله لكنك ستذهبين اليوم "
عادت شمس تنظر إلى والدها بحيرة بالغة وهي تقول " أذهب إلى أين بالضبط؟ "
رد أكرم بهدوء " إلى حيث سيقام حفل الزفاف "
قطبت شمس بغيظ وهي تسأله " وأين سيقام هذا الحفل الغريب؟ "
ابتسم أكرم باستفزاز وهو يجيبها " إنه جزء من المفاجئة لذا لن استطيع الإفصاح لكِ عن المكان "
عبست شمس وهي تعقد ساعديها أمام صدرها بينما تقول " لن أذهب فلست في مزاج لحضور أي حفل "
غمز أكرم بطرف عينه بمرح وهو يقول " ألم أخبركِ الأمر مختلف هذه المرة .. أنا على تمام الثقة بأنكِ ستستمتعين كثيراً وبالمناسبة... (قطع حديثه وهو ينظر إلى أنس بهدوء ثم تابع موجهاً حديثه لشمس) لن يرافقك سوا أنس وحده "
رمشت شمس بذهول وهي تقول " لماذا؟ ألست مدعواً أنت وعمتي مروة أيضاً؟ "
رد أكرم بهدوء " بلى أتتنا دعوة أيضاً لكن أنتِ وأنس فقط من ستذهبان فأنا مشغول وعمتك مروة... (ابتسم ساخراً ثم تابع) لا أظن أجواء ذاك الحفل ستنال إعجابها ولا أريد إفساد الأمر عليكِ بكثرة تذمرها لذا لن نذهب معكما "
نهض أكرم من كرسيه واقترب منها مقبلا وجنتها برقة وهو يقول بحنان " سأغادر الآن لعملي حتى لا اتأخر.. استمتعي حبيبتي قدر ما تستطيعين.. سأشتاق إليكِ "
بعدها التفت أكرم إلى أنس واقترب منه بهدوء وعلى نحو مفاجئ انحنى أكرم قليلاً وقبل جبين أنس الذي تجمد في مكانه من وقع المفاجئة وهو يسمع والده يقول " انتبه لأختك ولا تغفل عنها لحظة يا أنس وحاول أن تستمتع بالأمر فهو جديد عليك.. سأشتاق إليك... كثيراً يا أنس "
والده نطق إسمه ' أنس ' مرتين، مرة بتحذير وحزم أبوي تام ومرة بحنان معهود منه لكنه شعر به بفيض عليه بحنانه تلك المرة أكثر وهذا أثر فيه بشكل خاص
قبل أن يرد أنس بكلمة كان والده قد ابتعد بعدما ربت على كتفه قائلاً " هاتفني بعد ساعة هناك ما أريد اخبارك به "
اومأ بالموافقة لكن والده كان قد غادر فلم يره فتنهد بعمق وهو يتمتم بشجن " رُحماك يا رب "
نظرت له شمس بقلب مكلوم حزين عليه، أنس ذلك الشخص الفريد من نوعه رغم كل عيوبه ومساوئه لا ينسى لسانه ذكر الله في كل وقت
لم يتخلف مرة عن أداء صلاة في وقتها ولم يتكاسل يوماً عن القيام بأي فريضة لكنه ورغم ذلك متمسك بطريق الضياع الذي يسلكه راضياً به ليس راضياً عن نفسه
ابتسمت بمرح زائف حاولت به إجلاء القليل من الهم المسيطر عليهما وهي تقول " إذاً سنذهب أنا وأنت وحدنا.. أظنها ستكون مغامرتنا السرية الصغيرة "
ابتسم أنس بحنان وهو ينظر إليها قائلاً " هذا ما أظنه أنا الآخر يا شمسي "
هبت شمس من مكانها تقول بحماس " إذاً سأذهب لأرى ما سأحتاجه فعلى ما يبدو أننا سنبيت هناك الليلة نظراً لأن الحفل لازال في الغد "
اومأ أنس وهو يقول " حسناً اذهبي "
***

في المدينة الجبلية
كانت ترتيبات العرس تقام على قدم وساق الكل منشغل وملتفت إلى عمله بجد واهتمام كبير
ليس مسموح لأحد بالراحة خاصة وأن العروس المزعجة الطفولية إلى حد مغيظ تشرف على الترتيبات بنفسها والعمال أنفسهم يشعرون بالغيظ والحنق عليها
منذ ساعة باكرة من الصباح وهي تحوم من حولهم تهتف كل لحظة بتعديل على كل شيء يفعلونه
" لا أريد الزينة بهذا اللون بل أريدها وردية "
" بدلوا تلك المصابيح بأخرى فهذه لا تعجبني "
" لماذا لم تبدؤا حتى اللحظة؟ أسرعوا.. أنا أريد كل شيء جاهز قبل حلول المساء "
وحينما حاول أحدهم الاعتراض قائلاً " يا سيدتي لازالت الليلة الحناء والعرس سيقام في الغد فلما تلك العجلة التي لا أرى سبب لها؟ "
كان ردها الوحيد أن صرخت مستنكرة مما قال وهي تهتف بغيظ " لا دخل لك.. العرس اليوم أم في الغد أفعل ما اطلبه أنا دون نقاش .. هل أنت العروس أم أنا؟ "
عبس الرجل بحنق وهو يغمغم بما لم تسمعه زهراء فصرخت فيه بضيق " أجبني... هل أنتَ العروس أم أنا؟ "
زاد عبوس الرجل وهو يرد " أنتِ هي العروس سيدتي "
شمخت حينها زهراء بذقنها وهي تقول " إذاً أفعل ما تأمرك به العروس بصمت ودون نقاش وإلا... (نظر لها الرجل بترقب بينما هي برقت عينيها بمكر وهي تكمل جملتها) سأشكوك لعمي خالد "
انتفض الرجل بفزع وهو يقول بنبرة أقرب إلى التوسل " لا داعي لذلك سيدتي كل ما تأمرين به سيتم في الحال لا تشغلي نفسك بالأمر "
اومأت زهراء برأسها وهي تبتسم بنصر قائلة بخفوت قبل أن تخطو للداخل " جيد "
***

كان زيد يقبض على أصابعه بشدة ويكاد ينفجر غيظاً وهو يستمع إلى ابنة عمه الطفولية السخيفة بينما أبناء عمومته من حوله يكتمون ضحكاتهم بشق الأنفس حتى لا يثيرون غيظه أكثر
قال ياسين بتسلية " لقد اشفقت على الرجل المسكين حينما ذكرت اسم أبي .. كاد يموت من الفزع لولا لطف الله به "
انفجر الجميع في الضحك الشديد بينما صرخ زيد غاضباً " لولا خوفي من الله لكنت ذهبت إليها اللحظة وقطعت لسانها الطويل الذي تستخدمه في بث الخوف في نفوس الناس لكي تحقق رغباتها السخيفة "
صمتوا جميعاً في لحظة وكأن على رؤوسهم الطير بينما هو تابع كلامه " هل ترى عمي خالد وحش مخيف لهذه الدرجة؟ "
رد حمزة بهدوء " بل الرجل من يراه هكذا يا زيد .. هو من فزع وارتعب لمجرد ذكر اسمه أمامه "
ضيق زيد عينيه وهو يقول من بين أسنانه " هو ليس ظالماً سيد حمزة "
ارتفع حاجبي حمزة بتعجب وهو يرد " وهل قلت ذلك؟ كل ما قصدته أن زهراء استغلت اسمه لتضغط على الرجل لينفذ لها ما تريد "
اومأ عاصم برأسه وهو يؤكد كلام أخوه " حمزة معه حق .. الجميع يعلم من هو خالد الجبالي لذا يحسبون له ألف حساب وهذا ما دفع زهراء لذكر اسمه هو على وجه الخصوص دون آخر "
عبس زيد دون أن يعقب على كلامهم فتابع عاصم مناكفاً " لقد أصبحت تشبه عمي خالد في الصرامة وحدة الطباع .. أتعلم؟ يليق بك أن تكون ابنا له أكثر من عمي سليم "
التفت زيد جانباً ينظر إلى قاسم الذي يجلس متجهماً كالعادة ثم قال " أرى أن عمي خالد يكفيه ابن واحد حاد الطباع "
قال ياسين مازحا: " إذن واحد من نصيب أبي وآخر لعمي سليم فعلاً يا شباب القدر عادل إلى أبعد الحدود "
تأوه ياسين عندما ضربه قاسم على مؤخرة عنقه وهو يقول بخشونة " حسناً هيا بنا لنرى ما ينتظرنا من عمل ونعرف من هو عادل هذا يا ذا الظل الخفيف؟ "
دلك ياسين موضع الضربة وهو يلحق به متمتماً بغيظ " ادعوا لي يا شباب فقد تصيبني يد ذلك الجلف بعاهة فلا أتمكن من حضور العرس "
تبعته ضحكات حمزة الساخرة وهو يقول " بل قد يصيبك بعاهة مستديمة تجعل الفتيات تنفر منك فلا نجد عروس تقبل بك يا مسكين "
توقف ياسين عن سيره والتفت إلى أبناء عمومته ينظر لهم بهلع زائف وهو يقول " حقاً!.. "
لم يكد أحدهم يرد حتى أتاه صوت قاسم صارخاً من خلفه " ياسين "
استدار ياسين بسرعة يلحق بأخيه وهو يتمتم بغيظ وحنق " أراهن على أنهم استبدلوا أخي في المشفى بهذا الجلف .. ما كل هذا الحظ التعيس يا ربي أخ جلف وحبيبة حمقاء؟ هذا كثير جداً عليّ "
***

بعد بضعة ساعات
توقفت السيارة الفاخرة السوداء أمام دار الجبالي بتلك المدينة الجنوبية التي يغطي معظمها المساحات الخضراء التي تجعل منها روضة مبهجة للعين على خلاف أجواء العاصمة الصاخبة
ترجلت شمس من السيارة بهدوء وثقة لتقف بجوار أخيها أنس الذي أمسك بكفها مبتسماً بحماس وهو يقول " سعيد بأني سأشاركك في مغامرتك مع عائلتك الغامضة "
ابتسمت شمس برقة وهي ترد " ما كنت لأخوضها بدونك يا أنيس الروح "
لحظة صمت مرت بينهما وكل منهما يحاول استمداد قوته وطاقته من الاخر حتى قاطعهما صوت رجل ضخم ذو شارب كث، يرتدي جلباب قاتم اللون وعمامة بيضاء قائلا بنبرة ثقيلة تخص أهل الجنوب " كيف استطيع خدمتكم؟ "
رغماً عنها أجفلت من نبرته القوية، كل ما استطاعت فعله حينها أن تكتم تلك الشهقة التي كادت أن تفلت من بين شفتيها لكنها كرد فعل عفوي اختبأت خلف أنس فقط رأسها ما كان ظاهراً وهي تميله جانباً لتتمكن من رؤية الرجل غريب الهيئة بالنسبة لها
ضحك أنس من فعلتها الطفولية وهي تشدد على كفه الممسكة بها بينما يرد على الرجل بتهذيب " أهلاً يا عم .. هل هذه دار الحاج عبد الرحمن الجبالي؟ "
رمق الرجل شمس بنظرة جامدة غير راضية قبل أن يرد على أنس بنبرته الثقيلة " نعم هي .. من أنتم؟ "
ابتسم أنس بلطف وهو يرد " معنا دعوة خاصة من الحاج عبد الرحمن لحضور الحفل "
ردد الرجل ببطء ممتعض " الحفل! "
رفع أنس حاجبيه قليلاً وهو يعدل كلامه بنبرة تحمل الكثير من التسلية " أقصد لحضور عرس حفيديه "
ظل الرجل على امتعاضه منهما وهو يعيد سؤاله من جديد " لم تخبرني بعد... من أنتما؟ "
اتسعت ابتسامة أنس وهو يمد يده ليصافح الرجل وهو يقول بنفس نبرة التسلية " أنا أنس "
رمق الرجل كف أنس ببرود ثم عاد ورفع بصره إليه وهو يقول " من أنس؟ .. لم أفهم "
اغتاظت شمس من نبرة الرجل المستخفة بأخيها فهبت من خلف أنس تصيح " حقاً لا تعرف من هو أنس الباسل؟ "
نظر لها الرجل ببرود وهو يرد " لا.. لا أعرف من هو (وشدد على اسم أنس باستخفاف) أنس الباسل؟ "
رفعت شمس حاجباً بترفع وهي تتخصر أمام الرجل بثقة بينما تقول " إذن يشرفني أن أخبرك من هو أنس الباسل؟.. (ثم نظرت إلى أخيها بفخر وهي تقول) أنس أكرم الباسل أصغر واوسم رجل أعمال قد تقابله في حياتك هذا خلاف أنه... (قطعت كلامها وهي تنظر إلى الرجل بغيظ بينما تتابع) يكون أخي وأنا أكون... شمس أكرم الباسل ابنة السيدة رقية عبد الرحمن الجبالي "
فغر الرجل فاهه بصدمة وتبلدت ملامحه بغباء للحظات ثم هتف بصياح مرحب اجفلها " كنا ننتظرك منذ وقت طويل .. شرفت البلدة بأكملها وأنرتِ داركِ ودار أمك .. أهلاً وسهلاً بالغالية ابنة الغالية ابنة الغاليين "
رمشت شمس بذهول وهي تنظر له وكأنه مجنون من سرعة تبدل حاله ثم نظرت إلى أخيها بطرف عينها لتجده يكتم ضحكته بتسلية فعادة ببصرها إلى الرجل الذي تابع صياحه المرحب " تعالِ يا ابنتي لما تقفين عندك؟ .. أدخلي داركِ فالجميع في إنتظارك بالداخل "
ظلت شمس تطالعه بذهول وهي تقول بتمتمة خافتة متذمرة " الآن ابنتك وماذا عن العرض المسرحي والعبوس الذي لاقيتنا به منذ لحظات؟ "
سمعها الرجل فتبسم بحرج يقول " لا تؤاخذيني يا ابنتي .. من لا يعرفك طبيعي أن يجهلك وأنتِ لم تزوري عائلة أمك من قبل حتى نراك ونتعرف عليكِ "
شعرت شمس في تلك اللحظة بالحنين والشجن لتلك العائلة التي ظهرت لها فجأة من العدم
ابتسمت برقتها المعهودة وهي تقول " حسناً يا عم... (نظرت له بأدب وهي تسأله) ما إسمك عماه؟ "
ابتسم الرجل وهو يرد بلطف " إسمي ابراهيم "
اومأت برأسها بخفة وهي تقول برقة وأدب " حسناً يا عم إبراهيم لا بأس .. يمكننا أن نتجاهل ما حدث في بداية لقائنا وكأنه لم يكن والآن هل تسمح لنا بالدخول حتى ألتقي بعائلة ماما؟ "
اومأ الرجل برأسه بقوة وهو يرد عليها ماداً ذراعه أمامها وهو يقول " بالطبع تفضلا بالدخول .. من أنا لتأخذي الأذن مني يا ابنتي؟ .. تفضلي إلى داركِ أنرتِ وشرفت .. والله سعادتي لا تسعها الدنيا .. يا أهلاً وسهلاً وألف مرحباً بكِ "
كاد أنس ينفجر ضاحكاً من ترحيب الرجل المبالغ فيه لكن شمس حدجته بنظرة مهددة صارمة ألا يفعل حتى لا يحرج الرجل بينما هما يسيران خلفه ممسكين بأيدي بعضهما كطفلين صغيرين يخشيان الضياع من بعضهما
كانت شمس تتأمل ما حولها بابتسامة رقيقة وهي تطالع الزينة التي يعلقها العمال بنظام دقيق وحرص
اعجبتها الحديقة الواسعة الملحقة بالدار والتي ملأتها المصابيح الملونة والزينة هكذا لكنها لم تستطع تأمل ورؤية كل شيء حينما سمعت صوت العم إبراهيم من أمامها يقول " يا أهلاً وسهلاً .. سيسعد الحاج عبد الرحمن كثيراً حينما يراك "
ابتسمت شمس بصمت دون تعقيب وهي تصعد درجات السلم القليلة خلفه لكنه توقف فجأة فاجبرها هي الأخرى على التوقف وهكذا أنس
نظر إبراهيم إلى أنس وقال ببرود " عرفت من النظرة الأولى أنكَ لا تنتمي لعائلة الجبالي "
رفع أنس حاجباً بمناكفة وهو يقول " نبرتك معي عدائية دون سبب يا عم .. لعلمك وللمرة الثانية أنا اخوها .. ألا نصيب لي في الترحيب أنا الآخر؟ "
تمتم إبراهيم وهو يستدير مكملاً طريقه " استغفر الله العظيم "
كاد أنس أن ينفجر غيظاً منه لكنه صمت متنازلا لأجل شمس حتى لا يفسد عليها بهجتها الظاهرة على وجهها
***

حينما دخلت شمس بصحبة أنس إلى ذلك المجلس الفسيح كان كما قال لها العم إبراهيم تماما، الجميع في انتظارها أو بدقة أكثر كانت الأغلبية في انتظارها
الكل يطالعها بترقب وصمت، يتأملونها بتركيز من رأسها حتى أخمص قدميها
حتى أنس لم يستثنوه من نظراتهم المتفحصة مما أشعره بتوتر لا يستسيغه وكاد يتكلم منهياً لحظات الصمت المربك له لكن شمس سبقته وقد شعرت بتوتره من خلال تشنج يده التي لازالت مبقية على كفها بقبضة من حديد وكأنه يخشى أن يسرقها أحد منه
ابتسمت شمس وهي تقول مناكفة الجميع " كل هذا الجمع في انتظاري .. لا أصدق .. هكذا سأغتر كثيراً "
ابتسموا جميعاً في صمت عدا صوت عبد الرحمن الذي صدح بنبرته الثقيلة القوية والتي لم تخفضها أو تهزها مرور السنوات وتقدم العمر " تعالِ يا ابنة رقية .. اقتربي "
بدى واضحًا في أول الأمر أن لا نية لأنس بترك يدها لكن حينما رمقته بابتسامة مطمئنة تنهد باستسلام وافلت كفها على مضض
اقتربت شمس من الكرسي الوثير في صدر المجلس حيث جلس جدها للتو
بدت مرتبكة لا تعرف ما يتوجب عليها فعله حتى اهتدت بنفسها إلى أن أول ما قد تفعله هو أن تقبله وتسلم عليه
دنت شمس من جدها ومالت عليه تقبل وجنته برقة فأجفلتها الشهقات المكتومة التي انبعثت من خلفها فاعتدلت بسرعة وهي تتلفت حولها تحاول أن تعرف هل ما فعلته خطأ أم ماذا؟
وجدت النساء والفتيات ينظرن إليها بصدمة واستنكار عدا امرأة شابة ذات عينين واسعتين بلون العسل كانت تبتسم لها بلطف لكنها لم تطمئن فنظرت إلى أنس لكي تفهم منه ما يحدث فأومأ لها أنه مثلها بالضبط لا يفهم شيء
سألت شمس بتوتر " هل... هل فعلت شيء خاطئ؟ "
حينها اقترب منها رجل وسيم يبدو أنه أصغر من والدها ببضعة سنوات ، كان بشوش المحيا سمح الوجه ذو لحية خفيفة ، ما إن تنظر إليه حتى تشعر بالسلام النفسي والسكينة
بادرها الرجل الوقور بالقول المرحب الودود " لا أظن فتاة حلوة مثلك قد تفعل خطأ أبداً رغم أنكِ غير معصومة .. مرحباً بالغالية من تحمل رائحة أمها الطيبة "
رفعت شمس حاجبيها بذهول وهي تنظر له وقبل أن تتدارك ذهولها كان يغمرها بعناق طويل حاني وهو يربت على ظهرها قائلاً " وكأنني أرى رقية أمامي رغم اختلاف الملامح .. أنرتِ داركِ يا ابنة الباسل "
ابعدها عنه بلطف وهو يشير إلى جدها قائلاً بمزاح لطيف " أنتِ الفتاة الوحيدة بعد أمك التي تقبل عبد الرحمن الجبالي بهذه الطريقة .. حظيت بشرف كبير "
ابتسمت شمس بخجل وهي تقول " وكيف تسلم باقي الفتيات على جدي؟ "
رد سليم ببساطة " تقبلن يده "
لمحة استنكار ومضت في عينيها لم تخطئها عيني سليم الذي تبسم بإتساع مكملاً كلامه " أو تلثمن على كتفه "
اعتلى ملامحها عبوس طفيف فضحك سليم قائلاً بمناكفة " هذه عادة لا تسير عليكِ يا ابنة رقية فافعلي ما يرضيك "
ابتسمت شمس ابتسامة واسعة وهي تستدير إلى جدها وتميل عليه فتقبله على وجنته الأخرى وهي تقول برقة " أنا سعيدة جداً برؤيتك أخيراً يا جدي "
رد عبد الرحمن بصوت متباعد " وأين كنتِ منذ سنوات مضت يا ابنة رقية؟ هل منعك أحد عنا؟ "
رمشت شمس لوهلة وهي تطرق برأسها بينما تقول بحزن " بالطبع لا .. أنا آسفة يا جدي الذنب ذنبي وحدي "
قال عبد الرحمن بصوت هادئ " لكنك هنا "
رفعت رأسها بحماس وهي تنظر إليه قائلة " أجل يا جدي... أنا هنا .. أردت أن أتعرف على عائلة ماما واعرفهم بنفسي "
قال عبد الرحمن مقطبا " إنها عائلتك "
فطنت شمس إلى مقصده فردت بهدوء " بالطبع يا جدي كوني باسلة لا يمنع أن عائلة ماما هي عائلتي... (وشددت على كلمتها الأخيرة) الثانية "
ابتسم سليم بإعجاب وهو يقول برضا في نفسه " لم تمنحك ما أردت يا أبي .. الفتاة ذكية .. نسخة مطابقة لأكرم الباسل .. صدق من قال أن من أنجب لم يمت "
تقدمت شمس بعفوية من رجل آخر كان يقف إلى جوار كرسي جدها ، رجل في منتصف العقد الخامس ذو ملامح صلبة وعينين تفيضان بالحنان ، كان متناقض في ذاته لكن هذا هو خالد الجبالي ، الشيء وضده معاً
نظر لها بهدوء تام وانتظر بترقب أن تكون هي المبادرة بالسلام
شعرت شمس بشعور خاص اتجاهه ودون وعي منها ارتمت بين ذراعيه تعانقه بقوة وهي تقول " شكراً خالي "
كان دور خالد ليشعر بالذهول والتعجب منها فقال بحيرة ، متسائلاً بنبرته القوية الشبيهة بنبرة جدها رغم خفوت صوته " على أي شيء تشكرينني؟ "
شددت شمس من طوق ذراعيها حول عنقه وهي تقول بهمس " لأنك السبب في زواج بابا وماما .. شكراً خالي "
لم يستطع منع نفسه من الرد بصوت يحمل الشجن والوجع رغم قوته " لم يكلفني اصراري على إتمام هذا الزواج سوا قطيعة دائمة بيني وبين أختي حتى... حتى رحلت قبل أن نتصافى ونعود كما سابق عهدنا فعلى أي شيء تشكرينني؟ "
أبعدت شمس نفسها عنه قليلاً فهالها رؤية بريق الدموع في عينيه فقالت بهمس متحشرج وهي على وشك البكاء تأثرا " إنها إرادة القدر يا خالي.. مشيئة الله.. ولعلمك ماما رحمها الله ظلت تذكركم جميعاً حتى آخر لحظة في حياتها.. هي لم تنساكم أبداً.. كانت فقط غاضبة مما حدث لكنها لم تنساكم فلا يمكن أن تنسى الابنة عائلتها وأهلها مهما حدثت بينهم من مشاحنات.. أليس كذلك؟ "
ربت سليم على رأسها وهو يقول بشجن " نعم الابنة لا تنسى عائلتها وأهلها مهما حدث بدليل أنكِ هنا "
رفعت شمس رأسها حتى تتمكن من النظر إليه وهي تقول برقة " نعم أنا هنا يا خالي "
أتاها صوت جدها من الخلف بنبرة غريبة لم تستطع تفسيرها هل هو غاضب أم حزين " لكنك سترحلين .. في الغد أو بعد غد سترحلين ولن تبقي هنا "
نهضت شمس من مكانها والتفتت إلى جدها مقتربة منه وهي ترد ببساطة " مكان الفتاة بيت أبيها حتى يحين موعدها فترحل إلى بيت زوجها أو إلى قبرها "
أجفلتها شهقات الفزع والاستنكار التي انبعثت من خلفها لكنها لم تستسلم وتابعت " هنا عائلة ماما .. أهلها وأصلها وعائلتها وبالتالي هنا جزء منها وما كنت لأترك جزء من ماما يظل غريباً عني (ابتسمت بلطف وهي تكمل) حتى لو رحلت في الغد أو بعد الغد سأعود من جديد "
أشاح جدها بوجهه عنها وكأنه يأبى أن ترى التأثر في عينيه فجثت على ركبتيها أمامه وامسكت بكفه وهي تقول بصوت رقيق " أجل سأعود يا جدي .. سأعود لأجلك ولأجل خالي خالد وخالي سليم ولأجل أبناء أخوالي الذين لم ألتقيهم بعد (ابتسمت بمرح وهي تتابع) وسأعود لأجل العم إبراهيم رغم أن بروده مع أخي أنس يزعجني "
تنهدت بعمق حينما رمقها جدها بنظرة صلبة وكأنه يجبر نفسه على تكذيبها حتى لا يؤلمه رحيلها هي الأخرى كما آلمه رحيل أمها من قبل وللأبد
لكن شمس وقد فهمت نظرته تلك ما كانت لتتركه دون أن تعيد له الأمل من جديد وإلا فما الفائدة من مجيئها إلى هنا ، لابد أن تحقق الغاية التي أرسلها والدها إليها ، لن تقبل بالهزيمة أبداً بل ستخرج من معركتها منتصرة كما تحب
نظرت إلى جدها وهي تبتسم بينما تقول " سيعيدني الحنين إليكم حينما أرحل عنكم .. ما كنت لأترك شرف القرب من عائلة الجبالي فأنا لست حمقاء لأفعل هذا وقد أحببت وجودي هنا منذ اللحظة الأولى .. صدقني يا جدي أشعر وكأني كنت في رحلة طويلة وأخيراً عدت إلى بيتي ومأواي ولا ينقصني سوا ماما فحسب ليصبح كل شيء بالنسبة لي مكتملاً... "
قاطعها صوت أنس وهو يصيح " كفى يا شمس اقسم بالله كلمة أخرى وسوف يغرق المكان في بحر من الدموع "
إلتفتت مبتسمة إلى أخيها تظنه يمزح لكن صدمها رؤية الجميع يبكون حتى هو كانت الدموع تلتمع في عينيه بشدة
صمتت لحظة ثم اثنتين وبعدها انفجرت في الضحك الذي شاركها فيه أنس تحت نظرات الذهول من الجميع
***

بعد ساعتين
كان الليل قد حل وأوشكت ترتيبات حفل الحناء أن تكتمل وكانت شمس تجلس في غرفة واسعة جداً في الطابق الأول من الدار الضخمة
غرفة اتخذتها النساء والفتيات كمجلس خاص بهن دون الرجال
كانت شمس تراقب بحماس انشغال بعض النسوة في تجهيز الأدوات التي سيستخدمونها في رسم الحناء للعروس وللمقربات منها إن أردن
بينما بعض الفتيات كن منشغلات بتحضير الأغاني التي سيشغلونها بعد قليل وهن يهمسن ببعض الكلمات للعروس بصوت خافت على سبيل المزاح لكن يبدو أنها لم تكن بريئة تماماً خاصة مع تورد وجه العروس الشديد
كانت تحاول أن تشغل نفسها عن التفكير في تلك الأخبار الأليمة التي علمتها من خالها خالد منذ قليل
تشعر بالحزن والشفقة على جدها منذ علمت بأنه فقدَ أربعة من أبنائه في حياته خلال وقت قصير ، بدأ الأمر بأمها وتلاه موت خاليها التوأمين 'محمد ، محمود' منذ عشر سنوات خلال نشوب نيران الثأر القديم بين عائلة الجبالي وعائلة الناصر ثم وفاة خالها 'مختار' لاحقاً بهما بعد عام واحد
تنهدت شمس بشجن وهي تتأمل العروس... 'زهراء' الابنة الثانية لخالها محمود
شابة في منتصف العشرينات ، طفولية جداً ، تهيم عشقا بالرسم والألوان ويعد ذلك بمثابة معشوقها الأول
ذات جمال هادئ ببشرتها البيضاء، وعينيها البنتين كفنجاني قهوة عميقين، وشعرها الناعم ذو اللون البني الذي يوازي عينيها قتامة ، حالمة وتمثل الفتاة الوردية عن جدارة وهذا أكثر ما يغيظ الجميع منها
ابتسمت شمس لها بلطف حينما تلاقت نظراتهما للحظة قبل أن تعود زهراء وتنشغل بالتهامس مع الفتيات من حولها
تلفتت شمس تتأمل ما حولها بحماس في تجربة جديدة عليها حتى وجدت في ركن قصي من الغرفة امرأة تجلس هناك تضاحك ابنتها الصغيرة
تلك المرأة كانت... 'حفصة' الابنة الكبرى لخالها محمود
شابة جميلة محجبة في أواخر العشرينيات ذات بشرة بيضاء وعينين واسعتين كبركتي من العسل الصافي وشعرها بني كما يبدو بتلك الخصلة التي فلتت من الحجاب دون أن تشعر
طيبة للغاية وحلوة المعشر ما إن تبتسم لك حتى تشعر وكأن الشمس قد سطعت بعد ظلام ليل موحش طويل
أما طفلتها الصغيرة... 'حلا' فيبدو أنها مصيبة صغيرة من مصائب الزمن
طفلة شقية للغاية بضحكتها الماكرة التي تفوق سنوات عمرها الخمس ، جميلة ببشرتها الخمرية وعينيها الخضراواتين وشعرها الأشقر مما يجعلها بعيدة الشبه تماما عن والدتها
انطلقت ضحكات حلا بشقاوة أكبر وهي تهرب من أمها راكضة نحو شابة أخرى رفعتها عالياً على طول ذراعها وهي تعبس في وجهها وعلى ما يبدو أنها تعنفها على شيء ما فتسبل حلا جفنيها ببراءة زائفة لم تصدقها تلك الشابة أبداً وقد ابتسمت لها ساخرة وهي مستمرة في الكلام معها
تلك الشابة هي... 'حياة' الابنة الكبرى لخالها محمد
تماثل حفصة في العمر وتختلف عنها قليلاً في الطباع، الاثنتين مقربتين جداً من بعضهما وكأنهما أختين
شابة مليحة الملامح ذات عينين بندقيتين مميزتين وبشرة خمرية أما أكثر ما يميزها هو شعرها ذو المزيج المختلف من اللونين البني القاتم والعسلي
رغم عبوسها الطفيف أحياناً وصرامتها حيناً آخر إلا إنها تملك نظرة حانية تدخرها لتطمئنك بها بدنو الفرج في أكثر اللحظات العسيرة التي قد تمر بها
كادت شمس أن تنهض من مكانها وتذهب إليهما لتشاكس الصغيرة حلا حينما وقعت عينيها على فتاة تتمايل راقصة على لحن ما ، كانت تسمعه بواسطة تلك السماعات الصغيرة المثبتة في اذنيها
ولم تكن تلك الفتاة المدللة سوا... 'ملك' الابنة الثانية خالها محمد
فتاة في الرابعة والعشرين تماثلها في العمر، جميلة ، بريئة الملامح ذات عينين بنيتين فاتحين وتمتلك نفس لون شعر أختها حياة لكنها ذات بشرة بيضاء
لا تعلم شمس لماذا لم تشعر بالراحة نحوها كما شعرت اتجاه الشابات الثلاث الأخريات؟..
شيء في نظرة ملك الناعسة وبراءة ملامحها تشعر شمس أنه زائف أو ربما هي باختصار كما وصفتها أختها حياة 'ملك فتاة مخادعة تجيد استخدام ما تملك لتحصل على ما تريد'
تلفتت شمس حولها فجأة تبحث عن آخر الفتيات في العائلة لكنها لم تجدها
فقطبت تفكر أين يمكن أن تكون تلك المشاكسة؟
ابتسمت وهي تتذكر العفوية والبساطة التي تعاملت بها ابنة خالها خالد معها وكأنها تعرفها منذ سنوات طوال
'فرح'... إسم يليق بصاحبته كثيراً بل لا يليق بها سواه
أتمت اليوم الثانية والعشرين من عمرها وتصر على الاحتفال بعيد مولدها إلى جانب حفل الحناء الخاص بزهراء
تحب العفوية والبساطة جداً ولا تميل لأي تعقيد ، مرحة الروح وخفيفة الظل
جميلة ذات بشرة خمرية وعينين بنيتين وشعر ذو لفائف بنية ناعمة
اتسعت ابتسامة شمس حينما دخلت فرح تصيح بمرحها الحلو " لقد أتيت يا أهل الدار هل شعرت إحداكن بالوحشة في غيابي خلال تلك الدقائق التي مضت؟ "
وجدت شمس نفسها تصيح بمرح مشابه " أنا كدت أبكي وأنا أبحث عنكِ دون أن أجدك ماما "
ضحكت النسوة عليهما بينما قالت حياة بمرح ساخر " لا مزيد من البكاء اليوم وإلا ستطردنا زهراء جميعاً فهي لا تحب الكآبة لذا فلتدخر كل واحدة منكما دموعها الغزيرة لوقت لاحق (ثم رفعت كفيها وهي تضيف) اللهم قد بلغت "
ضحكت شمس بعفوية وهي تشعر بينهن بالسكينة والسعادة وكأنها تعرفهن منذ زمن بعيد ليس منذ سويعات قليلة
أشارت لها فرح وهي تقول " هناك شاب يبحث عنكِ في الخارج .. اشفقت عليه وهو يتلفت حوله كالمجاذيب فقررت مساعدته في ايجادك وها أنا وجدتك الحمد لله فاذهبي إليه قبل أن تأكله رجال عائلتنا "
عبست شمس وهي ترد وقد عرفت أن فرح تقصد أنس فهي لا تعرف شاب سواه هنا قد يبحث عنها " لعلمك آنسة فرح أخي ليس مجذوب ولن يستطيع أحد أكله فهو ليس فتى صغير إنه شاب قوي "
ضحكت فرح وهي تقول مناكفة " حقاً! عجيبة والله .. حينما رأيته من بعيد وللوهلة الأولى ظننتني أنا الشاب ليس هو .. صدقيني سيأكلونه... ومعهم حق "
كتمت شمس ضحكتها بقوة وهي ترمق فرح ببرود زائف بينما تمر من جانبها قائلة " معهم حق أم إنهم متوحشون؟ "
كانت قد وصلت إلى الباب وفتحته كي تخرج في اللحظة التي قالت فرح بمناكفة " ومن يرى الحلو ولا يأكله؟ "
خرجت شمس بسرعة صافقة الباب خلفها قبل أن تنفجر ضاحكة وهي تقول " والله مجنونة ويبدو أن جزءًا من عقلها مفقود... (تلفتت حولها قليلاً وهي تتابع حديثها) وأين ذاك الحلو الآخر؟ .. أين ذهبت أنس؟ "
***

بعد قليل من البحث استطاعت شمس أن تجده في الحديقة الخلفية ، كان يقف شارداً بعدما يأس من ايجادها على ما يبدو على ملامحه الكئيبة
اقتربت منه وهي تناديه بابتسامتها الهادئة " ها قد وجدت حبيبي أخيراً "
انتشله صوتها من غياهب جب كاد يقع فيه في صحوه كما الحال معه في منامه
التفت لها بسرعة لم تتداركها ليضمها إلى صدره ويغمرها في عناق طويل بينما أخذ يتمتم " فيما انشغلت ونسيتني يا شمس؟ كدت أموت اختناقا وأنا لا أجدك من حولي "
شددت من طوق ذراعيها من حوله وهي تربت على ظهره بحنان بينما تتمتم برقة " أبعد الله عنك كل شر قد يصيبك يا حبيبي .. آسفة لأنني انشغلت عنك "
سكت أنس للحظات ثم حررها قليلاً وهو يقول بصوت هادئ " لم يتبقى على الحفل سوا ساعة على أقصى حد كما قال خالك "
اومأت برأسها دون رد فتابع هو ببعض التعجب والحيرة " الدار ممتلئة عن آخرها وكأن المدينة بأكملها هنا .. أكاد لا أجد مكان أقف فيه باتزان حتى "
ضحكت شمس من طرفته دون أن تعقب بينما تنهد أنس مضيفاً " خالك سليم أقترح عليّ أن أشارك أحد الشباب في المبيت بغرفته لأن غرف الضيوف مكتظة بأناس لا عدد لهم ما شاء الله "
استمرت شمس في الضحك وهي تقول " لم أتصور أنا الأخرى أن تكون عائلة ماما كثيرة العدد هكذا .. لكن لا بأس نحن مضطران لتقبل الوضع كما هو حالياً حتى ينقضي العرس على خير "
اومأ أنس برأسه مفكراً للحظات ثم سألها " وأنتِ أين ستبيتين؟ "
ابتسمت شمس وهي ترد " أنا لم يقترح أحد عليّ مشاركته غرفته لكنني سأشارك تلك المزعجة فرح رغماً عنها "
قطب أنس سائلاً " من فرح؟ "
ردت شمس بمكر " تلك الفتاة التي وجدتك وأنت تبحث عني كالمجاذيب فأشفقت عليك وقررت أن تساعدك "
رفع أنس حاجبيه بتعجب وهو يقول " كالمجاذيب! أنا؟ وهي أشفقت عليّ.. (ابتسم بإمتنان زائف وهو يقول) يا الله ما ألطفها .. كم أنا ممتن لها "
ضحكت شمس وهي تقول " وأخبرتني أن عليّ اللحاق بك قبل أن تأكلك رجال العائلة "
رفع حاجباً بذهول للحظة ثم عبس وهو يرد من بين أسنانه " معها حق فأنا أبدو كبسكوتة أليس كذلك؟ "
قهقهت شمس عالياً وهي ترد " لا تقل عن نفسك هذا أنت أحلى من البسكويت "
زمجر أنس غاضباً فكتمت ضحكتها وهي تقف أمامه بملامح بريئة تتمتم بخفوت " آسفة "
رد عابساً " حسناً تعالِ معي لنبحث عن تلك الغرفة التي سأبيت فيها فأنا بحاجة لحمام بارد ينعشني "
اومأت شمس برأسها وهي تؤيده " وأنا الأخرى .. سأحضر ملابسي وألحق بك .. انتظرني عند الدرج الداخلي "
ثم أنهت جملتها وتركته مهرولة للداخل
***

بعد بضعة دقائق
كانت شمس تجلس على طرف فراش ضخم في غرفة أحد أبناء أخوالها بينما أنس في الحمام وصوته يصلها من الداخل " لا تعبثي بالأغراض الموجودة في الغرفة يا شمس "
صاحت بأدب " حاضر "
بعد لحظات قليلة أتاها صوته من جديد يقول بمرح ساخر " ما رأيك في الغرفة؟ أليست خيالية؟ "
دارت حدقتيها في الغرفة وفهمت قصده حيث أن الغرفة بأثاثها وكل ما فيها عبارة عن قطعة من الفحم الأسود
صاحت بصوت عالٍ ليصل إليه بنفس مرحة الساخر " بلى إنها جميلة .. أشعر فيها بالدفء وكأنها غرفتي تماماً "
ضحك أنس متهكما وهو يقول " هنيئاً لكِ بها إذاً فقد قررت ألا أبقى فيها لدقيقة إضافية "
صاحت شمس ساخرة " والله وماذا تفعل إذاً حتى اللحظة؟ "
صاح أنس " استحم .. ألا ترين؟ "
هتفت شمس برجاء رقيق " ألم تنتهي بعد؟ أرجوك أنس أسرع قليلاً هكذا سنتأخر عليهم وأنا لا أريد تفويت أي لحظة من الحفل "
هتف أنس ضاحكاً " حسناً ابدئي العد حتى عشرة وستجديني أمامك ما إن تنتهين "
صاحت شمس عالياً " حسناً لقد بدأت .. واحد .. اثنان .. ثلاثة... "
بعد بضعة دقائق خرج أنس من الحمام وهو يدندن بلحن ما لكنه توقف حينما وقعت عينيه على شمس
كانت مختلفة قليلاً عما كانت، أقل ما قد يقال عنها أنها جميلة
كانت ترتدي عباءة من اللون الزهري ذات خيوط فضية تزين حواف الأكمام الواسعة وحافة العباءة من الأسفل مع حزام فضي على شكل ضفيرة مثبت على الخصر ومعقود بطريقة رائعة
ولأول مرة كانت شمس ترتدي حجاباً ، كان رائعاً عليها بلونه الزهري المتداخل مع الفضي والذي انعكس على بشرتها الخمرية فأضفى عليها سحر خاص
وقفت أمام أخيها كطالبة مذنبة تشبك أصابع كفيها خلف ظهرها وهي زامة شفتيها في إنتظار نطقه بالحكم عليها
أجفلها أنس وهو يصيح بإعجاب " تبدين رائعة يا شمسي "
وقبل أن ترد هي كان هو يغمز لها بطرف عينه مازحا " يبدو أن ابنة الباسل شبت عن الطوق وتريد الحصول على فارس الأحلام في أسرع وقت "
ضحكت شمس دون تعقيب على كلامه فتنهد أنس بطريقة مسرحية قائلاً " جئت بكِ ويبدو أنني سأرحل بدونك بعدما ازفك إلى عريس الهناء "
ابتسمت شمس وهي تدفعه ناحية الباب ليخرجا بينما تقول " لا تشغل بالك من تلك الناحية حينما يأتي الفارس فسأحرص على أن يكون من العاصمة حتى أظل إلى جوارك وبابا "
***

في مكان آخر / في نفس المدينة
أجفل كل من حوله من صرخته الغاضبة وهو يلقي بالكوب الزجاجي من يده ليصطدم بالحائط المقابل محدثاً دوي صاخب قبل أن يسقط على الأرض قطعاً متناثرة جارحة " إذن فعلها ابن الجبالي .. يظن نفسه نداً لي ويتحداني "
كان الصمت هو سيد الموقف، الجميع ينظر له في ترقب حذر بينما هو يكاد يصرخ من شدة القهر الذي يشعر به
وبعد لحظات هتف بكره " إنه لا يهاب أحد .. شوكته قوية لا تنكسر "
رمق كل واحد منهم الآخر بإرتباك بينما هو يتابع بغضب " أنا أعرفه جيداً .. لن يرتدع بسهولة إنه بحاجة لتأديب من نوع خاص حتى يحسب لي ألف حساب قبل أن يفكر... فقط مجرد التفكير بأن يعبث معي من جديد "
حاول أحدهم تهدئته بالقول " هو ليس أكثر من مجرد فتى محب للتظاهر بقوة وسلطة عائلته لكنه لا يستطيع الوصول إلى مكانتك ليتحداك "
كان الشر والكره يكمنان في نظرات فؤاد وهو يقول بغضب " ليست المرة الأولى التي يقف فيها ابن الجبالي في طريقي .. لقد مررت له الكثير من قبل "
قال آخر بتوتر " إن أمرت لنا احضرناه لك لتفعل به ما تشاء وتعاقبه كما تريد "
عبس بحدة وهو يرد " الكلام سهل لكن الفعل... صعب فابن الجبالي ليس فريسة سهلة المنال "
قال الأول بحماس محاولاً نيل رضى سيده " ونحن لسنا بأقل منه ولسنا ضعاف أأمرنا فقط وسنأتيك به "
رفع حاجباً وأخذ دقائق في التفكير مليًا ثم لمعت عينيه بمكر وهو يقول " حسناً .. لنرى حينها أي الخيارين سيضعه عبد الرحمن الجبالي في المقدمة (ابتسم بشر وهو يكمل) إقامة العرس أم... إقامة العزاء؟ "
أشار لهم بكفه حتى ينصرفوا وهو يقول بنبرته الآمرة " أخبروا سعد بأن يأتيني حالاً "
خرجوا مهرولين وهم يومؤون له بطاعة تامة وبعد لحظات قليلة دخل المدعو سعد
شاب في منتصف العقد الثالث من العمر ، متجهم الوجه ، ضخم الجثة وكأنه أحد المصارعين
" أمرك عماه "
ابتسم مراد بمكر وهو يقول " ألم تكن تنتظر اللحظة المناسبة لتأخذ بثأر أبيك؟ "
دون تردد أو تفكير صاح سعد بقوة " ولم يمنعني عنه سواك عماه وإلا لكنت نلت ثأري منهم منذ سنوات طويلة "
نهض فؤاد من مكانه قائلاً " وها قد حانت اللحظة المناسبة وأنا عند كلمتي لك (رفع حاجباً وقد التمعت عينيه بغل شديد وهو يتابع) لن يقطع رأسه ويلحقه بأخيه سواك "
قطب سعد وهو يقول " يبدو أن هناك ما فعله واغضبك منه حتى قررت بأن الوقت قد حان "
قطب فؤاد بغضب وهو يضرب بعصاه الأرض قائلاً بكره " لقد تمادى وتطاول على اسياده هذه المرة كثيراً .. ظننت موت أخيه وعميه أمام أنظاره سيخيفه لكن على ما يبدو أن ذلك زاده رعونة "
أصدر سعد صوتاً متهكماً لم يستطع كتمه وهو يقول " أخبرتك منذ اللحظة الأولى التي رأيته فيها صبياً بالكاد بلغ الخامسة عشر من عمره أنه ليس من يرتدع بسهولة يا عماه .. كان يجب قتله هو بدلاً من أخيه أو... (قبض على كفيه بشدة وهو يتابع بكره أعمى) أو قتلهما معاً كما فعلتم مع عميه "
هتف فؤاد بضيق " حينها كان الحق سيكون علينا وليس معنا .. قتلوا اثنين من عندنا ففعلنا المثل وكان يفترض بالأمر أن ينتهي عند ذلك الحد لكن... "
قاطعه سعد غاضباً " وماذا عن دم أبي؟ "
زفر فؤاد وهو يقول " أنت تعرف أننا لم نتأكد بعد أن القاتل من عندهم "
صرخ سعد بحدة " لا تقل لي أنك تفكر في التخاذل عن أخذ ثأر أبي فلو فعلت أقسم بالله أنني لن أفعل وإن كنت تخشى غضب ابن الجبالي فأنا لا أخشاه "
ضرب فؤاد بعصاه الأرض بغضب وهو يقول " هل جننت يا سعد؟ كيف تخاطبني بهذه الطريقة وترفع صوتك في وجهي؟ "
كظم سعد غضبه على مضض وهو يطرق برأسه قائلاً " العفو منك عماه لم أقصد ذلك لكن... "
قاطعه فؤاد وهو يقول بصوت جامد: " أنا لا أخشى غضب ابن الجبالي كما تظن وإلا ما كنت استدعيتك لأبلغك أن الوقت قد حان لتنال ثأرك رغم أنني وللمرة الثانية أخبرك أننا لسنا متأكدين أن القاتل من عندهم "
عبس سعد وهو يقول:" ومن غيرهم له فائدة من قتل أبي "
زفر فؤاد وهو يرد " أعدائنا كثيرين وإن كانت عائلة الجبالي واحدة منهم والأكثر خلافاً معنا فهذا لا يعني أنها وحدها من لها فائدة من قتل حسين رحمه الله "
قطب سعد بتفكير وهو يقول " إن لم تكن متأكد بعد من هوية القاتل يا عماه فكيف تريدني أن آخذ بثأري من عائلة الجبالي أو... (ضيق عينيه وهو ينظر إلى عيني فؤاد مباشرة بقوة بينما يتابع) من ابن الجبالي هذا تحديداً؟ "
ارتبك فؤاد للحظة فالتفت إلى كرسيه يجلس عليه وهو يرد بهدوء ولامبالاة زائفة " لم احدد هوية من ستأخذ بثأرك منه لكن... كنت أفكر أنه وبما أن ابن الجبالي يسبب لنا الكثير من المشاكل وفي نفس الوقت لدينا حق عندهم فلما لا نقتنص الفرصة ونضرب عصفورين بحجر واحد "
رفع سعد حاجباً مشدداً على كلامه " كيف يكون لنا حق عندهم ولم نتأكد أنهم هم القتلة بعد كما تقول يا عماه؟ "
قطب فؤاد بضيق وهو يقول " أصبحت تعلق على كل كلمة انطقها وتراجعني كثيراً يا سعد "
رد سعد بهدوء " أنا فقط افكر بصوت عالٍ يا عماه .. لا أحب أن أكون الأحمق الوحيد بين الجميع "
صمتا كليهما للحظات ثم ابتسم سعد ساخراً وهو يقول " أنا أعرف تمام المعرفة أن ابن الجبالي يشكل لك خطر كبير ويضر بمصالحك في العاصمة "
ارتبك فؤاد بشدة وهو يقول " أي... أي مصالح تقصد؟ "
اتسعت ابتسامة سعد وهو يرد بنفس النبرة " ألم أقل لك أنني لا أحب أن أكون الأحمق الوحيد يا عماه .. أنا أعرف كل الطرق التي تسلكها في تجارتك ال... مشبوهة أو لأكن أكثر تحضراً يمكنني تسميتها ب... الغير قانونية "
ضيق فؤاد عينيه قائلاً من بين أسنانه " يبدو أنك تبحث خلف الجميع يا سعد وليس خلف ثأرك فقط كما كنت أحسب "
رفع سعد حاجبيه وهو يدعي البراءة بينما يرد " أنا فقط أحاول معرفة من معي ومن ضدي يا عماه أليس هذا ما تعلمته على يديك؟ .. لا يجب أن أترك ثغرة للحظ "
حاول فؤاد فهم ما يفكر فيه ابن أخيه عبثاً حيث بدى سعد كاللوح الصلب لا يمكنك أن تستشف منه أي رد فعل أو خاطرة حتى
ابتسم فؤاد بمكر بعد لحظات وهو يقول " وأنا فخور بك فيبدو أن ما علمته لك يثمر نفعاً "
اومأ سعد وهو يقول ببرود " يبدو هذا يا عماه "
عاد الاثنين وصمتا من جديد فكان سعد اول من يقطع ذلك الصمت كعادته قليل الصبر " ألن تخبرني لماذا ابن الجبالي تحديداً؟ "
رد فؤاد ببساطة " ربما لأنه الأكثر خطراً على مصالحي كما تقول "
صمت لحظة ثم تابع بحيرة " رغم أني لا أصدق أن فتى مثله على هيئته الضعيفة تلك يكون هو سبب الخطر والضرر عليّ "
عبس سعد وهو يقول " وماذا سأستفيد أنا؟ على أي حال ليس هو القاتل "
قطب فؤاد وهو يرد بكره " أنت لا تفهم .. إنه أكثر أحفاد عبد الرحمن قرباً منه وبموته ستكون وجهت له ضربة قوية يمكنها أن تقضي عليه هو الآخر وهكذا اتخلص أنا من ابن الجبالي وأنت تكون نلت ثأرك "
قطب سعد مفكراً للحظات قليلة ثم زفر قائلاً " حسناً.. سأفعلها "
ابتسم فؤاد بنصر وهو يقول " جيد .. اجلس إذاً لأخبرك بطريقة التنفيذ... (ثم أكمل في نفسه) فأنا أريد الخلاص منه نهائياً وفي أسرع وقت "

إنتهى الفصل...
[/center][/left][/center][/center]

mansou 01-10-19 11:23 PM

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته موفق بإذن الله ... لك مني أجمل تحية .

Hend fayed 02-10-19 12:10 PM

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته..
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة mansou (المشاركة 14516736)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته موفق بإذن الله ... لك مني أجمل تحية .

شكرا عزيزتي، أتمنى أن أكون عند حسن ظنك.. تحياتي 🌹

Hend fayed 08-10-19 05:43 PM

سُلاف الفُؤاد
 
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد؛
|| الفصل الثالث ||

ليلة الحناء
في دار الجبالي
كانت شمس مستمتعة بتلك الأجواء الجديدة عليها إلى أبعد حد، جلست إلى جوار حفصة وحياة يصفقن مع النساء وهن يطالعن ملك التي كانت تتوسط الغرفة ومعها بضعة فتيات أخريات كن يرقصن بمهارة تامة جعلت شمس تنظر إليهن بانبهار طفولي فهي لا تجيد الرقص الشرقي
في حين كانت فرح تقف بجوار الفتاة التي تنسق الأغاني وهي تتمايل على الألحان بخفة دون أن يسمى هذا رقصاً مقارنة برقص ملك الاحترافي
كانت الغرفة عامرة بالنساء ورغم ذلك كانت فتيات آل الجبالي تشعرن بالأسى والحزن لغياب أهم شخص في حياة كل واحدة منهن
وكأنها لعنة وأصابت الجميع فلم تُبقي لأي واحدة منهن أمها على قيد الحياة لتشاركها لحظات سعادتها فتزيدها بهجة ولحظاتها الحزينة فتخفف عنها فيها
كانت كل واحدة منهن تغوص في بحر اشجانها متذكرة أمها..
شمس تذكرت أمها التي ماتت بعد ولادتها وكيف كانت لتكون سعيدة وهي تحضر زفاف ابنة أخاها وتشارك عائلتها في فرحتها
وزهراء تعلقت عينيها بأختها حفصة وكل منهما تعلم ما تفكر فيه الأخرى وما كانت تحتاجه في تلك اللحظة، تذكرتا أمهما التي توفيت منذ بضعة سنوات
أما حياة فقد نظرت إلى ملك التي تمرح غير واعية لمن حولها، تمنت لو كانت أمهما لازالت على قيد الحياة! لكان من الممكن حينها تقويم ملك واصلاحها ولكن الأوان على ما يبدو قد فات فلن يفلح معها تقويم ولن يفيد الإصلاح
في حين شردت فرح بحزن وهي تتذكر أمها التي توفيت منذ عامين فقط، أمها كانت كبرى نساء العائلة بعد جدتها التي توفيت قبل أن تولد فرح ببضعة أشهر
ابتسمت فرح بفخر مختلط بالشجن والحنين وهي تفكر بأن وجود أمها كان ليفرق الكثير ليس معها وحدها وإنما مع الجميع فهي كانت المسئولة عن كافة شئون العائلة وفي مناسبة كتلك بالطبع كانت ستتصدر الواجهة وتشرف على ترتيبات العرس بنفسها كما فعلت في عرس عاصم وحفصة من قبل
تنهدت شمس بأسى لحالها وحال بنات أخوالها وحمدت الله كثيرًا فهي تعد في نعمة فقدتها أخريات فعلى أي حال هي لازالت تمتلك أب حنون يرعاها ويحبها
دارت بعينيها بينهن فرأت نظرة الشرود الحزين في أعينهن، فهمت ما تفكرن فيه وللأسف لم يكن في يدها شيء لتخفف به عنهن فهي مثلهن تماماً، ورغم ذلك تمنت فقط مجرد أمنية لا محل لها من أن تصبح حقيقة أبداً.. تمنت لو أن أم إحداهن لازالت على قيد الحياة.. كانت حينها لتكون أم لهن جميعاً فتخفف عنهن وجع ومرارة اليتم
فقدان الأم فجيعة ومرارة لا تخفف منها مرور الأيام بل تزيدها وحشة في الروح وفجوة في القلب
قطبت شمس فجأة وقد خطر في بالها أن الوحيدة التي لا تعلم كيف توفيت هي زوجة خالها سليم، لم تذكر إحداهن عنها أي شيء ولو مجرد ذكرى عابرة عنها وكأنها لم يكن لها وجود من الأساس وكانت ليطول بها التفكير في ذلك الأمر لولا أن العمة فاطمة المسئولة عن رسم الحناء للعروس هتفت بابتسامة مشجعة: " من التالية؟ "
حينها نهضت حفصة واقتربت منها تقول بصوت خافت ونبرة خجولة: " أنا أريد رسم إسم زوجي فقط "
ابتسمت لها فاطمة بلطف وربتت بجوارها لكي تجلس حفصة وهي تقول: " نفس طلبك ليلة الحناء الخاصة بكِ.. لازلت اتذكر جيداً "
ابتسمت حفصة بخجل وهي ترد عليها بعدما جلست إلى جوارها: " أجل نفسه "
ابتسمت شمس برقة وهي تطالع المرأة الكبيرة سنا ومكانة على ما يبدو فقد أخبرتها فرح أن العمة فاطمة تمتلك مكانة خاصة في قلوب جميع أبناء مدينتهم وعلى رأسهم بالطبع عائلة الجبالي من صغيرها إلى كبيرها
هي ليست مجرد زوجة للشيخ الراحل عبد الله إمام وخطيب أكبر مسجد في المدينة الجبلية بل يضعها الجميع في منزلة الأم والأخت والصديقة وهي وللحق استحقت تلك المنزلة وبجدارة حين لم تبخل على أحد لا بالمشورة أو اغداق حنانها وعطفها عليهم بلا قيود
لطالما قصد بيتها الكثيرين حتى بعد وفاة زوجها رحمه الله وظل الجميع قائما على ودها وطلب مشورتها وخاصة أبناء عبد الرحمن الجبالي التي ساهمت في رعاية شؤونهم خلال مرحلة ما في حياتهم بعد أن توطدت علاقتهم بها وبزوجها قبل وفاته بسنوات قليلة
ظلت شمس تطالعها بينما بدأت فاطمة في رسم الحناء على باطن كف حفصة فاقتربت الفتيات لتشاهدن ومن ضمنهن فرح التي هتفت بحماس: " وأنا الأخرى أريد رسم الحناء على يدي مثل حفصة "
حينها قالت حياة بمكر: " وهل أخترتِ الإسم الذي سترسمه لكِ العمة فاطمة أم اساعدكِ في اختياره؟ "
عبست فرح بطفولية وهي تقول: " ليس شرطاً اختيار إسم "
قالت حياة ببراءة زائفة: " ظننتك تقصدين نفس طريقة رسم حفصة "
ردت فرح بنفس العبوس المضحك: " في الحقيقة أجل أريد مثل رسم حفصة.. حسناً أظنني سأختار إسم أبي (جلست إلى جوار حفصة وقالت بمرح تقصد العمة فاطمة) أريد رسم إسم خالد في كفيّ الإثنين يا عمتي "
ضحكت فاطمة وهي تناكفها: " أتركي واحد لإسم عريس المستقبل "
ضحكت فرح بابتهاج وهي ترد: " حينما يأتي سأرسم إسمه على ذراعي كله.. فقط يأتي وسأفعل حينها المعجزات باسمه "
ضحكت النساء على مشاكستها بينما صاحت ملك فجأة: " وأنا سأرسم إسم ياسين بنفس الطريقة التي رسمتِ بها لحفصة يا عمتي "
قطبت العمة فاطمة بغير رضا لكنها لم تعقب في حين شهقت الفتيات بصدمة من وقاحة ملك المستفزة
أما حياة فقد جحظت عينيها من شدة غضبها من أختها ومما تفوهت به ورغم ذلك لم تتراجع ملك عن حديثها بل زادته وقاحة وهي تقول مبتسمة بلامبالاة: " تماماً كما رسمتيه لي ليلة حناء حفصة "
لم تستطع حياة تمالك أعصابها أكثر فهبت من مكانها وهي تنوي صفعها على قلة حيائها لكن شمس منعتها وهي تمسك بمعصمها بينما تقول بخفوت: " اهدئي حياة.. لا داعي لذلك فقد سبق السيف العزل هي قالت والجميع سمع ولا تملكي إعادة الزمن للوراء لتسكتيها فمرري الأمر ولو مؤقتاً لأجل زهراء حتى لا تخرب ليلتها "
ظلت حياة متشنجة في وقفتها للحظات وهي تطالع أختها بغضب كاد أن يحرق ملك لولا أنها استدارت بلامبالاة تكمل رقصها دون أن تبدي ولو لمحة من الأسف أو الندم مما زاد غضب حياة لكنها في النهاية رضخت لنصيحة شمس وكبحت انفعالها لأجل زهراء
حاولت فاطمة تخفيف حدة التوتر الذي ساد على إثر حديث ملك فقالت مبتسمة تقصد حياة: " وأنتِ يا حياة ألن تجددي رسم حنائكِ؟ "
زفرت حياة بضيق ثم ما لبثت أن ابتسمت بشجن وهي تقول: " بلى سأفعل عمتي.. لقد إشتقت لرؤية اسم أبي مطبوعا على كفي "
ابتسمت فاطمة وهي تنظر إلى شمس وقالت: " وماذا عنكِ بنيتي؟ ألا تريدين رسم الحناء على يديكِ أنتِ الأخرى؟ "
رمشت شمس بدهشة وهي تقول: " أنا... اممم لا أعرف "
شاكستها فرح تقول: " لو رسمتي إسم أخاكِ الحلو أظنه سيسعد كثيراً "
عبست شمس في وجهها بطفولية وهي ترد: " بالطبع سأرسمه لم أكن بحاجة لرأيكِ من الأساس "
زمت فرح شفتيها وهي ترد: " طفلة "
ردت شمس ببرود: " موتي بغيظك "
ضحكت النساء على مناكفتهما الطفولية وخلال لحظات زال التوتر وعادت حماستهن وهن يتابعن فقرات الحفل النسائي بمرح بينما فاطمة انشغلت برسم الحناء للفتيات
***

في باحة الدار الأمامية
كان عبد الرحمن ومن جواره أبناءه يستقبلون التهاني والمباركات من الأهل والأقارب بعدما قاما بدمج ليلتي حناء العروسين في ليلة واحدة كعادة تخص عائلة الجبالي منذ الأزل خاصة وهم لا يتزوجون من خارج العائلة كقاعدة ثابتة غير قابلة للتغيير مما يجعل دمج الليلتين معا زيادة للفرحة أكبر، وعلى الناحية الأخرى وقف العريس ومن حوله أبناء عمومته
كان حمزة يرسم على وجهه ابتسامة بسيطة وهو يحيي المهنئين بإيماءة من رأسه بينما قاسم يغمغم بحنق: " متى ستنتهي مدة تلك العقوبة؟ لقد مللت "
ضحك ياسين وهو يقول: " أشكر ربك واحمده على أن جدك لم يجبرك على الجلوس بجانبه لكنت حينها علمت كيف يكون الملل على حق؟ "
رفع عاصم حاجبيه وهو يرد على ابن عمه: " أنتما تبالغان جداً.. الحفل ممتع "
قطب قاسم متمتما: " وأنا لا أحب الحفلات بنوعيها لا الممتعة ولا المملة "
بينما زفر حمزة وهو يقول: " أكرمنا بصمتك يا قاسم بالله عليك أنا لن أحتمل شحناتك السالبة أنت الآخر تكفيني ما أمتلكها "
تأفف قاسم وهو يرفع رأسه إلى السماء مغمغماً بحنق بكلمات غير مفهومة بينما عبس حمزة وهو يدور بحدقتيه في المكان: " أين زيد؟ "
أشار عاصم إلى ركن قصي على بعد قليل منهم وقال: " إنه هناك.. منذ بضعة دقائق وهو يراسل أحدهم "
،،،

كان زيد يقطب بشدة وهو يكتب على هاتفه بغيظ
*يا بني آدم أفهم.. ما تطلبه جنون*
وصله رد الطرف الآخر بإيجاز مغيظ
**أعلم**
عبس زيد وهو يغمغم في نفسه 'الصبر من عندك يارب' تزامنا مع حركة أصابعه على شاشة الهاتف وهو يكتب
*ومع ذلك تصر على طلبك*
وصله رد مُراسله بعجرفة
**هذا ليس طلبا وإنما هو أمر**
كاد زيد يصرخ عالياً وهو يضغط على الهاتف يكاد يحطمه في قبضته بينما يكتب بعصبية
*تباً لك*
كان يعلم أن تعابير وجه مُراسله تحولت إلى باردة لامبالية في تلك اللحظة التي وصله رده يقول
**احترم نفسك يا زيد فقلة أدبك تلك لن تمنعك من تنفيذ أمري**
تأفف زيد وهو ينظر إلى السماء للحظات ثم عاد ببصره إلى شاشة هاتفه التي ومضت برسالة جديدة
**هل الجميع سعداء؟**
اعتلت ملامحه الكآبة والحزن وهو يرد
*الأكثر سعادة هنا اظنهن الفتيات وبالطبع جدى وأبي وعمي خالد أما نحن فلا أظن أن مزاج قاسم العصبي يخفى عليك*
وصله الرد بعد لحظات طويلة
**أجل أعلم أنه يكره كل أنواع الحفلات.. ماذا عنك؟**
كتب زيد ساخراً
*حقاً تسأل؟*
لم يصله رد من الطرف الآخر فتنهد وهو يكتب من جديد
*هلا أخذت حذرك أكثر وقمعت بعضاً من تهورك الذي لا أعلم من أين أمتلكه من الأساس فأنت أبداً لم تكن بهذا الشكل من صغرك؟*
اجابه الطرف الآخر
**لا شيء يظل على حاله مهما طال الزمن.. كل شيء قابل للتغيير حتى طباع البشر وعامة لا تخف عليّ أنا لا أفعل شيء أو أقدم على خطوة قبل أن أحسب لها حسابها جيداً**
عبس زيد بضيق وهو يكتب
*هذا واضح فبخلاف صوتك الذي تغير كطباعك يبدو أنك مرتاح جداً حيث أنت والأمر راق لك*
وصله الرد في الحال بطريقة جعلته واثقاً أن الطرف الآخر يحطم كل ما حوله في تلك اللحظة بعد أن استفزه بهذا الغباء ككل مرة
**ليتك أمامي اللحظة لأريك حجم راحتي في ذلك المنفى.. أنسيت سيادتك أنك من عرضت تلك الفكرة الغبية وأنا مجبراً اضطررت إلى تنفيذها؟**
تنهد زيد دون أن يرسل شيء في حين أتته رسالة أخرى بلهجة صارمة
**موعدنا بعد عشرة دقائق من اللحظة**
وهكذا إنتهت المراسلة بينهما بأمر صارم من الطرف الآخر لابد أن ينفذه زيد صاغراً كالعادة
***

كان الجو مشحونا بالتوتر بعد الصرخة المكتومة التي أطلقتها العمة فاطمة منذ لحظات
الأغاني توقفت فجأة والكل شخصت أبصارهن ينظرن إليها في ترقب وحيرة بينما هي كانت تمسك بكف شمس التي انتهت للتو من رسم الحناء عليه، تنظر له جاحظة العينين والدموع متجمعة في مقلتيها بغزارة
قطبت شمس بتوتر وهي تنظر إلى فاطمة دون أن تجد كلمات مناسبة تقولها خاصة وهي لا تعرف ماذا حدث حين كانت منشغلة بالحديث مع فرح عن احتفالات الزفاف في العاصمة وكيف أنها مختلفة عن الاحتفالات هنا حتى أجفلت على صرخة العمة فاطمة المكتومة
اقتربت حفصة من العمة فاطمة وقالت بهدوء لا يخلو من القلق: " ما بكِ عمتي؟ ماذا حدث؟ "
نظرت لها فاطمة للحظة ثم عادت تحدق في كف شمس وقالت بصوت متحشرج: " اخبرتكن أنني لم أعد أريد رسم الحناء من بعدها لكنكن اصررتن عليّ "
قطبت حفصة بعدم فهم لكن حياة كان المعنى قد وصلها فقالت بتوتر حاولت أن تخفيه: " هل فعلتيها يا عمتي؟ ألم نتفق أن... "
قاطعتها فاطمة وهي تصرخ باكية: " لقد كان دورها.. كان من المفترض بها أن تكون... (واشارت على شمس وهي تكمل) بدلاً منها.. لقد شردت فيها ونسيت أنها ليست هي من تجلس أمامي لأرسم لها الحناء "
كانت شمس ترمش بحيرة وذهول وهي تنظر إلى فاطمة التي انهارت في البكاء والجميع يطالعها بشفقة
حاولت شمس سحب كفها من يد فاطمة لكن الأخيرة ظلت متشبثة به بشدة آلمتها وزادت من حيرتها عندما نظرت إلى فرح تريد منها فهم ما يحدث لكن كل ما فعلته فرح أن أشاحت بوجهها عنها ولم يخفى عن شمس أنها هي الأخرى كانت تبكي
رفعت يدها الحرة وربتت على كتف فاطمة تقول: " لا تبكي عمتي.. أنا لا أفهم ماذا حدث؟ لكنني لا أريدك أن تبكي (ثم ابتسمت بمناكفة تقول) انظري حولكِ لقد ابكيتِ الجميع حتى العروس "
نظرت فاطمة إلى زهراء بأسف قابلته الأخيرة بابتسامة حنونة متفهمة وهي تقول: " نحن نشتاق لهم جميعاً يا عمتي "
نكست فاطمة رأسها بصمت للحظات ثم تركت يد شمس ببطء بعدما نظرت لها طويلاً ونهضت وهي تقول: " أراكن في الغد على خير "
هتفت حفصة بحزن: " ابقي معنا قليلاً بعد يا عمتي لازلنا في بداية الليلة "
تنهدت فاطمة بشجن وهي ترد بينما تفقد السيطرة على دموعها فتسيل غزيرة كالمطر: " ليتها كانت هنا لكنت بقيت معكن حتى طلوع الشمس لكنها ليست هنا (شهقت قليلاً وهي تبكي ثم عادت تقول) الحبيبة ليست هنا يا حفصة "
وخرجت من المجلس باكية وهي تغمغم بأسى وحسرة: " أخذك الموت منا بغتة يا صغيرتي.. يا وجع قلبي عليكِ.. ليتكِ هنا يا حبيبة... ليتكِ هنا "
ظلت عيني شمس معلقتين بالباب الذي خرجت العمة فاطمة منه للتو حتى شعرت بالعبرات الساخنة تسيل على وجنتيها فرمشت وهي ترفع يدها بعفوية لتمسح تلك العبرات لكن يدها تسمرت في الهواء وهي تحدق في كفها بعينين متسعتين على أقصى مدى
لاحظ الجميع ذهولها فبادرت حياة وقد فهمت ما يحدث منذ البداية: " لا تقلقي سيزول الرسم بعد فترة وإن غسلتِ يدكِ الآن بالماء ستخف درجة الحناء كثيراً "
لم ترد شمس بل ظلت تحدق في كفها ثم رفعت كفها الآخر وأخذت تنظر في كل واحد منهما تارة حتى هتفت بحيرة دون أن تبعد عينيها عن كفيها المرسومين بالحناء: " هذا اسم أبي وأخي لكن (ونظرت إلى كفها الأيسر تقول) إسم من هذا؟ "
أقترب الجميع منها بفضول ليرون الرسم وحينها هتفت فرح بيأس: " الحمد لله أنها لم تشرد منذ البداية لكان الآن كفكِ الأيمن يزينه إسم عمي سليم وليس إسميّ والدكِ وأخاكِ "
قطبت شمس بعدم فهم بينما تناظرت حفصة وحياة فيما بينهما للحظات حتى قالت الاخيرة تقصد شمس: " تعالِ معي... سأغسل يدكِ "
عبست شمس بطفولية وهي تقول: " ليس قبل أن أعرف إسم من هذا؟ "
ردت ملك ببرود: " ألم تقابلي أبناء عمومتك بعد؟ "
نظرت لها شمس بهدوء ظاهري تقول: " لا.. منذ جئت وهم منشغلون فلم أستطع مقابلتهم بعد "
خطت ملك مبتعدة وهي ترد بنفس البرود: " إذن ستعرفين إجابة سؤالك ما إن تلتقين بهم "
***

بضعة دقائق قليلة وكانت شمس تخرج من الغرفة وهي تكاد تصرخ غيظاً من ملك، أخذت تتلفت حولها تبحث عن أنس دون جدوى
الدار مكتظا بالناس كما قال أنس لا يكاد المرء يستطيع الوقوف باتزان حتى من كثرتهم
عبست قليلاً وهي تفكر بالخروج إلى الحديقة لكنها خشيت أن يكون ذلك خطأ خاصة مع وجود الكثير من الرجال في الخارج فاتجهت إلى المطبخ
وقفت شمس بصمت تنظر حولها حتى وقعت عينيها على الصغيرة حلا وهي تسرق الحلوى وتضعها في طبق كبير بالكاد تستطيع حمله فأبتسمت بمرح وهي تتجه نحوها
تصنعت شمس الحزم وهي تقول: " ماذا تفعلين؟ "
أجفلت حلا قليلاً ثم عادت إلى هدوئها وهي ترد ببساطة: " أفعل ما ترينه.. أسرق الحلوى "
قطبت شمس وهي تقول: " ولماذا تسرقينها؟ تستطيعين أخذ ما تشائين منها "
زمت حلا شفتيها بغيظ وهي ترد: " بابا أخبرني أن تناول الكثير من الحلوى ضار بالصحة وبالأسنان "
ابتسمت شمس بحنان وهي تقول: " بابا معه حق "
عبست حلا وهي ترمق شمس بطرف عينها مردفة بترقب: " وتزيد الوزن كثيراً "
ضحكت شمس وهي تسألها بمرح: " وهل تخشين آنسة حلا أن يزداد وزنكِ؟ "
رفعت حلا عينيها تنظر بذهول إلى شمس وكان الأمر بديهي بينما تجيبها: " بالطبع.. فأنا أريد أن أكون رشيقة "
ضحكت شمس باستمتاع وهي ترد: " حقاً اممم... لكنكِ تبدين رشيقة بالفعل "
ضيقت حلا عينيها قليلاً وهي تسألها: " ألا تحبين الحلوى؟ "
ابتسمت شمس بسعادة طفولية وهي ترد: " أعشقها "
قطبت حلا وهي تقول: " لكنكِ رشيقة رغم ذلك "
ابتسمت شمس دون رد فقالت حلا بغيظ: " هذه المرة فقط ولن آكل حلوى بعد ذلك حتى لا أصبح بدينة "
كتمت شمس ضحكتها وتذكرت ما جاءت للسؤال عنه فقالت: " حلا ألا تعلمين أين يمكنني أن أجد أنس؟ "
استدارت حلا بكليتها تنظر إلى شمس بفرح طفولي وهي تقول: " هل تقصدين أخاكِ؟ "
ابتسمت شمس وهي ترد: " أجل أقصد أخي "
وضعت حلا طبق الحلوى على الطاولة المجاورة وامسكت بمعصم شمس تسحبها خلفها للخارج وهي تصيح بفرح: " أخيراً سأكلمه.. إنه جميل جداً "
قطبت شمس وهي تجبرها على التمهل في سيرها قائلة: " انتظري حلا عليّ غسل يديّ أولاً ثم أن... (إلتفتت حلا تنظر لها حينما قطعت حديثها فتابعت شمس حينئذ بابتسامة مرحة) الشاب نقول عنه وسيم وليس جميل فهي كلمة تخص الإناث "
قطبت حلا قليلاً وهي تحاول استيعاب كلام شمس ثم ما لبثت أن ابتسمت بسعادة تقول: " حسناً هو وسيم جداً.. أنا أحببته "
ضحكت شمس وهي ترد بفخر: " ومن يراه ولا يحبه.. إنه محبوب الجماهير "
***

كان أنس يقف وحيداً في إحدى الزوايا المظلمة في الحديقة، يضع يديه في جيبي بنطاله ويرفع رأسه إلى السماء يتأمل ضوء قرص القمر المكتمل ببهاء
استدار أنس بحدة مجفلاً قليلاً حينما سمع صوت الخطوات المقتربة منه لكنه سرعان ما استكان في لحظة حينما رآها من أمامه وهي تطالعه بابتسامتها الحنونة التي تخصه بها وكأنه طفلها
عبست شمس وهي تقول بغيظ طفولي: " ألا يمكنك البقاء في مكان واحد؟ لقد بحثت عنك كثيراً حتى دلتني حلا على مكانك "
رمق أنس الصغيرة حلا بطرف عينه ثم تجاهلها عن قصد وهو يقول: " ربما كنت اختبئ من أحدهم "
رمشت شمس لوهلة وهي تردد كلمته: " تختبئ "
عاد أنس ينظر إلى حلا بلامبالاة وهو يقول: " صدقاً لا أعلم مشكلة الفتيات هنا معي.. جميعهن تحاولن الالتصاق بي طيلة الوقت وكأنهن هررة تتوددن بكل الطرق لصاحبها "
كتمت شمس ضحكتها وقد فهمت ما يرمي إليه فجارته في حديثه تقول: " لا ينبغي أن تنزعج من أمر كهذا يفترض به أن يغذي غرورك ويزيد من ثقتك بنفسك "
هتفت حلا فجأة بضيق: " من تلك التي تتردد إليه كالهرة؟ ألا تنظر لنفسك في المرآة؟ "
رفع أنس حاجبيه بتعجب بينما حلا تكمل: " ما الذي سيعجب الفتيات فيك؟ اعمامي كلهم أجمل منك... "
قاطعتها شمس وهي تقول: " ماذا قلنا بشأن هذا؟ "
قطبت حلا بجدية مجيبة: " لا أعلم كيف أقولها؟ "
ابتسمت شمس ترد عليها: " نقول أوسم أو أكثر وسامة "
اومأت حلا برأسها متفهمة وهي تكمل حديثها بجدية تفوق سنوات عمرها المعدودة على أصابع اليد الواحدة: " حسناً.. اعمامي كلهم أكثر منك وسامة حتى عمي قاسم رغم عبوسه فإنه وسيم جدا أما أنت (ورفعت سبابتها تشير إليه) مشعث الشعر.. بالله عليك ألا تمتلك فرشاة لتمشط شعرك؟ "
إلتفتت بعد ذلك تغادر وهي تغمغم: " عليّ اللحاق بطبق الحلوى قبل أن يراني أحد ويشي بي إلى أبي على الأقل لا يضيع مني هو الآخر "
رفع أنس حاجبيه ذاهلا وهو يقول: " ما هذه الوصلة الطويلة؟ هل شتمتني تلك ال... ال... "
قاطعته ضحكات شمس وهي ترد: " لقد مرغت غرورك في التراب "
عبس أنس قائلا: " أشعر بذلك لأنه يئنّ "
ضحكت شمس من جديد باستمتاع وهي تقول: " هل تصدق أن عمرها خمس سنوات؟ "
رد أنس بنفس العبوس: " يبدو أنها أكبر عمراً من ذلك لكن ربما حدثت فجوة زمنية جعلتها تبقى في حجمها الطفولي للأبد "
كتمت شمس ضحكتها وهي تقول بمناكفة: " إنها طفلة جميلة "
صرخ أنس بغيظ حقيقي: " بل هي عجوز شمطاء "
أطلقت شمس العنان لقهقهتها من جديد فأخذ أنس يتأملها باسما وهو يقول: " ما أجمل ضحكتك يا شمس! "
وضعت شمس كفها على فمها وهي تكتم ضحكاتها قائلة: " لماذا لا تشاركهم في الاحتفال؟ "
حرك أنس كتفيه وهو يرد: " لا أريد أن أفسد عليهم حفلهم تعرفين مزاجي العصبي ونزقي من كل شيء "
صمت لحظة ثم تابع بمرارة: " يبدو أنني ورثتهما من السيدة الفاضلة مروة الباسل "
قطبت شمس وهي تقول: " لا تقل عن نفسك ما ليس فيك يا أنس.. أنت لست نزق ولا ذو مزاج عصبي "
تنهد بصمت فأبتسمت فجأة تقول: " تعال لتساعدني في التعرف عليهم فأنا لم اقابلهم حتى اللحظة "
قطب أنس يسألها: " من تقصدين؟ "
ردت شمس ببساطة: " أبناء اخوالي "
اومأ أنس برأسه بينما يقول بتفهم: " لا أظن من المسموح لكِ بمقابلتهم الآن خاصة وهم يجلسون بين الرجال.. انتظري حتى ينتهي الحفل "
اومأت شمس بطاعة ولم تضيف عن كلمة: " حسناً "
***

بعد ربع ساعة
كان يقف عند أسطبل الخيول يديه في جيبي بنطاله، مولياً ظهره لمن يدخل بينما حدقتيه مثبتتان على جواد بني يخص زيد وفرس من نفس اللون، كان يطالع الفرس بإهتمام ممتزج بالحنان ويده تلقائيا ترتفع لتربت على رأسها وهو يبلغها عن طريق نظراته برسالة هامة من.. صاحبها وفارسها
بعد لحظات قليلة حضر زيد.. يحث الخطى بسبب الظلام الدامس المسيطر على المكان وفجأة توقف مكانه بثبات حينما وصله صوت قوي من أمامه مباشرة يقول: " توقف مكانك وإلا ستصطدم بي بعد خطوة خرقاء أخرى منك "
عبس زيد قائلاً: " تعرف أنني لا أحب الظلام "
رد عليه الصوت القوي ببساطة: " ومن يحبه؟ "
تنهد زيد يسأله: " ها أنا جئت كما أمرتني.. ماذا تريد؟ "
رد الآخر بهدوء: " العم عمران يحتاج إلى رعاية صحية "
هتف زيد بذهول غاضب: " لا تقل لي أنك زرته.. لقد اتفقنا ألا تتدخل أنت في هذا الأمر وتتركه لي أتصرف فيه بطريقتي "
رد الآخر بنفس الهدوء الظاهري: " لا لم أزره ليس بعد على الأقل... "
قاطعه زيد بحدة: " ولا لاحقاً حتى "
تابع الآخر كلامه كما لو أن زيد لم يقاطعه: " لكنني سأفعل في يوم قريب.. كل ما أنتظره هو الفرصة المناسبة "
زفر زيد وهو يقول من بين أسنانه: " هل جئت بي إلى هنا حتى ترفع ضغطي؟ "
أتاه رد الآخر ساخراً: " لم أكن أعرف أنك أصبحت نزقا لهذا الحد "
صاح زيد بغيظ: " ومن يسمع حديثك هذا ولا يكون نزقا؟ "
بعد صمت طويل بينهما قال زيد باستسلام: " تفضل أخبرني اوامرك "
رد الآخر بجدية: " أريدك أن تأتي له بطبيب حتى يعاينه لكن هناك مشكلة "
قطب زيد بجدية يقول: " وما هي؟ "
تنهد الآخر وهو يقول: " أنسيت أن لا أحد على علم بمكان العم عمران؟ وأن عائلة الناصر بالتأكيد تبحث عنه الآن "
قال زيد بترقب: " إذن؟ "
عاد الصمت بينهما من جديد حتى قال الشاب ذو الصوت القوي بنبرة آمرة: " أبحث عن طبيب يعاين حالته وفي نفس الوقت لابد أن تكون متأكدا من أنه لن يخبر أحد عن الأمر "
رد زيد بانزعاج: " ومن أين سآتي به؟ أنت تعلم أن ضمائر البشر أصبحت تشترى بالمال ولا أظن أن هناك طبيب واحد سيتكتم على الأمر مهما اعطيناه بل سيهرول إلى عائلة الناصر يشي بنا عندهم لأجل الحصول على المزيد منهم "
رد الآخر بنبرة قوية: " تصرف زيد.. تصرف فمهما بلغ الفساد مبلغه إلا أن الخير موجود وعائلة الجبالي ذات شأن كبير فلا تستهين بها.. كل ما عليك أن تبحث عن طبيب في أسرع وقت ثم أخبرني عن هويته وأترك مهمة ولائه عليّ "
عاد الصمت يكتنفهما من جديد حتى تحرك زيد بتوتر متململا في مكانه فقال الآخر وقد اتضح في صوته التهكم: " أ لازلت تخشى الظلام حتى وأنت تقف مع رفقة؟ "
تنحنح زيد بحرج وهو يرد: " أنت توليني ظهرك ولا تريد أن تنظر لي "
قال الآخر بتعجب: " وهل لو نظرت إليك سيشكل الأمر فارقاً عندك؟ "
هتف زيد بأمل: " بالطبع فأنت حينما تنظر إليّ أشعر بأنني في أمان من كل شيء.. أمان تسكنه عينيك وتشي به نظراتك إليّ فاطمئن "
أغمض عينيه بقوة يخشى الإستسلام إلى الرجاء الخالص في صوت زيد فيلتفت إليه حينها قد الكثير من الأمور التي لا يجب آت تتضح في الوقت الحالي
لا يريد أن يتهور بعد تلك السنوات التي قضاها أسير ماضيه.. سيتحرر يوماً ويحرر معه شخص آخر يعاني مثله لكن.. ليس اليوم
حينما طال صمته علم زيد أن لا فائدة من رجائه فاطرق برأسه يقول بأمل يأبى أن يغادر روحه: " ألن تمنحني طمأنينة نفسي؟ "
رد الآخر بصوت جامد: " ليس اليوم لأنني لا أملك ما تحتاجه "
هتف زيد بيأس: " إذن متى؟ "
ظل صامتا للحظات أعقبها بصوت جامد: " علىّ أن أعود "
تنهد زيد بقهر وهو يقول: " ابقى قليلاً بعد أنا... "
قاطعه الآخر بنفس الجمود: " لا.. يجب أن أعود وأنت عُد إلى حمزة أظنه بحاجتك الآن ليتخلص من قاسم "
تنهد زيد من جديد وهو يتراجع للخلف وفجأة تذكر شيء فقال: " لقد حضرت ابنة عمتنا رقية "
رد الآخر بدون مبالاة: " جيد "
ازدرد زيد ريقه وهو يتنحنح ليجلي صوته بينما يضيف: " هل أرسل لك صورتها حتى تراها؟ "
رد الآخر بتهكم: " حينما تراها أنت أولاً "
زفر زيد وهو يتصنع الضيق قائلاً: " بسبب اوامرك التي لا تنتهي وطلبات زهراء هانم الكثيرة وكأنني خادمها لم أتمكن من رؤيتها حتى الآن "
همهم الآخر بتململ فقال زيد: " أخاها غير الشقيق يبدو مسالما وهادئاً جداً "
رد الآخر ساخراً: " لا أظنها ستكون مسالمة هي الأخرى فدماء الجبالية حارة "
رفع زيد حاجبيه يقول: " تتحدث مثل جدي.. حتى هو يصر على أن عائلتها الأولى والأخيرة هي الجبالي لاغيا تماماً أن الفتاة من آل الباسل "
رد الآخر بهدوء جاد: " إنه يحاول التشبث بها لأنها ما تبقى له من ابنته.. لقد تحمل الكثير في السنوات القليلة الماضية فقدان ابن وراء الآخر ليس بالهين عليه لذا فهو معذور "
ابتسم زيد يقول: " أحب تحليلك للأمور "
رد الآخر بسخرية: " بدأت أشك فيك وفي نواياك تجاهي صراحة.. ما تحبه بي أصبح كثيراً "
ضحك زيد بمرح وهو يرد بمناكفة: " ومن يراك ولا يحب فيك كل شيء "
تنهد الآخر قائلاً: " إذن عليّ الرحيل قبل أن يتطور الأمر بيننا أكثر فأنا ميولي تختلف عنك "
وبالفعل ما إن أنهى حديثه حتى غادر من الباب الخلفي للحديقة كما دخل تاركاً زيد من خلفه مطرق الرأس بأسى وقلب مهموم
***

بعد بضعة دقائق
كان ياسين يقف في الحديقة الخلفية يتلفت حوله بتوتر وهو يغمغم بضيق: " تباً لكِ يا ملك.. ستوقعيننا في كارثة بسبب رعونتكِ "
أجفل على تربيته خفيفة على كتفه فاستدار بإرتباك ليجد شاغلة أفكاره تتمثل أمامه في أحلى طلاتها وأكثرها فتنة
ترتدي ثوب طويل لامع بلونها المفضل الأحمر الناري، كان الثوب يخفي جسدها كله لكنه لا يترك مجال للمخيلة لا بلونه الصارخ أو تفصيلته التي تحدد قوامها كما لو أن لا شيء يسترها، أما شعرها فكان مجدولاً ومستريحا على كتفها الأيمن
رفع حاجبيه بذهول وهو ينظر إلى وجهها ليس لأنها تضع مساحيق التجميل لأول مرة بهذه الطريقة المفرطة وإنما للون الذي صبغت به شفتيها
وجد لسانه بغير شعور منه يترجم افكاره: " من تريدين أن تشعلي بهذا اللون الصارخ يا مجنونة؟ "
تلون ثغرها بابتسامة مغوية وهي تقول: " هل أعجبك؟ "
فغر فاهه ببلاهة وهو يتمتم: " ها! "
اتسعت ابتسامتها برضا وهي تضع كفها على كتفه قائلة برقة: " ما رأيك؟ "
قطب بحيرة يقول: " رأيي في ماذا؟ "
تلونت ابتسامتها ببراءة زائفة وهي ترد: " في مظهري الليلة؟ "
ازدرد ريقه وهو يرمقها بنظراته من رأسها حتى اخمص قدميها ليعود وتتسمر نظراته على شفتيها بلونهما الصارخ كلون ثوبها فيجد نفسه يرد بصوت أجش وكأنه مسلوب الإرادة: " تبدين كشعلة من نار "
فلتت منها ضحكة صغيرة بعبث وهي تحرك أناملها بخفة على كتفه بينما تهمس له: " ألا تخشى على نفسك مني أن احرقك؟ "
رفع عينيه إلى عينيها بصمت فتابعت بنعومة: " أم إنك ترحب بي وتريد... "
قاطعها ببرود: " على رسلكِ يا ابنة عمي فلا أظنني طلبت منكِ أي شيء من قبل وحتى اللحظة "
قطبت بإحباط مصطنع وهي ترد: " ظننتك تحبني لكن يبدو أنني كنت اتوهم ذلك "
لم يكن خافيا عليه طريقتها المغوية في الحديث معه أو استعراض نفسها أمام عينيه دون حياء ورغم أنه يرى عيوبها جلية أمامه إلا إنه لا يملك سوا أن يغرق فيها أكثر لكن ذلك لم يجعله يوماً ذليلاً أمامها أو ضعيفاً
عليها أن تفهم وتعي أنه لن يسمح لها بالتهور وجلب المصائب لهما حتى ولو كان المقابل البعد عنها لكي يحميها ويحافظ عليها من نفسها
هو ينتظر اليوم الذي ستصبح فيه حلاله أمام الجميع لذا لا يريد أن يجتمعا على معصية وتلك الغبية لا تفهم ذلك، تخطو نحوه بسرعة كبيرة خطوات مجنونة دون حساب
زفر بملل يقول: " ملك لا داعٍ لنكرر نفس الحديث مجدداً حقاً سئمت "
رفعت له عينيها تطالعه بحنق فأردف: " تعلمين جيداً أنني أحبك وأريدك معي طوال الوقت لكن ذلك كما أخبرتكِ لن يتم بأي طريقة سوا الزواج.. إنه الوسيلة الوحيدة التي يمكنها أن تجمعنا معاً حتى آخر العمر لكن... (تهربت من نظراته فتنهد يكمل) لا أعلم سبب رفضكِ.. في كل مرة أخبركِ أنني سأتحدث مع جدي واطلبكِ منه ترفضين "
ازدردت ريقها وهي تجيبه بكذب: " أخبرتك من قبل أنني لا أريد الزواج قبل إتمام دراستي "
رفع حاجباً وهو يقول بتهكم: " والآن ما الحجة الجديدة التي ستتحججين بها؟ لقد أنهيتِ دراستكِ منذ عامين كاملين ولازلتِ على نفس رفضكِ "
هتفت بحنق: " أنا لا اتحجج.. أنا فقط... "
صمتت فهتف هو في المقابل بنفس الحنق: " أنتِ ماذا يا ملك؟ ماذا؟ أخبريني سبب مقنع... سبب واحد وأقسم لن أتحدث معكِ في هذا الموضوع حتى تأتين إليّ وتخبرينني أنكِ راضية "
أشاحت بوجهها عنه ولم ترد فقطب بجمود وهو يقول: " حينما تملكين الرد أخبريني لننتهي من هذا الموضوع الذي طال وسخف وحتى ذلك الحين... "
رفعت عينيها إليه بترقب فتابع بنفس الجمود: " لا أريدكِ أن تهاتفيني يا ملك وأي مكان أتواجد فيه لا أريدكِ أن تشاركينني فيه وإياكِ أن تكرري حماقتكِ السابقة وتأتي إلى غرفتي "
قالت بإرتباك: " أنا... "
لم يسمح لها بالكلام فقاطعها بحزم يقول: " في المرة الماضية أكتفيت بتحذيركِ لكن إن فعلتِها مجدداً أقسم سأخبر جدي "
ما إن انتهى من حديثه حتى تركها ورحل فضربت الأرض بقدمها وهي تتمتم بضيق: " غبي "
اجفلها صوت خافت ساخر من خلف إحدى الأشجار الضخمة يقول: " لا يبدو لي غبياً بل شابا على خلق يريدكِ في الحلال لكن السؤال هنا هو.. ماذا تريدين أنتِ منه؟ "
تسمرت ملك في مكانها بخوف ولم تنطق بكلمة وهي تتلفت حولها تبحث عن مصدر الصوت الساخر الذي تابع: " الغريب أنكِ لا تريدين الزواج به حاليا على الأقل.. لكنه يبدو السبيل الوحيد أمامكِ لكي... "
سكت دون أن يكمل جملته فازدردت ملك ريقها لتسمعه يقول بعد لحظات: " لماذا تحاولين بخس قدر نفسكِ بتلك الطريقة الوقحة المبتذلة؟ لماذا تشوهين صورة الملاك فيكِ وتسعين لتحويلها إلى صورة مشوهة رخيصة؟ "
شهقت بصدمة من قسوة كلماته وجحظت عينيها وهو يتابع: " هل تتخيلين أن تنزلق قدميه في علاقة محرمة معكِ؟ هل هكذا تخططين لأجل تحقيق حلمكِ؟ "
صرخت دون وعي منها، دون أن تفطن لأن من تحدثه شخص لا تعلم هويته حتى: " أنا لست رخيصة كما تصورني ولا تتحدث عن حلمي.. ماذا تعلم أنت عن حلمي.. ها؟ "
أتاها صوته بارداً مستخفا وهو يجيبها: " أ ليست الهجرة والسفر للخارج هي حلمكِ السخيف الذي تسعين لتحقيقه بأي وسيلة؟ "
تسارعت أنفاسها وهي تتراجع للخلف بخوف.. ما قاله صحيح هي لا تتمنى شيء أكثر من الرحيل والهجرة للخارج بعيداً عن العائلة والماضي
لا تتمنى سوا الفرار من ثأر يعكر صفو حياتها ويحتل منامها بضراوة مهددا سلامها ومغلقا في وجهها كل سبل الأمان
لا تتمنى إلا نيل فرصة واحدة في التحليق بعيدا وحينها ابدا لن تفكر في العودة ولو كلفها ذلك كل ما تملك ولو كان السبيل الوحيد للبعد هو خسارة من تحب.. خسارة ياسين
عاد صوته بعد لحظة بنفس النبرة ولكن غلفها بقسوة ارعبتها: " إن تجرأتِ وكررتِ ذهابكِ إلى غرفة ياسين أقسم بالله سأجعلكِ تبكين ندما يا ملك وإن ظننتِ أنه غر لدرجة أن تحاولي استغلاله لتحقيق أحلامكِ فأنتِ واهمة إذن.. إياكِ أن تنسِ كيف يكون غضب رجال آل الجبالي إن مس أحد بكرامتهم وكبريائهم.. هيا اذهبي ولا تنسِ أن تفكري جيدًا في كلامي "
وكأنها كانت في إنتظار الأمر منه لتتحرك ما إن سمح لها بعد أن كان هدير صوته يجمدها في مكانها، أطلقت لقدميها الريح دون أن تسأله حتى عن هويته وكيف توصل لتلك المعلومات التي لم تخبر عنها أحد من قبل إلا إحدى زميلاتها في الجامعة ذات يوم من باب الثرثرة لا أكثر
كانت تركض بسرعة وكأنه سيلاحقها وما إن وصلت إلى غرفتها واوصدت الباب بالمفتاح حتى تهاوت على الأرض وظلت جامدة لثواني معدودة ثم وفجأة اجهشت في البكاء
كانت تبكي بحرقة ومرارة وعاد صوته يصدح من حولها وكأنه تتبعها إلى غرفتها وأخذ يكرر كلامه من جديد
' لماذا تحاولين بخس قدر نفسكِ بتلك الطريقة الوقحة المبتذلة؟ '
' لماذا تشوهين صورة الملاك فيكِ وتسعين إلى تحويلها إلى صورة مشوهة رخيصة؟ '
' هل تتخيلين أن تنزلق قدميه معكِ في علاقة محرمة؟ هل هكذا تخطيط لأجل تحقيق حلمكِ؟ '

شهقت بصدمة وجزع من أفكارها وأفعالها، هل كانت تسعى حقاً لإيقاع ياسين في هذا الفخ الرخيص
هل فسر ياسين ما فعلته بهذه الطريقة؟ هل أصبح يراها بهذه الصورة الوقحة؟ هل سيكرهها؟
بالطبع سيفعل فما الذي سيجبره على البقاء على حب فتاة أهانت نفسها بتلك الطريقة المبتذلة
عاد عقلها يصرخ من جديد 'لا هذا ليس تفسير ياسين وليس كلامه وإنما كلام... كلام من؟؟؟؟'
الشبح!
سخرت من نفسها فالصوت الذي سمعته واهانها لم يكن صوت خاوي لشبح بل صوت... صوت انسان غاضب، أجل كان غاضباً نبرته القاسية لم يكن سببها سوا الغضب ولكن من هو ليغضب منها؟ وماذا فعلت له ليغضب؟ هي حتى لا تعرفه
هتفت بحرقة: " غبية يا ملك.. غبية كشفتِ نفسكِ أمامه وأنتِ حتى لا تعرفين من هو؟ "
صرخ عقلها من جديد أنها لم تكشف نفسها بل هو من فعل.. هو كان يعرف كل شيء وليس في حاجة لأن تخبره
شهقت وهي تفكر بخوف واضطراب: " ترى من يكون؟ وماذا إن أخبر ياسين عما يعرفه؟ "
***

أما هو وبعد أن تأكد من رحيلها تنهد بوجوم وهو يتمتم: " تماديتِ كثيراً يا ملك.. أكثر من اللازم وحان وقت ايقافكِ عند حدكِ"
قطب وهو يطالع الغصن الصغير بين أصابعه قبل أن ينهض من مكانه قائلاً: " لنرى من التالي؟ (وضع الغصن بيت أسنانه وهو يفتح هاتفه ويبحث عن شيء ما ثم أكمل حديثه) حياة! اممم يبدو أنها ليلة الأختان العنيدتان والأخان المعذبان "
***

خرجت حفصة وحياة من غرفة زهراء وهما تضحكان على شيء ما لتقول حياة: " لك الله يا حمزة.. من ابتلاك يرحمك يا ابن عمي "
ضحكت حفصة من جديد وهي ترد: " معكِ حق.. مسكين حمزة والله "
كادت حياة تتكلم لكن رؤيتها لقاسم وهو يصعد الدرج جعلتها تسكت فتنحنحت حفصة تقول: " سوف اذهب لأبحث عن حلا "
وانسحبت بعدها وهي تدعو الله أن يستغل قاسم الفرصة ويتحدث مع حياة
لم تعيره حياة أي إهتمام وخطت نحو غرفتها بهدوء فتبعها بصمت حتى فتحت الباب فاستوقفها وهو يقول: " حتى متي؟ "
استدارت له وردت ببرود ووضوح دون أن تتصنع عدم الفهم: " حتى أشعر بالسلام "
قطب وهو يقول: " مرت سنوات وطال الأمر وصبري يكاد ينفذ "
رفعت حاجباً باستخفاف وهي ترد: " هل تهددني يا ابن عمي؟ "
قبض قاسم على أصابعه وهو يقول بصوت خافت متصلب: " ما عاش ولا كان من يهددكِ يا ابنة عمي "
شعرت بالتوتر فجأة فتهربت من نظراته القوية وهي تقول: " ماذا تريد مني يا قاسم؟ "
تنهد بقوة وهو يشيح بوجهه عنها بينما يرد: " وماذا سيريد منكِ مسكين مثلي؟ "
نظرت له بذهول فهي لم تعتد منه هذا الرفق في الحديث ولا تلك الرقة والاستسلام في نبرته فقالت بخفوت: " لا أفهم ماذا تريد؟ "
تلاقت نظراتهما للحظة بسكون قبل أن يرد قاسم بصوت أجش قوي: " أريدكِ أنتِ يا حياة "
توترت حياة فقالت: " قاسم أنا... "
قاطعها بصلابة وهو يقول: " حياة أنا أجدد طلبي واكرره ثانية بل للمرة الألف وربما أكثر فقد توقفت عن العد منذ وقت طويل.. سأطلبكِ من جدي بعد إنتهاء عرس حمزة وزهراء "
" لا "
رفع حاجبيه وهو يكرر رفضها القاطع الذي نطقت به دون تفكير: " لا! "
قطبت حياة بصلابة توازي خاصته وهي تقول: " لا تفعل يا قاسم "
قطب يقول: " لماذا؟ "
ردت حياة بضيق: " لا أحب أن يضعني أحد أمام الأمر الواقع "
بدت عليه الحيرة وهو يقول: " أنا لا أجبركِ على الموافقة بل أخيركِ "
ضربت الأرض بقدمها بطفولية وهي تصيح: " لكنك لو فعلت وطلبتني من جدي لن استطيع الرفض.. مستحيل أن أرفض طلبك يا قاسم.. لن أستطيع أن أردك فارغ اليدين وأنت تعلم ذلك "
تنهد وهو يقول: " إذن لا ترفضي "
هزت رأسها سلبا وهي تقول ببؤس: " لا أستطيع.. أريد قول نعم لكنني لا أستطيع "
عبس دون أن يرد فتابعت برجاء: " لا تفعل يا قاسم.. أرجوك لا تفعل "
أشاح بوجهه عنها مجددا قبل أن يقول بصوت جامد: " لا تترجيني حياة.. أوامركِ مطاعة يا ابنة عمي.. لن أفعل وأيضاً لن... (نظر لها ببرود وهو يكمل) لن أعيد طلبي... أبداً.. تصبحين على خير "
اختفى من أمامها سريعاً وتركها خلفه متسمرة في مكانها وسالت من عينها دمعة وحيدة وكلمته تصدح مراراً وتكراراً
قاسم قال أنه لن يعيد طلبه.. أبداً
تعلم أنه يفعل ما ينطق به وإن قال أنه لن يكرر طلبه فقد عنى الكلمة وسينفذها
وبخت نفسها: " لماذا تبكين؟ لماذا تتحسرين الآن؟ أ لستِ من طلبتِ منه ألا يخبر جدكِ؟ "
دلفت لغرفتها وأغلقت الباب تستند عليه وهي تترك العنان للمزيد من العبرات تسيل بينما تقول: " كيف اتزوج وأسعد في حياتي وأبي دمه لازال مهدورا وحقه لازال ضائعا؟ "
شهقت باكية وهي تضيف: " لازال الطريق شائك يا قاسم.. بيني وبينك سور عالٍ لا أظنك بقادر على اختراقه ولا أظنني أملك الطاقة الكافية حتى أهدمه لأجلك "
تحركت اتجاه الفراش وهي تتمتم بقهر: " والله يوجعني قلبي في كل مرة أردك مخذولاً لكني لا أملك الحل.. سامحني يا قاسم "
كان هذا ما قالته قبل أن تهوى على الفراش وتجهش في البكاء حالها كحال أختها وليس بأفضل منها
***

كانت فرح تقف أمام النافذة وتنظر للأسفل بحيرة وهي تقول: " ماذا يفعل أخاكِ وحده حتى اللحظة؟ "
عبست شمس وهي تقول: " هل لازال في الحديقة الخلفية؟ "
اومأت فرح إيجاباً وهي تسألها: " هل يدخن؟ "
ردت شمس بنفس العبوس: " حينما يكون غاضباً من شيء "
استدارت فرح تنظر إلى شمس بإهتمام بالغ وهي تقول: " ومما هو غاضب؟ هل أساء أحد من عائلتنا إليه؟ "
عقدت شمس ساعديها أمام صدرها وهي ترد: " هو غاضب بسبب شخص آخر لا تعرفينه "
ابتسمت فرح وهي تناكفها: " كم هو شرير إذن هذا الشخص.. كيف استطاع ازعاج كائن بوسامته تلك؟ "
تنهدت شمس ببؤس ولم ترد فألتفتت فرح إلى النافذة من جديد وصرخت بذهول: " ماذا يفعل؟ "
هبت شمس من جلستها واقتربت من النافذة تنظر حيث أشارت فرح فقطبت بكآبة على خلاف فرح المصدومة والتي عادت تهتف بدهشة: " هل ستتركينه يفعل هذا الجنون؟ "
ردت شمس ببؤس: " لا سأشاركه جنونه "
خلال ثوان كانت شمس تغادر الغرفة بينما فرح ظلت على وقفتها تنظر إلى أنس الذي افترش الأرض ونام
***

وقفت شمس متخصرة تنظر إلى أنس الذي ينام على الأرض بسكون
كان ينام على ظهره، يرفع ساقاً فوق أخرى بعجرفة وكأنه ينام على بساط علاء الدين السحري لا على أرض ترابية بينما يتوسد أحد ذراعيه تحت رأسه والأخرى يضعها على وجهه يخفي بها عينيه
ظلت على صمتها حتى سمعته يقول بصوت هادئ حنون: " الجو بارد هنا.. اصعدي للأعلى يا شمس "
برمت شفتيها بطفولية وهي تقول: " ليس لي مكان في الأعلى فرح طردتني "
ضحك أنس وهو يقول: " أخبرتكِ من قبل أنكِ فاشلة في الكذب "
تنهدت بإحباط ترد: " هل هذا يعني أنك لن تسمح لي بالنوم إلى جوارك؟ "
رد دون أن ينظر إليها: " أكيد "
شعرت شمس بالغيظ فهتفت: " لكنني دوماً أسمح لك بالنوم إلى جواري "
ابتسم أنس وهو يرد باستفزاز: " ومن قال أنني احتاج لأن تسمحي لي.. أنا أفعل ما يحلو لي وما أريد "
ابتسمت بسخرية وهي تقول: " رحم الله أياماً كنت تتوسلني فيها لكي أسمح لك بالنوم في غرفتي "
رفع ذراعه عن وجهه ونظر لها مناكفاً يقول: " هل غضبت شمسي مني؟ "
عقدت ساعديها أمام صدرها واشاحت بوجهها عنه وهي ترد: " جداً "
ضحك أنس وهو يشير لها أن تقترب قائلاً: " تعالِ إذن لأصالحكِ "
نظرت له بطرف عينها تتصنع التمنع فأردف بمكر وهو لازال يضحك: " سأخبرك سر يخص تلك المغرور ابنة عمك "
نظرت له باهتمام جلي وهي تقترب منه سائلة بحماس: " تقصد ملك؟ أي سر؟ "
جلست الى جواره فسحبها بخفة وضمها إلى صدره وهو يقول: " نعم ملك.. هل لازالت تبكي؟ "
قطبت بعدم فهم تقول: " ملك تبكي! لماذا؟ "
تنهد وهو يرد: " لقد آلمها بكلامه جداً.. كان قاسياً معها لكن صدقاً الرجل معه الحق فيما قال.. تلك الفتاة كانت بحاجة لمن يوقفها عند حدها قبل أن تتهور وتجلب لنفسها ولابن عمها مصيبة "
كانت شمس حائرة لا تفهم شيء مما يقول فصاحت بحنق: " هلا تحدثت بوضوح أكثر أنا لا أفهم شيء؟ "
قطب أنس فجأة وهو يفكر بشرود في شيء ما طرأ في عقله فرد بعد لحظات بتفكير: " أتعلمين من الجيد أنكِ لا تفهمين لأنني لا نية لي في أخباركِ صراحة "
عبست وهي تهتف بغيظ: " أنت لئيم جداً "
تنهد أنس وهو يقول بلامبالاة: " أعلم "
***

في الأعلى
أغلقت فرح النافذة وهي تحدث نفسها بدهشة: " لقد ظننتها تمزح لكنها نامت إلى جواره حقاً في الحديقة.. ماذا لو رآهما أحد؟ "
ردت حلا وهي منشغلة بأكل الحلوى التي سرقتها دون إذن والديها: " إنهما أخوان لا مشكلة أن يناما معاً في الحديقة "
اومأت فرح برأسها وهي تجلس إلى جوارها على الفراش بينما تقول: " أعلم أن لا مشكلة في ذلك سواء كانا في الحديقة أو في أي مكان آخر لكن... لا يصح أن تنام شمس في مكان مكشوف هكذا إنها فتاة وفي الدار رجال كثيرين "
قطبت حلا وهي تفكر في كلام فرح ثم هتفت بعد لحظات: " هل سيعاقبها جدي إن علم؟ "
حركت فرح كتفيها وهي ترد: " لا أظن ذلك لكنه سينزعج إن رآها أحد في هذا الوضع "
عادت حلا تنشغل بتناول الحلوى بينما فرح تفكر في تلك العلاقة القوية التي تربط بين شمس وأنس
وبعد صمت طويل قالت حلا بحيرة: " لماذا ترسم شمس الحناء على يديها؟ "
ابتسمت فرح وهي ترد: " جميعنا فعلنا حتى أنا انظري(صاحبت كلامها بأن بسطت كفها أمام حلا تريها الحناء بينما تردف) لقد رسمت لي العمة فاطمة اسم أبي "
وضعت حلا قطعة من الحلوى في فمها وهي تقول بدهاء: " لكن شمس ترسم إسم عمي زيد "
قطبت فرح بحيرة تقول: " كيف عرفتِ؟ أنتِ لازلتِ تتعلمين حروف الهجاء "
ردت حلا ببساطة: " سمعت الجدة فاطمة وهي تخبر جدي سليم "
قطبت فرح بقلق وقالت: " وماذا كان رد فعل عمي سليم؟ "
فعبست حلا وهي تقول: " لقد أخبرها أن لا بأس لكن بعد أن رحلت سمعته يقول 'أن وقت فتح ذكريات الماضي لم يحن بعد' فماذا كان يقصد يا فرح؟ "
شردت فرح في تحليل تلك الكلمات وفي نفس اللحظة طرقت حفصة الباب ودخلت تقول بابتسامتها الحنونة: " هيا يا حلاي لندع فرح حتى تنام "
نهضت حلا وهي تخفي طبق الحلوى خلف ظهرها وترد بوداعة: " حاضر ماما "
نهضت فرح هي الأخرى تقول: " اذهبي أنتِ يا حلا فهناك ما أريد الحديث فيه مع ماما "
اومأت حلا برأسها وركضت إلى الخارج وهي سعيدة لأن أمها لم تكتشف سرقتها للحلوى بينما انشغلت حفصة بتعابير القلق التي بدت على فرح
قطبت حفصة بقلق تقول: " ما بكِ يا فرح؟ هل أنتِ مريضة؟ "
هزت فرح رأسها سلباً وهي ترد: " أنا بخير يا حفصة لكن هناك أمرا مهما أريد أن أحدثكِ فيه "
جلست حفصة أمام فرح في حين قالت الأخيرة: " أريد سؤالكِ عن شيء "
اومأت حفصة دون رد فتابعت فرح: " هل تعرفين السبب الذي جعل جدي يأمرنا بعدم الحديث أمام شمس عن العمة حبيبة رحمها الله؟ "
تنهدت حفصة وهي ترد: " بالطبع لا ومن أين سأعرف أنا؟ تعلمين جيداً يا فرح أن جدي كثيراً ما يصدر قراراته دون مشورة أحد وفي الغالب لا يكون أحد على إطلاع بها سوا عمنا خالد "
قطبت فرح وهي تفكر بصوت عالٍ: " هل تظنين أن أمره كان عاماً أي أنه لم يقصد شمس بعينها؟ "
قطبت حفصة بالمثل وهي ترد: " اممم هذا محتمل فعلاً.. من الممكن أن يكون جدي لا يريد منا أن نعيد فتح سيرة الماضي لهذا أمرنا ألا نتحدث معها أو نحكي لها عن العمة حبيبة رحمها الله "
نهضت فرح من مكانها وأخذت تتحرك في الغرفة جيئة وذهابا وهي تقول بحيرة: " لكن هناك شيء غريب ألم تلاحظي ذلك؟ "
مالت حفصة برأسها قليلاً وهي تنظر لها بعدم فهم قائلة: " أي شيء تقصدين؟ "
توقفت فرح مكانها ونظرت إلى حفصة تقول: " لكننا اخبرناها عن عمي محمد وعن والدكِ.. اخبرناها بشأن هذا الثأر القديم الذي كانا ضحيته لكننا في المقابل لم نخبرها شيء عن العمة حبيبة رغم أن وفاتها أيضاً متعلقة بهذا الثأر ولم نخبرها عن ابن عمنا سليم "
جلب حديث فرح العفوي عن ذلك الحادث المرارة إلى حفصة وهي تتذكر والدها الذي حرمت منه فترقرق الدمع في عينيها وهي تطرق برأسها للأرض دون أن ترد
شعرت فرح بالحزن والشفقة عليها فاقتربت منها حتى جثت على ركبتيها أرضاً أمامها وامسكت كفيها بحنان وهي تقول: " أنا آسفة يا حفصة.. لم أقصد أن أذكركِ بكل هذا "
تنهدت حفصة بحسرة وهي ترد: " لا بأس يا فرح فأنا لم أنساه من الأساس "
ابتسمت فرح بكآبة وهي تقول: " معكِ حق وكيف ننسى من يسكنون قلوبنا وأرواحنا؟ "
ران بينهما الصمت لدقائق طويلة حتى قالت حفصة بهدوء: " قد يكون السبب وراء ذلك هو سبب وفاة العمة حبيبة رحمها الله "
نظرت لها فرح بتعجب تقول: " تقصدين أن جدي يريد إخفاء حقيقة موت ابن عمنا سليم لكن لماذا؟ من حقها أن تعرف فهي ليست غريبة عنا "
تنهدت حفصة وهي تقول: " والله لا أعرف يا فرح.. هذا ما أظنه أنا ومع صعوبة الوصول إلى تفكير جدكِ فلا أجد تفسير آخر لهذا الأمر "
لم تعقب فرح على كلامها فنهضت حفصة من مكانها وربتت بحنان على رأس فرح وهي تقول: " لا ترهقي نفسكِ بالتفكير يا فرح ودعي الأمور تسير كما يخطط لها القدر فلا نعلم ما يخبئه الغد لنا "
اومأت فرح برأسها بصمت فأبتسمت حفصة وهي تردف: " هيا اخلدي للنوم مباشرة فلم تتبقى سوا ساعات قليلة حتى تشرق الشمس ويأتي الصباح بصخبه المرتقب "
اومأت فرح بطاعة وهي تبتسم لحفصة بامتنان صامت لتلك المعاملة الفريدة التي تنالها منها وكأنها ابنتها فتجد في ذلك تعويضاً كبيراً عن فقدان أمها
***

صباحا / في المستشفى
دخل يوسف الغرفة متعجبا من وجود صخر في هذه الساعة المبكرة وقد أخبره بالأمس أنه لن يتمكن من الحضور خلال ساعات النهار الأولى
أغلق الباب واقترب بخطى هادئة منه حيث ينام على الأريكة الجلدية يتوسد أحد ذراعيه تحت رأسه والآخر يغطي به عينيه
فتح يوسف فمه وقبل أن ينطق بحرف سبقه صخر بالقول: " لستُ نائما يا يوسف.. تعال أجلس "
تنهد يوسف وهو يسحب كرسي من أمام المكتب يقربه من الأريكة قبل أن يجلس قائلاً: " يبدو أنكَ هنا منذ زمن "
رد صخر دون أن يتحرك أو يغير من وضعيته: " لم أذهب للبيت بالأمس.. أنهيت بعض الأعمال ثم عُدت إلى المشفى مرة ثانية "
قطب يوسف بحيرة وهو يسأله بترقب: " عن أي أعمال تتحدث صخر؟ "
رد صخر بسؤال آخر: " أخبرني يوسف كيف يخطئ الأخ التعرف على أخاه؟ "
زادت تقطيبة يوسف بعدم فهم وهو يتمتم: " ماذا؟ "
تكلم صخر بعد لحظة وكأنه يحدث نفسه: " أنا شخصيا أتعرف بسهولة على أي شخص ألتقيته من قبل ولو لمرة ولو جمعتنا نظرة واحدة فقط.. مستحيل أن أخطئ التعرف عليه إن تقابلنا ثانية فكيف يخطئ الأخ التعرف على توأمه الذي هو من لحمه ودمه بل ما يربطهما أقوى من ذلك؟ "
عبس يوسف بغيظ من كلمات صخر التي تبدو له كأحجية لا يستطيع تفكيكها وهتف: " أنتَ يا دكتور أعتدل أولاً وأنتَ تكلمني وفسر كلامك فكما تعرف أنا جاهل في فك الشفرات وحل الألغاز والأحاجي المعقدة التي أنتَ بارع فيها "
تنهد صخر بعمق قبل أن يرد بمناكفة: " والله لا طاقة لي لأن أعتدل دكتور يوسف فأسمح لي بالهذر في وضعي هذا بدون أي تذمر منك رجاءً "
ابتسم يوسف وهو يلكزه في كتفه مازحا: " هل تحاول المراوغة حتى لا تخبرني مع أي فتاة قضيت ليلة أمس؟ "
رد صخر بنبرة تصنع فيها البراءة: " أوه يوسف.. دوماً هكذا تظن بي ظن السوء رغم أني شاب برئ النوايا ومستقيم الدرب "
رفع يوسف حاجبيه بذهول مصطنع وهو يقول: " معك حق دوماً أظلمك يا مسكين.. أستميحك عذرا أيها البرئ المستقيم "
تنهد صخر يرد بقلة حيلة: " لا أعرف والله كيف أتخلص من طيبة قلبي تلك التي تسبب لي المشاكل دائما لكن حسناً سأتنازل تلك المرة أيضًا وأسامحك "
ضحك يوسف بمرح قائلًا: " يبدو أن مزاجك ليس مكدرا كالعادة "
أزاح صخر ذراعه عن عينيه وهو يلتفت برأسه قليلا، ينظر إلى يوسف مجيبا بصوت كئيب: " بلى هو مكدر يا يوسف لكني أحاول تصفيته بقدر ما أستطيع "
قطب يوسف بقلق وهو يندر له بتدقيق سائلا: " صخر عينيك محتقنتين بشدة.. هل كنت تبكي؟ "
ازدرد صخر ريقه وهو يرد بإحباط: " كلا.. لكنني لم أنم لدقيقة حتى.. ليلة أمس استنفذت الكثير من طاقتي وجهدي "
سأل يوسف بإهتمام وهو ينظر لصخر بقوة: " أين كنت ليلة أمس يا صخر وأي عمل ذاك الذي انشغلت فيه دون أن تخبرني عنه؟ "
زفر صخر بقوة وهو يعتدل جالسا قبل أن يرد بصوت جامد ونبرة قاتمة: " كنت في مدينة الجبل "
هب يوسف من مكانه وهو يصرخ بإنفعال: " آخر مرة أتفقنا ألا تذهب إلى هناك وحدك.. لماذا خالفت الإتفاق الذي كان بيننا؟ "
قطب صخر وهو يرد ببرود: " أنا لم أتفق معك على شيء.. أنت من قررت وحدك وصمتي حينها لم يكن يعني موافقتي على ما تقول "
هتف يوسف بنفس الإنفعال: " كان يجدر بكَ أن تخبرني إذن طالما سيادتك لم توافق لا أن تدعني كالأحمق أثرثر بكلام ليس منه أي فائدة "
صاح صخر بحدة قائلا: " هل يمكنك أن تهدأ وتمنحني فرصة لكي أشرح لك سبب ذهابي إلى هناك دون إخبارك؟ "
تأفف يوسف بضجر فغمغم صخر بإقتضاب محاولا قدر الإمكان التحكم في أعصابه: " هلا جلست؟ "
رضخ يوسف لطلبه وجلس على كرسيه من جديد وهو يتمتم بغيظ: " ها قد جلست.. ما التالي؟ "
تنهد صخر بعمق وهو يحاول التماسك حتى لا يستسلم للصداع الشديد الذي يضرب جانبي رأسه بلا هوادة.. تكفيه أعصابه المتشنجة والمتوترة منذ ساعات لسبب يجهله شخصيا حتى اللحظة

بعد لحظات قال: " تعلم أن لي عيون في دار الناصر كما في دار الجبالي حتى أكون على إطلاع تام بكل ما يدور هناك "
نظر له يوسف بإهتمام فاستطرد صخر: " بعدما غادرت أنت بالأمس وصلتني رسالة من أحد الرجال التابعين لي يخبرني بأن فؤاد يخطط لقتل زيد "
هب يوسف من جلسته صارخا بصدمة: " ماذا؟ كيف؟ والله كنت قتلته إن حاول أن يمسه بمكروه "
صرخ صخر بنفاذ صبر: " أجلس يا بني آدم ودعني أنهي حديثي "
عاد يوسف إلى كرسيه والقلق قد عصف بكيانه بينما عبس صخر وهو يتابع حديثه: " لم أُرِد حينها أن أقلقك لخبر قد يكون مجرد كذبة ابتدعها فؤاد لسبب أو لآخر ففضلت أن اتأكد بنفسي من الأمر أولاً لذا ذهبت إلى هناك دون أن أخبرك "
سأل يوسف بخوف بدى جليا على ملامحه: " وماذا وجدت؟ كانت مجرد كذبة أليس كذلك؟ "
قطب صخر بجمود وهو يجيبه: " لا.. الخبر أكيد.. فؤاد يريد بالفعل التخلص من زيد "
شحب وجه يوسف وهو يطالع صخر بصدمة قائلا بخفوت وصوت متحشرج: " ما علاقته بزيد؟ ماذا فعل له زيد من الأساس حتى يخطط فؤاد لقتله؟ "
رد صخر بتهكم: " يظن أن زيد هو من يتسبب له في المشاكل التي تتوالى عليه تباعا من كل جانب "
عبس يوسف وهو يتمتم بعصبية: " ماذا؟ أحمق هو أم ماذا؟ كيف يظن هذا بزيد؟ "
حرك صخر كتفيه وهو يرد ساخرا: " وأنا والله كنت أتساءل أيضاً.. كيف ظن بزيد الفتى المدلل الذي بالكاد يمكنه الصراخ والسب أنه من يتسبب له في تلك الخسائر المتلاحقة؟ "
توسعت مقلتي يوسف فجأة وهو يهتف باستدراك متأخر: " من حقه أن يظن أن السبب في كل ما يحدث له هو زيد "
نظر له صخر بترقب وهو على يقين بما سيحدث في اللحظة التالية.. سينفعل يوسف ويفقد أعصابه مطلقا العنان للسانه متحدثا بدون تفكير وبالفعل هب الأخير من جلسته للمرة التي لا تعد وأخذ يلوح بيديه صارخا بإنفعال والكلمات تخرج من فمه متلاحقة: " تفعل أنتَ كل شيء.. تخطط، تقرر، تأمر، وتنفذ ومن ثم يقع هو ضحية لكل ما تقوم به "
ظل صخر على صمته يستمع إليه بهدوء ظاهري وملامح ساكنة لا تعبر عن شيء بينما يوسف تعلو نبرة صوته أكثر وأكثر وهو يضيف: " ألم تفكر للحظة بالعواقب التي قد تحدث بسبب ما تفعله؟ ألم يخطر بعقلك عدد الضحايا الذين قد يأخذهم الموت عقابا لهم على مساندتك ومشاركتك فيما تقوم به؟ "
حينما سكت يوسف بعد آخر كلمة قالها ولم يبدي أي رغبة في قول المزيد جاء دور صخر ليتكلم ببساطة مستفزة: " تابع يوسف.. كلامك أثار اهتمامي "
نظر له يوسف بغضب قبل أن يردف بتهور: " ألن تفكر للحظة فيمن حولك وما ينتابهم من قلق واضطراب بسببك؟ ألن تقدر خوفهم عليك وأنت تلقي بنفسك في الجحيم بكل غباء؟ ألن تتراجع عما تخطط له حتى ترى بعينيك صديق أو قريب لك يذهب ضحية لما تفعله؟ هل حينها ستتراجع صخر؟ "
جز صخر على أسنانه دون رد فتابع يوسف بصوت مخذول كئيب: " أخبرني صخر هل ستتراجع إن خسرتني أو خسرت أحد أفراد عائلتك؟ هل هذا ما سيجعلك تترك انتقامك وتحيا الحاضر والمستقبل دون شوائب الماضي التي تصر على أن تبقيها عالقة بك؟ "
هب صخر من مكانه بغضب تفجر في لحظة وهو يركل الكرسي الذي كان يجلس عليه يوسف بعنف قبل أن يصرخ بوحشية: " لا يوسف.. لن أتراجع ولن أستسلم ولن أترك انتقامي حتى الرمق الأخير، حتى النفس الأخير وحتى آخر قطرة دم في عروقي.. لن أتراجع عن ثأري وإن كانت روحي المقابل لأن أحقق غايتي وهدفي.. لن أتراجع وإن كان آخر ما سأفعله في حياتي هو قتل فؤاد ولكن أولاً سأجعله يندم على كل لحظة شعر فيها بالفرح والسعادة وأنا هنا ضائع أشعر بنفسي بلا هوية.. بلا أصل "
قطب يوسف بحيرة شديدة من آخر جملة نطقها صخر.. يعلم أن صخر يخفي عنه الكثير من الأمور حتى يحميه ولا يثير قلقه لكنه لا يفهم سبب تشبثه بهذا الثأر الذي يدعيه وما زاد حياته بخصوص الأمر هو آخر كلمات نطقها صخر
الأصل.. الهوية كلاهما في قبضتين صخر.. هو يمتلك الأصل الرفيع والهوية المعروفة لكن... لماذا يتحدث وكأنه شخص مشرد بلا نسب أو أهل؟..
كان صخر يلهث من فرط انفعاله وصراخه لكنه لم يسكت بل تابع بعصبية وهو يرفع سبابته في وجه يوسف: " حتى اللحظة لم يُصب إنسان أي مكروه بسببي أنا.. حتى اللحظة لم يتأذى إنسان عقابا على ما أفعله أنا.. حتى اللحظة لم يُضر إنسان في شيء نتيجة لمخططاتي الشريرة كما تشير.. وحتى اللحظة لم أكف أنا عن حماية الجميع من يخصني من قريب أو بعيد.. لماذا يا ترى؟ (قطب بوحشية وعينيه تعصفان بالجنون قبل أن يصرخ وهو يضرب على صدره موضع القلب بعنف) لأن هنا شقي مغلوب على أمره لا يَكُف عن التفكير في الجميع.. لا يَكُف عن قطع العهود بحماية الجميع ورعايتهم "
ازدرد ريقه الذي جف من الصراخ قبل أن يقول بصوت بدى مشروخا متصدعا من شدة حدته: " لربما أكون شريرا، مغرورا، متعجرفا إلى أقصى حد لكنني ورغم كل هذا أملك بعض الرحمة يا يوسف ولولاها لا أعرف ما كنت سأفعل بقوى الحقد والغل الكامنة بداخلي وإلى أي شخص سأوجهها؟ "
حاول يوسف الكلام فقاطعه صخر بقوة يردف: " ما كنت لأدع مخلوق كان بأن يؤذي زيد ليس حبا فيه فأنت تعلم أنني لا أحبه أبدا لسبب لا يعلمه سوا الله لكنني قطعت وعدا على نفسي بحمايته لأجلك أنت "
تنهد يوسف بإحباط متمتما: " صخر أنا آسف.. صدقني لم أقصد أن أتهمك بشيء لكن... أنت تعلمني وقت عصبيتي لا أدرك ما أقوله حينها وتتداخل عليّ الأمور فتشتتني "
أشاح صخر بوجهه عنه وهو يقول بصوت بارد فاقد للحياة: " الموضوع أنتهى قبل أن يبدأ حتى وزيد في أمان "
اقترب يوسف يقول بحرج: " صخر أنا... "
قاطعه صخر بنفس النبرة: " إذا سمحت يوسف غادر الآن فلست في مزاج يسمح لي بسماع كلمة أخرى من أي مخلوق "
أطرق يوسف رأسه بندم لما تفوه به في حق صخر لكنه لم يرد أن يضغط عليه فأطاع أمره وخرج من الغرفة تاركا الأخير وحده وحديث سبق وقاله له مختار يتردد في عقله ومن حوله بصخب.
' أخلع عنكَ ثوب البطل المغوار والفارس الهمام الذي تُصر عليه.. لا أقول هذا لأنه ليس لكَ ولكن لتمهل نفسك حتى ترتاح قليلاً وتستنشق بعضا من نسمات الهواء الصافية تماما من صخب أفكارك وضغوطات عملك ومشاعرك المختلطة.. أمهل نفسك حتى تجدد موازينها التي اختلت في خضم صراعاتك التي لا تنتهي سواء مع نفسك أو مع غيرك.. أمهل نفسك حتى ترى الدنيا بألوانها الكثيرة التي خلقها الله بها ولا تجبرها على رؤية لون واحد.. حاول أن ترى نفوس البشر من كل الاتجاهات وبكل النظرات والمفاهيم ولا تقصرها على رؤيتك وحدك لأنك هكذا تكون قد ارتكبت خطأ كبيرا في حق نفسك.. النفس البشرية مهما بلغ ايثارها لشخص أو لشيء لكنها نفس بشر في النهاية عند لحظة تجدها تُسقط الجميع وترفع نفسها.. حاول أن تخزن القليل من شجاعتك لنفسك لتحميها ممن حولك صديق كان أو غريب فلا أحد مؤتمن يا بني.. لا تهمل في حق نفسك فتهملك ولا تُحملها ما لا طاقة لها على تحمله فترهقك وفي لحظة تخذلك.. امنح نفسك راحة تحتاجها وتضني بها عليها وأترك أمر الجميع لوقت لاحق فليس الكل سيقدر عظيم الجهد والتضحية التي تبذلها لأجل رضاهم وراحتهم وليس الكل سيرى ما تفعله لأجلهم فيقابلها بنفس راضية شاكرة.. عليكَ أن تفكر قليلا بنفسك فهي أيضًا تستحق '
***

مساءً / ليلة العرس
وسط أجواء الحفل النسائي الصاخب دخلت فرح مهرولة بحماس وهي تهتف: " عمي مختار هنا "
نهضت حفصة على الفور تقول بدهشة: " لا أصدق.. هل أنتِ واثقة أنه هو بالفعل يا فرح؟ "
اومأت فرح بقوة وهي تبتسم بسعادة قائلة: " طبعا واثقة.. لقد رأيته بعيني وهو يسلم على أبي وجدي "
قطبت حياة بحيرة وهي توجه حديثها لحفصة: " إنها زيارته الأولى لنا منذ رحل عن مدينتنا قبل عشر سنوات كاملة حتى زفافك وعاصم لم يحضره "
ردت حفصة بسعادة تقول: " المهم أنه هنا.. أتمنى أن أراه "
ابتسمت حياة بلطف ترد: " بالطبع سترينه طالما جاء بنفسه فلا أظنه سيغادر قبل أن يقابلنا جميعا "
لم تمض بضعة دقائق حتى دخلت إحدى الخادمات تخبر حفصة بأن الدكتور مختار ينتظرهن في إحدى غرف الضيوف
خرجت الفتيات على الفور وهن يشعرن بالحماس والسعادة للقاء الضيف العزيز عليهن والذي طال غيابه عنهن لعشر سنوات كاملة
***

كان يجلس على إحدى الكراسي المنفردة واضعا ساقا فوق أخرى بأناقة وحينما رآهن يدخلن نهض بهدوء ليستقبلهن بابتسامته الجميلة الحنونة التي تشبه ابتسامة أخاه الراحل الشيخ عبد الله
اقتربت منه حياة تصافحه بحرارة وهي تقول: " أنرت الدار دكتور مختار لازلت على نفس اناقتك "
ابتسم مختار يناكفها قائلا: " وأنتِ لازلتِ جميلة.. كبرتِ يا حياة "
ابتسمت حياة وهي تومئ برأسها قائلة: " جميعنا كبرنا عماه.. قطار العمر لا ينتظر أحد "
اقتربت حفصة مبتسمة وهي تصافحه بالمثل متمتمة برقة: " وماذا عني عماه؟ "
اتسعت ابتسامة مختار وهو يربت على كتفها بحنان خاص مجيبا: " وأنتِ لازلتِ سيدة قلبي يا حفصة.. الحجاب زادك بهاءً بنيتي "
أطرقت برأسها خجلا وهي ترد: " شكرا عماه.. لقد اشتقنا إليكَ كثيرًا "
رد بتنهيد: " وأنا أيضا اشتقت إليكم وللمدينة ورائحتها وأناسها الطيبين "
ابتسمت فرح وهي تتدخل في الحديث قائلة بمرحها المعتاد: " صلوا على الحبيب المصطفى.. ما بكم يا جماعة جعلتم من اللحظة السعيدة مثال للكآبة؟ إن استمريتم في الحديث على هذا المنوال فسوف تبكونني لا محالة "
رددوا جميعا الصلاة على النبي ليهتف بعدها مختار وهو يبتسم بمشاكسة حلوة تجعله أصغر سنا: " لا أصدق بأن فرح القزمة باتت شابة حلوة تملأ العين "
عبست فرح بطفولية وهي تتمتم: " الجميع ازداد طولا ولست وحدي القصيرة حتى ملك كانت قزمة في طفولتها "
ضحك مختار بمرح وعينيه عفويا تبحثين عن ملك التي كانت تقف خلف حفصة منكسة الرأس وكأنها لا تريد أن تلقاه
اقترب هو منها مربتا على شعرها بحنان قائلا: " ألا تريد ملاك العائلة أن تسلم عليّ؟ "
رفعت وجهها إليه وما هي إلا لحظة حتى كانت ترتمي بين أحضانه مجهشة في البكاء بشدة فأخذ هو يربت على كتفها بحنان هامسا: " لا تبكي بنيتي.. دموعكِ غالية عليّ "
همهمت من بين بكائها: " أنا لست غالية لدي أحد.. حتى أنتَ رحلت وتركتنا في نفس اليوم الذي رحل فيه أبي.. كلاكما تركتماني وحدي "
قطب مختار بحزن للذكرى وهو يرد: " والله ما فعلتها عن أمري ولا رغبة مني في الرحيل عنكم ولكنها إرادة القدر بنيتي "
هتفت بحرقة وهي تبتعد عن أحضانه: " ولم تأتِ لزيارتنا ولا لمرة واحدة.. لم تطلب رؤيتي أبداً وأنتَ تعلم أنني... أنني بِت وحدي بلا أب أو أم "
قبل أن يرد كانت هي تكمل: " دومًا اعتبرتك في منزلة أبي.. بل رأيت فيكَ أبي رحمه الله بالفعل لكنك... لكنك رحلت وخذلتني "
اوجعته الكلمة وكأنها لطمته على وجهه بقسوة فتنهد بكآبة وهو يتمتم: " قلت لكِ ما فعلتها عن أمري.. لم أتعمد أن أخذلك يا ملك ما كنت لأفعلها بكِ لو خيرت في هذا "
أشاحت ملك بوجهها جانبا مكتفة الساعدين وهو تكتم شهقاتها المريرة وشعورها باليتم يجسم على صدرها بوحشية لا طاقة لها على مواجهتها أو صدها وكان ذلك الشعور البغيض كان ينتظر قدوم مختار ليعود مظهرا نفسه من جديد
أشار مختار خفية لحفصة فخرجت هي وحياة وفرح وتركاه وحده مع ملك التي ظلت مشيحة بوجهها عنه
اقترب منها بهدوء يمسح عبراتها المنهمرة وهو يقول بلطف: " لو كان الأمر بيدي لأخذتكِ معي وما كنت تركتكِ لحظة هنا لكن تعلمين أن هذا مستحيل "
قطبت بحرقة ترد: " جدي ما كان ليقبل بهذا حتى إنه يسعى لإبقاء ابنة عمتي رقية هنا.. يريدها أن تنتقل للعيش معنا "
تنهد مختار بشجن وهو يقول: " هو يريد أن يعوض حرمانه من رقية رحمها الله بأن تحيا ابنتها تحت كنفه وأمام عينيه "
لم تعقب بشيء فتابع هو بابتسامة ماكرة: " لا أستبعد أن يزوجها لأحد أحفاده كي يجبرها على البقاء هنا "
رفعت ملك رأسها بحدة تنظر لمختار بشراسة وهي تتمتم: " ليفعل ذلك ولكن بعيداً عن ياسين وإلا والله كنت قتلتها "
قهقه مختار بانشراح وهو يضربها على جانب رأسها بمشاكسة قائلا: " هذه هي ملاك التي اعرفها "
زمت شفتيها تغمغم بتملك: " ما كنت لأسمح لأحد كائن من كان بأن يسلبني ما أملك "
رفع حاجبا بمكر وهو يسألها: " وهل ياسين ضمن ما تملكين؟ "
نظرت له مقطبة فتابع بتمهل: " ما أعرفه جيداً عن رجال الجبالية هو أنه من الصعب امتلاكهم.. لكن من السهل عليهم أن يمتلكوا وحين يفعلون إما تسعدين معهم ويرفعونك إلى أعالي الجنان أو تشقين معهم ويكون مكانك هو أسفل الأرض حيث لا حياة "
ران عليها الشرود والكآبة فسألها مختار: " أخبريني ملك.. أتظنين جبلكِ رافعكِ أم خاسف بكِ الأرض؟ "
نكست رأسها بقهر وهي تتذكر ما فعلته بالأمس وخلافها مع ياسين الذي انتهى بتهديد صريح منه بألا تقترب من محيط تواجده
رفع مختار رأسها بلطف وهو يقول: " لم يفت أوان العودة يا ملك.. جميعنا نخطئ والذكي وحده من يرجع عن الخطأ ولا يتمادى فيه فيخسر نفسه ويضيع من بين يديه كل ما يملك في لحظة غباء منه "
زفرت بإحباط تصارحه: " لست متأكدة من تمسك ياسين بي بعد شجارنا الأخير بالأمس.. لقد... لقد أخطأت واعترف بذلك لكن... لكني كنت يائسة عماه ولا أدري أي طريق يجب أن أسلكه؟ "
ابتسم مختار وهو يقول: " ياسين يحبك ملك ولو لم يكن صادقا في عاطفته اتجاهكِ لما تحمل منكِ رعونتكِ التي لا تطاق "
عبست بحذر تسأله: " وما أدراك أنتَ برعونتي عماه؟ هل هو من أخبرك؟ "
هز رأسه سلبا يقول بتنهيد: " لا.. هو لم يكلمني في أي شيء يخصكِ لكنني أعرف"
زاد عبوسها وهي تقول: " كيف؟ "
شردت نظراته للحظة وهو يفكر في شيء ما.. هو بالطبع لن يخبرها أنه يتقصى أخبارهم بصعوبة من صخر الذي يذرع في دارهم أعين له ينقلون له الاخبار أولا بأول لسبب يجهله هو ويرفض صخر أن يبوح به
تنحنح قليلا وهو يجيبها بمراوغة: " يوما ما ستعلمين؟ "
قطبت ملك بحيرة وهي تتمتم: " أنا لا أفهم "
فابتسم مختار وهو يربت على وجنتها قائلاً: " لا تشغلي عقلكِ الجميل بشيء وحينما تأتي اللحظة المناسبة ستدركين وقتها أنكِ ما كنتِ وحدكِ أبداً وأن هناك الكثيرين يعنيهم أمركِ ويهتمون بكِ دون أن تدري "
لم تكد تفتح فمها تستفسر منه عما قاله حتى تفاجأ كل منهما بدخول زهراء وهي ترفع فستانها وتخطو نحو مختار عابسة بطريقة طفولية مضحكة ومن خلفها حفصة وحياة وفرح يطالعونها بعبوس واضح وهي تصيح: " لن أسامحك أبداً دكتور مختار.. هل يصح أن تطلب رؤية الجميع إلا أنا؟ "
اتسعت عينيه ذهولا وهو يتطلع في العروس التي تركت عرسها لأجله وسرعان ما أنفجر ضاحكا وهو يقول: " لازلتِ مجنونة يا زهرة.. لكَ الله يا حمزة "
تركت الفستان بغيظ وهي تكتف ساعديها متصنعة خصامه بينما يقترب هو منها كاتما بقية ضحكاته وهو يقول بمودة: " لم أنهي حديثي بعد.. نعم مجنونة لكنكِ عروس جميلة تأسر القلب والروح (مال يقبل جبينها قبل أن يكمل) مبارك عليكِ بنيتي "
ابتسمت برضا أخيرا وهي ترد: " بارك الله فيكَ عماه.. سعيدة بعودتك إلى مدينتنا من جديد "
تنحنح قليلا قبل أن يتكلم بهدوء: " في الحقيقة لقد أتيت لحضور عرسكِ وحمزة وسأعود إلى العاصمة بعد قليل "
صاحت ملك بيأس: " الليلة "
اومأ متنهدا: " نعم الليلة.. لابد أن أجري عملية لمريض لدي بعد بضعة ساعات ولولا ذلك لكنت بقيت الليلة بطولها معكم "
قالت حياة بلطف: " لماذا تتمسك بالعيش بعيدا عماه وأنتَ وحيداً؟ "
ابتسم مختار بفرح غامر وهو يرد: " لم أعد كذلك يا حياة "
توسعت عيني حياة بدهشة وهي تقول: " هل عُدت لزوجتك؟ "
اومأ إيجابا وهو يقول: " نعم.. منذ تسع سنوات "
ابتسمت حفصة برقة وهي تقول: " أنا سعيدة لأجلك عماه "
بينما هتفت فرح بحماس: " كم طفل لديك؟ "
ابتسم برضا وهو يرد: " لدي نبض "
صاحت زهراء بإعجاب: " واو.. ما أحلاه! إسم جميل عماه "
ابتسم مختار دون تعقيب فقالت حياة بابتسامة سعيدة: " كم عمرها؟ "
رد مختار بفخر: " ثمانية عشر "
تعالت همهمات الاستنكار منهن بينما سمع السؤال بنبرة استهجان بصوت غريب لا يعرفه من خلف حياة: " كيف هذا وأنتَ متزوج منذ تسع سنوات فحسب؟ "
قطب مختار يسأل بعدما ترآءت له شمس بوقفتها المتحفزة: " من تكون؟ "
اجابته حياة: " إنها شمس ابنة عمتنا رقية "
ابتسم لها بلطف وهو يحييها: " مرحبا بكِ بنيتي.. سعيد بلقائكِ "
عبست شمس في وجهه وهي تقول: " أجبني لو سمحت.. هل كانت لديك علاقة خارج إطار الشرع بزوجتك تلك قبل أن تعلنا زواجكما؟ "
شهقت الفتيات بصدمة من جرأة شمس التي وصلت إلى الوقاحة في نظرهن بينما رمش مختار بذهول يقول: " علاقة خارج إطار الشرع! أ هذا السؤال موجها لي أنا؟ "
رفعت حاجبا ببرود تقول: " بالطبع.. ومن سواك؟ "
صرخت ملك بحمائية وهي تقف أمام مختار في مواجهة شمس: " ألزمي حدودكِ وأنتِ تتحدثين مع عمي ثم ما دخلكِ أنتِ؟ "
ربت مختار على كتف ملك بحنان وهو ينظر إلى شمس قائلا: " لم يزعجني سؤالها يا ملك.. اهدئي بنيتي "
رمقتها ملك بشراسة وهي ترد بعناد: " ورغم ذلك ليس عليها حشر أنفها فيما لا يعنيها "
أرادت حياة إنهاء الأمر حتى لا يتطور إلى شجار فسألت بترقب: " جميعنا حائرين بالفعل عماه فهلا شرحت لنا كيف يكون عمر ابنتك أكثر من عدد سنوات زواجك؟ "
تنحنح مختار بحرج وهو يقول: " تعلمن أنني تزوجت قبل تسعة عشر سنة لكنني وزوجتي انفصلنا بعد بضعة أشهر قليلة "
زفر بضيق للذكرى الأكثر كرها بالنسبة له فتابعت حياة عنه: " نعم الجميع يعلم بالمشاحنات التي كانت بينكما خلال أشهر الزواج الأولى والتي انتهت بينكما بالطلاق "
تساءلت شمس بتحفز: " أي مشاحنات؟ "
رد مختار بهدوء: " أردت أن ننتقل للعيش هنا حيث كان أخي الأكبر قبل أن يتوفاه الله نظراً لارتباطي الشديد به لكنها رفضت وكانت هي فتاة صغيرة السن لم تنهي دراستها الجامعية بعد فأرادت البقاء في العاصمة حيث عائلتها "
قالت شمس بامتعاض: " هي محقة فأبسط حقوقها أن تكمل تعليمها وهنا لا توجد جامعات "
رد مختار ببساطة: " وأنا لم امنعها من متابعة دراستها كل ما أردته أن أكون إلى جوار أخي وهذا ما رفضته هي أو لأكون أكثر صراحة ما رفضته أختها مدعية أن العاصمة أكثر رقيا وهي لن تقبل بأن تسكن أختها في بلدة جاهلة بل وأصرت عليها حتى تطلب الطلاق "
قطبت شمس تسأله: " وهل نفذت كلام أختها بدون تفكير؟ ألم تكن تحبك لتتنازل قليلاً لأجلك؟ "
أشاح مختار بوجهه شاردا وهو يرد: " نعم كانت تحبني لكن ذلك الحب لم يستطع الصمود أمام جبروت أختها وتسلطها فرضخت لها وطلبت الطلاق "
رفعت حاجبيها تسأله بتعجب: " وببساطة طلقتها؟ "
تنهد مختار قبل أن يجيب: " نعم فعلت.. فأنا رغم ما تجدينني عليه من البساطة لكنني لست من يتنازل عن كبريائه لأي سبب كان "
ران عليهم الصمت للحظات قطعته حفصة وهي تقول بحيرة: " إذن من أين جاءت نبض؟ "
ضحك مختار متحرجا وهو يقول: " مني بالطبع.. لقد كانت مريم حاملا حينما طلقتها لكنها كما اخبرتكن كانت صغيرة السن جاهلة بتلك الأمور فلم تكتشف أنها حاملا إلا بعد طلاقنا بفترة "
هتفت ملك بغيظ: " وبالطبع أختها الشمطاء منعتها من أخبارك بكونها حامل؟ يا لها من حقيرة حقودة "
كتم مختار ضحكته وهو يضمها إلى صدره بمحبة خاصة قائلا بمناكفة: " لقد قررت منذ اللحظة أن أعينكِ الحارس الخاص بي يا فتاة "
ابتسمت ملك برقة وهي ترد بوداعة: " وأنا قبلت العمل لديك سيدي "
سألته حفصة بإهتمام: " ولماذا انتظرت لعام كامل حتى تعيدها إليك عماه؟ "
تنهد مختار وهو يرد: " حينما انتقلت إلى العاصمة كانت هي في أمريكا مع أختها وبمجرد أن عادت استغليت الفرصة وأعدتها إليّ وها نحن الآن أسعد أسرة في الوجود "
رددت حياة بذهول: " انتقلت إلى العاصمة! كيف؟ لقد أخبرنا جدي بأنك سافرت إلى أمريكا "
تنحنح متوترا من سؤالها وهو يرد بمراوغة: " بل سافرت للعاصمة لكنني على ما يبدو لم أخبره إلى أين سأسافر فظن هو أنني ذهبت إلى أمريكا حتى أستعيد مريم "
زمت زهراء شفتيها بطفولية تسأله: " إذن لما لم تحضرهما معك؟ كنت أتمنى لو قابلتهما قبل سفري "
ابتسم مختار بلطف يجيبها: " حينما تعودين بالسلامة أعدك بأنهما ستكونان في استقبالكِ إن شاء الله يا عروس "
***

بعد قليل
حينما حان وقت مغادرته كانت ملك تمنع دموعها من الانهمار بصعوبة بالغة بينما كان هو منشغل في الحديث مع الشباب والتعرف على أنس
تفاجأت باقتراب ياسين منها يقول بإقتضاب: " لا تقفي هنا.. أما ترين نظرات الرجال المصوبة عليكِ؟ "
لم تكن في مزاج يسمح لها بمجادلته فهمهمت بطاعة: " حاضر سأدخل "
قطب هو بحيرة من سرعة تلبيتها لأمره فسألها بقلق: " ملك.. هل أنتِ بخير؟ "
أطرقت برأسها تشعر بالكآبة وهي ترد: " إن كنتَ أنتَ بخير فأنا كذلك "
ما إن خطت بضعة خطوات حتى سمعت صوت مختار يناديها بحنان: " ملاك "
إلتفتت له على الفور لتراه يتقدم نحوها بإبتسامة واسعة قائلًا: " لا أستطيع أن أغادر قبل أن يكون وجهكِ آخر ما أراه هنا "
انفجرت حينها باكية تغطي وجهها بكفيها فربت على كتفها بحنان وهو يقول: " لا تبكي ملك.. سأعود بنيتي.. لن أغيب عنكِ طويلًا مجدداً بإذن الله "
نظرت له برجاء قائلة: " عِدني عماه "
مسح عبراتها المنهمرة برقة، مبتسما بحنان وهو يقول: " أعدكِ بذلك ملاكي الجميل "
تنهدت ملك براحة وهي تقول بأمل: " إذن ستأتي لزيارتنا بعد عودة حمزة وزهراء من رحلتهما أليس كذلك؟ "
اومأ بخفة وهو يرد: " إن شاء الله "
طالعته بوداعة وهي تزدرد ريقها قبل أن تقول بابتسامة بالكاد تظهر على ثغرها وهي تكتم المزيد من الدموع التي لازالت تستعمر مقلتيها: " وستحضر معك نبض والعمة مريم لكي... لكي أتعرف عليهما؟ "
رد بإبتسامة واسعة: " بالطبع فسيكون من حسن حظهما أن تقابلان ملاكي الجميل "
كاد يتحرك فاستوقفته بلهفة تقول: " لا تنسني عماه.. سأنتظرك مهما غبت فعُد لأجلي أرجوك "
قطب بتوجع على حالها وهو يطالعها في هذه الحالة تبدو كطفلة صغيرة تهتف بجزع من تخشى فقد أباها
قبل جبينها وهو يقول بحنان عذب: " نعم هذا ما عليكِ فعله.. انتظريني بنيتي لأني سأعود إن شاء الله قريباً لأجلكِ "
اومأت بفرح وكأنها حصلت على جائزة ثمينة بينما تهتف: " سأفعل عماه.. سأنتظرك "
منحها ابتسامته الحنونة المطمئِنة وهو يقول قبل أن يخطو بعيدا: " استودعكِ عند من لا تضيع ودائعه بنيتي "
ظلت تقف مكانها تشيعه بنظراتها الحزينة من جديد والدموع تأبى أن تجف من مقلتيها ولسانها يتمتم بخفوت: " في أمان الله عماه.. في أمان الله "
***

اليوم التالي / الخامسة صباحاً
خرج من غرفة العمليات منهك الروح كما الجسد، لأول مرة يشعر بتلك المرارة والحرقة لأنه فشل في إنقاذ إحدى الحالات التي كان مسؤولا عنها
حاول البعض التخفيف عنه وتذكيره بأنها حينما وصلت إلى المشفى كانت حالة قلبها متدهورة للغاية ميؤوس منها وأن اللوم يقع على أهلها الذين تجاهلوا مرضها حتى وصل بها الحال لما آلت له لكن ذلك لم يخفف من شعوره المرير بالفشل
جلس على طرف الفراش في غرفة الاستراحة متهاويا بيأس احتل كيانه وهو يشرد متذكرا الحالة التي ترك ملك عليها في المدينة قبل بضعة ساعات
كلماتها أثرت فيه جلّ تأثير وتمسكها به كطفلة تتشبث بوجود أباها عن طريقه آلمه
ذكرته بحالته يوم أن تُوفِي أخاه الذي لم يره يوما أخا بل والده وراعيه ومثله الأعلى وقدوة له في كل شيء
ذكرته بنفسه وهو يتشبث في أخيه رافضا أن يغطوا وجهه ويخفونه عنه رافضا أن يسحبوه بعيدا عنه.. عن وجوده
فرت دمعة من عينه وهو يتذكر أيضا تلك الفتاة التي فشل في إنقاذها والذي استحال وجهها فجأة وهو في غرفة العمليات بعدما فارقت الحياة إلى وجه ابنته نبض
كانت الفتاة شاحبة الوجه ساكنة تماما لكن عينيها كانتا تطالعانه بكآبة تخبره دون مواراة أنه خذلها
وجد نفسه يلتقط هاتفه على عجلة يطلب رقم زوجته والتي ردت دون تأخير بصوتها الرقيق الحنون تقول: " السلام عليكم "
لم يستطع حينها سوا نطق اسمها ليأتيه صوتها قلق: " ما بكَ مختار؟ هل أنتَ بخير؟ "
حاول مرات أن يتكلم ويفشل حتى تمكن أخيرا من الحديث يقول بصوت متحشرج: " ماذا تفعلين؟ "
ردت بحنان: " لازلت على سجادة الصلاة منذ صليت الفجر وأنا أدعو لك.. ألم تخبرني أن لديك عملية ستجريها قبل بضعة ساعات؟ بالتأكيد أنهيتها و... "
قطع سيل كلماتها المتفائلة يقول بكآبة: " لقد فقدناها يا مريم.. لم أستطع إنقاذها وهي لم تساعد نفسها حتى تنجو كانت... أنا لا أحاول وضع اللوم والخطأ على كاهلها والله.. لكنها بالفعل كانت مستسلمة للموت وترفض الحياة.. ماذا كان بوسعي أن أفعل أخبريني؟ "
ردت مريم بحزن لحاله: " أهدأ حبيبي وأذكر الله إنها مشيئته وتدبيره.. أنت فعلت ما بوسعك لتنقذها لكنها لم تكن تملك المزيد من العمر لتقضيه "
نكس رأسه بقهر يتمتم: " إنها صغيرة.. في عمر نبض تقريباً "
ردت مريم بيقين راسخ: " وإن كانت أكبر أو أصغر وحان أجلها فما تملك أنت أن تمنحها من عمرك أو تستبقيها لتحيا هي المزيد من الوقت.. تعلم حبيبي أن لكل أجل موعد لا تستطيع أن تستقدمه ساعة أو تستأخره لحظة واحدة "
رد بإحباط تملك منه: " نعم.. لكل أجل موعد لا يُستقدم ولا يُستأخر.. لكل أجل كتاب "
شعرت مريم بالقلق من صوته الغريب فقالت: " أ أنتَ وحدك؟ ألم يكن صخر معك؟ "
رد بتنهيد: " نعم وحدي فصخر مشغول الآن بإجراء عملية أخرى لطفلة في العاشرة "
قطبت مريم وهي تتمتم بقلق: " يا رب سلم "
سألها بعد لحظة صمت: " أين نبض؟ "
فردت مريم بحنان تجيبه: " تستذكر بعض دروسها فاليوم آخر امتحان لها كما تعلم "
ران بينهما الصمت من جديد حتى قطعه مختار بصوت متخاذل خافت يقول: " أخبرتني الممرضة أن يوسف غادر منذ ساعتين تقريبا لذا سأنتظر صخر حتى ينتهي من عمله ليقلني معه فلا أشعر بأنني قادر على أن أقود السيارة بنفسي "
ردت هي بحنان تناكفه: " مضى وقت طويل لم نخرج لنزهة سويا دكتور فلما لا نستغل انشغال نبض اليوم ونقتنص بعض الوقت لنفسنا؟ "
تبسم بإرهاق يرد: " نزهة في تلك الساعة الباكرة! هل أنتِ مجنونة حبيبتي؟ "
ضحكت برقة تجيبه: " نعم مجنونة بكِ دكتور.. ولعلمك سنخرج فقد قررت وأنتهى الأمر "
تنهد بعمق قبل أن يجيبها باستسلام: " حسناً سأنتظركِ حبيبتي "
***

بعد مُضي بضعة ساعات وليتها ما مضت!
ليتنا نستطيع إيقاف عجلة الزمن لنستبقي ما نريد للوقت الذي نريد
ليتنا نملك التحكم في حركة xxxxب الساعة التي لا تتمهل أو تنتظر أحد
وليتنا نعلم أين يكمن الشر فنتجنبه؟ وأين يسكن الخير فنسعى إليه؟
وليتنا.. وليتنا، ويا ليت الليت يكن!
كانت دموعها تسيل مدراراً وهي ترى الجسدين المسجيين أمامها وكل واحد منهما مغطى بغطاء أبيض لا يظهر منه إنشا واحداً
كانت تقف أمام السريرين المتجاورين في حالة ذهول تامة تسيطر على كل خلاياها
سكن كل ما فيها وتمردت عيناها واقسمتا على أن تذرفان الدموع رثاء وحزنا على فراقهما
ساكنة هي في مكانها لا تشعر بشيء وكأن الكون توقف.. عند خبر موتيهما
توقف.. مع توقف انفاسهما ونبضيهما
توقف.. مع رحيليهما
توقف.. حينما أعلن قرار تيتمها جملة واحدة دون تفصيل
مرت لحظات حسبتها دهراً كاملاً وهي تنتظر.. تترقب فواقهما وكأنهما في غيبوبة مثلاً.. تنتظر بصبر أن يستيقظا حتى يعودا معها إلى البيت
مع تزاحم العبرات في عينيها كانت ترفرف بأهدابها الكثيفة بقوة فتنهمر شلالات الدموع على وجنتيها وهي تفكر؛ لطالما.. كانا هما نور حياتها الذي تهتدي به خطاها وتستقيم
لطالما.. كانا لها الحياة بكل ما فيها وما تحمله
تلفتت برأسها قليلاً تنظر لما حولها بضياع ورفعت كفيها تمسد على ذراعيها وقد بدأت البرودة الموحشة تستعمر خلاياها وتتمكن من جسدها
لازالت تتلفت حولها، ولازالت تنتظر والضياع يهاجمها بأبشع الصور
عادت تنظر إلى السريرين بأمل مستحيل..
ودموع غزيرة..
وقلب مفطور..
وروح هائمة منكسرة..
وبعد جهد ومحاولات اشفقت عليها أحبالها الصوتية وتعاطفت معها ووافقت أن تساعدها في إخراج القليل مما يعتمل بداخلها وحينها خرج صوتها مختنقا ضائعا مكسورا كصاحبته: " هل ستتركانني حقا أعود وحدي إلى البيت؟ "
دارت بعينيها حولها قليلاً وضياعها يزداد وألمها يتعمق إلى الصميم ثم عادت تتمتم: " هل أصبحت الآن وحدي؟ أصبحت ي... يتيمة! "
وكأن الكلمة غرست خنجرا مسموما في قلبها فجحظت عينيها بفزع تهتف: " أصبحت بلا أب.. بلا أم.. وحدي تمامًا "
شهقت بقوة وهي تتمتم بأنين يمزق القلب: " سأضيع هكذا ويتشتت نبضي س... (شهقت من جديد قبل أن تتابع بحرقة من بين شهقاتها العنيفة) سأفقد الطريق وحينما تتعثر خطاي لن... لن أجدكما من حولي تعدلان سيري "
رفعت قبضتها المضمومة ووضعتها على فمها تمنع شهقة أخرى من الخروج وهي تضيف: " لماذا عاهدتماني بما لا تملكان؟ ألم تعداني بالبقاء معي؟ اخبراني بالله عليكما لماذا؟ "
ومن خلفها في تلك اللحظة دخل هو إلى الغرفة مندفعاً بعد شجار حاد مع الطبيب والممرضات لسماحهم لها بالدخول إلى تلك الغرفة حيث يقبع والديها وقد أخرجها منها منذ دقائق وهي منهارة تماماً
تسمر مكانه فجأة وهو يسمعها تهمس بأنين أدمى قلبه: " وماذا عن المسكين يوسف؟ كيف تتركان الأمانة قبل أن تعيداها إلى أصحابها؟ وماذا عن صخر الذي كان يكف عن تهوره فقط لأجل رضاكما؟ "
تقدم منها بخطى بطيئة بينما قلبه وروحه ينزفان مع كل خطوة منه ناحيتها وهي تضيف: " سيضيع صخر هو الآخر ولن يجد من يصحح خطاه ويقوم نفسه الجامحة.. لازلنا بحاجتكما... لازلنا نريدكما.. مهمتكما لم تنتهِ بعد "
وقف خلفها تماماً لكنها لم تشعر به وهي تتابع بصوت محترق منكسر: " يا أبي! يا أمي أنا نبض.. صغيرتكما.. هل تسمعانني؟ لماذا لا تجيبانني؟ لماذا؟ "
همس بجوار أذنها بصوت تخنقه غصة البكاء: " لن تجدي إجابة لديهما فقد فقدا حق الكلام "
استدارت له ببطء شديد وهي على حالها تمسد ذراعيها ودموعها تنهمر بصمت ورفعت رأسها حتى تتمكن من النظر إليه بقامته المديدة
كانت العبرات تتراقص في عينيه لكنه يكبح لجامها بصلابة الجبال على عكسها وهي التي فقدت كل صلابتها وذهبت أدراج الرياح
دخل الطبيب في تلك اللحظة من خلفه متنحنحا يقول بصوت متأثر حزين: " خلال نصف ساعة ستكون كافة التصريحات قد انتهت وحينها سيكون بإمكانك تسلم الجثتين لدفنهما دكتور صخر "
اطبقت أجفانها بقوة وألم على صدى كلمة الطبيب 'الجثتين' وهي تشعر بنزيف داخلي شديد من وقع تلك الكلمة القاسية أما هو فرد بإيجاز على الطبيب دون أن يلتفت له أو يحيد بعينيه عن عينيها المغلقتين الدامعتين: " حسناً "
بعد لحظة كانت تفتح عينيها تنظر له من جديد فأشار لها بيده حتى تتقدمه للخارج دون كلمة فخطت خطوة ثم تسمرت مكانها ثانية وارادت أن تلتفت لكنه منعها حينما وقف خلفها وقال بحزم: " للخارج يا نبض "
رضخت قدميها لأمره دون روحها.. وخرجت
في الخارج أمام الغرفة كانت تقف على نفس حالتها من الضياع والتشتت، تنظر إلى الأرضية البيضاء بسكون أقرب إلى الجمود حتى سمعت صوته قريباً منها يقول: " ألم اترككِ هنا قبل ذهابي مع الطبيب واتفقنا ألا تدخلي للغرفة ثانية؟ "
رفعت رأسها تنظر إليه بعذاب وألم أدمياه وهي ترد بصوت خافت واهي: " أردت أن اودعهما للمرة الأخيرة.. اقتربت من فراشيهما وحاولت أن... أن أرفع الغطاء عن وجهيهما لكني جُبِنت ولم أستطع فعلها "
رمش لوهلة قبل أن يزدرد ريقه بصعوبة وهو يقول بصوت عميق يائس: " لستِ وحدكِ من جُبِن يا نبض.. أنا أيضاً لم أستطع فعلها "
سالت دمعة من عينه فرفعت نبض أناملها تمسحها فصدم صخر كونها المرة الأولى التي تلمسه فيها لكن صوتها الرقيق رغم ما يحمله من ألم وحرقة جعله ينتبه لها وهي تقول: " لا تبكي يا صخر.. احتاجك قوي كما أنت.. لم يعد لي أنا ويوسف سواك بعد ربي.. إن ضعفتَ فعلى من سأتكئ أنا وأرمي أحمالي وهمومي؟ وإلى من سيشكو يوسف أوجاعه؟ "
اشتد حزنه وشفقته عليها وهو يرى تلك الصبية التي دومًا كانا والديها يشبهانها بزهرة مُتفتحة قد ذبلت أوراقها وتساقطت قبل الأوان ورغم ذلك لم يرد أن يمنحها وعداً لا يملك تحقيقه والوفاء به، لا يريد أن يكذب عليها أو يجعلها تحيا في وهم تظنه منسوج من خيوط حريرية متينة لتفاجئ فيما بعد أنه كان هين وهن كخيوط العنكبوت لذا تلبس قناع الجمود الذي يجيده ورد: " لكما الله "
اومأت له بالإيجاب ودموعها تتقاطر بغزارة كزخات المطر وهي تقول: " نعم لنا الله فمن لنا سواه؟ لا أحد.. لا أحد غيره قادر على تهوين الألم القاتل الذي أشعر به "
تهاوت آخر قطرات كان يملكها من جموده وشجاعته أمام قوة كلماتها وكم الألم فيها، أراد أن يضمها إلى صدره ويحتويها لعله يخفف عنها ألمها أو ينتزعه ويحمله هو بداخله بدلاً منها
أراد أن يعطيها عهداً بالبقاء.. بالأمان لكنه تراجع فوراً وذكر نفسه بحقيقه أنه لا يملك من شعور الأمان ولو مقدار ذرة فكيف سيعدها بما لا يملك؟
تحرك بتخاذل ووقف مستندا بظهره على الحائط إلى جوارها وأطرق برأسه للأرض وشرد في تفكير عميق وألم الجرح والفقد بداخله يتعمق حتى الصميم وعلى الناحية الأخرى المقابلة له تماما كان يوسف يجلس على أحد المقاعد واضعا رأسه بين كفيه ولا يتبين من ينظر إليه أ يبكي أم فقط يخفي وجهه الناضحة ملامحه بالألم والحزن؟
***

بعد أيام / في شقة مختار
منذ حضرت وهي تشعر به يريد أن يحدثها في أمر ما لكن وجود نبض معهما يمنعه مما جعلها بعد قليل تقول: " اذهبي لتستريحي قليلاً فأنتِ لم تنامي منذ أيام حبيبتي "
تنهدت نبض بصمت ونهضت دون كلمة من مكانها واتجهت ناحية الباب وحينما وصلت إليه قالت بصوت خفيض متعب: " سأكون في غرفتي مستيقظة يا عمتي متى ما احتجتني ناديني "
ثم خرجت وحينها اعتدلت فاطمة في جلستها ونظرت إليه باهتمام جلل وهي تقول: " من الواضح أنها فهمت أن هناك ما تريد أن تخبرني به دون أن تسمعه هي.. خير يا بني... تكلم "
تنهد يوسف بعمق وهو يقول: " لا أريد أن أزيد همها لذلك لم أرد أن أتحدث أمامها فهي ليست في حالة تسمح لها بالنقاش الآن في أي أمر "
لم تشعر فاطمة بالراحة فقالت بحزم أمومي: " تكلم يا ولد.. ما الأمر؟ أي مصيبة جديدة حدثت؟ "
عبس بطفولية وهو يرد بترقب: " نبض تزوجت "
قطبت فاطمة بعدم فهم وهي تتمتم: " ماذا؟ من؟ "
رد بنفس العبوس وإن بدى في عينيه لمحة من الإرتباك: " صخر تزوج نبض "
شهقت فاطمة بجزع وهي تصيح: " يا مصيبتي.. كيف حدث هذا؟ والآن فقط بعد أن وقعت الكارثة تخبرني "
تزايد ارتباكه بشكل عجيب لم يسبق له أن مر به من قبل وهو يقول بتذمر: " اخفضي صوتكِ يا عمتي.. أي كارثة بالله عليكِ لقد تزوجها على سنة الله ورسوله فلما تصرخين كما لو أنني أخبرتكِ بأنه غرر بها؟ "
ضربته على كتفه بغيظ وهي تصرخ في وجهه بضيق: " أخرس يا ولد ولا تتواقح معي "
زفر بحنق والتزم الصمت لتبادر فاطمة بعد لحظات بصوت خافت مضطرب: " كيف تزوجها؟ ومتى؟ "
رمقها بنظرة مغتاظة دون أن يرد فلكزته في كتفه وهي تقول من بين أسنانها: " رد عليّ يا ولد ولا تمثل دور الفتى الكئيب المتذمر فليس هذا وقته "
رن جرس الباب فجأة مقاطعا حديثهما وبعد لحظة كان صخر يدخل بطوله الفارغ وملامحه الجامدة وبنظرة واحدة أدرك أن يوسف أخبر العمة فاطمة عن زواجه من نبض فقال هو دون مقدمات بصوت جاد: " تعلمين أنني من المستحيل أن أؤذيها أو أسمح لمخلوق بمسها بمكروه طالما في صدري نفس يتردد أليس كذلك عمتي؟ "
أشاحت بوجهها عنه وهي ترد بصوت ساخر رغم نبرة الحزن فيه: " طالما في صدرك نفس يتردد.. ما أكرمك والله وماذا ستفعل هي بعد أن... "
سكتت وقد اوجعتها الكلمة التي أرادت أن تنطق بها فلم يساعدها لسانها في التلفظ بها لكنه فهم مقصدها فأكمل جملتها ببساطة مقيتة: " بعد أن أموت "
نظرت له والعبرات تلتمع في مقلتيها بينما هو يتابع بنفس البساطة: " هذا ما لا أعلمه يا عمتي.. لكنني على يقين بأنها لن تضيع بعدي طالما أنتِ ويوسف بجانبها "
ردت فاطمة بكآبة: " وماذا إن مِتُ أنا قبلك أو حتى لحقت بكَ؟ ماذا ستفعل هي حينها؟ "
رفع حاجبيه يتصنع الذهول وهو يقول: " لا أصدق بأن هذا الكلام يصدر منكِ أنتِ يا عمتي.. لها الله من قبلي وقبلكِ ولا حاجة لها لمخلوق وهو معها "
صمتت فاطمة دون أن تعقب فتابع حديثه: " نبض فتاة ذكية وقوية تستطيع تدبير أمرها دون سؤال أحد ووجودنا معها ليس أصلاً في الصورة وإنما مجرد إضافة لها.. نحن كإطار لحياتها ليس أكثر وإن اختفى هذا الإطار يومًا لن يضيرها شيء ولن تتوقف الحياة عند ذلك الحد.. هكذا يحيا الجميع يا عمتي.. لا يموت إنسان لموت آخر ولا تتوقف دورة الحياة لأجل أحد "
هتفت فاطمة بإنفعال من بروده: " لا تتكلم هكذا عنها.. ليس الجميع مثلك متبلد المشاعر.. الفتاة ضعيفة هشة وأنت تعلم ذلك يقيناً فمن تريد أن تخدع بتلك الترهات التي تنطق بها؟ "
مرت سحابة ألم طفيفة في عينيه لكنها رحلت إلى حال سبيلها دون أن تقطر بزخة مطر واحدة وبدلاً من ذلك خلفت ورائها قسوة وجمود تجمع في مقلتيه ليحول لونهما البني إلى مرجلين قاتمين يغليان بعنف وهو يرد بابتسامة باردة تعلم فاطمة أن خلفها كم هائل من الألم والوجع: " لا تبالغي يا عمتي فهي مهما حدث لها لن تكون على ضعف وهشاشة حبيبتكِ "
شحب وجه يوسف وهو ينظر إلى صخر بينما ردت فاطمة بقوة: " بل هي نسخة منها "
أجفل يوسف بقوة وتشنجت أعصابه وهي تكمل موجهة حديثها إليه: " ألا تذكرك دموع نبض بلحظات حزن الحبيبة يا يوسف؟ ألا تراها فيها؟ "
أطرق يوسف برأسه للأرض بينما هي قالت بألم: " أنا لا أبالغ حينما أقول بأنها نسخة منها ولو... ولو كانت حبيبة حية الآن لكانت رأت في نبض نفسها.. نبض تحمل روح حبيبة هذا ما أؤمن أنا به حتى وإن رفض الجميع الاعتراف بذلك "
نهضت بعد أن أتمت جملتها وكادت تخرج لولا أن صخر استوقفها وهو يقول بصوت متصلب: " أنا لم اطلبها للزواج.. عمي مختار رحمه الله قبل وفاته هو من طلب مني أن اتزوجها وأنا إكراما للعشرة والصلة الطيبة بيننا وافقت "
ابتسمت بمرارة وهي تقول: " يبدو أنه ظن أنه بتزويجك من ابنته أنك ستهتدي وتترك الطريق الوعر الذي تخطو تجاهه بسرعة الصاروخ.. رحمك الله يا مختار لطالما كنت طيب القلب رحيماً لأقصى حد "
أولته ظهرها تهم بالخروج فاستوقفها ثانية وهو يقول: " كان ذلك بعد وصوله المشفى مباشرة.. كان... كانت حالته حرجة و.. "
قاطعته وهي تفكر بصوت عالٍ مهموم: " إذن كان يشعر بأنها النهاية.. ليته ما فعل... (التفتت تنظر له بحزن وهي تكمل) ظلمك مختار رحمه الله حين حملك تلك الأمانة وأنت... أنتَ لست أهلاً لها يا ولدي "
هب صخر من جلسته مجفلاً مجروحا من صراحة قولها وبدى الألم في عينيه قويا بينما هي أكملت ببؤس: " ستشقيها ولن تجد الأمان إلى جوارك ونبض لا تستطيع أن تحيا في ظل القلق والرعب الذي ترمي نفسك فيه "
حدجها يوسف بنظراته حتى تكف عن هذا الحديث لكن فاطمة لم توليه اهتماما وهي ترى صخر يقطب بقسوة فأطرقت برأسها تضيف: " لست لها يا صخر.. حررها يا ولدي قبل أن تمني نفسها بقربك فتصدمها بأنك سراب.. أطلق سراحها ودعها تبحث عمن يطيب جراحها في مكان آخر بعيدًا عنك فأنت وهي على النقيض.. طريقكما متوازيين لا يمكن أن يتقابلا في النهاية.. اتركها حتى تبحث عمن يعوضها ولو القليل مما فقدته "
لم يشعر بنفسه مع نهاية جملتها إلا وهو يصرخ بوحشية: " لا تقرني اسمها بأي رجل.. إنها زوجتي.. امرأتي أنا فكيف بالله عليكِ تطلبين مني إطلاق سراحها حتى تبحث عن رجل آخر؟ "
رفعت رأسها ببطء تنظر إليه و للحظات ظنت أنها توهمت سماع صوته وأنه لم يتحدث لكن لهاثه وتردد صدى أنفاسه والانفعال البادي على ملامحه اخبروها بأن ما سمعته صدر عنه بالفعل
كانت في حالة من الذهول بل الصدمة وهي تراه يظهر تمسكه بنبض بهذا الوضوح وهذه الصراحة فقالت بعد دقيقة كاملة من التفكير: " ماذا تعني؟ هل تقصد أنك لن تطلقها؟ بأنك ستكمل هذا الزواج؟ "
ضرب بقبضته على الطاولة أمامه وهو ينحني قليلاً بينما كان يصرخ بغضب: " لما كل هذا الذهول والصدمة يا عمتي؟ ألا أرقى لأن أكون زوجاً لها؟ "
قطبت بحيرة وهي تردد سؤالها: " هل تقصد أنك لن تطلقها؟ "
" نعم "
كان رده حاسماً قاطعاً، بنبرة واثقة انعكس صداها في عينيه ذات النظرة الوحشية وحاجبه المرفوع بتحدي وهو ينظر إلى فاطمة في انتظار كلمة اعتراض منها
وشعرت فاطمة في المقابل بأن قلبها ينبض بالسعادة لإصرار شاب بقوة وصلابة صخر على إبقاء نبض زوجة له لكنها خائفة، وتخشى أن يخفق في صون الأمانة فيضيعها ونبض ليست بالأمانة الهينة أبداً
عقدت ساعديها أمام صدرها وقالت بنبرة جادة: " ما فهمته أنا أن مختار رحمه الله من طلب منك أن تتزوجها "
اومأ دون رد فتابعت هي كلامها: " لم تطلبها أنت؟ "
اومأ من جديد فقالت بإقرار: " إذن ً الفكرة لم تكن في عقلك وضمن مخططاتك من الأساس فلما تظهر كل هذا التمسك بها؟ "
رمش بدهشة وهو يتمتم: " أي فكرة وأي مخطط يا عمتي؟ "
صمت بعدها وفغر فاهه للحظات بذهول ثم رفع يده يمرر أصابعه بين خصلات شعره وهو يقول بحيرة عجيبة وكأنه يحدث نفسه حتى أنه استدار وأولاهما ظهره: " نبض! نبض المهرة الصغيرة! كيف أفكر في الزواج منها وهي... هي طفلة.. يا إلهي! (استدار بجزع وهو يصيح كالمجنون) يا إلهي! نبض لازالت طفلة كيف وافقت عمي مختار على طلبه "
قطبت فاطمة وهي ترد بهدوء: " نبض ليست طفلة.. إنها آنسة... (رمقها باستنكار فأكملت بمهادنة) صغيرة.. هي آنسة صغيرة "
ردد كلمتيها بعبوس: " آنسة صغيرة (ثم ضرب بقبضته على الطاولة من جديد وهو يطرق برأسه للأرض بينما يصرخ) نبض طفلة ما كان عليّ أن أتزوجها كان يفترض بي أن... أن... "
سكت بعجز وقد داهمته الكثير من الأفكار فحثته فاطمة على المتابعة تقول: " أن... ماذا؟ "
رفع رأسه متنهداً وهو ينظر إليها بعذاب بينما يقول بصوت خفيض: " بدون الزواج لم يكن سيحق لي البقاء معها لحظة واحدة "
سألته فاطمة رغم أنها تعلم الإجابة: " لماذا؟ "
رد هو بيأس: " ما كانت لتسمح لي "
قطبت فاطمة تدعي الغباء وهي تسأله: " من؟ "
رد بنفس النبرة: " نبض يا عمتي وهل هناك غيرها "
رفعت فاطمة حاجباً باستخفاف وهي تقول بتهكم مبطن: " الطفلة "
حينها صاح بقنوط وهو يضرب على الطاولة من جديد بعنف أكبر: " نعم الطفلة.. أنتِ لا تعرفين كيف كانت تعاملني عن بعد وكأنني عدوى حتى الكلام لم تكن تسهب فيه معي "
قطع حديثه يتنهد بقوة ثم عاد يصيح ثانية: " إنها متحفظة جداً في التعامل معي "
قاطعته فاطمة ببرود زائف: " وكيف تريدها أن تتعامل مع الغرباء؟ "
هتف هو مبرراً في المقابل: " لم أكن غريبا عنها لهذه الدرجة التي تجعلها تتحاشى حتى النظر لعيني "
رفعت حاجبيها بذهول مصطنع وهي تقول: " حقاً وماذا كنت لها إذن؟ أباها، أخاها، زوجها، أم خطيبها مثلاً؟ "
عبس صخر وهو يغمغم: " هلا توقفتِ عن السخرية رجاءً؟ "
ابتسمت فاطمة بسخرية تقول: " ها قد توقفت.. هل ارتحت الآن؟ "
تنهد بقوة بعد لحظات بإرهاق وهو يطرق برأسه قائلاً: " أشعر بالضياع.. لا أعرف صدقا ماذا أريد بالضبط "
ران عليهم الصمت وقد اشفقت فاطمة على حاله، لم يسبق لها أن رأته بتلك الحالة البائسة الضائعة كما وصف نفسه
دوماً كان واثقا متزنا يعرف ما يريد ويسعى إليه بإصرار حتى يناله، لكنه الآن يبدو وكأنه فقد كل هذا
تنهدت فاطمة بأسى وهي تقول: " ماذا تريد من نبض يا صخر؟ "
ازدرد ريقه دون أن يرفع رأسه ليواجهها وظل على صمته لحظات قبل أن يرد بصوت تصنع فيه اللامبالاة حتى لا يظهر المزيد من التشتت والضياع الذي يشعر به ويأبى أن يظهره لأحد: " لا شيء.. أنا أحاول أن أرد المعروف الذي فعله والدها معي.. عليّ دين له وأحاول أن أرده له في ابنته "
صدمته فاطمة بالقول: " لكنك هكذا تظلمها "
رفع رأسه يطالعها بعدم فهم وهو يردد: " أظلمها! "
نهض يوسف من مكانه وقد فاض به الكيل، أراد أن يوقف الصراع الدائر بينهما عند هذا الحد لتصدمه فاطمة بردها على صخر وهي تقول: " نعم تظلمها.. كونك ترفض أن تطلقها فهذا ظلم لها.. ألم تفكر لحظة أنها يوماً ما ستحب شاب وستتمنى أن تكمل معه حياتها وتبني معه مستقبلها لكن زواجك منها سيقف حاجزاً دون ذلك؟ ألم تفكر لحظة أن من أبسط حقوقها أن تختار شريكها في الحياة وأن... "
قاطعها منفعلا: " كفى عمتي.. إلى هنا وكفى "
رفعت حاجباً ببرود وهي تقول: " أ تريد أن تكون أنانياً معها هي الأخرى؟ ما تحدده أنت وتختاره لها هو ما تنفذه هي بطاعة "
قطب بغضب وهو يرد: " أنا لست أنانياً.. ذلك ليس من طبعي "
كان غضبها حقيقياً تلك المرة وهي تقول: " حقاً! وبما تسمي ما تفعله مع من حولك؟ هل تعرف مقدار الرعب الذي يعيش فيه كل من له علاقة بك؟ هل تشعر ولو بقدر قليل من القلق الذي تسببه للجميع؟ "
نظر صخر إلى يوسف بوحشية لأنه بالتأكيد من أخبرها عن كل ما يفعله سرا وإلا كيف علمت وهي لا تعرفه عن قرب ولا تسكن معهم في العاصمة؟
رفع صوته صارخاً بغضب أهوج: " أنا لا أفعل شيء مع أحد ولا أسبب لأحد أي شعور بأي معنى.. أنا وحدي وليس معي أحد.. لا أشعر بأحد يطوف من حولي كما تصورين.. بل لا أشعر بأي شيء "
كان صدره يعلو ويهبط من حدة تنفسه بينما ملامحه على وشك التفتت من شدة توحشها
صمت لحظة ثم عاد يصرخ بشراسة وهو يبسط كفيه أمامه: " انظري جيداً إلى كفيّ (نظرت له بشفقة فقال) إنهما فارغين.. دوماً كانا كذلك والآن لم يتغير شيء فلازالا على حالهما فارغين تماماً (ثم لوح بيده مشيراً لما حوله وهو يقول) وانظري حولي.. انظري لما حولي، لحياتي لن تجدي فيها أحد.. إنها فارغة "
ردت فاطمة بمهادنة: " لا.. هي ليست فارغة وحتى لو اعتقدنا ذلك فرضا فالآن هي لم تعد كذلك.. أصبحت نبض فيها "
ببرود قاسي رد: " لا هي ليست فيها ولن تكون.. نبض واجب عليّ، معروف عليّ أن أؤديه على أكمل وجه، أمانة عليّ أن أصونها وأحافظ عليها كما يجب، دين يجب عليّ أن أقضيه لا أكثر ولا أقل من ذلك "
قطبت فاطمة بضيق وهي تقول: " معك حق.. لطالما كنت جاحدا وأنكرت وجود عائلتك التي تحبك وتخاف عليك فكيف ظننت أن نبض ستكون عندك ذات قيمة؟ "
أشاح بوجهه وهو يبتسم بمرارة رغم سخريته القاسية: " بالله عليكِ كفاكِ كلاما عما لا تعرفينه يا عمتي.. عن أي عائلة تتكلمين؟ أنا لا أشعر بنفسي ذا هوية من الأساس وكأني نبته سامة شقت طريقها في الأرض بنفسها دون أن تكون لها جذور تدعمها "
تجمد الموقف بينهما والكل منخرط في أفكاره الخاصة حتى تمتمت فاطمة بشجن بعد أن يأست من إيجاد طريقة لجعل صخر يلين: " لهف قلبي عليك يا ولدي.. وشم الألم روحك منذ زمان بعيد ورافق الوجع دربك وكأنهما لا يعرفان طريق إنسان غيرك "
***

كانت تقف أمام الباب المغلق منذ بضعة دقائق.. منذ وصلها صوت صخر الحاد وهو يصرخ عالياً
تقف ودموعها تنهمر كشلال غزير لا نهاية له وكلماته الباردة لازالت تتردد من حولها
' لا هي ليست فيها ولن تكون.. نبض واجب عليّ، معروف عليّ أن أؤديه على أكمل وجه، أمانة عليّ أن أصونها وأحافظ عليها كما يجب، دين يجب عليّ أن أقضيه لا أكثر ولا أقل من ذلك '
ثارت روحها الأبية من لامبالاته وكادت أن تهم بالدخول لتطلب منه أن يطلقها وترفع عنه الواجب الذي يشعر به ناحيتها لكن كلماته فيما بعد سمرتها في مكانها ليزداد وجعها وهي تستشعر قدر الألم والمرارة في صوته
شهقت باكية وهي تستدير مسرعة لتعود إلى غرفتها حينما انفتح الباب فجأة وفي لحظة كانت تسمع همساً خافتا من صخر: " لم أكن أعلم أن المهرة الخجول لديها صفة الفضول والتنصت من خلف الأبواب المغلقة "
رفعت يدها ووضعتها على فمها بصدمة وهي لا تعلم كيف شعر بها من الأساس ليخرج في تلك اللحظة وبدل من أن تهرب إلى غرفتها شعرت بالبلادة وهي تقف مكانها دون أي حركة فتدخل يوسف بمناكفة قائلا بغية تلطيف الجو المشحون: " أتمنى أن تكون ضمن صفاتكِ أيضاً إجادة الطهي لأنني جائع "
اتسعت عينيها ذهولا مع استمرار انهمار عبراتها ولم ترد فأضاف يوسف بنفس النبرة ولكن بتسلط طفولي: " أريد الكثير من الطعام.. لم أتناول أي طعام حقيقي منذ... اممم منذ... "
أكملت جملته التي قطعها: " منذ ثلاثة أيام تقريباً "
تنهد وهو يقول: " نعم.. تقريباً "
إلتفتت له تقول بإرتباك وتلعثم: " لكنني... أنا... في الحقيقة أنا لا أعلم كيف أعد أي نوع من الأكلات عدا السلطة "
عبس وهو يقول باستنكار: " السلطة! "
بينما قالت فاطمة بمزاح من خلفه وهي تمسح أثار دموعها: " وهل ترين أن السلطة وحدها كافية لسد جوع ماردين بهذا الحجم؟ "
شملتهم نبض بنظرة سريعة متوترة خجولة وهي تقول: " لا لن تكفي هما... هما ضخمان فعلاً "
ضحكت فاطمة فقالت نبض ببراءة: " ماذا يمكن أن نطعمهما حتى يشبعا؟ "
انفجرت فاطمة في الضحك بشدة وهي تجيبها بمرح: " يحتاجان إلى وجبة دسمة حتى نستطيع سد جوعهما وإلا أكلانا "
رمشت نبض وهي ترد ببراءة تامة: " لكنهم لا يبدوان من آكلي لحوم البشر "
قالت فاطمة بمناكفة: " حقاً لا يبدوان كذلك؟ "
حركت نبض رأسها سلباً وهي تقول: " بلى "
فضحكت فاطمة من جديد وهي تخرج من الغرفة متجه نحو المطبخ بينما تقول: " حسناً تعالي لنرى ما لدينا حتى نطعمهما "
استوقفها صخر يقول: " لا داعي لترهقي نفسكِ في إعداد الطعام يا عمتي فعلى أي حال أنا جائع جداً أنا الآخر لذا لا حاجة للانتظار "
استدارت فاطمة تنظر له بحيرة وهي تقول: " إذن لديك اقتراح أفضل؟ "
اومأ برأسه وهو يقول: " نعم.. سوف أطلب لنا وجبة غداء من الخارج ما عليكما سوا الاختيار هل أطلب الطعام من مطعم أسماك أم... "
قاطعته فاطمة بضيق وهي تقول: " مطعم! ولما كل هذا؟ أنتظر حتى أعد الطعام في البيت لن يضيرك أن تنتظر قليلاً بعد "
قطب بحيرة وهو يقول: " لو لم أكن أعلم عن كرمك وجودك لكنت ظننت أنكِ بخيلة لذلك لا تريدين مني أن أطلب الطعام من الخارج "
ردت نبض بدلاً من فاطمة التي عبست: " عمتي فاطمة لا تحب أن تأكل من الطعام الخارجي فمهما بلغت جودة وشهرة المطعم الذي ستطلب منه الطعام هي لن تمسه "
رفع حاجبيه بذهول وهو يقول: " ولما كل هذا؟ "
أولته فاطمة ظهرها وهي تتجه نحو المطبخ بينما ردت بصوت مشمئز: " لا أضمن مدى نظافة أو مصدر المأكولات التي تصنع خارج البيت ولو كان طعاماً آتيا من مطعم عالمي خصيصاً لأجلي فمستحيل أن أقترب منه أو أتذوقه حتى.. أجلس في أي مكان وحاول أن تلهو بأي شيء حتى أجهز الغداء "
زفر بغيظ وهو يردد كلمتها ناظرا ليوسف الذي يكتم ضحكاته بصعوبة: " ألهو! "
أرادت نبض أن تتبع فاطمة حتى تساعدها لكن صخر استوقفها ممسكا معصمها بلطف ورغم ذلك أجفلت وانتفضت بخوف وهي تسحب يدها من قبضته بقوة، حينها أنسحب يوسف بهدوء لاحقا بفاطمة في المطبخ تاركا لهما الساحة فارغة
لاحظت نظراته المستنكرة لها فقالت بكبرياء وهي لم تنس كلماته الباردة التي قالها منذ قليل: " إذا سمحت لا تعيدها ثانية.. أنا لا أحب أن يلمسني الغرباء "
قطب بغضب مكبوت من كلمتها الأخيرة وقال: " لكنني لست غريباً عنكِ كما تلمحين يا نبض "
بإرادة رفضت أن تنظر له وهو ترد بهدوء: " بلى أنت كذلك وذلك العقد الذي بحوزتك لا يعطيك أي حق عليّ مما يجعلك غريباً "
زمجر بضيق وهو يقول: " ظننتكِ واعية أكثر من هذا لتدركي أنني أملك الكثير من الحقوق عليكِ.. (ثم تابع بتهكم يقول) بذلك العقد الذي بحوزتي "
ردت عليه بنفس هدوئها الظاهري وإن شابته لمحة من الاستهزاء: " ظننتني واعية! لا أنت مخطئ فلا يجب أن تطلب من طفلة بأن تكون على قدر الوعي بتلك الحقوق التي تتحدث عنها لأنها بالتأكيد مهما حاولت أن تشرح لها لن يستوعب عقلها الطفولي الصغير ما تقول "
قطب بحنق وهو يدرك أنها تبلغه برسالة واضحة عن سماعها لحديثه عنها وأنها إن كانت طفلة من وجهة نظره كما قال فلا يجب أن يتغنى أمامها بحقوق بالطبع لن يطالها من.. طفلة
بعد لحظة من الصمت وتقدير الموقف من كافة النواحي من ناحيته كان يزفر قائلاً بإقتضاب: " حسناً نبض هذه هي وجهة نظري تجاهكِ وبما أنكِ سمعتِ فقد وفرتِ عليّ أن... "
قاطعته بأدب مضحك وهي ترفع سبابتها تطلب بصمت أن يسمح لها بالكلام وما إن زادت تقطيبته حتى نطقت هي بنفس نبرتها الهادئة: " أعلم أنني وفرت عليك الكثير ولا حاجة لي بأن تخبرني بذلك لأنني أعلم.. كما أنني شاكرة لشهامتك ونبل أخلاقك معي خلال الأيام الماضية وحتى اللحظة ولكن يا صخر هناك أمر هام يجب أن تعرفه حتى تضعه نصب عينيك وضمن حساباتك "
ظهر الترقب والحذر في عينيه وهو ينتظر بقلق معرفة ماهية هذا الأمر الهام لتتكلم نبض بعد لحظة بصوت هادئ ذو نبرة قوية أبهرته بها ولم يكن يعرفها فيها من قبل: " كما قلت لك قبل قليل لا حقوق لك عندي بذلك العقد الذي تملكه لأنني وببساطة أريدك أن تحررني منه كما أحررك أنت منه هذا أولاً أما ثانياً فهو أنني سأسافر إلى مدينة عمتي فاطمة حيث سأقيم معها هناك فلم يعد من اللائق أن أبقى هنا وحدي "
للوهلة الأولى ظنته لم يفهم أياً مما قالته خاصة مع سكونه التام لكنها كانت لحظة واحدة فقط وبعدها تتابعت الانفعالات على ملامحه وفي عينيه وهي بصلابة كانت تنتظر أن يصرخ فيها لترد عليه وتوضح له وجهة نظرها هي الأخرى
تكلم من بين اسنانه: " أرى أنكِ حسمتِ الأمر كله وحدكِ يا نبض دون حتى الرجوع إليّ "
ظلت على توجيه نظراتها بعيداً عنه وهي ترد بهدوء مستفز: " أخبرتك منذ قليل أن لا سلطة لك عليّ حتى أشركك في أمر يخصني.. إنه شأني وحدي "
رفع حاجبيه بدهشة، لا يصدق أن نبض المهرة الخجول التي كانت تتلعثم وتتلون من الخجل مائة مرة في الثانية الواحدة ما إن يوجه لها كلمة عادية هي نفسها التي تقف أمامه بكل هذا الترفع والكبرياء تخبره عن قراراتها بصلابة تحسدها عليها أعتى الرجال
ظنها ستبقى على حالتها الانطوائية وسكونها الدائم كما كانت وخاصة بعد مصابها الأليم الذي حل بها منذ بضعة أيام قليلة
لا يصدق أنها هي نفسها من أخبرته في المشفى بحاجتها إليه وأنها لم يعد لها غيره بعد فقدانها لوالديها
قطب بحيرة وهو يفكر ' هل أصيبت بفقدان الذاكرة أم ماذا؟ '
أخرجه صوتها الشجي من أفكاره وهي تقول بهدوء وأدب: " عمتي فاطمة لن تمكث هنا طويلاً لذا رجاءً حاول أن تنهي... "
قاطعها بحدة يقول: " تريدين الطلاق نبض؟ "
اومأت بصمت دون أن تتفوه بحرف فصرخ هو بعنف: " هل جننتِ؟ بالتأكيد فقدتِ عقلكِ وأنتِ تتفوهين بما تقولين "
عبست نبض وردت: " لا أظن ذلك فأنا حتى اللحظة أشعر بنفسي في كامل قواي العقلية "
أمسكها من مرفقها بخشونة وهو يصيح بغضب: " بل فقدتِ عقلك وتحتاجين إلى التأديب على وقاحتكِ وأنتِ تقفين أمامي بتلك الصفاقة تطلبين الطلاق "
رفعت رأسها بحدة تناظره بكم من الغضب لم تشعر به يوماً في حياتها اتجاه شخص من قبل
مضت لحظة صمت موحش بينهما قبل أن تنفض نبض ذراعها من بين قبضته وهي ترفع سبابتها في وجهه بتحذير عنيف: " إياك.. إياك وأن تعيدها مرة أخرى يا صخر.. هذا عن لمسي أما... أما عن حديثك عني بتلك الطريقة فأنا لا أقبله نهائياً لا تنس ابنة من أنا وكيف هي أخلاقي وتربيتي "
كان صدرها يعلو ويهبط من شدة انفعالها وانفاسها الحادة بينما هو سكن في مكانه وكأنه تحول إلى تمثال من الشمع لا معالم له ولا حياة فيه
وهناك على باب المطبخ كانت تقف فاطمة، وصلها الحديث الدائر بينهما منذ البداية ورغم ذلك لم تشأ أن تتدخل حتى أنها لم تسمح ليوسف بالتدخل هو الآخر، أرادت أن يتناقشا فيما يخصهما وحدهما حتى يصلا إلى نتيجة مرضية لكليهما ولكم تتمنى الآن وفي تلك اللحظة لو تدخلت منذ البداية قبل أن يتطور الأمر إلى تطاول من صخر وانفعال غير محسوب العواقب من نبض
فتحت فمها لتتدخل وتهدئ من احتدام الموقف بينهما لكن نبض سبقتها وهي تقول بصوت متصلب: " بعد ما قلت عني فقدت كل حق لك عليّ.. لن أقبل منك كلمة أخرى في حقي يا صخر.. دورك الذي لم يبدأ يوماً في حياتي أنت بيديك انهيته للتو لذا وبكل هدوء أرجوك أن تخرج حالا من بيتي ولا تفكر أبداً في العودة إليه لأنه لم يعد لك مكاناً فيه وقبل ذلك عليك أن... أن... أنت تعلم "
أولته ظهرها وقد بدأ قناع صلابتها وشجاعتها أمامه يتهاوى حينما صرخ بحدة: " لا يا نبض لا أعلم.. أنطقي بما تريدين حتى انفذه لكِ "
رفعت رأسها تنظر إلى فاطمة برجاء صامت ظهر في عينيها حتى تتدخل لكن الأخيرة تنهدت بأسى قبل أن تدلف إلى داخل المطبخ فنكست نبض رأسها بقهر وقد علمت أن فاطمة لن تساندها لأنها كما ظهر عليها لم تقبل بقرارها
ران صمت مطبق على كليهما للحظات طويلة حتى قطعتها هي بشجاعة تقول: " حسناً يا صخر تريدني أن أنطقها لتنفذها وأنا لن أتراجع (سحبت نفس عميق قبل أن تكمل جملتها بصلابة واهية) إذا سمحت صخر طلقني وأنهي الأمر قبل أن أسافر مع عمتي فاطمة "
لم تنتظر سماع رأيه بل خطت على الفور إلى غرفتها حتى تتحصن بها من الألم الذي تشعر به والذي تصرخ به مقلتيها
لحظات مرت والبيت ساكن لا صوت فيه ولا حياة لمن به حتى خرجت فاطمة من المطبخ لتجده لازال على نفس وقفته الجامدة فقالت ببؤس: " أخطأت فيما قلت يا صخر وخطأك كان في حق مختار ومريم رحمهما الله قبل أن يكون في حقها "
لم يرد عليها بل ظل على حالته فأكملت هي بأسى وكآبة: " هذا أكبر دليل على أنك لا تعلم عنها شيء.. أنت لا تعرف متى تكون نبض المهرة الخجول ومتى تكون الفرس الجامحة؟ أخبرتك أنك لا تصلح لها.. نبض ليست لكَ يا صخر.. حررها وتحرر منها يا بني هذا أفضل لكَ أنتَ قبلها "
أيضا لم تتغير ملامحه لكن الرفض القاطع ظهر بوضوح في مقلتيه وهو يؤكد رفضه بكلمة واحدة حاسمة " لا "
قطبت فاطمة بتساؤل تقول: " لا؟ "
لمع في عينيه بريق مخيف وحشي وهو يقول بصوت خفيض يشع عنفا: " لا لن أحررها مني، لا لن أحرر نفسي منها، لا لن أدعها تحلق بعيداً عني حتى لو اضطررت إلى قص أجنحتها حتى تظل إلى جواري، ولا لن تكن لرجل غيري حتى لو اجبرتها على ذلك وكسرت جموحها بيدي لتكون طوع بناني "
عبست فاطمة برفض لما يقول لكن وقبل أن تتفوه بحرف كان هو يضيف بنفس النبرة: " أقسم بالله إن نطقتها ثانية ولو في أحلامها لأجعلنها تبكي ندما مراراً وتكراراً وسفر معكِ هي لن تسافر ولتريني كيف ستفعلها دون إرادتي "
فتحت الباب بعنف وخرجت صارخة بقوة: " بلى سأسافر مع عمتي ورغماً عنك لو تطلب الأمر "
هدر هو مندفعا بنفس الغضب: " أقسم بالله أنكِ لن تسافرين يا نبض "
تقدمت منه بخطى سريعة كان انفعالها المكبوت هو ما يدفعها لفعل ذلك دون تفكير، أخذت تدفعه في صدره بخشونة وهي تصرخ بشراسة: " أخرج من بيتي ولا تعد ثانية.. لا أريد رؤية وجهك من جديد ولو عن طريق المصادفة حتى.. هيا أخرج وابتعد عن حياتي.. لا شأن لك بي.. ابتعد عني... هيا "
كان هو يتحرك للوراء، يجاريها بصمت رغم أن دفعاتها لم تكن لتحرك ساكناً به لو لم يقبل هو على التفاعل معها والرضوخ للتأثر بشراستها الغريبة حتى لا يغضبها أكثر
خلال ذلك كان يتمعن في النظر إلى عينيها العاصفتين بأمواج هادرة لا تقبل السكون، شعر بأنها على وشك الإنهيار ولم يخيب ظنه حينما توقفت عن دفعه فجأة وهي تميل لتستند بجبهتها على صدره بتعب وإرهاق بينما قبضتيها تتشبثان بقميصه بقوة
كل ذلك حدث وفاطمة ساكنة، صامتة لا تتدخل ويوسف يطالعهما ببؤس وكآبة أما هو فكان يتخبط بين أفكاره بحيرة بعدما زال غضبه منها في لحظة وهو يراها تستكين أمامه بضعف مس قلبه وصميم روحه
همست هي بنشيج مكتوم: " أرجوك صخر طلقني.. أنا لا أريد الزواج لا منك ولا من غيرك أنا... لازلت طفلة كما قلت فأرجوك حررني "
تقبضت يديه إلى جانبيه ونظر إلى فاطمة بجمود فأومأت له برأسها بأسى وكأنها تقول ' قلت لك سابقاً أنكَ لم تعرفها يوماً ولا تصلح لها '
وهو بذكاء استقبل نظراتها وفهم المغزى منها وبقى على جموده للحظات أخر قبل أن يقول بصوت بارد كالجليد: " ارفعي رأسكِ نبض وانظري إلى عيني وأنتِ تطلبين الطلاق "
شهقت ببكاء أليم وهي ترد: " لماذا لا تنفذ طلبي دون أن تتمادى في تعذيبي؟ ارحمني أرجوك "
بنفس جموده وبرود نبرته كان يأمرها: " قلت انظري لي "
حركت رأسها يميناً ويسارا برفض دون أن ترفع وجهها إليه وهي تقول: " لا أستطيع "
رد بغضب مكبوت: " هل أفهم من ذلك أنكِ تراجعت عن طلبكِ و... "
قاطعته بحدة وهي ترفع رأسها دفعة واحدة تنظر إلى عينيه دون شعور منها لأنها أطاعته ونفذت أمره بينما تقول: " لا لم أتراجع لازلت على قراري "
كانت عينيه كمرجلين يغليان بوحشية بدائية مخيفة ولم تبالغ هي حينما شهقت فزعاً وخوفا منه لترتد للخلف خطوة متنازلة عن التمسك به
كانت ترتعد وهي تشعر بالضياع، تشعر بأن أعصابها باتت على المحك وأصبحت قاب قوسين أو أدنى من الانهيار
في تلك اللحظة تدخلت فاطمة بحزم أمومي ومؤازرة لنبض بعدما رق قلبها لحالها البائس وهي تواجه صخر بصلابة بينما تقول بنبرة حاسمة: " نبض ستسافر معي غداً في الصباح الباكر "
لم تكد المسكينة نبض تتنهد براحة حتى أفزعها صراخ صخر العنيف وهو يقول: " لقد أقسمت عليها "
عبست فاطمة وهي ترد بنفس النبرة: " وهذا ما منعني من السفر اليوم وأخذها معي لذلك قررت أن أنتظر للغد "
رفع حاجباً بتهكم وهو يرد: " بهذه البساطة.. شكرا لكرمكِ عمتي.. يبدو أن قراركِ مُرضيا لقسمي فعلاً "
على غفلة منهما كانت نبض ترفع يدها تضعها على جبهتها بإعياء وهي تشعر بدوار يحطم ثباتها ويفتت توازنها بلا رحمة
ترنحت قليلاً وهي تشعر بنفسها على وشك السقوط بين أحضان تلك الهوة السوداء التي تجذبها نحوها بقوة في حين مدت يدها الأخرى ظنًا منها بأن هناك ما قد تتمسك به فيحول بينها وبين السقوط.. لكنها كانت مخطئة تماما فلم تمض لحظة أو اثنتين على أكثر تقدير حتى كانت الأرض الصلبة تستقبلها بين ذراعيها وترحب بجسدها الذي يئن ألماً في غياب وعي صاحبته
***

حينما استعادت وعيها واحساسها بنفسها وما يدور حولها بعد وقت لا تعلم قدره كان أول ما شعرت به هو تلك اليد الحنونة التي تمسك بكفها
أجفل جسدها للحظة قبل أن تستكين ثانية ما إن وصل إلى مسامعها تلك التمتمات العذبة بآيات القرآن الكريم التي أخذت العمة فاطمة في ترتيلها بخفوت ورغم راحتها من وجود فاطمة إلى جوارها إلى أن شعور بغيض بالثقل كان يجسم على صدرها
هناك ما يتسبب في منع وصول الهواء إلى رئتيها.. هناك ما يضيق من حولها الحصار لكنها لا تعلم كنهه
أرادت أن تفتح عينيها وتخبر فاطمة بأنها بخير حتى تطمئن لكن ذلك الصوت الذي سمعته فجأة اخرسها تماماً
" أظنني نسيت أن أخبركِ يا عمتي بأنه لو كان تمسكي بنبض ورفضي لتنفيذ طلبها وتحريرها مني يعد جحوداً فأنا جاحد بالفعل "
ظلت فاطمة ترتل القرآن للحظات طويلة دون أن تلتفت له أو ترد عليه حتى نهضت فجأة بهدوء بعدما قبلت جبين نبض بحنان
اقتربت منه وبحزم أمومي شديد كانت ترد: " بل ستنزل عن عرش غرورك وتنفذ لها طلبها شئت أم أبيت "
بصلف وغرور قال: " لا يستطيع أحد إجباري على فعل ما لا أريد "
ردت فاطمة بنفس النبرة: " وكما أنه لا يوجد من يستطيع اجبارك على شيء فأنت الآخر لا تستطيع اجبارها على شيء "
بحدة رد: " بلى أستطيع.. أنا زوجها ومن حقي عليها أن تطيعني فيما آمرها به "
لم تستطع فاطمة أن تتمالك أعصابها أمام نبرته المتعجرفة الفظة فضربته بقبضتها في كتفيه وهي تقول من بين أسنانها بصوت حاولت أن يكون خفيض حتى لا ييقظ نبض ظناً منها أنها لازالت نائمة: " أي نوع من الكائنات أنت؟ تريد أن تأمر فتُطاع.. لماذا؟ هل ظننت نفسك سيداً عليها وهي جاريتك؟ أم تراك نسيت من تكون هي؟ "
كبح عنفوانه ووحشيته بشدة وهو يشيح بوجهه عنها دون أن يرد بينما هي تابعت بغضب مع تتابع ضرباتها له: " أتظن نفسك امتلكتها بمجرد ورقة خُط عليها إسمك واسمها؟ "
رد من بين أنفاسه المتسارعة غضبا يحاول بشق الأنفس أن يكبته: " أنا لم اجبرها على الزواج مني هي من أعطت موافقتها لوالدها دون لحظة تردد واحدة فلا تضعي اللوم عليّ الآن "
ردت بغيظ متفاقم وهي تلكزه بسبابتها في صدره: " لا تتحاذق عليّ يا ولد.. أنت تعلم جيداً أنها فعلت ذلك لأجل إرضاء والدها وهو على فراش الموت ومختار رحمه الله نفسه ما كان ليزوجها لك إن منحه الله العمر والنجاة من ذلك الحادث البشع "
كانت تعلم أن ما تقوله يؤلمه ولكنها لأجل نبض لم تبالي فتابعت بقسوة: " تعلم علم اليقين أنه ما كان ليأتمنك على قرة عينه وابنته الوحيدة وأنت... وأنت أنتَ على ما أنتَ عليه من ظلام الروح وقساوة القلب.. ما كان ليقبل بكَ زوجا لها وإن كنت آخر رجال العالم ولا يوجد سواك على كوكب الأرض "
لم تخطئ فهم لمعة الألم التي ومضت في عينيه وهو يحيد بنظراته الجريحة بعيداً عنها دون أن يعقب على حديثها أو يدافع عن نفسه وفي المقابل كانت هي الأخرى تشعر بالألم عليه أضعاف ما يشعر لكنها تعلم أنها لو لم تقف في وجهه فلن تنجى المسكينة نبض من قبضته حتى يدمرها بظلامه ويزهق روحها الهشة بقسوته الوحشية التي لا طاقة لأحد على صدها وقد أخبرها يوسف الكثير عنها
تراجع خطوة للخلف وهم بأن يستدير ليرحل حينما استوقفه صوتها الحازم: " لديك من الوقت حتى الغد فقط وقبل أن أعود إلى المدينة أريد أن أعرف ردك إما بالموافقة على طلب نبض أو... (رفع عينيه بترقب حذر لها فصمتت برهة قبل أن تردف) ستعلم حينها الخيار الآخر والذي لا أظنه سيعجبك أبداً "

انتهى الفصل...

ليال الحنين 09-10-19 01:48 PM

الروايه جميله جدا وطريقه السرد روعه بنا انها اول روايه لك ولا لك روايات تانيه يا يتلو فيه روايات قوليلي الفصول طويله وحلوه مش ممله ابدا
صخر لسه حكايته مش بانت ولا هو معروف هو من عيله مين بس ممكن يكون من الناصر
يوسف مش فاهمه ايه الحكمه من ابعاده مع ان زيد برده كان معاه
نبض اسم جميل وغريب كنت الأول بقول انها ليوسف بس الأحداث اخذتنا لصخر وصهر شايف انها طفله وعندها ١٨ سنه ماشي هنشوف الطفله اظن انها هتشافر مع عمتهم طبعا تحت مراقبه صخر
زيد بجد دمه خفيف جدا وحساس وحنين ياريت تنزلي صور للأبطال ممكن ومتابعه معاك ان شاء الله

Hend fayed 15-10-19 05:51 PM

سُلاف الفُؤاد
 
ب
سم الله الرحمن الرحيم أما بعد؛
|| الفصل الرابع ||

في المدينة الجبلية
منذ أيام وهي على نفس الحال تتخذ من الأرجوحة التي رافقتها أثناء مرحلة طفولتها أنيسا لها فما إن تشرق الشمس حتى تهجر غرفتها وتأتي إلى الحديقة متخذه من تلك الأرجوحة مجلسا لها حتى الغروب وحينها تعود إلى غرفتها مرة ثانية مغلقة بابها على نفسها رافضة الحديث أو الطعام أو حتى التفاعل في أي شيء أو أي شخص
الجميع في الدار بلا إستثناء لاحظ حالتها الغريبة تلك والكثير منهم حاولوا التدخل إلا أنها كانت تلتزم الصمت غارقة في حالتها الشاردة دون أن تمنح أحدهم ردا مرضيا يريحه
على أطراف الحديقة في إحدى الزوايا البعيدة نسبيا عنها وقفت حياة إلى جوار ياسين تكلمه بخصوص أختها والقلق ينهشها عليها
" لا أعرف ما أصابها منذ ليلة العرس.. لكنني أظن بأن حالتها تلك قد تكون متعلقة بمجيئ عمي مختار "
قطب ياسين مفكرا وهو يؤيد حديثها: " معكِ حق أنا الآخر لاحظت التغيير الذي بدى على محياها حينما كانت تودعه قبل رحيله "
قالت حياة بقلق: " أخشى أن تكون مريضة ولا تخبر أحد وهي كما ترى لا تسمح لأحد بالحديث معها حتى نطمئن عليها على الأقل "
نظر ياسين إلى حياة بكآبة وهو يقول: " ومن منا ليس بمريض يا حياة؟ المرض لا يكون في الجسد وحده فكما تعلمين نحن عائلة ضُرِبَ بها المثل في علة الروح وشقاء القلب "
أشاحت حياة بوجهها عنه جانبا وهي تقول بوجع مكبوت: " وكأن ما بي لا يكفيني فأتيت أنتَ لتصب المزيد من الزيت على النار يا ابن عمي "
تنهد ياسين قائلا: " ما بكِ أنتِ وحدك صانعتيه يا حياة.. أنتِ من تتشبثين بالماضي وترفضين الحياة "
ابتسمت بمرارة ترد ساخرة: " ومن منا لا يفعل؟ الماضي ملاحقك أينما كنت وأنتَ تدري أن جزء من الماضي يمثل هويتنا فإن كنتَ أنتَ لا تحاول درء الماضي فلا تطلب مني أن أفعل فما فقدته أنا ضعف ما فقدته أنتَ "
همت بالرحيل ثم توقفت تقول بشجن وهي ترمق جلسة أختها البائسة: " لا تغادر لعملك قبل أن تحاول معها فحدسي يخبرني أنها لن ترفض الحديث معك "
غادرت حياة وتركته وحده يتطلع لملك بقلب يئن ألما على محبوبته التي لا يدري ما يوجعها لتبدو بهذا الضعف الذي لم يعهده فيها
تحرك نحوها بخطى هادئة وحينما وصل إليها جلس ببساطة إلى جوارها، كان ملتصقا بها ولولا ذلك لما تنبهت له وهي تبدو شاردة بعيدا جدا
أجفلت فجأة حتى أنها انتفضت في مكانها بطريقة أجفلته هو الآخر وفي اللحظة التالية كانت تلصق نفسها بأبعد زاوية في الأرجوحة بعيدا عنه فقطب يقول ببرود مصطنع: " أتظنيني آكلك؟ "
رمقته بطرف عينها دون أن ترد فقال هو ليستفزها كي تتكلم: " ما بكِ؟ تبدين بائسة هل حاولتِ الإيقاع بآخر بين شباككِ ولم تفلحي؟ "
لم تغضب منه فهي أكيدة من أنه لا يعني ما يقول فالتزمت الصمت ولم ترد أيضا ليقول هو ساخرا: " لا تخشي شيء أخبريني وإن كنت أعرفه فسوف أبذل جهدي لأوفق بينكما "
تمتمت أخيرا بخفوت متحشرج: " لا أحتاج مساعدتك فإن كان هناك آخر أريده لما جلست هنا وهو هناك "
ابتسم ساخرا يرد: " حقا! وماذا كنتِ ستفعلين معه؟ تقيدينه إلى جواركِ وحيث تكونين "
نظرت له بقوة وعينيها تلمعان ببريق غريب وهي تؤكد ما يقول: " نعم.. كنت لأقيده إلى جواري "
ارتجفت عضلة في فكه ورغما عنه غضب لأنها قد تكون تفكر في آخر بالفعل فقال ببرود حاول أن يفلح في رسمه: " وماذا عني؟ هل أصبحت من ماضيكِ؟ "
أشاحت بوجهها عنه متوجعة ترد بإحباط: " أنتَ لا يفلح معك التقييد فرجال الجبالي من الصعب أن يمتلكهم أحد "
أعاد وجهها إليه بحنان يقول: " لكنكِ فعلتِ يا ملاك "
هزت رأسها سلبا وهي ترد بصوت تخنقه غصة البكاء: " لا لم أفعل ولن أستطيع فأنت كالزئبق لم تفلح معك أي طريقة حاولت أن استخدمها معك "
ابتسم برقة يرد: " ربما لأنكِ لم تستخدمي الطريقة المُثلى أو الصحيحة بعد "
رمشت لوهلة فتحررت بضعة دمعات على وجنتيها مسحها هو بلطف وهي تقول بأمل: " أتظن ذلك؟ "
اومأ مبتسما، قائلا برفق: " لازلت أنتظر أن تدكي حصوني عما قريب يا ملاك وأعدكِ أن أدعها لأجلكِ مشرعة الأبواب "
شهقت فجأة باكية وهي تقول: " لكني أخشى عليك "
قطب متعجبا يسألها: " مما تخشين عليّ؟ "
أخفت وجهها بكفيها وهي تجهش في مزيد من البكاء قائلة: " أخشى عليكَ مني.. أنا فأل سيء.. كل من يقترب مني يتأذى وكل من أتعلق به يرحل ويتركني "
قطب بحيرة لا يعلم ما يقول ولا يفهم سر حالتها العجيبة تلك بينما أخذت هي تهذر بالمزيد من بين بكائها: " لو أنهم فقط لا يرحلون بدوني لما حزنت.. لو أنهم يأخذونني معهم حيثما يذهبون لما توجعت هكذا في غيابهم لما... لما شعرت بأنني جسد خاوي "
شحب وجه ياسين من الوصف الذي قالته وهي بدت في عالم آخر لا تشعر بوجوده إلى جوارها فقط تبكي بحرقة وتهذر بالكلام: " ماذا أفعل يا ربي حتى لا يفارقونني؟ ماذا بيدي لأستبقيهم معي؟ "
مسد على شعرها بحنان يناديها وهو يشعر بالخوف عليها: " ملاكي.. اهدئي حبيبتي لن أترككِ إن كان هذا ما يبكيكِ "
هزت رأسها سلبا وهي ترد بيأس: " ليتك تستطيع ياسين.. ليتك تستطيع لكنك... لكننا جميعا لا نملك من أمرنا شيء (ثم اجهشت في البكاء من جديد وهي تتمتم بحرقة) لكَ ربي الأمر من قبل ومن بعد "
قطب بألم وهو يشعر بنفسه على وشك البكاء هو الآخر ليفاجئ بطيف أخيه يقف على بعد قريب منهما يتابع ما يحدث مقطب الجبين دون أن يعقب بشيء
نظر له ياسين بضياع واستجداء يسأله الحل فتنهد قاسم وهو يشير له بطريقة ذات معنى حتى يتركها تبكي بقدر ما تشاء وبعد أن تنتهي أن يحاول سؤالها عن سبب حينها من جديد ثم استدار راحلا بقلب مكلوم ولسان حاله يردد: " يبدو أن الحزن قرر ملازمتنا فنزل زائرا عندنا لأجل غير مسمى "
***

في الداخل
كانت حفصة ترتب الفراش الذي سبق ورتبته قبل ساعات ثم تعود وتتحرك في الغرفة بتعثر تعدل هذا وتنقل هذا من مكان لآخر، بدت كئيبة كحال الجميع منذ سفر حمزة وزهراء
كان عاصم يجلس على كرسيه المريح إلى جوار النافذة يراجع عقد ما يخص العمل وبين الفينة والأخرى يرمقها بنظرة عابرة ليجدها على نفس حالتها
تنهد عاصم أخيرا وهو يقول: " اجلسي حبيبتي وارتاحي.. الغرفة نظيفة ومرتبة بل الجناح بأكمله مرتب "
توقفت مكانها إلى جوار الفراش وطالعته بنظرة شاردة دون أن ترد فقطب عاصم بقلق يسألها: " هل أنتِ بخير حفصة؟ "
اومأت برأسها وهي ترد: " نعم.. بخير "
وضع عاصم ما بيده من أوراق جانبا ونهض متوجها إليها وحين وصل أمسك وجهها بين كفيه برقة يقول: " إذن ما بكِ أميرتي؟ "
نظرت له ببؤس وهي ترد: " حال ملك لا يعجبني.. أشعر بالحزن لأجلها وزهراء اوحشتني جداً "
ابتسم بحنان يقول: " تعلمين حبيبتي أن ملك حالها يتقلب في اليوم الواحد ألف مرة.. قريبا إن شاء الله ستعود لحالتها الطبيعية فلا تحزني "
تنهدت بأسى تتمتم: " أتمنى هذا "
ضيق عينيه وهي يبتسم بشقاوة يناكفها قائلا: " أما عن زهراء فأظن بأنكِ تغارين منها لأنها ستقضي شهرين كاملين في فرنسا وأنتِ لم تحظي إلا بشهر واحد "
ابتسمت برقة وقد تبددت بعضا من كآبتها وهي تقول: " بالطبع لا.. أنا أتمنى لها كل السعادة "
رفع حاجبا بمكر وهو يسأل: " إذن أنتِ لا تريدين تذوق بعض العسل؟ "
كتمت ضحكتها الخجلة وهي تطرق ببصرها للأرض قائلة: " ألا يوجد عسل إلا في فرنسا؟ "
ضحك عاصم بمرح يرد: " اسألي أختكِ المجنونة التي كادت تصيب أخي المسكين بالجنون وهي تتشبث بالسفر إلى باريس على وجه الخصوص وكأنها مدينة العجائب وحياتها تتوقف على زيارتها "
ضحكت حفصة تقول: " تعلم أن زهراء مجنونة بالفطرة فلا يحق لكَ أن تلومها على خياراتها "
قهقه عاصم مستمتعا قبل أن يقول: " وما لي أنا وما لها من تزوجها هو المبتلى أما أنا.. (لمعت عينيه بحب وهو يكمل) حظيت بالعاقلة الرصينة.. بتوأم الروح والفؤاد "
ابتسمت حفصة بتورد وهي تتمتم بخفر: " ألن تتركني حتى أرى اشغالي فليس الجميع في إجازة اليوم مثلك سيد عاصم؟ "
تبسم عاصم بشقاوة وهو يرد: " ومن المستفيد من إجازة السيد عاصم؟ أ ليست حبيبته وأميرته؟ "
دفعته حفصة في صدره بلطف وقد زاد توردها مما فهمته من مغزى كلامه فقالت بإرتباك: " لا تمزح يا عاصم.. لست متفرغة.. اتركني بالله عليك قبل أن تقتحم حلا الغرفة في أي لحظة "
عبس عاصم ببؤس طفولي وهو يقول: " فلتفعل لأخبرها بتمنعكِ عليّ "
شهقت بخجل وهي تضربه في صدره بغيظ بينما تغمغم: " أ جُننت يا عاصم! والله إن فعلت هذا لتبيتن الليلة في غرفة ابنتك "
رفع حاجبيه بتعجب وهو يتركها ليقف أمامها متخصرا قائلا: " أهذا تهديد حفصة هانم؟ "
أشاحت بوجهها عنه جانبا متصنعة الجدية وهي ترد: " نعم.. هو كذلك تماما "
ابتسم بمكر وهو يهمس: " إن كانت نيتكِ سيئة تجاهي هكذا فمن الأفضل أن أحصن نفسي واختزن بعض العسل للمساء حتى إن طردتني من جنتكِ يكون لدي ما أواسي قلبي المسكين به "
قطبت بحيرة تردد: " ماذا؟ كيف؟ "
لم يمهلها قول المزيد وهجم عليها يعتقل خصرها بذراعيه وهو يضحك قائلا: " سأخبركِ تفصيلا كيف فالكلام في هذه الحالة من الأسئلة الصعبة لا يفيد "
أخذت تضربه على كتفيه وهي تحاول التحرر منه دون جدوى صارخة بغيظ: " أفلتني يا عاصم وإلا والله س... "
ضاع قسمها أدراج الرياح وهو يتلقف بقية جملتها بين شفتيه مانحا اياها الشرح الذي أخبرها عنه جملة وتفصيلا فاستكانت مستسلمة بين أحضانه في انتظار التقييم
***

مساءً / في العاصمة
كانت تجلس إلى جوار خالتها بصمت تستمع إلى هذر من حولها دون تعقيب وكأن الأمر لا يعنيها رغم أن الحوار يدور من حولها ويخصها وحدها
عيناها كانتا مثبتتين على كفيها الممسكتين بهاتفها، لا تعرف ماذا تنتظر بالضبط؟ لكنها فقط تنتظر
تمر اللحظات والدقائق ولا تمل الإنتظار وكأن لا شاغل لها سوا ذلك، حتى افاقت من شرودها على صوت فاطمة وهي تقول: " ما رأيكِ بنيتي؟ هل ستسافرين مع خالتكِ منال؟ "
أجفلت من السؤال والتفتت تنظر إلى خالتها منال بدهشة وهي تردد: " أسافر معكِ خالتي! "
رفعت منال حاجبيها وهي تقول: " وهل لديكِ خيار آخر؟ "
شعرت نبض بالحيرة من نفسها، عقلها يخبرها أنه الإختيار الأمثل بعد وفاة والديها فالأقرب لها هي خالتها منال أما قلبها فيخبرها أنها بحاجة ماسة للبقاء مع فاطمة حيث تشعر بالسكينة والأمان
تنهدت بحيرة لا تعرف لها سببا فأجفلت من جديد وخالتها تهزها وتعيد عليها السؤال: " لم نسمع ردكِ بعد.. هل لديكِ إعتراض على السفر معي؟ "
كانت فاطمة هي من ردت بدلاً منها بعدما شعرت بحيرتها: " أظنها بحاجة لبعض الوقت للتفكير بصفاء في هذا الأمر فأنتِ تعلمين حالتها الآن والظروف الصعبة التي تمر بها وتشتت تركيزها "
برمت منال شفتيها ببرود وهي تغمغم: " لا أحد يفهم حالة ابنة أختي رحمها الله أكثر مني سيدة فاطمة "
شعرت فاطمة بالحرج فقالت: " آه بالطبع فأنتِ خالتها وبمثابة أمها "
ردت منال بنفس البرود: " أكيد "
عادت نبض تنظر إلى هاتفها من جديد في اللحظة التي تحدث فيها مروان يقول بلطف: " نحن نقدر خوفكِ على نبض واهتمامكِ بها يا خالة لكنني لا أريدكِ أن تخشي عليها بعد الآن فأنا أعدكِ بأنها ستكون في أمان وراحة معنا "
اومأت فاطمة بصمت دون أي تعقيب فأضاف مروان: " كما أن سفرها معنا للخارج فرصة جيدة لها حتى تستكمل دراستها الجامعية "
نظرت فاطمة بطرف عينها إلى نبض الواجمة قبل أن تقول: " معك حق بني.. فرصة التعليم في الخارج لا تسنح للجميع ونبض تستحق الأفضل بالطبع "
هنا تدخل إياد بابتسامته الماكرة وهو ينظر إلى نبض: " وقد تحب الاستقرار هناك بعد الانتهاء من الدراسة تماماً أو الأفضل.. أن تتزوج وتسعى لتأسيس أسرتها الخاصة "
رفعت نبض رأسها بحدة ونظرت إلى فاطمة بصدمة وهي تتمتم بصوت غير مسموع: " زواج، وأسرة.. يا إلهي! "
بينما قطبت فاطمة تحدث نفسها: " إن سمعه المجنون الآخر سيزهق روحه في الحال.. من أين تأتي هذه المصائب التي لا تنتهي يا الله؟ "
فجأة سمعوا الباب ينفتح فنهضت فاطمة على الفور وقبل أن تخرج كان يوسف وصخر يدخلان، وقف يوسف متوترا بينما صخر كانت ملامحه جامدة وكأنها نحتت من الجليد
هبت منال من مكانها وهي تشير ليوسف بسبابتها بينما تصيح بغضب: " ماذا تفعل هنا يا ولد؟ وكيف دخلت إلى البيت بهذه البساطة دون استئذان؟ "
رفع يوسف حاجباً بتهكم وهو يرد عليها: " لست في حاجة لأخذ الإذن من أحد قبل دخول بيتي "
صرخت منال بغيظ: " بيتك كيف؟ هل صدقت حقاً أنه بيتك؟ هذا بيت أختي وزوجها وأنت ليس لكَ فيه شيء هيا أخرج منه حالاً "
نهضت نبض من مكانها هي الأخرى وقالت: " خالتي أرجوكِ اهدئي.. لا داع لكل هذا "
قطبت منال بضيق وهي تقول: " ألم تسمعيه؟ "
ردت نبض بتنهيد: " بلى سمعته يا خالتي ولا أراه مخطئ فيما قال.. يوسف محق.. هذا بيته "
صرخت منال بحنق: " هل جننتِ يا نبض؟ هل شفقتكِ عليه وصلت بكِ لأن توهميه بما ليس من حقه؟ "
نظرت نبض إلى فاطمة برجاء حتى تتدخل فقالت الأخيرة في محاولة لتهدئة الموقف: " ما تقصده نبض أن مختار ومريم رحمهما الله طالما اعتبراه بمثابة ابن لهما فبالتأكيد بيتهما هو بيته أيضاً "
تدخل مروان يقول: " اهدئي أمي فكما قالت نبض لا داع لكل هذا فعلى أي حال هي لم تعد بحاجة للبيت "
ران التوتر على نبض وفاطمة في حين سأل صخر بصوت غامض: " لم تعد بحاجة للبيت.. ماذا يفترض بي أن أفهم من هذا الكلام؟ "
رد مروان بهدوء: " لقد قررنا أن تسافر نبض معنا إلى أمريكا "
ضيق عينيه قليلاً وهو يسأل مروان بهدوء ما قبل العاصفة: " هلا أخبرتني رجاءً من صاحب هذا القرار بالضبط؟ "
ردت منال بعجرفة: " أنا "
رمقها ببرود وهو يسأل: " بأي صفة؟ "
قطبت بضيق وهي تغمغم: " ماذا؟ "
وضع كفيه في جيبي بنطاله وهو ينظر لها بلامبالاة قائلاً: " قلت... بأي صفة تقررين أمر كهذا نيابة عنها؟ "
صاحت منال بإنفعال: " بصفتي خالتها وبمثابة أمها "
ابتسم بسخرية وهو يقول بهدوء مستفز: " للأسف فقدتِ هذا الحق بعدما انتقلت لي الأولوية "
نظرت له فاطمة بتحذير مبطن حتى لا يتمادى في الحديث وهي تقول: " الأمور لا يمكن مناقشتها بتلك الطريقة "
صاحت منال بضيق: " أي أمور تلك التي سأناقشها أنا مع هذا اللقيط؟ "
هتف مروان بحنق: " أمي ليس هكذا "
بينما نبض صرخت بصدمة: " صخر ليس لقيط خالتي.. صخر يمتلك عائلة راقية ذات نسب معروف "
أصدر إياد صوتاً ساخراً وهو يضع ساقا على الأخرى بينما يقول: " لا أصدق أنكِ لازلتِ كما أنتِ يا نبض.. الطفلة الساذجة بغباء التي تدافع عن الجميع دومًا "
أطرقت نبض وقد آلمها وصفه لها لكنها لم ترد عليه في حين زمجر صخر وكاد يذهب إليه ليحطم وجهه ويمحي عن شفتيه تلك الإبتسامة القميئة لولا يوسف دفعه بحزم وهو يهمس له: " أهدأ الوضع مضطرب بما فيه الكفاية "
ثبت مكانه بمعجزة وهو يقبض على كفيه بتشنج إلى جانبيه لكنه لم يستطع منع نفسه من الهمس بغل وحقد: " الحقير "
تنهد مروان يقول: " أرجوكم اجلسوا ودعونا نتفاهم بتحضر "
بعد لحظات كان الجميع يتصنع الهدوء على اختلاف مشاعرهم وأفكارهم الداخلية
بادر مروان بالكلام بأسلوبه الهادئ المعتاد: " هل لديك مانع يا يوسف في أن تسافر نبض معنا؟ "
غمغمت منال بغيظ: " وما دخله هو الآخر؟ لا حق له في الحكم عليها أو إبداء رأيه فيما يخصها حتى "
زفر مروان بنفاذ صبر يقول: " أرجوكِ أمي دعيه يتحدث ويخبرنا برأيه فهذا حقه "
زفرت منال وصمتت على مضض بينما رد يوسف بدبلوماسية: " قبل أن أخبركم أي شيء أريد أن أعرف رأي صاحبة هذا الشأن "
نظر الجميع إلى نبض بترقب بينما قالت منال وهي تربت على كتفها: " بالتأكيد هي موافقة إذ لا يصح أن تظل هنا وحدها بعد وفاة والديها.. بيت خالتها أولى بها من الوحدة "
صاح مروان بقلة حيلة: " يا أمي أرجوكِ (التفت بعدها إلى نبض يقول بلطف) ما رأيكِ نبض؟ هل أنتِ موافقة على السفر معنا إلى أمريكا؟ "
ردت منال بتعجب: " بالطبع موافقة وماذا تظن يا بني؟ هل سترفض وتبقى هنا وحدها لتنهشها الوحوش والبشر ممن لا ضمائر لهم.. لم يعد في هذا العالم أمان أبداً "
كاد صخر ينهض من مكانه لكن يوسف قبض على مرفقه يقول بخفوت: " أهدأ "
غمغم صخر بضجر: " اتركني يا يوسف بالله عليك.. سأقتلها فقط حتى نرتاح "
في حين هب مروان من جلسته يصيح بغيظ: " هذا ليس أسلوب للنقاش يا أمي.. أرجوكِ امنحيها فرصة فقط حتى تخبرنا عن رأيها "
تأففت منال بغيظ بينما قال إياد بسماجة: " أجلس أخي وأرح أعصابك فكما يبدو جليا أن القطة لم تأكل لسانها بعد "
زمجر صخر من جديد فتدخلت فاطمة بعجالة: " تكلمي بنيتي.. ما رأيكِ؟ "
نظرت نبض إلى فاطمة بضياع وهي تتمتم: " أنا.. لا.. أعرف "
هنا صاحت منال بانتصار وهي ترمق كلا من يوسف وصخر بطرف عينها: " إذن ستسافرين معنا فهذا القرار الصائب والأفضل لأجلكِ "
على عكس ما ظنت منال بأن صخر قد يثور ويغضب بناءً على حديثها إلا أن الأخير استرخى أكثر في جلسته وهو يضع ساقاً على الأخرى بعنجهية بينما يعقد ساعديه أمام صدره قائلاً باستفزاز: " سبحان الله! ما أراه أنا أفضل لها عكس هذا تماماً "
نظرت له منال ببرود تتمتم على مضض: " وما هذا الذي تراه أفضل لها؟ "
ابتسم ببرود يجيبها: " الأفضل لها أن تبقى هنا في بيتها.. (ثم نظر بقوة إلى نبض التي لم ترفع عينيها عن الأرض وأكمل بصوت جامد) ومع زوجها "
تعالت شهقات الاستنكار والصدمة من الجميع، وهب إياد من مكانه وهتف بغضب منفلت: " ماذا تقول أيها الحقير؟ "
قطب صخر بجمود وهو يرد: " الحقير هو من يتنازل ويرد على أمثالك "
اندفع إياد كالثور يريد أن يضربه لكن مروان وقف أمامه يمنعه عن الاقتراب من صخر وهو يقول: " أهدأ إياد.. علينا أن نفهم ما يقول أولاً "
صرخ إياد بغل: " ما هذا الذي تريد فهمه؟ هل تصدق ما يقوله هذا الحقير؟ إنه كاذب يريد الاستيلاء على الممتلكات التي تركها عمي مختار مستغلاً حماقة تلك الغبية الساذجة في المقابل "
هب صخر من جلسته هو الآخر وقبل أن ينطق سبقته نبض تصرخ بإنفعال: " كفى إياد.. إلى هنا وكفى.. لن أسمح لك بأن تضيف كلمة أخرى تسيء بها لصخر "
صرخ إياد بحقد: " هل تقفين في صف ذلك الحقير؟ هل تحالفينه ضدي أنا.. ابن خالتكِ؟ "
صرخت دون وعي منها: " وهو زوجي "
تعالت الشهقات المستنكرة من جديد حينها وعت نبض لما تفوهت به فلم تشعر بالندم بل بالقهر من الإهانات التي كان إياد يوجهها دون وجه حق إلى صخر فشمخت بذقنها وهي ترد باعتداد: " أجل زوجي.. صخر عقد عليّ قبل وفاة أبي بساعة تقريباً وكان هذا بناءً على رغبة أبي وليس وحده بل كانت هذه أمنية أمي أيضاً "
ران على الجميع الصمت وهم ينظرون لها بدون تصديق حتى قالت هي بصلابة تحسد عليها: " صخر معه حق.. أنا لا أستطيع أن أسافر معكم خالتي فالأولى بي بيت زوجي لذا فأنا... سأبقى هنا.. مع صخر... زوجي "
***

"نبض.. فيما شردتِ بنيتي أحدثكِ منذ وقت "
أجفلت نبض وهي تعود من ذكريات الساعات الماضية لتقول: " آسفة عمتي.. كنت أفكر فيما حدث "
سألتها فاطمة وهي تربت على رأسها: " هل أنتِ نادمة على قراركِ؟ "
ردت نبض بثقة: " بالطبع لا عمتي.. مكاني الصحيح هنا معكِ "
ابتسمت فاطمة تقول بمناكفة: " معي أم مع صخر... زوجكِ؟ "
توردت نبض بخجل وهي ترد: " قلت هذا حتى لا أسمح لهم بالإساءة إليه أكثر.. يكفي ما قالوه عنه "
تنهدت فاطمة تقول: " إياد ابن خالتكِ هذا ذو لسان سليط.. سامحه الله "
قطبت نبض بكآبة تتمتم: " والله أوجعتني اهانته لصخر وكأنه كان يعنيني أنا بكلامه هذا لا هو "
ضمتها فاطمة إلى صدرها وهي تقول بحنان: " نِعم الزوجة أنتِ حبيبتي "
هتفت نبض بتذمر طفولي: " يا عمتي لم أدافع عنه لأنني زوجته "
ضحكت فاطمة وهي تقول: " إذن لماذا؟ "
رمشت بخجل وهي تطرق برأسها هامسة: " لأنه... لأنه فعل لأجلي الكثير وأنا أعده في مكانة يوسف تماما "
طرق صخر الباب فاتجهت فاطمة لتفتح له وهي تكتم ضحكاتها على ما قالته نبض
سألها بعبوس: " هل نامت نبض؟ "
ردت عليه بإبتسامة حنونة: " لا.. لم تنم بعد "
تنحنح بحرج وهو يقول: " حسنا.. هلا تركتنا قليلاً وحدنا عمتي؟ هناك ما أريد مناقشتها به "
اومأت برأسها دون تعقيب وخرجت من الغرفة فدخل هو وأغلق الباب خلفه قبل أن يستند عليه بظهره وقبضتيه خلفه ممسكتان بمقبض الباب
نهضت نبض من جلستها على الفراش ونظرت له بذهول وهي تقول: " ماذا تفعل هنا.. في غرفتي؟ "
تنهد بعمق وهو يترك المقبض ويتقدم نحوها بخطى بطيئة شعرت معها وكأنه يخطو فوق بساط قلبها
توقف مباشرة على بعد خطوة واحدة وبسط كفه أمامها وهو يقول ببساطة: " هاتي يدكِ اليسرى "
نظرت لكفه بتوتر وهي تقول: " ل... لماذا؟ "
زفر بنفاذ صبر يأمرها: " يدكِ نبض "
مدت يدها له ببطء وتردد فسحب كفها بسرعة وخلال لحظة كان بنصرها الأيسر يزينه خاتم رقيق من الألماس، خطف بجمال بريقه أنفاسها فرفعت بصرها له تتمتم: " إنه رائع لكن... ما المناسبة؟ "
ببساطة رد وهو يوليها ظهره متجهاً إلى الباب: " لا تخلعيه أبداً.. إنه خاتم الزواج "
رددت بذهول وهي تنظر إلى الخاتم: " خاتم الزواج! (استوقفته قبل أن يفتح الباب وهي تقول بتعجب) أليس من المفترض أن يكون هناك محابس للزواج وليس خاتم؟ "
التفت برأسه ينظر لها بعينين لامعتين بنظرة غامضة لم تفهمها وهو يقول: " رأيت أنكِ مختلفة وتستحقين شيء مختلف والخاتم أنسب لكِ يا نبض "
اومأت دون فهم وهي تنظر للخاتم من جديد بينما تقول: " كما تشاء "
قطب بغموض يقول: " هل سلمتِ للأمر الواقع بهذه البساطة؟ "
قطبت بحيرة تسأله: " أي أمر؟ "
رد ببساطة: " زواجنا "
عبست وهي ترد بصلابة: " بالطبع لا.. لازلت عند قراري أنا وأنت لابد أن... "
قاطعها ببرود يقول: " تصبحين على خير يا... (وشدد على كلمته التالية ليخبرها أن ما سبق دخوله إليها من حديثها مع العمة فاطمة قد وصله) أخت نبض "
اتسعت عينيها بحرج وهي تشعر باشتعال وجنتيها وهو يفتح الباب لتسمعه قبل أن يخرج يتمتم: " رغم أن ما بدأت أشعر به ناحيتكِ لا يمس للأخوة بصلة "
وضعت كفها على فمها بسرعة تكتم شهقتها وهي تشعر بدقات قلبها تتعالى بطريقة موجعة في حين خرج هو ببساطة وكأنه لم يقل شيء وفي قرارة نفسه لا يعلم السبب الذي دفعه لأن يقول ما قال
هوت على الفراش بحيرة وخجل تفكر، ترى ما الذي بدأ يشعر به ناحيتها؟
دخول فاطمة قطع شرودها وهي تقول: " هيا بنيتي اخلدي للنوم ففي الصباح أمامنا الكثير من الأمور "
اومأت بطاعة دون تعقيب وهي تشعر بالتيه من أفكارها الكثيرة المتداخلة
***

بمجرد أن وصل إلى الفيلا اتجه نحو الدرج ينوي الصعود لغرفته ولكن بعد تسلقه لبضعة درجات لمح ضوء مكتب والده مشعل فقطب بحيرة وهو يعود أدراجه نازلا ومتجها ناحية المكتب
طرق الباب بخفة ودخل بعد أن تلقى الإذن من والده ليرتفع حاجبيه بتعجب وهو يرى جلسة أمه بجوار النافذة المطلة على الحديقة والتي بمجرد أن رأته هبت من جلستها تصيح بتحفز: " ها قد حضر صخر بك أخيراً "
قطب قليلا وهو يغلق الباب خلفه قبل أن يخطو اتجاه أمه قائلا بهدوء: " لم أكن على علم بأنكِ تنتظرينني "
صاحت بإنفعال: " وكيف ستعلم يا بك؟ ها! أخبرني كيف ستعلم وأنت لا تكاد تبقى في بيتك دقيقتين كاملتين.. تمر أيام دون أن أراك حتى "
نظر إلى والده بتساؤل صامت وهو يحاول السيطرة على انفعال أمه الغريب: " اهدئي أمي لا أرى داع لكل هذا الانفعال والصراخ.. متى ما أردت رؤيتي ليس عليكِ سوا أن تطلبيني فآتيكِ في الحال "
رفعت حاجبيها بسخرية تقول: " بهذه البساطة.. أطلبك فتأتيني "
اومأ إيجابا وهو يرد بصبر: " نعم أمي.. بهذه البساطة "
عاد ينظر إلى والده مقطبا يسأله بصمت عما يحدث لكن الأخير هز رأسه بيأس وأشاح ببصره إلى النافذة المفتوحة دون أن يمنحه إجابة واضحة
ومن بين أفكاره المتداخلة وحيرته أجفلته أمه وهي تصرخ بغضب: " قل لي صخر متى كنت ستخبرني عن تلك الزيجة التي أتممتها دون علمي؟ "
كز على أسنانه غيظا وهو يرمق والده بنظرة قاتمة لكن الأخير كان يوليه ظهره فلم يره
رد بعد لحظة بصوت حاول أن يكون هادئا: " في اللحظة المناسبة أمي "
اتسعت عينيها بذهول وهي تردد: " في اللحظة المناسبة! كيف في اللحظة المناسبة؟ لا أفهم "
حرك كتفيه بخفة وهو يرد: " ما الذي لا تفهمينه أمي؟ قلت كنت سأخبركِ في اللحظة المناسبة وبما أن الخبر وصلكِ بالفعل إذن فالأمر أنتهى ولم يعد هناك ما يخفى عليكِ "
صرخت بهياج وهي تضربه في كتفه: " هل أنت مجنون؟ ها! كيف تتكلم عن أمر بهذه الأهمية بتلك البساطة المقيتة؟ بل كيف تخفي عني أمر كهذا؟ "
أحنى رأسه بخفة للأمام وهو ينظر إلى عينيها مباشرة بنظرة قاتمة مشتعلة عكست جنون مشاعره في تلك اللحظة: " ولماذا لا أفعل أمي؟ لماذا لا أخفي بعض الأمور وأحتفظ بها لنفسي؟ هل الأمر حكر عليكِ وحدكِ؟ أنتِ فحسب من يمكنها إخفاء أي شيء لأجل غير مسمى وإما أن تقررين كشفه بعد فترة أو... أو تحكمين عليه بالإعدام حتى ينتهي أجله نهائيا ويظل في محله.. في الظلام ولا أعلم عنه شيء؟ "
تراجعت خطوة للخلف شاحبة الوجه وكلماته تنزل عليها كالسهام لا تكاد تدفع عنها واحدا حتى يصيبها آخر
أقترب منها بشراسة وهو يضيف المزيد بنبرة تنبض بقسوة جارحة وهو يخفض صوته: " أ يجب عقابي لأني تزوجت دون أخذ الإذن من ال 'ماما' خاصتي؟ لأني أخفيت عنها أمرا كبيرا كهذا بينما أنتِ حينما تقررين بأن تخفي عني هويتي وأصلي الحقيقيين فأحيا لسنوات كمغفل لا يعلم عن نفسه أبسط الأمور يتوجب عليّ حينها أن أمنحكِ وسام شكر وتقدير؟ "
قبضت ليال على كفيها إلى جانبيها تدعي الصلابة والتماسك وهي تجابه ابنها: " لقد أتفقنا سابقا على ألا نعيد فتح سيرة الماضي أبدا بكل ما يحمله من خير.. وشر؟ "
قطب ببراءة زائفة يقول: " خير! أوَ هناك نفحة من الخير في ذاك الماضي من الأساس وأنا لا أعرفها؟ "
هزت رأسها بعصبية تقول: " لا.. ليس فيه سوا الألم والألم فقط.. الكثير من الألم "
عض على شفته السفلى بقهر قبل أن يقول: " نعم الكثير يا أمي.. الكثير الذي لا ينضب على ما أظن وكما يبدو أنه لا نهاية له "
رمشت قليلا وهي تختنق بالبكاء الذي تكتمه قائلة بجمود: " لماذا تتطرف لهذا الموضوع كلما حاولت تأنيبك على خطأ فعلته؟ هل تحاول اسكاتي؟ "
رفع حاجبا بإستهزاء وهو يرد: " حاشا لله ليال هانم وهل يستطيع أحد إسكاتكِ عن شيء أشهرتِ ضده سلاحكِ؟ "
إلتفت معتز أخيرا متخليا عن صمته وتباعده قائلا بحزم: " تكلم مع أمك بأسلوب أفضل وأرقى من هذا يا صخر "
كز على أسنانه للحظات قبل أن يقول بغضب مكبوت: " حاضر.. هل من أوامر أخرى.. أبي؟ "
قطب معتز غير راضيا عن طريقة حديثه دون تعقيب فأشاح صخر بوجهه جانبا يحاول تنظيم أفكاره وتهدئة أعصابه وفجأة صدمته أمه بالقول: " طلقها صخر "
صرخ دون شعور منه: " ماذا؟ "
فغر معتز فاها من الصدمة وعلى ما يبدو لم يكن يعرف هو الآخر بهذا القرار الذي اتخذته ليال
جمد صخر مكانه وأخذ يحدق فيها بصمت قطعه صوت معتز مقتربا من ليال وهو يقول: " ما هذا الذي تقولينه ليال؟ "
تكتفت ليال ببرود وهي ترد: " ما سمعته معتز.. يجب أن يطلقها "
وقف معتز مقابلا لها مقطب بضيق وهو يقول: " أقدر غضبكِ منه لإخفاء أمر زواجه عنكِ رغم أني حاولت مرارا أن أشرح لكِ الظروف التي أجبرته على إتمام الأمر سريعا دون الرجوع لأحد لكن ما لا أفهمه هو سبب هذا الطلب الغريب الذي تطلبينه؟ "
بصلف كانت ترفع ذقنها وهي ترد: " ومن قال بأنه طلب؟ إنه أمر "
هتف معتز حانقا: " ليال! هل تمزحين؟ أ تظنين الأمر بهذه البساطة؟ إنه زواج أي مصير فتاة أرتبط بإبنكِ.. هذا الأمر ليس لعبة للتسلية "
ردت ليال بنفس البرود والصلف: " لهذا قلت له أن يطلقها.. هكذا سنكون قطعنا كل الخيوط التي تجمعهما ولن يكن مصيرها مرتبطا به ولحسن الحظ لم تمض على تلك الزيجة سوا بضعة أيام قلائل ولا أظن حدث بينهما شيء "
صرخ معتز منفعلا من حديثها: " ليال هل جُننتِ؟ بما تهذين أنتِ؟ "
صاحت هي في المقابل: " أنا لا أهذي يا معتز.. أنا أعلم جيدا ما أقوله وأدرك توابعه وما لا أفهمه أنا هو السبب الذي يجعلك تناصر هذه الزيجة البائسة؟ "
هتف معتز بغضب وهو يضرب بقبضته على سطح المكتب إلى جواره: " وكيف لا أناصرها؟ من تزوجها ابنكِ تكون نبض.. هل تعلمين من هي نبض؟ (ضرب على المكتب من جديد وهو يصيح بصوت أعلى وأشد انفعالا) إبنة مختار صديق عمري وأخي الذي لم تنجبه أمي.. إبنة الرجل الذي لم يتركني لحظة وحيدًا دون أن يقدم لي دعمه الكامل.. إبنة الرجل الذي ساعدني لأكون ما أنا عليه الآن "
صمت لحظة يلتقط أنفاسه قبل أن يتابع بنفس الصوت: " لم تنفعني نفوذي وثروتي وسلطة عائلتي في شيء حينما كنت أستقبل الحالات الواحدة تلو الأخرى وأتلبك أمامهم وأتلعثم كطفل صغير لا يفقه لغة الكلام.. لم يفيدني تدليل الجميع في شيء حينما كنت أستحل الحرام وأرتكب الخطأ تلو الآخر دون أن أجد من يوقفني عند حدي، من يجبرني على التراجع وإعادة التفكير في كل ما كنت أقوم به في حياتي "
هز رأسه بعصبية وهو يكمل: " لكن مختار رحمه الله فعل.. له الفضل بعد الله ورحمته بي لأصبح معتز الجياد الذي يقف أمامكِ الآن.. له الفضل في كل الصلاح وتقوى النفس التي تجدينني عليها.. له الفضل في تلك الثقة التي باتت تخرج مع كلماتي دون إرادة مني.. كانت لكلماته مفعول السحر عليّ لأستقيم وأتحول من شخص فاقد الثقة بنفسه إلى شخص يمنح الجميع دروسا في أهمية الثقة.. أصبحت مثالا يحتذى به بسبب مختار رحمه الله.. (رفع سبابته في وجهها يقول بصرامة) لذا لا أريدكِ أن تتفوهي بحرف واحد... فقط حرف يا ليال في حق ابنته.. نبض غالية عليّ كنغم تمامًا ومن سيحاول أو يفكر في إزعاجها أنا من سيقف له "
رغم احتقان مقلتيها بدموع الإهانة والغضب إلا إنها هتفت ببرود: " كل ما قلته لا يغير من كلامي مثقال ذرة.. صخر سيطلقها يا معتز "
كاد معتز يرد فبادرت هي تكمل بشراسة: " هل تريدني أن أخسر إبني بعد كل هذه السنوات التي عانيت فيها لأجل إبنة صاحبك؟ هل سترتاح حينما يضيع مني وأفقده؟ "
قطب معتز صارخا: " بالطبع لا.. هل جُننتِ لتفكري بهذه الطريقة؟ صخر إبني أنا الآخر ومحال أن أتسبب في خسارتكِ له أو أفعل ما قد يضيعه منكِ "
تشبثت بمرفقيه برجاء باك وهي تقول: " إذن أجبره على أن يطلقها.. أجعله يقطع صلته بها "
أغمض معتز عينيه يأسا وحيرة بينما انهمرت عبراتها بحرقة وهي تقول بانهيار غير واعية لسيل الكلمات التي تهذي بها: " سأموت بالله إن تركني ورحل.. ليس هو أيضاً.. يكفيني واحد هجرني لن أتحمل خسارة أخرى.. لم أشفى بعد.. سأموت "
فتح معتز عينيه جاحظا وقد سحبت الدماء من وجهه فبات شاحبا كالموتى وهو يردد بقهر ذاهل: " أ لازلتِ تحبينه بعد كل هذه السنوات يا ليال؟ بعد كل ما جرى وكان.. بعد ما فعله بكِ؟ أ لازلتِ تبكينه وتتحسرين على فراقه وهجره لكِ؟ "
شهقت ليال مصعوقة مما تفوهت به فكممت فمها بكفيها وهي تهز رأسها بعنف بينما العبرات تنهمر بغزارة ومعتز يتابع حديثه بوجع: " لازالت ذكراه تحتل كيانكِ، تؤرق منامكِ حتى وأنتِ إلى جواري! لازال هو الحبيب أما أنا... أنا البديل أليس كذلك؟ "
شهقت من جديد وهي تهمهم بقهر: " يا إلهي ماذا فعلت أنا؟ ماذا فعلت؟ والله لم أقصد هذا أبداً "
إبتسم معتز بألم وهو ينظر لها بعشق لا يستطيع دحره: " أتركي ابنكِ يشق طريقه وحده دون تدخل منا يا ليال عساه يحظى بما تمنيته أنا لسنوات ولم يرزقني ربي به.. أتركيه عل جراحه تطيب "
في ظل جدال والديه المحتدم والذي انتهى بفتح بعض صفحات الماضي التي يحاول الجميع نسيانها أو تناسيها لكنها كالمارد تقتنص اللحظة المناسبة لتظهر وتحشر نفسها بين أدق التفاصيل فتعكر صفوها ..كان هو جالسا على أحد الكراسي المنفردة قبالة المكتب واضعا رأسه بين كفيه مغمضا العينين والصداع يضربه من كل جانب ويكاد يفتك برأسه دون رأفة
أما في الخارج؛ كانت نغم تقف مستندة بظهرها على الجدار المجاور لباب المكتب المغلق عينيها تسيل بعبرات حارة غزيرة مصاحبة للكحل الأسود الذي كان يحدد عينيها السوداوتين كعادة لا تنفك عنها
كان وجهها مريعا بعدما لوثه الكحل المختلط بالدموع لكنها لم تبالي به أو بخفض صوت نشيجها، لا تبالي إن رآها أحد وهي تتنصت من خلف الباب، لا تبالي إن رآها أحد بهذا المظهر البشع، لا تبالي بأي شيء وهي في هذه اللحظة لم تكن تشعر بأي شيء سوا بألم شديد يكاد يفتك بها
لا تدري علام تبكي بالضبط؟
تبكي حظها التعيس الذي أوقعها في عائلة فاحشة الثراء فاحشة الكآبة والبؤس على حد سواء؟
أم تبكي تلك المصائب التي تتوالى عليهم فجأة ومن كل جانب؟
أم تبكي قهر والدها على محبوبة لا تُكِن له ما يُكنه لها رغم مرور سنوات طويلة بينهما لم تنسيها محبوبها الأول؟
أم تبكي مرارة الغدر التي لا تزال تقبض على روح أمها فتبقيها أسيرة الماضي رغما عنها؟
أم ربما تبكي حظ ذاك المسكين المُفتت من الداخل كما الخارج وقد ظلمه من سماه صخر؟
كتمت شهقة أخرى كادت أن تفلت منها وهي تشعر بأحدهم يقترب من الباب دون أن تجد القدرة أو الطاقة على الحركة من مكانها أو الإبتعاد
لحظة وفتح صخر الباب، أجفله وجودها وهيئتها الباكية المريعة لوهلة لكنه سرعان ما أستعاد جموده وهو يبتسم لها بسخرية قاتمة متمتما: " حمداً لله أنه لم يفُتكِ أي مشهد من الحلقة اليوم فقد كانت مثيرة وشيقة للغاية.. كوني دومًا بالقرب وترقبي المزيد (ثم غمز لها بطرف عينه مناكفا بمزاج سوداوي وهو يكمل) تصبحين على خير يا بشعة "
***

اليوم التالي (قرابة الظهيرة(
في المدينة الجبلية
كانت تدور في أرجاء البيت وهي تتأمله بإبتسامة رقيقة فأتت فاطمة من خلفها تقول: " ها! ما رأيكِ؟ "
استدارت نبض وهي ترد برقة: " إنه جميل ودافئ.. أشعر به وكأنه بيتي تماماً "
ربتت فاطمة على وجنتها بحنان تقول: " إنه كذلك بالفعل حبيبتي "
اتسعت ابتسامة نبض بينما اردفت فاطمة بحزم أموي: " هيا اذهبي إلى غرفتكِ.. رتبي اغراضكِ وملابسكِ في خزانتكِ حتى أنتهي من إعداد الغداء "
كتمت نبض ضحكتها وهي ترفع يدها تؤدي التحية العسكرية بينما تقول: " أمركِ سيدتي.. علم وينفذ في الحال "
***

بعد ساعة
خرجت من الحمام بعدما رتبت بقية اغراضها وهي تحدث نفسها: " سأبدل ملابسي سريعا وألحق بعمتي حتى أساعدها في... في... "
تسمرت قدميها في مكانها ولم تجد القدرة حتى على التفوه بحرف وهي تفلت الطوق المطاط الذي كانت على وشك ربط شعرها به ليسقط من يدها على الأرض
اتسعت عينيها بصدمة من وجوده في غرفتها ومن حيث لا تدري كانت دموعها تنهمر كالشلالات على وجنتيها
وهو لم ينطق بحرف في المقابل، كان يفترض به أن يشيح بوجهه عنها لكنه لم يستطع فعلها فظلت عينيه مثبتتين على خاصتها بدون إرادة منه
بعد لحظة تمتمت بغضب مكبوت وصوتها يختنق بغصة البكاء: " من سمح لك بدخول غرفتي دون إذني؟ "
رد هو ببرود مصطنع: " لست في حاجة لأخذ الإذن أنا... "
لم تدعه يكمل جملته وصرخت بشراسة: " أخرج حالاً.. لا أريد رؤيتك "
أتت فاطمة على صوت صرختها فطرقت الباب مرة واحدة قبل أن تفتحه لتشهق بصدمة من وجود صخر مع نبض في غرفة الأخيرة فلم تجد ما تقوله
كانت نبض تشهق وهي تنظر له بقهر بينما عادت تصرخ من جديد: " ألم تسمعني؟ قلت أخرج من غرفتي "
افاقت فاطمة من تسمرها واقتربت من صخر تدفعه للخارج وهي تتمتم بضيق: " ماذا فعلت يا أحمق؟ اخفتها منك أيها الفظ.. أخرج سامحك الله "
هوت نبض على الفراش تبكي بقهر وغضب منه وهي تقول: " ماذا أفعل يا ربي؟ ماذا أفعل؟ "
نهضت بعد لحظات وهي تمسح دموعها بعنف بينما تتمتم بصلابة: " تحلي بالقوة يا نبض فأنتِ بحاجة إليها الآن أكثر من أي وقت مضى.. لا شيء يستحق كل هذا البكاء فهو زوجكِ وعلى أي حال هو لم يرى سوا شعركِ فقط.. (عادت دموعها تنهمر من جديد فتابعت بصوت مختنق) رغم أنه ليس من حقه التهجم على خصوصياتكِ بهذه الطريقة إلا إنه يظل زوجكِ.. اهدئي "
***

خرجت من غرفتها بعد قليل وقد ارتدت حجابها متوجهة إلى المطبخ حيث سمعت صوت فاطمة يأتي من هناك
كان هو يقف على الباب بوضع مائل وإحدى قدميه مرفوعة ومستندة على الحائط من خلفه بينما ساعديه معقودين أمام صدره
ما إن وصلت إلى الباب الذي كان هو يسده بضخامة جسده حتى توقفت خطواتها دون أن تتكلم وظنته سيفسح لها مكانا لتمر دون أن تطلب منه لكنه لم يفعل بل رمقها بنظرة شملتها من رأسها حتى اخمص قدميها قبل أن يشيح بوجهه عنها ويعود للحديث مع فاطمة دون أن يبالي بها
ظلت هي على وقوفها الصامت أمامه تتململ لكن دون أن تتفوه بحرف في حين انهمك هو في الكلام بجدية ويبدو أنه نساها من الأساس في خضم حديثه وحينما فتحت فمها لتطلب منه أن يبتعد لتدخل سمعت فاطمة تقول: " لا أحبذ وجودك هنا وخاصة في هذه الساعة.. تعلم أنه في أي لحظة قد يأتيني أحد "
ابتسم بتهكم وهو يقول: " بالطبع أعرف أن بيتكِ يعد ملجأ ومزار عام للجميع "
تنهدت فاطمة تقول: " ورغم ذلك لازلت هنا وقد أتفقنا ألا تأتي أبدا حتى لا يعلم أحد بزواجك من نبض إلى أن تقرر هي ذلك "
رد ببساطة مغيظة: " أنا جائع.. هل تريدينني أن أرحل قبل أن أتناول غدائي؟ "
إلتفتت له فاطمة وسألته بجدية ودون مواراة: " ما الذي جاء بكَ إلى هنا يا صخر؟ لقد كنت واضحة من البداية حينما رفضت بشكل قاطع أن تصاحبني ونبض لأفاجئ بعد وصولنا أنكَ هنا.. جئت دون أن تعطي لكلامي أي أهمية "
قطب صخر وهو يرد بغموض: " جئت لأطمئن على أمانتي.. ما كنت لأدعها تبتعد عني قبل أن أؤمن مكانها أولاً "
زفرت فاطمة تقول: " كم مرة عليّ أن أخبرك أن تطمئن لأنها ستكون في أمان معي.. ولا تخف إن حدث أمر يستدعي التدخل من أحد فسوف أخبر زيد أو أياً من أبناء الجبالية ليساعدنا "
صرخ صخر بوحشية: " وما فائدة وجودي في الحياة حينها إن كنتِ ستطلبين من آخر حماية زوجتي؟ "
إلتفتت عنه وأولته ظهرها وهي تتشاغل بإعداد الطعام بينما تتمتم ببرود مصطنع: " أصبحت كثير التغني بتلك الكلمة ألا ترى ذلك؟ "
اجفلتها ضربته العنيفة بقبضته على الباب وهو يهدر بغضب: " ولما لا أتغنى بها أليست صدقاً؟ "
ردت ببرود مستفز: " الفتاة لا تريدك.. وكما تعرف هي طلبت منكَ الطلاق قبل رحيلها من العاصمة إن كنت نسيت هذا "
نسى حقاً وقوفها إلى جواره بفعل استفزاز فاطمة له فهتف بوحشية: " أنا لا أبالي بها أو بما تطلبه من الأساس.. إنها لي من قبل أن تولد حتى.. فلتضرب رأسها بأول حائط يقابلها إن لم تفهم ما قلته لأنني في كل الحالات لن أطلقها أو أحررها مني ما دام في صدري نفسا يتردد.. ستبقى لي شاءت أم أبت "
كانت نبض ترتعد خوفاً من نبرته القاسية وحينما قررت الابتعاد من أمامه فاجئها بأن التفت لها وقبض على مرفقها وهو يقربها منه قائلاً بنبرة قاتمة وصوت مخيف: " لا تعيديها ثانية يا نبض.. قد أسامح في أي شيء من أي شخص لكنني أبداً.. أبداً لن أسامحكِ إن كان الخطأ منكِ أنتِ.. احذريني فأنا لا أريد ايذائكِ.. أنتِ دون البشر كافة لا أريد ايذائكِ فلا تجبرينني على ذلك.. هل فهمتِ؟ "
اومأت بسرعة وطاعة حتى تفلت من مواجهته وجسدها يختض بخوف وهي ترى بريق غامض مخيف في عينيه ولم ينجدها منه سوا صوت فاطمة الهادئ وهي تقول: " الغداء جاهز "
قطب صخر بجمود وهو يرد: " لقد شبعت (ثم خفض بصره إلى نبض وركز مقلتيه للحظات على خاصتيها التي تسبلهما بخجل ثم سحب كفها ورفعه إلى شفتيه مقبلاً باطنه برقة وهو يهمس بصوت أجش) اعتني بنفسكِ وكوني بخير.. لأجلي يا صغيرة "
ترك يدها بسرعة ودون إضافة المزيد كان يتحرك بخطى واسعة للخارج فاستدارت نبض تطالعه بذهول مما حدث لتفيق من صدمتها مع اختفائه من أمامها لتهتف بقلق: " يا مجنون انتظر "
ركضت خلفه حتى لحقت به فاستوقفته بسرعة تقول: " انتظر.. لا ترحل الآن "
توقف بالفعل واستدار لها يقول بحيرة: " هل تريدني أن أبقى معكِ؟ "
توردت نبض وشعرت بالحرج من سؤاله فردت بتلعثم: " لا.. أقصد نعم.. لا... لا أقصد ذلك "
تنهد صخر بعمق وهو يقول: " نعم أم لا؟ "
فركت نبض كفيها إليه بتوتر وهي ترد: " لا أريدك أن تذهب الآن ماذا إن رآك أحد؟ "
ابتسم صخر وهو يقول بمرارة تمكنت منه: " لا تخافي من تلك الناحية فعلى أي حال لا أحد يعرفني "
ردت بعبوس: " ورغم ذلك الحرص واجب.. لما لا تنتظر حتى المساء؟ "
تنهد صخر وهو يرد: " لأنني مشغول يا نبض.. هناك الكثير من الأعمال معطلة منذ بضعة أيام وعليّ انهائها اليوم "
عقدت ساعديها أمام صدرها لتقول بإقتضاب: " وهل هذه الأعمال متعلقة بعملك الأساسي دكتور صخر أم بعملك الغير أساسي والمتطرف؟ "
حاول صخر أن يتهرب من الإجابة بأن قال مناكفا إياها: " تبدين زوجة من الطراز التقليدي للأسف.. لم أظنكِ هكذا أبداً "
رفعت حاجباً ببرود تقول: " أنا لست زوجة أحد ولا انتمي لأي طراز.. أما عن سؤالي والذي تهربت من الرد عليه فلا داعي لأن تشغل عقلك به لأن الرد قد وصلني سيد صخر "
أولته ظهرها تهم بالعودة للبيت فأسرع خلفها حتى أمسك مرفقها يقول: " نبض أنا... "
قاطعته وهي تقول بضيق: " قلت لك سابقاً لا أحب أن يلمسني أحد.. أفلت يدي صخر "
لم يتمادى صخر في عنادها بل أفلت يدها بهدوء وهو يعود خطوة للخلف قائلاً بصوت بارد: " أدخلي نبض وكفي عن ملاحقتي "
عقدت ساعديها أمام صدرها وهي ترد بترفع وكبرياء: " ملاحقتك! يبدو أن هناك من الأمور ما اختلط عليك سيد صخر وليكن في علمك فقط أنا لا الأحق أحد "
أولته ظهرها تهم بالدخول فاستوقفها صوته وهو يسأل بإلحاح: " نبض.. لماذا تتهربين من النظر إلى عينيّ؟ "
تسمرت مكانها لوهلة وظنها لن تجيبه ليصله صوتها بعد لحظة أخرى مكتوما لا يعرف بغصة البكاء أم الغضب وهي تقول: " فعلت مرة ولم ينالني منهما سوا الخذلان إن كنت تذكر وأنا لستُ غبية لأعيد الكرة وجرحي لم يندمل بعد وفي داخلي نزيف يحتاج لدهر ربما حتى يتوقف "
ودون أن تمنحه فرصة ليستفسر منها عن قصدها كانت تهرول بعيداً عنه وبضعة دمعات تنفرط عقدتها كحبات اللآلئ على وجنتيها
أما هو فلم يكن في حاجة ليسألها عما تعنيه فقد وهبه الله عقل مهما مرت عليه من سنين وتعاقبت عليه الأحداث فإنه لا يفقد ولو لمحة بسيطة مما مر عليه يوماً وتذكر ما قصدته بجملتها الكئيبة وليته ما فعل
صباح العيد
كانت تدور حول نفسها كفراشة للتو اكتشفت أنها تملك أجمل جناحين يمكنانها من الطيران والتحليق بعيداً في الأفق الواسع الفسيح
كانت طيات فستانها المنفوش الذي حرصت أمها على اختياره كفساتين الأميرات تدور بتموج حول ساقيها فتتعالى على إثرها ضحكاتها السعيدة
شعرها الطويل الكث يتطاير معها ومن حولها فيشكل غمامة تحجب عنه ملامحها التي لم يعد يفعل شيء في الفترة الأخيرة سوا تأملها وتفحصها وكأنها أعظم إكتشاف على وجه الأرض
يحب رؤيتها سعيدة حتى يرى بريق عينيها الخاطف الذي يلمع كما النجوم في وسط السماء
كان شاردا في أفكاره وتأملاته التي تدور في فلكها حتى لاحظ فجأة أنها توقفت عن الدوران حول نفسها وباتت تقف أمامه وهي تشبك أصابع كفيها خلف ظهرها بينما تستطيل على أطراف قدميها وتنظر بطريقتها الخاصة التي لم يعتد عليها بعد
حينما تتحدث مع أحد فإنها تنظر إلى عمق عينيه وكأنها تريد اختراق دواخله لتتمكن من معرفة الصدق والكذب في حديثه
ولازال هو كلما نظرت له بتلك الطريقة يتلعثم في البداية ككل مرة حتى يتمكن في لحظة معينة من استجماع أعصابه والتحدث معها بطريقة سلسة هادئة
سألته بترقب: " ما رأيك في فستاني الجديد؟ "
اتسعت عينيه قليلاً وهو يرد بتوتر: " رأيي أنا؟ آه إنه جميل.. يبدو جميلا "
برمت شفتيها ببؤس وهي تقول: " يمكنك أن تخبرني أنه بشع لن أحزن لكن.. لا تكذب فهذا يحزنني أكثر "
فغر فاهه بذهول وهو يرى ترقرق العبرات في عينيها قبل أن توليه ظهرها وتخطو ناحية غرفتها دون إضافة المزيد وقد تهدل كتفيها ببؤس وكآبة
كاد يلحق بها حتى يراضيها ويخبرها أنها أجمل أميرة رآها في حياته لكن عمه مختار استوقفه يقول: " لقد ظهرت نتيجة الثانوية العامة "
بثقة بالغة رد: " ومتى ستذهب مع أبي لتسجلا أوراقي في كلية الطب عماه؟ "
قهقه مختار وهو يربت على كتفه قائلاً: " أحب ثقتك هذه يا ولد صدقا تمنحني الأمل "
ابتسم بصمت دون أن يعقب بشيء فقطب مختار يقول: " ولكني ظننت نبض أخبرتك "
سأل بدهشة: " نبض! هل تعلم نبض عن نتيجتي؟ "
اومأ مختار يقول ضاحكاً: " وماذا برأيك يكون سر سعادتها غير ذلك؟ "
فتح فمه ببلاهة وهو يقول: " ظننتها سعيدة بالفستان الجديد "
قطب مختار وهو يقول بصدق: " بل هي تكاد تطير من السعادة لأنك حققت حلمك حتى أنها أحضرت لكَ هدية وأخبرتني أنها ستعطيك إياها بعد قليل "
شعر بشعاع يضوي بداخله والحماسة تدب في اوصاله فجأة فاستأذن من مختار وهرول إلى غرفتها سعيداً
وجد الباب مفتوحا فدخل بهدوء وفي لحظة كانت سعادته تذهب أدراج الرياح حينما دخل ووجد وجهها المبلل بالدموع ولم يكن هذا سبب تبدل حاله بالكامل بل رؤيته ﻹياد.. ذلك السمج ابن خالتها كان يجلس إلى جوارها على الفراش ويحاول اضحاكها
تسمر في مكانه عند الباب دون أن يدخل أو يخرج ولم يلاحظه أياً منهما، وظل واقفاً ينظر إليها وهي تزم شفتيها ودموعها كشلالات تنهمر دون توقف وذلك ال 'إياد' يلقي عليها بنكاته وطرفه السمجة دون أن تلتفت له أو تضحك على ما يقول
بعد لحظات قليلة كان يصيح إياد بنزق: " أوف.. كفاكِ بكاءً نبض.. لا تكوني كئيبة هكذا.. كل هذا لأجل ذلك البغيض صخر لأن فستانكِ لم يعجبه؟ "
ردت عليه بصوت مختنق: " من قال هذا؟ لقد أعجبه فستاني وأخبرني أنه جميل "
ابتسم إياد بسخرية وهو يقول: " آه فعلاً.. لاحظت ذلك بنفسي "
أشاحت بوجهها عنه وهي تقول بنفس النبرة: " لا تتحدث هكذا عنه وإلا سأغضب منكَ إياد "
رد إياد بلامبالاة: " إنه لا يستحق أن تدافعين عنه "
نظرت له نبض بعبوس رغم براءة نبرتها: " بلى يستحق.. أنا أحبه "
ابتسم ببرود يقول: " لكنه لا يحبكِ يا مسكينة هو فقط يشفق عليكِ "
صرخت نبض بغيظ: " بالطبع لا يشفق عليّ! ولماذا سيفعل؟ إنه... "
لم تكمل حديثها حتى شهقت بتوجع حينما ضربها على جانب رأسها بخشونة وهو يصرخ في وجهها بحنق: " أيتها الغبية الحمقاء من أين لكِ بكل هذه البلاهة؟ ها! ألا ترين إهتمام الجميع به ومبالغتهم في رعايته حتى والديكِ يهملانكِ أنتِ وذلك اللقيط يوسف لأجله؟ لأنه مميز خبيث يعلم كيف يجمع الكل من حوله ويحركهم كالدمى كما يشاء "
كانت تنتفض وجسدها يختض في بكاء مكتوم وعينيها تلمعان بالخوف والرفض لما يقول وفي لحظة ما كانت تلتفت برأسها وتسلط أنظارها على الباب حيث يقف، نظرت له باستجداء وتوسل حتى يتكلم وينفي ما قاله إياد لكنه بدلاً من ذلك أشاح بوجهه عنها وخرج من الغرفة
خذلها ولم يدافع عن نفسه كما تمنت!
خذلها ولم يمنع عنها كلمات إياد الجارحة!
خذلها وما أبشع ألم الخذلان ممن تحب!..

***

صباح اليوم التالي
على مائدة الطعام المستطيلة التي تحمل مما لذ وطاب كانت العائلة تلتف حولها كل واحدا منهم متخذ مجلسه الذي لا يتغير
الجد على رأس المائدة ومن جواره على اليمين ابنه خالد يليه أولاده 'قاسم، ياسين، فرح' على الترتيب وإلى جوارها تجلس حياة تليها ملك
أما على الناحية الأخرى يساره يجلس سليم والى جواره ابنه زيد ثم يتبعه كرسي شاغر يحتله الفراغ ومن بعده يجلس عاصم ثم زوجته حفصة ويليها حمزة ثم زوجته زهراء
كان كل واحد منهم يتناول فطوره بصمت اعتاده الجميع أثناء تناول الطعام ليقطع عبد الرحمن ذلك الصمت على غير العادة ناظرا لحمزة وهو يقول بهدوء: " لازلت لا أفهم سبب عودتكما بتلك السرعة.. هل بينكما خلاف؟ "
نظر حمزة بطرف عينه إلى زوجته قبل أن يرد على جده بجمود: " لا تشغل بالك بنا يا جدي فخلافاتنا لا تنتهي "
قطب الجد يقول: " أفصح يا حمزة.. ماذا حدث؟ "
اشتدت قبضته تصلبا وهو يرد: " صدقني جدي الأمر تافه وسنحله سويا "
نظرت حياة لحفصة بتساؤل صامت ردت عليه الأخيرة بهزة بسيطة من رأسها علامة أنها لا تعرف
فجأة تكلمت ملك بكآبتها التي لم تزول منذ ما يقارب الأسبوع: " ومن منا خالي من الهموم والمشكلات؟ دعهما يا جدي يحلان مشاكلهما وحدهما فحينما نتدخل عادة نخرب الأمور ونزيدها سوءًا "
كاد عبد الرحمن أن يتكلم حينما سبقه دخول أحد حراس الدار يُهرول بتوتر ناحيته قبل أن يميل على أذنه يخبره بشيء تغيرت له ملامحه إلى الصدمة والحزن
بعدما خرج الحارس نهضت ملك من مكانها وهي تشعر بأن هناك أخبار سيئة في طريقها إليهم لكنها لم تكن في حالة تسمح لها بسماع أي شيء
سأل خالد والده في نفس اللحظة: " ما بكَ يا أبي؟ ماذا حدث؟ "
رد عبد الرحمن بحزن شديد: " الدكتور مختار توفى وزوجته في حادث سيارة صباح اليوم التالي لعرس حمزة وزهراء "
تسمرت ملك مكانها على بعد خطوات منهم بينما تعالت شهقات وهمهمات من حولها بالحوقلة والاسترجاع
شحوب تام اعتلى ملامح الجميع وتركهم موتى على قيد الحياة
إلتفتت ببطء تنظر إلى جدها تحاول بصعوبة أن تتماسك حتى تخرج منها الكلمات بشكل واضح ومفهوم: " عمن تتحدث بالضبط يا جدي؟ "
رد الجد بتنهيد حزين: " عن الدكتور مختار زين الدين أخا الشيخ عبد الله رحمه الله "
قال سليم بألم: " إنا لله وإنا إليه راجعون.. رحمة الله عليه "
بينما أطرق خالد برأسه يغمغم بوجوم: " انقطع آخر خيط يمده بالحياة والقوة.. من له الآن سواك يا الله؟ "
تعالت شهقات الفتيات بالبكاء وفجأة صرخت ملك بشراسة وهي تضرب بكفيها على المنضدة: " أسكتوا.. لا أحد يبكي فهذه كذبة.. عمي مختار لازال حي.. أخبرني أن أنتظره لأنه سيعود لأجلي "
نهضت حياة من مكانها تقترب منها قائلة من بين شهقاتها الحارقة: " لن يعود يا ملك.. لقد رحل "
رمشت ملك بذهول وتيه وهي تحدق في عيني أختها كمجنونة فقدت عقلها قبل أن تقول بحشرجة: " رحل.. تقصدين أنه تركني هو الآخر؟ "
اومأت حياة وهي تضمها بقوة مربتة على ظهرها تواسيها وتواسي نفسها: " لكل أجل كتاب يا ملك "
صرخت ملك بحرقة وهي تنهار باكية بين ذراعي أختها: " فقد آخر يا حياة.. شخص آخر خطفه الموت مني.. تيتمت ثانية يا حياة.. فقدت الأمل الأخير "
سقطت ملك على ركبتيها أرضا فنزلت معها حياة ولازالت تشدد على ضمها إليها بينما الأولى تهذى بمرارة: " كنت أشعر بأن تلك الغيوم التي تغطي السماء لن تنقشع إلا وإن أخذت معها عزيز لدي.. كنت أعلم أن وجع الفقد آتٍ لا محالة "
ضم قاسم زوجته يحاول أن يهدئها وفعل حمزة المثل مع زهراء بينما فرح ارتمت بين ذراعي أخوها ياسين الذي لم تفارق نظراته هيئة ملك المنهارة
هب قاسم من جلسته فجأة وتقدم من الأختين يجلس القرفصاء أمامهما وبهدوء مد يده يرفع وجه ملك إليه وهو يقول بحنان: " كيف تقولين أنكِ تيتمت يا ملاك؟ وما الفائدة من وجودنا حولك إذن؟ "
ردت ملك بلوعة: " لا أشعر بينكم بما أتمناه.. ومن وجدت ضالتي لديه رحل وتركني خلفه.. عدت فارغة اليدين.. عدت لنقطة الصفر من جديد يا قاسم "
قطب بألم نضحت به نظراته وهو ينظر إلى حياة التي تكتم شهقاتها ببسالة فهمس لها بوجع لحالها: " لا أراني الله فيكِ مكروه يا حياة الروح "
نهض زيد من مكانه بجمود وهو ينظر إلى والده مقطبا يسأله بصمت عما سيفعلونه لاحقا بعدما رحل مختار وأصبحت الأمانة بلا حامي فأشاح سليم بوجهه عنه دون رد وهو يشعر بالضياع
***

في المساء
كانت شمس تجلس حزينة في حديقة الفيلا وقد أنهت للتو الحديث مع فرح والتي أخبرتها عن الأحداث المأساوية التي حدثت
في تلك اللحظة دخل أنس وهو يدندن بلحن ما بينما يتلاعب بمفاتيحه بين أصابعه وحينما رآها من بعيد تجلس وحدها تحرك ناحيتها بإبتسامة واسعة بدأت تتقلص وهو يرى بضعة دمعات تنهمر على وجنتها
" ما بك حبيبتي؟ هل ازعجتكِ أمي مرة أخرى؟ "
اومأت سلبا وهي ترد بحشرجة بكاء مكتوم: " ليست عمتي مروة السبب يا أنس "
قطب بقلق وهو يجلس إلى جوارها، يسألها: " هل حدث شيء عند عائلة أمكِ؟ "
اومأت سلبا من جديد وهي تقول: " لا.. كلهم بخير "
تنهد بحيرة وهو يقول: " إذن لما البكاء يا شمس؟ "
شهقت قبل أن ترد: " الدكتور مختار توفى قبل أيام "
قطب بذهول يتمتم: " قبل أيام! كيف؟ لقد عرفني عليه قاسم ابن خالكِ ليلة عرس حمزة والتي لم يمض عليها أسبوع "
بكت شمس وهي ترد بحزن: " فرح أخبرتني أنه مات في حادث سيارة هو وزوجته صباح اليوم التالي للعرس "
تأوه أنس بحزن وهو يغمغم: " يا الله! لا حول ولا قوة إلا بالله.. إنا لله وإنا إليه راجعون "
ربت على شعرها بحنان وهو يقول: " رحمه الله.. حزنت جدا للخبر "
قالت من بين شهقات بكائها: " لديه ابنة تصغرني ببضعة سنوات.. المسكينة أصبحت وحيدة تماما يا أنس.. ليس لها بعد والديها أحد "
تنهد أنس بكآبة وهو يرد: " لها الله يا شمس "
رفعت رأسها تنظر له بكآبة مماثلة وهي تقول: " فرح أخبرتني أن ملك منهارة للغاية.. لقد كانت متعلقة به كثيرا وتعتبره بمثابة والدها "
رد أنس ببسمة صغيرة حزينة: " من حقها أن تتعلق به إذ كنتِ أنتِ تبكينه ولم ترينه من قبل سوا مرة وأنا أشعر بالحزن عليه وكأنني كنت أعرفه منذ زمن بعيد رغم أني لم أتكلم معه سوا لخمس دقائق فحسب "
نظرت له بأسى تقول: " ترى كيف حال نبض؟ "
قطب بعدم فهم يقول: " نبض! من نبض هذه؟ "
تنهدت شمس وهي تجيبه: " ابنته يا أنس "
هز رأسه بخفة وهو يرد: " لا أعلم ولكنني أتمنى أن تكون بخير.. فمصابها أليم "
***

وقفت نبض في شرفة الغرفة التي أصبحت ملكا لها منذ انتقلت مع العمة فاطمة إلى بيتها
كانت تمسك بحافة السور وهي ترفع رأسها تتطلع إلى قرص القمر المكتمل بانبهار
يتوسط السماء ببهاء فينير كل ظلام حوله ويبدد غيم كل ما يحيط به، يبعث السكينة والاطمئنان في كل نفس مكبلة بالمآسي والهموم
ابتسمت له برقة عذبة وهي تتحدث إليه: " لا تحزن لرحيل رفيقة دربك.. لن تكن وحيد من بعدها.. لن أدعك تضيع مثلما ضعت أنا وتيتمت من بعدها.. سأكون أنا لك منذ اليوم الرفيقة ما رأيك؟ "
مالت برأسها قليلا جانبا وهي تبتسم باتساع مستمرة في حديثها بحماس: " منذ اليوم سأشركك معي في كل لحظة أمر بها وكل فكرة تخطر لي.. سأحكي لك كل شيء كما كانت الملكة مريم تفعل.. سنفرح معا، ونضحك معا، ونتناقش سويا في كل شيء لكن اعذرني يا صديقي فهناك ما لن أستطيع أن أشاركك فيه معي "
انحسرت بسمتها قليلا وهي تقطب بكآبة وتطرق رأسها للأرض قائلة: " سأتحمل وحدي الألم وأحمله بداخلي في أبعد زاوية من زوايا روحي حتى أخفيه عن الجميع.. حتى لا يشاركني أحد فيه كما أعتدت أن أفعل "
رفعت رأسها بعد لحظات تطالعه ببسمة حزينة وهي تقول بشوق وقد فرت منها دمعة يتيمة كحالها: " إن قابلت طيفها أبلغها سلامي وأخبرها أنها رحلت عن أرضي لكنها ساطعة في سمائي، أخبرها أن تسلم لي على أبي وتقبله عني.. وأخبرها أني أنتظرها بشوق لتزور منامي "
***

غمرها عطره وهو يجلس إلى جوارها على تلك الأرجوحة التي ظلت محتفظة بمكانتها في الحديقة رغم اختلاف حال أشياء كثيرة بمرور الزمن تاركا مسافة بقدر بضعة سنتيمترات قليلة بينهما
كانت تحيط نفسها بذراعيها تستمد من ذاتها قوة تجعلها تبقى صامدة في وجه العواصف العاتية التي تضربها من كل صوب وناحية
أما هو فقد وضع كفيه في جيبي سترته رافعا رأسه يطالع القمر بصمت وصبر طويل
مرت قرابة النصف ساعة وهما على هذا الحال حتى إلتفتت برأسها إليه تنظر له بسكينة وهي تقول: " أنا أتألم "
تحركت عضلة في فكة بتصلب لوهلة قبل أن يرد بلامبالاة مقصودة: " الكل يملك نصيبه من الألم لستِ وحدكِ من تتألمين "
رمشت قليلا قبل أن ترد عليه بصوت متحشرج: " لكن الألم بداخلي كبير.. يحتلني حتى الصميم "
جمدت ملامحه وكأنه تحول لتمثال من الشمع بينما يرد ببرود قاس: " لا تبالغي حياة فتلك الصورة الضعيفة التي ترسمينها لنفسكِ لا تليق بكِ "
زمت شفتيها بقوة تمنع نفسها من الصراخ فيه حتى تكلمت بعد لحظات بحرقة: " وهل لو أخبرتك بأن قلبي يحترق ستصدقني حينها؟ "
قطب بشدة وهو يكز على أسنانه بصورة واضحة فتابعت حياة بغصة بكاء في صوتها: " نعم يحترق.. أشعر بالدم في عروقي يغلي حسرة ومرارة وليس غضبا هذه المرة.. أشعر بأن تلك الضربة التي تلقيتها صباحا حطمت ما تبقى لي من قوة وأهدرت كل تماسكي الذي ظللت لسنوات أبنيه "
نظر لعمق عينيها البندقيتين وهو يقول بحدة من بين أسنانه: " لأنكِ غبية.. ظللتِ لسنوات تحبسين نفسكِ في قمقم، تقيدين يديكِ إلى جانبيكِ وتغطين عينيكِ، تمنعين نفسكِ عن... عن... اللعنة يا حياة.. إن بقيت معكِ للحظة أخرى فإما سأقتلكِ أو سأقتل نفسي "
هب من جلسته بغضب فهرعت خلفه تتشبث بذراعه كطفلة صغيرة وهي تقول باكية: " نعم أعترف أنني غبية، حمقاء وأي شيء آخر تراه لكن... لكن يا قاسم والله لم أتعمد هذا وإنما فعلته مرغمة "
نظر لها بغضب دون تعقيب فتابعت وهي تهز رأسها بعصبية تشهق بالبكاء بينما تقول: " نعم مرغمة.. سجنت نفسي في قمقم حتى لا أصل إلى قلعتك وقيدت يدي إلى جانبي حتى لا أمسك يدك وغطيت عيني عن رؤيتك حتى لا أضعف.. أنت لا تفهم يا قاسم أنني لأجل أن أفعل هذا أخسر الكثير.. لأجل أن أظهر أمامك بهذا التماسك واللامبالاة أبذل جهد مضاعف يستنزف من طاقتي الكثير "
صرخ قاسم فيها بشراسة: " ومن طلب منكِ فعل كل هذا؟ من طلب منكِ الظهور بشخصية ليست لكِ؟ "
صرخت هي الأخرى بإنفعال والدموع تنهمر من عينيها كشلالات لا تنضب: " لا أستطيع أن أحيا سعيدة ونار قلبي لم تنطفئ بعد.. لا أستطيع أن أحيا بسلام وأنا أشعر بالخوف من نفسي ومن كل شيء يحيط بي.. لا أستطيع أن أحبك أكثر لأنني... لأنني جبانة تخاف على نفسها من حبك "
قطب بصدمة وهو يتمتم: " تخافين مني أنا يا حياة؟ من حبي لكِ؟ "
اومأت بعصبية وهي ترد: " نعم أخاف من حبك لأنه طوفان يا قاسم.. حبك طوفان.. إن فتحت له أبوابي سيطفئ ناري وأنا أريدها مشتعلة حتى آخذ بثأر أبي "
صرخ بغضب: " لقد جُننتِ يا حياة "
صرخت هي الأخرى: " نعم جُننت.. جُننت منذ زمن بعيد ولا أريد أن أتعافى من جنوني هذا حتى أحصل على ما أريد "
قال بعنف من بين أسنانه: " والثأر هو ما تريدينه؟ "
ردت بشراسة وهي تكتم شهقتها: " نعم هذا ما أريده وسأحصل عليه يا قاسم عاجلا أو آجلا "
أنهت جملتها وتركته خلفها يسب ويلعن ودخلت هي إلى الدار راكضة، تكتم بقية شهقاتها بكفها
وقف قاسم عاقد الجبين يصر على أسنانه من الغضب وقبضتيه متشنجتين إلى جانبيه وهو يقول بصوت متصلب: " تحتاجين لصعقة كهربائية عالية حتى تعودين إلى رشدكِ وتتراجعين عن تفكيركِ المسموم هذا يا حياة ورغم أنني سأتضرر قبلكِ إلا أنني سأفعلها لأجلكِ وليكن ما سيكون بعدها "
***

حينما عاد في ساعة متأخرة من المستشفى كان منهوك القوى بالكاد يستطيع تحريك أصابع يده وهو يفتح باب الشقة وحينما سمع صوت مفتاحه يعلن بترحيب فتح الباب ندت عنه تنهيدة راحة طويلة
لم يكد يخطو بقدميه إلى الداخل حتى كان يستدير شاهقا مجفلا من تلك الأصابع النحيلة التي ربتت بخفة على كتفه
لتجحظ عينيه بصدمة أكبر من أي شعور قد يخالطه في تلك اللحظة وهو يراها تقف أمامه بهيئتها المخيفة وهي تتشح بالسواد وتحدد عينيها بكحل أسود ثقيل
رمش عدة مرات ظانا أنه يتوهم وجودها لكن صورتها التي ظلت أمام عينيه دون أن تتحرك أو تتلاشى أكدت له حقيقة وجودها بالفعل
فتح فمه ببلاهة لتسبقه هي مبادرة بالكلام وهي تحييه ببساطة: " مرحبا "
قطب وشعور الصدمة والذهول لم يغادره بعد: " كم الساعة الآن؟ "
رآها ببساطة تخفض بصرها متطلعة في شاشة هاتفها الذي أضاءته للتو قبل أن ترفع رأسها تجيبه بنفس البساطة: " الثانية عشر "
قال بتقرير: " منتصف الليل "
اومأت برأسها وهي تبتسم قائلة بتهكم: " ألا تستضيف لديك أي زوار بعد التاسعة مثلا؟ "
تنحنح بحرج وهو يحاول أن يجلي عنه أي فكرة الآن حتى يفهم سبب وجودها هنا في هذه الساعة
سألها بهدوء وهو يتحاشى النظر لعينيها: " ليس هذا ما قصدته ولكن الوقت تأخر بالفعل "
حركت كتفيها بخفة وهي ترد: " ليس بعد.. لا تبالغ "
قطب بحيرة وهو ينظر إليها سائلا بتهذيب: " هلا أخبرتني إذا سمحتِ عن سر زيارتكِ لي في هذا الوقت؟ "
ردت بسؤال آخر: " هنا! على الباب؟ ألن تسمح لي حتى بالدخول وتقدم لي أي مشروب من باب الذوق واللباقة؟ "
هتف رغما عنه باستنكار: " ذوق! هل تتحدثين جديا عن اللباقة؟ "
قطبت قليلا دون أن ترد فتابع هو ببعض الضيق الذي ظهر في نبرته: " وأين هي اللباقة في زيارتكِ لشاب غريب عنكِ في شقته منتصف الليل؟ "
ضيقت عينيها وهو تكز على أسنانها بقوة متمتمة ببضعة كلمات باللغة التركية فنظر لها بغيظ وهو يقول: " ماذا تقولين؟ تعرفين أنني لا أجيد التركية "
ردت ببرود: " كنت أقول أنكَ فظ وغليظ "
صرخ بحنق يقول: " أنا؟ "
تلفتت حولها قليلا قبل أن تجيبه بنفس البرود الساخر: " لا أرى غيرك أمامي لذا وبعد التفكير واستفتاء عقلي فالإجابة هي... نعم... أنت "
أشاح بوجهه عنها زاما شفتيه بقوة كيلا يرد عليها بما يليق بها في تلك اللحظة وكم ود لو أخبرها القليل مما يلح لسانه على البوح به ليوقف تلك المتعجرفة المتبجحة عند حدها
أشفقت عليه وهي تلاحظ الهالات السوداء التي تحيط بعينيه فتجعلان بركتي العسل عميقتين جدا وجذابتين جدا
قالت بهدوء: " جئت لأقدم لك واجب التعزية "
نظر لها بعبوس يقول: " رغم أن الوقت ليس مناسبا لأن تقدمي لي أي شيء لكن حسنا... شكرا لكِ.. إلى اللقاء "
عبست في وجهه بالمثل وهي تقول: " هل تطردني؟ "
تمتم من بين أسنانه المطبقة وهو يخفض صوته خوف أن يشعر بهما أو يسمعهما أحد الجيران: " نعم أطردكِ وأحمدي ربكِ أنني أمنع نفسي عن صفعكِ "
شمخت بذقنها وهو تقول بجمود: " كنت لأكسر يدك قبل أن تمسني "
هز رأسه بعصبية وهو يخرج هاتفه من جيبه قائلا بضيق: " لن أطيل معكِ الحديث في أمر منتهي بالنسبة لي.. سأهاتف أخاك إن لم ترحلي حالا... "
قطع حديثه صوت قوي تعلوه نبرة الغضب وهو يقول: " ليس هناك داعٍ لتهاتفني.. ها أنا ذا "
إلتفتت خلفها بذهول وهي تحدق في عينيه متوحشتي النظرات بينما تقول: " ألم تخبرنا أنك خارج العاصمة وستعود في نهاية الأسبوع؟ "
رد بخفوت ينذر بعاصفة قادمة: " عدت فور أن شعرت بأن هناك ما يحدث من خلف ظهري.. تعرفيني لا أحب أن أكون مغفلا "
تنحنح يوسف بحرج وهو يقول: " لنتحدث في الداخل يا جماعة فوقوفنا بهذا الشكل على السلم غير لائق "
تكلم صخر من بين أسنانه بغضب مكتوم: " الشيء الوحيد الغير لائق هو وقوفها معك بهذا الشكل.. وفي هذه الساعة "
قطب يوسف يقول: " صخر يبدو أنك فهمت الموضوع بصورة خاطئة نحن كنا... "
هدر صخر بإنفعال: " لا أريد سماع صوت أحدكما.. (ثم نظر إلى أخته بجمود يقول) ألحقي بي "
نزل بسرعة وكأن الشياطين تلاحقه ودون لحظة تأخير واحدة كانت نغم تلحق به
بمجرد أن وصلت له فتح لها الباب المجاور لمقعد السائق دون أن يوجه لها كلمة واحدة وحينما استقلت السيارة صفع الباب بقوة قبل أن يدور حول السيارة متخذا مقعده بنفس الصمت وفي لحظة كانت السيارة تنهب الطريق بسرعة إلى الفيلا
حاولت أكثر من مرة أن توضح له أنها هي المخطئة وأن يوسف لا دخل له في الأمر فكان رده الوحيد أن صرخ فيها: " أخرسي نغم.. حسابنا في البيت "
وصلا بعد دقائق وجيزة فترجلت من السيارة بغيظ ليستوقفها آمراً: " أعطي مفاتيح السيارة لمصطفى حتى يحضرها لكِ غدا "
نظرت إلى مصطفى بضيق فوجدته يكتم ضحكة متشفية وهو يطرق برأسه للأرض فتقدمت نحوه تعطيه المفتاح وهي تتمتم بخفوت شرس لم يصل لصخر: " أعلم أنك تراقبني طوال الوقت وأنك من وشيت بي له "
فتنحنح مصطفى يقول ببلاهة متجاهلا حديثها: " حاضر يا هانم سأحافظ عليها ولن أصيبها ولو بخدش بسيط.. لا تقلقي على السيارة سأضعها في عيني حتى أسلمها لكِ بنفسي في الغد إن شاء الله "
غمغمت بحقد مكبوت وهي تبتعد عنه: " أيها الحقير "
سمعها فأبتسم بسماجة زادت غيظها منه أكثر
أنتظر صخر حتى ابتعدت قليلا عنهم قبل أن يلحق بها بعدما قال بنبرة آمرة حازمة: " أعدا الجلسة في الحديقة الخلفية وأشعلا النيران.. سأغتسل وأوافيكما بعد نصف ساعة بالضبط "
رد سيف على الفور بطاعة: " أوامرك صخر باشا "
***

بعد ربع ساعة
دون أخذ الإذن كانت نغم تقتحم غرفته والغيظ يتآكلها من صمته وهي لا تعرف ما ينوي فعله مع يوسف
في نفس اللحظة كان هو يخرج من الحمام الملحق بجناحه والمياه تتقاطر من خصلات شعره الحريرية الندية كما جذعه العضلي الذي يظهر بوضوح وهو لا يرتدي سوا بنطال أسود
اشتعلت عينيه بلهب حارق وهو يراها أمامه تتكتف بوقاحة وحدقتيها تمران سريعا على جذعه قبل أن تعودا وتستقرا في عمق عينيه
رمى تلك المنشفة الصغيرة التي كانت في يده بغل على الأرض وهو يتقدم ناحيتها بخطوات تعكس الغضب الذي يحمله صاحبها بداخله في هذه اللحظة
حتى قبض على مرفقها بقسوة وهو يهدر: " كم مرة نبهت عليكِ ألا تدخلي جناحي بدون إذن مني؟ "
ردت بوقاحة وعجرفة: " أنا لا آخذ إذن من أحد قبل أن أدخل لأي مكان في بيتي "
أفلت ذراعها بخشونة فتراجعت خطوة للخلف بينما هو يهدر بغضب: " ليس وقتكِ.. لدي اللحظة ما هو أهم منكِ ومن أفكاركِ الأنانية المغرورة "
أشار إلى باب الجناح وهو يتابع بشراسة: " أقسم بالله يا نغم إن وطأت قدميكِ جناحي ثانية دون أن أأذن لكِ لترين مني ما لم تريه يومًا ولا أنصحكِ بأن تتحامقي وتجبريني على فعله بكِ "
وما هي إلا لحظة وكان يصرخ بوحشية: " أخرجي "
شهقت نغم مفزوعة دون أن تستطع تمالك نفسها كعادتها أمامه، أسرعت بالخروج تحاشيا له ولما قد يفعله بها اللحظة وهو يبدو فاقدا لأعصابه وهدوئه الغامض الذي اعتادته منه دائمًا
بينما هو رفع كفيه يتخلل خصلات شعره بوحشية، يكاد يقتلعها من جذورها وصدى آخر جملة نطقت بها نبض لازال يأبى أن يفارق عقله وذاكرته
'فعلت مرة ولم ينالني منهما سوا الخذلان إن كنت تذكر، وأنا لستُ غبية لأعيد الكرة وجرحي لم يندمل بعد وفي داخلي نزيف يحتاج لدهر ربما حتى يتوقف'
إلتفت حوله يبحث عن شيء لا يعرف ما هو بالضبط وصدى صوتها يعلو أكثر وأكثر فيشوش عليه تركيزه ويجعله يفقد المزيد من هدوء نفسه وحُلمه
بداخله وحوش استيقظت وأخذت تعوي وتزأر بوحشية تطالبه بما يشعر بأنه لا يستطيع المضي قدما نحوه
جلس على طرف الفراش وهو يلهث من شدة انفعاله والأفكار تموج بداخله بين مد وجزر فيشعر بالجمود فجأة وكأنه فقد الخيط الذي كان دومًا يمسكه بحزم وذكاء بين يديه محتفظا بكل الأطراف في قبضة قوية لا تقهر
ينوي النهوض ليلحق بسيف ومصطفى كما أخبرهما فيعود صوتها يتردد أعلى وأعلى وكأنه يخبره أنه لم يفارقه بعد ولم يتلاشى
فيعود التقهقر للخلف ويغلبه شعور موحش بغيض بالعجز
صغيرته لازالت تعاني من ألم ظنه غير موجود.. ألم لجرح قديم لم ينتبه له من قبل وقد أنشغل لسنوات مضت بأمور أخرى أكثر تعقيدا من الإلتفات لتلك الذكرى التي تركت أثرها جليا في روح صغيرته
غلبته غصة مؤلمة استحكمت حلقه وهو يفكر بما يخفيه عنها والكارثة أن ما خفى أعظم بكثير!..
إن كانت تدفعه بعيدا عنها لأجل أنه خذلها لشيء بسيط فيما مضى فماذا ستفعل حينما تعلم أنه ليس هو؟
أن صخر الذي عرفته لسنوات ليس نفسه الذي يعرفه هو؟
أن من يقف أمامها في كل مرة يحمل هوية غير التي تعرفها
أن أصله الحقيقي ليس الظاهر أمامها وإنما أصله يعود لجذور لم يكن يعرف عنها شيء حتى...
تكلم بمرارة ساخرا وهو يحدث نفسه: " حتى ماذا يا صخر؟ حتى وصلت لسن السابعة عشر وأنت تنتمي لكيان ليس لك وهوية ليست من حقك! "
اه من تلك الدوامة التي تحيط به وتجيد لف حبائلها من حوله في أكثر لحظات ضعفه.. تتمكن منه فتزيده عجزا وضياعا
أطرق رأسه يمسكها بين كفيه مغمض العينين بقوة وهو يفكر في خاطره بأن أقل ما سيحدث حينما تعرف كل شيء ويتضح لها ما يخفيه عنها أنه.. سيخسرها
ضربته الكلمة في مقتل وهي مجرد فكرة في سماء الخيال فماذا سيحل به حينما تنزل لأرض الواقع؟
هب من جلسته المتخاذلة فجأة وهو يقرر تأجيل التفكير في هذا الموضوع حتى ينتهي من الأفعى السامة المتمثلة في شخص فؤاد الناصر أولاً
***

جلس على البساط المفروش أرضا أمامهما.. هو على مقربة من النيران المشتعلة المتوهجة بينما هما بعيدين قليلا عنها تجنبا للهبها الحار
سأل بجمود وعينيه محدقتين في لهب النيران المرتفعة: " ما الجديد؟ "
نظر سيف إلى مصطفى لوهلة حتى عبس الأخير فتكلم سيف بهدوء يقول: " حدث الكثير يا باشا في الفترة الماضية التي انشغلت فيها عن المتابعة بعض الأخبار سارة والبعض الآخر سيء... جدا على ما أظن "
رد صخر بنفس الجمود: " الكل سواء "
قطب مصطفى وهو يقول: " ما بكَ يا باشا؟ تبدو منزعجا من شيء ما "
رد صخر بصوت غريب: " لست منزعجا فقط يا مصطفى بل غاضبا.. غاضبا جدا من نفسي .. أهم جولة سباق في حياتي تم إعلان نتيجتها قبل أوانها بالكثير ولقد... خسرتها "
سأل مصطفى بعفوية: " ماذا خسرت؟ "
قطب صخر بألم يقول: " بل قل من يا مصطفى؟ سأخسر أو لأكن أكثر صراحة فقد خسرت شخص غالي جدا عليّ وليس مجرد شيء "
كاد مصطفى يسأل المزيد لكن صخر قاطعه وهو يعود لحالة الجمود ثانية قائلا: " لقد قُتِلَ ماهر قبل ثلاثة أيام.. أعلم أن الحقير فؤاد من فعلها بعدما اختلفا على تقسيم مكسب آخر صفقة بيع آثار لهما وقد هدده ماهر بفضحه فلجأ لقتله حتى يضمن إسكاته للأبد "
نظر سيف له بدهشة يقول: " نعم هذا بالضبط ما علمناه لاحقا "
قطب صخر وهو يتابع: " هكذا تكون الصفقة أُلغيت فلا قيمة لها بعد موت ماهر "
رد مصطفى بتمهل: " هل سنبحث عن آخر نصل من خلاله إلى الإيقاع بفؤاد يا باشا؟ "
هز صخر رأسه سلبا وهو يرد: " لا.. لا مزيد من التورط مع أي نوع دنئ من البشر.. تكفي تجربة واحدة "
قال سيف بترقب: " إذن ما التالي صخر باشا؟ "
قبل أن يرد صخر على سؤال سيف تذكر شيء ما فقال: " آدم عاد ومن الجيد انشغاله مع عائلته لفترة حتى أقرر ما سأفعله مع ذاك الآخر "
عبس مصطفى بحنق يقول: " لازلت لا أجد سببا يجعلك تساعد ذاك المدعو سعد في كشف حقيقة فؤاد يا باشا فهو لا يقل حقارة عن عمه؟ "
قطب صخر بجدية مجيبا: " لربما كان مغفلا أعمى البصيرة لكنه ليس حقيرا يا مصطفى.. لقد عاهدت نفسي أن أنير بصيرته تلك للحق وأجعله يصل بنفسه لحقيقة هوية قاتل والده "
تدخل سيف يقول بحيرة: " لكنه كاد يقتل زيد لولا تدخلك في اللحظة المناسبة يا باشا.. أرى أنه يخطو متعجلا في طريق النهاية "
تنهد صخر وصمت للحظات مفكرا قبل أن يرد: " معك حق يا سيف وهذا هو عيبه الوحيد أنه ضخم الجسد صغير العقل.. سريعا ما يقتنع بهزر عمه وينفذه "
ران عليهم صمت طويل لدقائق قطعه مصطفى وهو يقول بتعجب: " ألا تريد أن تعرف بقية الأخبار صخر باشا؟ "
تكلم صخر بصوت متعب يقول: " ماذا هناك أيضا غير موضوع تلك الصفقة ومحاولة قتل زيد؟ "
رد مصطفى: " هذا ما كان لدي أنا أما سيف فأظن لديه خبر سار لأجلك يا باشا "
نظر صخر إلى سيف بإهتمام يقول: " تكلم سيف بما لديك جملة دون تفصيل "
كتم سيف بسمته وهو يرد: " لقد سرق مصطفى جواز سفر الآنسة نبض "
حدجه صخر بغيظ وهو يقول: " آنسة! أتراني ظلا أمامك أم ماذا؟ "
تنحنح سيف بحرج من السهو الذي وقع فيه فقال بتوتر: " أعتذر صخر باشا لكن... أنا لم أعتد اللقب بعد "
أشاح صخر بوجهه إلى النيران مرة أخرى وهو يتمتم بمرارة: " لا ترهق نفسك باعتياده فعلى أي حال صاحبة اللقب لن تبقى بالقرب طويلا "
قطب سيف والتزم الصمت بينما غمغم مصطفى متصنعا اللامبالاة: " لا أصدق أن فتاة صغيرة كتلك تعصى عليك يا باشا وقد روضت قبلها العشرات من الرجال فماذا عن فتاة صغيرة؟ "
رمش صخر بذهول لوهلة قبل أن يصرخ بغيظ وغيرة حارقة وهو يقذفه بثمرة تفاح لا يعرف كيف جاءت إلى هنا: " هل تتحدث عن زوجتي أمامي بتلك الوقاحة يا مصطفى؟ ما دخلك أنت إن عصت عليّ أم سلمتني زمام أمرها؟ هل طلبت منكَ النصيحة؟ "
تلقف مصطفى التفاحة بإبتسامة واسعة مغيظة وهو يرد ببراءة مصطنعة: " العيب عليّ أني أريد مصلحتك يا باشا "
هدر صخر بضيق: " مصطفى "
رفع مصطفى يديه باستسلام وهو يقول: " حسناً يا باشا أنا أعتذر.. لكن لو تسمع مني ستجد عندي حلا لمعضلتك بإذن الله "
هَمّ صخر بأن ينهض من مكانه مزمجرا لكن مصطفى هب من جلسته مبتعدا بسرعة وهو يتمتم: " أنت الخاسر يا باشا "
كتم سيف ضحكته وهو ينظر إلى طيف مصطفى الذي يبتعد بينما هدر صخر بحنق: " ذاك المستفز لا أطيقه لخمس دقائق حتى فكيف تتحمله أنت طوال الوقت؟ "
ابتسم سيف بحنان وهو يرد: " إنه أخي ومن الطبيعي أن أحتمله أكثر من الآخرين "
قطب صخر يقول: " لستما من نفس الأب ورغم ذلك تبدوان شقيقين تمامًا.. لم أراكما يوما متشاحنين "
رد سيف بنفس الإبتسامة: " لن أخفي عليك يا باشا فأنت تعلم أن مصطفى شخص لا يطاق أبداً لكنه رجل بكل ما تحمله الكلمة من معنى يتكلم كثيرا لكنه يخفي الكثير أيضا.. لا يغرنك مزاجه الساخر الذي يتمسك في الظهور به فهو أعتاد التعبير عما يحمله في داخله بهذه الطريقة وعليّ أنا حل ألغازه تلك حتى أصل لسبب ما يزعجه في كل مرة "
زفر صخر بغيظ تبدد وتلاشى وهو يحدق في ألسنة النيران المرتفعة من جديد
دومًا يجلس أمامها حتى يستمد منها التركيز كلما تكالبت عليه الأفكار والأمور وتشتت عقله
دومًا شعر أمامها بأنها انعكاس له، ترسم هيئته من الداخل.. توضح صورة مختصرة لما يطمره بداخله من جحيم ووحوش
كانت صورة النيران تنعكس في عينيه وتتراقص على صفحة حدقتيه فتزيدها قتامة ووحشية وغموضا
يعلم علم اليقين أنه سيحترق يوماً في تلك النيران التي يشعلها كل مرة بيديه
يعلم أنه وحده المتضرر والمتأذي لكنه بحمق وغباء منقطع النظير يستمر في طريقه الشائك غير مباليا بقدميه اللتين تخطوان فوق الأشواك فتُجرح ولا بقلبه الذي بدأت قواه تستنزف وروحه التي باتت صرخات استنجادها تعوي كذئاب جائعة لا تجد فريسة تسد حاجتها وتشبعها
ومن خلف ألسنة النيران التي تزأر كوحش مقيد ظهرت عينين زرقاوين تتراقص فيهما رقة تذيب أعتى الجبال
ارتسم فوق العينين حاجبين أنيقين بلون بني يعكس لون خصلات شعر صاحبته تلاه أنف صغير لا ينحني أبداً بل يقف بشموخ ثم أخيرا وبدقة تامة رُسم فم صغير ككل شيء آخر في صاحبته.. فم شهي بشفتين حمراوين بالفطرة دون أن يعكرهما أي لون دخيل عليهما
كانت تلكما الشفتين كحبتي كرز ناضجتين تترقبان بصبر لحظة قطافهما!
وحول ذاك الوجه لُفَ حجاب أبيض ملائكي ناعم يعكس لون بشرتها البيضاء والتي نافست الحجاب في ملمسه الناعم
تبسمت له بخجل رقيق وهي ترمش بأهدابها الكثيفة كما يحب فتلمع زرقاوتيها وكأنها نجوم براقة تتوسط كبد السماء في ليلة معتمة كحيلة تتناثر على صفحة الليل كحبات لؤلؤ لامع
رآها تسبل عينيها فكاد يطلب منها ألا تكف عن النظر إليه لكنه سكت مذهولا وهو يرى كيف بدأت عيناها تمطران بحبات ندى غزيرة أخذت تطفئ النيران.. وكلما ارتفع وهج النيران بغضب وهي تأبى أن تتلاشى زادت غزارة حبات الندى بإصرار وهي تحاربها وبين مد وجزر وصولات وجولات ربحت أخيرا قطرات الندى وخسرت ألسنة النيران الرهان
تلاشى من أمامه كل شيء ولم يتبقى سوا الوجه الحبيب الملائكي وابتسامة صغيرة حانية كانت آخر ما رآه صخر قبل أن يتلاشى ذاك الوجه إلى العدم من حيث أتى لينتبه فجأة مجفلا من شروده الطويل وخيالاته العميقة على صوت سيف وهو يقول: " ماذا سنفعل الآن صخر باشا؟ "
رد صخر بصوت عميق غامض بدى آتيا من زاوية بعيدة جدا: " سنفعل ما كان يجب أن نفعله منذ وقت طويل يا سيف.. سنعيد الأمور لنصابها الصحيح لينال كل ذي حق حقه فما عاد الصبر يفيد "
***

في الصباح
كان الجد يتباحث ويتناقش في عدة أمور تخص شئون العائلة مع ولديه واحفاده في وجود صديقه صالح
بعد قليل انتهى حديثه ليصمت الكل مفكرين في ما قيل وفجأة قطع الجد هذا الصمت وهو يقول: " كيف حال حفيدتي ابنة البواسل؟ "
بدى عبد الرحمن وكأنه غير راضيا عن اللقب الذي يرافق إسم شمس وهو ينطقه على مضض فأبتسم صالح دون تعقيب بينما رد سليم: " إنها بخير يا أبي كنت قد كلمتها قبل يومين وكانت في أحسن حال "
اومأ الجد بإبهام وهو يفكر في شيء ما قبل أن يقول: " متى ستأتي لزيارتنا؟ "
رد سليم بهدوء ناظرا لأبيه ببعض الحيرة: " أظن بأنها ستأتي خلال أيام حتى تبارك عودة العروسين من شهر العسل "
ابتسم حمزة بسخرية وهو يفكر في شهر عسله، أقصر شهر عسل حصل عليه عروسين في الوجود
ثلاثة أيام لا أكثر وفي الرابع كان ينشب بينهما شجار حاد انتهى بعودتهما في اليوم التالي متخاصمين وكل منهما يبيت في غرفة منفصلة حتى اليوم
سأل الجد فجأة بغموض مخرجا الجميع من شروده الخاص: " ومتى ستكون فردا مقيما في دار الجبالي وليست ضيفة؟ "
قطب سليم بعدم فهم بينما اتسعت إبتسامة صالح وهو ينظر إلى صديق عمره قائلا بتمهل: " فيما تفكر يا أبا خالد؟ "
نظر عبد الرحمن إلى صالح قائلا: " تعرف ما أفكر فيه يا أبا آدم فما حاجتك للسؤال؟ "
رد صالح بنفس إبتسامته: " لكن ولديك وأحفادك لا يعرفون "
قطب عبد الرحمن وهو ينظر إلى أحفاده قائلا بتقرير ما يفكر فيه: " لن يسعد قلبي ويرتاح قبل أن تكون أحفادي جميعهم أمام ناظري وفي داري "
لم يحاول خالد أو سليم حتى التدخل رغم أن خالد كان لديه علم مسبق بأن ولديه لن يعطيا للأمر بالاً فقلبيهما مشغولان منذ أمد بعيد
سأل زيد بحيرة وهو ينظر إلى جده: " هل تريدها أن تأتي لتقيم عندنا يا جدي.. لكن كيف؟ لا أظن عمي أكرم سيقبل بهذا "
رفع عبد الرحمن حاجبا بترفع وهو يرد: " وكيف سيرفض؟ أليس أبا ويوما ستأتي تلك اللحظة التي يسلم فيها ابنته بيديه إلى زوجها فتنتقل معه إلى داره بعيدا عن كنف أبيها؟ "
تناظر الأحفاد فيما بينهم بذهول من تفكير جدهم وقد اتضحت الصورة أخيرا أمامهم فقال حمزة: " وهل ستقبل هي؟ "
رد الجد بصلابة: " ستقبل برضاها وإلا فستفعل رغما عنها "
وجه قاسم بصره ناحية النافذة المفتوحة التي تطل على الحديقة الخلفية بلامبالاة وكأن الأمر لا يعنيه متأملا في الفراغ بصمت عميق
أما ياسين فقد أخرج هاتفه حينما أعلن عن وصول رسالة نصية له فقرأها وبدأ يرسل إلى محدثه هو الآخر بهدوء دون أن يبدي أي رد فعل أو سؤال في هذا الموضوع
بينما زيد أطرق برأسه للأرض يتأمل السجادة المفروشة بإهتمام وكأنه يبحث عن شيء ضاع منه وربما يكون متخفيا بين هذه الازهار الصغيرة التي تغطي نسيج السجادة
في حين قطب حمزة بعبوس وهو يعود إلى أفكاره الخاصة التي تدور حول فلك مجنونته التي تكاد تصيبه بعدوى من جنونها قبل مرور أسبوعين على زواجهما بعد
كتف خالد ساعديه أمام صدره وأخذ ينظر إلى كلا ولديه بتفكير وهو يمنع بسمته من الظهور بشق الأنفس وكان سليم يفعل نفس الشيء مع ابنه قبل أن يولي ولديّ أخاه كل إهتمامه
قطب الجد بضيق يقول: " لم أسمع كلمتكم بعد "
فرد حمزة بإحباط: " أنا خارج هذا الموضوع فقد تزوجت وأنتهى أمري "
ناكفه صالح بالقول: " وما لكَ تقولها وكأنك تلفظها؟ إن لم تكن مرتاحا مع زهرة العائلة فلا ضير من مثنى وثلاث ورباع "
رد حمزة بدفاع: " وهل فقدت عقلي لأفكر بأخرى غير زهرتي عماه؟ إنها زوجتي في الدنيا والآخرة بإذن الله ولا أريد سواها "
ضحك صالح وهو يقول: " إذن لا تجلس عابسا هكذا فأنت تسيء إلى سمعة الزواج وتجعل الشباب يفضلون العزوف عنه "
إبتسم حمزة وهو يقول مازحا ليخفي إحباطه وبؤسه: " ما ذنبي أنا؟ هل سيتخذونني حجة كي يهربوا من تأدية الواجب العسكري؟ "
ضحك سليم معقبا: " لو ظنوا هذا حقا فهم حمقي إذن فكما ترى جدك يعد لهم العدة ولن يتركهم ينعمون بحياة العزوبية طويلًا "
قطب الأحفاد الثلاثة المعنيين بالأمر في عبوس!
التفت قاسم مصوبا نظراته الجامدة على جده بينما رفع ياسين عينيه عن شاشة هاتفه إلى وجه جده وزيد رفع بصره عن السجادة ونظر لوالده أولا ثم إلى جده
سأل ياسين بتعجب: " أنا لم أفهم شيء.. هلا وضحت لي أكثر يا جدي؟ "
رد الجد بجدية لا تقبل النقاش: " أحد ثلاثتكم عليه أن يتزوج بابنة عمتكم رقية "
فغر ياسين فاهه ببلاهة بينما عبس زيد دون تعقيب
أما قاسم فرد ببرود: " لا أجد فيها حاجة نفسي التي أبحث عنها "
قال عبد الرحمن مقطبا: " كنت ارشحك أنت لها فأنت الأكبر سنا ولابد أن تتزوج أولا "
رد قاسم بنفس البرود: " نحن لا نتزوج باعتبار السن يا جدي وإلا ما كان حمزة تزوج قبلي فأنا أكبره بسنة وبضعة أشهر "
على الفور قال ياسين وكأنه يدفع البلاء عنه قبل أن يصيبه: " وأنا الآخر لا أصلح لها فقد سبق واخترت من أريدها زوجة لي "
رد عبد الرحمن متهكما: " بدليل أنك لم تتخلى عن كرسي الوحدة وتودع عزوبيتك بعد "
كز ياسين على أسنانه وهو يرد مطرق الرأس: " لم يحن دوري بعد يا جدي هذا كل ما في الأمر "
غمغم زيد بحنق وغيظ يحدث نفسه: " لم يتبق سواك يا بائس "
في نفس اللحظة وجه الجد حديثه له يقول: " وأنت ما حُجتك؟ "
عبس زيد وهو يقول: " ليست لدي حُجة لكن.. كيف سأتزوج فتاة لا أعرفها؟ "
رد الجد ببساطة: " لم يمنعك أحد من التعرف عليها "
قطب زيد بحنق يقول: " هل تريدني أن اشاغل ابنة عمتي يا جدي؟ "
زفر الجد وهو يقول: " أفعل ما تريد يا ابن سليم لكن تزوجها في أسرع وقت فأنا أريدها قريبا في دارنا "
غمغم زيد بضيق: " لما لا نتفق على عدد الذكور والإناث الذين سأنجبهم ونحدد موعد العرس أيضا؟ "
سمعه حمزة وصالح فكتما ضحكاتهما بينما زفر ياسين براحة لم يكد يحصل عليها حتى تلاشت وجده يقول بحزم: " آخر هذا الشهر أريد طلب واضح وصريح منكما وموافقة عن رضى وقناعة منهما وإلا لن يمر أول أسبوع في الشهر المقبل إلا وهما في بيتي زوجيهما بعيدا عن دار الجبالية "
نزل الكلام كمطارق من حديد على رأس ياسين بينما هب قاسم من جلسته يهتف بتهديد شرس: " كنت قتلتها قبل أن يقرن إسمها بإسم رجل غيري وقتلت من يفكر مجرد التفكير في أن تكون حياة الجبالي من نصيبه "
هب عبد الرحمن من جلسته هو الآخر غاضبا وهو يهتف في حفيده: " كيف ترفع صوتك في مجلسي وأمامي بهذه الوقاحة يا ولد؟ "
لم يتراجع قاسم وهو يرد بغضب يوازي غضب جده: " أدافع عن حقي "
صاح الجد بقسوة: " لا حق لكَ فيها يا ولد.. حياة لن... "
قاطعه ياسين ولم يستطع إلتزام الصمت أكثر فنهض بلهفة يقف أمام أخيه وكأنه يحميه بينما يقول " لا.. بالله عليك لا تفعل يا جدي.. قاسم لم يقصد شيء "
تدخل صالح وهو يرى استنجاد صامت في نظرات ياسين التي يوجهها له فقال: " أهدأ يا أبا خالد.. حفيدك حار الدماء ثار لأجل ابنة عمه التي نعلم أنه يريدها زوجة ولم يقصد بالطبع أن يرفع صوته في مجلسك أو يتطاول عليك كما قال ياسين "
كانت نظرات الجد وحفيده صلبه قوية لا تلين وكأن كل واحد منهما يتحدى الآخر حتى استدار ياسين إلى أخيه يهمس له برجاء يصل إلى حد التوسل: " أطلبها من جدي اللحظة يا قاسم (نظر له قاسم برفض متعنت فتابع ياسين بتوسل يمس القلب) بالله عليك أفعلها.. لا تحرق قلبي عليك يا قاسم أطلبها يا أخي وأجمع زمام الأمور في يديك قبل أن تنفرط من بين أناملك وتفطر معها فؤادك "
ظل قاسم على رفضه وهو يتذكر وعده لنفسه ولحياة بأنه لن يكرر طلبه ولن يعيد عرضه عليها حتى تأتيه هي بنفسها تخبره بموافقتها
كان يشعر بأنه مشطور لنصفين
حائر بين حكمة العقل وهوى القلب
همس ياسين برجاء من جديد: " أرجوك يا أخي.. أفعلها.. إنها حقك "
لم يشعر بنفسه وهو يقول لجده بصلابة ودون تردد أو تفكير وكأن آخر كلمات نطقها ياسين استفزت روح العاشق بداخله: " أنا أطلب حياة منكَ يا جدي.. أريدها زوجة لي اليوم قبل الغد "
دخلت حياة فجأة مبتسمة وكأنها كانت تشعر بأن هناك من يناديها
وضعت الصينية التي كانت تحملها على الطاولة الصغيرة المستطيلة وهي تقول: " أعددت القهوة بنفسي لأجل خاطرك يا جدي "
إبتسم صالح بلطف وهو يربت على يدها وهي تناوله فنجانه: " سلمت يداكِ يا ابنتي "
اعتدلت حياة بعدما ناولت عميها فنجاني قهوتيهما لتلاحظ لأول مرة الحالة الغريبة التي يبدو عليها البقية
ياسين يقف أمام أخيه ويبدو جسده متشنجا بينما الأخير كان جسده متصلبا كقبضتيه المشدتين إلى جانبيه
أما جدها فكان يقف يناظر قاسم بنظرات غامضة من بينها يشع فتيل غضب
شعرت أن هناك أمر جلل يحدث ففضلت الإنسحاب حتى لا تشاهد لحظة إحراج أيا منهما للآخر وحينما همت بالانصراف استوقفها جدها يقول: " انتظري حياة "
نظرت له بهدوء تقول: " نعم جدي "
تكلم عبد الرحمن بجمود مباشرة في الأمر: " إبن عمك طلب يدكِ مني قبل دخولكِ.. ما قولكِ؟ "
لم تكن في حاجة للسؤال عن أي ابن عم تقصد فهي تعرف أن قاسم هو المعني بالقول
شعرت بغصة الحسرة تعاودها من جديد وهي تعرف أن ردها سيوجعه لكنها لم تشأ أن تطيل في الأمر فقالت بهدوء ظاهري: " أنا لا أفكر حاليا في موضوع الزواج "
قال صالح بمهادنة: " لا بأس بنيتي يمكننا عقد خطبة طويلة وتأجيل عقد القرآن والعرس حتى تؤهلي نفسكِ وتستعدي "
ازدردت ريقها بمرارة وهي تنكس رأسها بقهر قائلة: " لا جدي.. أنا... أنا لا أريد الزواج.. هذا هو قراري وردي الأخير "
قال ياسين فجأة ببرود قاس أراد فيه أن يوجعها متعمدا: " حسنا يا ابنة عمي لا بأس.. سأبحث عن أخرى فعلى أي حال أنا متعجل وبنات حواء لم تفنى كلها بعد.. على العموم كانت مجرد فكرة عابرة "
تعجب الجميع مما يقول بينما شهقت حياة بصدمة وهي ترفع رأسها تنظر إلى ياسين قائلة: " ماذا تقصد؟ هل... هل أنت من طلبتني للزواج؟ "
تبسم ياسين بسخرية جارحة وهو يرد: " وهل كنتِ تنتظرين شخص معين؟ "
ازدردت ريقها بصعوبة وهي تهز رأسها سلبا ببطء بينما عينيها تحيدان بنظراتهما إلى عينيّ قاسم الجامدتين
قلبها يدوي بشدة وكأنه يلفظ آخر أنفاسه أما أنفاسها فكانت متسارعة بشكل مؤلم وهي ترى ألم يسكن نظرات قاسم رغم جموده الذي يبديه
لماذا يتألم هو إن كان ياسين من عرض عليها الزواج؟
لماذا تشعر أنه... أنه ينظر لها بخيبة وفقدان أمل؟
وهل منحته يومًا أي أمل في أن يكونا سويا؟
عادت تنظر إلى ياسين تسأله بصدمة لم تغادرها بعد: " وماذا عن ملك؟ "
رفع ياسين حاجبيه وهو يرد بلامبالاة: " ماذا عنها؟ هل يفترض بي أن أكرر طلبي على كل فتيات العائلة حتى ترضى عني إحداهن وتقبل الزواج بي؟ "
عبست حياة بشراسة وهي تقول بإنفعال: " إذن أنت لا تحبها؟ كنت تخدعها أليس كذلك؟ "
ود لو صفعها ليشفي غليله منها ومن عجرفتها التي كسرت بخاطر أخيه وود لو صرخ فيها بأنها أكبر حمقاء رآها في حياته
ود فعل الكثير لكنه تكلم بعكس ما أراد يقول: " لا تتدخلي فيما لا يعنيكِ يا ابنة عمي.. انظري لحالكِ وأشغلي نفسك بشئونكِ أفضل لكِ "
كان الجميع منشغلين بالنقاش الحاد الذي يدور بين ياسين وحياة غافلين عن قاسم الذي كادت الدماء أن تتفجر من عروقه النافرة وهو يقبض على كفيه بشدة حد الألم
لم ينتبه أحد لغلالة الدموع التي انسدلت على صفحة حدقتيه المثبتتان على حياة أو هكذا ظن هو أن لا أحد يشعر به أو ينتبه له قبل أن يوليها ظهره
غافلا هو الآخر عن ملك التي كانت قد دخلت خلف أختها حياة ببضعة لحظات لتحيي صالح وتسلم عليه قبل مغادرته
كانت تقف أمام الباب المفتوح صدرها يعلو ويهبط وهي تكتم شهقاتها ببسالة بينما الدموع تنهمر مدرارا على وجنتيها
كم شعرت في تلك اللحظة أنها تريد أن تضم قاسم إلى صدرها وتطيب بخاطره الكسير!
تمنت لو لديها رخصة تسمح لها بأن تربت على كتفه وتواسيه!
تمنت لو بيدها أن تخفف عنه وتخبره أن أختها الغبية هي الخاسرة، هي من ستندم كما تفعل في كل لحظة
وودت لو صفعت حياة بقوة حتى تفيقها من غفلتها التي طالت وغبائها الذي تعدى كل الحدود
ودت لو تستطيع أن تهزها بعنف لتعيد إليها الشعور الذي فقدته وتجبرها على الموافقة قبل أن تضيع منها فرصة قد لا تحظى بها من جديد
بفطنة لا تملكها حياة أو قد تكون صدمة الموقف هي من جعلتها لا تفطن لما فعله ياسين على خلاف ملك التي أدركت ببساطة أن ياسين ما قال ذلك إلا ليحفظ كرامة أخاه التي أهدرتها أختها بغباء رفضها له
أدركت أن ياسين أختار أن يكون هو العريس المفروض في نظر حياة لا أن يكون قاسم
وكم أسعدها ذلك وجعلها أكثر فخرا بحبيبها!
مسحت عبراتها بسرعة وهي تشمخ بذقنها تخطو للداخل فينتبه الجميع لها أخيرا وهي تبتسم برقة تقول: " مرحبا جدي.. كيف حالك؟ "
ابتسم صالح بمودة وحنان وهو يفتح ذراعيه لها قائلا: " بخير يا حبيبة جدكِ "
شعرت ملك أنها كانت في حاجة ماسة لعناق أبوي كهذا، كانت تريد دعم من أي شخص في هذه اللحظة وكان الله رحيما بها فمنحها ما تمنت
ابتعدت عنه بعد لحظة تقول بهدوء: " ماذا يحدث؟ "
رد سليم: " لا شيء بنيتي "
إلتفتت تنظر لأبناء عمومتها فلاحظت الشفقة في عينيّ حمزة فأبتسمت له وهي تقول: " أشعر بأنكم تريدون الإيقاع بأحد في فخ ما "
تنهد حمزة يقول بإحباط شديد: " يبدو أننا فشلنا في ذلك "
اتسعت إبتسامتها بشقاوة محببة طفولية وهي ترد عليه: " كم تدفع لي وأساعدكم في تحقيق مطلبكم؟ "
ابتسم حمزة رغما عنه وهو ينظر لعينيها اللتين كما يبدو أنهما بكيتا طويلا في وقت قريب كعادة حالها في الفترة الماضية: " ما تأمرين به ملك هانم "
اومأت ضاحكة تقول: " حسنا اتفقنا.. أخبرني في أي فخ تريدون الإيقاع بهذا الشخص؟ "
رد ببساطة: " فخ الزواج "
صفقت بيديها في جذل كالأطفال وهي تقول: " لدي شخص مناسب لهذا الفخ "
تدخل صالح يقول بمزاح: " إذن دِلينا عليه بسرعة "
نظرت إلى قاسم وهي تتقدم منه وبجرأة أمسكت يده وهي تجثو على الأرض على ركبة واحدة رافعة رأسها للأعلى تطالع عينيه الذاهلتين وهي تقول: " هل تقبل الزواج بي قاسم؟ "
جحظت عينيّ قاسم في صدمة وكأن أحدهم سكب عليه دلو من الماء المثلج فلم يستطع النطق بحرف
ترجته بدلال: " ها.. ما رأيك؟ صدقني لن تجد عروس جميلة، لطيفة، عاقلة مثلي "
رمش لوهلة وهو يكرر كلمة قالتها في نفسه بتعجب
هل قالت عاقلة؟!
متى تعقلت ملك من الأساس؟ ألم تولد مجنونة متهورة بالفطرة؟
شعر في تلك اللحظة بأنه يريد أن يضحك من كل قلبه على جنونها
أما حياة فشعرت بالغيرة الحارقة على قاسم والغيظ من أختها حتى تمنت لو تجرها من شعرها بعيدا عنه
تنهد بعمق وهو يرفعها عن الأرض قائلا بهمس حاني: " هل جننتِ يا ملاك؟ لستِ لي ولا أنا لكِ "
ردت عليه بهمس مماثل: " الغبية التي تحبها تكاد تحترق من الغيرة الآن.. (ثم تابعت بسخرية طفيفة) والبطل الذي أحبه يكاد يصفعني اللحظة وكلاهما غبيان يستحقان ما يشعران به "
عبس قاسم في وجهها وهو يتهكم بالقول: " وأنتِ ما شاء الله عليكِ قنبلة ذكاء متحركة "
غمزت له بطرف عينها بشقاوة وهي تسر إليه بالقول: " بالطبع وسأثبت لك ذلك حالا حينما تجدني أحصل على ما أريد بأقل جهد.. راقبني "
إلتفتت ملك وقد تبدلت ملامحها فجأة إلى البؤس وهي تتمتم: " لم أتخيل للحظة أن أكون سيئة لهذه الدرجة التي تجعل ابن عمي يرفضني "
ناكفها صالح: " أوَ لم تجدي غير قاسم يا ملاك؟ "
تنهدت بحزن وهي تقول: " ظننته سيجبر بخاطري الذي كسره أخاه برفضه لي "
شهق ياسين بذهول وهو يرد مشيرا إلى نفسه: " أنا! متى فعلت هذا؟ "
نظرت له بأسى وهي تقول: " أوَ لم تفعل؟ "
رد على الفور ودون تفكير: " لا طبعا.. كيف أرفضكِ هل أنا مجنون؟ "
رمشت بعينيها قليلا وهي تناظره برقة قائلة: " وماذا تنتظر إذن؟ "
قطب بغباء يقول: " ها! ماذا يفترض بي أن أفعل؟ "
ابتسمت بخجل وهي تقول مشيحة بوجهها عنه في حياء: " أطلبني للزواج من جدي "
فغر فاهه بذهول قبل أن يقول بشك: " حقا يا ملاك! "
اومأت وهي على نفس حالتها: " نعم "
دون تردد كان يتقدم من جده قائلا بحماس: " زوجني ملاك يا جدي "
انفجر الجميع في الضحك عدا قاسم الذي ابتسم إبتسامة صغيرة وحياة التي أخذت تنظر إلى أختها في ذهول وهي لا تكاد تفهم شيء مما يحدث
رد عبد الرحمن متهكما: " كنت تلعب منذ قليل دور البطل "
رد ياسين ببساطة: " ومن قال أنني أحب الأبطال؟ أنا شاب عادي ولا أفقه شيئا في مثل هذه الأمور "
قطب عبد الرحمن يرد: " كم وددت لو حرمتك منها لكن... (نظر إلى ملك التي لازالت تتشح بالسواد منذ علمت بخبر موت الدكتور مختار ثم تابع) لكني موافق.. لأجلها هي "
كاد ياسين يقفز من الفرح وهو يقول: " كم أحبك يا جدي "
إلتفتت ملك برأسها إلى قاسم تبتسم له بانتصار فأومأ لها بهزة بسيطة من رأسه وأبتسم لها بحنان وهو يقول: " ولتكن أول مباركة لكما مني.. (ثم أقترب من ياسين وضمه بمحبة وهو يتابع حديثه) مبارك أخي "
طالعه ياسين بأسى فربت قاسم على كتفه قبل أن يهمس له: " ليسعد أحدنا في حياته على الأقل.. حافظ عليها.. ملاك أصبحت أمانة عندك منذ اللحظة يا أخي فكن على قدر المسؤولية "
اومأ ياسين برأسه دون تعقيب وهو يشعر بالقهر والحرقة على أخيه
التفت قاسم متقدما من ملك باسما وهو يقول: " مبارك عليكِ يا ملاك.. ربحتِ يا فتاة "
ابتسمت بشقاوة وهي ترد: " نعم ربحت.. كانت من حظي الجائزة الكبرى "
توالت عليهما المباركات من الجميع بينما قاسم لم ينس أن ينظر إلى عينيّ حياة مباشرة وهو يخبرها بوضوح عن طريق نظراته أنها هذه المرة لم تكتفي بجرح قلبه فقط بل غرست سِكينها الثلم في صميم روحه حتى تركته من خلفها يلفظ آخر أنفاسه دون أن ترحمه كعادتها
خرج قاسم من المجلس يشعر بأن كل ما فيه ينزف خاصة كبريائه الذي أراقته حياة برفضها المتعنت الغبي
أقسم بداخله ومن صميم قهره أن يرد لها تلك الضربة حتى وإن كان فيها موته نهائيا
نعم سيتألم لألمها ويتوجع حزنا عليها لكنه لن يتراجع، تحتاج لضربة قوية تخرجها من ظلام جُبها الذي تغرق فيه بدون مقاومة وهو يعلم جيدا كيف سيوجه ضربته لها
لقد خسر كل شيء وأنتهى الأمر لذا سيفعلها وليكن ما سيكون!..

انتهى الفصل، واتمنى أن أكون وفِقت فيه وحظى على إعجابكم…

Hend fayed 15-10-19 06:43 PM

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
 
أولا ممنونة جدا لمتابعتك لفصول الرواية وتقييمك ليها يا جميلة🌹
ثانيا هرد على تساؤلاتك..
_ دي فعلا أول رواية ليا انشرها هنا في المنتدى واتمنى ألا تكون الأخيرة بإذن الله.
_سعيدة جدا إن الفصول مش مملة زي ما قولتي وإن السرد عجبك.
*ونيجي لأبطال الرواية بقى...
_بالنسبة لأمر زيد وتواجده مع يوسف يوم الحادث القديم.. حبيبتي لو لاحظتي هتلاقيني ذكرت إن يوسف كان هو اللي بيرد على فؤاد وبيتصدر له وإن هو برضو اللي اتحداه على عكس زيد اللي مظهره منه أي رد فعل يضايق فؤاد مثلا وعشان كدا فؤاد كان غاضب من يوسف مش زيد ودا اللي خلاه يشير للرجل بتاعه على يوسف عشان هو في نظره غلط في حقه ولازم يتعاقب.
_صخر شايف نبض طفلة لأنها من وجهة نظره صغيرة السن.. شايف إن من حقها عليه يراعيها وبس لكن مش يدخلها في متاهات كبيرة زي الزواج وهنعرف في الفصول الجاية السبب الأكبر وراء صدمة صخر المتأخرة بالنسبة لموضوع زواجه من نبض.. والسبب دا يعد هو مربط الفرس أو بمعنى أصح اول خيط يدل على هوية صخر.
_زيد شاب مدلل حنون إدارة أمر طبيعي نظرا للتربية اللي تلقاها من والديه وحب عيلته الكبير ليه وخصوصا بعد اختفاء يوسف.

*اتمنى اكون كدا قدرت اجاوبك عن استفساراتك بدون ما أحرق لك الأحداث القادمة.. ولا حرمني الله من تعليقاتك الحلوة❤
*أما عن صور الأبطال فبإذن الله هكلمك إحدى المشرفات بخصوص الأمر دا لإني بصراحة جديدة هنا مش عارفة ازاي انزلهم.. لكن ممكن انزلهم على صفحة الفيسبوك الخاصة بالمنتدى ولو أنتِ عضوة فيه عرفيني أعملك منشن على البوست لما ينزل بإذن الله.

Hend fayed 16-10-19 06:49 AM

عزيزتي🌹 ردي على تعليقك هتلاقيه مباشرة بعد الفصل الرابع..

Hend fayed 22-10-19 05:43 PM

سُلاف الفُؤاد
 
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد؛
|| الفصل الخامس ||

في مشفى العاصمة
كان يوسف يسير في الممر المؤدي إلى استراحة الأطباء منشغلا بهاتفه بين يديه وهو يحاول أن يهاتف صخر وفي كل مرة ينتهي جرس الرنين دون إجابة حتى وجده مغلقا تماما في آخر مرة
زفر بضيق وهو يتمتم: " لا يمكن أن تكون قد أسأت الظن بي يا صخر.. هذا غير معقول "
اتصل بهاتف الفيلا فردت علية على الفور تخبره أن صخر لازال في جناحه ولم يغادره بعد فطلب منها أن تخبره حينما يستيقظ أن يعاود الإتصال به
وضع الهاتف في جيبه وهو يتمتم بتعجب: " ليست من عادته أن يطيل النوم حتى هذه الساعة.. ترى ماذا يحدث معك يا صاحبي ولم تخبرني عنه؟ "
وفجأة ظهرت أمامه ريم تتهادى في مشيتها بخيلاء كطاووس مغرور يتباهى بريشه الملون
أشاح بوجهه عنها وهو يتأفف وكاد يتخطاها بتجاهل لكنها وقفت أمامه تقطع عليه الطريق وهي تقول بإبتسامة خبيثة: " صباح الخير دكتور يوسف "
وقف أمامها يحاول تمالك أعصابه بصعوبة وهو يرد ببرود: " صباح الخير دكتورة ريم "
حرك رأسه بلا معنى وهو يحاول تخطيها مرة أخرى لتعود وتقف أمامه قائلة: " ألن تبارك لي؟ "
حدث نفسه بضيق: " على دنو أجلكِ إن شاء الله "
زفر متماسكا أعصابه وهو يرد بهدوء ظاهري: " على ماذا دكتورة؟ هل فاتني شيء؟ "
ابتسمت ريم بمكر وهي تقول: " قريبا جداً سأكون شريكة أساسية في هذه المشفى "
قطب يوسف بعدم فهم يتمتم: " ماذا؟ عذرا.. هلا وضحتِ لي أكثر فأنا لم أفهم قصدكِ؟ "
ردت ريم بهدوء خبيث: " دكتور معتز كان يتحدث بالأمس عن نصيب دكتور مختار رحمه الله من المشفى وأنا أرى أنني الأحق بالمشاركة "
عبس يوسف وهو يرد: " إن كان دكتور معتز فتح موضوع ملكية هذه المشفى وتحدث عن نصيب دكتور مختار رحمه الله فبالطبع لم يقصد أن يعرض على أحد شراء نصيب دكتور مختار فابنته موجودة "
ردت ريم ببرود: " لا تكن واثقا هكذا.. دكتور معتز سيفعلها اليوم أو الغد فبالتأكيد سيكون بحاجة لشريك جديد بدلا من دكتور مختار أما عن ابنته فلا أظن تلك المراهقة السخيفة ستفقه شيئا في تلك الأمور "
جز يوسف على أسنانه بغضب وهو يقول: " والله يا ريم لولا أننا في مشفى محترم لكنت أخبرتكِ بطريقة أفضل من الكلام من هي السخيفة على حق "
قطبت ريم بذهول غاضب من الطريقة التي يحدثها بها لأول مرة في حين تابع يوسف بحقد: " أنسيتِ أن تلك المراهقة باتت امرأة متزوجة الآن.. اممم وخمني ماذا سيفعل بكِ زوجها إن علم بأنكِ تهينين زوجته؟ "
قبضت على كفيها بغيظ وهي تتمتم بغل: " لن أتركه لتلك الحقيرة طويلا.. صخر سيكون لي في النهاية "
قبض يوسف على ذراعها بقسوة مفرطة وهو يميل على أذنها هامسا بشراسة: " ليس هناك من هي أكثر منكِ حقارة يا ريم ولولا معرفتي الوثيقة بسجلكِ وعائلتكِ الحافل لكنت خُدِعت كالكثير بمظهركِ المنافق أيتها الحرباء المتلونة "
تسارعت أنفاسها فجأة وهي تحدق في عينيه برعب قائلة: " م... ماذا تقصد؟ "
رفع حاجبا وهو يبتسم بغل مكبوت قائلا: " سأترك عقلكِ العبقري يخبركِ بما أقصده دكتورة... ريم... فؤاد... الناصر "
دفعها بعنف بعيدا فتراجعت للخلف بعدم ثبات وهي تكاد تصرخ بينما تقول بشراسة: " كيف عرفت؟ من أخبرك؟ "
إبتسم ببراءة زائفة وهو يغيظها بالقول: " العصفورة أخبرتني "
تخطاها ببساطة لكنه توقف فجأة يقول: " لا تعبثي بممتلكات الغير ونصيحة لكِ مني ابتعدي عن طريق صخر وإلا سترين منه ما لن يسُركِ أبداً "
رمى ما في جوفه وذهب تاركا إياها خلفه ترتجف من الرعب والتفكير يعصف بها
كيف علم هويتها الكاملة التي بذلت جهدا كبيرا في السنوات الماضية لكي تخفيها عن الجميع؟
جزت على أسنانها بقوة وهي تقول بغل: " لست صيدا سهلا كما ظننتك يا يوسف لكن حسنا.. أنت اخترت عداوتي وأنا سأكون كريمة معك ولن أحرمك من هذا الشرف الكبير "
***

بعد ساعة
كان صخر يصف سيارته في مرآب المشفى حينما رن هاتفه فأخرجه من جيب سترته يطالع الشاشة التي تومض بإسم نبض بتعجب متحير ليجيب بعد لحظة بقلق: " نعم نبض.. ماذا حدث؟ هل أنتِ بخير؟ "
ردت نبض على استحياء: " أجل أنا بخير لكن... "
سكتت فتكلم هو يسألها بقلق شديد: " لكن ماذا يا نبض؟ تكلمي صغيرتي "
تنحنحت قليلا وبدت مترددة في الحديث قيل أن تستجمع شجاعتها وهي تقول: " أريد القدوم إلى العاصمة "
قطب بحيرة يسألها: " لماذا؟ "
ردت بخجل: " نسيت في شقة أبي شيء مهم وأريد أن أحضره "
تنهد براحة وهو يقول: " أي شيء صغيرتي؟ أخبريني ما هو وسأحضره لكِ بنفسي؟ "
هتفت على الفور بإندفاع: " لا.. لا يمكنني إخبارك عنه إنه... إنه... شيء خاص "
عبس بغيظ وهو يصيح: " أي شيء خاص هذا الذي تريدين اخفائه عني يا نبض؟ أنطقي "
ردت بغيظ طفولي: " لماذا تصرخ عليّ؟ ألا تستطيع أن تتكلم بهدوء كالأشخاص الطبيعيين؟ "
صاح بحنق: " لا "
فردت هي بصراخ مغتاظ: " إذن من الأفضل أن يبدأ عمي معتز في البحث لك عن علاج مناسب في أسرع وقت فقد أصبحت شخص لا يُطاق "
سحب صخر الهاتف يطالع شاشته المظلمة فجأة وهو يتمتم بصدمة: " هل أغلقت الهاتف في وجهي بعدما أنهت حديثها؟ أيتها المتمردة سأريكِ مقامكِ "
***

بعد بضعة ساعات / في المدينة الجبلية
كانت تقف خلف ظهر فاطمة تحتمي فيها من ذلك المارد الذي يكاد ينفث اللهب من فمه وأذنيه من شدة غضبه الذي يكبته
صرخ من جديد وهو يتخصر: " تغلقين الهاتف في وجهي يا نبض!.. "
خرجت من مخبأها خلف ظهر عمتها فاطمة تقف أمامه بصورة مماثلة له متخصرة وهي ترد: " أنتَ من بدأت أولاً في الصراخ عليّ إذن البادئ هو الأظلم "
رفع حاجبا وهو يقول بشراسة: " تتحديني إذن "
رمشت لوهلة قبل أن تقول بشجاعة: " أجل أتحداك "
صرخ بضيق: " حسنا.. دعينا نرى إلى أين ستصل بكِ شجاعتكِ في تحديكِ لي؟ "
تقدم منها عابسا فصرخت بخوف وهي تركض هاربة منه بينما هو يطاردها بلا هوادة
تنحت فاطمة جانبا والتزمت المطبخ وهي تعد طعام العشاء في وقت باكر لسبب ما بينما تزين شفتيها إبتسامة راضية وهي تدعو الله بأن يوفق بين قلبيهما ويرزقهما المحبة والسكينة والسلام
بعد لحظات كانت قد توقفت مكانها على بُعد مسافة منه بعدما تعبت من الركض وبدأت تتراجع للخلف وهي تشهر سبابتها في وجهه قائلة من بين أنفاسها المتسارعة من المجهود الذي بذلته: " أبق مكانك.. إياك أن تقترب "
نظر لها صخر ببرود وهو يقول متهكما: " خانتكِ شجاعتكِ سريعا يا صغيرة "
صاحت بغيظ: " وكيف لا تفعل؟ معها حق أن تخونني وتفر هاربة من أمامك قبل أن تأكلها يا متوحش "
رفع حاجبا بوحشية وهو يتقدم منها بخفة متمتما بغيظ: " هكذا إذن "
تراجعت نبض خطوة أخرى بخوف حتى لا يمسك بها لكنها فجأة شهقت برعب وقدمها تنزلق عن الدرج فصرخت بقوة: " صخر "
قبل أن تسقط أرضا كانت ذراعيه تضمانها إلى صدره بلهفة ولسانه ينطق بلا شعور: " فداكِ روح صخر "
كانت تتشبث بقبضتيها الصغيرين في قميصه بقوة، صدرها يعلو ويهبط هادرا بأنفاس حبستها خوفا من السقوط بينما صدره هو يضربها بشدة من أنفاس حبسها خوفا عليها
بعد لحظات رفع وجهها إليه فوجدها تطبق جفونها بقوة وتزم شفتيها بطريقة طفولية رقيقة مست قلبه
تكلم بخفوت حاني: " نبض.. صغيرتي افتحي عينيكِ وطُلي عليّ بجوهرتيكِ الزرقاوتين حتى يطمئن قلبي من أنكِ بخير "
رمشت بأهدابها الكثيفة عدة مرات وهي تفتح عينيها التي قد تجمعت فيهما العبرات تطالعه بنظرة حملت من الرقة والبراءة ما اخترق روحه حتى الصميم وعاث بقلبه الفساد بلا رحمة
كانت ترمش مرة بين الفينة والأخرى فيضيع بين قتامة زرقاوتيها ورفرفة أهدابها حتى قالت أخيرا برقة: " قل لقلبك يطمئن فأنا بخير "
تمتم لنفسه بتنهيد: " هذا من رحمة ربي بي وإلا هلكت "
ابتسمت وهي تسأله ببراءة: " لماذا أنت طويل هكذا؟ عنقي آلمني "
كانت قصيرة بالكاد يصل طولها لكتفيه مما أضطرها لأن ترفع رأسها عاليا حتى تتمكن من النظر إليه
وجد صخر نفسه يبتسم إبتسامة صغيرة تنبض رقة وعذوبة وهو يميل على وجهها هامسا بمناكفة: " لأنه لا يليق بالمارد المتوحش أن يكون قصيرا يا قزمة "
ارتد رأسها للخلف بصدمة وارتباك وهي تترك قميصه فجأة قائلة: " صخر.. أتركني "
تركها دون جدال وهو يسأل بحيرة: " ماذا حدث نبض؟ هل فعلت ما ازعجكِ دون شعور مني؟ "
هزت رأسها سلبا وهي تقول بتوتر خجول بينما تشيح ببصرها عنه: " لا لكن... لكنك كنت قريبا جداً مني و... و... "
سألها مقطبا: " وماذا يا نبض؟ "
ردت بصوت خافت يكاد لا يصل إليه: " أنا أتوتر من قربك مني بهذا الشكل.. لم أعتد تلك الفكرة بعد "
سأل ببرود: " أي فكرة؟ "
ردت بتوتر: " فكرة أن... أن يقترب مني رجل "
صاح بضيق وهو يتحرك ليكون مواجها لها: " لست مجرد رجل يا نبض.. أنا زوجكِ ولي من الحقوق عليكِ ما ليس لرجل سواي ولن تكن أبداً طالما في صدري نفسا يتردد.. هل سمعتني جيداً؟ "
صدمته وهي تقول بحيرة وتشتت: " أنا أشعر بأنك لست أنت.. أشعر وكأن صخر الذي يصوره عقلي شخص آخر غيرك.. أشعر بأنني لا أعرفك يا صخر.. لست أكرهك ولا أبغضك ولكني... لكني أخافك "
تمتم بذهول: " ماذا؟ "
هزت رأسها بعصبية وبدأت تتحرك جيئة وذهابا وهي تتكلم بنفس النبرة الضعيفة الضائعة: " نعم أخافك.. أهاب رؤياك أكثر من أي شخص آخر.. قبل أن يموت والداي لم أكن أشعر بالخوف منك بل كنت أرى في وجودك راحة كبيرة أما الآن وبعد أن... أن تغيرت الكثير من الأمور أصبحت حياتي تدور في فلكك وحدك وهذا جعلني أشعر بالرهبة منك وكأنني ما عرفتك يوما قبل أن تعقد قرآنك عليّ ذاك اليوم في المشفى "
توقفت فجأة تنظر إلى عمق عينيه وكأنها تحاول ثبر أغواره: " من أنتَ يا صخر؟ "
نجحت في اختراق أولى طبقاته الخفية فوترته حتى قطب بحنق وهو يقول مراوغا: " ماذا تعنين بسؤالكِ هذا يا نبض؟ لم أفهم ما تقصدينه بالضبط "
تنهدت بيأس وهي ترد: " لا أعرف لكن... إن كنت أنت لا تعرف من تكون فكيف ستجيبني على سؤالي يا صخر؟ "
***

بعد بضعة دقائق
حينما خرجت فاطمة من المطبخ وجدت صخر يجلس على الأريكة بينما نبض تقف أمام النافذة مكتفة ساعديها أمام صدرها ومنشغلة بمراقبة عصفور يقف على إحدى الأغصان في الحديقة
شعرت فاطمة أن حالة السكون السائدة بينهما لابد أن تكون خلفها مشكلة جديدة ففضلت عدم التدخل كعادتها حتى يطلبان منها النصح
ابتسمت بهدوء وهي تقول: " لم تخبرني بني كم من الوقت ستمكث هنا لكن لا بأس فعلى أي حال وجودك جيد لأنني سأخرج الآن ولم أكن أريد ترك نبض في البيت وحدها "
سألها صخر بإهتمام: " ستخرجين! إلى أين عمتي؟ "
ردت بنفس الإبتسامة: " إلى دار الجبالي اشتقت لزهراء كثيرا وقد علمت أنها عادت وحمزة منذ بضعة أيام "
قطب صخر بحيرة يسألها: " أليس باكرا على عودتيهما؟ لم يمر أسبوعين على عرسهما بعد "
تنهدت فاطمة وهي ترد: " هذا أفضل بني.. هنا سنستطيع حل الخلاف الذي بينهما بشكل أسرع "
رفع حاجبا يردد بتعجب: " خلاف! بهذه السرعة "
عبست فاطمة بغيظ وهي تقول: " الحمقاء أرادت أن ترسم صورة لأحد الرجال هناك وليس هذا فحسب بل وأخبرت حمزة بأنه شديد الوسامة والذوق ويجيد معاملة النساء برقة على خلافه "
قطب صخر بغضب وهو يهتف بشراسة: " قليلة الحياء هذه تستحق أن يفصل زوجها رأسها عن جسدها وقبل ذلك يقطع لسانها الطويل الوقح "
تفاجأت فاطمة من انفعاله البالغ بينما استدارت نبض تطالعه بعبوس وهي تقول: " ماذا تظن أنت؟ هل تعتقد أن كل الرجال مثلك يجنحون إلى القسوة والعنف؟ ليس كل خطأ يلزمه عقابا صارما.. بعض الأخطاء تحتاج إلى عِظة ونصح.. الفتاة لكي ينصلح حالها مع زوجها تحتاج إلى من يرشدها إلى الطريقة الصحيحة في التعبير عن رأيها وليس لمن يقطع لسانها "
هب من جلسته وهو يرفع سبابته في وجهها قائلا بحدة: " لا تتدخلي أنتِ فيما لا يعنيكِ.. كوني بعيدة عن تلك العائلة نهائيا "
رفعت نبض حاجبا وهي ترد بكبرياء: " لا تستطيع منعي عنهم فقد كانت هناك صلة وثيقة بين تلك العائلة وأبي يوما ما ومن قبله عمي عبد الله رحمهما الله ولا أظن بأنك تحتاج إلى أن أعيد كلامي أكثر من مرة حتى تفهمه.. (نظرت إلى عينيه مباشرة وهي تكمل بإباء) لا سلطة ولا حق لك عليّ يا صخر.. ضع كلامي نصب عيناك وزنه بعقلك جيدا قبل أن تتشدق بأوامرك "
لم تدع له نبض فرصة للرد وهي تلتفت إلى فاطمة قائلة: " أخبريها عمتي أنها أخطأت فيما قالته لزوجها وأن ذلك جرح كبريائه.. أيا كانت الطريقة التي يعاملها بها لا يجب أن تصف معاملة رجل آخر بأنها الأفضل.. أظن بما أنها عروس جديدة فهي بحاجة للنصح أكثر من أي شيء آخر "
ابتسمت فاطمة راضية عن رأيها وطريقة حديثها الواعية التي تفوق سنوات عمرها وردت: " بالطبع سأخبرها حبيبتي لا تقلقي "
سألتها نبض بإهتمام: " هل لديها موهبة الرسم بالفعل أم كانت تريد إغاظة زوجها فحسب؟ "
ابتسمت فاطمة بفخر وهي تجيبها: " زهرة آل الجبالي فنانة بالفطرة بنيتي.. أظنكِ ستعجبين كثيرا برسمها فلديها الكثير من اللوحات الرائعة التي رسمتها لكل فرد من عائلتها "
قبض صخر كفيه بقوة وهو يشيح بوجهه جانبا وقد بدأت أنفاسه تثور عليه معلنة عن نفسها
ترددت كلمات فاطمة من حوله وكأنها تحاصره، تحكم طوقها حول عنقه وتريد خنقه
هل حقا رسمت لوحة لكل فرد من العائلة؟
وماذا عنه؟
هل رسمت له لوحة أيضا؟
هل يمكن أن ترى نبض صورته من بين تلك الصور حينما تشاهد اللوحات التي رسمتها زهراء؟
ردت نبض برقة: " أوصلي لها سلامي ومباركتي عمتي وبإذن الله قريبا سأزورها لأرى لوحاتها وأتعرف على العائلة كلها "
اومأت فاطمة وهي تقول بحنان بينما تتجه ناحية غرفتها: " حسنا بنيتي سأفعل وهذا سيسعدها كثيرا "
تقدم نحوها بمجرد أن أغلقت فاطمة باب غرفتها فثبتت مكانها دون أن تتراجع أو تظهر له أي خوف منه وكأنها تتحداه
قبض على مرفقها وهو يميل برأسه عليها يحدثها بخفوت كيلا تسمعهما فاطمة: " تماديتِ كثيرا يا نبض وقد سكت حتى لا يزيد الأمر سوءًا أمام العمة فاطمة لكن والله يا نبض إن... "
نفضت ذراعها من قبضته بعنف وهي تجز على أسنانها بقوة بينما ترد بصوت رغم خفوته يصرخ غضبا: " اصمت قليلا وكف عن القسم.. ألا تملك بعضا من الخجل من الله؟ أخبرني كم مرة أقسمت عليّ ألا أفعل شيء وقد فعلته رغما عنك ها.. كم مرة؟ وكم مرة تشدقت بكل عجرفة أنني لا أستطيع فعل شيء ما وقد فعلته؟ كم مرة أخبرني؟ "
صمتت لحظة ثم تابعت بعنفوان: " كثير جدا يا صخر.. كثير بقدر ما لا تستطيع إحصائه ولن تستطيع لأنني لست طوع بنانك، لست دمية تحركها كيفما تشاء.. أنا إنسانة من لحم ودم، إنسانة أملك عقل كالذي وهبه لك الله.. أستطيع مثلك التفكير والتمييز فلا تعاملني على أنني أقل منك لأنني لن أسمح لك بهذا "
هتف بغضب وقد بدأ يفقد سيطرته على نفسه: " متى عاملتكِ بتلك الطريقة التي تصفينها؟ "
هتفت هي الأخرى بنفس الغضب: " في كل مرة تملي عليّ أحكامك وأوامرك أشعر بأنك تعاملني بهذه الطريقة.. في كل مرة تصرخ عليّ بدون سبب أشعر بأنك تعاملني بهذه الطريقة، وفي كل مرة تتعامل معي بمبدأ أنك الرجل ذو القوامة وصاحب العقل ذو الذكاء الخارق بينما أنا الطفلة الحمقاء الساذجة التي لا تعي أي شيء أشعر بأنك تعاملني بهذه الطريقة "
حدجها بإستنكار لما تقول بينما هي أردفت بترفع وهي تشهر سبابتها في وجهه بأنفة: " إن كنت أعتدت لعب دور صاحب السلطة وما دونك دون فلا تظن بأنني سأشارك في هذه اللعبة السخيفة لأنها لا تليق بي (ثم شمخت بذقنها وهي تقول) أنا نبض مختار زين الدين لست نداً ضعيفا فلا تستهين بي دكتور صخر الجياد "
تركته من خلفها في حالة خرس وهو يتابع خطواتها الغاربة عن مدى بصره في صدمه
تلك الشرسة ليست نبض بل لا تمس لها بصلة
لا يصدق أنها تمتلك كل هذه الشجاعة لدرجة أن تقف أمامه وتتحداه بهذه الطريقة
يشعر بأن هذه كانت فتاة أخرى غير نبض التي يعرفها وفي لحظة كانت ذاكرته القوية تعيد عليه كلمات فاطمة التي أخبرته بها حينما كانوا في العاصمة
' هذا أكبر دليل على أنك لا تعلم عنها شيء.. أنت لا تعرف متى تكون نبض المهرة الخجول ومتى تكون الفرس الجامحة؟ '
لقد أكتشف في هذه اللحظة أنه حقاً لا يعرف عنها أي شيء!
لسنوات كان يرسم لها صورة محددة قصرها هو على رؤيته الخاصة دون أن يمنح نفسه فرصة لتأملها عن كثب لربما حينها علم أن نبض كما قالت عن نفسها ليست نداً ضعيفا يستهان به
تنهد بإحباط وهو يتمتم: " هذا يزيد الأمر سوءًا.. رُحماك يا الله "
***

كانت زهراء تبكي من القهر وهي تشهق كالأطفال قائلة: " وما ذنبي أنا؟ الرجل رآني وأنا أرسم فطلب مني رسم لوحة له ولست أنا من ركضت خلفه أتوسله أن يسمح لي برسمه كما يصف حمزة الموقف "
قالت فاطمة بتقرير: " وأنتِ وافقتِ مباشرة "
عبست زهراء متمتمة: " بالطبع ولماذا أرفض؟ "
ضربتها فاطمة بخفة غير مؤلمة على رأسها وهي تجيبها بغيظ: " ترفضين لأن زوجكِ يغار يا ذكية.. أحمدي ربكِ أنه لم يتشاجر مع الرجل وأكتفى بأخذكِ ومغادرة المكان "
رفعت زهراء سبابتها وهي تلوح بها بعصبية، هاتفة: " أنتِ تدافعين عنه أكثر مني.. هذا ظلم "
كتمت فاطمة ضحكتها وهي تقول بلامبالاة مصطنعة: " بالطبع سأدافع عنه فأنتِ من أخطأتِ وليس هو "
صاحت زهراء بغيظ: " بل لأنكِ تحبينه أكثر مني "
كتمت فرح ضحكتها بصعوبة وهي تقول ببؤس مصطنع: " أنسيتِ زهراء أن العمة فاطمة هي مؤسسة جبهة التحالف العليا مع رجال الجبالي وأنها قائدة رابطة للرجال القوامة والكلمة والحق أما نحن... زمرة المساكين علينا الطاعة.. لا تحزني يا ابنة عمي لنا الله "
عبست زهراء أكثر وهي تقول بعناد: " أنا لن أطيع أحد وليكن ما سيكون "
هتفت فرح بحماس: " هذا ما أريدكِ عليه يا فتاة.. كوني شجاعة "
لم تكد زهراء تتفوه بحرف حتى ناداها حمزة بعبوسه الملازم: " إذا سمحتِ زهراء أريدكِ قليلا "
نهضت من مكانها ببرود وهي تتقدم منه قائلة: " قل ما تريده هنا فأنا لازلت أريد مجالسة عمتي فاطمة "
قطب بغيظ متمتما: " لن أؤخركِ كثيرا عليها "
ناظرته بعناد تقول: " لا.. تكلم هنا "
مال عليها يهمس من بين أسنانه بغيظ: " كيف سأخبركِ بأنني اشتقت إليكِ هنا أمامهن وخاصة مع أذني فرح الواصلتين إلينا "
توردت زهراء خجلا وهي ترمق فرح بطرف عينها لترى الأخيرة مسلطة نظراتها عليهما بإبتسامة واسعة بينما العمة فاطمة تتصنع الإنشغال بالنظر إلى السجادة
عادت نظرات زهراء إلى حمزة وهي تهمس له بدلال معاتب: " تأخرت كثيرا سيد حمزة ظننتك نسيتني من الأساس "
زفر حمزة بضيق وهو يرد بخفوت: " وكيف أنساكِ زهرة وأنتِ تظهرين أمامي كجني المصباح في كل مكان؟ يا حمقاء أنا لا أستطيع الفكاك منكِ حتى في أحلامي فما بالكِ بيقظتي؟ "
اندمجت روحها مع قلبها متعانقين في رقصة خاصة على أوتار نبضها من السعادة
تشعر أنها تكاد تقفز كالأطفال من فرحتها وهي تسمعه يعبر عن تعلقه بها بكلمات صريحة أخيرا حتى ولو كانت تخرج منه بعبوس وكأنها شتائم
أطرقت برأسها للأرض في خجل وهي تزم شفتيها حتى لا تظهر إبتسامتها فقال هو بنفس العبوس: " هل ستصعدين معي إلى جناحنا أم أذهب إلى المكتب وأقتل نفسي في العمل "
نظرت له زهراء ببلاهة وهي تسأله: " ولماذا تقتل نفسك في العمل؟ "
رد بغيظ وهو يجز على أسنانه وكأنه يريد خنقها لا الإعتراف بحبه لها: " لأنني سأفعل على أي حال فإما أن يكون بين أحضانكِ أو في العمل لأنني بالفعل سأموت شوقا إليكِ يا زهرة "
رمشت زهراء بذهول للحظة قبل أن تقول بعبوس طفولي: " ولماذا تقولها بهذه الطريقة وكأنني سرقت منك شيء ألا يمكنك أن تبتسم على الأقل؟ "
تنهد بعشق وهو يقول: " أوَ لستِ بسارقة يا زهرتي؟ ألم تسرقي قلبي مذ كنتِ طفلة تنطقين إسمي بالسين وليس بالزاي؟ "
ضحكت زهراء بحرج وهي تلكزه في كتفه بغيظ: " هل هذا وقت تلك الذكريات البائسة؟ لماذا تذكرني بهذه العقبة التي عانيت منها طويلا في طفولتي؟ "
إبتسم بحنان وهو يرد: " دومًا كان النطق عقبة لديكِ في طفولتكِ ولكن انظري لنفسكِ الآن ما شاء الله لا نستطيع إسكاتكِ عن الكلام لدقيقتين حتى "
رفعت حاجبا بغيظ تقول: " إذن تريد إسكاتي سيد حمزة؟ "
هز رأسه سلبا وهو يقول برقة: " بالطبع لا ثم أنتِ لا تعرفين كم أن مراقبة هذا الفم الجميل وهو لا يكف عن الحديث متعة بالنسبة لي "
أشاحت بوجهها جانبا في خجل وهي تقول: " عيب ما تقوله يا حمزة "
جرها خلفه بنفاذ صبر وهو يتمتم: " سأخبركِ تفصيلا ما هو عيب وما ليس عيبا يا زهرة "
صاحت باعتراض وهي تهرول خلفه: " لكن عمتي فاطمة... "
قاطعها بسرعة يقول: " لا تقلقي بشأنها هي تعلم أنني أتيت لأصالحكِ ولن تنزعج منكِ لتركها "
وصلا إلى جناحهما فأدخلها حمزة وأغلق الباب من خلفهما بالمفتاح وهو يقول: " لم أكن أعرف أنكِ قاسية الفؤاد هكذا يا زهرتي؟ "
عبست بغيظ وهي ترد: " وأنت ما شاء الله رقيق للغاية لم تتركني ليلة أنام باكية "
رد ببرود: " ومن السبب في كل ما جرى بيننا أليس أنتِ؟ "
طالعته بذهول وهي تقول: " ألازلت على تمسكك برأيك يا حمزة؟ إذن أنا المخطئة وأنت البرئ أليس كذلك؟ "
تأفف حمزة دون رد فسألته بنبرة مختنقة: " إن لم تكن غيرت رأيك فلماذا جئت لتصالحني؟ هل إشتقت للعبتك؟ "
قطب بضيق وهو يرد: " ليس هناك داعٍ لما تقولين يا زهراء.. الموضوع إنتهى "
شهقت ببكاء وهي تقول: " لا لم ينته يا حمزة... لم ينته.. بعد إذنك "
أمسك رسغها بسرعة وهو يسألها: " إلى أين؟ "
ردت عليه بقهر وقد انفلتت منها المزيد من الشهقات: " إلى الجحيم "
جذبها برفق إلى صدره وطوق خصرها بذراعيه وهو يقول ببرود مصطنع: " ستجدين الكثير منه لدي لا تقلقي "
رفعت ذراعيها تطوق بهما عنقه بقوة وهي تدفن وجهها في كتفه شاهقة بحرقة: " أنا أحبك أنت "
تنهد بعمق وهو يرد: " وأنا أغار عليكِ يا زهراء.. احترمي مشاعري حتى لا اجرحكِ بدون قصد فهذا والله يؤلمني قبلكِ "
رفعت رأسها تنظر إليه برقة مست قلبه وهي تسأله بترقب: " أنت تحبني يا حمزة أليس كذلك؟ "
رفع حاجبيه مصدوما وهو يرد: " ألازلتِ تجهلين ما أكنه لك يا زهراء؟ المجرة بأكملها تعلم وأنتِ لازلتِ تسألين "
برمت شفتيها ببؤس طفولي وهي تقول: " قُلها صريحة وأرح قلبي وإلا قتلت نفسي اللحظة "
إبتسم بحنان وهو يميل مقبلا جبينها قبل أن يقول بحب: " ألا تشعرينها معي يا زهرة بدون كلام؟ "
رمشت ببراءة تأسره وهي تتوسله برقة: " مرة واحدة.. أرجوك يا حمزة.. لأجل خاطري قُلها مرة واحدة "
كانت شهية بالنسبة له وهي ترمش بتلك البراءة المخادعة التي يقع في فخها كالأبله
يحبها وكيف لا يفعل وهي تلك الزهرة التي نشرت عطرها في حياته فجعلته يحيا كما لم يكن من قبل
زهرة فاحت بعبق شذاها في روحه فأزهرتها بعدما كانت تشكو الجفاف
إبتسم بهيام عاشق وهو يميل على أذنها هامسا برقة عذبة: " أحبكِ زهرتي "
هللت زهراء فجأة وأخذت تتقافز كالأطفال وهي تصفق بكفيها في جذل صائحة بسعادة: " لقد قُلتها أخيرًا "
ضحك حمزة بسعادة لسعادتها وهو يقول: " وسأعيدها عليكِ حتى تملينها "
توقفت عن الحركة تطالعه بحب وهي ترد: " لن أملها أبداً يا حمزة.. أشعر اللحظة بأن قلبي يرفرف في السماء من السعادة "
انفجر حمزة ضاحكا وهو يقول بمناكفة: " أخبري بقية الأعضاء أن تثبت مكانها حتى لا نضطر إلى تقفي أثرهن طوال الليل بدلا من تعويض ما فاتنا "
لكزته في كتفه بخجل وهي تتمتم: " غليظ "
ضحك من جديد وهو يقول: " هذا خطئي لأنني أنصحكِ يا مجنونة "
عبست وهي ترد: " لا تقل مجنونة هذه "
رفع حاجبا باستفزاز وهو يقول بإغاظة: " بلى سأقولها يا مجنونتي "
زفرت بغيظ فقربها منه برفق وهو يقول برقة: " نعم مجنونة وأنا أحبكِ في كل حالاتكِ يا زهرتي "
طوقت عنقه وهي تقول بدلال: " أعتذر لأنك أبكيت زهرتك كثيرا "
إبتسم بمكر وهو يقول: " سأفعل يا حلوة لا تقلقي ولكن أولا علينا سداد الديون المتراكمة علينا "
قطبت بعدم فهم تسأله: " أي ديون تقصد؟ "
اتسعت إبتسامته وهو يقول بخبث: " سأخبركِ بالتفصيل عن ماهية تلك الديون "
وبعدها لم يعرفا أيهما ضاع في الآخر أولاً، تلاشى بينهما الزمان والمكان وسبب الخلاف ولم يتبقى سوا ظلال العشق التي ظلت تنثر عطرها من حولهما
لم تعد زهراء تبالي ولا تهتم بأن يعتذر لها فكلمة أحبك منه تكفيها لتغفر له ألف خطأ وتمنحه ألف عذر وتضحي في سبيله بالغالي والنفيس
ولم يشعر حمزة بنفسه وهو يخضع لإرادة ورغبة زهرته.. وجد لسانه طواعية يبثها من كلمات الغزل والغرام ما كان يجهله حتى يوم قريب وشعر بالحرج من قوله لها بعد الزواج
شعر بأنه يريد أن يفعل لأجلها أي شيء وكل شيء لأجل أن يرى الفرح يتراقص في عينيها الحبيبتين كما يتراقص قلبه فرحا بقربها
إن كانت هذه ستكون نهاية كل خلاف بينهما فليتشاجرا كل لحظة وليختلفا بسبب أو بدون فليصرخ وتصرخ.. فليغضب وتنزعج هي منه بطفوليتها التي يعشقها وليكن حبهما لبعضهما ثالثا لهما وشاهداً عليهما ومرسى لهما في نهاية الأمر
***

كانت فاطمة على وشك الخروج من دار الجبالي عائدة إلى بيتها حينما قابلها حبيب قلبها قاسم.
تحب كل فرد من عائلة الجبالي بطريقة مختلفة ولقاسم مكانة خاصة وحظوة بقلبها لا ينافسه عليها سوا اثنين 'نبض، يوسف'
انتظرته على بعد خطوات من بوابة الدار فتقدم منها على الفور حينما رآها
مال على رأسها يقبل جبينها وهو يقول: " مرحبا بك عمتي "
ابتسمت له بحنان وهي تربت على لحيته الخفيفة المشذبة قبل أن ترد: " الحمد لله أن رأيتك قبل رحيلي بني.. أين كنت منذ الصباح الباكر؟ "
رد بهدوء: " كنت في العاصمة أنهى بعض الإجراءات القانونية اللازمة بخصوص العمل وللتو عدت "
طالعته بحسرة وهي تقول: " عُدت جسدا خاليا يا قاسم.. أين أضعت روحك بني؟ "
قطب وهو يطرق برأسه للأرض قائلًا: " أظن في زاوية ما من زوايا هذه الدار يا عمتي لكنني... (أكمل بصوت كسر قوته الألم) مللت من البحث عنها دون جدوى لذا قررت أن أتركها حيث تكون فلم أعد أشعر بحاجتي لها بعد اليوم "
تكلمت فاطمة بحزن مرير لأجله: " عهدتك محاربا لا يستسلم يا قاسم ولازالت في بداية المعركة لما لا تحاول مرة أخرى قد... "
قاطعها بيأس تملكه يقول: " تعبت من كثرة الآمال الخائبة يا عمتي.. أنا لا أستحق هذا الألم الذي يفتك بأحشائي لأجل إنسانة منعدمة الشعور.. تبا لها.. حتى وأنا غاضبا منها وحاقدا عليها لا يسكت قلبي الغبي عن الخفقان كلما أتى أحد على ذكرها أمامي "
ابتسمت فاطمة بحنان وهي تربت على كتفه قائلة بمواساة: " لأنها مهما فعلت ستظل حبيبة روحك يا قاسم.. هون عليك يا بني وأصبر عليها قليلاً "
إبتسم قاسم بسخرية وهو يرد: " وهل تبقى لدي من الصبر ولو مثقال ذرة عمتي؟ حياة قضت على كل ما كنت أملكه حتى الصبر.. حتى الصبر الذي ظللت لسنوات أمارسه أتت هي وفي لحظة استنفذته كله "
تنهد بحرقة وهو يقول بنبرة عكست وجعه الشديد منها: " رفضتني حياة يا عمتي.. أخبرتني يوما أنها لا تستطيع أن تردني خائبا فارغ اليدين لكنها كذبت علي وببساطة فعلت.. قتلتني يا عمتي.. قتلتني دون رحمة حتى الرمق الأخير ولم ترأف بي "
أخذ يجز على أسنانه من الغضب المكبوت والألم القاتل الذي يشعر به بينما تقول فاطمة: " وماذا ستفعل بني؟ هل استسلمت حقا؟ "
نظر لها بقوة وهو يقول صائحا بمرارة: " لم تترك لي أي خيار آخر عمتي.. هي أجبرتني على الإستسلام وأوصدت بيديها كل باب ظننته سيُفتح لي يوما ما.. (ارتفع صوته فجأة وهو يقول بغضب يخنقه وكأنه سيبكي) فيما كان سيضرها إن منحتني بعض الأمل؟ لو طلبت مني الصبر أكثر لكنت فعلت والله كنت صبرت لأجلها لكنها... لكنها قالت لا صريحة وأراقت بيديها كرامتي ومن قبلها قتلت قلبي "
صمت لحظة ثم عاد يهتف بإنفعال: " أنا لم استسلم لكني فقط قررت حفظ ما تبقى لي من كرامتي.. حياة وإن كانت روحي لكنها ليست آخر النساء.. سأحب وأتزوج بأخرى وأرد لها الصاع إثنين ولتبقى هي عانس وحيدة بين أركان هذه الدار حتى يقتلها الندم ولن ارأف بحالها... أبداً لن أفعل "
هزت فاطمة رأسها بيأس وهي تخرج من الدار مغمغمة بحسرة: " اللطف من عندك يارب.. لا حول ولا قوة لنا إلا بك يا الله "
***

كان صخر يقف في حديقة بيت فاطمة يدخن سجائره كالمحرقة الواحدة بعد الأخرى بينما يستقبل في تلك اللحظة اتصالا من مصطفى
رد صخر بصوت جامد: " ماذا لديك مصطفى؟ "
قال مصطفى مباشرة: " ريم الناصر تعبث خلف الدكتور يوسف "
هتف صخر بضيق: " ماذا؟ "
رد مصطفى بتأكيد: " لقد أرسلت خلفه أحد الرجال ليراقبه ومن حسن حظنا أنه أحد رجال فؤاد لذلك تمكنت من التعرف عليه بسهولة "
قطب صخر بتفكير منزعج وهو يقول: " ولماذا فعلت شيء كهذا؟ "
رد مصطفى بما يعتقده: " لربما أرادت من خلاله الوصول إلى شيء يخصك يا باشا "
تدخل سيف في المكالمة يقول بشبه يقين: " أو ربما تريد الوصول إلى شيء يخص دكتور يوسف "
قطب صخر منتبها وهو يوجه الحديث لسيف: " أشعر بأن لديك ما تقوله يا سيف.. أفصح "
رد سيف بهدوء: " دكتور يوسف يعلم حقيقة ريم الناصر يا باشا فلربما حاول استفزازها مثلا أو شيء من هذا القبيل ف... "
صرخ صخر فجأة وهو يقول: " ماذا؟ كيف يعلم يوسف حقيقتها؟ من أخبره منكما؟ "
عبس مصطفى وهو يرد: " ولماذا نخبره يا باشا إن كان هو من ساعدنا في كشف حقيقتها منذ البداية؟ "
قطب صخر بعدم فهم وهو يقول: " لا أفهم "
رد سيف بشرح وتوضيح: " دكتور يوسف كان في زيارة لمعتز بك في الفيلا أثناء حديثك مع مصطفى ذاك اليوم وسمع الإسم بالصدفة فسألنا عن سبب بحثك خلفها وبالطبع لم نكن نعرف السبب فلم نخبره بشيء.. حينها هو أخبرنا أنه يعرف عنها بعض الأمور التي قد تساعدنا ومن ضمن تلك الأمور أنها ابنة فؤاد الناصر "
شرد صخر مفكرا وهو يتمتم: " كيف علم يوسف هذا؟ ولماذا لم يخبرني بهذا الأمر؟ "
تكلم مصطفى بقرف يقول: " يا باشا اعفيني مقدما عن القيام بأي عمل يخص تلك ال... يخصها لأنني لن أستطيع "
تأفف صخر وهو يقول بإنفعال: " ليس وقتك يا مصطفى.. نحن في مشكلة الآن "
تكلم مصطفى بجدية يقول: " أية مشكلة يا باشا؟ "
رد صخر وقد بدأ يتحرك في الحديقة: " ما فهمته منكما أن الرجل الذي يراقب يوسف أحد رجال فؤاد إذن هي على إتصال به وإذا نجحت في مسعاها وعلمت أي شيء وأنا أعني ما أقوله جيدا.. إذا علمت ريم أي معلومة ولو صغيرة بلا قيمة عن يوسف سنكون حينها في ورطة حقيقية "
سأل سيف بحيرة: " لا أظن دكتور يوسف يخفي أمرا ذو أهمية كبيرة لهذه الدرجة.. حياته عادية جدا وليس فيها شيء مريب فلماذا أنت قلق بشأنه لهذا الحد يا باشا؟ "
قطب صخر وهو يقول بنبرة لا تقبل النقاش: " ليس هذا وقت أسئلة كثيرة يا سيف اسمعا ماذا ستفعلان بشأن هذا الرجل... "
بعدما أنهى الاتصال التفت زافرا وهو يضع الهاتف في جيبه ليفاجئ بنبض تقف خلفه عاقدة ساعديها أمام صدرها وتطالعه بنظرة جامدة وهي تقول: " من أنت حقا؟ مجرم متطرف أم طبيب محترم أو ربما أنت مزيج بين الإثنين؟ "
عقدت الصدمة لسانه عن الرد فظل يطالعها بصمت بينما هي تكمل بإنفعال: " وبعد أن تهدد الرجل بأبنائه ماذا ستفعل إن تحداك ورفض طاعتك؟ هل ستقتله هو أو أحد أطفاله؟ لماذا سكت؟ رد عليّ "
قطب ببرود يقول: " لا تتدخلي في عملي هذا أفضل لكِ يا نبض "
صرخت بغضب: " أفضل لي من أية ناحية؟ من تزوجت بالضبط؟ "
تقدم منها بخفة وهو يضع كفه على فمها قائلا بنظرة حارقة: " لا ترفعي صوتكِ عليّ يا نبض.. إياكِ أن تكرريها ثانية فأنا لا أسامح أكثر من مرة "
نظرت له بشراسة وهي تزيح كفه بعنف صائحة في وجهه: " بلى سأفعل ما يحلو لي وإن لم يعجبك فلتشرب من البحر "
رمقها بدهشة وهو يقول: " أصبحتِ وقحة بين ليلة وضحاها "
ضربته في كتفه وهي تصرخ بشراسة: " من هي الوقحة يا عديم الإحساس والمسؤولية؟ تتجبر على الناس وتنتظر مني أن أبجلك؟ من هو الوقح بيننا؟ "
فغر فاهه بصدمة وهو يتمتم بذهول: " هل شتمتيني للتو يا نبض؟ "
رفعت حاجبا باستفزاز وهي تقول: " واضربك أيضا إن كنت لم تلاحظ بعد "
توحشت نظراته فجأة وهو يقول: " تحتاجين إلى إعادة تربية يا نبض وسيكون من دواعي سروري أن ألقنكِ إياها بنفسي "
تراجعت خطوة للخلف خوفا منه وهي تشهر سبابتها في وجهه قائلة بتهديد مرتبك: " إن حاولت الإقتراب مني سأصرخ و... "
قبل أن يمد يده ليمسكها كانت هي تفلت منه راكضة للداخل بسرعة وهي تكمل تهديدها: " سأشكوك لعمي معتز وأخبره أنك تسيء معاملتي أيها المتوحش "
بسرعة تمكنت من الدخول لغرفتها وإغلاق الباب خلفها قبل أن يلحق بها وبعد لحظة واحدة كان صخر يضرب على الباب بكفيه صائحا بغضب: " افتحي الباب يا نبض وإلا سأكسره فوق رأسكِ "
قهقهت تغيظه وهي تستند بظهرها على الباب قائلة باستفزاز: " أكسره يا زوجي العزيز وأنا سأقفز من النافذة وأفر منك قبل أن تفترسني.. يا متوحش "
ضرب بقوة أكبر وهو يصرخ: " قلت افتحي يا نبض لا تضطريني لفعل ما لن يعجبكِ وكسر الباب بالفعل "
ابتسمت بمكر وهي تتلاعب في هاتفها لتقول بعد لحظة حينما وجدت الرقم الذي تريده: " حسنا أكسره يا صخر وأنا سأبرئ نفسي من كل هذا وأجعل عليك شاهدا من أهل بيتك ولنرى حينها ما سيكون رأي عمي معتز فيما تفعله معي.. يا متوحش "
فجأة صدح صوت معتز عبر مكبر الصوت الذي فتحته نبض: " مرحبا بنيتي.. كيف حالكِ؟ "
ردت نبض بوداعتها المعتادة: " بخير يا عمي والحمد لله.. كيف حالك أنت؟ "
أجابها معتز بصوت حنون: " سعيد بسماعي لصوتكِ يا حبيبتي.. طمأنيني نبض هل كل أموركِ بخير؟ ألا تحتاجين لأي شيء أحضره لكِ؟ "
ردت نبض برقة: " بارك الله لي فيك عماه.. أنا لا أحتاج لأي شيء بالفعل فصخر يحضر لي كل ما أريد لكن لي رجاء خاص عندك "
رد معتز بإهتمام بالغ: " أي شيء بنيتي.. اطلبي ما شئتِ "
كتمت نبض ضحكتها وهي تقول: " أريدك عماه أن تمنع صخر من المجيء إليّ.. لا أريده أن يزورني "
رد معتز بتعجب: " لماذا بنيتي؟ ماذا فعل صخر؟ "
هتفت نبض ببؤس طفولي: " يا عماه أنا بت أخاف أن يفترسني في أي لحظة إنه متوحش ولا يكف عن الصراخ كالأولاد الصغار المدللين ورأسي سينفجر بسببه "
انفجر معتز في الضحك ومن جواره كان يوسف يستمع إلى المكالمة هو الآخر فتدخل قائلًا: " معكِ كل الحق صغيرتي فمن لا يخاف على نفسه منه؟ "
صاحت نبض بسعادة وهي تقول: " يوسف كيف حالك؟ إشتقت إليك يا أخي "
ضرب صخر على الباب فأجفلها بشدة وهو يقول بغيظ متفاقم من خلف الباب: " احترمي نفسكِ يا نبض وإلا سأقطعكِ إلى نبضات صغيرة لا يمكن جمعها ولا تكوينها ثانية أبداً "
صرخت نبض بحنق: " هل سمعت عماه؟ إنه هكذا دومًا لا يكف عن تهديدي والصراخ عليّ "
ضحك معتز وهو يجيبها: " لا تبالي به حبيبتي إنه جلف لا يفقه شيء في معاملة الفتيات الجميلات "
ابتسمت برضا وهي تسمع يوسف يضيف بإغاظة لصخر: " آكل لحوم البشر هذا لا يليق بكِ يا نبض فما رأيكِ أن يطلقكِ وتنسين كلمة أخي التي تناديني بها تلك وأتزوجكِ أنا؟ "
قهقهت نبض بجزل وهي ترد: " لما لا؟ دعني أفكر قليلا "
صرخ صخر بغضب عاصف: " أخرس يا يوسف وحسابك معي حينما أعود إلى العاصمة وأنتِ يا حلوة اغلقي فمكِ وإلا سأقتلكِ صدقا "
ردت نبض بدلال تغيظه: " يا حبيبي أنا أتكلم وقتما وكيفما أشاء وإن لم يعجبك ونفذ ماء البحر فلتضرب رأسك في أي حائط يعجبك في البيت لا أظن عمتي فاطمة ستمانع ذلك "
انفجر معتز ويوسف في الضحك بينما يقول الأخير مازحا: " ضاعت نبض في شربة ماء.. كنتِ طيبة يا فتاة فليرحمكِ الله "
ردت نبض بكبرياء: " لا تخف عليّ أخي أختك تجيد الدفاع عن نفسها أمام المتوحشين أمثال صاحبك "
شهقت فجأة بعدما انكسر الباب وطل أمامها صخر بهيئته الفارعة وملامحه الشرسة وهو يبتسم بوحشية
خرست للحظة قبل أن تقول بصدمة: " هل كسرت الباب يا صخر؟ حطمت جزء من غرفتي الجديدة! "
رفع حاجبا باستفزاز وهو يرد: " حذرتكِ ولم تتعظي "
صرخت بغيظ: " فكسرت الباب "
رد ببرود وهو يتخصر أمامها: " وأكسر رأسكِ الصلب هذا أيضا يا زوجتي المصون "
رفعت سبابتها تشير للباب وهي تقول بجدية تامة تهدده: " ستصلحه بنفسك يا صخر قبل عودتك إلى العاصمة وبالله إن لم تفعل فلن تحصل على مفتاح سيارتك وحافظة نقودك ولعلمك بطاقة الائتمان المصرفي خاصتك وبطاقة هويتك فيها "
عبس بضيق بينما يوسف يضحك قائلا: " الحمد لله أنني لستُ ضمن القائمة السوداء خاصتكِ يا فتاة "
رفعت حاجبا بتحدي وهي تنظر له بينما معتز يقول ضاحكا: " لو رأتك نغم وأنت تصلح الباب لكانت شمتت فيك حتى آخر العمر "
صرخ صخر بغيظ: " حتى أنت يا أبي؟ ألا يكفيني ذاك الخائن الذي فضل تلك القطة المتشردة على صديقه؟ "
ضيقت نبض عينيها وهي تتمتم بغيظ: " أنا قطة متشردة؟ حسنا صخر والله لأشرد بك وبكرامتك أنتظر وسترى مني ما لم تتخيله "
***

في الثانية بعد منتصف الليل
عاد صخر إلى الفيلا منهكا من التعب وهو يشتم في سره ليفاجئ بنغم تقف أمام سيف ومصطفى، توليه ظهرها ومنشغلة تماما في توبيخهما على شيء ما
تقدم نحوهم بخفة وقبل أن يسأل عما يحدث سمعها تقول: " يا قليل الذوق أنت وهو كيف تتركان صخر باشا يصلح الباب بنفسه؟ هل أنتما منعدمان الشعور لهذه الدرجة؟ "
تثاءب مصطفى وهو يضع يده على فمه بينما يقول بنعاس لا مباليا: " نعم أنا مذ وُلِدت وأنا قليل الذوق، عديم الشعور هل أذهب لسريري الآن؟ "
بينما سأل سيف بحيرة: " أي باب تقصدين نغم هانم أنا لا أفهم صراحة ما تقولين؟ "
كتمت نغم ضحكتها وهي تعلم أن صخر يقف خلفها ويسمعها فقد نزلت مسرعة قبل وصوله بدقائق قليلة حتى تنفذ مخططها وتتشفى فيه
ردت بعبوس أجادت تصنعه: " أقصد باب غرفة النوم الخاصة بنبض هانم؟ "
فعبس مصطفى وهو يتمتم: " ومن الذي كسره إن شاء الله؟ هل كانت تستخدمه في ممارسة الملاكمة مثلا؟ "
منعت نغم ضحكتها أن تفلت بشق الأنفس وهي تجيبه ببرود زائف: " أولا من كسره هو صخر بك بنفسه.. ثانيا لا تتحدث بتلك الطريقة عن نبض هانم وإلا كسر صخر بك عنقك في المرة القادمة "
تأفف مصطفى وهو يقول برجاء مغتاظ: " ارحميني نغم هانم أكاد أنام وأنا واقف.. مالي أنا ومال الباب هل أنا من كسره؟ "
شهقت نغم وهي تتخصر صارخة: " كيف تقول هذا؟ ألست تعمل لدى أخي كما تقول إذن فهذا عملك؟ "
رد مصطفى بحنق: " أنا حارس ولستُ نجارا نغم هانم.. أخبريني فقط ألن أنام في ليلتي الكحلاء تلك؟ "
رفعت حاجبا تقول بعجرفة: " أذهب للنوم أيها المتبلد الإحساس.. أنت لا تصلح للعمل في أي مجال "
أشاح مصطفى بيده بلامبالاة وهو يتمتم: " جيد "
أما سيف فقال بتهذيب: " هل هناك شيء تريدينه مني نغم هانم؟ "
اومأت سلبا وهي تستدير بتمهل مدروس لتشهق فجأة صائحة: " صخر.. هل وصلت؟ "
توقف مصطفى مكانه يعبس وهو ينظر إلى صخر بينما رفع سيف حاجبيه بتعجب لما يحدث وهو يشعر أن هناك ما لا يفهمه في الأمر
رد صخر من بين أسنانه: " لا.. لازلت في الطريق "
تدخل سيف قائلا: " حمدا لله على سلامتك يا باشا "
اومأ صخر برأسه بهزة بسيطة كرد بينما تقدم مصطفى منه عابسا وهو يضيف: " الحمد لله أنك وصلت في الوقت المناسب يا باشا.. كادت مراراتي أن تفقأ "
حدجته نغم بشراسة فأطرق برأسه يلتزم الصمت على مضض بينما قالت هي بسخرية مبطنة: " كيف حاله الآن؟ "
قطب صخر وهو يرد بغيظ مكتوم وقد فهم قصدها جيدا: " بخير "
عبس مصطفى وهو يسأل أخاه: " عمن تسأل العفريتة؟ "
رد سيف بخفوت يكتم ضحكته: " عن الباب "
رفع مصطفى حاجبيه يطالع نغم بدهشة وهو يتمتم لنفسه: " العفريتة تريد إحراجه أمامنا.. ونعم الأخُوة المشرفة "
أشار صخر لهما أن يذهبا بينما يسأل لنغم: " متى هاتفتيها؟ "
ردت نغم بصراحة وهي تبتسم شامتة: " هي من هاتفتني وأرسلت لي بث مباشر لك وأنت تصلح الباب (غمزت بطرف عينها بشقاوة وهي تضيف متهكمة) يبدو أنها تحبك جدا.. مثلي بالضبط "
تركته وذهبت وهي تقهقه فرحة بنصرها الصغير الذي حققته عليه بينما هو يغمغم بغيظ: " لن أمررها لكِ بسلام يا نبض.. حمقاوتين "
***

بعد ثلاثة أيام
ربتت حفصة بحنان على كتفها وهي تسألها بقلق بالغ: " أخبريني حياة لماذا تبكين حبيبتي؟ ماذا حدث؟ "
تمتمت حياة بتقطع من بين شهقات بكائها: " قاسم... قاسم سيتزوج يا حفصة.. أنا سمعته "
قطبت حفصة بحيرة تقول: " ماذا سمعتِ منه بالضبط؟ قد تكونين أسأتِ الفهم وهو يتحدث عن شخص آخر "
حركت حياة رأسها سلباً وهي ترد بقهر: " لا.. هو من سيتزوج يا حفصة.. هو ولا أحد غيره.. لقد سمعته وهو... يتحدث مع جدي وعمي خالد "
ارتفع حاجبي حفصة بحيرة وهي تسألها: " أتقصدين أنه قرر أخيراً الزواج؟ لكن... لكنه منذ أيام فقط أخبر جدي بأنه لم يعد يفكر في هذا الموضوع الآن بعدما رفضتيه "
ابتسمت حياة فجأة بمرارة وهي تطرق برأسها وظلت تحرك رأسها يميناً ويسارا وكأنها تنفي ما سمعته بنفسها
لا تصدق ما سمعته.. بل لا تريد أن تصدقه.. تتمنى أن يكون مجرد كابوس مُخيف سيؤرقها ليلة أو ليلتين ثم يتبخر إلى العدم
ليته يكون كابوس كما تتمنى! لكن المعضلة تكمن في أن 'ليس كل ما يتمناه المرء يدركه'
رفعت حياة رأسها بغتة فأجفلت حفصة وهي تقول بصوت لا حياة فيه: " قاسم قرر الزواج من ابنة خالته يا حفصة.. أخبر جدي بهذا "
رفرفت حفصة بأهدابها ببلاهة وهي تطالع حياة دون فهم حتى سمعت الأخيرة تقول بنفس الصوت الغريب: " إنه يريد زواج سريع بدون خطبة ويبدو أن... أن جدي وافق على طلبه ولا يرى مشكلة في زواج قاسم من... منها.. لم يعترض أحد يا حفصة.. لا أحد "
لم تشعر حفصة بنفسها إلا وهي ترفع يدها إلى فمها تكتم شهقتها قبل أن تخرج بينما جحظت عينيها في صدمة
تعلم أن الأمر صعب تحمله بالنسبة لحياة ولا تعلم اللحظة هل تلوم حياة أم تضع اللوم على قاسم ولكن... أليس ما قرره قاسم بسبب ما فعلته حياة؟
ترى من فيهما يظلم الآخر الآن؟..
ترقرقت عينيها بعبرات حارقة كانت تهدد للإفصاح عن وجودها لكنها اخفتها وهي تقول بصوت هادئ تماماً: " لا تحزني حبيبتي هو الخاسر إن فكر في الزواج من فتاة غيركِ "
أطرقت حياة رأسها وعادت إلى بكائها ولكن بصمت كاتمة شهقاتها وأنينها بقهر بينما كانت حفصة تمنع نفسها من البكاء حزناً لحال ابنة عمها بصعوبة
بعد قليل قالت حياة بحسرة: " أنا السبب يا حفصة.. أنا من دفعته بيدي لأخرى.. أنا من أهنته أمام الجميع برفضي.. لذلك لا يمكنني لومه على ما قرره.. أنا من أضعته من بين يدي، من ركضت خلف الماضي وظللت متشبثة بالسراب حتى... حتى ضاع مني "
ردت حفصة بإحباط: " لقد نصحتكِ من قبل كثيرا يا حياة "
اجهشت حياة في البكاء وهي تتمتم بحرقة: " لم يعد يفيد يا حفصة.. قاسم لم يعد يحبني.. توأم روحي ما عاد يريدني وأنا وحدي المُلامة.. أنا السبب في كل ما جرى.. أنا الخاسرة "
ربتت حفصة على كتفها تواسيها وهي لا تجد ما تقول ولم يسعفها عقلها بأي كلمة تطيب بها خاطر ابنة عمها
شهقت حياة وهي تتمتم بقهر: " ليتني ما خذلته مرة بعد مرة يا حفصة حتى أجبرته على اليأس مني وفقدان الأمل في حبي "
جلست حفصة إلى جوارها بيأس وهي تقول: " لو شئتِ طلبت من عاصم أن يتحدث معه مرة أخرى لربما... "
قاطعتها حياة على الفور: " لا يا حفصة.. لا تفعلي.. أنا غبية لا أصلح له.. سأجرحه ثانية وهو لا يستحق هذا مني.. لكنني... لكنني لا أريده أن يبتعد عني رغم ذلك "
وضعت كفها على فمها بسرعة تكتم شهقتها وهي تقول بوجع: " أنا أنانية يا حفصة.. لا أستطيع السماح له بالاقتراب مني ولا أريده أن يبحث عن امرأة أخرى.. لا أعلم ماذا أفعل حتى لا أخسره؟ "
ردت حفصة بلطف: " إن كنتِ كما تقولين لا تريدين خسارته فتمسكي به يا حياة.. أتركي الماضي وتشبثي بمستقبلكِ مع من تحبين "
هزت حياة رأسها سلبا وهي تغمغم: " لا أستطيع "
تنهدت حفصة بيأس منها وهي تقول: " هكذا سيحلق طيركِ بعيدا عنكِ يا حياة باحثا عن مأوى آخر له.. الفرصة تأتي في العمر مرة واحدة فإما تقتنصينها بحكمة أو تتركينها تفلت منكِ بغباء "
عادت حياة إلى بكائها المرير من جديد فعلمت حفصة أن ابنة عمها العنيدة اختارت أن تفلت فرصتها بغباء!
***

آخر الأسبوع
كانت تجلس مع بنات عمومتها بين مجموعة أخرى من النساء، شامخة الذقن بطلتها البهية المعتادة دائماً وهي ترسم على شفتيها إبتسامة واسعة مصطنعة بمهارة لتعبر عن فرحتها بخطبة ابن عمها
من يراها وهي تطالع العروس بود وتسامح لا يصدق بأن بين جنبيها يسكن قلب كسير مسكين يئن وجعاً وحسرة على ضياع مالكه وسلطانه ومعشوقه الأول.. والأخير
على يمينها كانت حفصة تحمل على ساقيها ابنتها حلا وتتشاغل بمداعبتها حتى تخفي عمن حولها قهرها على حال ابنة عمها وصديقة عمرها
أما على يسارها كانت ملك، تجلس جامدة المحيا وكأنها تمثال منحوت من الجليد وقد رفضت بعناد أن تتصنع السعادة بتلك الخطبة وهي تعلم بحرقة قلب أختها، ورغم أن ملك ليست على وفاق تام مع حياة إلا أنها أكثر من يشعر بما يدور بخلد أختها وأكثر من يؤلمه وجعها
في حين كانت فرح تجلس بجوار العمة فاطمة وكلتيهما تطرقان برأسيها للأرض في بؤس وكآبة رغم المناسبة السعيدة التي يحضرانها لكن حال حياة كان يحزنهما لذلك لم تستطيعا الانسجام مع الأجواء التي تدور من حولهن وتحيط بهن
بعد لحظات دخلت والدة العروس والتي كان محياها يشع فرحاً وزهوا بابنتها وعريس ابنتها ذو الحسب والنسب
بعد أن تبادلت الحديث جانباً مع إحدى النساء خرجت من الغرفة ثانية في حيت تقدمت تلك السيدة من حياة وجلست أمامها وهي تتصنع الترحيب بها
ابتسمت بسماجة وهي تقول: " العقبة عندكِ قريباً حبيبتي "
اومأت حياة بأدب وهي ترد: " إن شاء الله يا خالة "
قالت أخرى بمكر: " يبدو أن ما سمعناه من قبل كان مجرد إدعاء وكذب عليكما إذن "
قطبت حياة وهي تسألها: " علينا! ماذا تقصدين بالضبط يا خالة؟ "
هتفت المرأة بإرتباك مصطنع: " يبدو أنكِ لا تعرفين.. ظننتكِ تعرفين ما يقال على ألسنة الناس "
عبست حياة بضيق وهي تقول: " هل تلك أُحجية عليّ حلها أم ماذا؟ فسري كلامكِ يا خالة "
ردت المرأة بحزن زائف: " يبدو أن هناك من تجرأ من أبناء الحرام ونشر بين الناس أنكما.. أقصد أنتِ والسيد قاسم ابن عمكِ على علاقة ببعضكما وأنكما قريباً ستعلنان خبر زواجكما "
شهقت حفصة بهلع بينما توترت فرح والعمة فاطمة صامتة لم تتدخل أما حياة فقد شحب وجهها في حين مالت ملك بجذعها على تلك المرأة وهي تقول بتهديد صريح من بين أسنانها: " نصيحة لكِ مني وأنا لا أُكثر من تقديم النصائح لأحد.. أغلقي فمكِ واكرمينا بصمتكِ حتى تمر تلك الليلة الكحلاء على خير... هذا الأفضل لكِ صدقيني "
تدخلت أخرى تتمتم ببرود: " وهل ستخرسيننا في دارنا أيضاً؟ هذا ما ينقصنا والله "
قبل أن ترد ملك كانت ثالثة تقول بتهكم: " فليخرسن الناس أولاً قبل أن يتأمرن علينا.. فتيات آخر زمن صحيح "
هبت ملك من مكانها بغضب في اللحظة التي دخلت فيها والدة العروس تقول بعبوس ومسكنة: " ماذا يحدث؟ كل واحدة تلزم مكانها وتخفض صوتها هل تردن أن تفسدن على ابنتي خطبتها؟ "
كظمت ملك غيظها ولم تكد تجلس مكانها حتى سمعت والدة العروس تحدث حياة بخفوت ماكر: " أعلم أن الجميع يتهامس عليكِ وقد كانوا يتوهمون لوقت طويل أنكِ أنتِ من ستكونين عروس قاسم ابن أختي الغالية لكنه النصيب كما ترين والناس كعادتهم يتكلمون ولا نملك سلطة لإسكاتهم فإن لم تتمكني من التحكم في أعصابكِ فأرجوكِ غادري حتى لا تتصرفي بما لا يليق وتفسدي على ابنتي فرحتها ولا أظنكِ ترضينها لها لمجرد أن تنتقمي من قاسم لأنه ترككِ وفضل ابنتي عليكِ "
ترقرقت دموع الإهانة في مقلتي حياة وقبل أن تبادر بأي رد فعل صدمتها ملك وهي تصرخ بشراسة في وجه والدة العروس: " من تلك التي يتهامس عليها ومن حولها الناس؟ هل جننتِ يا امرأة ونسيت نفسكِ ومع من تتحدثين؟ (أشارت على أختها بزهو وفخر وهي تكمل) إنها حياة محمد الجبالي ابنة الجبالية التي تسير بين الناس فتلتفت الرؤوس من حولها "
ثم تابعت بابتسامة ماكرة: " ومن ضمن تلك الرؤوس التي تلتف حولها ابن أختكِ الغالية.. هذا إن لم يكن هو الأول بينهم "
تكلمت العروس بتهكم تقول مزهوة بنفسها: " وإن كان مهتم بها بهذا القدر كما تقولين فلماذا تركها لأجلي أنا؟ "
هبت حياة من جلستها وقبضت بسرعة على معصم أختها تمنعها من الرد بتهور حتى لا تنتقص من قدر قاسم فمهما فعل وحدث يظل هو حبيب الروح وابن عمها الذي لا تقبل بالإهانة له
قالت حياة بصوت خافت: " كفى يا ملك.. دعينا نرحل بهدوء ويكفي ما حدث منا جميعا "
رفضت ملك أن تتحرك من مكانها وهي تهتف بغيظ وتضرب الأرض بقدمها كالأطفال: " والله أبداً.. لن أرحل قبل أن أنهي حديثي كله وإلا سأموت قهراً.. أيرضيكِ أختي أن أموت قهراً؟ "
قالت حياة ترجوها بخفوت: " ملك أرجوكِ "
أولتها ملك ظهرها وهي تقول باقتضاب: " أرجوكِ أنتِ حياة.. اتركيني آخذ فرصتي فقد كنت انتظرها منذ فترة والحمد لله أن أتت أخيراً لأنفس عن القليل من غضبي المكبوت في تلك المرأة المختلة وابنتها السمجة "
تقدمت ملك من العروس وقالت ببرود: " رداً على سؤالكِ فأحب أن أوضح لكِ حقيقة أن قاسم ابن خالتكِ الغالية لم يترك أختي لأجلكِ.. حياة هي من تركته بل رفضته منذ البداية وإن لم تصدقينني يمكنكِ أن تسأليه بنفسكِ "
بدأت الهمهمات الخافتة في الظهور بين النسوة بينما حياة تنظر إلى العمة فاطمة بإرتباك فنهضت الأخيرة من مكانها واتجهت إلى ملك، قائلة بوقار: " يكفي لهذا الحد يا ملك.. دعينا نرحل كما قالت حياة فهذا أفضل للجميع "
زفرت حفصة وهي تؤكد: " نعم الأفضل.. علينا الرحيل قبل أن تخرب الخطبة "
إلتفتت ملك برأسها تطالع حفصة بغضب وقد بدت فاقدة أعصابها وهي تصرخ عالياً تزامنا مع تلويحات يديها المنفعلة: " لا دعينا نبقى حتى تخرب على رؤوسهم جميعا.. فلتفسد الخطبة والليلة معاً ليس عندي أي مانع "
تناظر الجميع فيما بينهم بذهول من انفعالها الغريب في حين إلتفتت هي من جديد تصرخ في وجه العروس: " عريس الهناء ابن خالتكِ الغالية لو علم بالحديث الذي تجرأتِ وأمكِ على نشره بين النساء لتكون أختي بينهن مادة للتندر والسخرية فأنا على تمام الثقة بأنه لن يتم هذه الخطبة ها.. هل نناديه من الخارج ونسأله رأيه فيما فعلته خالته وابنة خالته الغالية؟ "
ران التوتر والارتباك على وجه العروس ووالدتها فأبتسمت ملك بتشفي وهي تشير إلى أختها بينما تخاطب العروس بترفع: " اعتذري حالاً لأختي أنتِ وأمكِ "
لم تأخذ أياً منهما لحظة تفكير أو تردد حتى وهما تقدمان إعتذار طويل كتقرير تفصيلي لحياة التي تقبلته بصمت حينها شمخت ملك بذقنها وهي تشير بذراعها مفرودا أمامها قائلة: " تفضلي أختي.. أصبح الجو خانقا هنا.. علينا الرحيل بالفعل "
نظرت حياة إلى حفصة بتعجب ثم خطت للخارج أمام الجميع بكبرياء وهي تكتم ضحكتها مما فعلته أختها المجنونة
قالت فرح بتنهيد بعدما خرجوا: " الحمد لله أنكِ لم تحضري نبض معكِ عمتي وإلا كانت المسكينة صدمت مما حدث "
تنهدت فاطمة وهي ترد: " نبض لا تميل للحفلات أو التجمعات من الأساس "
برمت ملك شفتيها وهي تتمتم محدثة نفسها: " يبدو أنني سأحب تلك الفتاة كما كنت أحب أباها.. رحمة الله عليك عماه.. كم أشتقت إليك! "
بينما سألت حفصة بهدوء: " متى ستأتي لزيارتنا عمتي؟ أنا متشوقة لرؤيتها "
ابتسمت فاطمة وهي تجيبها: " غداً بإذن الله سأحضرها معي "
***

اليوم التالي / قبيل الظهر
في دار الجبالي
كانت حياة تصعد درجات السلم بإحباط وهي تتمتم بغيظ طفولي: " رقص قاسم بك ومرح مع خطيبته الحرباء ليلة أمس وتأخر في النوم حتى الظهر.. له كل الحق بأن يفعل فأنا الحمقاء التي فتحت له القفص وتركته يُحلق بعيدا.. ذاك المتعجرف، الفظ، البارد ال... ال... قاسم "
تسمرت مكانها وهو يشرف عليها من عليائه مقطبا بعبوس شديد وعينيه حمراوتين وكأنه لم يذق طعما للنوم طوال الليل
ازدردت ريقها بحزن وهي تمرر بصرها فوق صفحة وجهه الحبيب، رغم عبوسه الدائم إلا إنه في نظرها أوسم رجال الكون
تنحنحت بخفة وهي تحاول الصعود مشيحة بوجهها عنه وهي تقول: " مساء الخير "
لم يتحرك من مكانه ولم يرد عليها فشعرت بالغيظ منه أكثر فتمتمت ببرود زائف: " يبدو أن حفل خطبتك بالأمس استنفذ كل طاقتك حتى لم يترك لك بعضا منها لترد التحية على الأقل "
تحرك قاسم جانبا قاطعا عليها الطريق فرفعت عينيها إليه بعبوس تقول: " ابتعد عن طريقي قاسم.. أريد المرور "
رد بصوت أبح سببه صراخ ليلة أمس وعبوسه كما هو لم يختفي: " أنتِ من استنفذتِ طاقتي يا ابنة العم فلا تدعي العكس "
لعن لسانه بعد أن نطق ما نطق وفضح تعلقه بها.. ذلك التعلق المرضي الذي لا يقل مهما فعلت به محبوبته الحمقاء
رمشت بتوتر قبل أن تشيح بوجهها جانبا وهي تقول بحسرة: " لم تعد هناك فائدة من هذا الحديث يا قاسم.. أصبحت مرتبطا بأخرى و... "
قاطعها ببرود متهكم: " ومتى كان لهذا الحديث فائدة لديكِ يا ابنة العم؟ "
لم ترد حياة وهي تشعر بطعم مر كالعلقم وغصة خانقة تستحكم حلقها وتمنعها من القدرة على الاسترسال في الكلام
وماذا يفيد الحديث بعد أن حدث ما حدث وأصبح قاسم مرتبطا بأخرى؟ نعم تلك ال 'الأخرى' أبداً لا تليق به لكنها وللأسف باتت مرتبطة به
تابع قاسم بمرارة نضحت جلية في نبرته: " دومًا كان الحديث في هذا الموضوع يقابله الرفض والتجاهل منكِ وكأنه أمر تافه تترفعين حتى عن مناقشته "
تمتمت حياة بجمود تخفي خلفه قهرها لضياعه منها: " إذا سمحت تنحى جانبا حتى أمُر وقوفنا بهذا الشكل غير لائق "
رد قاسم ببرود فظ: " ولماذا هو غير لائق؟ هل أقف معكِ في الظلام أم ربما احتجزكِ بين ذراعي؟ "
تخضبت وجنتيها بحمرة الخجل وهي تقول بصوت متوتر يبدو وكأنه هارب منها: " قاسم ما تقوله لا يصح أن يسمعه أحد.. احذر "
إبتسم بسخرية وهو يرد: " ممن عليّ أخذ الحيطة والحذر يا ابنة العم؟ من قلبكِ المتحجر الذي لا أعلم أي حظ أسود هذا الذي أوقعني في حبه أم من لسانكِ الذي تمت برمجته على نطق كلمة واحدة وهي 'لا'؟ "
رفعت رأسها تناظره بعبوس فقطب باستخفاف يسألها: " رباه! أوَ تجرؤين على العبوس في وجهي أيضا؟ صدقا لا أعرف ممن ورثتِ تلك الوقاحة يا فتاة؟ "
شهقت حياة بذهول قبل أن تزمجر بغضب وهي تقول: " كيف تتطاول عليّ بهذا الشكل يا قاسم أنت... "
قاطعها بتهكم مستفز وهو يقول بخفوت: " ششش.. اخفضي صوتكِ يا ابنة العم حتى لا يسمعكِ أحد ويفهم وضعنا بطريقة خاطئة فلربما ظنوا بأني أقبلكِ مثلا "
قطبت بضيق تخفي حرجها مما يقول بينما تابع هو بنفس النبرة: " أخبريني يا ابنة عمي ماذا ستفعلين إن قبلتكِ اللحظة؟ "
جحظت عينيها من وقاحته لكن لسانها لم يطاوعها على تعنيفه بل انطلق رغما عنها كالقذيفة وبإندفاع وجدت نفسها تقول: " سأفقد وعيي بالطبع "
قهقه قاسم بإستمتاع من ردها المتوقع بالنسبة له فهذه هي حياة التي أحبها إن أمرها عقلها بقول شيء يتمرد عليها لسانها قبل قلبها لأجله ورغم ذلك لا ترأف به أبداً
شعرت حياة فجأة بأن قلبها المتحجر بدأ يتفتت رويدا رويدا وتخرج من بين شقوقه أزهارا وردية تنثر عطرها الفواح في روحها التالفة فتحييها من جديد
كانت تطالعه بعيني طفلة منبهرة بتلك الضحكات المغردة وكأنها تسمعها لأول مرة في حياتها
توقفت ضحكاته فجأة كما بدأت وهو ينظر لعينيها بعبث قائلا: " لهذه الدرجة تتمنيها يا ابنة العم؟ "
شهقت فجأة بفواق متأخر وهي تخرج من حالة الهيام التي سيطرت عليها بسبب انطلاق ضحكاته التي لم تسبق أن سمعتها بهذه الطريقة المحببة
عبست في وجهه وهي تقول من بين أسنانها: " وفر وقاحتك تلك لعروس الهناء ابنة خالتك واتركني أمضي في طريقي "
رد ببساطة وثقة تامة وهو يضع كفيه في جيبي بنطاله: " لم أترككِ من قبل وبالطبع لن أفعلها الآن.. الطريق الذي أمضي أنا فيه أنتِ مجبرة على المضي فيه "
ابتسمت بسخرية وهي تقول: " وهل ستسمح لك عروسك المصون بهذا؟ "
مال على وجهها فجأة فأجفلها لترتد برأسها للخلف وهي تحدق في عينيه بينما هو يرد: " لن تكن لي عروس سواكِ يا ابنة العم.. ضعي هذه الحقيقة في رأسكِ الصغير هذا وردديها في كل وقت حتى تترسخ بداخلكِ فتصلين إلى بر الأمان وارتاح أنا في المقابل من حماقتكِ "
تمتمت بعدم فهم: " وماذا عن ابنة خالتك؟ بالأمس فقط كانت خطبتكما "
اعتدل في وقفته وهو يرد بلامبالاة: " تركتها "
شهقت حياة بصدمة وهي تقول: " ماذا؟ متي؟ "
رد بنفس اللامبالاة: " ليلة أمس قبل أن أضع محبس الخطبة في يدها "
سألته بإرتباك: " ل... لماذا؟ "
نظر لها بهدوء وهو يرد: " لأنها أهانتكِ.. ما كنت لأرتضيها عليكِ يا ابنة عمي فأنتِ... "
سكت فسألته بترقب: " أنا ماذا؟ "
أشاح بوجهه عنها في جمود تلبسه فجأة وهو يتمتم: " لا شيء.. لا تشغلي نفسكِ بكلامي فيبدو أنني بدأت أهذي "
عبست وهي تصيح: " هل تعني أن أنسى ما أخبرتني به بأنك ستجبرني على المضي في طريقك؟ "
رمقها ببرود مقصود وهو يقول: " نعم.. أنسي "
هتفت بحنق: " لعب أطفال هو "
رفع حاجبا باستفزاز وهو يرد: " فسري الأمر كما يروق لكِ هذا لا يهمني.. يمكنكِ المرور في طريقكِ "
تملكها شعور غريب في تلك اللحظة ورغبة قوية بأن تبكي نائحة على غبائها وحماقة لسانها وبعد ذلك أن تتشبث في ملابسه وتخبره بأن يتراجع عن حديثه الأخير
تريد أن تخبره بأنها موافقة ولا تريد سوا السير في الطريق الذي يسلكه هو.. بأنها طوع بنانه لكن عليه ألا يتركها
تنحى جانبا حتى تمر لكن حينما وجدها متسمرة في مكانها لم تتحرك تخطاها نازلا وهو يتمتم ببرود مستفز: " إذن سأنزل أنا فلدي الكثير من الأمور ولن ينتظرني النهار بطوله "
استدارت تطالعه بمرارة وهو ينزل الدرج بقامته المديدة ورأسه المرفوع في شموخ حتى اختفى عن أنظارها فتنهدت ببؤس وهي تستدير بإحباط سالكة طريقها نحو غرفتها
ما إن أغلقت الباب خلفها حتى قطبت بحنق وهي تقول: " البارد الفظ رفعني إلى السماء وفي لحظة أوقعني أرضا "
توجهت نحو مرآتها وهي تتنهد بإحباط حتى واجهت صورتها فعبست وهي تحدث نفسها بعتاب: " أنتِ المخطئة حياة.. دائما تعبسين أمامه وتغلقين بابكِ في وجهه.. له حق بأن يمل منكِ "
زمت شفتيها وهي تتمتم ببؤس: " عليه أن يصبر ويحتملني أكثر فهو يعلم كم أحبه "
عبست مجددا وهي تقول ساخرة من نفسها: " وكيف سيعلم وأنتِ لا تمنحينه أي أمل حتى؟ أنظري إلى نفسكِ بهذا العبوس يا متبلدة المشاعر لقد جعلتِ الرجل يفر هاربا من بين يديكِ وبالطبع لن يلومه أحد فمعه كل الحق بأن يفعل "
ضحكت بتهكم وهي تقول: " أنا شخصيا لا ألومه.. تحمل مني ما لم يتحمله أحد ولازال واقفا على قدميه دون أن يهتز حتى ولو ظاهريا "
ترقرق الدمع في عينيها فجأة وهي تكمل: " ماذا ستفعلين الآن يا حياة؟ هل ستتركينه يتسرب من بين يديكِ مرة أخرى؟ لازال حراً طليقاً عليكِ أن تجيدي التفكير والتصرف معه حتى لا تخسريه هذه المرة.. وللأبد "
صمتت للحظات تفكر بجدية قبل أن تلتمع مقلتيها بإصرار وعزم وهي تقول: " لا.. لن أسمح لنفسي بخسارته من جديد.. سيكون لي وحدي فهذا حقي.. قاسم لي.. أنا وحدي "
ابتسمت بإتساع وهي تتمتم بشقاوة: " يبدو أنني سأحتاج إلى تلك الماكرة ملك في الفترة القادمة "
***

مساء اليوم التالي
لم تكد تسحب الغطاء لتخلد للنوم حتى أجفلها عاصم وهو يسحب الغطاء من بين يديها بخشونة هاتفا بغيظ: " أكاد انفجر من الغيظ بسببكِ وأنتِ تنوين النوم "
اعتدلت حفصة جالسة وهي تسأله مقطبة بحيرة: " ما بكَ يا عاصم؟ ماذا فعلت أنا؟ "
صاح بغيظ طفولي: " هذه هي المشكلة يا حفصة.. أنتِ لم تفعلي شيء "
حدقت فيه بدهشة تقول: " إذن ما المشكلة لا أفهم؟ "
تخصر أمامها وهو يقول بضيق: " أين قضيتِ ليلة أول أمس؟ "
ردت بتلقائية: " مع حياة في غرفتها.. لقد أخبرتك قبل أن أذهب إليها "
تكلم بغيظ من بين أسنانه: " آه بالطبع فابنة عمكِ كانت منهارة لأن قاسم سيخطب ابنة خالته.. حسنا وماذا عن ليلة أمس أين كنتِ؟ "
ردت ببساطة: " قضيتها معها أيضا "
سأل بحنق مكبوت: " لماذا؟ هل لازالت آنسة حياة منهارة حتى بعدما علمت بأن قاسم لم يخطب ابنة خالته؟ "
قطبت بترقب وهي ترد بهدوء: " لا.. لقد تحسنت حالتها عن أول أمس "
قطب بغيظ سائلا: " إذن لماذا تركتِ جناحنا وذهبتِ إليها؟ "
ردت بهدوء أغاظه: " حتى لا أتركها وحدها فتسوء حالتها مرة أخرى "
زمجر بحنق وهو يقول: " وماذا عني؟ "
ابتسمت بلطف وهي تجيبه: " أنت حضرت بالأمس في وقت متأخر من الليل دون أن تخبرني يا عاصم وإلا لما كنت تركت جناحنا وذهبت للنوم مع حياة في غرفتها "
زفر بضيق وهو يقول: " والآن تريدين أن تنامي؟ "
اومأت بخفة دون أن ترد فصاح بإنفعال: " وماذا أفعل أنا هل أضرب رأسي بالحائط؟ "
سألته بتعجب حائر: " ولماذا تضرب رأسك بالحائط؟ ماذا حدث؟ "
زمجر مغتاظا وهو يميل بجذعه عليها فحدقت في عينيه بترقب وهو يقول من بين أسنانه: " حفصة أنا إشتقت إليكِ "
ردت حفصة برقة: " وأنا إشتقت إليك أيضًا "
تكلم بعبوس: " إذن؟ "
هزت رأسها بحيرة وهي تقول: " إذن ماذا؟ "
ضيق عينيه وهو يقول بغيظ: " والله يا ابنة محمود الجبالي لولا أني أخاف الله لكنت قتلتكِ اللحظة وقتلت نفسي من بعدكِ "
جحظت عينيها بهلع وهي تقول: " لما كل هذا؟ ماذا يحدث معك يا عاصم؟ "
استقام وهو يصرخ بقهر: " تبا لسذاجتكِ تلك يا حفصة ستصيبينني بجلطة "
رمشت بقلق وهي تقول: " عاصم هل أنت مريض؟ "
نظر لها بصدمة للحظات قبل أن يبتعد متمتما بغضب: " سأمرض بالفعل إن بقيت لحظة أخرى في هذه الغرفة "
خرج من الغرفة صافقا الباب من خلفه بينما حفصة تعبس بحيرة وهي تحدث نفسها: " نسى أن يخبرني عما يريد.. حسنا سأنام الآن وأسأله في الصباح حتى تكون أعصابه هدأت "
***

خرج عاصم إلى الحديقة وهو يزفر بغيظ ويركل الحصوات الصغيرة المرمية على الأرض بضيق وهو يغمغم: " ما الصعب فيما قلت حتى لا تفهمه تلك الحمقاء؟ تبا لحظي العاثر "
أجفله ياسين وهو يقهقه بمرح قبل أن يقول: " نزلت أهلا وحللت سهلا في حديقتنا المتواضعة والمخصصة لذوي الحظ العاثر يا ابن العم "
قطب عاصم بدهشة وهو يرى قاسم يجلس على الأريكة الجانبية الموضوعة في إحدى زوايا الحديقة
كان يجلس ممددا ساقيه أمامه باسترخاء ويديه في جيبي سترته، عابس الوجه وشارد الفكر
أما ياسين فقد كان يجلس على الأرجوحة، عاقدا ساعديه أمام صدره وعلى ثغره إبتسامة صغيرة ساخرة
ثم زادت دهشته وهو يلاحظ جلسة أنس على الأرض مستندا بظهره على إحدى الأشجار على بُعد بضعة سنتيمترات من الأريكة التي يجلس عليها قاسم ويبدو هو الآخر شاردا في أمر ما
قطب عاصم بتعجب وهو يقول: " ماذا يحدث؟ لماذا تجلسون بهذا الشكل البائس؟ "
لم يرد قاسم بل زاد عبوسه أما أنس فلم ينتبه له من الأساس في حين رد ياسين بتهكم: " هناك حالة استنفار في الدار ألم يصلك الخبر؟ "
ابتسم عاصم بسماجة وهو يرد: " بلى وصلني يا خفيف الظل "
هز ياسين رأسه وهو يقول باستفزاز: " بالطبع وصلك فها أنت تلبي النداء على الفور.. وديع طوال عمرك يا ابن عمي "
تأفف عاصم بضيق وهو يتوجه إلى الأريكة ليجلس على الطرف البعيد عن قاسم عاقدا ساعديه أمام صدره وهو يغمغم بنزق: " عُد لصمتك واتركني في حالي "
حرك ياسين كتفيه بخفة وهو يقول بتهكم: " لا ينقصنا إلا زيد وحمزة حتى تكتمل جلستنا "
وكأن زيد كان ينتظر تلك اللحظة التي يذكر أحدهم فيها إسمه حتى يظهر.. تقدم نحوهم وهو مقطب الجبين وقبل أن يتفوه أحدهم بكلمة كان يجلس بضيق على الأرض مقابلا لأنس مستندا على شجرة أخرى وهو يقول بإقتضاب: " اعتبروني لست موجودا ولا يسألني أحد عما بي لأني أوشك على الانفجار "
كتم ياسين ضحكته وهو يقول: " أنت بالفعل غير موجود.. عن نفسي سأعتبرك هواء لا تقلق "
زفر زيد بحنق وهو يمدد ساقيه على الأرض دون تعقيب بينما تمتم ياسين لنفسه وهو ينظر إلى إحدى شرف الدار: " محظوظ أنت يا حمزة.. بالتأكيد تسبح في نهر العسل ونحن هنا نكاد نغرق في بحر الكآبة والبؤس "
ما هي إلا لحظات حتى حضر حمزة بوجه محتقن من الغضب الذي يبدو أنه يكبته بشق الأنفس وهو يغمغم بخفوت غير منتبها لأبناء عمومته: " سأجن على يديها قريبا تلك الحمقاء المستفزة ال... (تنبه لهم فجأة فأردف مقطبا بذهول) ماذا تفعلون هنا جميعا؟ "
كتم ياسين ضحكته وهو يقول بتسلية: " تعال يا حبيبي كنا ننتظر قدومك "
بنظرة واحدة لكل واحد من أبناء عمومته أدرك أن حالهم لا يختلف كثيرا عن حاله فأبتسم ساخرا وهو يقول: " الحمد لله أن العرض لازال في بدايته ولم يفوتني الكثير "
ظل على وقفته بضعة دقائق وقد ران الصمت على الجميع حتى تكلم عاصم بعبوس يقول: " لماذا تركت زوجتك؟ "
تقدم حمزة نحو الأرجوحة بضيق قبل أن يجيب أخاه وهو يرمي بثقله إلى جوار ياسين: " هي من تركتني.. (ثم أكمل بغيظ) الفنانة تريد أن ترسم "
رفع ياسين حاجبيه يسأل بدهشة: " الآن! في هذه الساعة! "
غمغم حمزة بغيظ: " لم تكد تغفو حتى اجفلتني وهي تهب فجأة عن الفراش صارخة كالمجانين بأنها حلمت بصورة بالأمس وتريد أن ترسمها الآن قبل أن تنسى تفاصيلها "
رفع أنس أنظاره إلى حمزة سائلا بهدوء: " وهل تجيد زوجتك الرسم؟ "
رد حمزة بفخر رغم ضيقه: " إنها موهوبة بالفطرة.. اللوحات والألوان بالنسبة لها عبارة عن كيان لا يتجزأ عنها.. ستنبهر باللوحات التي رسمتها زهرتي سأريها لك في الصباح "
اومأ أنس دون تعقيب بينما قطب حمزة وهو يوجه حديثه لأخيه: " وأنت ماذا تفعل هنا؟ ما سبب تركك لزوجتك؟ "
رد عاصم من بين أسنانه وهو يرمق قاسم بطرف عينه بغيظ: " إنها تشعر بالإرهاق بعد الليلتين الماضيتين التي قضتهما مع حياة وهي تحاول تهدئتها حتى لا تنهار أكثر فأشفقت عليها وتركت لها الجناح كله حتى ترتاح "
قطب ياسين متصنعا الحزن وهو يقول: " حياة المسكينة.. أوجعت قلبي على حالها يا ابن العم "
رمق قاسم أخاه شذرا بسخرية دون أن يتدخل في الحديث في حين تمتم حمزة بحسرة: " حظنا واحدا يا أخي.. أخذنا أختين كان الله في عوننا منهما.. زوجتك ساذجة وزوجتي مجنونة "
سأل عاصم بتنهيد: " وماذا عن بقية الحضور؟ "
قطب زيد وهو يقول بحنق: " جدي يتعجلني حتى أجد طريقة للتفاهم مع شمس في أسرع وقت.. يريد أن يكون العرس خلال ثلاثة أشهر كحد أقصى "
عبس حمزة وهو يقول: " العجلة لا تكن في مثل تلك الأمور "
غمغم زيد بنزق: " أخبر جدك بهذا "
رفع أنس حاجبيه بتعجب وهو يقول: " عمن تتحدثان بالضبط؟ "
رد زيد: " عن أختك "
قطب أنس قائلا بامتعاض: " وتقولها في وجهي بهذه البساطة "
صاح زيد بضيق: " هل قلت لك أنني سآكلها؟ أنا سأتزوجها شرعا وقانونا وإن لم يعجبك الأمر إذهب إلى جدي وأخبره لننهي الأمر "
رمقه أنس ببرود وهو يتمتم لنفسه: " لا أعلم ما الذي يعجبها فيك أيها الجلف (ثم تنهد براحة وهو يكمل) الحمد لله أن فرح ليست أختك "
عبس زيد وهو يسأله ببرود: " لماذا انضممت لفريق البؤس العالمي؟ ما بك أنت الآخر؟ "
رد أنس بسماجة: " ليس بي شيء.. لكن الهواء يعجبني في تلك البقعة بالذات وحين أتيت لم أرى أي لوحة تشير أن تلك المنطقة محظورة عليّ فهل لديك مانعا؟ "
ضحك ياسين وهو يقول بتسلية: " أعجبني قصف الجبهة هذا يا صاحبي "
قطب زيد بغيظ وهو يقول: " صاحبك! منذ متى؟ "
رد ياسين بسماجة حتى يغيظه: " منذ اللحظة.. هل لدى سيادتك أي مانع في هذا أيضا؟ "
هتف حمزة فجأة قبل أن ينشب شجار بينهما: " كفوا عن أفعال الأولاد الصغار هذه.. ما بكم؟ "
عبس ياسين وأنس بينما زفر زيد وهو يلتزم الصمت وشرد كل واحدا منهم في ساحات خلده العاصفة بالأفكار
عاصم؛ حانق من وضعه ومشتاق لزوجته التي تفني وقتها على الجميع وتهتم بأمور الدار ومن فيها عداه هو فحينما يأتي دوره تكون طاقتها قد نفذت وتحتاج للراحة في الوقت الذي يكون هو بحاجتها
حمزة؛ يكاد يعض على أنامله من الغيظ وهو يرى زوجته تتركه لأجل أن تمارس هوايتها الأثيرة في وقت يفترض أنه من حقه هو وحده دون أي دخيل معهما خاصة وهما لازالا في بداية زواجهما
زيد؛ منزعج من إلحاح جده المتكرر لكي يتقدم رسميا لابنه عمته رقية في أسرع وقت ويتم زواجه منها في وقت قصير وكأنه إن لم يفعل كل شيء بسرعة فإنها ستهرب منه أو ربما تختفي ولن يعلموا مكانها
أنس؛ قلق بشأن أفكاره التي أصبحت تتخذ محورا عجيبا يدور في فلك تلك الفرح المبهجة، يخشى بشدة أن يتورط معها ويحبها أكثر فتجرحه وهو في الأساس مستنزف ولن يحتمل أي وجع جديد
ياسين؛ مشتت ولا يعلم ما يتوجب عليه فعله، أ يتقدم أكثر بثقة نحو ملاكه أم يتمهل الخطى ويتريث معها؟ يخشى أن تعود لحالة المكر والتمنع غير المبرر من جديد وهو قد وصل معها لأقصى درجة في الصبر والتحمل
قاسم؛ واجم يشعر بنفسه يخطو على بساط شائك يُدمي قلبه قبل قدميه، يشعر ببرودة موحشة تسكنه كلما خطر في باله أنه وحياة لن يجتمعا قريبا كما يتمنى بل يبدو أن القدر لم يكتب لهما أن يجتمعا أبداً
***

صباح اليوم التالي
من بين ضحكات الجميع واستمتاعهن بأحاديث وقصص العمة فاطمة لاحظت نبض انزواء حلا بكآبة في إحدى الزوايا بعيداً عنهن فنهضت من مكانها وتوجهت إليها تقول: " حلا لما تجلسين وحدكِ بعيداً عنا؟ "
ردت حلا بعبوس: " لأنني أريد أن ألعب بدميتي وأنتن تتحدثن في أمور لا أفهمها "
ابتسمت نبض بلطف وهي تسألها: " ولماذا لا تلعبين إذن؟ "
أطرقت حلا برأسها وهي ترد ببؤس مصطنع: " لأنني لا أملك رفيقات تلعبن معي ولا يوجد أطفال صغار في الدار غيري "
اتسعت إبتسامة نبض بشقاوة وهي تقول: " ولماذا لم تطلبي مني مشاركتكِ في اللعب؟ فأنا الأخرى أحب اللعب بالدمى جداً كما أنني لازلت طفلة صغيرة مثلك ويمكننا أن نصبح رفيقتين "
توسعت عينيّ حلا بسعادة وهي تقول: " حقاً يمكننا أن نصبح رفيقتين؟ "
اومأت نبض برأسها وهي ترد بحماس: " بالطبع حلا.. هيا أريني ما لديكِ من لعب ودمى "
بعد قليل سألت حلا وهما تلعبان: " هل كان لديكِ أصدقاء وأنتِ صغيرة تلعبين معهم؟ "
هزت نبض رأسها سلباً وهي تمشط شعر إحدى الدمى: " لا.. كنت أشبهكِ تماما لا أملك أي رفاق لكن ماما رحمها الله كانت كثيراً ما تلعب معي ولدي ابن خالتي كان يلعب معي أحيانا "
سألتها حلا بحيرة: " وأين اخوتكِ؟ "
ردت نبض ببساطة: " أنا وحيدة والديّ "
ضحكت حلا بحماس تقول: " إذن نحن متشابهتان "
ابتسمت نبض برقة تجيبها: " حتى اللحظة نعم.. لكن أتمنى قريباً أن تحظي بأخت أو أخ يشاركانكِ اللعب "
عبست حلا وهي تقول: " لا.. لا أريد أية أخوة "
رفعت نبض حاجبيها بتعجب تسألها: " لماذا؟ "
ردت حلا بحنق: " لأن الطفل الجديد سيسرق مكانتي لدى بابا وماما والجميع وسيكون هو أهم مني لديهم "
هزت نبض رأسها سلبا وهي تترك الدمية من يدها جانبا بينما تحدث حلا بلطف: " هذا غير صحيح.. لكل من الأطفال نفس المكانة لدى والديهما سواء كانوا صغارا أم كبارا "
عبست حلا وعقدت ساعديها أمام صدرها دون تعقيب فأبتسمت نبض برقة تقول: " هل أخبركِ بشيء من ذكرياتي؟ (اتسعت ابتسامتها حينما لاحظت انتباه حلا فتابعت) منذ صغري وأنا معتادة على إنتظار أبي مهما تأخر حتى يعود من عمله لكي استقبله بنفسي.. كنت أحب أن أقص عليه كل ما فعلته طوال اليوم وهو كان يحب الإستماع إليّ وذات يوم بعدما عاد من المشفى أخبرني وهو سعيد جداً أن عائلتنا الصغيرة من اليوم أضيف إليها فردا جديدا.. في البداية لم أهتم بالأمر كثيراً لكن بعدما رأيت ذاك الصبي الذي سيشاركني في كل ما كان من حقي وحدي أصبحت منطوية على نفسي أغلب الوقت.. كنت خائفة أن يقل حب أبي وأمي لي بعدما رأيت اهتمامهما الكبير بذاك الصبي "
تنهدت بشجن وهي تكمل شاردة في البعيد: " لكني كنت مخطئة يا حلا.. فرغم اهتمامهما به وانشغالهما معه في كثير من الأحيان إلا أنهما لم يهملانني أبداً أو يقصران معي في شيء.. ظلا كما هما والدين محبين عطوفين لا يفرقان بيننا في المعاملة حتى... حتى أخذهما الموت مني "
عبست حلا لاهية عن دموع نبض التي تترقرق في عينيها وهي تسألها: " ولماذا انشغلا معه إذن؟ "
رمشت نبض بشفقة فانهمرت دموعها كحبات الندى وهي تقول بصوت كئيب: " لأنه كان مريض ويحتاج للرعاية "
زمت حلا شفتيها بشفقة وهي تتمتم: " أوه المسكين "
ابتسمت نبض برقة وهي تمسح عبراتها بأناملها بينما ترد: " إنه بطل يا حلا وليس مسكينا أبداً "
قطبت حلا بعدم فهم تقول: " بطل! بطل كالذي اشاهده في أفلام الكرتون؟ "
هزت نبض رأسها سلبا فتابعت حلا: " طبعاً لا لأن ماما أخبرتني أنهم ليسوا بشرا حقيقين إذن كيف يكون بطلكِ هذا؟ "
ابتسمت نبض بشقاوة تجيب: " يوماً ما سأريكِ إياه "
صفقت حلا بجذل وهي تصيح بحماس: " حسنا اتفقنا إذن لكن... (قطبت بحيرة تسأل) هل كنت تلعبين مع البطل ذاك بالدمى؟ "
كتمت نبض ضحكتها وهي ترد: " بالطبع لا.. وهل رأيتِ من قبل بطلا يلعب بالدمى؟ "
سألت حلا بحماس: " إذن بماذا كنتما تلعبان؟ "
تنهدت نبض ببؤس مصطنع وهي تقول: " والله يا حلا لا أريد أن أحبطكِ بالحقيقة... (ظلت حلا على حماستها فكتمت نبض ضحكتها المتسلية وهي تكمل) إذن سأخبركِ وأمري إلى الله.. أنا وذاك البطل لم نلعب سويا ولا لمرة واحدة حتى لأنه وببساطة واختصار شديد كان انطوائيا أكثر مني وحينما جربت معه مرة بطلب وإلحاح من أمي إنتهى بنا الحال غافيين وألعابي المسكينة من حولنا دون أن تمس حتى "
انفجرت حلا في الضحك من طريقة سرد نبض للموقف وتعابيرها المرحة بينما نبض شردت في تلك الذكرى تستعيدها من جديد وهي تبتسم بشوق وحنين للغائبين

كم مضى عليه منذ خرج من المستشفى لا يعرف، كم مضى عليه منذ صرخ وكسر وبكى؟ أيضا لا يعرف فقد نسى عدّ الأيام منذ فترة وانشغل مع القطيطة الصغيرة التي لا تكف عن مراقبته من بعيد فأصبح هو الآخر يفعل معها المثل
تذكر ما حدث وكم ظل يصرخ بجنون حين استمع إلى ذاك التسجيل بصوت والده، كم بكى حين علم بوفاة أمه
لا يصدق بأن أمه، حبيبته، شعاع الأمل والدفء في حياته قد خبت
سالت دمعة وحيدة من زاوية عينه وقد عادت الذكرى تقبض على قلبه بقسوة من جديد ليجفل بقوة حينما وجد تلك الأنامل الرقيقة تتلقف دمعته وصوتها الشجي المنغم كعصفور صغير يقول: " هل تبكي لأنني أرفض الاقتراب منك؟ لا تبك مجدداً ها أنا ذا إلى جوارك "
رمش ذاهلا وهو ينظر لها تجلس على ركبتيها أمامه وتبتسم له برقة لا يظنها خلقت لسواها فقال يناكفها: " هل كان يجب أن أبكي حتى تأتِ إليّ؟ "
هزت رأسها بلا صامتة فقال: " إذن ماذا جاء بكِ إلى عندي؟ "
ردت بصوتها الجميل: " ماما قالت لنبض أن تذهب وتنادي أخوها "
توسعت عينيه بدهشة من طريقتها في الحديث فكتم ضحكته يقول: " وماذا أيضاً؟ "
حركت كتفيها وهي ترد: " ماما لم تقل لنبض أكثر من هذا "
هنا علا صوت مريم تنادي من الخارج: " نبض! قطيطتي.. أين ذهبتِ يا صغيرة؟ "
هبت نبض من مكانها وهي ترد: " نبض آتية ماما "
ركضت نبض خارج الغرفة لكنها عادت بعد ثانية واحدة تسحبه من يده وهي تقول: " ماما ستخاصم نبض إن لم تأت معها "
دخلا المطبخ حيث كانت مريم تعد الغداء وما إن رأته حتى تهللت اساريرها وهي تقول: " وأخيراً خرج صغيري من كهفه "
ابتسم بحرج من لطف تلك المرأة التي كان قبل أسابيع قليلة لا يعلم عنها شيء ولم يكن لها دور في عالمه من قبل أبداً
إنه وللعجب يحبها! منذ اللحظة الأولى التي التقاها بها وقد سكب الله في قلبه حبها كما سكب في قلبها محبته فأصبحت لا تنام قبل أن ينام ولا تضع لقمه في فمها قبل أن تتأكد من شبعه أولاً، تفرط في الاهتمام به ورعايته على حساب ابنتها في كثير من الأحيان وما يدهشه هو عدم شكوى الأخرى من ذلك أو غيرتها منه لسرقة إهتمام أمها منها
مريم تنظر له كإبن حقيقي لها وتعامله على هذا الأساس وكأنه خرج من رحمها فمنذ انتقل للعيش في هذا البيت وهو يجد منها معاملة خاصة لم يتلقاها من إنسان يوماً حتى أمه حبيبته الغالية التي رحلت وتركته ضائعا من بعدها لم تكن تميزه عن أخاه بل تعاملهما بنفس الطريقة والمساواة
أما عائلته فكانت دائمًا تتحيز لأخيه بحجة أنه أكثر حاجة منه إلى الحنان والرعاية لأنه أضعف منه في البنية فكانوا يفرطون في تدليله على حسابه هو ورغم ذلك لم يكن يغضب أو يحقد على أخيه
رفع عينيه ينظر الى تلك السيدة الجميلة بإبتسامتها التي لا تخبو أبداً فتنشر الحياة في كل ما حولها وتزيد العالم بهجة وقبل أن يتفوه بحرف أتاه الصوت الشجي من جواره ونبض تتحدث: " هل إنتهت مهمة نبض الآن ماما؟ "
اومأت مريم وهي تبتسم منحنية إلى ابنتها: " نعم إنتهت لكن... (حملت نبض بخفة ثم اجلستها على المنضدة المستديرة، المرتفعة الموجودة في وسط المطبخ وهي تكمل) على القطيطة الحلوة حبيبة ماما أن تبقى قليلاً بعد "
رمشت نبض بقوة وهي تقول بصوت حزين: " ألن تذهب نبض إلى خالتها منال حتى تلعب مع إياد؟ "
ابتسمت مريم ترد: " بلى ستذهب لكن ليس الآن "
أطرقت نبض برأسها وهي تقول: " لكن ماما قالت الآن؟ "
ربتت مريم على وجنتها وهي ترفع وجهها إليها ترد: " يمكنكِ الآن اللعب مع أخاكِ بعد أن تتناولان الغداء وفي المساء سنذهب جميعاً عند خالتكِ منال وحينها سيكون أمامكِ الوقت الكافي لتلعبي مع إياد "
مالت على أمها تسر لها بخفوت: " إنه كبير وضخم كيف سيلعب مع نبض؟ سيحطمها! "
ضحكت مريم وهي ترد: " نبض ليست دمية حتى يحطمها "
هزت نبض كتفيها تقول ببؤس: " نبض تخافه يا ماما فكيف ستلعب معه؟ "
قطبت مريم وهي تجيبها: " كيف تخافينه نبض؟ ألم تذهبي إليه بنفسكِ وتحضريه معكِ؟ "
اومأت برأسها دون رد فتابعت مريم: " وهل أذاكِ حينها أو ازعجكِ؟ "
اومأت نبض سلباً وهي تقول بفرح كمن وجد كنز ثمين: " لا.. هو ابتسم لنبض "
اتسعت ابتسامة مريم وهي تقول: " إذن هو ليس مخيفا فالوحوش المخيفة لا تبتسم للقطيطات الجميلة أمثالكِ صغيرتي "
مالت نبض برأسها لتطالعه من خلف كتف أمها في وقفته المتشنجة عند باب المطبخ ثم عادت تهمس لأمها: " هل هو خائف مني إذن؟ "
صدحت ضحكات مريم وهي ترد: " بالطبع لا صغيرتي الحلوة أنتِ لا تخيفين أحد "
رمشت نبض وهي تهمس لأمها من جديد: " لكنه خائفا "
ران على مريم الحزن وهي تقول: " المسكين حزين لأنه وحيد ولا يجد من يلعب معه "
قطبت نبض تقول: " كيف وحيد؟ نبض وبابا وماما معه.. إذن هو ليس وحيداً أليس كذلك ماما؟ "
حركت مريم كتفيها ببؤس مصطنع تقول: " لكنكِ لا تلعبين معه أبداً "
رمشت نبض وهي تقول برقة وبراءة: " نبض لا تريد أن تكون ماما خاصتها حزينة أبداً "
ابتسمت مريم بمكر وهي ترد: " إذن نبض ستطيع ماما خاصتها وتلعب مع أخاها أليس كذلك؟ "
مالت نبض برأسها من جديد تنظر إليه في وقفته التي لم تتغير وحينما تلاقت أعينهما رمشت لوهلة وهي تنظر له ثم ابتسمت ببراءة تقول: " حسناً.. نبض ستلعب مع أخاها "
مالت مريم وقبلت وجنتها ثم قالت بحنان: " ما أجملكِ حبيبتي ونبض فؤادي! "
***

بعد دقائق معدودة
كانت نبض تجلس إلى جواره على الأرض في غرفتها بعدما أحضرت كل ألعابها والدمى الخاصة بها لكي تلعب معه كما طلبت منها أمها
لكنه ظل منطوياً على نفسه دون أن ينظر لها حتى، كان يجلس إلى جوارها، ضاماً ركبتيه إلى صدره مطوقاً إياهما بذراعيه ونظره مثبت على نقطة في الفراغ دون أن يحيد ببصره عنها
أخذت نبض تنظر له بين كل دقيقة وأخرى بطرف عينها للحظة واحدة قبل أن تعاود النظر بحسرة إلى ألعابها التي لم تمسها
كانت تشعر بالكآبة وهي تظن أن أياً من ألعابها لم تنل رضاه لذلك هو حزين وكادت تنهض مهرولة إلى أمها لتخبرها أن تحضر لها المزيد من الألعاب لأن هذه لم تعجبه لكنها قبل أن تتحرك من مكانها فوجئت برأسه تميل على كتفها
كانت تنظر لرأسه متسعة العينين وهي تتمتم بخفوت: " لماذا نام الآن؟ موعد النوم لم يحن بعد؟ "
رفعت عينيها إلى ألعابها التي تغريها بأن تزيح رأسه عن كتفها لتذهب إليها لكنها تعاود الإلتفات له فيأثر قلبها باستكانته وملامحه الحزينة منذ رأته في المستشفى يبكي فتغرق في الحيرة
أي الأمرين تختار؟
هو أم ألعابها الكثيرة الجميلة؟
وبعد تفكير عميق حسم قلبها البرئ الأمر فأنتهى بها المطاف تتزحزح ببطء وحذر شديد حتى لا توقظه من نومه وآل بهما المطاف هي تستند بظهرها على فراشها أرضا بينما هو ينام ممدداً على الأرض ورأسه على ساقها المطوية تحتها
***

بعد نصف ساعة
طرقت مريم الباب بخفة وهي تدلف إلى الداخل مثيرة زوبعة من الحماس بينما تصيح بمرح: " الغداء جاهز يا أولاد و... ماذا؟ هل نمتما؟ "
رفعت حاجبيها ذهولا من المشهد المجسد أمامها وما هي إلا لحظات حتى شعرت بذراعين قويتين تطوقان خصرها بينما صوت ضحكات مشاكسة تدغدغ مسامعها تزامنت مع صوت صاحبها الذي مال يهمس في أذنها: " ابنتكِ تمارس دورها على الفتى على أكمل وجه.. يبدو أنه قد حضر أخيراً من سيكسر نطاق دائرتها المحدود ويقتحم حصونها من أوسع الأبواب "
ابتسمت مريم وهي تقول بمناكفة: " تتحدث بطريقة تفوق تفكير الأولاد ولازال باكراً جداً عما تفكر فيه أيها الطبيب الماكر "
كتم مختار ضحكته وهو يرد: " حقاً تتحدثين! انظري لنفسك أيتها الحسناء لقد حاصرتكِ وأنتِ ابنة التاسعة عشر ثم غزوتكِ واحتللت بلادكِ وأقمت دولتي على اراضيكِ وأنتِ في العشرين إذن ما أفكر فيه ليس باكراً بل جاء في وقته "
ضحكت مريم تقول: " يبدو أنك نسيت في خضم حساباتك أن ابنتك لازالت في السابعة من عمرها فحسب "
حرك رأسه سلباً قبل أن يميل على وجنتها يقبلها وهو يقول ببساطة: " لا لم أنس حبيبتي لكنني أريدها أن تكون خطبة طويلة.. هكذا سيدرسان طباع وتصرفات بعضهما البعض على مدى واسع "
قطبت مريم بذهول وهي تستدير بين ذراعيه بخفة قائلة: " خطبة! أي خطبة؟ مختار أنت تمزح أليس كذلك؟ "
رد بمرح: " لا "
أمسك بيدها وسحبها خلفه بينما هي تقول: " أنتظر مختار سأعدل من وضعية نوم الأولاد "
دفعها بلطف خارج الغرفة وأغلق الباب من خلفه وهو يقول بمكر: " لا دعيهما حتى يتعلما من اخطائهما فلا يكرران النوم بتلك الوضعية المتعبة مرة أخرى "
عبست مريم بطفولية وهي تعترض: " لكن يا مختار... "
قاطعها بجدية وهو يسحبها خلفه من جديد تجاه غرفتهما الخاصة: " ليس هناك لكن مريم أتركيهما يتصرفان وحدهما هما ليسا صغارا "
ما إن دخلت الغرفة حتى وقفت أمامه عاقدة ساعديها أمام صدرها وملامحها عابسة بطريقة طفولية مضحكة وهي تقول: " أنتَ لست حنونا بالمرة "
رفع حاجبيه بذهول من اتهامها الموجه له وهو يقول: " أنا! "
اشاحت بوجهها عنه وهي تتصنع الانزعاج والخصام فاقترب منها وعلى ثغره إبتسامة لا تصمد مريم أمامها طويلاً
مال يقبل وجنتها برقة بينما صوته يأتيها هامسا يحمل حنان العالم وهو يقول: " لازلنا في البداية ولم يفت الوقت بعد فإن كنت غير حنون فعلميني كيف أكون كذلك يا مالكة فؤادي أليست لديكِ كل خزائن الحنان؟ إذن امنحيني منها القليل حتى ارضيكِ؟ "
وضعت كفيها على كتفيه وهي تنظر لعمق عينيه فتغرق في أمواج زرقاوتيه بينما تقول: " أنتَ تعلم أن كل خزائني أضحت مشرعة أمامك بعدما سلمتك مفاتيحها منذ زمن بعيد "
ناداها بعذوبة: " مريمي "
فترد برقة آسرة: " نعم يا فؤاد مريم! "
نظر لها للحظات طويلة بصمت كان أبلغ من كل الكلام حتى قطعه فجأة وهو يميل إلى شفتيها هامسا بصوت أجش: " مريم.. يا مالكة فؤادي وتوأم روحي وكل حياتي والله إنني أحبكِ ولم ولن أحب بعدكِ سوا ابنتكِ لأنها قطعة منكِ "
توردت مريم بخجل وهي تميل برأسها تسند جبهتها على كتفها بينما تهمس له بعشق: " وربي يعلم أنني أحبك أكثر "
ضمها إلى صدره وهو يتنهد براحة وسكينة لا تفارقه في جوار حبيبة عمره وهو يتمتم: " أنتِ الحب يا مريم والحب أنتِ "

***

في المساء
كانت شمس تستمع إلى فرح بإنصات شديد وملامحها تعبر عن الدهشة وما إن إنتهت فرح من سرد الأحداث التي مروا بها في الفترة الماضية حتى هتفت شمس بذهول: " كل هذا حدث في تلك الفترة القصيرة التي مضت! ما كل هذا؟ "
تنهدت فرح ببؤس وهي ترد: " لقد كانت أصعب فترة مررنا بها يا شمس.. أتمنى أن تتحسن الأوضاع قريبا وإلا... "
صمتت فرح فسألتها شمس بترقب: " وإلا ماذا يا فرح؟ "
نهضت فرح من مكانها وهي تقول: " وإلا ستزداد الأمور سوءًا يا شمس خاصة بعد ما حدث بين قاسم وحياة "
قطبت شمس وهي تقول بعدم رضا: " حياة تكابر يا فرح وقاسم معه حق فيما فعل.. صراحة لا ألومه "
ناظرتها فرح برفض لما تقول وهي ترد: " لا يا شمس.. أنتِ لا تعرفين شيء.. قاسم يحب حياة وهي الأخرى متيمة به ومهما حدث ما كان عليه أن يكسر قلبها بهذا الشكل "
نهضت شمس من مكانها هي الأخرى حتى تقف أمام فرح وهي تقول: " ولو يا فرح.. هي تستحق ذلك فقد كسرته في المقابل بل هي من أخطأت أولاً.. قهر الرجال ليس بالأمر الهين يا فرح خاصة إن كان مع رجل عزيز النفس معتز بكرامته وكبريائه كقاسم "
عبست فرح وهي تقول بإحباط: " المهم الآن أن يتصالحا.. أنا شخصيا لا أستطيع تحمل رؤيتهما متباعدين أبداً لا أتخيل حياة لرجل غير قاسم أو قاسم لامرأة أخرى غير حياة "
تنهدت شمس وهي تقول: " أتمنى أن يجمعهما الله قريبا على خير ولكن فلتتعقل حياة أولاً وتحارب لأجل من تحب حتى تستحق الفوز به في النهاية "
ابتسمت فرح بلطف وهي تقول: " سأترككِ الآن لترتاحي فمنذ وصلتِ وأنا لم أكف عن الثرثرة "
اومأت شمس بمودة وهي تقول: " وأنا سعيدة بثرثرتكِ تلك يا فرح "
قبلتها فرح على وجنتها وهي تقول: " حسنا تصبحين على خير "
ابتسمت شمس وهي ترد: " وأنتِ بخير حبيبتي "
***

بعدما خرجت فرح من غرفة شمس كانت في طريقها إلى الطابق العلوي متوجهه إلى غرفة ياسين وهي تدندن بخفوت وفجأة أجفلت حينما كادت تصطدم بأنس الذي كان ينزل على الدرج بسرعة
توقفا كلا منهما يطالع الآخر فاغر الفاه لتقطب فرح فجأة وهي ترفع سبابتها في وجهه بغيظ: " تعمدت هذا أليس كذلك؟ "
رمش أنس لوهلة قبل أن يرد بحيرة: " ما الذي تعمدته؟ لا أفهم "
عبست بطفولية وهي تقول: " أن توقعني "
رفع حاجبيه بذهول وهو يرد: " بالطبع لا.. ولماذا قد أفكر في شيء كهذا؟ "
رفعت حاجبا باستفزاز تقول: " إذن اعتذر حالا لأنك أخفتني "
فقطب بحنق يرد: " حقا أخفتكِ! وماذا عنكِ؟ "
شهقت بدهشة وهي تقول: " هل تقصد أنك خفت مني؟ يا مسكين "
تأفف أنس مغتاظا منها وهو يتنحى جانبا بينما يشير لها قائلا: " تفضلي اصعدي يا آنسة حتى ننتهي من هذا الموقف السخيف "
ابتسمت بهدوء تقول: " لا تفضل أنزل أنت أولاً "
تنهد وهو يقول بنفاذ صبر: " لا يصح.. النساء أولاً "
كتمت ضحكتها وهي تقول: " إلى أين كنت ذاهب؟ شمس نامت "
عبس وهو يرد بغيظ: " هذا كثير والله.. هل يجب أن أقدم بيان كامل لكل فرد في هذه العائلة عن كافة تحركاتي؟ "
عبست بتفكير وهي تسأله: " من سألك أيضا؟ زيد أم قاسم؟ "
رفع حاجبا بلامبالاة وهو يرد: " ولماذا لا يكون عاصم أو حمزة أو حتى ياسين؟ "
ردت بإبتسامة واسعة وهي تقول بعفوية: " أولاً لأن عاصم لا يحب التدخل في شئون الغير ثانيا لأن حمزة بالتأكيد مشغول مع عروسه وليس متفرغا لسؤال أحد عن أي شيء أما ثالثا فأخي ياسين لا يشغل نفسه بأحد من الأساس فهو يرى أنه ليس من حقه معرفة خصوصيات الغير كما يحب أن نفعل معه "
سألها بإهتمام: " ولماذا زيد أو قاسم؟ "
ردت بنفس العفوية: " زيد ابن عمي طبعه مغرور قليلا يحب أن يعرف التفاصيل الكاملة عن أي شخص يمر من أمامه ولو عن طريق الصدفة أما أخي قاسم فإن كان سألك فبالطبع ليعرف هل بوسعه فعل شيء ليساعدك في إنجاز ما تريد أم لا "
اومأ بفهم وهو يرد: " زيد من سألني.. عامة أنا كنت متوجها إلى الحديقة أردت الجلوس قليلا وحدي "
اتسعت إبتسامتها وهي تقول: " وأنا كنت متوجهه إلى الحديقة أيضا "
رفع حاجبا بدهشة وهو يقول: " كنتِ صاعدة للأعلى لأجل الذهاب إلى الحديقة (ثم تابع متهكما) هل تريدين الوصول إليها عن طريق القفز من نافذة غرفتكِ؟ "
ضحكت فرح بحرج وهي تجيبه: " لا.. لا أقصد هذا لقد أخطأت.. أنا ذاهبة لأخي ياسين "
هز رأسه بتفهم وهو يمنع بسمته من الظهور بينما يقول: " ما التالي؟ هل ستصعدين لكي أنزل أم سنبقى طويلا على هذا الحال؟ "
قطبت بعبوس فتابع بمناكفة: " أنا أسأل فقط لكي أعلم وضعي.. هل أجلس أم أستعد للنزول؟ "
ابتسمت بخجل وهي تصعد بسرعة بينما تتمتم لنفسها: " الكثير من الحلوى ضار بالصحة يا فرح.. خاصة الحلوى بالعسل "
بينما أنس تمتم متنهدا وهو ينزل: " لا أصدق أن تلك القردة الشقية تقرب لتلك العائلة العجيبة بصلة.. إنها كفرصة لا تأت سوا مرة واحدة في العمر.. لا ليست فرصة وإنما...فرحة.. فرحة العمر "

انتهى الفصل..
قراءة ممتعة..🌹

Hend fayed 29-10-19 06:05 PM

سُلاف الفُؤاد
 
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد؛
|| الفصل السادس ||

آخر الشهر
كانت نبض سعيدة للغاية بعدما أنهت كافة الأوراق اللازمة للالتحاق بكلية الطب
أخيرا وصلت إلى أولى الأحلام وبدأت في تحقيقها وبداخلها عزم وإصرار على تحقيق البقية
سألها صخر بإهتمام: " هل تريدين فعل أي شيء في العاصمة قبل أن اعيدكِ إلى العمة فاطمة؟ "
إلتفتت نبض تقول بحماس: " أريد رؤية يوسف وعمي معتز.. لقد إشتقت إليهما كثيرا "
عبس بغيظ طفولي وهو يتمتم بغيرة: " لماذا دائما تشتاقين لهما دوني؟ "
ضحكت بخجل وهي ترد: " وكيف سأشتاق إليك وأنت لا تكاد تغيب عني يوما حتى أراك في اليوم التالي؟ "
تأفف هو بحنق فقالت تناكفه: " لا تغضب.. المرة القادمة حينما تأتي لزيارتي سأخبرك على الفور بأنني اشتقت إليك.. هل يرضيك هذا؟ "
اومأ مستسلما وهو يغمغم: " جيد "
ضحكت نبض وهي تغطي فمها بكفها كعادة ملازمة لها بينما تابع هو: " إنهما في المشفى "
ردت ببساطة: " اممم لا بأس خذني إليهما "
قال متهكما: " اوامركِ يا هانم.. سائقكِ أنا على ما يبدو "
قهقهت نبض بمرح وهي تقول: " سائق نزق "
رد ببرود: " إن كان يعجبك "
اومأت برأسها وهي تقول بمناكفة: " تعجبني طبعا.. وهل أقوى على قول لا حتى تتخذها حجة وتقوم بقتلي أيها المتوحش؟ "
عبس ببرود وهو يقول: " جيد.. لا أريد سماع صوتكِ حتى نصل "
ردت بوداعة وهي تكتم بداخلها بقية ضحكاتها حتى لا تزعجه: " حاضر "
***

بعد بضعة دقائق
كانت تسير إلى جوار صخر في الممر الطويل المؤدي إلى استراحة الأطباء حيث علموا أن يوسف هناك، تضع كفيها في جيبي فستانها الأبيض ذي الزهرات الصغيرة الوردية المنثورة على نسيجه كاملا بينما هو يدخن إحدى السجائر بين يديه أما الأخرى كانت في جيبه مثلها
رمقته بطرف عينها بعدم رضا وهي تقول: " هذا لا يصح في المشفى يا دكتور "
عبس دون أن يرد فتابعت ببرود: " لو كنت أملك المشفى ما كنت سمحت لك بدخولها أبداً "
ظهر على زاوية فمه ابتسامة صغيرة وهو يقول ببساطة: " أنتِ تملكينها بالفعل "
قطبت بعدم فهم وهي تقول: " تقصد نصيب أبي رحمه الله "
توقف عن السير ففعلت المثل وهي تطالعه بانتباه بينما يقول هو: " بعد تخرجكِ بإذن الله ستكون تلك المشفى ملككِ وحدكِ يا نبض.. أنا اشتريت نصيب أبي والشركاء الآخرين لأجل أن تكون المشفى كلها لكِ وحدكِ دون أي شريك "
رمشت بذهول وهي تقول: " حقا صخر! فعلت هذا لأجلي "
اومأ إيجابا وهو يضيف: " لقد فعلت هذا منذ بضعة أيام قليلة ولم أكن سأخبركِ حتى تنهي دراستكِ لتكون هذه هدية نجاحكِ لكن انظري للحظ.. كشفتِ الهدية قبل أن تبدأي الدراسة حتى "
لم تعرف كيف فعلتها واندفعت له تتعلق به وهي تحتضنه بقوة هاتفة بفرح: " شكرًا يا صخر.. أسعدت لي قلبي "
كان صخر لا يشعر بنفسه من الأساس لكي يرد، ظل جامدا بدون أي حركة للحظات حتى ازدرد ريقه وهو يبعدها عنه بلطف قائلا بحنان رغم ارتباكه: " لا داع لشكري صغيرتي.. أنا لا أريد سوا سعادتكِ "
ابتسمت نبض بحماس وهي تقول: " أنت بطلي يا صخر لطالما كنت كذلك دوما "
سحبته من يده وهي تتابع كلامها بحماس: " تعالِ.. سنخبر يوسف أولا حتى أغيظه بأنه يعمل لدي ويمكنني طرده في أي لحظة إن وجدت منه أي تخاذل أو تقصير "
توقفت فجأة وهي ترفع سبابتها في وجهه بتهديد قائلة: " وأنت تعمل لدي أيضا وإن علمت بأنك تدخن في المشفى سأفصلك فورا ودون رجعة.. هل فهمت؟ "
رد بجدية مصطنعة: " اه طبعا.. طبعا صغيرتي "
رفعت حاجبا بأنفة وهي تعدل حجابها بعجرفة مصطنعة بينما تقول: " لا انسى كلمة صغيرتي تلك.. منذ اللحظة أنا الدكتورة نبض "
ثم خطت أمامه وهي ترفع رأسها بشموخ وكفيها في جيبي فستانها تقول بغرور مشاكس: " هيا أتبعني لنرى صديقك ماذا يفعل مع مرضاه؟ "
كان مبهورا بها وهي تسير أمامه بخيلاء ذكرته على الفور بفرسه العنان
كم تشبهها جمالا قلبا وقالبا!
تحرك خلفها يتبعها بهدوء وهو يحاول قدر الإمكان إخفاء تأثره وارتباكه من قربها منه
قرب محرم لا يجوز له.. ولو كانت هي تعلم بذلك لمَّا اقتربت منه بل كانت على الفور ستقصيه بعيدا عنها
وصلا إلى غرفة الاستراحة فدخل صخر أولا وهو يقول: " من الجيد أنك هنا "
تبعته نبض على الفور وهي تقول برقة: " يوسف.. أخي.. لقد إشتقت إليك "
هب يوسف من جلسته فورا وتقدم منها بسرعة يقول بدهشة: " نبض أنتِ هنا "
اومأت بسعادة وهي تقول باسمة: " نعم هنا.. أنا إشتقت إليك كثيرا يا يوسف "
تمتم صخر بغيظ: " إنها ثالث مرة تقولينها.. فهمنا أنكِ أشتقتِ إليه "
تجاهله يوسف وهو يبتسم له بإغاظة قبل أن يلتفت إلى نبض قائلًا بحنان: " وأنا أيضا يا صغيرتي إشتقت إليكِ.. لماذا لم تخبريني أنكِ قادمة إلى العاصمة؟ "
ردت ببساطة: " أحببت أن أفاجئك "
إبتسم يوسف وهو يقول: " إنها أجمل مفاجأة حصلت عليها منذ سنوات طويلة "
غمغم صخر بخفوت مغتاظ وهو يجلس على إحدى الكراسي: " وآخرها بإذن المولى "
هتفت نبض بفرح: " هل علمت بهدية صخر التي سيقدمها لي بعد التخرج بإذن الله؟ "
رد يوسف بحنان: " نعم.. صخر أخبرني.. مبارك لكِ مقدما يا صغيرتي "
ابتسمت نبض وهي تقول: " بارك الله لي فيك أخي "
فجأة دخلت ريم التي علمت منذ قليل بحضور صخر لكنها بدت متفاجئة من وجود نبض
قالت بدلال رقيق وهي تقترب من صخر: " مرحبا صخر.. إشتقت إليك في اليومين الماضيين.. أين كنت؟ أقلقتنا عليك "
عبست نبض بشراسة وهي تنظر إلى يوسف بتساؤل صامت رد عليه الأخير بتأفف واستياء وهو يهز رأسه يأسا
أما صخر فرد ببرود: " أهلا دكتورة ريم "
تدخلت نبض فجأة تقول: " يمكنك توديعه دكتورة ريم بشكل كافي لأنه سيغيب عن المشفى لوقت طويلا على ما أظن وليس ليومين فقط "
رفعت ريم حاجبا ببرود وهي تنظر لها باستخفاف قائلة: " اه القطة الصغيرة هنا.. وأنا التي كنت أتساءل من أين أتت تلك الرائحة الغريبة عن رائحة المشفى المعتادة؟ "
عقدت نبض ساعديها أمام صدرها وهي تنظر لها بترفع قائلة: " حمدا لله أن فتح النافذة أتى بمفعول إيجابي فقد كانت الغرفة خانقة بشكل كبير (ثم إلتفتت تشير إلى النافذة وهي تكمل) انظري.. في الخارج الهواء طلق سبحان الله عكس ما في الداخل تماما "
جزت ريم على أسنانها بغيظ وهي تقول بإبتسامة سمجة: " لم تخبريني ماذا تفعلين هنا؟ هل تظنين أن المشفى مكانا مخصص للهو الأطفال؟ "
ابتسمت نبض ببراءة تغيظها: " بالطبع لا.. ولا حتى أظنها مكانا مخصصا لاصطياد عريس لأجل مستقبل مبهر فكما ترين.. (تقدمت من صخر تجلس على ذراع الكرسي الذي يجلس عليه وهي تكمل برقة) أنا حظيت على أوسم الشباب ومحال أن أفكر في سواه "
كتف يوسف ساعديه أمام صدره وهو يراقب المشهد بتسلية شديدة بينما نبض تقول بدلال رقيق: " ألن تخبرها حبيبي أننا سنسافر سويا لنقضي شهر عسلنا المؤجل لذلك ستضطر إلى التغيب عن الحضور إلى المشفى ربما لثلاثة أشهر كاملة؟ "
رفع صخر حاجبا متعجبا مما تقول بينما رد يوسف كاتما ضحكاته: " لم تخبريني بعد يا نبض.. أين ستقضيانه؟ "
نظرت إلى يوسف تتصنع التفكير وهي تقول: " اممم لم نحدد بعد.. لكني ليس لدي مشكلة مع أي بلد سيختارها صخر فأنا أثق بذوقه وهو بالتأكيد سيختار ما أحب.. أليس كذلك حبيبي؟ "
رد صخر برقة شديدة يجاريها: " بالطبع حبيبتي فما تحبينه له الأولوية عندي "
كادت ريم تبكي غيظا في تلك اللحظة فأنسحبت سريعا والحقد يحرق أحشائها على نبض وبمجرد أن خرجت هبت نبض من جلستها وهي تزفر بضيق وامتعاض قائلة: " أوف.. فتاة وقحة.. أنا لا أحبها "
إبتسم صخر بتهكم وهو يضع ساقا على الأخرى قائلا: " لماذا ابتعدتِ حبيبتي؟ هل إنتهت فقرة التباهي بتلك السرعة؟ "
رمقته نبض بحنق وهي ترد: " أظنك أحببت ما كانت تفعله تلك الفتاة "
اومأ صخر وهو يقول ببراءة زائفة: " جدا وخاصة ما دفعتكِ لفعله في المقابل.. أعجبني المشهد لكنكِ لم تخبريني بعد أي بلد تحبين أن نقضي فيها الثلاثة أشهر الموعودة؟ "
عبست نبض بغيظ وهي تتمتم من بين أسنانها: " لا تمزح صخر.. تعلم أنني لم أعني ما قلته حقا "
ضحك يوسف وهو يقول: " بدوتِ رائعة يا نبض.. قمتِ بدوركِ على أكمل وجه وكدت أصدق ما تقولين بالفعل "
ثم غمز إلى صخر وهو يضيف بمشاكسة: " محظوظ يا صديقي ستنال ثلاثة أشهر كلها عسل وليس واحدا فقط بالإضافة إلى أنها نادتك 'حبيبي' مرتين في دقيقة واحدة هل تصدق هذا؟ "
تأوه يوسف فجأة قبل أن ينفجر ضاحكا حينما قذفته نبض بعلبة السجائر الخاصة بصخر وهي تصيح بحنق: " أحترم نفسك يا يوسف وإلا سأجعله يقطعك ونرسلك إلى العمة فاطمة لتصنع منك صينية بطاطس باللحم المفروم "
رفع يوسف يديه باستسلام وهو لازال غارقا في موجة الضحك بينما صخر كان يرفع حاجبا شريرا وهو يقول بغضب مصطنع: " نعم أحترم نفسك يا يوسف ولا تزعج حبيبتي وإلا لا تلومن إلا نفسك "
صاحت بغيظ وهي تلكزه في كتفه: " وأنت الآخر أحترم نفسك.. أنا لست حبيبتك "
نظر صخر ليوسف بغيظ وكلاهما يكتمان ضحكاتهما بينما قالت نبض بعبوس: " أين عمي معتز؟ "
رد يوسف بهدوء: " قبل نصف ساعة غادر المشفى وذهب إلى عيادته الخاصة "
برمت شفتيها ببؤس وهي تقول: " هل يعني هذا أنني لن استطيع رؤيته قبل عودتي إلى المدينة "
إبتسم يوسف بحنان وهو يرد: " بلى صغيرتي تستطيعين رؤيته فلدي موعد معه بعد ساعة ويمكنني اصطحابكِ معي إلى هناك إن أردتِ "
قطبت نبض وهي تسأله: " موعد معه في عيادته! أي موعد هذا؟ "
ظهر الارتباك على يوسف وهو يتنحنح قليلا قبل أن يجيبها بمراوغة: " أحتاج إلى مناقشته في أمور تخص بعض الحالات التي أعالجها ولم أحظى بفرصة لسؤاله في المشفى لذلك سأزوره في عيادته "
رفعت حاجبيها تسأله بحيرة: " أنت طبيب أطفال وعمي معتز طبيب مختص في العلاج النفسي فأي أمور تلك التي تربط بين مرضاك وتخصصه؟ "
شعر يوسف بأنه تورط ولا يستطيع إيجاد منفذ ليتخلص من سؤال نبض فنظر إلى صخر يطلب منه التدخل فلم يتأخر الأخير في الإجابة عن طلبه وإنقاذه وهو يقول بهدوء: " يوسف يعالج حالة خاصة تمر بظروف صعبة وتلك الحالة يهتم كثيرا لأمرها لذلك أراد أن يساعدها عن طريق مُعالج نفسي حتى تتخطى تلك الأزمة التي تمر بها ولم يجد أفضل من أبي ليطلب منه النصح "
رفعت حاجبا باستفزاز وهي تقول: " كيف حالة واحدة وهو قال بعض الحالات؟ "
زفر صخر بغيظ وهو يهب من جلسته قائلا: " هل يجب أن تدققي في كل كلمة ننطقها بهذا الشكل؟ "
عبست دون أن ترد عليه فدفعها بلطف للخارج وهو يقول: " هيا سأقلكِ بنفسي إلى عيادة أبي حتى تقابليه وننتهي "
بمجرد أن خرجت نبض إلتفت صخر إلى يوسف متمتما بغيظ: " ماذا كنتم تطعمونها لتكون بكل هذا الذكاء وقوة الملاحظة؟ بدأت أخاف على نفسي من الخطأ بكلمة أمامها "
ضحك يوسف براحة وهو يرد: " إذن لا تنس أبدًا أن تفلتر حديثك وأفكارك أولاً بأول قبل أن تنطق به ومن فضلك أخبر عمي معتز أنني سأمر عليه في المساء فأنا لا أريد أن تراني نبض هناك يكفي ما حدث الآن.. كدت أفضح نفسي بنفسي أمامها "
اومأ صخر برأسه بهزة خفيفة قبل أن يخرج لاحقا بها وهو يقول ببساطة: " سأفعل "
***

في المساء / بعيادة معتز
كان يقاوم شعور اللهفة الذي ينمو بداخله كل يوم أكثر من سابقه لكي يسمع صوت والديه ويتنعم بفيض الحنان في نبرتهما العذبة
كان في أمس الحاجة لذلك ، يجبر نفسه على التعافي بسرعة من تلك الحالة النفسية المضطربة السيئة التي أصابته منذ ذاك الحادث الأليم حتى يعود لأحضان أمه التي اشتاقها حد الجنون، لكن مقاومته لم تصمد طويلاً أمام إلحاح عقله على سماع ذلك التسجيل الذي سلمه إياه الدكتور مختار
انتظر حتى حل المساء وعلم أن الدكتور مختار غادر المستشفى لسبب ما ثم هرع إلى الحاسوب المحمول الذي احضره له مختار ليسلي نفسه به وخلال لحظات كان ينظر بابتسامة واسعة إلى شاشة الحاسوب في انتظار صورة والده أن تظهر لكن ذلك لم يحدث
فقط وبعد لحظات صدح صوت والده يقول:
*أتمنى أن تكون بخير ولدي الغالي، وأدعو الله لكَ بالسلامة في كل وقت*
قطب بترقب وشيء في نبرة صوت والده تخبره أن القادم لن يسره وبالفعل تحدث والده بصوت حزين يقول:
*هناك الكثير من الأمور حدثت بخلاف موت عميك لقد... لقد فقدنا أمك يا بني*
صاح هو بصدمة: " ماذا؟ "
لكن بالطبع والده لم يسمعه أو يجيبه خلال هذا التسجيل بينما يتابع حديثه:
*حينما رأت زيد وثيابه مغطاة بالدماء وهو يصرخ باكياً بأنهم قتلوك لم تحتمل الصدمة وخرت في الحال صريعة الخبر ظننا... (تقطع صوت والده وهو يجهش في البكاء بدون تحفظ بينما يكمل) ظننا أنها مغشيا عليها فقط من الصدمة لكن... لكن الطبيب أكد بعد مجيئه أن... أنها ماتت إزاء سكتة قلبية في الحال دون أن يحتمل قلبها هول الصدمة فكما تعلم هي كانت مريضة بالقلب*
صرخ بأنفاس متقطعة: " م... ماذا؟ أمي.. حبيبتي رحلت.. هذا مستحيل أمي حية.. أمي... "
عاد صوت والده المسجل يقاطعه وهو يردف:
*الحمد لله أن ذلك القاتل أخطئ في توجيه الرصاصة وإلا لكانت اخترقت قلب الصبي الذي فداك وأودت بحياته كما قال دكتور مختار*
انهمرت عبراته بحرقة على أمه وهو يستمع إلى صوت والده يدلي بالمزيد بصوت يقطر قهرًا ووجعا:
*جدك وعمك خالد لن يتركوهم يفلتون بفعلتهم أبداً حقك لن يذهب هباءً بني*
ضرب بقبضته على الفراش وهو يصرخ: " حقي! أي حق هذا؟ أمي ماتت بسببي.. أنا من قتلها، أنا الجاني، أنا القاتل.. يا ويلي في فراقك يا أمي.. يا ويلي! "
كان يبكي بحرقة بينما صوت والده ينساب عبر الأثير مضيفاً المزيد دون أن يستمع له أو يجد القدرة على الإنصات له حتى سمع والده فجأة يقول:
*عليك بطاعة عمك مختار فيما يأمرك به بني.. لا تجادله فهو يعلم الصالح لك ومنذ اليوم سيكون هو المسؤول عنكَ وستكون أنتَ تحت رعايته.. أنا أثق به تمام الثقة فامنحه ثقتك أنتَ الآخر دون خوف فهو جديراً بها*
قطب من بين بكائها يقول: " مسؤولا عني! لماذا أبي؟ أنا مسؤول منكَ أنتَ أنا... "
عاد صوت والده يصدح من جديد:
*سوف يصلك كل ما تحتاج إليه بني أولاً بأول عن طريق عمك مختار.. لن ينقصك شيء ولن تكن بحاجة لأي شيء في بيته لكن... (ران صمت طويل وهو يحدق في شاشة الحاسوب المظلمة كمن ينتظر إصدار الحكم عليه بالإعدام والذي تمثل في قول والده) لا يمكنك بني العودة إلينا في الوقت الحالي ربما... ربما بعد فترة تكون الأوضاع هنا استقرت وهدأت*
فتح فمه ليجادل لكن صوت زيد الذي صدح برجاء باك استوقفه:
*لا تعد يا أخي.. أبتعد قدر ما استطعت عن هنا.. لن يرحموك إن علموا بنجاتك.. أرجوك لا تعد.. أبي قال أنكَ ستكون في أمان مع العم مختار فأبقى معه أرجوك*
فغر فاهه مصدوما، يشعر بالغدر من أقرب الناس إليه.. لا أحد يريده، الجميع فجأة تخلو عنه وسلموه لآخر يكفله
لكن ما ذنبه؟ هو لم يتمن حدوث ذلك الحادث اللعين التي قلب موازين حياته
من أين يطالبونه بمنح مختار ثقته وقد بدأ يفقد ثقته فيهم؟
تأوه بألم لا يعلم أهو في قلبه أم في روحه؟
لا يعلم أهو ألم الخذلان والغدر أم هو مجرد ألم نفسي عادي كالذي يمر به منذ فترة؟
أراد الصراخ فيهم واخبارهم أنه لا يحتاج أموالهم ولا ثروتهم، أراد ضربهم جميعاً لعل الألم في صدره يهدأ ويستكين
بإندفاع كان يسحب هاتفه المحمول ويضرب بعنف رقم والده الذي يحفظه عن ظهر غيب حينما أتاه صوت والده بنبرة كئيبة متحسرة يقطع عليه محاولته وكأنه يفهم ما قد يدور بخلده حينما يستمع إلى ذاك التسجيل:
*ولا تحاول بني أن تهاتفني فلا يعلم أحد سوا الله ما تنوى تلك الشياطين فعله فقد يكونوا يراقبون هواتفنا فلا شيء مستبعد عنهم وأنا أخشى أن ينكشف أمرك عندهم.. أرجوك بني لا تفعل هذا حتى لا تفسد كل ما عانيناه لإخفائك عنهم وتأكيد خبر موتك حتى نبعد عنك الأنظار*
شهق بفزع من وقع الكلمة وهو يرددها: " موتي يا أبي.. أكدت خبر موتي وأنا لازلت على قيد الحياة "
عاد صوت والده يضيف بنفس النبرة:
*لقد اخفينا حقيقة ما يحدث الآن سوا عن أشخاص قلائل حتى نضمن سلامتك وعدم إفشاء أحد للسر*
انتظر بصبر أن يخبره أن عائلته وحدها من تعلم بنجاته.. على الأقل عائلته تعلم وسنحاول بطريقة أو بأخرى من التواصل معه و.. لكن والده صدمه بقوله:
*فقط جدك عبد الرحمن وجدك صالح وعميك خالد ومختار من يعلمون بما حدث معك وبالطبع العمة فاطمة إذ لم نستطع إخفاء الأمر عنها حتى لا نضيف المزيد من المرار على مصابها بفقد أمك*
اتسعت عينيه هلعا مما فهمه، هو ميت في نظر الجميع حتى أغلب أفراد عائلته لا يعلمون عنه شيء!
أصبح في انظارهم لمحة من الماضي، لا أكثر من ذلك ولا أقل
ترى ماذا فعل ياسين حين علم بأن ابن عمه الذي كان يدافع عنه أمام سخرية بقية أبناء عمومتهم قد مات؟
وماذا فعل عاصم؟ هل سينسى أنه كان المفضل لديه أكثر من أخيه حمزة حتى؟
وماذا عن حمزة؟
هل تقبل قاسم الأمر واستكان؟ هل سينساه قاسم الذي دوما كان يقف إلى جواره يدعمه ويسانده؟
تخاذلت يده عن حمل الهاتف فسقط على الأرض محدثاً ضجيجا عالياً بينما جسده كله يسقط في هوة سحيقة من انعدام الشعور والكره الأسود
وبعد لحظات كان يزيح الحاسوب عن الفراش بعنف حتى اصطدم بالحائط المقابل ليسقط مهشما ويسكت الصوت، تلاه صوت زمجره شرسة منه وكأنه ذئب جريح يعوي في جنح الليل ووسط الظلام
كان صوته أكثر من كافياً ليندفع إلى غرفته عدد لا بأس به من الأطباء والممرضين وهم يناظرون حالته الغريبة بقلق وحذر حتى استل أحدهم هاتفه بتوتر وهاتف دكتور مختار يخبره بالوضع لكن وقبل أن يحضر مختار كان يوسف قد سقط في بئر سحيق من فقدان الوعي بئر اخمد ببرودته الموحشة نيرانه المشتعلة قليلاً ولكنه لم يقض عليها للأبد

توقف يوسف عن سرد ذكرياته للحظات بأنفاس لاهثة وصدره يرتفع ويهبط بإنفعال مكتوم وكالعادة يراقب معتز كل شاردة وواردة تصدر منه دون أن يحاول مقاطعته أو حثه على الكلام حتى يدلي بما لديه بالكامل
هو ليس طبيبه وإنما ببساطة شخص أ أتمنه يوسف على جزء منه.. على ذكريات ماضيه وأول الخيوط في طريق حريته ومستقبله.
لازال يتذكر المرة الأولى التي أتاه يوسف يطلب منه تخصيص حيز من وقته فقط لسماعه دون الحكم عليه.. دون تحليل ما يقول ورغم ذلك تحول اصغاء معتز بعد المرة الأولى لجلسته مع يوسف إلى مناقشة طلبها الأخير بنفسه وكأنه يتحاور في أمر لا يخصه هو وإنما يخص شخص آخر من الماضي.
يوسف كان بحاجة لشخص يمتلك القدرة على الإصغاء والفهم.. كان بحاجة لشخص إن بكى أمامه أو صرخ لا يضطر إلى تقديم شرح وافي لذلك بل يتفهمه الآخر بصمت وهذا ما أجاد معتز فعله بفضل مهنته.
أما معتز فكان بحاجة لسماع يوسف حتى يتمكن من مساعدته كما يفعل مختار مع صخر فيكون بهذا قد رد ولو جزء صغير من أفضال صديقه عليه.
تكلم يوسف بعد لحظات بصوت مختنق تائه: " حينما استيقظت بعد مدة لا أعلم قدرها شعرت بأني لست أنا وكأن روحي انسلخت عن جسدي رغما عني.. شعرت بأن... بأنني مخدوع في أقرب المقربين إليّ.. شعرت بأنني بت منبوذا عن عالمهم، نكرة في حياتهم "
أطرق رأسه بذل قبل أن يتابع: " أتعلم عماه شعرت لحظتها بشعور طفل كان يترقب اقتراب أمه منه حتى تغمره في حضنها وتحتويه لكنها صدمته بصفعة لم يتوقعها على سبب لم يكن له دخل فيه، وخطأ لم يكن من صنعه "
بدأت دموعه تنساب من عينيه مدرارا وهو يضيف بصوت بائس: " شعرت بأن الكل تخلى عني، خذلني.. شعرت بأن دنياي أظلمت أمامي وأوصدت أبوابها في وجهي "
شهق كطفل صغير في بكائه وهو لا يشعر بنفسه بينما يتمتم بقهر: " ظللت أفكر بيني وبين نفسي لوقت طويل عن خطأ فعلته أو ذنب اقترفته ليكون هذا عقابي لكني لم أجد.. لم أحصل على جواب يشفي غليلي ويطفئ نار حرقتي ولوعتي على فراقهم "
ضرب فجأة بقبضتيه على السرير من جانبيه وهو يصرخ بحدة: " بالله عليك أخبرني ما كان ذنبي؟ ما هي جريمتي التي استحققت عليها أن ينفوني بعيدا عنهم؟ "
رد معتز بعقلانية يقول: " لماذا تنظر إلى الأمر من تلك الناحية المظلمة؟ عليك أن تفكر فيه من وجهة أخرى "
سأل يوسف بصوت مختنق متحير: " أي وجهة تقصد؟ "
شبك معتز أصابع كفيه وهو يستند بمرفقيه على سطح المكتب بينما أسند ذقنه على كفيه المعقودين وهو يرد بهدوء: " في كل مرة تصف الأمر بطريقة سيئة.. تذكر سلبياته فقط وترى أنهم خدعوك، خذلوك، ونفوك بعيدا عن عالمهم وحياتهم.. ترى أنهم اخطؤوا في هذا لكنك ولا مرة فكرت في إيجابيات ما فعلوه وما حدث بناءً على ذلك "
طالعه يوسف بإهتمام مقطبا حاجبيه فتابع معتز بهدوء وحذر: " ألا ترى أنهم نفوك عن عالمهم لحين ولو كان غير معلوم الأجل لكنهم لم ينفوك عنهم للأبد فقد أخبرتني أن والدك قال لك أنك يجب أن تبتعد قليلا حتى تهدأ الأمور وتستقر الأوضاع؟ "
رد يوسف بغضب: " فعلا أخبرني أن عليّ الإبتعاد قليلا لكنه على ما يبدو نساني نهائيا ومحاني من قاموسه.. إنه حتى لم يطلب رؤيتي لمرة ولم يهاتفني أبداً منذ ذلك الحادث.. عشر سنوات كاملة مرت وأنا لا أعلم عنهم أي شيء حتى بدأت أنسى أصلي وهويتي الحقيقية "
رد معتز باستفزاز بارد: " أنت كاذب "
فغر فاهه ببلاهة وهو يردد: " كاذب! "
اومأ معتز مؤكدا وهو يقول: " تقول أنك لا تعلم عنهم أي شيء لكن صخر يبلغك بأخبارهم أولا بأول.. لديك كل المستجدات التي تطرأ في حياتهم جميعا.. تشهد على كل اللحظات التي يمرون بها ولو من خلف الكواليس لكنك موجود بينهم وإن لم يكن وجودك بينهم أمر ملموس "
صاح يوسف بانفعال: " لكني لا أريد هذا.. أنا أريد إستعادة حياتي القديمة.. أريد استعادة هويتي وكياني، أريد أن استعيد شعوري بعائلتي.. لا أريد أن أكون خلف الكواليس أريد أن أكون تحت الأضواء، أريد إستعادة ذاتي التي فقدتها منذ عشر سنوات "
كبح معتز لجامعة لسانه الذي كان يلح عليه بأن يصرخ 'أنت محظوظ فغيرك لا يعرف سبيلاً لكيانه وذاته ورضا مجبرا على التخفي في الظلام دون أن يحظى حتى بالمشاهدة خلف الكواليس'
كلمات لو خرجت منه لسببت الف مشكلة ومشكلة ولفعلت الأعاجيب.
رفع معتز حاجبا وهو يسأله بلامبالاة مقصودة: " وما الذي يمنعك من إستعادة ما تريد؟ "
أطرق يوسف رأسه وهو يزدرد ريقه بيأس قبل أن يجيب بإحباط شديد: " لا أريد أن أفسد عليهم حيواتهم.. أخشى أن تحدث عودتي انقلابا غير محمود العواقب.. نعم أريد العودة لكنني أرفض التسبب لهم في المشاكل.. لا أقبل لهم التصارع بعد هدوء وسكينة ظللت على أرواحهم.. أخشى أن تكون عودتي بداية لعودة نيران الثأر اللعين من جديد "
سأله معتز بترقب: " إذن قررت الإستسلام للأمر الواقع والرضا عن منفاك الأبدي "
تنهد يوسف بإرهاق وهو يرد: " لا أعلم.. بت لا أفهم نفسي وأشعر دومًا بالضياع "
وعلى الحائط المجاور للباب المغلق كانت قبضة صخر تنفجر هناك وهو يضرب على الحائط بوحشية بينما يغمغم بخفوت غير مسموع: " ومن منا ليس بضائع؟ من منا عالم بدواخل نفسه وضامن لتقلباتها الغادرة؟ من منا مطمئن البال؟ "
كان يلهث بعنف وهو يستمع أخيرًا الى السكون الذي ساد في الغرفة بعدما سكت يوسف فغمغم هو بقهر وبؤس شديد: " يبدو أن القدر أصدر كلمته بأن حرقة القلب من نصيبنا دون الاخرين.. يا ابن العم.. رُحماك يارب، رُحماك وإلا هلكنا "
***

منتصف الليل / في فيلا الجياد
كانت تدور حول نفسها بغيظ وهي تطلب رقمه للمرة العاشرة دون أن يصلها أي رد منه
صرخت بغضب وهي ترمي الهاتف فاصطدم بالحائط المقابل لها وسقط على الأرض مهشما في تلك اللحظة طرق صخر على الباب فردت بحنق: " لا أريد رؤية أحد "
فتح الباب دون أن يبالي بأمرها وبنظرة واحدة للهاتف المكسور علم سبب غضبها
أغلق الباب خلفه ببساطة وهو يتقدم منها بهدوء عكس ما تثور به نفسه حتى وقف أمامها واضعا كفيه في جيبي بنطاله قائلا ببرود: " كل ما تفعلينه لن يفيد يا نغم.. سبق ونبهت عليكِ ألا تحاولي الإقتراب منه "
صرخت في وجهه بحدة: " وما دخلك أنت؟ أهتم بشئونك واتركني في حالي "
قطب بلامبالاة وهو يرد: " لا أستطيع.. فمن تحاولين تدميره يكون صديقي ومن واجبي أن أحميه منكِ "
كان صدرها يعلو ويهبط وهي تتنفس بسرعة بينما ترد بوقاحة غاضبة: " لن تستطيع منعي.. أنا أريده وما أريده أناله ولو بالقوة "
جز على أسنانه يمنع نفسه بصعوبة عن صفعها على وقاحتها أمامه بينما يرد بنفس البرود واللامبالاة المصطنعة: " لن ينفع الأمر هذه المرة.. يوسف ليس دمية أعجبتكِ وقررتِ شرائها "
ابتسمت ببرود وهي ترد بوقاحة أكبر: " بلى هو دمية أعجبتني وسأشتريها يا صخر.. سيكون لي بأي طريقة وبأي ثمن "
أغمض صخر عينيه وهو يقول بصوت قاتم: " لن تحصلي عليه أبداً يا نغم.. محال أن تتقاطع بكما الطرق "
ردت بصوت حاد ونبرتها يغلفها التهكم: " ولماذا تظنه مُحالاً إن كنت أنتَ يا أخي رغم كل ظلامك وجحيمك حظيت بالسلطانة الرقيقة الملائكية.. فلما تضني عليّ بأن أحظى بالقليل مما حظيت أنتَ به؟ "
تابع حديثه وكأنها لم تتكلم وقد بدت نبرة صوته أكثر قتامة وجمودا: " حتى لو أحبك يوسف وأرادك لن يستطيع أن يطلبكِ للزواج وفرضا لو أقدم على تلك الخطوة ستظهر له عقبة أخرى تعيق ذلك.. عقبة أكبر ستمنعه رغما عنه من الزواج بكِ "
فتح عينيه يطالعها بنظرة غامضة مخيفة وهو يقول محدقا في عينيها: " هل تعلمين ما هي تلك العقبة؟ "
عبست بشدة بينما تابع هو بحرقة نضحت بها نبرته وهو يضرب بيده على صدره بقوة: " أنا تلك العقبة يا نغم.. بسببي أنا لن تجتمعي مع يوسف أبداً.. لن تقبل عائلته بكِ لأنك أختي أنا.. لأنني... لأنني ابن ليال الوالي المرأة المنبوذة لديهم وأنا مثلها منبوذ بل سراب بالنسبة لهم "
أشاح بوجهه عنها وهو يكمل بصوت مختنق غاضب: " أنا تلك العقبة التي لن يستطيع يوسف تخطيها لأجل الوصول إليكِ.. لو كان اختفائي سينفعكِ كنت رحلت بعيدا لكن حتى موتي لن يفيدكِ في شيء.. ستظل الصلة التي تربطكِ بي نقطة سوداء في حياتكِ "
وضعت كفها على وجنته تعيد وجهه إليها لينظر إليها وهي تقول بحيرة: " ما دخل عائلة يوسف بك وبأمي؟ أنا لا أفهم "
رد بصوت جامد: " هناك أمرا يجمع بيني وبين يوسف.. أمرا لا تعلمينه ولن تعرفيه حتى يحين الوقت المناسب لذلك وهذا الأمر هو ما يجعلك مرفوضة بالنسبة لعائلته "
صاحت نغم بنفاذ صبر وعصبية: " ما هذه الألغاز أنا لا أفهم شيء؟ عن أي عائلة تتحدث؟ عمي مختار كان يحبني وهو صديق أبي و... "
قاطعها صخر صارخا بإنفعال: " كل هذا لا قيمة له.. يوسف ليس ابن الدكتور مختار زين الدين "
ردت نغم بتلقائية: " أعرف.. لكن يوسف من نفس العائلة وعمي مختار رحمه الله لم يظهر لي يوما أي رفض أو... "
قاطعها من جديد وهو يقول بصوت قاتم: " هناك ما لا تعرفينه بخصوص يوسف يا نغم.. لست وحدي من يملك أسرارا تخص هويته وأصله "
رفعت نغم حاجبا ببرود وهي تقول بعزم: " إذن سأسأله وأعلم منه ذاك السر لكي أفهم السبب الذي سيجعل عائلته ترفضني "
جذبها صخر من ذراعها بقسوة وهو يهدر في وجهها بوحشية: " إياكِ يا نغم.. أقسم بالله إن فعلتيها لأقاطعنكِ العمر كله "
صرخت في المقابل: " إذن أخبرني أنت "
رد بقهر تملكه: " لا أستطيع.. الأمر صعب ومعقد "
ناظرته بضيق فقال بغموض: " لا تفعلي يا نغم لأجل يوسف ليس لأجلي أنا.. من الممكن أن تتسببي في قطيعة بين يوسف وعائلته إن أخبرهم عن رغبته في الزواج بكِ.. سيخيرونه بينهم وبينكِ ومن الظلم أن يختارك أنتِ ويحرم نفسه منهم "
هتفت نغم بحرقة: " وأنا.. ماذا عني؟ أليس من الظلم أن يختارهم هم ويتركني؟ "
ابتسم بمرارة وهو يقول: " سبق وفعلها عمه يا نغم.. العائلة أحق بأن يختارها.. أن يضحي بكِ أفضل بكثير من أن يضحي بالجميع لأجلك.. يوسف حُرِمَ منهم لوقت طويل اتركيه في حاله عساه يحظى بقربهم الذي يتمناه "
جحظت عيني نغم بإدراك متأخر وهي تقول: " ماذا تقول يا صخر؟ لماذا تربط بين يوسف وذاك الرجل الح... "
قاطعها بحدة وهو يصرخ: " نغم إياكِ والإساءة إليه "
صرخت في وجهه بحدة مماثلة: " بلى سأفعل.. أليس حقيرا، نذلا لا يستحق حتى لقب رجل بين الرجال... "
قاطعها بصفعة قوية أخرستها تماما، رافعا سبابته في وجهها وهو يهدر بوحشية: " الزمي حدودكِ يا نغم هذه المرة أكتفيت بصفعة واحدة ولا أعرف لاحقا ما قد أفعله بكِ.. لا تنس أن هذا الرجل يكون... "
سكت فجأة بعجز عن إتمام جملته فأبتسمت بغل وهي تنظر له بشماتة قائلة: " لماذا سكت؟ تابع حديثك.. أخبرني ماذا يكون لك هذا الرجل؟ "
أشاح بوجهه عنها وقد بدأت عيناه تلمعان بعبرات القهر والعجز فتابعت هي بكره: " هل أخبرت نبض عن أصلك الرفيع صخر بك؟ لم تخبرني بعد بأي هوية تزوجتها؟ "
بدأ صدره يعلو ويهبط ويتعالى تنفسه بحدة وهي تتابع بسخرية مهينة: " ااه بالطبع بهوية الدكتور العظيم صخر معتز الجياد فأنت على أي حال لا تملك هوية أخرى غير هذه.. يبدو أنني نسيت أنك فاقد لأصلك وهويتك الحقيقية وفاقد الشيء لا يعطيه بل لا يجرؤ حتى على التلفظ به "
أطرق رأسه بخزي من نفسه لأول مرة يفعلها أمام أحد
لأول مرة يشعر بأنه ذليل، عاجز لا قيمة له لتلك الدرجة التي جعلته نغم يشعر بها
لأول مرة يستطيع شخص أن يسدد له ضربة قاتلة كالتي سددتها له نغم
لأول مرة تهبط دمعة من عينه!
فغرت هي فاهها بصدمة وقد شلتها تلك الدمعة التي فرت من زاوية عينه جارية بسرعة وكأنها سعيدة بتحررها أخيرا من عقالها حتى سقطت على الأرض
لم يستطع رفع رأسه والتفوه بحرف واحد يدافع به عن نفسه
تراجع ببطء عدة خطوات للخلف قبل أن يستدير بحدة مندفعا للخارج بسرعة وكأن هناك من يطارده ويحاول هو الهرب منه
أما هي فقد هوت على فراشها بعدما خرج واجهشت في البكاء بحرقة وندم على ما فعلت
هناك ما انكسر بينهما وقد شعرت بهذا بعد فوات الأوان
وليت البكاء والندم بقادر على إصلاح ما انكسر!
***

في الصباح
أستيقظ من غفوته التي حظى بها بعد شروق الشمس على تربيته خفيفة على كتفه ليفتح عينيه ببطء مرفرفا برموشه الكحيلة الطويلة فيطالعه وجه يوسف الصبوح الباسم وهو يقول بمناكفة: " أستيقظ يا بك لست نزيلا في فندق أنت في المشفى "
فرك عينيه بحركة طفولية وهو يغمغم بصوت متحشرج من النوم: " كم الساعة الآن؟ "
رد يوسف: " السابعة "
فتأفف صخر بإحباط وهو يتمتم: " قبل نصف ساعة فقط غفوت ولم أنم دقيقة واحدة طيلة الليل.. حرام عليك يا يوسف "
كتم يوسف ضحكته وهو يقول بضيق مصطنع: " كنت ترتع طوال الليل هنا وهناك يا بك وتأتي في الصباح لتقلب حال المشفى إلى فندق لكي تنام.. ما هذا الاستهتار؟ "
رفع صخر حاجبا وهو يقول بلامبالاة: " أرتع! ليته كان نمطي في الحياة لكنت حينها أريتكم العجب العجاب لكنني للأسف لست من هذا النوع.. والآن أخبرني من سلطك عليّ؟ "
أولاه يوسف ظهره وهو يقترب من النافذة قائلا بمراوغة: " لا أحد.. أنا من قلقت من وجودك هنا اليوم وقد أخبرتني مساء الأمس أنك ستذهب لزيارة نبض ولن تأتي إلى المشفى "
تنهد صخر وهو يرد: " اه فعلا.. يبدو أنني نسيت ذلك ولم اتذكر سوا الآن "
ابتسم يوسف حينما صرف انتباه صخر عن سؤاله الأول فهو بالطبع لن يخبره بأن نغم هي من هاتفته منذ ساعة لتخبره بأن صخر ترك البيت بالأمس غاضبا بعدما تشاجرا على أمر ما وأنها لا تريده أن يعلم بأنها كلمته من الأساس لكنها تريد الإطمئنان عليه
كم يتمنى يوسف لو يشكر صخر لأنه تشاجر معها بل ويطلب منه أن يكرر ذلك مرارا حتى تضطر نغم إلى مهاتفته!
سعيد بتلك النبرة المستجدية التي كلمته بها نغم وكأنها تضع فيه كل آمالها وترى فيه منفذ لكل مشاكلها
نهض صخر من مكانه وهو يحدث نفسه: " أحتاج إلى حمام بارد حالا لينعشني قليلا بعد أحداث ليلة الأمس الكارثية "
بمجرد أن أستقام على قدميه تذكر حالة الإنهيار والبؤس التي كان عليها يوسف في الأمس أثناء جلسته الخاصة في عيادة والده فاقترب منه بهدوء يسأله بإهتمام: " هل أنت بخير يوسف؟ "
إلتفت له يوسف مقطبا وهو يرد: " في فضل ونعمة من الله.. لماذا تسأل؟ "
حرك صخر كتفيه بخفة وهو يقول: " أشعر بأني مقصر معك تلك الفترة خاصة بعد وفاة عمي مختار والعمة مريم رحمهما الله وما تلا ذلك من أحداث متداخلة "
استدار يوسف بجسده كله وهو ينظر إلى صخر قائلا بصدق ومحبة خاصة: " والله يا صخر لا أظن أخي أبن أمي وأبي كان ليفعل ما فعلته أنت ولازلت تفعله لأجلي.. أنت يا صخر بطلي الخاص، حارسي، وحصني.. حماك وحفظك لي رب الملكوت والعباد "
أطرق صخر رأسه وهو يبتسم بحرج قائلا: " كم مرة أخبرتك أنني أعتبرك أخي بالفعل وما أفعله لأجلك أبسط مما تستحقه يا يوسف "
ناكفه يوسف بود وهو يقول: " أعلم ولكني غليظ أحب احراجك لكي يحمر وجهك.. أين أنتِ يا نبض لترى زوجكِ العزيز وهو يحمر خجلا حينما يمتدحه أحد؟ "
صاح صخر بغيظ وهو يلكزه في كتفه: " تبا لك "
قطب يوسف حاجبيه وهو ينظر إلى صخر بحزم مصطنع بينما يلوح بسبابته في وجهه وهو يقول مقلدا صخر في طريقة تأنيبه الساخر: " لا.. لا تقل هذا الكلام يا ابني فهذا عيب.. أخلاقك أصبحت متدنية جدا تلك الفترة يا صخر وهذا خطأ ولا يصح "
عبس صخر بغيظ شديد وهو يقبض على مقدمة قميصه متمتما من بين أسنانه بشر: " أخلاقي متدنية أليس كذلك؟ "
اومأ يوسف برأسه كاتما ضحكاته وهو يرد: " قليلا يا صخر.. صدقني قليلا فقط "
رفع صخر حاجبا شريرا وهو يتمتم: " سأريك إذن نبذة صغيرة عنها حينما تصبح متدنية بالكامل؟ "
ظلا يتمازحان بخشونة وهما يضحكان ببهجة يفتقدها كلا منهما في حياته الخاصة حتى رن هاتف صخر فجأة...
***

في نفس التوقيت / في دار الجبالي
قدمت الخادمة القهوة لآدم وهي تخبره بأن السيد قاسم سيوافيه حالا هو والسيد زيد ثم خرجت
تناول آدم فنجان القهوة وبدأ يرتشف منها على مهل وهو يفكر في أمر ما حتى دخل قاسم بعد لحظات قليلة يقول بهدوء: " السلام عليك آدم "
نهض آدم من مكانه واضعا فنجان القهوة على المنضدة من أمامه قبل أن يبتسم بود وهو يستقبل عناق قاسم له وهو يردف: " حمدا لله على سلامتك يا ابن العم "
رد آدم بود وهو يربت على ظهره: " سلمك الله يا قاسم "
بعدها استسلم لعناق زيد والذي رحب به بنفس الود وهو يقول: " عادت دار الجبالي لتنير بوجودك من جديد يا آدم "
رد آدم باسما: " الدار مُنارة بأصحابها يا زيد "
جلسوا ثلاثتهم ليسأل آدم بإهتمام: " أين البقية؟ اليوم الجمعة "
إبتسم زيد وهو يقول: " ألازلت تذكر أن يوم الجمعة إجازة رسمية لدينا من أي عمل؟ "
رد آدم بهدوء: " بالطبع.. إنه يوم التجمع العائلي "
تنهد قاسم وهو يقول: " ياسين في الحديقة الخلفية وسيحضر بعد قليل أما عاصم فقد خرج منذ ساعة بصحبة حلا ولا أعلم متى سيعودان، حمزة لن يستيقظ قبل موعد الصلاة فقد عاد قرابة الفجر من العاصمة "
اومأ آدم بتفهم وهو يقول: " وبالطبع فتيات العائلة تحتلن المطبخ "
رد زيد ببسمة ماكرة: " يبدو أنهن في إجازة اليوم من المطبخ.. الكل منشغل بابنة الدكتور مختار رحمه الله فقد حضرت قبل ساعتين تقريبا مع العمة فاطمة "
ارتفع حاجبي آدم بذهول وهو يقول: " تقصد نبض! لكن ماذا تفعل هنا؟ "
رد زيد بتلقائية: " لقد حضرت لتبارك لزهراء بمناسبة زواجها وأظن هذه لن تكن زيارتها الأخيرة لنا بعدما انتقلت للعيش مع العمة فاطمة "
اتسعت عيني آدم بصدمة وهو يقول: " ماذا؟ كيف هذا وهي إمرأة متزوجة؟ "
قطب زيد بعدم فهم وهو يسأله: " يبدو أن الأمر اختلط عليك يا آدم.. أنا أتكلم عن ابنة الدكتور مختار زين الدين رحمه الله "
رد آدم بحنق: " وهل تظنني أحمق؟ أنا أعرف أنك تتكلم عن ابنة الدكتور مختار زين الدين وأنا أيضا أتكلم عنها أليست تدعى نبض؟ "
اومأ زيد إيجابا بينما تكلم قاسم بهدوء يقول: " لقد جلست مع جدي وعمي سليم وتحدثت إليهما كثيرا ولم تذكر أي شيء يشير إلى أنها متزوجة "
تأفف آدم بحيرة وهو يقول: " بلى هي متزوجة يا قاسم.. أنا واثق مما أقول "
أخرج هاتفه على عجلة من أمره وبحث عن رقم ما ثم ضغط زر الإتصال وانتظر بصبر ليأتيه الرد بعد لحظة: " السلام عليك آدم.. كيف حالك؟ "
رد آدم بنزق: " أليست نبض زين الدين زوجتك؟ "
رد صخر بصوت متحير: " أنا لا أفهم.. هل تشكك في الأمر؟ لقد سبق واخبرتك بذلك "
زفر آدم وهو يقول: " أنا لا اشكك في كلامك بالطبع ولكن هل يمكنك أن تخبرني حالا لماذا تعيش زوجتك في بيت العمة فاطمة؟ "
رد صخر بإقتضاب: " من أخبرك؟ "
تنهد آدم بحنق وهو يقول: " أنا في دار الجبالي الآن وزوجتك هنا أيضا "
صرخ صخر بحدة: " ماذا تقول؟ هل أنت واثق أنها هناك؟ "
قطب آدم وهو يرد: " نعم واثق "
تكلم صخر بنبرة لا تنم على خير: " سأعاود الإتصال بك بعد قليل.. سلام "
نظر آدم إلى هاتفه بتعجب وهو يتمتم: " ما به هذا؟ "
سأله زيد بحيرة: " هلا وضحت لنا الأمر يا آدم؟ مع من كنت تتكلم؟ "
قطب آدم وهو يرد بينما عقله يشرد في التفكير: " إنه صديق لي من العاصمة لن تعرفه وهو نفس الشخص الذي تكون ابنة الدكتور مختار رحمه الله زوجته "
***

كانت نبض منشغلة بالحديث مع ملك وزهراء حينما رن هاتفها فألتقطته تطالع شاشته التي تومض بإسم صخر للحظة قبل أن ترد: " السلام عليكم "
صرخ صخر دون سابق إنذار: " أين أنتِ يا نبض؟ "
ردت نبض بتلقائية: " خرجت مع عمتي فاطمة لدار الجبالي "
تكلم بصوت حاد: " بدون إذني "
قطبت بملل وهي تقول: " لماذا تصرخ الآن؟ ستصيب أذنيّ بالصمم "
صمت لحظة واحدة قبل أن يتكلم بهدوء ما قبل العاصفة: " من قابلتِ من رجال العائلة؟ "
تعجبت لسؤاله لكنها ردت بهدوء: " جدي عبد الرحمن وعمي سليم "
سأل بتأكيد: " فقط يا نبض؟ "
قطبت بحيرة وهي تقول: " نعم هاذان فقط "
قال بنفس الهدوء المخادع: " وماذا عن البقية؟ "
ردت بعفوية: " ملك أخبرتني أن الشباب سيتجمعون بعد صلاة الجمعة على مائدة الغداء وأيضًا عمي خالد سيكون حاضرا لأسلم عليه "
قال بأمر: " ستغادرين حالا "
عبست بعدم فهم تقول: " ماذا؟ "
صرخ بعصبية: " قلت ستغادرين تلك الدار حالا "
ردت نبض بعناد: " لن أفعل قبل أن أسلم على عمي خالد.. لقد أخبرت الجميع أنني سأنتظره "
فقد صخر كل صبره وهو يهتف بحدة: " قسما بالله يا نبض إن لم تغادري حالا لتعودين الليلة إلى العاصمة "
لم تشعر نبض بنفسها وهي تصرخ في المقابل: " أي بشر أنت؟ لقد مللت من تحكمك في كل ما يخصني "
رد ببرود سقيعي: " لقد أقسمت "
صاحت بتحدي: " لن أغادر "
كز على أسنانه وهو يقول بغضب مكبوت: " والله لن أحنث قسمي هذه المرة يا نبض فإما أن تعودي حالاً إلى بيت العمة فاطمة أو سأنفذ قسمي وتعودي الليلة إلى العاصمة "
كادت تصرخ فيه من القهر الذي تشعر به وقبل أن ترد دخلت فرح باسمة وهي تقول: " نبض أبي وصل وينتظركِ في المجلس "
كان صوت فرح عاليا بقدر كافي يجعله يصل إلى صخر الذي كسر شيء ما وهو يصرخ بوحشية: " إن قابلتِ ذلك الرجل ستكونين الليلة في بيتي.. اختاري ما يعجبكِ يا نبض.. الأمر بين يديكِ "
أطرقت رأسها بقهر بعدما أغلق صخر الهاتف في وجهها وفرت دموعها بلا حول منها ولا قوة وهي تشعر بالانكسار والحرقة
كيف يعاملها بتلك الطريقة المهينة؟ بل كيف يتجبر عليها بتلك الطريقة المتسلطة؟
وماذا فعلت له لكي يفعل كل هذا؟
حتى خروجها من البيت دون إذنه لا يعطيه الحق بأن يهينها بهذه الطريقة
كانت ملك وزهراء تتناظران فيما بينهما بتعجب حتى ربتت الأخيرة على كتفها بحنان وهي تقول: " مع من كنت تتحدثين؟ "
ردت نبض بصوت مختنق: " مع شخص مغرور متعجرف يظن أنه يملك الكون "
دخلت العمة فاطمة في تلك اللحظة فراعها رؤية نبض باكية على هذا النحو
تقدمت منها بسرعة وهي تسألها بقلق: " ماذا حدث حبيبتي؟ هل هناك ما ازعجكِ؟ "
رفعت نبض رأسها وهي تشهق بحرقة قائلة: " ومن غيره "
عبست فاطمة وهي تقول بضيق: " ذلك الولد لن يلزم حده حتى يضربه أحد على رأسه الصلب بشيء حاد يعيد إليه رشده "
أطرقت نبض برأسها من جديد فسألتها فاطمة: " ماذا يريد؟ "
قبل أن ترد نبض سبقها صوت قوي لرجل وقور وهو يقول: " السلام عليكن "
رفعت نبض رأسها بهدوء تمسح عبراتها وهي تنظر إليه بصمت بعدما ردت السلام مع البقية
تقدم هو باسما بحنان وهو يقول: " لم أستطع الصبر أكثر حتى أرى ابنة الغالي رحمه الله "
نهضت نبض على الفور وقد نست كل شيء حدث قبل لحظة لتقول بأدب مستفسرة: " عمي خالد! "
اومأ خالد وهو يمد يده لها فتقدمت إليه على استحياء وهو يقول: " أهلا بالغالية ابنة الغالي.. سمحة الوجه كعمكِ ووالدكِ رحمهما الله "
ابتسمت بخجل وهو يميل مقبلا جبينها بينما يضيف بود: " جدكِ عبد الرحمن أمر بإعداد مأدبة ضخمة على شرف وجودكِ معنا اليوم "
شعت روحها بسعادة وهي تشعر بإهتمام هؤلاء الأشخاص بها منذ وطأت قدميها هذه الدار
إهتمام غير مشروط بدون سبب أو مقابل
إهتمام يعبر عن محبة وود كان من حسن حظها أن ورثتهما من بعد عمها ووالدها
ردت برقة وتهذيب: " وأنا يشرفني أن أتواجد معكم هنا عماه "
رفع خالد حاجبا وهو يقول بإعجاب: " ورثتِ عن والدكِ رحمه الله لباقة الحديث "
ابتسمت بخفر دون تعقيب فربت خالد على وجنتها بحنان وهو يقول: " إذن سنلتقي على مائدة الغداء بإذن الله "
فتحت فمها لترد عليه بتأكيد لكلامه لكنها بغتة تذكرت كلام صخر فشحب وجهها وهي تجد أن قسمه قد وقع بالفعل فقد قابلت خالد
انصرف خالد دون أن ينتبه لحالة نبض التي تغيرت في لحظة بينما قالت فاطمة بقلق: " ما بكِ يا نبض؟ "
رفعت نبض عينيها إلى السماء بقهر وهي تتمتم بإنكسار: " رُحماك يا ربي.. رُحماك "
***

في المساء
كانت تبكي بحرقة وهو يقف أمامها كالمارد لا يبالي بحالتها الضعيفة أو توسلاتها إليه
شهقت بعنف وهي تقول: " أرجوك يا صخر.. اتركني مع عمتي فاطمة.. أرجوك "
ظل على وقفته الجامدة أمامها، واضعا كفيه في جيبي بنطاله ببرود وهو يرد: " إن لم تبدئي بحزم حقيبتكِ حالا سآخذكِ بدونها بعد عشر دقائق لا أكثر "
صاحت بحرقة: " أنا لا أريد الذهاب معك إلى أي مكان.. هل ستجبرني؟ "
نظر لها ببرود قاس وهو يقول: " وإن اضطررت سأحملكِ للخارج أيضا.. مرت دقيقة وتبقت تسعة "
نظرت إلى فاطمة بقهر فقالت الأخيرة بضيق: " أرني كيف ستأخذها من بيتي عنوة؟ "
نظر لها بجمود وهو يقول: " لا تتدخلي عمتي إذا سمحتِ فأنا في أكثر حالاتي انعداما للتهذيب الآن ولن أبالي بأحد "
صرخت نبض بعصبية: " سأهاتف أخي "
رفع حاجبا بتهديد وهو يقول: " إياكِ يا نبض.. يوسف لن يعرف أنكِ ذهبتِ إلى هناك من الأساس "
قالت فاطمة بحنق وقد فهمت ما يرمي إليه ولم تعيه نبض: " يوسف لن يزعجه ذلك "
سألت نبض بحيرة: " ما دخل يوسف بهم هو الآخر؟ ألا يكفيني واحدا يبدو عدائيا تجاههم؟ "
نظر صخر إلى فاطمة بغموض فزفرت الأخيرة وهي ترد بمراوغة: " هو يقصد أن يوسف لن يعجبه أن تذهبي إلى هناك دون علم زوجكِ "
هتفت نبض ببؤس: " لقد حاولت أن اهاتفه أكثر من مرة ولم يجبني وأرسلت له بضعة رسائل ولم يرد على أي واحدة منها.. ماذا كان عساي أن أفعل أكثر من هذا؟ "
تمتم صخر بنفس البرود: " تبقت خمسة دقائق "
تعلقت نظرات نبض فجأة بالباب المفتوح والذي كانت هي أقرب له من صخر ولم تأخذ أكثر من لحظة تفكير وتركت لساقيها الرياح وهي تصرخ بتحدي: " لن أعود معك ولو كان الثمن روحي يا صخر "
كانت تركض ولا تعلم إلى أين ستذهب أو تختبئ منه لكن كل ما أرادته أن تبتعد عنه اللحظة قبل أن تكرهه
كان الظلام قد خيم في الخارج وكانت السماء مرصعة بالنجوم وكأنها لآلئ تلمع في عمق الظلام فتبدد بعضا منه
ظلت نبض تركض وتركض حتى شعرت بنفسها فجأة تصطدم بجسد صلب قوي تلقفها بين ذراعيه قبل أن تسقط أرضا من شدة ارتطامها به
شهقت بقوة حينها!
كانت شهقة ألم وليس خوف وقد تعرفت منذ الوهلة الأولى على صاحب البنية العضلية الذي اصطدمت به
كانت ذراعيه تلتفان حول خصرها بقسوة وتملك حد الألم لكنها شعرتها احتواء حد السكن
أو ربما أوهمت نفسها بذلك حتى تخفف القليل من الشعور البغيض الذي يقبض على روحها في تلك اللحظة بأنها ليست أكثر من دمية يتسلى بها
تمسكت بقميصه بشدة وهي تدفن وجهها في كتفه مجهشة في بكاء حار حارق ولسانها فقد القدرة على أي كلام عدا نطق إسمه باستجداء منه وإليه
استجداء اوجعه عليها لكنه لم يخفف من الغضب الذي يسيطر عليه منذ علم بما فعلته
تركها تبكي قدر ما تشاء دون أن يحاول أن يهدئها حتى فقد أنشغل بالتفكير في شيء يهدئه هو أولاً حتى لا ينفجر فيها منفثا غضبه وغيظه
بعد دقائق طويلة كانت تتمتم بخفوت متوجع مس قلبه وهي تحرك وجهها بنعومة في كتفه: " لا تجبرني على ما لا أريد يا صخر.. لأجل خاطري لا تفعل "
أغمض عينيه بقوة وهو يرفع أحد ذراعيه يضع يده على رأسها من الخلف يضغطها أكثر في كتفه وهو يميل مستندا بذقنه على مقدمة رأسها دون تعقيب
تكلمت هي بصوت مختنق من البكاء: " أنا لا أحب أن يجبرني أحد على شيء.. أشعر حينها بالاختناق وكأنني سجينة داخل قبو مظلم بارد.. أرجوك لا تحرمني من عمتي فاطمة إنها آخر من تبقى لي من عائلتي يا صخر "
تمتم بتنهيد حار: " لقد أقسمت عليكِ وأنتِ خالفتِ أمري "
شهقت باكية من جديد وهي ترد: " لم أتعمد ذلك.. عمي خالد دخل فجأة ولم يترك لي أي خيار في لقائه صدقني "
تمتم بصوت شارد: " أنا أصدقكِ يا نبض "
رفعت وجهها إليه فجأة تقول بأمل: " إذن ستتركني مع عمتي فاطمة أليس كذلك؟ "
هز رأسه سلبا وهو ينظر إلى عمق عينيها التي تتلألأ بالمزيد من الماسات التي تهدد بالهروب من عقالها في أي لحظة: " لن أحنث قسمي يا نبض ستعودين معي الليلة إلى العاصمة "
زمت شفتيها كاتمة شهقاتها المريرة وهي تعود لإخفاء وجهها في كتفه فقطب بألم وهو يقول بعد لحظة: " إن كان يرضيكِ فسأعيدكِ لها في الغد بنفسي لكن على شرط "
رفعت وجهها له بترقب ووجهها الجميل يشرق بالأمل فتابع هو مبهورا ببريق محجريها القاتمين: " ستكفين حالا عن البكاء "
اومأت بسرعة وهي تمسح عبراتها قائلة بوداعة محببة: " حاضر.. لن أبكي ماذا تريد أيضا؟ "
إبتسم برقة وهو يجيبها: " كان شرطا واحدا فحسب يا نبض.. ليس هناك المزيد يا صغيرتي "
سألته بتوتر: " هل سنذهب إلى شقة يوسف؟ "
قطب صخر وهو يسألها بتعجب: " منذ متى أصبحت شقة والديكِ رحمهما الله ليوسف؟ "
ردت ببراءة: " دوما كانت كذلك.. إنه أخي "
ضمها صخر إلى صدره بقوة وهو يتمتم بحنان: " يا إلهي ما أحلاكِ يا نبض وأرق قلبكِ! "
رمشت بخجل وهي تغمغم: " صخر.. اتركني "
شدد عليها بين ذراعيه وهو يتنهد بقوة هامسا: " أبداً لن أفعل "
***

ترجلت نبض من سيارته بعد بضعة ساعات قليلة وقد انتصف الليل
ما إن وطأت قدميها الأرض حتى فوجئت بشابين واقفين أمام السيارة التي توقفت للتو بمجرد أن عبرت البوابة الحديدية الضخمة
رمشت بإرتباك وهي تخفض بصرها للأرض في حياء متراجعة للخلف خطوة دون أن تشعر
بعد لحظة كان صخر يقف إلى جوارها محتويا كفها الناعم الصغير في قبضته القوية وهو يسير بثقة متقدما من الشابين
بادر أحدهما قائلا بتهذيب: " حمدا لله على سلامتكما يا باشا "
فرد صخر بهدوء: " شكرا سيف "
بينما إبتسم مصطفى يقول: " مرحبا يا هانم أنرتِ الفيلا والعاصمة كلها "
قطبت نبض قليلا وهي ترد بخجل دون أن ترفع رأسها: " وكأنك تبالغ قليلا يا سيد "
قطب مصطفى متصنعا عدم الفهم وهو يقول: " من سيد هذا؟ أنا إسمي مصطفى يا هانم "
ابتسمت نبض رغما عنها من خفة ظله وهي ترد ببساطة: " أعلم.. كان مجرد لقب كالذي لقبتني به "
تنهد مصطفى ببؤس مصطنع وهو يقول: " ومن أنا لتمنحيني أي لقب يا هانم؟ ما أنا إلا حارس مسكين "
كتمت نبض ضحكتها وهي تقول بجدية: " مستواك لا بأس به.. لما لا تحاول المشاركة في إحدى برامج إكتشاف المواهب؟ "
قطب مصطفى متصنعا التفكير وهو يقول: " برأيكِ هل هناك أمل؟ "
اومأت نبض وهي ترد بعفوية: " نعم بالطبع.. أنت موهوب "
ضحك مصطفى وهو يقول: " حسنا سأفكر في الأمر وأعدكِ إن نجحت لن أنسى ذكر إسمكِ كونكِ ملهمتي وصاحبة الفكرة "
زمجر صخر بغيظ وهو يسحبها بخشونة متمتما بشراسة: " حسابك معي يا مصطفى "
قطب مصطفى ببراءة يقول: " ماذا فعلت يا باشا؟ "
غمغم صخر بضيق: " الكثير.. فعلت الكثير أيها الأحمق "
كانت نبض تجاريه في خطواته السريعة الواسعة بصعوبة وهي تكاد تهرول خلفه بينما كانت تتكلم بعفوية: " إنه خفيف الظل "
تمتم صخر بالاستغفار دون أن يعقب على حديثها بينما هي تضيف: " لم تخبرني من قبل أن لديكم حراس في الفيلا؟ "
زفر بحنق وهو يرد ببرود مستفز: " لم تأت مناسبة لكي أخبركِ كما أنني لا أحب أن أتحدث كثيرا عما اقوم به من أعمال الخير "
قطبت بحيرة تردد: " أعمال خير! "
رد ببرود: " نعم فأنا وظفته لدي لأنني أعطف عليه وحتى لا يشرد في الشارع "
تأوهت نبض بتعاطف وشفقة وهي ترد ببراءة: " أوه المسكين.. لقد أوجعني قلبي عليه "
كز صخر على أسنانه غيظا وهو يغمغم لنفسه: " منك لله يا مصطفى.. وكأن ما بي لا يكفيني "
***

أما عند مصطفى؛
وقف يحدق في ابتعادهما بتعجب وهو يقول: " صخر باشا بالطبع يمزح.. لا يعقل أن تكون تلك الأميرة الصغيرة هي نفسها الفتاة التي تزوجها "
رد سيف بهدوء: " لما لا؟ تبدو رقيقة وتليق به "
رفع مصطفى حاجبا وهو يقول مستهزئا: " حقا تليق به؟ "
قطب سيف بحيرة وهو يسأله: " ماذا تقصد مصطفى؟ إلى ماذا ترمي بالضبط؟ "
رد مصطفى ببرود يقول: " أنت قلتها بلسانك أخي.. إنها رقيقة "
زفر سيف وهو يقول بملل: " نعم وقلت أيضا أنها تليق به "
هز مصطفى رأسه سلبا وهو يستند على الحائط المجاور للبوابة قائلا: " أخطأت يا أخي في هذا.. تلك الصغيرة لا تليق به بل هو من لا يليق بها "
عبس سيف بضيق وهو يقول: " مصطفى كف عن مزاحك السخيف ليس وقته ولا موضوعه "
ظل مصطفى على وقفته المسترخية وهو يقول: "أنا لا أمزح يا أخي.. أنا جاد فيما أقول.. ألا ترى أن الفتاة كالزهرة المتفتحة ستذبل إن بقيت للحظة أخرى بجواره؟ "
رفع سيف سبابته في وجه أخيه محذرا وهو يقول بضيق: " مصطفى إن سمعك صخر باشا سوف... "
قاطعه مصطفى ببرود لامباليا وهو يرد: " ماذا سيفعل؟ هل سيقتلني؟ لا أظن فهو لم يفعلها مع أكثر أعدائه ليفعلها معي لأجل بضعة كلمات تفوهت بها "
تنهد سيف بيأس وهو يقول: " أبداً لا أفهمك.. حبيبه أم عدوه لا أعرف؟ أنت غريب حقا "
عبس مصطفى وهو يقول: " أ لأنني أقول الحق أصبحت غريبا يا أخي؟ كلانا نعلم أن صخر باشا ليس ملاكا تماما.. أصغر عيب فيه قادر على إحراق تلك الصغيرة بل الفتك بها دون رحمة "
قطب سيف وهو يقول: " لا دخل لك "
أشاح مصطفى بوجهه جانبا وهو يتمتم ببرود: " وهل تدخلت يا أخي.. ها أنا أكتفي بدور المراقب عن بُعد كالعادة لكن صدقني سيحرق قلبها يوما بدون رحمة.. (ثم تابع في نفسه) أنتَ لا تعرفه يا سيف كما أعرفه أنا.. إنه وحش "
زفر سيف بعدم رضا عن وجهة نظر أخيه عن صخر والتي يراها سوداوية جدا ومجحفة في حقه لكن كما أخبره مصطفى هو لم يكن يعلم أن خلف رداء التحضر والفخامة التي يظهر به صخر أمام الناس وحش قابع في أعماق روحه كبركان خامد حتى حين ومتى حانت لحظة انفجاره ستكون مدوية مرعبة ولن يعود البركان ليخمد بعدها مرة ثانية
تذكر مصطفى يوم أعاق صخر خطة سعد التي أراد منها قتل زيد

حدث ليلتها إشتباك وحشي بين الاثنين كانا وكأنهما ثورين يتناطحان في حلبة مصارعة
ليلتها لم يصدق مصطفى عينيه وهو يرى الطريقة العنيفة التي كان صخر يضرب سعد بها ورغم أن الأخير كان الأضخم إلا أن صخر بدى أعنف وكأنه مارد أستيقظ فجأة بعد سبات طويل ويريد أن يفرغ كل ما خزنه في وقت راحته في أي شخص وبأي شكل
جحظت عينيّ مصطفى في لحظة ما حينما أستل سعد سلاحه من تحت قميصه بينما كان صخر يبصق بضعة قطرات من الدماء من فمه غافلا عما ينتويه الآخر له
حاول مصطفى حينها أن يخرج من السيارة لكي ينبه صخر لكنه تذكر بأن السيارة مغلقة عليه
ضرب على زجاج النافذة لكي يلفت انتباه صخر له حتى يحذره لكن الأخير لم يراعيه أي إهتمام وفي لحظة كانت طلقة نارية تخرج من فوهة سلاح سعد ولولا ستر الله الرحيم ولطفه بصخر لكانت اخترقت الرصاصة قلبه إلا أنه بمهارة إستطاع أن يحيد للجانب فأصابت كتفه إصابة سطحية ليست بالخطيرة
سكن مصطفى في كرسيه وهو يحبس أنفاسه بترقب منتظرا رد فعل صخر والذي آثار تعجبه وهو يراه يقهقه فجأة وبدى مستمتعا بما حدث قبل أن يقول بغموض: " وكأنك لم تمسك سلاحا من قبل "
رد سعد مقطبا بنفس الغموض وهو يحدق في عينيه: " وأنت وكأنك ابن الجبل "
ارتعد جسد صخر برجفة لم يستطع السيطرة عليها وهو يقول بعد لحظات بصوت ساخر: " لست أول من يخبرني بذلك وأخبره أنه مخطئ فأنا ابن العاصمة المدلل كما تروننا "
رد سعد بغموضه وهو يحدق ملء عينيه في وجه صخر الملثم: " إذن أخطأنا في نظرتنا لكم ولكَ أنتَ على وجه الخصوص.. تبدو وكأنك من نسل الجبال "
رفع صخر حاجبا وهو يقول مستهزئا: " ربما لو علمت إسمي لظننت بنفسك أن أفكارك على حق بالفعل لكنك مخطئا فأنا ابن العاصمة المدلل مع نفحة بسيطة من القوة "
بعد لحظات من الصمت قال صخر بجدية: " أنا لا أريد ايذائك ولم أكن لأفعل لو لم تبادر بإهانتي "
سأله سعد بجمود: " حتى اللحظة لم تخبرني من تكون ولما اعترضت طريقي من الأساس؟ "
رد صخر بغموض: " لن تفيدك هويتي في شيء أما عن سبب ظهوري في طريقك فهو لمنعك عما كدت تفعله "
رفع سعد حاجبا وهو يقول ساخرا: " وكأنك تعلم! "
رد صخر باسما بمكر: " وكأنك تستخف بقدراتي! "
قطب سعد بجدية وهو يقول: " ماذا تريد؟ "
قطب صخر في المقابل وهو يجيبه مباشرة دون مماطلة: " عائلة الجبالي من صغيرها إلى كبيرها خط أحمر بالنسبة لي.. من يجرؤ على تخطيه ولو بنثر قطرة ماء أردها له بالدم "
سأله سعد بتحير غامض: " أنا واثق بأنك لست منهم.. لكنتك قوية لكنها ليست جبلية "
رد صخر ببرود: " أخبرتك أنني من العاصمة "
تابع سعد حديثه بنفس النبرة: " وليست نبرة أبناء العاصمة أيضا.. أنت مزيج بين هنا و... بلد آخر لا يمس لبلدنا بصلة "
أشاح صخر بوجهه جانبا وهو يقول بصوت متصلب: " لم آت إلى هنا لكي اثرثر معك (ثم إلتفت إلى سعد وطالعه بقسوة وهو يتابع) لن أسمح لك أو لغيرك بأن يصيب تلك العائلة ولو بخدش أو كلمة غير مقصودة حتى.. يمكنك أن تأخذ كلامي على محمل الجد أو الهزل هذا يعود لذكائك أنت.. لكن قسما بالله لو علمت بأنك أو ذاك الحقير فؤاد تخططون لتوريط تلك العائلة في أي مشكلة لما جعلت نهار يوم جديد يطلع عليكما وأنتما على قيد الحياة "
سار خطوة في اتجاه السيارة فاستوقفه صوت سعد قائلا: " رميت بتهديدك كطفل صغير ثم وليت هاربا "
لم يتوقف صخر بل تابع تحركه بهدوء فصاح سعد من خلفه بإقتضاب: " أما تخشى أن أصوب سلاحي تجاهك من جديد وأنت غافل وأعزل؟ "
إلتفت صخر برأسه بعدما توقف يناظره بغموض وهو يقول: " وإن خفت منكَ فماذا تركت لأفعل أمام ربي وهو الأحق بأن أخشاه؟ "
استفزه سعد بالقول الساخر: " لا تدل أفعالك المتطرفة العدوانية التي فعلتها قبل لحظات على أنك شخص ورع لهذا الحد "
رفع صخر حاجبا ببرود يقول: " وهل قلت عن نفسي ذلك؟ ما أنا ورع وما أنا عدواني متطرف أيضا "
سأله سعد بإلحاح: " من تكون إذن؟ "
تنهد صخر وهو يجيبه بصوت عميق خرج من زاوية ما من زوايا روحه المعذبة: " إن وجدت إجابة ترضيني عن سؤالك يوما فلك وعدا مني لن أخلفه بأن أخبرك.. أنا من أكون؟ "
ظل مصطفى يراقب ما يجري بينهما بقلق وترقب وهو لا يسمع أي كلمة حتى رأى صخر يقترب من السيارة وفي اللحظة التي فتح فيها الباب زفر براحة وهو يقول: " كدت أموت من الرعب عليك يا باشا.. تعرفني لا أحب أفلام الأكشن تلك "
قبل أن يدلف صخر إلى داخل السيارة رفع رأسه ناظرا إلى سعد وهو بقول: " أمامك مهلة ثلاثة أيام فكر خلالها بهدوء وحكمة فيما أخبرتك به وإن قررت الإستماع إليّ فحينها سأخبرك من هو قاتل والدك الحقيقي؟ فكر.. والقرار لك في النهاية "


تنهد مصطفى بعمق وهو يعود إلى أرض الواقع والحاضر بعدما تلاشت من أمامه ذكريات تلك الليلة الغريبة ليتمتم لنفسه بإحباط: " ليتك فقط وأنتَ تسعى لحماية الجميع ألا تنسى نفسك فيجرفك الموج "
***

في الداخل
لا تعلم نبض كيف تحول فجأة ترحيب ليال الحار بها إلى تجاهل ونفور بمجرد أن علمت أنها لن تبقى معهم وستعود في الصباح إلى العمة فاطمة في مدينتها
حتى نغم تباعدت على الفور وأعلنت انسحابها بصمت عن التدخل فيما يحدث، الوحيد الذي ظل إلى جوارها يمنحها الدفء بابتسامته الحنونة كان معتز
نظرت إلى صخر تسأله أن يفسر لها ما يحدث لكنه كان يوليها ظهره وبعد لحظات انسحب هو ووالده متجهين إلى المكتب
اقتربت من ليال تسألها بلطف: " هل فعلت شيء ازعجك مني بدون قصد عمتي؟ "
ردت ليال بإقتضاب: " لماذا تصرين على الرحيل؟ "
ردت بعفوية: " لأنني لم أقرر البقاء منذ البداية.. لم آتِ الليلة لأبقى هنا.. مكاني مع عمتي فاطمة "
هتفت ليال بحدة: " بل مكانك حيث يكون زوجكِ "
تراجعت نبض خطوة للخلف وهي تشعر بالخوف فجأة بينما ترد بتردد: " لم أتفق مع صخر على البقاء في العاصمة.. هو يعلم أنني لا أريد و... "
قاطعتها ليال صارخة: " أخبريني ما حاجتك للبقاء هناك بعيدا عن زوجكِ؟ هل تدركين حجم المعاناة التي تتسببين له بها؟ "
قطبت نبض وهي تقول بدفاع عن نفسها: " عن أي معاناة تتكلمين عمتي؟ ظروف زواجنا لم تكن بشكل طبيعي أو حتى تقليدي نحن حالة خاصة و... "
قاطعتها ليال ثانية بغضب وهي تقول: " ورغم ذلك كان عليكِ التنازل حتى لا توجعي قلبه وهو يرى زوجته تسكن بين أناس رفضوه "
سألت نبض بحيرة بالغة: " أناس رفضوه! أنا لا أفهم شيء "
صاحت ليال بعصبية: " ما الذي لا تفهمينه؟ أنه كاد يجن حينما علم بوجودكِ عندهم أم أن زواجه بكِ منذ البداية كان جنون؟ "
شحبت نبض من الإهانة وهي ترمش بألم حابسة عبراتها بصعوبة وهي ترد بكبرياء: " لم أجبره على الزواج بي عمتي وهو ليس طفلا ليجبره أحد على فعل شيء لا يريده "
زفرت ليال بيأس شديد وهي تقول بضيق: " يا بنت افهمي أنا أتحدث عن شيء وأنتِ فهمت شيء آخر "
عبست نبض دون رد فجلست ليال بإرهاق وهي تسند رأسها بين كفيها بينما تسألها بشكل مفاجئ: " هل حدث بينكما شيء خاص؟ "
نظرت لها نبض ببلاهة وهي تقول: " لا أفهم "
تأففت ليال وهي تشتم بالتركية قبل أن تنظر لها بغيظ قائلة بجرأة دون مواراة: " هل أصبحتِ زوجته فعلاً؟ هل تممتما الزواج؟ "
شهقت نبض بخجل شديد وهي تضع كفيها على فمها فانطلقت ضحكات نغم التي كانت تشاهد ما يحدث ملتزمة الصمت
تمتمت نغم بتسلية وهي تنظر لنبض: " اخجلتها ماما.. القطة بريئة إذن من التهمة الموجهه إليها "
تنهدت ليال براحة وهي تتمتم: " الحمد لله "
ترقرق الدمع في مقلتيها وشعور الإهانة يتضخم أكثر في داخلها ليشعرها بالضآلة بينهم فقالت بترفع: " ما كنت لأسمح له بأن يقربني من الأساس "
ردت ليال دون أن ترفع وجهها إليها: " جيد "
لم تستطع نبض السيطرة على نفسها أكثر فانفجرت باكية وهي تقول: " لا أفهم إن كنتِ لا تطيقينني لهذا الدرجة لما لم تطلبين منه أن يطلقني؟ "
رفعت ليال وجهها مبهوتة مما تقول نبض بينما الأخيرة تتابع بألم: " إن كنتِ تكرهينني فأنا لا ألومكِ لكن ماذا فعلت أنا لتهينيني بهذا الشكل؟ "
هبت ليال على الفور من جلستها تقترب من نبض وهي تحتويها بين ذراعيها تحاول تهدئتها وهي تقول: " لقد فهمتني بطريقة خاطئة حبيبتي.. أنا لا أكرهكِ أبداً.. أنا سألتكِ لأطمئن لا أكثر "
عبست نغم بعدم فهم تقول لأمها: " علام تريدين الإطمئنان ماما؟ "
ردت ليال بعفوية وهي منشغلة بتهدئة نبض: " لازالت نبض صغيرة على فهم أمور الزواج وما يتعلق به وخشيت أن يكون أخوكِ وقع في السهو ونسى أنه ليس من الشرع حدوث أي علاقة بينهما "
انتفضت نبض جزعة مما سمعت وهي تقول بصدمة: " ماذا؟ "
ابتسمت ليال بحنان وهي تحيط وجنتيها بكفيها قائلة: " لا تقلقي حبيبتي طالما صخر لم يمسكِ فلا تخافي كل شيء بخير "
سألت نبض بشحوب وهي تشعر بأن كارثة على وشك الوقوع: " لا أفهم.. لماذا لا تصح حدوث علاقة بيننا ونحن متزوجين شرعا "
ردت ليال بتلقائية: " لأن هذا الزواج باطلا.. غير شرعيا "
عبست نبض وهي ترد محتجة: " كيف باطلا؟ الزواج عُقِدَ على يد مأذون شرعي بوجود شهود وولاية أبي وأنا وافقت على ذلك إذن كافة الشروط الأساسية لعقد أي زواج صحيح قد تمت "
قطبت ليال وهي تقول ببساطة: " لكن هوية الزوجين أمر ضروري لعقد الزواج الصحيح يا نبض "
رفعت نبض حاجبيها بحيرة وهي تقول: " أعلم ذلك وقد قدمت هويتي وصخر للمأذون و... "
قاطعتها نغم تلك المرة وهي تقطب بغموض بينما تسألها: " أخبريني نبض... حينما سألكِ المأذون عن كونكِ موافقة على الزواج من أخي هل قال صخر معتز الجياد؟ "
طالعتها نبض بعدم فهم وهي تقول: " هذا ما قاله.. هل هناك خطأ ما؟ "
شحبت نغم فجأة وهي تتمتم بصدمة: " أنتِ لا تعلمين إذن "
سألت نبض بحذر: " ماذا تقصدين نغم؟ ما هذا الذي تخفونه عني؟ "
فتحت نغم فمها لترد لتقاطعها فجأة صيحة صخر الجهورية والتي كادت تهز أركان الفيلا: " نغم "
تجمد الموقف بينهم والجميع تعلقت انظارهم بصخر الذي بدى في هيئة وحشية مخيفة بنظراته الشرسة وملامحه المتصلبة وقبضتيه المشدتين إلى جانبيه
وجهت نغم أنظارها إلى والدها تقول بصدمة: " هل أفهم من ذلك أنكم أخفيتم الحقيقة عن عمي مختار هو الآخر؟ كيف استطعت أن تخدعه بتلك البساطة يا أبي؟ كيف بعد كل ما فعله لأجلك؟ "
أغمض معتز عينيه وكأنه يحاول الهرب من كابوس يطارده في حين تكلم صخر نيابة عنه: " أبي لا دخل له فيما حدث لقد عاد من أمريكا بعد زواجي ووفاة عمي مختار رحمه الله ولم يكن لديه علم بأي شيء كحالكم تماما "
هوت ليال جالسه على الأريكة وهي تقول بصدمة شديدة: " كيف استطعت خداعه يا صخر؟ ما فعلته ذنب لا يغتفر "
جالت نبض بنظراتها بينهم بحيرة قبل أن تسأل بشحوب وخوف من القادم: " فليفسر لي أحد عما تتكلمون فأنا لا أفهم شيء "
اجهشت ليال في بكاء شديد فجأة وهي تتمتم بمرارة: " أنا السبب.. يا إلهي! أنا السبب "
سألت نبض باضطراب قلق وهي تشعر فجأة بالاختناق: " أخبروني ماذا يحدث بالضبط؟ "
ردت نغم بتشفي وهي تنظر بحقد لأخيها: " فليخبركِ من صنع منا جميعا أضحوكة.. خدعكِ ووالدكِ بدناءة بل وتجاهل وجودنا أيضا فلم يخبرنا بالكارثة التي أوقع نفسه فيها.. لم أكن أعلم أنك متعدد المواهب لهذا الحد... يا أخي "
دخلت علية فجأة تقول: " دكتور يوسف حضر للتو ويطلب رؤية نبض هانم "
ابتسمت نغم بسخرية وهي تقول: " هذا أفضل لتكتمل الليلة "
بينما قال معتز: " سنوافيه حالا "
اومأت علية وهي تنسحب بهدوء من الغرفة لتقول ليال فجأة: " ماذا سنفعل؟ "
ردت نبض بصوت متصلب: " ستخبرونني عما تخفونه عني حالا ودون تأخير أو مراوغة.. يبدو أن هناك سر خطير وأنا متورطة فيه "
***

بمجرد أن دخلت نبض غرفة الإستقبال ورأت يوسف يقف في انتظارها حتى هرولت إليه تتشبث في كم سترته وهي تطالعه بمقلتين تغشاهما العبرات وهي تقول بضعف: " أخي يوسف لا تتركني.. أنا خائفة "
رفع يوسف بصره إلى صخر مقطبا وهو يقول بهدوء ظاهري: " هلا أخبرني أحد ماذا يحدث؟ "
أشار معتز للجميع أن يجلس وهو يقول: " سنفعل بني لكن أهدأ "
جلس يوسف ليفاجئ بنبض تجلس إلى جواره دون أن تترك تشبثها به فشعر بالقلق عليها
سألته نبض بصوت مختنق: " ألم تكن شاهدا على زواجي من صخر؟ "
اومأ إيجابا وهو يقول: " أجل "
فتابعت هي بحيرة: " إذن كيف تكون كل الشروط مستوفاة ومع ذلك زواجي منه باطل؟ "
قطب يوسف ذاهلا وهو يقول: " ماذا؟ من أخبركِ بما تقولين يا نبض؟ "
رفعت نبض سبابتها وهي تشير إلى ليال قائلة بصوت متحشرج: " عمتي ليال "
نظر لها يوسف بتساؤل فردت ليال بتنهيدة مريرة متحسرة: " وكونك كنت شاهدا على عقد الزواج أيضًا يؤكد على بُطلانه يا يوسف "
ازدرد يوسف ريقه سائلا بقلق: " كيف؟ أنا لا أفهم "
اجابته ليال بإحباط تقول: " لأنك شهدت على عقد الزواج بهوية أخرى غير هويتك الحقيقية "
لم يستطع يوسف كتم شهقته المصدومة متمتما: " يا إلهي! أنا كيف غفلت عن ذلك الأمر؟ (ثم طالع صخر بحيرة وهو يقول بضيق) وأنت كيف لم تنبهني إلى ذلك السهو الذي وقعت فيه؟ "
رد صخر بقسوة: " وما الفرق؟ في كلا الحالتين سواء شهدت بهويتك الحقيقية أو أتينا بشاهد آخر غيرك كان الزواج سيظل على حاله... باطلا "
صاح يوسف بحنق: " صخر كف عن التلاعب بالكلمات.. أنا لا أفهم شيء "
أطرق معتز برأسه ملتزما الصمت بينما تمتمت نغم بشحوب وذهول بعد ما سمعته من أمها وصخر عن يوسف: " يبدو أن صخر ليس الوحيد ممن يحملون هوية ليست لهم "
أما ليال فقد نكست رأسها بقهر وهي تتمتم: " كل ما يجري اللحظة بسببي.. أنا من عليها تحمل الوزر كاملا.. أنا السبب.. يا إلهي الرحيم ساعدني "
صاح يوسف بإنفعال حينما لم يصله رد من أحد: " لما الصمت؟ أريد أن أفهم حالا ما يحدث وإلا غادرت ومعي نبض "
بعد لحظات أخرى من الصمت تكلم صخر بصوت قاتم وهو ينظر إلى يوسف: " لست وحدك من تملك سرا تخفيه أو هوية ليست ملكك (جز على أسنانه وهو يكمل) أنا الآخر لدي سر لا يعرفه أحد سوا ثلاثة أشخاص "
أشار على أمه ووالده وأخته قبل أن يضيف: " تخيل كانوا يعرفون هذا السر حتى من قبلي وأنا من يخصه الأمر اكتشفته عن طريق الصدفة "
قال يوسف بحنق: " لازلت لا أفهم "
وجه صخر نظراته إلى نبض وهو يقول بصوت جاد مباشر: " زواجنا باطلا بالفعل يا نبض كما أخبرتكِ أمي الآن... لأنني تزوجتكِ بهوية ليست لي (هب من جلسته فجأة وهو يتابع بصوت متصلب وكأنه يريد إنهاء الأمر سريعا دون نقاش) أنا لست إبن الدكتور معتز الجياد "
شهقت نبض بهلع بينما شحب وجه يوسف وهو يتمتم بصدمة: " ابن من إذن؟ "
رد صخر بقسوة مفرطة: " لا دخل لك.. لا تسألني ابن من أنا فأنا لا أب لي؟ "
إلتفت إلى نغم يقول بوحشية: " لن تخبريه عن إسم ذاك الرجل يا نغم وإلا والله قاطعتكِ لآخر عمري "
اومأت نغم برأسها بحركة سريعة وهي ترد مشفقة عليه: " أعدك أخي لن أخبره "
هب يوسف من جلسته متقدما من صخر بإندفاع وفي لحظة كان يمسك بتلابيبه صارخا: " ماذا تعني بهذه السخافات التي تفوهت بها؟ هل تعني أنك كذبت علينا وخدعتنا؟ "
رد صخر بجمود، ساخرا بمزاج سوداوي: " تتكلم وكأني الوحيد من يكذب ويخدع دكتور يوسف "
هزه يوسف بعنف وهو يصرخ بعصبية: " أنا لم أكذب ولم أخدعكم بشأن هويتي جميعكم تعلمون أصلي جيدا و... "
قاطعته نغم بحذر وهي تقف على مقربة منهما تقول: " أنا لا أعلم من تكون يا يوسف؟ "
رد يوسف بإنفعال واندفاع غافلا كحال الجميع عن نبض التي تجلس ساكنة شاحبة كطير جريح: " لو سألتِ والديكِ أو أخوكِ لكانوا أخبروكِ أن إسمي الحقيقي هو يوسف سليم الجبالي "
شهقت نبض من جديد وقد أضيفت لها صدمة جديدة بينما جحظت عيني نغم بجزع وهي تلتفت ناظرة إلى أمها التي اومأت لها مؤكدة ما فهمت فقالت بدون وعي: " ابن ع... "
قاطعتها صرخة صخر: " اخرسي يا نغم "
خرست بالفعل وهي تنظر تارة إلى يوسف وتارة أخرى إلى صخر قبل أن تستدير على عقبيها مهرولة للأعلى تسبقها دموعها وهي تشهق من شدة البكاء
أما نبض فقد نهضت تقول بصوت خافت غريب ليس لها وملامح تئن من الألم: " وأنا أيضا يا يوسف لم أكن أعلم أنك أحد أفراد عائلة الجبالي.. لم تخبرني يا أخي.. لا أنت لست أخي بل أنت... أنت... "
سكتت بعجز وهي تقول بعد لحظة بوجع: " كلاكما خدعتماني.. كذبتما عليّ "
نفض صخر يدي يوسف عنه وهو يقول ببرود قاس: " أنا لم اخدعكِ فأنا لا أملك هوية أخرى لأخبركِ عنها من الأساس "
نظرت له بقهر وهي تصرخ: " حقا! ولماذا يا ترى هل رفض والدك الحقيقي الاعتراف بك أم... أم ماذا أجبني؟ "
رد صخر ببرود متعمد وكأنه لا ينزف من الداخل وكأنه لا يتوجع: " لا يعلم بوجودي من الأساس ليكون له حق الاعتراف بي أو نكراني "
كتمت شهقة بكاء كادت تفلت منها وهي تطالعه بكره وغل قائلة: " متى كنت ستخبرني عن حقيقتك أيها المخادع الجبان؟ "
رد بلامبالاة: " لا أعلم "
استفزها ببروده وثباته فصرخت بقهر وهي تشعر بأنها تحترق بينما كانت تدفعه بقوة في صدره: " كيف جرؤت على خداع أبي بتلك الدناءة؟ كيف وهو من كان يأمنك على بيته وزوجك ابنته.. كيف؟ "
ظل ثابتا كالجبل لا يتزحزح ولا يبدي أي تأثر بضرباتها لتصدمه نبض كما الجميع وهي تنزل على وجهه بصفعة قوية تردد صداها عبر السكون المخيم على الفيلا وشهق الجميع على إثرها وهي تصرخ في وجهه: " حقير "
أغمض عينيه بقوة وهو يصر على أسنانه بينما جمدت ملامحه بشدة حتى كادت تتفتت وهو يحاول التماسك حتى لا يرد لها صفعتها في الحال أما هي فقد تراجعت للخلف وهي تنظر إليهم جميعا بقهر وغضب صارخة: " أنا أكرهكم جميعا.. لا أريد رؤيتكم مجددا.. أخرجوا من حياتي.. ابتعدوا "
ركضت للخارج وهي تشهق بعنف منفجرة في البكاء حتى وصلت إلى البوابة الرئيسية للفيلا فوقف أمامها سيف يسألها بقلق: " ما بكِ يا هانم؟ "
شهقت بقوة وهي تقول مشيرة بسبابتها على البوابة: " أفتح البوابة "
كاد يجادلها لكنها ترجته بضعف: " أرجوك أفتح البوابة كفاني ما حدث لي ليوم واحد.. أرجوك.. أتوسل إليك أفتحها "
أراد سيف الإعتراض لكن صوت مصطفى سبقه وهو يفتح البوابة فجأة قائلًا: " تفضلي "
صاح سيف بحنق: " مصطفى هل جننت؟ صخر باشا س... "
قاطعه مصطفى بغضب يقول: " قلت لك سيحرق قلبها ولم تصدقني وها قد رأيت بنفسك النتيجة "
***

في الداخل
لم يتحرك صخر من مكانه قيد أنملة ولم يفتح عينيه حتى بينما صاح يوسف بإنفعال: " لم ينته هذا الموضوع بعد يا صخر.. لازال بيننا حديث طويل "
وخرج بعدها مهرولا ينوي اللحاق بنبض لكنه حينما خرج كانت قد رحلت، قد اختفت، ولم يجدها
***

بعد ساعة
كانت تجلس على قارعة الطريق في الظلام، عبراتها تنساب مدرارا وملامحها منقبضة من شدة الألم وهي تطالع السيارات المارة من أمامها بشرود ولسانها يردد دون شعور منها: " لمن تركتماني من بعدكما؟ إلى أخ لا أعرفه أو زوج لا أدري عنه حتى هويته؟ لمن أذهب الآن ولم يعد لي أحد؟ "
انفجرت فجأة في البكاء بانهيار وهي تقول بقهر يدمي القلب: " ألم أخبركما أنني من بعدكما سأضيع ويتشتت نبضي؟ ها هو يتشتت أمام عيني ويسقط نبضة وراء أخرى أمامي على الطريق ولا أقو حتى على لملمة نبضاتي التي تبعثرت.. تدهسها عجلات تلك السيارات التي تمر أمام بصري دون أن ترأف بحالي أو تحيد بعيدا عنها وتتركها تقبع على الأرض بسلام "
رفعت رأسها إلى السماء تناجي ربها بحرقة فؤاد وقهر روح وانكسار: " يا مليكي! يا إلهي ويا سندي.. يا أملي من بعد يأس الروح وقبضة القلب.. ليس لي غيرك يا ربي فساعدني "
أجفلت فجأة شاهقة حينما توقفت أمامها سيارة سوداء ترجل منها شاب اطمأنت نبض حينما اقترب منها وقد تعرفت عليه
تقدم منها قاسم مقطبا بذهول وهو يقول: " أنتِ ابنة الدكتور مختار زين الدين أليس كذلك؟ "
اومأت برأسها بسرعة وهي تشهق قائلة: " أجل أنا هي "
أشار لها بحيرة قائلا: " ما الذي يجلسكِ هنا؟ وكيف جئتِ إلى العاصمة؟ "
أشارت له ببراءة حتى ينتظر ويصبر فسكت مترقبا ليراها تنفجر فجأة في البكاء شاهقة بعنف لبضعة دقائق ظلت على هذا الحال وهو يطالعها مصدوما حتى تكلمت أخيرا من وسط شهقات بكائها تقول: " ليس مهما كيف جئت إلى هنا.. هل يمكنني أن أطلب منك معروفا تسديه لي؟ "
اومأ موافقا دون تردد وهو يقول: " بالطبع يا صغيرة أي شيء "
نظرت له برجاء تقول: " هل تستطيع أن تدبر لي مكان أبيت فيه هذه الليلة؟ "
طالعها بتعجب يقول: " ولما لا أعيدكِ إلى العمة فاطمة أفضل؟ "
هتفت برفض قاطع: " لا لن أعود إليها أنا غاضبة منها (ثم أكملت بقهر) هي... هي الأخرى اشتركت مع يوسف في تلك الكذبة.. هي الأخرى كانت تعلم حقيقته ولم تخبرني وأخفت الأمر عني "
ردد قاسم الإسم بشجن: " يوسف "
فتحت نبض فمها وكادت على وشك قول شيء ما لكن صوت قاسم الكئيب وهو يردد إسم يوسف اخرسها وهي تفطن لتلك الذلة التي كادت أن تقع فيها أمامه
طالعته بحيرة أقرب إلى الضياع لا تعلم ماذا يفترض بها أن تفعل؟
هل تثق فيه أم تأخذ حذرها وحيطتها؟
أ تخبره عما عرفته أم تخفي الأمر عنه؟
لكن ماذا تخبره وهي حتى لا تعلم أي شيء خلاف هوية يوسف التي اكتشفتها قبل قليل؟
ابتسم لها فجأة بحنان وهو يقول بلطف: " من يوسف هذا الذي اشتركت معه العمة فاطمة في إخفاء شيء عنكِ؟ "
رمشت نبض بإرتباك وهي ترد بسؤال آخر: " هل... هل تعرف أحد بإسم يوسف؟ "
أشار لها أن تنهض وهو يقول: " تعالِ.. سأخبركِ ونحن في الطريق "
شعرت نبض بالاطمئنان إلى جواره رغم تلكما الصدمتين التي تلقتهما قبل قليل من أناس قريبين منها وهذا آثار في نفسها العجب
بعد لحظات من الصمت الذي ساد بينهما بعدما استقلت نبض معه السيارة وجدته يتكلم بهدوء: " نعم أعرف شخص بهذا الإسم.. شخص يمنعنا جدي عن ذكره "
سألته نبض بحذر: " أين هو؟ "
رد بغصة خانقة في صوته: " واراه الثرى عن أعيننا وتركه موصوما بقلوبنا "
سألته من جديد: " ابن من يكون؟ "
رد بتنهيد: " لا يفترض بي أن أخبركِ بهذا "
ألحت عليه بإهتمام: " أرجوك يا أبيه قاسم أخبرني وأعدك ألا أخبر أحد أنك أخبرتني "
رمقها قاسم بذهول وهو يقول: " بما دعوتني للتو؟ "
ردت ببراءة: " أبيه قاسم "
رفع حاجبا وهو يسألها: " كم عمركِ؟ "
ردت بنفس البراءة: " بعد بضعة أشهر قليلة سأكمل تسعة عشر عاما "
ابتسم بحنان وهو يقول: " وأنا بعد شهر سأكمل تسعة وعشرون عاما.. يمكنكِ إذن أن تناديني أبيه "
سألته بلطف: " أخبرني إذن يا أبيه ابن من يكون هذا ال 'يوسف' الذي تعرفه؟ "
رفع حاجبا وهو يقول: " على شرط أن تخبريني عن حكاية زواجكِ تلك لأنها غريبة قليلا وخاصة أن دكتور مختار لم يذكر عنها شيء حينما زارنا في عرس حمزة وزهراء "
قطبت بألم وهي ترد بحسرة: " ليست غريبة وإنما أضحوكة هزلية "
بعد لحظة تفكير قالت بتنهيد: " لكن هذا سيكون سرنا الخاص أليس كذلك؟ "
رد قاسم بتأكيد وهو يقول: " اتفقنا إذن "
***

في فيلا الجياد
دلفت ليال إلى غرفته وهي تبكي بحرقة، اقتربت من فراشه تلمسه ببطء وتشتم عطره فيتعالى بكائها أكثر وهي تقول بمرارة: " أنا السبب يا صغيري.. أنا السبب ولا أستطيع طلب المغفرة ولا السماح منك.. ذنبي عظيم ولا أجد لي منه مفر "
وقفت نغم على الباب تراقب إنهيار أمها بحسرة ودموعها هي الأخرى لم تجف بعد
تبكي الكثير...
حبيب أدركت صعوبة الوصول إليه!
أخ يتمزق قلبها لوعة عليه!
أُم لازالت تعاني من تبعات ماضيها التي لا تريد أن تتركها تهنأ بحياتها!
أجفلت فجأة على تربيته حنونة من والدها قبل أن تسأله بخفوت ملهوف: " هل وجدوا نبض يا أبي؟ "
رده عليها تمثل في ايماءة بالسلب جعلتها ترتمي بين أحضانه مجهشة في البكاء وهي تقول: " لابد أن يجدوها نبض وحيدة تماما.. أنا خائفة عليها كثيرا يا أبي "
تنهد معتز بألم وهو يتمتم: " اهدئي بنيتي واطمئني لن يضيعها الله أبداً "
رددت نغم بأسى شديد: " ألطف بها ياربي الرحيم وأحفظها "
***

أمام بوابة الفيلا
كان سيف ومصطفى يقفان مطرقي الرؤوس بينما يوسف يكاد يبكي من القلق عليها
الوحيد الذي بدى كجبل صامد لا يهتز كان صخر، كان يقف متكئا على مقدمة السيارة يديه في جيبي بنطاله وعينيه مغمضتان
استفز هدوئه يوسف فهدر فيه بغضب: " هل سنظل منتظرين أن يأتينا خبرا عنها أم ماذا؟ "
لم يرد صخر بكلمة فتابع يوسف بحدة: " تكلم يا بني آدم.. قل أي شيء ولا تقف هكذا.. أنا أكاد أجن وأنت تقف مسترخيا وكأننا خرجنا في نزهة "
رد صخر متنهدا بصوت جامد: " أنا فقط أنتظر أن يتكرم مصطفى بك ويعلمنا عن مكانها "
ردد يوسف بعدم فهم: " ماذا؟ "
رمق سيف أخوه حتى يتكلم بينما ظل الأخير صامتا ببرود وهو ينظر للأرض
تقدم يوسف منه يقول بحنق: " مصطفى هل تعلم شيء عن مكان نبض؟ "
رد مصطفى بهدوء مستفز: " لا يا بك.. لا أعرف مكانها فلست أنا من أضاعها من الأساس "
زفر يوسف وهو يتحرك بعصبية يحاول التفكير لكنه يعرف أن نبض ليس لها أحد في العاصمة لتذهب إليه في هذا الوقت
رفع مصطفى نظراته المتفحصة إلى صخر فوجد الأخير يفتح عينيه ببطء ليواجهه وكأنه شعر به
من نظرة واحدة لعيني مصطفى علم صخر أنه يعلم مكان نبض لكنه لن يخبرهم عنه فسأله بصلابة لا تقبل المراوغة: " مع من ذهبت إذن؟ "
رد مصطفى بشماتة خفية: " لن يعجبك ردي يا باشا "
قطب صخر وهو يقول آمرا: " تكلم يا مصطفى "
رد مصطفى بتمهل مغيظ: " الهانم عادت إلى بيتها على ما أظن "
جز صخر على أسنانه غيظا وهو يقول: " مع من؟ "
رد مصطفى بدون مراوغة: " مع السيد قاسم "
زمجر صخر بوحشية وهو يركل عجلة السيارة بقوة بينما يقول: " تباً ألم تجد سواه؟ لماذا هو يا ربي.. لماذا؟ "
ارتفع حاجبي يوسف بذهول وهو يقول: " مع قاسم.. تقصد قاسم الجبالي ابن... ابن عمي خالد؟ "
اومأ مصطفى إيجابا فهتف يوسف بهلع: " ياربي ألطف.. نبض ستخبره "
عاد صخر يركل إطار السيارة من جديد بعنف وهو يصرخ: " تباً.. تباً... تباً.. لماذا هو بالذات؟ "
قطب يوسف فجأة وهو يقول: " ما مشكلتك مع قاسم بالذات دون بقية أبناء عمومتي يا صخر؟ ماذا فعل لك؟ "
هتف صخر بقهر خفي لم يشعر به أحد: " لم يفعل شيء.. فقط أنا شخص جاحد أناني... وأكرهه "
***

قرابة الفجر / في المدينة الجبلية
كانت نبض تختض بعنف وهي تشهق باكية بين الفينة والأخرى أثناء قص قاسم ما جرى في الماضي وما تسبب به هذا الثأر القديم لعائلة الجبالي من خسائر
حينما إنتهى من كلامه انفجرت نبض في البكاء وهي تقول بتلقائية: " لكنه لم يصاب أنا واثقة من هذا "
قطب قاسم بإهتمام وهو يقول: " ماذا تعرفين عن هذا الموضوع يا صغيرة؟ "
مسحت عبراتها التي تغرق وجهها بظهر يدها كالأطفال وهي تقول بتأكيد: " لن تخبر أحد أليس كذلك أبيه؟ "
اومأ قاسم إيجابا دون تردد وهو يؤكد بالقول: " سبق واخبرتكِ أنه سيكون سر بيننا "
أطرقت برأسها للأرض وهي تقول بعد لحظة من التماسك وضبط النفس: " يوسف لم يصب في هذا الحادث القديم بأي رصاصة.. وهو حي لم يمت "
أجفلت حينما ركع قاسم أمامها ممسكا بيديها بقوة وهو يقول بخفوت من الصدمة: " أنتِ لا تمزحين أليس كذلك نبض؟ "
هزت رأسها سلبا وهي تزدرد ريقها قبل أن تكمل بخفوت متوتر: " إنه بخير.. حاله على أفضل ما يكون صدقني "
سألها قاسم بلهفة: " أين هو يا نبض؟ تعرفين مكانه صحيح؟ "
اومأت إيجابا وهي تقول: " منذ عشر سنوات وهو يسكن معنا.. أقصد أنه كان ينام في الشقة المقابلة لنا لكن عدا وقت النوم كان دائما متواجد معنا في نفس الشقة "
سألها مقطبا: " ولماذا لم يخبرنا دكتور مختار أنه حي؟ "
ردت بصدق وذكاء: " لا أعرف يا أبيه.. لكن بالتأكيد الأمر أكبر مما تظن فأنا لا أتخيل أن يكون أبي رحمه الله أخفى وجود يوسف عن عائلتك كلها.. هذا ليس منطقيا "
قطب قاسم بتفكير وهو يتمتم: " إذن هناك من العائلة من يعلم بأن يوسف لازال على قيد الحياة.. لكن من؟ "
قطبت هي الأخرى تفكر بتركيز قبل أن تتمتم: " اممم أظن لو كان الأمر يعنيني فبالطبع والدي وأخوتي كانوا سيعلمون بوجودي و... "
قاطعها وهو ينظر لها بتنبه قائلا: " إذن عمي سليم وزيد يعلمان وبالطبع جدي فمن غير المعقول أن يحدث أي شيء دون علمه "
اومأت توافقه القول فتابع هو بحيرة: " السؤال هنا هو.. لماذا أخفوه؟ "
برمت شفتيها علامة أنها لا تعرف فتنهد بإحباط وهو يقول: " يبدو الأمر أكثر تعقيدا مما ظننت "
ابتسمت له بحماس وهي تحاول أن تبثه بعض الأمل قائلة: " ألا يكفي أنه موجود؟ ابن عمك حي يرزق، يتنفس، يسكن على بُعد كيلومترات منك وليس ميتا كما كنت تظن لسنوات "
رسم بسمة صغيرة على شفتيه وهو يقول: " معكِ كل الحق يا صغيرة يكفيني هذا بالفعل "
تنهدت قليلا وهي تنظر حولها بتركيز قائلة: " أشعر بوجود أحد هنا "
قطب قاسم بتركيز وهو يستقيم واقفا قبل أن يبدأ بالنظر إلى كل زاوية من الحديقة الخلفية للدار بتفحص بعد لحظات عاد ببصره لها يقول: " لا أظن ذلك.. هيا أخبريني عن الموضوع الآخر الخاص بزواجكِ "
نكست رأسها ونظراتها للأرض وهي تزدرد ريقها بصعوبة قائلة بشكل مباشر دون مراوغة: " يوم وفاة والداي رحمهما الله كنت أؤدي آخر إمتحان متبقي لي في المرحلة الثانوية.. خرجت من الصف لأفاجئ بيوسف ينتظرني وقبل أن اسأله عن سبب وجوده أخبرني أن أبي يريدني حالا في المشفى "
سكتت تزدرد ريقها قبل أن تكمل بمرارة: " كانت المرة الثانية التي أدخل فيها هذه المشفى.. أول مرة وأنا أزور يوسف وصخر مع والدي وثاني مرة يوم الحادث "
رفعت بصرها له في أسى تقول: " حينما وصلت كانت المشفى منقلبة رأسا على عقب الكل يصيح بأنهم فقدوا السيدة التي وصلت قبل ساعات لم أفهم شيء حينها حتى أدخلني يوسف إلى إحدى الغرف لأفاجئ بأبي يستلقي على أحد الأسرة وبعض الجروح تخط علاماتها على وجهه بينما جسده كله كان مخفي تحت غطاء أبيض.. لم يمنحني حتى فرصة سؤاله عما حدث لأجده يخبرني أن عليّ الزواج من صخر وأن ذلك لابد أن يحصل لكي يرحل وهو مطمئنا عليّ بعدها لم أشعر بشيء ولم أفهم أي شيء "
حينما سكتت سألها بلطف أن تكمل فقالت وهي تبكي بحرقة: " خلال لحظات قليلة وجدت نفسي أمنح المأذون موافقتي على زواج لم يخطر في بالي يوما وبعدها بأقل من ساعة كان أبي يلفظ آخر أنفاسه وهو يخبرني أنه تأخر في اللحاق بحبيبته.. علمت حينها أن تلك السيدة التي فقدوها والتي تأخر أبي عليها كانت أمي.. كلاهما رحلا وتركاني وحدي "
جلس قاسم أمامها القرفصاء وهو يربت على حجابها بحنان بينما يقول: " اهدئي يا نبض وأكملي حديثكِ صغيرتي أريد أن أعلم القصة كاملة "
ردت نبض بعد لحظات بصوت مختنق: " حدثت الكثير من الأمور ونظرا لظروف زواجنا الخاصة فقد حضرت إلى هنا مع عمتي فاطمة وكان هو يأتي كل يومين لزيارتي.. بالأمس حينما كنت عندكم هنا هاتفني صخر وهو يعرف أنني خرجت من البيت وأمرني بالعودة إلى بيت عمتي فاطمة لكنني رفضت "
قال قاسم بهدوء: " نعم آدم من أخبره أنكِ في دارنا "
اومأت وهي تكمل: " سألني من قابلت من رجال العائلة فأخبرته بأنني لم أرى سوا جدي وعمي سليم فألح عليّ بأن أغادر وأقسم إن لم أطيعه فسوف يأخذني إلى العاصمة "
قطب قاسم بفهم وهو يقول: " إذن هذا يفسر سبب وجودك في العاصمة.. نفذ قسمه عليكِ "
شهقت بعنف وهي تقول: " لم يكن يريدني أن اقابل عمي خالد وأنا بالفعل كنت سأعود لبيت عمتي حتى لا ينفذ قسمه لكن عمي خالد دخل فجأة ولم أعرف ماذا أفعل وبعدها اضطررت للبقاء وحضور تلك المأدبة "
عبس قاسم وهو يقول: " ولماذا أبي خاصة؟ "
هزت رأسها بعدم فهم وهي تقول: " لا أعرف "
تنهد وهو يقول: " حسنا أكملي "
أجبرت نفسها على ابتلاع العلقم المر الذي تشعر به يسد حلقها وهي تكمل بحرقة وانكسار: " حدث بيني وبين والدته سوء فهم وكانت النتيجة أن علمت أنه... أنه ليس ابن الدكتور معتز الجياد صديق والدي "
سأل قاسم بحيرة: " ابن من إذن؟ "
ردت نبض بقهر: " لا أعرف.. هو لم يخبرني فقط أكد عليّ أن زواجنا باطلا لأنه تزوجني بهوية مزيفة وأنه لا يمتلك هويته الحقيقية من الأساس "
قطب قاسم بغضب وهو يتمتم: " الحقير، النذل "
اجهشت نبض في البكاء وهي تقول بقهر: " ماذا أفعل الآن يا أبيه؟ لقد أكتشفت في لحظة أنني كنت أعيش بين أناس لا أعرفهم.. الجميع خدعوني وأخفوا عني هوية يوسف وصخر خدعني حينما كذب عليّ.. لقد أذاني جدا يا أبيه "
كانت على وشك الإنهيار وهو أمامها يشعر بالعجز لا يدري ما يجب أن يفعله ليخفف عنها حتى غطت وجهها بكفيها وهي تغمغم بحسرة: " ماذا فعلت أنا؟ والله لم أفعل لهم شيء... أي شيء ليكون عقابهم لي بهذه البشاعة "
رفع رأسه يتنهد بحرقة وهي يحدث نفسه: " وأنا من كنت أظن نفسي أكثر شخص بائس في الكون فما حال تلك الصغيرة إذن يا ربي؟ "
شهقت وهي تقول بخفوت: " لماذا يحدث معي كل هذا؟ أنا لم أؤذيهم أبداً.. والله لم أفعل "
سمع قاسم فجأة شهقة أخرى يبدوا أنها افلتت بدون قصد من صاحبتها التي كانت تتلصص عليهما وفي لحظة كانت عينيه تتوجهان صوب المكان الذي صدرت منه تلك الشقة ليتهدل كتفيه بإحباط فجأة وهو يقول: " تعالِ يا ملاك.. صدق حدس نبض إذن بأن هناك شخص آخر موجود هنا غيرنا "
تقدمت ملك منهما وهي تبكي شاعرة بالحرج من اكتشافه لها فقالت وهي تطرق رأسها: " أنا آسفة رأيتكما صدفة وأنا في طريقي إلى ياسين حيث يطعم جروه الجديد "
جحظت عيني قاسم وهو ينظر إلى المكان الذي أتت منه ملك ليقول بصدمة: " لا تقوليها "
اومأت إيجابا تؤكد ظنه وهي تقول: " هو الآخر هناك يبكي دون أن يشعركما بوجوده لكنني بلهاء وفضحت نفسي "
تنهد قاسم بيأس وهو يرفع بصره إلى السماء متمتما: " يا الله "
رمشت نبض وهي تتوقف فجأة عن البكاء قائلة بجزع: " هناك صوت عالٍ في الداخل "
شهقت ملك وهي تقول بهلع: " هذا صوت ياسين يا للمصيبة "
ركض ثلاثتهم إلى الداخل مسرعين وهم يدعون الله بأن يلطف بهم ولا يزداد الأمر سوءًا
***

في الداخل
وقف ياسين أمام جناح جده يضرب على الباب بهمجية أيقظت الجميع ليخرجوا فزعين من مخادعهم ليروا ماذا يحدث؟
خرج عبد الرحمن مقطبا بغضب وهو يقول: " ما بالك يا ولد؟ ماذا تفعل؟ "
صاح ياسين بحدة: " أنا من يجب أن أسألك يا جدي ما الذي فعلته بنا؟ "
زاد تقطيب عبد الرحمن وهو يصيح بضيق: " كيف ترقع صوتك عليّ يا ولد وتحدثني بهذه الوقاحة؟ "
صرخ ياسين بإندفاع دون أن يشعر: " لا يحق لك أن تتحدث عن الوقاحة يا جدي بعد ما فعلته بنا؟ "
في لحظة كانت تتعالى الشهقات أثر تلك اللطمة القوية التي تلقاها قاسم من جده بدلا من أخيه
وتجمد الموقف للحظات بين الجميع وعم صمت وسكون موحش فجأة
خالد يقف جامدا في مكانه أمام باب جناحه دون أن يتفوه بحرف
زيد ينظر إلى جده في صدمة بينما سليم ينظر لوالده بعتاب قوي
زهراء كانت تختض فعليا بين ذراعي زوجها الذي ينظر إلى جده فاغر الفاه غير مصدقا لما حدث
أما حفصة فقد تشبثت بذراع زوجها وهي تنظر إلى قاسم بشفقة وعاصم كان مصدوما كالبقية
وقفت حياة أمام باب غرفتها بوجه شاحب وكأنها هي من تلقت تلك اللطمة بدلا من قاسم
ملك تقف إلى جوار نبض وكلاهما جامدتين كتمثالين من الشمع ونظراتهما مصوبة على قاسم الذي يشد قبضتيه إلى جانبيه بقوة
قطع ياسين الصمت وهو يصيح بشراسة: " ثمن تلك اللطمة غاليا جدا يا جدي.. لن أبقى هنا لحظة واحدة بعدما أكتشفت بأني حييت عمرا كاملا مغفلا في هذه الدار "
هرعت إليه نبض تتشبث بذراعه باكية وهي تقول برجاء: " أرجوك لا تفعل.. أنا آسفة كل ما حدث بسببي "
رد ياسين بحرقة: " وما ذنبكِ أنتِ؟ أنتِ مثلنا جميعا ضحية لذلك الوغد الذي خدعكِ كما خدعنا جدي بالضبط "
نظرت له نبض بلوعة وهي تقول: " بالله عليك لا ترحل.. سيقتلني شعور الذنب إن تركت بيتك "
لم يرد ياسين فنظرت لقاسم باستجداء تقول: " أبيه "
رمش قاسم لوهلة قبل أن يتكلم بصوت جاف: " أعتذر حالا عن قلة أدبك ووقاحتك مع جدك يا ياسين "
رمقه ياسين باستنكار فقطب قاسم بصلابة وهو يقول: " قلت... حالا "
أراد ياسين الجدال فقال: " لكن... "
قاطعه قاسم بحزم: " اعتذر "
جز ياسين على أسنانه بغضب مكبوت وهو يقول بغمغمة رغما عنه: " أنا آسف جدي "
إلتفت قاسم إلى جده يقول بهدوء ظاهري: " إنه يمر بإحدى تلك الأيام العصيبة التي لا يشعر بما يقوله فيها فلا تؤاخذه على ما فعل يا جدي.. (ثم إلتفت للبقية يقول) تصبحون على خير "
رمق قاسم أخاه بغموض وهو يقول: " اتبعني أنت وملك حالا "
استوقفه عمه سليم وهو يقول: " ما الذي تفعله صغيرة الدكتور مختار رحمه الله هنا في هذه الساعة؟ هل حدث شيء؟ "
رد قاسم وهو يتجنب النظر لعمه: " لا تقلق يا عمي لم يحدث شيء "
***

بعد ساعة
هب ياسين من مكانه صارخا بعنف: " لن أفعل يا قاسم.. إن كنت سأبقى في هذه الدار فيجب أن يعرف الجميع الحقيقة "
زفر قاسم بسخط وهو ينظر لأخيه دون تعقيب بينما ملك تحاول التدخل بمهادنة: " قاسم معه حق.. علينا التحلي بالصبر قليلا حتى نتمكن من سؤال عمي سليم أو... "
قاطعها ياسين هاتفا: " حسنا اصبروا أنتم لكن أنا لا.. لن أصبر "
حينها ترك قاسم مقعده وتقدم منه يقف أمامه، يقول بإقتضاب: " ما هذا الذي تفعله؟ تصرخ كالصبية الصغار ولا ينقصك سوا القفز كالمعاتيه "
أشاح ياسين بوجهه دون رد فأكمل قاسم حديثه بصلابة: " أنت أكثر من يعلم أنني قادر على اخراسك لو شئت لكنني لا أريد ذلك كل ما أريده منك أن تتحلى بالصبر وتعطي عقلك فرصة للحكم على الأمور بعد تفكير دون أن تترك لسانك يتحكم فيك "
زفر ياسين بضيق مغمغما: " الأمر صعب.. أنت لا تعلم شعوري اللحظة.. أكاد احترق يا أخي "
ثم وجه بصره ناحية قاسم يتمتم بذهول وكأنه للتو عرف الخبر: " يوسف حي.. ابن عمنا لازال على قيد الحياة.. يوسف حيا يرزق "
اومأ قاسم بصبر وهو يقول: " نعم حي لذلك يجب أن نكون أكثر حرصا على حياته فلا نتسرع في الإقدام على فعل شيء قد يجعله يخسر تلك الحياة "
تمتم ياسين بلهفة: " بعيد الشر عنه "
ربت قاسم على كتف أخوه باسما وهو يقول: " إذن أصبر يا أخي حتى نستطيع التفكير في طريقة آمنة نُعيد بها الغائب "
***

في شرفة جناح خالد
كان يقف في زاوية متخفية، يراقب ولديه بعين فطنة تعلم سير الأمور ونهايتها، ما إن تراخت تعابير وجه ياسين أخيرا حتى تنهد خالد براحة عالما بأن قاسم قد إستطاع بعد جهد من السيطرة على عنفوان واندفاع أخوه كالعادة.
تمتم خالد وهو يعقد ذراعيه أمام صدره: " يبدو أن أولى رصاصات بداية النهاية قد حان دورها يا أبي.. أخبرتك أن إخفاء يوسف ليس حلا وإنما المواجهة هي سبيل فض الماضي لكنك رفضت رأيي وحكمت رأيك وها هي النتيجة "
رد عبد الرحمن بحدة وهو يجلس على كرسي وثير في مواجهة ابنه: " في أي شيء كانت ستفيدنا المواجهة حينها؟ ألم تكن حاضرا لنكبة الماضي، شاهدا على ما حدث وقتها؟ كيف كنت تريدني أن أواجه وللتو فقدت اثنان من أبنائي وفقد أخوك زوجته؟ "
رد خالد بهدوء صلب: " تعلم أنني ما قتلت شخص في حياتي يا أبي.. لا أخا لذاك المختل فؤاد ولا بشرا غيره ورغم ذلك لا أعلم لِما تحمل نبرة صوتك لوما خفيا تجاهي وكأنني السبب فيما جرى "
أطرق عبد الرحمن برأسه حاجبا نظراته عن ابنه وهو يتمتم برد بارد كمحتواه: " أنا لا ألوم أحد على شيء ولكن إن كنت تشعر بذلك ففكر في السبب الذي يدفعك لفهم الأمر بتلك الطريقة "
ابتسم خالد بألم جاهد ليخفيه لكنه فشل: " سأظل مُلاماً يا أبي طيلة حياتي على كل شيء وأي شيء يحدث.. خطأ واحد في الماضي جعلني أسقط من نظرك عمري كله.. خطأ لم يكن لي ذنب فيه ورغم ذلك دفعت الكثير من جهدي وطاقتي لأتحمل عواقبه التي فاقت الحد "
تغضنت ملامح عبد الرحمن بقسوة عنيفة ونبرة صوته أتت غاضبة كموج جارف وهو يقول: " خطأك هذا كافيا ليُخرِجك من الجنة ويُلقي بك في عمق الجحيم.. عِصيانك لأمري ليس بالخطأ الهين إن كنت تحسب.. ما فعلته منكرا في نظري فلا تعد وتذكر سيرته أمامي يكفي خيبة أملي فيك "
كانت كلمات والده سهاما حادة لا ترحم تصيب قلبه في الصميم وتدمي روحه دون أدنى ذرة من الرحمة.
حرقة ألجمت لسانه عن البوح بشعوره الشرس بالقهر والألم وبدلا من ذلك كان يقول: " أوَ لم أفعل أي شيء في حياتي يشفع لي عندك تلك الذلة يا أبي؟ "
أشاح عبد الرحمن بوجهه جانبا وهو يرد بجمود قاس: " ومهما فعلت لا تطمع في غفراني لك بخصوص ذاك الخطأ "
أغمض خالد عينيه يخفي لهيب نظراته المشتعلة وهو يرد بصوت مختنق: " إذن يجدر بي أن أحمد ربي على أن خطئي لم تنتج عنه تبعات تلاحقني حتى يومي هذا وإلا لكنت خارج دارك يا أبي "
رد عبد الرحمن بقسوة: " نعم حينها ما كان ليكون لك مكانا في داري لذا أحمد ربك صبح مساء على رحمته بك "
لم يستطع خالد تمالك نفسه أكثر ولا لجم تلك الدمعة الحارة التي هوت فارة من سجن مقلته وهو يشعر بالضآلة والذل والمهانة وكأنه عاد لسنوات مضت.. عاد طفل صغير يختض ذعرا من عقاب واقع عليه لا محالة نتيجة خطأ صغير فعله.
همس لروحه المُعذبة بكلمات أعتاد على ترديدها منذ ذلك الخطأ الذي فعله، وكانت في تلك الكلمات القليل من المواساة له: " تحملي يا روح ورابطي فرج ربك آتٍ ذات يوم فأصبري "
نعم الفرج آتٍ.
مُخرج الزهر حيا من بين صخر صلبا قادر على تبديد العسر وتبديله يسرا.
خالق الأكوان، مُحسن الصنع كدأبه قادر على تذليل الصعاب وتحويلها لأمر سهل المنال.
يقين خالد بفرج ربه القريب كان سببا لاستكانت روحه وتمهلها للحظة الإحياء من بعد موت طويل.. لكن تفكيره وتمنيه بنسيان عثرة الماضي لم يمكنه من الوصول بتفكيره إلى أن تلك العثرة من الصعب أن تذهب ادراج الرياح بتلك السهولة دون أن تقذف بذرة حية تدل على أنها كانت موجودة ذات يوم، دون أن تخلد ذكراها.
للأسف العثرة بقت وطرفيها بقيا وبذرة الإثبات الشاهدة عليهما باقية حية ترزق فماذا قد يفعل خالد حين يعلم أن الفرج حين أتى صحب معه دليلا حيا على ذلة ماضيه التي لم ينساها هو ولم يغفرها والده ولم تذهب إلى حال سبيلها بسلام؟

انتهى الفصل..
قراءة سعيدة.

houda4 29-10-19 07:39 PM

شكرا على الفصل الرائع إذن صخر هو ابن خالد وأخ قاسم وياسين
لكن الذي لم افهمه اهو ابن حرام ؟؟ لذلك لا يملك هوية ؟؟

**منى لطيفي (نصر الدين )** 02-11-19 02:26 PM

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
واخيرا اتممت الفصول القصة الصراحة معقدة وغامضة
بشكل مذهل. يعني مررت من توقعات كثيرة ووضعت
وجهات نظر متعددة حتى فوجئت في الأخير بحل عقدة
الثلاثي يوسف وزيد وصخر....
اذن خالد الجبالي تزوج من ليال التركية وخرج من طوع ابيه والعائلة الذين لا يتزوجون من خارج العائلة ويعتبر قانون صارم لانني لا اظن بتاتا بان خالد قد يخوض في علاقة محرمة ... وحين طلق ليال من اجل والده
اخفت عنه الأخيرة انها حامل بل وتزوجت من معتز في امريكا ونسبت الابن له لكن هنا اتساءل هل معتز علم ومع ذلك اقترف حراما وتزوج من ليال وهي حامل ام انه لم يعلم وتزوج من مطلقة على حد علمه وعلم بعد ذلك أو كيف هي القضية تحديدا في إنتظار حل ذلك اللغز الذي اول مخطئ فيه هي ليال حين اخفت عن خالد حملها الذي نتج عنه صخر الذي وللصدفة القدرية عاد وهو مراهق حين علم بحقيقته الصادمة لكي يرى اهله الحقيقين فجاء على موعد مع الثأر الذي اخذ شخصين وكان سيأخذ التالت لولا تدخل صخر لينقذ احد ابني عمه سليم...وكان سيكون هو ايضا ضحية للثأر اللعين سبب اللعنة الملاحقة للعائلة من طرف اللعين فؤاد الذي استغل تلك اللعنة لينفذ انتقامه من عائلة الجبالي والذي لا اعرف له سبب بعد مع انني اشك ان له علاقة بليال التركية لذلك والد خالد يرفض سماحه وهنا أتساءل كيف
سيتقبل حفيده صخر وهو الذي ضحى لينقذ حفيده من الموت ثم حماهم من بعيد بكل افرادهم ويضحي ليومهم هذا في سبيل حماية العائلة هل كل ذلك سيشفع له امام جده ويتقبله أم انه سيظل على رفضه الذي كان واضحا فيه؟؟؟؟
هناك مواضيع اخرى جانبية مثل رقية الجبالي والدة شمس لماذا وللمرة الأولى يوافقون على تزويجها لرجل من خارج العائلة وهنا ايضا يحضر اسم خالد الجبالي اخوها و هو صديق وشريك والد شمس فلماذا يا ترى ومن كان الآخر الذي خيروها به ؟؟ حتى تقرر الفرار العظيم في مقاطعة عائلتها؟

في انتظار باقي الأحداث الشيقة تحياتي لك.

Hend fayed 02-11-19 06:12 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة houda4;1
4570853
شكرا على الفصل الرائع إذن صخر هو ابن خالد وأخ قاسم وياسين
لكن الذي لم افهمه اهو ابن حرام ؟؟ لذلك لا يملك هوية ؟؟

حبيبي وجودك أروع🌸
نعم صخر هو ابن خالد لكنه جاء بصورة شرعية تمام على خلاف ما تقره هويته المزيفة.. وإن شاء الله في الفصل السابع الأمور هتتضح أكثر.

Hend fayed 02-11-19 06:32 PM

وعليكِ سلام الله ورحمته وبركاته..
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة **منى لطيفي (نصر الدين )** (المشاركة 14578386)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
واخيرا اتممت الفصول القصة الصراحة معقدة وغامضة
بشكل مذهل. يعني مررت من توقعات كثيرة ووضعت
وجهات نظر متعددة حتى فوجئت في الأخير بحل عقدة
الثلاثي يوسف وزيد وصخر....
اذن خالد الجبالي تزوج من ليال التركية وخرج من طوع ابيه والعائلة الذين لا يتزوجون من خارج العائلة ويعتبر قانون صارم لانني لا اظن بتاتا بان خالد قد يخوض في علاقة محرمة ... وحين طلق ليال من اجل والده
اخفت عنه الأخيرة انها حامل بل وتزوجت من معتز في امريكا ونسبت الابن له لكن هنا اتساءل هل معتز علم ومع ذلك اقترف حراما وتزوج من ليال وهي حامل ام انه لم يعلم وتزوج من مطلقة على حد علمه وعلم بعد ذلك أو كيف هي القضية تحديدا في إنتظار حل ذلك اللغز الذي اول مخطئ فيه هي ليال حين اخفت عن خالد حملها الذي نتج عنه صخر الذي وللصدفة القدرية عاد وهو مراهق حين علم بحقيقته الصادمة لكي يرى اهله الحقيقين فجاء على موعد مع الثأر الذي اخذ شخصين وكان سيأخذ التالت لولا تدخل صخر لينقذ احد ابني عمه سليم...وكان سيكون هو ايضا ضحية للثأر اللعين سبب اللعنة الملاحقة للعائلة من طرف اللعين فؤاد الذي استغل تلك اللعنة لينفذ انتقامه من عائلة الجبالي والذي لا اعرف له سبب بعد مع انني اشك ان له علاقة بليال التركية لذلك والد خالد يرفض سماحه وهنا أتساءل كيف
سيتقبل حفيده صخر وهو الذي ضحى لينقذ حفيده من الموت ثم حماهم من بعيد بكل افرادهم ويضحي ليومهم هذا في سبيل حماية العائلة هل كل ذلك سيشفع له امام جده ويتقبله أم انه سيظل على رفضه الذي كان واضحا فيه؟؟؟؟
هناك مواضيع اخرى جانبية مثل رقية الجبالي والدة شمس لماذا وللمرة الأولى يوافقون على تزويجها لرجل من خارج العائلة وهنا ايضا يحضر اسم خالد الجبالي اخوها و هو صديق وشريك والد شمس فلماذا يا ترى ومن كان الآخر الذي خيروها به ؟؟ حتى تقرر الفرار العظيم في مقاطعة عائلتها؟

في انتظار باقي الأحداث الشيقة تحياتي لك.

بالنسبة لموضوع زواج رقية/ كانت الفرصة الأفضل لها في الزواج هي الاقتران بأكرم رغم أنه متزوج من ابنة عمه في المقام الأول والسبب في تدخل خالد ظهر على ما اظن ولو بشكل مبهم في نهاية الفصل السابع حين أقر خالد بأنه فعل الكثير ابتغاء أن يصفح له والده الذلة القديمة التي فعلها رغم أنه ما كان داخليا راضيا على إجبار اخته من الزواج برجل غريب عنهم.
أما صخر/ من قال أنه كان عائد للتعرف على عائلته وقتما صادفه القدر بالثأر القديم بين عائلته وفؤاد؟؟؟
زيارة صخر كان مرتب لها منذ البداية.. ما السبب لها؟؟؟ ومن الذي رتب لها؟؟؟ هذا ما سنعرفه في الفصول القادمة.
وبالنسبة لحمل ليال/ هي لم تخفي عن خالد حملها منذ البداية لكن كيف اليوم لا يعلم خالد بأن له ولد من الأساس ولم يبحث عنه؟؟؟ هذا ما سينكشف في الفصل السابع أي القادم بإذن الله.
لغز حملها سوف تنكشف عقدته رويدا.. رويدا مظهرا السبب في اخفائه وأيضًا ردا ومواجهة صارمة على خطئها في النهاية.

أرجو إني أكون أجبت عن استفساراتك أستاذتي وسعيدة بحصولي على أطول تعليق من حضرتك😍

Hend fayed 05-11-19 05:40 PM

سُلاف الفُؤاد
 
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد؛
|| الفصل السابع ||

صباحًا / في فيلا الجياد
كان صخر يعد حقيبته في اللحظة التي دخلت عليه نغم تقدم خطوة وتؤخر أخرى حتى وصلت إليه فقالت بخفوت: " لا داع لسفرك يا صخر أنا... أنا لن أحاول الإقتراب من يوسف مجددا و... "
قاطعها صخر وهو يقول بصوت عميق: " لستِ السبب يا نغم.. كل ما حدث كان خطئي أنا "
تشبثت بذراعه وهي تقول بندم: " أنا آسفة يا صخر لم أقصد أبدًا أن اؤذيك بما قلته لك قبل يومين "
رد صخر بإحباط: " لم تخطئي في شيء.. أنتِ محقة يا نغم أنا فاقدا لأصلي وهويتي وفاقد الشيء لا يعطيه (قطب بألم وهو يكمل) كيف كنت سأمنحها هوية لا أمتلكها من الأساس؟ كيف حييت لسنوات أفتخر بنسبي لعائلة لست منها؟ "
هتفت نغم بأسى: " بلى أنت منها يا صخر.. أنت منا... من عائلة الجياد "
رفع حاجبيه باستخفاف ساخر رغم ما بداخله من وجع وحرقة وهو يقول: " ولماذا إذن أشعر بنفسي غريبا عنكم؟ أشعر بأني لا أنتمي لكم "
شعر بدخول أمه فاستدار يواجهها وهو يسألها بقسوة: " صِفيه لي أمي.. أ هو جاحدا مثلي؟ حقيرا مثلي؟ مخادعا مثلي؟ نذلا وجبانا مثلي؟ كيف هو أخبريني؟ "
كانت ليال تهز رأسها سلبا ودموعها تنساب على وجنتيها بغزارة فقال هو بتعجب ساخر: " إذن أنا لا أنتمي له هو الآخر فيبدو أنه أفضل مني رغم كل ما فعله.. (صاح فجأة بشراسة يكمل) ترى ممن ورثت كل ما بي من عيوب إذن؟ ابن من أنا وما هي هويتي وماذا يكون أصلي وأين هي جذوري؟ من أنا؟ "
ردت ليال من بين بكائها: " تعلم جيدا ابن من تكون ومن أنت "
صرخ بحدة: " لا تقولي أنني ابن معتز الجياد فأنا لست إبنه وهو ليس أبي "
قطبت ليال تتصنع القوة وهي ترد: " لم أقل هذا فهناك من الحقائق ما لا نستطيع أن نبدلها مهما حاولنا "
سألها بصبر: " أخبريني إذن ابن من أكون؟ "
ردت بألم: " أنت تعلم "
هز رأسه بعصبية وهو يصرخ: " أريد أن أسمعها منكِ يا أمي.. منكِ أنتِ بالذات.. انطقيها مرة أخيرة علها تريحني بعدها "
صاحت نغم بمرارة: " لماذا توجعها يا صخر؟ أرجوك أترك هذا الأمر ودعنا نتابع حياتنا من حيث توقفنا "
هدر صخر بغضب: " حياتي أنا من توقفت.. توقفت للأبد يا نغم أشعر بها إنتهت تماما.. كنت سابقا أشعر بالضياع لكني اليوم... اليوم فقدت القدرة على الشعور بأي شيء حتى الضياع فقدت الحق في الشعور به.. إن كان هناك ما يجب أن تتيقنوا منه فهو أنني مُت "
هتفت ليال إسمه بلوعة في اللحظة التي وطأت قدمي يوسف باب جناح صخر
تمتم يوسف بيأس: " ما به هذا المجنون؟ "
ولم يكد يخطو خطوة واحدة للداخل حتى سمره صراخ صخر الذي ينبض بالقهر في مكانه وهو يقول هادرا: " انطقيها يا أمي واريحيني.. أحتاج لسماعها منكِ أكثر من أي شيء آخر في حياتي.. إبن من أنا؟ من هو أبي؟ "
ردت ليال بحرقة ودون شعور: " أنت إبن خالد عبد الرحمن الجبالي "
جحظت عيني يوسف بصدمة وهو يشعر بأنه سيفقد وعيه من هول ما سمع، في نفس اللحظة اندفع صخر للخارج فكاد يصطدم به
وقفا متقابلين أمام بعضهما يوسف كان كورقة ضعيفة في مهب الريح بينما صخر كان كمارد ضخم وحشي الهيئة والنظرات
غمغم يوسف بدون وعي: " أنت ابن عمي "
قهقه صخر فجأة صادما الجميع وهو يقول بفحيح ساخر: " أثبت ما تقول إن استطعت ولعلمك فقط لن تستطع "
صاح يوسف بذهول وكأنه يتأكد مما سمع: " كيف تكون إبن عمي خالد ولا أحد يعلم بهذا الأمر؟ "
رمش صخر ببراءة تنافي شراسة ملامحه في تلك اللحظة وهو يقول: " وهل قلت أنني إبنه؟ يبدو أنك تتوهم سماع أشياء غريبة يا دكتور "
صرخ يوسف بإنفعال: " أنا لستُ مجنوناً "
إبتسم صخر ببرود قائلا: " ولم أقل هذا أيضًا "
تحرك صخر للخارج فسأله يوسف: " إلى أين أنت ذاهب؟ "
رد صخر بتهكم دون أن يقف: " إلى المريخ "
***

وضع صخر حقيبته في السيارة ثم تقدم من سيف ومصطفى يقول: " يمكنكما أن تغادرا من الفيلا وقتما شئتما أنا لن أعود و... "
قاطعه مصطفى ببرود مصطنع: " سنكون في إنتظار عودتك يا باشا ورجاء خاص مني لا تتأخر كثيرا حتى لا تفقأ نغم هانم مرارتي "
نظر سيف إلى أخيه باستهجان بينما الأخير يكمل بلامبالاة: " لا تقلق عليها سأجعل سيف يعتني بها فهو طويل البال وسأهتم أنا بليال هانم "
رمقه صخر بغموض وهو يقول: " لا أعرف لماذا لم اقتلك حتى اللحظة؟ "
رد مصطفى بسماجة: " لأنك تحبني يا باشا "
تنهد صخر بإحباط وهو يقول: " أراكما يوما ما إن شاء الرحمن على خير "
قبل أن يبتعد صخر سأله سيف: " ماذا تريدنا أن نفعل بشأن نبض هانم؟ "
رد صخر بجمود: " لا تفعلا شيء.. الهانم أصبحت حرة وهي الآن بين يدي من سيعتني بها جيدا "
قال مصطفى باستفزاز: " يبدو أنك تثق بالسيد قاسم كثيرا يا باشا "
فرد صخر بغموض: " أكثر مما ينبغي أن أفعل في الحقيقة "
***

في بيت فاطمة
ضرب قاسم بقبضته على المنضدة التي يتجمعون حولها وهو يصيح: " لا تراوغ يا آدم.. أنت تعرفه جيدا وقلت بنفسك أنه صديقك "
زفر آدم بحنق وهو يقول: " ورغم ذلك لن أخبركم بأي شيء يخصه في غيابه "
صاح قاسم بضيق: " لا أريد أن أعرف سوا مكانه "
هتف آدم بغيظ: " لما لا تسأل زوجته فهي أدرى بمكان زوجها؟ "
ضرب قاسم على المنضدة من جديد وهو يصيح بحدة: " لا تقل زوجها فذلك الحقير خدعها وتزوجها بهوية مزيفة "
قطب آدم بعدم فهم وهو يقول: " يبدو أن الأمور تداخلت في رأسك يا قاسم "
ابتسم قاسم ساخرا وهو يقول: " يبدو أنك أنت من لا تعرف صديقك حقا يا آدم.. أنا أتحدث عن صخر معتز الجياد "
حاد آدم بنظراته إلى نبض التي كانت تجلس على الكرسي المجاور لقاسم فقال: " من أين أتيتِ بهذه الخرافات؟ "
ردت عليه بخفوت كئيب: " من صديقك وإن لم تكن تصدقني يمكنك أن تهاتف يوسف... صديقك الآخر وتتأكد منه من صحة خرافاتي "
عبس آدم وهو يلتقط هاتفه مغمغما: " بالطبع سأهاتفه لأثبت لكم أن ما تقولونه لا أثر له من الصحة "
قال ياسين مزدردا ريقه وهو يحاول إخفاء لهفته لسماع صوت ابن عمه: " فَعِل مكبر الصوت نريد أن نتأكد بأنفسنا إذا كانت خرافات كما تقول أم لا؟ "
نفذ آدم ما قاله ياسين وبمجرد أن فُتِحَ الخط وقبل أن يتفوه بحرف سبقه يوسف وهو يصرخ بإندفاع: " هل كنت تعلم أن صخر ابن عمي؟ "
صاح آدم بعدم فهم: " صخر من؟ "
هتف يوسف بإنفعال: " آدم ليس هذا وقت مزاحك.. أتكلم عن صخر الجياد "
رد آدم بتشتت: " إن كان صخر الجياد فكيف يكون إبن عمك؟ "
زفر يوسف وهو يقول: " صخر ليس ابن الدكتور معتز الجياد "
سأل آدم ببلاهة: " إبن من إذن؟ "
رد يوسف بذهول لم يخرج منه بعد: " إبن عمي "
هبت نبض من مكانها شاهقة بعنف وهي تنظر إلى قاسم بصدمة وإدراك بينما سأل آدم بحذر: " عمك من؟ "
رد يوسف ونبض في صوت واحد: " عمي خالد "
تعلقت أنظار الجميع بها في صدمة فتمتمت هي بشحوب: " هذا يفسر سبب عصبيته وقت سمع فرح وهي تخبرني بأن عمي خالد ينتظرني في المجلس "
صاح يوسف حينما وصله صوت نبض: " نبض هل أنتِ بخير؟ "
هزت نبض رأسها سلبا وقد بدأت العبرات تطفر من مقلتيها وهي تحتضن نفسها بذراعيها متمتمة بحرقة: " أنا ضائعة "
نظر ياسين إلى أخيه بذهول وهو يقول: " لنا أخ "
شهق يوسف فجأة وهو يسب غاضبا: " تبا لك يا آدم أين أنت؟ "
رد آدم وهو يشعر بالغباء: " في بيت العمة فاطمة "
سأله يوسف بأنفاس لاهثة: " من معك؟ "
رد آدم ساخرا وهو يتطلع في الوجوه الشاحبة أمامه: " أمامي مباشرة أخين أبلهين اكتشفا للتو أن لهما أخا رابعا لا يعرفان عنه شيء وإلى جوارهما قطة صغيرة ترتجف ضياعا وتختض لوعة عليك أنت وصخر بعدما خدعتماها.. وفي الزاوية تجلس ملك تبكيك أو تبكي حسرة على حبيبها الذي يحترق لا أعلم بالضبط على أيهما تبكي؟ وعمتك فاطمة تدعو لكما رغم أنكما لا تستحقان صراحة "
أغلق بعدها آدم الهاتف دون إنتظار رد يوسف ونهض من مكانه قائلا بوجوم: " عرفت صخر من خلال يوسف واخفيت عنكم ما أعرفه عن يوسف بأمر من أبي وجدي عبد الرحمن والآن لا أعرف عن أيهما أكثر مما عرفتموه "
شعر آدم بالحزن والشفقة وهو يتطلع إلى قاسم الذي بدى كتمثال مصنوع من الجليد، وجهه شاحب وعينيه مثبتتان على نقطة في الفراغ بنظرات واجمة أما ياسين فقد بدى كالأبله وهو فاغرا فاهه جاحظ العينين وصدمته فيما سمعه تخط معالمها على وجهه بوضوح
نظر إلى العمة فاطمة بحسرة لما آل له الأمر فلم يجد حالها بأفضل من البقية لكنها على عكسهم كانت متماسكة وهي تقول بهدوء ظاهري: " لنا حديث بخصوص هذا الموضوع في دار الجبالي بعد ساعة.. أخبر والدك بهذا بني "
اومأ آدم بصمت ثم تنهد بقلة حيلة وهو ينسحب من تلك الجلسة مغادرا بيت العمة فاطمة
فتحت ملك فمها بذهول باك تقول: " عمتي أنا لا أصدق ما حدث أشعر وكأننا داخل كابوس "
ردت فاطمة بوجوم: " ليته يكون كما تشعرين به يا ملاك وإلا طالت الجميع خسائر مهولة.. أجارنا الله منها "
***

في المساء / دار الجبالي
كانا قاسم وياسين لا يزالان على جلستهما الصامتة منذ اجتمعت العائلة من صغيرها إلى كبيرها بعدما حضرت شمس بأمر من جدها على وجه السرعة بصحبة والدها وأخيها بالإضافة إلى حضور صالح وولده آدم والعمة فاطمة
كل هؤلاء كانوا يجلسون في صمت وكأن على رؤوسهم الطير بينما أخذت العمة فاطمة تقص عليهم ما جرى بالتفصيل دون أن تتجاهل ذكر أي كلمة مهما بدت عديمة النفع وبعد قليل تحول الصمت فجأة إلى شهقات تعبر عن صدمتهم ودموع غزيرة تظهر فرحهم بالخبر وهمهمات بالحمد والشكر لله الرحيم بهم
أنهت العمة فاطمة حديثها قائلة: " هذا ما يتعلق بيوسف ابن الحبيبة الغالية رحمها الله لكن هناك أمر آخر "
تكلمت فرح بحماس وهي تبتسم بسعادة: " لا شيء آخر مهم يا عمتي.. يوسف هو الأهم... "
قاطعتها العمة فاطمة بهَمّ وهي تقول: " بل هناك الأهم من ذلك "
قطبت فرح متعجبة وهي تقول: " أهم من حقيقة أن يوسف إبن عمي حيّ "
تنهدت فاطمة قبل أن تجيبها: " نعم بنيتي هناك ما هو أهم من كون يوسف حيّ فهناك من كاد عمره يفنى قبل أن يكتشف ذاته الحقيقية "
سادت بعض الهمهمات الدالة على عدم فهمهم لما تقول فرفعت بصرها إلى خالد تسأله بغموض: " قل لي يا أبا قاسم.. أ هناك ما تخفيه عنا؟ "
قطب خالد قليلا وهو يقول: " أنا! بالطبع لا فماذا سأخفي عنكم؟ "
ضيقت عينيها قليلا وهي تنظر إلى الحاج عبد الرحمن قائلة بغموض: " إذن أنتَ تعلم يا حاج بما يخفيه طالما يتحدث أبا قاسم بثقة كعادته "
بدت الحيرة على وجه عبد الرحمن وهو يقول: " لا أفهم ما تقصدينه يا أم حبيبة "
رمقت فاطمة قاسم وياسين بشفقة قبل أن ترد بهدوء وتريث: " لا يحق لنا أن نظن أن كل حدث وقع في الماضي دُفن مع الزمن فهناك بعضا من أفعالنا تظل تطاردنا وإن مرت عليها عصور ودهور كالأبناء مثلًا.. حتى وإن تنكرت لهم يظل أثرهم يطاردك لآخر العمر خاصة حينما يكونون كجبال أوتادها راسخة لا تهزها أقوى الرياح "
ران الصمت والاهتمام على الجميع وهي تكمل حديثها بينما كانت تنقل بصرها بين عبد الرحمن وخالد وكأنها تريد الولوج إلى تفكيرهما في هذه اللحظة: " قد أتفهم كثير من الأمور، اتسامح فيها وأبرر أسبابها بل وأختلق لبعضها الحجج لكن ما لا أفهمه أبدًا كيف يتنكر الوالد من ولده حتى وإن لم يكن له رغبة فيه؟ أي قوة تلك التي يمتلكها لتجعله يفعل شيء كهذا؟ "
قطب خالد بترقب وهو يقول: " ماذا تقصدين بالضبط يا أم حبيبة؟ لماذا أشعر بأنكِ توجهين لي إتهام لسبب أجهله؟ "
نظرت له فاطمة بقوة وهي تقول: " أوَ تجهل السبب حقا يا أبا قاسم؟ أم أقول يا أبا صخر "
ردد خالد بعبوس حائر: " صخر! من صخر هذا؟ "
قطبت فاطمة بإحباط وهي تقول: " لا حول ولا قوة إلا بالله.. أوَ تجرؤ أيضًا على النكران؟ "
ظنته فاطمة ينكر وظن هو أنه يتوهم ما يسمعه منها فصاح بإنفعال: " ماذا تقولين يا أم حبيبة؟ ما الذي أنكره لا أفهم؟ "
ردت فاطمة بعبوس: " تنكر أن لكَ ولدا اسمه صخر "
هب خالد من مكانه كالملسوع وهو يهتف بذهول حقيقي: " ولد! من أين جاءتكِ تلك الوساوس يا أم حبيبة؟ "
لم ترد فاطمة بكلمة بينما تدخلت ملك تقول: " يوسف من أخبرنا يا عمي "
صاح خالد بعصبية: " يبدو أنه يهذي.. كيف يكون لي ولد ولا أعرفه؟ ومن أين جاء هذا الولد المزعوم من الأساس؟ "
فجأة تكلم عبد الرحمن بصوت قاتم غامض موجها الحديث لابنه وحديثهما الأخير بشأن عثرة الماضي يصدح جليا في الأفق: " هل كانت حاملا وقتها؟ "
إلتفت خالد مصدوما ينظر إلى والده ولسانه دون إرادته يجيب: " أمرتها أن تجهضه "
قطب عبد الرحمن بغضب مكبوت وهو يقول: " وهل تأكدت بنفسك من أنها فعلت؟ "
حرك خالد رأسه سلبا وهو يقول بخفوت شاحب الوجه من الصدمة وهول الخبر: " لقد سافرت مباشرة بعدما طلقتها ولم أعرف عنها أي شيء بعدها بأمرك "
أخيرا خرج قاسم عن صمته وهو يسأل والده بصوت بارد لا حياة فيه: " متى فعلتها يا أبي؟ قبل أن تتزوج بأمي أم... أم بعدما تزوجتها؟ "
رد خالد وشحوبه يزداد: " بعد زواجي منها بثلاثة أعوام "
رمش قاسم لوهلة وهو يقول بصوت حمل غصة خانقة: " إذن لازلت أنا ولدك البكري يا أبي لكن... لكني قصرت في رعاية أخ لي كما لم أفعل مع أحد من قبل وذلك بسبب اخفائك أمر بهذه الأهمية عنا "
رد خالد بصوت هارب منه: " لم أكن أعرف بوجوده.. أنا... ظننتها أجهضته.. ليال لم تكن تلك المرأة المولعة بالأطفال وأنا... "
هب ياسين فجأة يقول: " وأنت ماذا يا أبي؟ تدعي الفضيلة أمامنا وأنت في جوفك تحمل من الضعف ما لا يليق بالرجال... "
" ياااسين "
أخرسته صرخة قاسم الجهورية باسمه وبترت جملته التي كانت تحمل المزيد من الشتائم والتطاول على والده
هذا هو ياسين دومًا لسانه يسبق عقله واندفاعه يسبق صبره وحكمته.
وقف ياسين يلهث بأنفاس هادرة غاضبة ومشاعر متأججة بالقهر قبل أن يدفعه قاسم بخشونة إلى خارج المجلس وهو يقول: " ستستمع إلينا وأنت تقف أمام الباب فبعد وقاحتك تلك لا مكان لك بيننا اللحظة حتى تتعلم التحكم في أعصابك... ولسانك "
كتم ياسين شهقة كادت أن تفلت منه وهو يقول بعينين دامعتين: " قاسم أنا أحترق "
رد قاسم وهو ينظر إلى عمق عينيه: " أعلم فأنا الآخر على وشك الانفجار "
ازدرد ياسين ريقه بصعوبة بالغة هو يقول بتحشرج: " دعني أبقى ولن أفتح فمي بكلمة "
هز قاسم رأسه سلبا وهو يقول بصلابة: " لن تستطيع السكوت وتمالك أعصابك وأنا لن أسمح لك بأن تهين والدنا لا أمام أحد ولا حتى أمام نفسه لذا فخروجك هو الأفضل "
أنهى جملته وهو يغلق الباب في وجه ياسين الذي استدار ببطء قبل أن ينزلق ملامسا الجدار جالسا على الأرض وهو يترك العنان لدموعه تنساب كما تشاء دون أن يبالي بأن يراه أحد
بعد خروج ياسين وعودة الصمت سألت فرح بصدمة: " أنا لا أفهم شيء يا أبي.. من ليال هذه؟ ومن صخر؟ هل لي أخا حقا؟ "
كان رد خالد الوحيد قبل أن يلتزم مجلسه وصمته من جديد: " لا أعلم "
بعد صمت طويل سألت شمس بتوتر: " نحتاج إلى توضيح أكثر يا جدي فإن كان ما يدعيه يوسف حق بأن لنا ابن عم فمن حقنا أن نتعرف عليه "
رد عبد الرحمن بحدة يقول: " لطالما كانت وصمة العار الوحيدة في حياته كلها تلك المرأة ال... "
قاطعه خالد بضعف: " أبي أرجوك "
هتف عبد الرحمن غاضبا: " ألازلت تحب تلك المرأة الرخيصة؟ "
وضع خالد رأسه مستندة بين كفيه في قهر وهو يقول من بين أسنانه: " بالله عليك يا أبي لا تزد "
أجفل الجميع على صوت عصا عبد الرحمن وهي تدك الأرض بغضب مع ارتفاع صوت صاحبها وهو يهدر: " إذن لم أنجح في انتزاعها من قلبك كما كنت أظن.. لازلت غارقا في عشقها الذي لم تستطع أن تتخلص منه بعد "
تمتم خالد ببؤس: " رُحماك يارب "
أشار عبد الرحمن فجأة الى آدم يقول: " هاتف يوسف حالا وأخبره أن... "
" رغم أنك تأخرت كثيرا في الإفراج عني من السجن الذي وضعتني فيه قبل عشر سنوات لكني حضرت بنفسي ولا حاجة لأن تسألني عن شيء عبر الهاتف يا جدي "
تعالت همهمات الجميع بكلمة واحدة واسم واحد رددوه في صوت واحد ذاهل: " يوسف "
اومأ يوسف بخفة وهو يفتح ذراعيه قائلا بفكاهة لا تليق بالحدث: " بشحمه ولحمه، جملة وتفصيلا "
تسمر الجميع للحظات قبل أن ينهضوا فجأة وكأنهم للتو أصابهم الفواق بأن من أمامهم هو يوسف حقا
يوسف الابن الغائب
ابن العم الذي كان في اعتقادهم تحت الثرى
الأخ والتوأم الحبيب
الحفيد القريب للقلب
والصديق الصدوق
قبل أن يتحرك أحد إليه قال بحزم: " لا سلام قبل إستكمال الجلسة والوصول إلى حل.. نحن في مأزق حقيقي يا سادة "
التزموا جميعا أماكنهم بالفعل وكل واحد منهم يطالعه بلهفة ويكتم مشاعر اشتياقه إليه حتى يصلوا إلى نتيجة في تلك الورطة التي ظهرت لهم من العدم
اقترب يوسف وجلس إلى جوار نبض التي كانت تتخذ من إحدى الأرائك البعيدة نسبيا عنهم مجلسا لها
أشاحت بوجهها عنه على الفور دون أن توجه له كلمة واحدة ولتكن عتاب كما تمنى
تنهد هو قائلا بخفوت إلى جوار أذنها: " هل سيحدث شيء إن سمحنا لدكتور معتز بسماع ما نقول؟ "
نظرت إلى يده التي تحمل هاتفه بفهم قبل أن تتمتم بخفوت رغما عنها: " أخشى أن يتلفظ جدي عبد الرحمن بما يسيء إليه "
طمأنها بالقول: " لا تخافي هو من طلب مني ذلك وبالتأكيد سيتفهم سبب انفعال جدي.. دكتور معتز حكيم وعاقل "
تمتمت بتنهيد: " أفعل ما تشاء "
شغل يوسف الصوت الذي كان قد كتمه قبل دخوله إلى المجلس فأصبح معتز يسمع ما يقولون على الجانب الآخر من خلال هذا الاتصال الذي بينه وبين يوسف
خلال بضعة دقائق حدثت مشادة كلامية قوية بين عبد الرحمن وولده خالد وسط صمت الجميع حتى هتف خالد فجأة بقهر لم يكن فيه يومًا: " ما ذنبي أني أحببتها؟ لطالما أحببتها قبل أن اتزوج من ابنة عمي واخبرتك برغبتي فيها لكنك رفضت يا أبي كالكثير من الأمور التي كنت اطلبها فترفضها دون أن تناقشني فيها حتى "
نهض من مكانه وهو يكمل بحرقة: " إن كنت تريد إلقاء اللوم على أحد فها أنا أمامك إرمه عليّ وحدي كالعادة ولن أجادلك في هذا لأنني أستحق.. أنا من تزوجت على زوجتي ولم أستطع أن امنحها قلبي، أنا من سعيت خلف حلم كان يمثل لي كل ألوان الحياة وحينما حققته أتيت على غفلة يا أبي وانتزعته مني "
ضرب على صدره وهو يتابع: " أنا من استغليت سذاجتها وبراءتها وأوهمتها بأنني لم أتزوج بعد وبأنني باقٍ على حبي لها.. نعم كذبت في أول شيء لكنني لم أكذب في الثاني "
طفرت عينيه بعبرات حاول منعها من السقوط وهو يضيف المزيد بقهر تأصل في نبرة صوته: " أسبوع واحد.. فقط أسبوع وكما دخلت جنتها غفلة خرجت منها على غفلة أيضًا.. أتذكُر حينما علمت يا أبي ماذا فعلت بي؟ "
قطب جبينه بغضب مكبوت وهو يقول: " لطمتني على وجهي كطفل صغير أمامها وصرخت في وجهي بأني حقير.. وضعتني في مواجهة صعبة وأنت تخيرني بين أن أطلقها وأعود لعائلتي وزوجتي وابني وبين... وبين أن أظل معها شرط أن أطلق ابنة عمي وفي المقابل أنسى أنني رجل من عائلة الجبالي وأن لي ولد من الأساس "
صر خالد على أسنانه بقوة حتى كاد يطحنها وهو يكمل بصوت ينبض بالغيظ والندم: " لم يكن أمامي إلا أن أختار عائلتي وأعود صاغرا معك في نفس اللحظة كما أمرتني.. طلقتها وتركت معها كل ما كان لها عندي وعدتُ معك يا أبي رجل بلا قلب لأنني كنت تركته معها هو الآخر فهي الأحق بممتلكاتها مني "
فرت دمعة حارة رغما عنه وهو يشير إلى قاسم بينما يوجه حديثه لوالده: " عدتُ لأجله.. لأنني لم أستطع احتمال فكرة أن أخسر ولدي حتى وإن كان من المرأة التي تزوجتها غصبا بأمر من أبي حتى لا يصدر فرمانا سريعا بطردي من العائلة.. أنظر يا أبي لما جنيته بيدي اللحظة؟ أنظر إلى ما خسرته أنا في المقابل "
نكس رأسه بقهر وانكسار وهو يقول: " في تلك اللحظة أشعر بأنني ما خسرت قلبي فقط منذ سنوات بل إنني خسرت روحي أيضًا.. خسارة الولد ليست بالخسارة الهينة يا أبي وأنت تعلم ذلك وتعلم كيف أن مذاقها كالعلقم؟ "
وسط سكون الجو ووجوم الجميع صدحت شهقة حادة بدت أن صاحبتها لم تتحكم في كتمها أكثر من ذلك وتلاها انفجارها في البكاء
كان يوسف يطالعها متألما لحالها ولا يقو على فعل شيء لها وبعد لحظات نهضت نبض من مكانها واقتربت من خالد ببطء حتى أصبحت تقف قبالته فقالت بصوت مختنق رغم نبرته الحانية: " صخر شاب رائع.. فخر لأي عائلة وأي أب.. هو قاسي قليلا لكنه حنون جدا.. رجل على حق سيسعدك التعرف عليه "
طالعتها ملك بذهول أقرب إلى الصدمة لا تصدق بأن نبض هي من تتحدث عن صخر بهذه الطريقة الحنونة الودودة وكأنه بالأمس فقط لم تكتشف خداعه وكذبه عليها
أما قاسم ورغم طوفان المشاعر والأفكار التي تعصف في رأسه فقد أشفق عليها خاصة وهي تبدو على هذا النحو الرقيق الضعيف الذي يمس القلب ويتفتت له الحجر
رمشت قليلا قبل أن تقول بصوت مختنق باك: " إنه أحمق يقول بأن لا أب له.. ذاك الجاحد لا يعلم بأن له أب رائع مثلك عماه فأرجوك أثبت له أنه مخطئ "
تدخل يوسف يقول ساخرا: " هل تظنين الأمر بهذه السهولة يا نبض؟ صخر لن يتقبل عمي ببساطة؟ "
حدجته بنظرة حارقة وهي تربت على كتف خالد دون وعي وكأنها تواسيه وتقدم له دعمها بينما ترد على يوسف: " رغما عنه سيتقبله كما سأتقبله أنا في المقابل.. لا تنس بأن عمي خالد لم يكن يعلم بوجوده وهذه نقطة تحسب له أما ذاك الأحمق المتعجرف فقد خدعني وجرحني دون أن أؤذيه وهذه نقطة تحسب عليه "
ابتسم يوسف رغما عنه قائلًا: " بتِ تحسبين الأمور بطريقة عقلانية وتستغلين الثغرات لصالحكِ "
اومأت بتهكم وهي ترد بقهر: " يجب أن أفعل ذلك واستيقظ من غفلتي قبل أن يفكر أحد في خداعي من جديد.. أظن بأن الضربتين التي تلقيتهما منكَ أنتَ وصخر تكفياني العمر كله "
أطرق يوسف رأسه بندم بينما إلتفتت هي إلى خالد تقول بصلابة: " لم يفت الأوان لاسترجاعه بعد عماه.. أنا معك وسأظل معك حتى تجمع شمل أبنائك جميعا "
قبل أن يتكلم خالد سبقه والده وهو يقول بلهجة جافة: " ذلك الولد لن أعترف به أبدًا.. هو ليس منا كما لسنا منه "
أصدر عبد الرحمن حكمه دون تفكير، دون تحليل.. حكم صارم في إطلاقه ظالم في ظاهره وشديد القسوة والجور في باطنه.
قطبت نبض بغضب وحمائية لأجل صخر وهي تهتف: " يجب أن تقابله أولاً وتتعرف عليه قبل أن تصدر حكمك عليه يا جدي.. هذه هي العدالة "
هتف عبد الرحمن باستحقار: " لن أمنح ابن هذه المرأة الرخيصة شرف النسب لعائلة الجبالي "
تعالت الشهقات والهمهمات بين الجميع وهم يطالعون عبد الرحمن في صدمة من قسوته وحديثه الجارح في حق ليال بينما هتفت نبض: " أنتَ مخطئ يا جدي.. عمتي ليال امرأة شريفة ذات نسب تتشرف به أعرق العائلات كما أنني لا أصدق بأن امرأة على خُلقها قد تكون بهذه الحقارة التي تدعيها يا جدي "
أشار عبد الرحمن إليها بعصاة وهو يقول بغلظة مهينة: " أسكتِ أنتِ ولا تتدخلي فيما لا يخصكِ.. طفلة صغيرة مثلكِ لا تعي أمور كبيرة كهذه لا يحق لها أن تقف أمامي لتملي عليّ الصواب والخطأ "
قطبت قليلا وهي تقول بشجاعة: " هذا الأمر يخصني أكثر من أي شخص آخر يا جدي.. فإن كان صخر ابن عمي خالد فعلا فلابد أن يعترف به ويجد حلا لتلك المشكلة حتى يمنحه هويته الحقيقية كما يستحق.. هذا الأمر في غاية الأهمية بالنسبة لي شخصيا لأنني... لأنني زوجته "
صاح الجميع بصدمة بسؤال واحد: " ماذا؟ "
هدر يوسف فجأة قبل أن تتمكن نبض من الرد على سؤالهم: " أنت مجبر على تقبله يا جدي "
رفع عبد الرحمن حاجبا وهو يقول بحدة: " ومن ذاك الذي سيجبرني؟ "
رد يوسف وهو ينظر إلى جده ببرود مدعي: " أنت من ستجبر نفسك على تقبله يا جدي إن لم يكن لأنه حفيدك فلأجل أن ترد له جميل ما صنعه معي قبل عشر سنوات "
نظر زيد إلى أخيه بدهشة فأومأ يوسف بخفة وقد فهم سبب دهشته فقال: " نعم ما فهمته صحيح يا زيد.. صخر هو ذاك الصبي الذي ظهر فجأة وتلقى تلك الرصاصة الغادرة بدلا مني.. هو من كاد يخسر حياته في سبيل أن يحمي شخص لا يعرفه.. دفعته غريزته النقية لحمايتي دون أن يفكر في نفسه في المقام الأول كما يفعل الكثيرون "
قطب عبد الرحمن غير مصدقا ما يقول فتدخل سليم فجأة يقول بذهول: " أ تقصد أن ابن الدكتور معتز صديق دكتور مختار رحمه الله هو نفسه ذاك الصبي الذي تقول أنه ابن عمك خالد؟ "
تبسم يوسف بفكاهة لا تليق بالموقف وهو يرد: " لم يعد صبي يا أبي.. إنه في السابعة والعشرين من عمره الآن "
تمتمت نبض بخفوت: " سيكمل عامه السابع والعشرين في نهاية هذا الشهر "
هللت فرح فجأة مجفلة الجميع: " لي أخ.. سيكون لي أخ جديد.. يا لهناي! "
طالعتها شمس بذهول بينما قالت حفصة ببسمة حنونة: " وكأنه طفلا رضيعا ستلعبين معه! يوسف قال إنه في السابعة والعشرين "
صفقت فرح بجذل وهي تقول بسعادة غافلة عمن حولها: " ما يهمني أن لي أخا جديدا سيدللني وهكذا أكون أكثركن حظا.. يا لهناي! بات هناك حارسا جديدا في قصر الأميرة فرح "
فاجئتهم وهي تهرول للخارج متمتمة بحماس: " لابد أن أفكر سريعا في طريقة جيدة لاستقباله حينما يحضر.. يجب أن أرتب لكل شيء منذ اللحظة "
نظرت شمس إلى والدها تقول بخفوت: " هل جُنت؟ "
ابتسم أكرم دون تعقيب بينما قال زيد متأثرا بوجود أخيه وعودته بعد طول غياب: " يوسف محق يا جدي.. ما فعله صخر سيبقى جميل فوق رؤوسنا طوال العمر وأنا أرى أن أفضل طريقة لنرد جميله أن نمنحه ما يستحق "
نظر عبد الرحمن إلى سليم قائلا بسخط: " ما قولك فيما يهذي به ولديك؟ هل ستتخذ صفهما أنت أيضا؟ "
رد سليم بلطف: " يا أبي الحق أحق أن يتبع، وهذا ما تعلمناه منكَ.. المعروف الذي صنعه صخر مع يوسف يجبرني على الوقوف بصفه حتى وإن عارضتموه جميعا.. لا أستطيع أنا سوا تأييده ونصرته "
أشاح عبد الرحمن بوجهه غاضبا فتلاقت عينيه بعيني صديق عمره
كان صالح يمثل الجانب المستمع والمفكر في صمت.. منذ بداية الجلسة لم يحاول أن يتدخل أو يبدي رأيه أبداً حتى يعلم ما يفكر به الجميع لكن في هذه اللحظة شعر بأن عليه أن يخرج عن صمته أخيرا ويدلي بما توصل إليه
تنحنح صالح بهدوء وهو يقول: " ما أفهمه وتربينا عليه معا يا أبا خالد أن المولى سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز: 'بسم الله الرحمن الرحيم'
<< وَلَا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيءٌ وَلَو كَانَ ذَا قُربَى... >> |سورة فاطر|
فإن كان لديك أي تحفظ على طليقة ابنك فهذا لا يسمح لك بأن تعاقب ابنها على ذنبها لأن هذا ظلما له ولا يمس لحكم العدل بصلة.. فكر مليا في الأمر فقبل أن تطلق الأحكام فالولد يظل من دمك حتى وإن رفضت ذلك "
هدر عبد الرحمن بإقتضاب: " وما أدرانا أنها تقول الحق وهذا الولد من نسلنا حقا؟ ما أدرانا أن هذه ليست لعبة وضيعة منها؟ "
قطبت نبض تقول بتعجب حانق: " ولماذا برأيك ستضطر عمتي ليال لأن تحيك تلك اللعبة عليكم يا جدي؟ إنها امرأة متزوجة ولديها ابنة أخرى من زوجها وهي تحبه جداً "
توسعت عينيّ خالد بألم من تلك الضربة التي وجهتها له نبض دون أن تشعر وهو يقول بصوت لم يسمعه أحد: " تحبه جداً "
أكملت نبض تقول: " وعامة هناك فحص للحمض المنوي يسمى ال dna يمكن لعمي خالد أن يجريه هو وصخر حتى تتأكدوا من أنه ابنه بالفعل "
تدخل يوسف يقول بإحباط: " صخر سافر "
تمتمت نبض مصدومة: " سافر وتركني وحدي! "
بدأ ياسين يطرق على الباب ببعض العصبية وهو يقول بصوت حانق: " كفاكم كشفا لمصائب جديدة فلننتهي أولاً مما بين أيدينا الآن "
ران الصمت على الجميع لبضعة دقائق حتى قال صالح بمهادنة وهو ينظر إلى صديقه: " دعنا ننتظر حتى يعود الشاب من سفره لكي نجري ذلك الفحص حتى نتأكد وبعدها فليقدم الله ما فيه الخير يا أبا خالد.. لا تتعجل الأمور "
كانت كلمات صالح كجملة ختامية بعد مقال طويل استمر لساعات عصيبة بين مد وجزر
***

بعد شهر / في إسطنبول
كان صخر ينام على الأريكة في غرفة جدته ملتحفا ببؤسه وسُحب ضياعه ليقي نفسه من برودة الجو التي تنبعث من صميم روحه
منذ دقائق وهو يستمع إلى تلك الترنيمات الخافتة التي تتمتم بها جدته والتي تتمتع بصوت عذب لم ينال منه الزمن
سكتت التمتمات فجأة وتبعها صوت جدته تقول بتنهيد: " مللت تجاهلك وأنت تتصنع النوم يا ولد.. تعال إلى هنا حالا "
زفر صخر بإحباط وهو يزيح ذراعه عن رأسه ويستقيم بتكاسل عن الأريكة متقدما من فراش جدته بهدوء حتى جلس إلى جوارها قائلا: " أوامرك جلنار هانم "
عبست في وجهه بطفولية وهي تقول بلكنة عربية متكسرة: " لماذا تتصنع النوم يا ولد؟ هل مللت مجالستي؟ "
رمقها صخر بإحباط وهو يغمغم: " دعينا أولاً نتفق على شيء وهو أنكِ فاشلة جدا في التحدث بالعربية لذلك أرجوكِ لا تحاولي التحدث بها مجددا حتى لا تفسدين لغتي "
ضربته على رأسه وهي تتمتم بغيظ: " ولد وقح، قليل الأدب والحياء "
إبتسم وهو يقول بسماجة: " شكرا جلنار هانم لكني لا أحب أن يمتدحني أحد "
تأففت جلنار كطفلة صغيرة وهي تقول: " لا أصدق أن ابنتي الرقيقة الجميلة أنجبت هذا الثور؟ ياربي لطفك "
رد صخر بلامبالاة وهو يقول: " ليس هذا فحسب بل وأنجبت متشردة أخرى تشبه العفاريت "
شهقت جلنار بقوة وهي تقول: " متشردة تشبه العفاريت.. هل تقصد صغيرتي نغم؟ "
غمغم صخر ببرود: " ظلمها من سماها نغم بل كان يجب تسميتها فزع "
شهقت جلنار من جديد وهي تقول: " فزع! "
كتم ضحكة كادت تفلت منه وهو يرى مظاهر الرعب تتجلى بالفعل على وجه جدته وهي تضع يدها على صدرها
طرق شخص ما الباب بخفة ثم دخل قبل أن يمنحه أحد الإذن حتى وتقدمت شذى من فراش الجدة بخفة وهي تقول بمشاكسة: " بدأت أغار من حفيدكِ جلنار هانم منذ حضر وهو يستحوذ على جل وقتكِ بالكامل "
ابتسمت جلنار بحنان وهي تربت على ذراعه بينما تقول: " يحق لكِ أن تغاري "
جلست شذى إلى جوار جدتها وهي تخاطب صخر قائلة: " لم تخبرنا يا صخر لكم من الوقت ستظل معنا هنا؟ "
رد صخر بهدوء: " لم أقرر بعد "
قالت شذى بحماس: " أتمنى أن تطيل البقاء هذه المرة فأمامنا الكثير من الأمور يمكننا أن نفعلها معا "
لم يرد صخر بينما يحدث نفسه: " أين أنتِ يا نغم؟ لكم أحتاجكِ في هذه اللحظة لتكفي يدي شذى عني "
تبادلوا الحديث لبعض الوقت حتى قالت جلنار بعبوس: " أكملا حديثكما خارج غرفتي.. أريد أن أرتاح "
عبس صخر بقرف مصطنع وهو يستقيم على قدميه بينما يقول: " وكأنكِ تطردينني من الجنة يا جلنار؟ أنتم لا تمتلكون أبسط قواعد الذوق في حسن استقبال ضيوفكم حتى "
زمت جلنار شفتيها وهي ترد: " دع الذوق لأصحابه فأنا أعاملك بالطريقة التي تفهمها يا ولد.. أنت جلف ولا تفلح معك سوا هذه الطريقة الجافة "
رفع حاجبيه ساخرا وهو يقول: " من الجميل أن أجد من يفهمني أخيرا.. يبدو أنني سأطيل البقاء حقا "
خرج بعدها وهو يضع كفيه في جيبي بنطاله متمتما بتحية خافتة فلحقت به شذى وهي تغلق باب غرفة جدتهما قبل أن تقول: " إلى أين أنت ذاهب؟ "
رد صخر دون أن يتوقف عن متابعة سيره: " إلى غرفتي أحتاج الى الراحة أنا الآخر.. أراكِ في المساء إن شاء الله "
لحقت به من جديد بسرعة وهي تمسك بمرفقه قائلة بدلال رقيق: " يمكنني أن أجلس إلى جوارك حتى تنام فأنا لا أشعر بالنعاس وقد استيقظت قبل وقت قصير "
نظر صخر إلى يدها المتشبثة به قبل أن يرفع عينيه إليها قائلا بتهكم: " أنا لا أخاف النوم في غرفة وحدي، ولا أحتاج لمن يهدهدني حتى أنام، ولا أحب سماع قصص ما قبل النوم.. أخبريني إذن لما قد أسمح لكِ بأن تجلسين إلى جواري حتى أنام؟ "
رفعت يدها الأخرى تضعها على صدره وهي تقول بخفوت لاهث يحمل الرجاء: " صخر أنا أريدك وأنت تعلم ذلك لكنك لا تمنحني أي فرصة.. لما لا تدعني أقترب منك كما أريد لأمنحك ما تستحق؟ "
أغمض عينيه بيأس وهو يشعر بها تقترب منه أكثر ولا يعلم كيف يصدها؟
وللمرة الثانية يتمنى حقا لو كانت نغم أتت معه إلى هنا.
ما هذا الحظ البائس إنه لم ينته من ريم بعد حتى ظهرت له شذى وهذه الأخيرة لا يريد جرحها إحتراما لصلة الرحم بينهما
صلة لا يبدو أنها تبالي بها كما يفعل هو
فتح عينيه ببطء ونظر إلى عينيها الخضراواتين وهو يقول بصوت هادئ جاد: " اسمعيني شذى.. أنتِ لستِ ابنة خالتي فحسب بل أنتِ إنسانة غالية عليّ وما تطلبينه أمر صعب لا سبيل لتحقيقه سوا بالزواج وأنا... "
قاطعته بلهفة وأمل تقول: " إذن دعنا نتزوج أنا أحبك ويمكنني جعلك تحبني في بضعة أيام كل ما أحتاجه منك أن تمنحني فرصة.. فقط فرصة واحدة يا صخر "
زفر بإحباط وهو يقول: " دعيني أكمل كلامي من فضلكِ "
نظرت له بترقب فتابع بلطف: " شذى أنا لا أملك ما أقدمه لكِ أو لأي فتاة أخرى ولا أريد أن أظلمكِ معي فأنت تستحقين الأفضل.. وصدقيني أنا لستُ الأفضل لكِ وأبداً لن أكون "
ردت بهيام دون أن تيأس: " أنا أحبك "
فرد هو بإندفاع دون أن يشعر حتى بما يقول: " وأنا أحب أخرى "
قطبت شذى بضيق وهي تسأله: " لكنك قلت أنك لا تملك ما تمنحه لي أو لأي فتاة أخرى "
تنهد بعمق وهو يقول بصوت مرهق: " لم أعد أملك المزيد بالفعل لأنني سبق وقدمت كل ما أملك لتلك الفتاة التي أحببتها "
سألته بغل: " من تكون؟ "
رد ببساطة حتى ينهي هذا النقاش: " نبض "
شهقت بصدمة أخرستها للحظات قبل أن تهدر بحقد شديد: " هل فضلت تلك الطفلة الحمقاء عليّ أنا؟ "
رفع صخر حاجبا وقد تصلبت ملامحه بجمود وهو يرد: " لم تكوني يوما ضمن مخططاتي يا شذى ولم أضع نبض أبدا في منافسة مع أخرى لأنها بالطبع كانت ستربح في كل مرة.. لم أفضلها عليكِ أنتِ أو غيركِ لكنني ببساطة منحتها ما أملك لأنها تستحق "
صمت لحظة ثم قال وكأنه يريد أن يجرحها علها تبتعد عنه وتنسى تلك الأوهام التي تعيش فيها: " إنها زوجتي "
شهقت شذى من الصدمة وظلت للحظات طويلة تطالعه بشراسة ثم هدرت فجأة بصوت مرتفع: " زواجكما باطلا.. كيف تدعي الفضيلة وأنت تقيم معها علاقة محرمة.. أ نسيت أنك لا تمتلك هوية... "
قاطعها صوت جلنار فجأة وهي تقف عند باب غرفتها: " كفى شذى "
إلتفتت شذى إلى جدتها تقول: " أنا لا أقول شيئا خاطئا.. أليس..."
قاطعتها جلنار من جديد وهي تقول بحزم: " لا أريد سماع كلمة أخرى منكِ.. اذهبي إلى غرفتكِ وأنت صخر تعال.. هناك ما يجب أن نتحدث فيه "
رد صخر بإرهاق من بين أسنانه: " انتظري حتى الصباح فأنا متعب وأحتاج للراحة الآن "
قطبت جلنار بعناد تقول: " لا.. سنتحدث الآن "
أطرق رأسه يزفر بيأس وهو يغمغم بخفوت: " يا إلهي! نبض أخرى في عنادها وتعنتها "
***

أخبرها صخر بإيجاز عما حدث في الفترة الأخيرة وكانت جلنار كعادتها مستمعة جيدة لم تحاول أن تقاطعه حتى سكت هو من تلقاء نفسه فقالت بهدوء تام: " لم يكن عليك الهرب من الساحة قبل أن تنتهي المعركة فإما تنتصر على خصمك أو تُهزم وفي هذه الحالة تفكر في طريقة أخرى لتحقق النصر في آخر الأمر "
أطرق رأسه بإحباط وهو يرد: " هذه المرة الأمر مختلف.. أنا أحارب في أكثر من اتجاه ولسوء حظي جميعهم ضدي "
سألته بترقب: " وماذا عن نبض؟ "
رد بشرود: " إنها أصعب معاركي وأخشى أن أُهزم فيها.. خسارتها لا يمكنني تعويضها بأي شخص "
قالت جلنار بحنان: " يبدو أنك تحبها حقا "
رفع عينيه إليها يقول بصوت عميق: " لا أعرف لكنني على تمام الثقة بأن الحب لم يُخلَق إلا لأجلها وحدها؟ "
وضعت يدها على كتفه وهي تقول: " لن تقف ضدك.. نبض ستدعمك "
سألها مقطبا حاجبيه: " وما أدراكِ؟ "
رفعت حاجبها بمكر وهي تجيبه: " مُحال أن تتخلى الفرس عن فارسها وقتما يحتاجها حتى وإن أساء إليها يومًا.. إن كان فرسك أصيل فلا تخف ستظل في قلبه حتى الأبد لأنك راعيه "
أطرق رأسه وهو يتخلل خصلات شعره قائلا بمناكفة: " الآن فقط اكتشفت من يدفعني دفعا إلى الغرور والعجرفة "
ابتسمت جلنار بفخر وهي تقول: " تليق بك ثم إنك صخر وكفى ولهذا تستحق كل وأي شيء "
قهقه صخر برضا وهو يقول: " لهذا السبب ألجأ إليكِ بعد كل هزيمة تلحق بي.. ثقتكِ بي تمنحني شعورا رائعا وكأنني فارسا بحق كما تصفينني "
ربتت على رأسه وهي تقول: " لا تقلق وقودك لدي.. كلما شعرت بأن مخزونك قارب على النفاذ تعال إلى هنا لتشحن طاقتك ومن ثم تعاود الرجوع إلى ساحة القتال.. أريدك أن تبشرني دومًا بانتصارك لا أحب رؤيتك يومًا مهزوما "
رفع رأسه بغتة يقول: " لما لا تأتِ معي وتحاولين اقناعها؟ نبض ستسمع منكِ أنا واثق "
قطبت بحيرة تسأله: " ولماذا أنت واثق بهذا القدر؟ "
رد ببساطة: " لأنها رقيقة خجولة ستُحرج منكِ ولن تستطيع معكِ الجدال أو العناد "
أمسك يديها برجاء يقول: " ستفعلينها لأجلي يا جلنار أليس كذلك؟ "
رفعت حاجبا وهي تقول: " على شرط أن تمنحني حفيد في أقرب وقت "
شحب وجهه وهو يرد: " عن أي حفيد تتحدثين يا جلنار أنا لا أملك هوية أتزوج نبض بها؟ "
قطبت ببرود تقول: " هذه مشكلتك وحدك "
فعبس بضيق يسألها: " ماذا تريدين بالضبط؟ "
ردت بهدوء حذر: " أريدك أن تترك الماضي للماضي وتبحث عن ذاتك.. أريدك أن تحيا حاضرك في سلام وتخطط لمستقبلك كما يفعل أي بشر سوي "
جز على أسنانه بقوة وهو يقول بنبرة غاضبة: " كيف تقولين هذا وأنتِ أدرى الناس بما حل بي بسبب هذا الماضي؟ أخبريني جدتي أي إنسان سوي هذا الذي سأبحث عنه وأنا على هذا النحو المعقد من البشر؟ "
تنهدت جلنار في كآبة وهي تقول: " وحتى متى ستظل معقدا هكذا؟ لابد أن تتخذ خطوة نحو المستقبل إن كنت تريد أن تحيا حياتك مع نبض حقا كما تقول.. لن تملكها بين يديك قبل أن تحصل على هويتك المفقودة وإن ظللت عنيدا لهذا الحد فأنا أؤكد لك أنك ستخسر نبض فهي لن تنتظرك العمر كله "
فتح فمه ليرد حينما سبقه صوت هاتفه ذو الرنين المكتوم وشاشته تضوي بإسم سعد
قطب للحظة بتفكير سريع قبل أن يرفع الهاتف إلى أذنه وهو يرد بهدوء: " السلام عليك "
رد سعد التحية بنفس الهدوء: " وعليك السلام.. عندي لك خبر جديد "
سأل صخر بترقب موجز: " أسمعك "
رد سعد: " فؤاد يجهز لصفقة سلاح سيعقدها خلال الشهر المقبل مع إحدى التجار في الخارج "
رمق صخر جلنار بغموض فوجدها تعبس مغتاظة لأنها لم تفهم أكثر ما قاله سعد بينما الأخير كان يكمل حديثه: " أظن أنه بات يشك بي في الفترة الأخيرة "
قطب صخر بضيق وهو يقول: " لماذا؟ ماذا فعلت حتى جعلته يشك فيكَ؟ "
رد سعد بخشونة: " بالطبع لم أفعل شيء هل تظنني أحمق، لكنه بات حذرا تجاهي منذ تلك المرة التي أمرني فيها بقتل ابن الجبالية؟ "
تكلم صخر بهدوء حذر: " سعد أنت أخبرته ما اتفقنا عليه أليس كذلك؟ "
أكد سعد كلامه وهو يقول بصدق: " بلى أخبرته ما حدث دون أن أكذب عليه واختزلت مما جرى ما وجدته لا يخصه "
زفر صخر براحة وقد فهم ما يرمي إليه سعد من أنه أخبره عن الشجار الذي جرى بينهما تلك الليلة دون أن يخبره بأن هناك من يقايضه على ترك عائلة الجبالي في حالها مقابل أن يخبره عن قاتل والده الحقيقي
صمت صخر مفكرا فبادر سعد بالحديث يقول: " ماذا سنفعل؟ "
رد صخر بلامبالاة: " لا تشغل عقلك بهذا الأمر، دعه لي سأتصرف فيه أنا حتى لا تؤكد له شكوكه ضدك.. ما عليك إلا أن تخبرني بالتفاصيل حينما ترِدك "
رد سعد ببرود: " حسنا ومتى ستنفذ الجزء الخاص بك من اتفاقنا "
ابتسم صخر ابتسامة خطيرة وهو يقول: " حينما تبلغني بالتفاصيل سأخبرك عن القاتل وسأهديك دليلا قاطعا على ما أقول حتى لا تبحث طويلا خلف ما سأخبرك به وتضيع وقتك "
سأل سعد مترقبا: " في ذات الساعة أليس كذلك؟ "
رد صخر بغموض: " لا.. بل بعد أن تتم تلك الصفقة "
هدر سعد بضيق: " ولماذا عليّ انتظار كل هذا الوقت؟ هل تنوي أن تخلف عهدك معي؟ "
رد صخر ببرود مستفز: " سعد يا ابن حسين الناصر إن لم يكن في عائلتك كلها رجلاً واحداً يبقى على عهده فما ذنبي أنا لتتهمني هذا الاتهام الفظيع؟ أتعلم؟ لقد جرحتني حقا "
هدر سعد بخشونة: " أيها الغبي المتعجرف الذي لا أعرف له شكلا ولا هوية لا تحاول أن تمزح مع سعد الناصر حتى لا يغضب منك وأنت لا تعرف كيف يكون وقت غضبه؟ "
أصدر صخر صوتا متهكما وهو يستفزه بالقول: " بل أعرفه جيدا فالمرة الوحيدة التي قابلته فيها أوسعته ضربا حتى كاد يتوسلني الرحمة لأتوقف "
صاح سعد شاتما بوقاحة جعلت وجه صخر يحتقن غضبا قبل أن يهدر بحدة: " متخلف كعمك تماما لا تجيد التحدث بلطف ولا اختيار اللفظ المناسب للقول "
عاد سعد يشتم من جديد فأبعد صخر الهاتف عن أذنه وهو يغمغم بحنق: " من أين يحصل على تحديث قاموسه هذا المتخلف؟ ألا يوجد لديه سوا الشتائم؟ "
بعد لحظات قليلة أعاد الهاتف إلى أذنه وهو يقول بقرف: " أتمنى أن تكون انتهيت من وصلة السباب الخاصة بك سيد سعد آل الناصر فقد أصبت أذنيّ بتلوث سمعي فظيع وأظنهما يحتاجان لعلاج فوري حتى يتخلصان من تأثير شتائمك الوقحة "
قبل أن يرد سعد قالت جلنار مقطبة بشدة: " شتائم وقحة.. تقصد خادشة للحياء؟ "
اومأ صخر وهو يجيبها بمكر: " نعم الكثير مما يخدش الحياء "
جحظت عينيها بغضب وقد احتقن وجهها بشدة وهي تمد كفها منبسطا أمام صخر قائلة بحزم: " هات الهاتف "
كتم صخر ضحكته وهو يفكر أن قليلا من العبث والتسلية لن يضر فناولها الهاتف وهو يقول: " لكن احذري جلنار فهو كالتيس يقذف كلامه كالحجارة دون حساب "
رفعت جلنار حاجبا بعجرفة وهي تقول: " سترى كيف سأوقفه عند حده؟ "
اومأ صخر كاتما ضحكاته وهو يقول: " طبعا.. طبعا "
رفعت جلنار الهاتف إلى أذنها وبدأت مباشرة في سيل من الكلمات التركية التي كانت كلها توبيخ له على وقاحته وأسلوب غير المهذب في الحديث، كانت توبخه بطريقة يظن السامع لها أنها موجهة لطفل صغير وليس لرجل خشن الطباع كسعد الناصر
لم يستطع صخر كتم ضحكاته أكثر فخرجت كقهقهات مغردة أسعدت قلب جلنار وهي تعطيه الهاتف قائلة بإبتسامة طفولية واسعة: " انتهيت منه "
رفع صخر الهاتف إلى أذنه فبادره سعد يقول بذهول: " لمن كان الصوت السابق؟ لم أفهم كلمة واحدة سوا إسمي والذي كان بنبرة لم أسمعها من قبل بدت كصوت البلابل "
كتم صخر ضحكته بصعوبة وهو يتصنع الغضب قائلا: " أحترم نفسك أيها الثور هل تغازل جدتي؟ "
تكلم سعد مغمغما ببرود: " جدتك من؟ صوتك وحده يشير إلى أنك أكبر منها بعشر سنوات على الأقل "
رد صخر ببرود مقتضب: " لن أكررها لك سعد.. أحترم نفسك "
هدر سعد حانقا: " وهل نطقت يا بني آدم؟ "
تأفف صخر وهو ينهي حديثه قائلا: " سأنتظر التفاصيل.. سلام "
غمغم سعد: " عسى أن ينقضي أجلك قبلها حتى ارتاح من عجرفتك "
رفع صخر حاجبا وهو يقول بقرف: " هل تقول شيء يا سعد؟ "
تمتم سعد بخشونة: " سلام "
حينما وضع صخر الهاتف إلى جواره قالت جلنار بعبوس: " لم أحب هذا الولد أبدًا "
سأل صخر باسما: " لماذا يا جلنار هانم؟ "
ردت بنفس عبوسها الطفولي: " لا أحب أن أتكلم ولا يرد عليّ الطرف الآخر "
قهقه صخر وهو يرد: " حرام عليك يا جلنار أنتِ تظلمينه.. المسكين لم يفهم منكِ كلمة واحدة حتى فعلى أي شيء كان سيرد عليكِ؟ "
حركت كتفيها بخفة وهي تقول: " وماذا أفعل له أنا لا أجيد العربية؟ "
رد صخر بحنو: " لم يجبركِ أحد على تعلمها جلنار هانم رغم أن ابنتكِ تتحدثها بطلاقة تحسدها عليها نساء البلاد العربية كافة "
تبسمت جلنار بفخر وهي تقول: " ليال حبيبتي تحب أن تعرف كل شيء عن أي شيء.. ورثت ذلك عن والدها رحمه الله كان مثلها نهما في البحث عن كل ما يخص أي أمر يروق له "
تنهد صخر وهو يقول: " أنا ونغم ورثنا ذلك عنها أيضًا جدتي وليتنا ما ورثناه "
صمتت ليال دون أن تعقب بشيء بينما قطب صخر بألم وهو يكمل: " أتعلمين جدتي أنا اللحظة أتمنى لو لم تفعل أمي الكثير من الأمور، أولها لو أنها ما غادرت إسطنبول أبداً وسافرت لأي بلد آخر "
رفع بصره إليها وهو يتابع بصوت مختنق: " ليتها ما ألتقت بذاك الرجل ولا أحبته.. وليتكِ استطعتِ منعها من الزواج به "
ردت جلنار بشجن: " ليال صعبة المراس مستحيل أن تغير رأيها على شيء اختارته بكامل إرادتها وهي كانت تحبه "
هدر صخر بضيق وهو يهب من جلسته: " وماذا جنت هي من خلف هذا الحب يا جدتي؟ حطمت نفسها وظلمتني معها.. ما ذنبي أنا؟ هي من أحبته وليس أنا فلماذا إذن أنا من أتعذب وعليّ مواجهة الجميع حتى أظفر بما هو من حقي كأي إبن حر، شرعي؟ "
أطرقت جلنار رأسها بكآبة دون أن ترد وفجأة ضوت شاشة هاتفه برنين جديد فرمق الهاتف بجمود وهو يغلقه دون أن يرى هوية المتصل مغمغما: " لا أريد سماع أحد.. يكفيني ما أنا فيه.. تكفيني مصائبي "
***

في ذات اللحظة / في المدينة الجبلية
كانت تقبض على الهاتف بكفيها وهي تضمهما إلى صدرها والدموع تهطل من عينيها بحرقة كأشد ليالي الشتاء الممطرة
تشهق بين الفينة والأخرى وهي تبكي بنشيج مكتوم وبصرها مثبتا على قرص القمر المكتمل في بهاء
" كنت أريد أن اطمئن عليه فقط.. أردت أن أسمع صوته الذي اشتقته ولم أرد منه المزيد لكنه أغلق الهاتف في وجهي "
شهقت من جديد قبل أن تكمل: " لماذا أشعر بكل هذه الحرقة في داخلي وكأنه أغلق بابه في وجهي وليس هاتفه فحسب؟ "
رأت إحدى النجوم تضوي لوهلة قبل أن يخفت وهجها كالبقية من جديد فنظرت لها بعبوس تقول: " لا أمي لا تحاولي مواساتي تلك المرة لن تفلح معي كلماتكِ المهدئة.. يجب أن ألقن ذاك المتعجرف درسا قاسيا حتى يكف عن ازعاجي بطبعه المستفز هذا أنا... "
قاطعها صوت ياسين من خلفها يقول: " ما شاء الله هكذا تكون اكتملت عائلتنا المتخلفة.. مع من تحدثين يا مجنونة؟ "
إلتفتت نبض له تقول بغيظ: " إذا سمحت ياسين أغرب حالا عن وجهي فأنا بالكاد أحتمل نفسي "
رفع ياسين حاجبا بإستفزاز وهو يرد: " أنا أقف في ملك الحكومة.. إن لم يعجبكِ هذا قدمي شكواكِ إلى الجهات المختصة أنا لن أمنعكِ "
أشاحت بوجهها عنه في حنق وما هي إلا لحظات حتى انفجرت في البكاء بحرقة فرفع ياسين حاجبيه بذهول قبل أن يجلس إلى جوارها على الأرض قائلًا: " لماذا تبكين يا صغيرة؟ "
ردت من بين شهقات بكائها: " أخوك المتعجرف أغلق الهاتف في وجهي "
رفع يديه باستسلام وهو يقول: " ليس أخي أنا برئ منه "
رمقته مقطبة وهي تقول: " لماذا؟ "
رد ببساطة: " لأنه أبكاكِ "
رمشت نبض برقة وهي تبتسم قائلة: " لا أظنه قصد ذلك.. قد يكون رنين الهاتف ازعجه وهو نائم مثلا فأغلقه دون أن يرى هوية المتصل "
قطب ياسين متعجبا وهو يقول: " لماذا لازلتِ تلتمسين له العذر في كل شيء رغم ما فعله معكِ؟ "
ردت نبض بحنو: " لأنه وحيد وبحاجة لدعمي حتى لو لم يطلبه مني لكني أعلم أنه يحتاجه.. أحب أن ألتمس له العذر دومًا حتى لا أغضب منه فأنا لا أحب أن أكون غاضبة منه هو بالذات "
رفع ياسين حاجبا بمكر وهو يقول: " هل تحبينه لهذه الدرجة؟ "
فغرت فاهها بصدمة متمتمة: " أحبه! "
كتم ياسين ضحكته وهو يغير الموضوع حتى لا يحرجها فسألها: " إن لم تكوني غاضبة منه فلماذا كنتِ تبكين إذن؟ "
ردت نبض بخجل: " لأنني أشتقت إلى صوته كثيرًا "
ضيق ياسين عينيه وهو يسألها بمكر: " صوته فقط يا نبض أم هناك المزيد؟ "
نظرت له ببراءة وهي تقول: " ماذا تقصد؟ "
حرك كتفيه بخفة وهو يرد بلامبالاة: " لا شيء.. لا تفكري في كلامي كثيرًا فقد تفقدين الوعي من الخجل إن علمتِ قصدي "
عبست نبض وهي تقول: " هل ما تقصده وقح لهذه الدرجة؟ "
رد ياسين ببساطة مرحة: " بل أكثر وقاحة مما قد تظنين "
تخضب وجهها بحمرة الخجل وهي تشيحه بعيدا عنه بينما تابع هو: " لا أعرف ممن اكتسبت هذه الوقاحة صراحة لكنها تعجبني.. ألا تليق بي؟ "
نظرت له مقطبة بدهشة وهي تردد: " الوقاحة؟ "
اومأ إيجابا وهو يقول: " نعم "
ردت نبض كاتمة ضحكتها: " بلى تليق بك "
إبتسم ياسين برضا وهو يقول: " كنت أعرف.. أظن بأني أكون جذابا أكثر وأنا وقح أليس كذلك؟ "
اومأت برأسها بلا معنى وهي تحاول ألا تضحك حتى لا يغضب فتنهد ياسين متمتما: " كنت أعرف "
بعد لحظات من الصمت الطويل بينهما سألها ياسين بشجن: " أخبريني نبض كيف يكون هو؟ "
سألته نبض في المقابل مدعية عدم الفهم: " من تقصد؟ "
رد ياسين متنهدا: " أخي "
عقدت ساعديها أمام صدرها وهي تنظر أمامها بهدوء قائلة: " لماذا أتيت لتسألني أنا عنه في حين بإمكانك سؤال يوسف أو حتى العمة فاطمة؟ "
رد ياسين وهو يعقد ساعديه مثلها: " لا أعرف صراحة لكنني شعرت بأنني أحتاج لسماع ما أريد بخصوصه منكِ أنتِ.. أشعر بأنكِ ستخبريني بما لن تخبرني به العمة فاطمة ولا يوسف حتى "
رمشت بتعجب وهي تقول: " هذا يعني أنكَ تثق بي "
رد ياسين بتلقائية: " بالطبع أثق بكِ خاصة وقد منحكِ قاسم ثقته الكاملة "
تنهدت نبض وهي تقول بشجن: " أنا سعيدة بحصولي على عائلة رائعة مثل عائلتكم والتعرف على أناس طيبين مثلكم رغم تحفظي على بعض أفعالكم "
إبتسم ياسين إبتسامة جانبية باستخفاف قائلًا: " أنتِ لم ترِ شيء بعد.. في القريب العاجل سيكون لديكِ تحفظ على كل أفعالنا وليس البعض.. فقط انتظري وترقبي المزيد "
عبست نبض بحيرة وهي تقول: " أنت غريب جدا يا ياسين "
قطب ياسين وهو يقول: " لماذا؟ "
ردت بتلقائية: " بالأمس تطاولت على جدك واليوم على أبيك ورغم سخريتك الآن وأنت تتكلم معي إلا إنك لست كما تريد إظهار نفسك "
نظر لها بإهتمام بينما هي تكمل: " أنت لست وقحا كما تدعي ولست سيئا كما يظن البعض بعد ما فعلته مع جدك ووالدك.. لا أقول بأنك لست مخطئا في هذا ولكنك لست سيئا أبدًا "
إبتسم بتهكم وهو يقول: " لست سيئا! وبما تفسرين سيادتك قلة تهذيبي مع جدي وأبي؟ "
ردت ببساطة منطقها الذي تفهمه: " أنت كنت غاضبا، منزعجا مما سمعته وقتها وما دفعك لقول ما قلت دون تفكير كان غضبك وضيقك ليس إلا "
تنهد ياسين بإحباط وهو يقول: " تبسطين الأمر كثيرا يا نبض وتجعلينه أكثر تقبلا ومرونة مما هو عليه "
ردت بلطف: " هذا ما هو عليه بالفعل يا ياسين لكنكم من تميلون إلى التعقيد.. لو فقط تلتمسون الأعذار لبعضكم لكانت مشاكلكم تُحل بطريقة أبسط "
أغمض عينيه بقوة يخفي عنها بؤسه ويأسه وهو يقول: " أنتِ لا تعرفين شيء عن التماس الأعذار يا نبض.. لا تعرفين كم مرة التمست العذر لملاك حتى حظيت أخيراً بفرصة معها.. لا تعرفين كم مرة طلب قاسم الزواج من حياة وفي كل مرة كانت تجيبه بالرفض كان يلتمس لها العذر فيصبر أكثر ويمني نفسه بسماع موافقتها قريبا حتى طلبها من جدي أمامنا جميعا وفي حضور جدي صالح فرفضته.. لا تعلمين ماذا حدث له حينها؟ لا تعرفين حجم الإهانة التي شعر بها "
ترقرق الدمع في عينيها وهي تنظر له بشفقة بينما هو يكمل: " لا يغرنك هيئة رجال عائلتنا المتجبرة وكأنهم جبال حقا لا تهزها الريح ولا تقوى على مسها أيا من المخلوقات.. نحن في عمقنا يسكننا ضعف هو دافعنا الوحيد لكي نظهر بتلك الصورة القوية.. المظاهر خداعة يا نبض فإياكِ والوقوع في فخها "
ابتسمت نبض برقة وهي تقول: " أنت تشبهه في بعض الصفات فهو الآخر يسلك جانب السخرية حينما يريد إخفاء مشاعره الحقيقية عمن حوله "
فتح ياسين عينيه وهو يقول بمشاكسه: " من الأوسم بيننا؟ أنا أم ابن السيدة التركية؟ "
نظرت له نبض وهي تقول بصدق: " صخر لم يأخذ من عمتي ليال أي شيء.. إنه يشبهكم كثيرا "
كرر سؤاله بإصرار: " هل هو وسيم أكثر مني؟ "
ضيقت مقلتيها مفكرة وهي تستحضر صورة صخر من ذاكرتها بقامته المديدة وعرض منكبيه وجسده العضلي الرياضي الذي يناسبه بشكل جذاب وكأنه لا يخرج من مراكز اللياقة البدنية
تذكرت عينيه البنيتين اللتين تحترقان غضبا بعيدا عنها فلا تستطيع حتى أن تواسيه أو تخفف عنه ، وتذكرت ملامحه الرجولية الجذابة، لكنته التركية الراقية التي يلجأ إليها في بعض الأحيان حينما تفلت أعصابه ويغضب أكثر من الطبيعي، صوته القوي ونبرته الواثقة في غرور متأصل بشخصه ويليق به، وتذكرت أكثر ما يغيظها فيه وهو تلك الغرة الناعمة الطويلة التي تسقط أحيانا بشكل عفوي على جبينه فتكاد تخفي عينيه عنها
عبست فجأة فسألها ياسين بتعجب: " ما بكِ؟ أ لهذه الدرجة المقارنة بيننا صعبة؟ "
ردت بعفوية دون أن تشعر: " أكثر مما تظن.. إنه فارس بحق "
إبتسم ياسين باستخفاف وهو يقول: " طمأنتِ قلبي "
ابتسمت نبض بلطف وهي تقول: " لا أقصد التقليل من شأنك ولكن حينما تلتقي به ستدرك بنفسك صعوبة المقارنة بينه وبين أي شخص آخر "
تنهد ياسين بإحباط وهو يتمتم: " أتمنى فقط لو ينتهي هذا الكابوس في أسرع وقت.. فكلما طال الوقت زاد الجرح عمقا "
قطبت نبض برجاء رقيق وهي تقول: " أنت ستدعمه أليس كذلك؟ "
رمقها بطرف عينه وهو يقول: " قاسم ينتظر عودته على أحر من الجمر.. لا أعلم السبب في ذلك إن كان يريد قتله أم امتاع عينيه بالنظر إليه "
شعرت نبض بالفرح لأجل صخر وهي تقول: " فرح أيضا متحمسة لعودته وتريد رؤيته في أسرع وقت "
اومأ إيجابا وهو يرد بهدوء: " فتيات العائلة بأكملها متحمسات للقائه لتكتمل سعادتهن خاصة بعد عودة يوسف "
اتسعت ابتسامتها برقة وهي تقول: " وماذا عنك؟ "
أطرق رأسه بيأس قبل أن يجيبها: " لن أخفي عليكِ غضبي مما اكتشفناه لكنني أيضا أشعر كالجميع بالحماس للقائه.. أشعر وكأننا في انتظار عودة شخص مهم رحل وهاجر لسنوات بعيدا عنا واخيرا سيعود قريبا "
قبل أن تتكلم نبض تابع ياسين: " لكن جدي لازال رافضا له.. لا يريد رؤيته ولا منحه إسم عائلتنا "
رفعت نبض حاجبا بحماس وهي تقول: " سيتراجع عاجلا أو آجلا عن قراره ورفضه خاصة حينما يراكم جميعا تناصرون صخر وتؤيدون وجوده بينكم "
إبتسم ياسين بلطف وهو يقول: " أنتِ جوهرة يا نبض.. محظوظ أخي لأنكِ من نصيبه "
تخضبت وجنتيها خجلا ونهضت بخفة تقول: " شكرا لك ياسين.. تصبح على خير "
عبس فجأة بغيظ مصطنع وهو يقول: " لماذا تنادين قاسم ب 'أبيه' وأنا تنطقين إسمي مجردا؟ "
ردت نبض ببراءة: " أنت أصغر من صخر بعامين فكيف أناديك أبيه؟ "
رد ياسين ببرود: " وقاسم لا يكبره إلا بعامين "
ابتسمت نبض برقة وهي تقول: " لهذا أناديه أبيه لأنه الأكبر "
عبس ياسين مكتفا ساعديه أمام صدره وهو يقول بتذمر: " إذن ستنادين الجميع ب 'أبيه' عدا أنا وزيد "
ردت نبض بمشاكسة كاتمة ضحكاتها: " بل سأنادي الجميع ب 'أبيه' عداك أنت "
صاح ياسين بغيظ طفولي: " لماذا يا هانم؟ هل أنا ابن البطة السوداء؟ "
قهقهت نبض برقة قبل أن ترد عليه بإغاظة: " لأنك تكون أخا صخر الأصغر "
قطب بضيق يقول: " ويوسف؟ "
ردت ببساطة تغيظه: " منذ اليوم سأعامله مثل الجميع وسأناديه أبيه لكن أنت لا "
زفر بغيظ وهو يقول من بين أسنانه: " إذن سأطلب من أبيه صخر أن يجبركِ على منادتي كما الجميع "
رفعت حاجبا باستفزاز وهي تقول بتسلية قبل أن تتركه وتذهب: " سنرى "
***

ذات يوم / وقت الغروب
كانت نبض تسير إلى جوار حفصة تتسامران في جو من الألفة والود وكأنهما صديقتان منذ القِدم
ابتسمت حفصة وهي تفسر لها سبب الجدال الذي حدث قبل بضعة ساعات بين الجد عبد الرحمن وصديقه صالح في حين كانت نبض تستمع إليها بإنصات واهتمام شديد: " جدي ما أعتاد أن يجادله أحد في شيء.. أعتاد على أن تكون أوامره مُطاعة وألا يناقشه أحد فيها لهذا تجدين الأمر صعب عليه في تقبل رأي الآخرين لكنه ورغم ذلك لا يجبرنا أبداً على ما لا طاقة لنا به "
وضعت نبض كفيها في جيبي سترتها وهي ترد بإحباط: " وما الفائدة من عدم إجباره لكم على طاعة أمره يا حفصة؟ في الحالتين ستنفذون ما أمر به إرضاء له "
اومأت حفصة بخفة وهي تقول: " معكِ حق دومًا نفعل ذلك في الكثير من الأمور لكن في هذه الحالة التي نواجهها اليوم فالأمر مختلف "
توقفت نبض عن متابعة السير ونظرت لحفصة بإهتمام وهي تسألها: " كيف مختلف لا أفهم؟ "
ردت حفصة بهدوء: " هذا الأمر لا يخص شخص واحد منا وإنما يخص الجميع.. مسألة تقبل صخر كفرد من العائلة مسألة علينا جميعا إبداء الرأي فيها فالأمر ليس بالهين كما ترين لننصاع طائعين خلف أمر جدي هذه المرة خاصة وأن عمي سليم هو الآخر يرفض قرار جدي ويراه ظلما في حق صخر "
قطبت نبض بانزعاج وهي تقول: " بالطبع هو ظلما له، ولا أعلم سبب كل هذا الرفض "
ردت حفصة بإحباط: " جدي يعاقب السيدة ليال طليقة عمي خالد في شخص صخر ابنها.. يظن أنه لو رفض الاعتراف به ومنحه هويته كابن لعمي خالد فإنه بذلك يكون قد رد الصاع اثنين للسيدة ليال لزواجها من عمي خالد بدون رضاه "
هتفت نبض بغيظ وهي تشعر بالضيق من تعنت عبد الرحمن: "وما ذنبها عمتي ليال؟ في كلا الحالتين الخطأ يقع على عمي خالد وحده فهو من خدعها وكذب عليها حينما لم يخبرها بأنه متزوج من ابنة عمه وفي النهاية طلقها ورماها كبضاعة مستهلكة عديمة النفع دون أن يبالي بالجرح الذي سببه لها "
زفرت حفصة بيأس دون أن تعقب بشيء بينما تابعت نبض هتافها بغضب بدأ يظهر رويدا في نبرتها المنفعلة: " أتدرين حجم الإهانة التي شعرت بها عمتي ليال في تلك اللحظة؟ مرة لأنه خدعها ومرة لأنه رماها دون أن يفكر في مصيرها من بعده.. لقد أذلها يا حفصة بما فعل "
ردت حفصة بحمائية لأجل عمها: " هو لم يقصد أن يسبب لها أي ألم فكما أخبرنا هو كان يحبها كما أنه كان مجبرا على تركها ولم يكن لديه أي خيار آخر "
بلغت نبض من الغضب فجأة مبلغا خطيرا وهي تقول: " لذلك قرر بأن يضحي بالمرأة التي أحبته ومنحته كل ما تملك.. لذلك أمرها بتسلط أن تجهض طفلها قبل أن ترحل.. لذلك طلب منها أن تختفي من حياته وتنساه.. بالله عليكِ يا حفصة عن أي خيار تتحدثين؟ "
قطبت حفصة بينما تتابع نبض: " لا تقولين بأنه تركها لأجل ابنه فقط فسأقول لكِ بأنها هي الأخرى كانت تحمل طفله.. وباختياره لابنه الأول يكون قد خسر ابنه الثاني فأين العدل في هذا؟ "
تنهدت حفصة بيأس وهي تقول: " أتمنى أن يقتنع جدي بقرار عمي خالد سريعا قبل أن تتدهور الأمور أكثر من ذلك "
عبست نبض بجمود وهي تقول: " وأنا أتمنى أن تنبع تلك القناعة من داخله أولاً لأنه من الظلم أن يتخذ جانبا عدائيا تجاه صخر فهو لا يستحق منه ذلك "
***

في دار فؤاد الناصر
كانت النقاشات لازالت محتدمة بين الجميع وخاصة بعد اكتشاف فؤاد وأتباعه أن يوسف الجبالي لم يُقتل ذاك اليوم كما كانوا يعتقدون
وقف سعد في ركن بعيد عنهم وهو يتحدث في الهاتف بعصبية قائلا: " لم يصلني الخبر إلا منذ ساعة ولو كنت أعرف قبلها بالطبع كنت أخبرتك "
ضرب صخر على الناحية الأخرى قبضته في الحائط وهو يقول بغضب: " ذاك الأحمق لا أعرف ما الذي دفعه للعودة.. لم يحن الوقت لذلك بعد "
قطب سعد وهو يرمق عمه فؤاد الذي يكاد ينفجر من غضبه المكبوت قبل أن يقول بخفوت حذر: " إن كان ابن سليم الجبالي يهمك فعلا فلابد أن تتصرف سريعا لتخفيه لأن جانب عمي فؤاد غير مؤتمن "
قطب صخر بقلق وهو يقول: " ماذا تقصد؟ هل يخطط لأذية يوسف؟ "
رد سعد وهو ينظر لوجوه الرجال المكفهرة من حوله: " حتى اللحظة لم يقرر أي شيء بخصوصه لكنه يبدو كمن يفكر في نصب فخ له "
شد صخر على قبضته وهو يقول بتهديد من بين أسنانه: " لن أسمح له بأن يمس شعرة منه "
عبس سعد بانزعاج وهو يرد: " لا أفهم سبب اهتمامك المبالغ فيه بتلك العائلة.. لماذا تفعل لأجلهم كل هذا؟ "
غامت عينيّ صخر بقسوة مفرطة وهو يرد بغموض: " أريد أن اغرقهم بأفضالي حتى تحين اللحظة المناسبة التي اطالبهم فيها بسداد ديونهم ودفع مقابل خدماتي لهم "
زفر سعد وهو يقول: " لا أفهم "
رمش صخر لوهلة قبل أن يقول بصوت جامد: " لا تشغل عقلك بكلامي ما أريده منك الآن أن تكن يقظا وتخبرني بمستجدات الأمور أولاً بأول حتى أقرر التصرف المناسب الذي سأتخذه مقابل ما سيخطط له فؤاد "
عبس سعد بضيق لنبرة الأمر التي كان صخر يحدثه بها ليستدرك الأخير صمت سعد بذكاء وهو يتابع بلطف: " سيكون هذا آخر معروف اطلبه منك قبل أن أخبرك بما تريد "
بإيجاز رد سعد: " حسنًا "
أغلق سعد هاتفه وعاد إلى مكانه بالقرب من عمه الذي سأله أحد اتباعه: " بما تأمرنا يا كبير؟ "
تكلم فؤاد بغضب من بين أسنانه: " يجب أن نؤجل أي خطوة لنا في هذا الموضوع حتى ننتهي من عملنا في الخارج أولاً "
تكلم آخر بخبث انعكس في نظراته: " لكنني أخشى أثناء انشغالنا بتلك الصفقة أن تسدد لنا عائلة الجبالي ضربة لم نكن نحسب لها حسابا "
رمق فؤاد ابن أخيه ببرود وهو يقول: " سيتكفل سعد بصد ضرباتهم حتى اتفرغ لهم "
رد سعد بهدوء ظاهري: " ولما لا أذهب أنا معك لعقد تلك الصفقة عماه؟ "
قطب فؤاد بضيق وهو يقول: " إن ذهبنا نحن الاثنان فمن سيبقى ليدافع عن الدار وصد عائلة الجبالي.. يجب أن يظل أحدنا هنا "
رد سعد بلامبالاة ظاهرية: " عائلة الجبالي على ما أعتقد لا تطعن في الظهر عماه.. لا أظنهم سيتهجمون على دارنا وهم يعلمون أنها تخلو من رجالها "
انزعج فؤاد من دفاع سعد عنهم فزجره بالقول: " وما أدراك بهم؟ تلك العائلة كالأفعى تجيد التلوي والزحف بمكر حتى تصل لمبتغاها ولن يجدوا فرصة أفضل من هذه ليتغلبوا علينا (ثم أكمل بحقد في سره) وخاصة ال... السيد المبجل خالد "
رد سعد ببروده المعتاد في سخرية مبطنة: " كما ترى عماه فأنت أدرى بطرق الأفاعي "
طلب فؤاد من أحد رجاله أن يعلم أصل الموضوع ويعرف كيف نجا ابن سليم الجبالي من تلك الرصاصة التي أصابته
في تلك اللحظات كان سعد يفكر شاردا في أمر آخر، أمر يتعلق بذاك الغريب الذي يساعده ويبذل قصارى جهده لحماية عائلة لا تمس له بصلة
للحظة شك سعد بأن ذاك الغريب هو يوسف نفسه لكن بعد ما حدث من مستجدات أيقن أن يوسف ليس إلا أحد الأشخاص الذين يتكفل ذاك الغريب بحمايتهم
وفجأة باغته فؤاد بالكلام وهو شارد: " لماذا لم تخبرني أن ريم على اتصال بك؟ "
رد سعد وقد استعاد بروده في لحظة: " ولماذا لم تسأل ابنتك هذا السؤال فكما ترى هي من طلبت التواصل معي وليس العكس؟ "
قطب فؤاد وهو يقول بضيق: " ولماذا أخفيت عني حقيقية نجاة ابن الجبالي؟ "
رد سعد بانزعاج: " وما هي مصلحتي من إخفاء أمر كهذا عنك؟ "
قال فؤاد بحنق من بين أسنانه: " اسأل نفسك "
تأفف سعد وهو يقول: " بالله عليك هل تشك بي بعد كل ما أفعله لأجلك؟ كيف تفكر في هذا حتى؟ "
قطب فؤاد وهو ينظر لابن أخيه بغموض قبل أن يقول: " إذن فسر لي ما يحدث "
صاح سعد بضيق: " هذا الكلام توجهه لابنتك وليس لي فهي وحدها من علمت بالأمر وهي من أخفته عنك.. علاقتي بهذا الموضوع كانت مقتصرة على إرسال رجلين من رجالنا لتنفيذ أمر ما تريده.. هي لم تخبرني عن السبب ولم تخبرني عمن تبحث خلفه من الأساس وأنا لم اسألها ولم أهتم "
عبس فؤاد وهو يتمتم بغيظ: " تلك الحقيرة كأمها.. تشبهها في المكر "
حدث سعد نفسه وهو يرمق عمه بتهكم: " وأنت ما شاء الله عليك مثالا في الوداعة "
بعد لحظات من التفكير قال فؤاد بإيجاز: " موعد سفري سيكون في الغد "
سأل سعد بهدوء: " في أي ساعة؟ "
ليرد فؤاد بتجهم: " قرابة الظهر "
فأومأ سعد دون تعقيب وعاد لشروده من جديد بينما عينيّ فؤاد كانت تتفحصانه بمكر وشك يتمنى أن يخيب وإلا فعاقبة ابن اخوه ستكون وخيمة كمن سبقوه فلا أحد يفكر في التلاعب بفؤاد الناصر ويربح أمامه أبدًا
***

العاصمة / في المشفى
كانت نغم تنتظر والدها في مكتبه لحين انتهائه من آخر حالة معه
نهضت بعد قليل من مكانها وتوجهت ناحية النافذة لتفتحها ثم وقفت أمامها تطالع الأفق وتراقب لحظات غروب الشمس
تذكرت في تلك اللحظة أن صخر هو الآخر يحب مشاهدة لحظات الغروب وتمنت لو كان هنا ليقفا معا متشابكي الأيدي وهما يطالعان قرص الشمس المتوهج وهو يهرب رويدا.. رويدا
كانت كئيبة الروح، محبطة من الداخل كما الخارج وقد انعكس ذاك جليا على ملامحها المرهقة
انفتح الباب بعد طرقة واحدة خفيفة عليه ليظهر أمامها يوسف، بدى متفاجئا مثلها تماما وهما يقفان أمام بعضهما ساكنين كالحجارة
كانت تطالعه بشوق فتكاد تنادي إسمه بلهفة وتركض إليه فرحة لتغمر نفسها بين ذراعيه لكن مرارة الواقع الذي باتت تعرف كل أبعاده كان يقف لها بالمرصاد فيجعلها تغيم بين شجونه مستسلمة لحكم القدر بحرمانها منه دون إعتراض أو جدال
أما هو فكان يطالعها بلهفة غريق أخيرا وصل إلى طوق النجاة، بشوق كان يؤلمه طيلة ثلاثة أشهر مروا عليه كقرن من الزمان
كانت هي أول من يستعيد سيطرته ويجد في نفسه طاقة للكلام، قالت ببرود: " مرحبا دكتور "
أفاقه صوتها من أفكاره الشاردة فرد عليها مرتبكا للوهلة الأولى: " أهلا آنسة نغم "
سألت بنفس البرود: " يبدو أنك كنت تريد أبي "
انزعج من برودها معه وود للحظة لو ضربها على رأسها حتى تعود إلى ما كانت عليه في السابق
حتى تعود لتلك الفتاة المغرورة التي كانت تغيظه بثقتها الشديدة في نفسها وفيما تملكه دون غيرها من النساء
حتى تعود لتلك الفتاة التي كانت تتبجح بملكيتها له ولو عن طريق كلام مبطن غير صريح
نحى كل أفكاره جانبا وهو يرد ببرود يماثلها: " برافو عليكِ.. أصبتِ الظن "
ردت بعجرفة: " هذا ليس غريبًا عليّ فأنا دائما ما أصيب "
قبل أن يتكلم تابعت ببرود وعجرفة: " أبي ليس هنا كما ترى.. يمكنك أن تغادر الآن وتعود بعد قليل "
توسعت عينيه قليلا تعجبا من وقاحتها معه لكنه لم يظهر انزعاجه وهو يقول بسخرية: " هل أعتبر أنكِ تطرديني بطريقة لبقة؟ "
ردت ببرود سقيعي مهين وهي تنظر إلى عينيه: " لو شئت طردك لأخبرتك بها بصراحة فلا حاجة لي بتلك العبارات المصطنعة والمقدمات التي لا معنى لها.. والآن يمكنك الانصراف "
شعر يوسف بالضيق فهتف بإنفعال شديد: " إلزمي حدودكِ نغم.. أنا لا أسمح لكِ بأن تخاطبيني بتلك الطريقة "
رفعت نغم حاجبا وهي ترد بإهانة: " من أنت لترفع صوتك عليّ؟ (شمخت بأنفها بغرور قبل أن تكمل) لا تنس مع من تتحدث "
جز على أسنانه غيظا منها بينما قالت هي بسخرية جارحة: " لن أسمح لك بأن تتخذ صلة الوصل التي اكتشفتها بينك وصخر في أن تتساهل وأنت تتعامل معي فأنا لحسن حظي لست من عائلتكم ولا أقبل بأي تباسط بيني وبين من هم أقل مني "
صرخ يوسف بغضب: " لقد تماديتِ كثيرا يا نغم فأحذري غضبي "
ضحكت نغم بسخرية قبل أن تنظر له باستخفاف وهي تقول: " دكتور يوسف سليم الجبالي أنا لا أخاف أحد والآن يمكنك أن تأخذ غضبك في يدك قبل أن تكرمني باختفائك عن ناظري قبل أن أريك أنا كيف يكون غضب نغم الجياد "
فتح يوسف فمه ليرد لكن دخول معتز اخرسه والأخير يسأل بحذر: " ماذا يحدث؟ هل كنتما تتشاجران؟ "
ردت نغم بتهكم: " أنا لا اتشاجر مع أحد أبي فأنا لست طفلة، لكن يمكنك أن تسأل دكتور يوسف فعلى ما اظن له رأي آخر في هذا الموضوع "
حدجها معتز بنظرة صارمة حتى تسكت فأطاعته على مضض بينما تمتم يوسف بكلمات غير مفهومة وهو يغادر الغرفة تتبعه شياطين غضبه
قطب معتز بضيق وهو يقول: " ما هذا الكلام يا نغم؟ لقد... "
قاطعته والدها بعصبية وهي تلتقط حقيبتها وتغادر هي الأخرى: " لا تشغل نفسك بنا يا أبي نستطيع حل مشاكلنا وحدنا "
غمغم معتز بدهشة بعد رحيل نغم: " أي مشاكل تلك التي تجمعها مع يوسف؟ يبدو أن هناك أمرا لا أعرفه يجري بينهما "
***

كان يوسف يسير بعصبية وهو يسب ويلعن في داخله حتى قطعت ريم طريقه فجأة وهي تبتسم بشماتة قائلة: " حمدا لله على عودتك للمداومة في المشفى دكتور يوسف الجبالي "
لمعت عينيّ يوسف بسعادة عجيبة وقد حصل على من سيفرغ فيها طاقته السلبية كاملة
رد بلامبالاة: " لم أكن أعلم أن الجميع سيشتاق إليّ خلال الأشهر الثلاثة الماضية التي تغيبت فيهم عن الدوام لهذا الحد "
اتسعت ابتسامتها وهي تقول: " أنت شخص عزيز علينا جدا دكتور يوسف "
رد يوسف باستخفاف: " وأنتِ أيضا عزيزة عليّ دكتورة ريم حتى أنني لم أستطع العودة للعاصمة قبل أن أرى وجه والدك مرة ثانية.. وتخيلي ماذا رأيت فيه؟ "
قطبت بحنق تقول: " ماذا؟ "
رد يوسف باستفزاز: " رأيتكِ أنتِ.. وكأن من يقف هناك كان أنتِ وليس هو.. لم أكن أعلم بأنكِ تشبهينه لهذه الدرجة "
عبست ريم وهي تسأله دون مراوغة: " أين صخر؟ لقد اختفى قبلك بأيام دون أن يبلغ أحد "
رد يوسف ببرود متعمد: " ومنذ متى وصخر يحتاج لأخذ الإذن من أحد أو إبلاغ أحد عن الجهة التي يقصدها؟ "
رفعت ريم حاجبا ببرود وهي تقول: " لكنك بالطبع تعلم فأنت صديقه "
رمقها يوسف بلامبالاة وهو يقول: " لا أعلم أين هو.. لقد اختفى فجأة دون أن يخبر أحد عن مكانه "
صاحت ريم بغيظ دون أن تشعر: " هل تريدني أن أصدق هذه الترهات؟ "
تأفف يوسف وهو يضع كفيه في جيبي بنطاله قائلا ببرود: " صدقي أو لا أنتِ حرة لكنني صدقا لا أعلم وحتى لو كنت أعرف مكانه ما كنت لأخبركِ عنه "
تمتمت ريم بغيظ: " إذن هو فعل ذلك ليتهرب مني "
قهقه يوسف على إثر حديثها وهو يقول بدهشة حقيقية: " هل تصدقين نفسكِ؟ هل تعتقدين حقا أن صخر اختفى بهذا الشكل ليتهرب منكِ؟ "
ردت بضيق من بين أسنانها: " لا أرى سببا آخر غير ذلك "
دمعت عينيّ يوسف من شدة ضحكه وهو يرفع كفه في وجهها ليسكتها بينما يقول: " أصمتِ بالله عليكِ سيتوقف قلبي من الضحك.. هذه أغرب مزحة سمعتها في حياتي "
حدجته ريم بغضب فقال يوسف باستهانة: " دكتورة ريم الناصر لا تمنحي نفسكِ قدرا أكبر مما أنتِ عليه بالنسبة لصخر.. هو لا يراكِ من الأساس لكي يتهرب منكِ فلا داعي لتوهمي نفسكِ بما لن يكون "
تركها بعد أن أتم حديثه متوجها إلى مكتبه بينما هي ضربت الأرض بقدمها بغيظ وهو تتمتم من بين أسنانها بغضب: " فلتعد أولا يا صخر وبعدها سأريك من هي ريم الناصر وأثبت لك أنك لي وحدي ولن تكن لامرأة غيري "
وعلى بعد خطوات كانت نغم تقف شاحبة الوجه، تشعر باشتعال روحها من الداخل وهي ترى يوسف يقف مع تلك المرأة التي تشبه الحرباء في خبثها وتلونها
شعرت بالغدر وكأنه غرس خنجرا مسموما في صميم قلبها بوقوفه مع تلك المرأة التي تبدو من نظراتها تبحث عن الكثير وتريد الأكثر وهو يبدو متباسطا معها لأبعد حد
فأجبرت نفسها على الإنسحاب بهدوء مرفوعة الهامة كما دخلت فلن تسمح ليوسف أو غيره بكسرها يكفي ما طال أمها على يد عمه ولا تستبعد أن تتكرر نفس القصة معها.. على يديه
***

بعد قليل / في دار الجبالي
جلست شمس على الكرسي المقابل له تتطلع فيه بعبوس وهي تقول: " أشعر وكأنك تخفي عنا جميعا أمراً ما "
رد زيد بإقتضاب: " قريبا سينكشف كل شيء لا تتعجلي الأحداث "
سألته بغموض: " لا تبدو فرحا بما علمناه بشأن ابن عمنا خالد "
جز زيد على أسنانه وهو يرد ببرود: " الأمر لا يعنيني من الأساس "
قطبت بانزعاج وهي تقول: " كيف تقول هذا؟ صخر ابن عمنا ووجوده بيننا أمر هام ويتعلق بنا جميعا وعليك أنت الآخر أن تساندنا في إقناع جدنا بهذا "
رد زيد بسخط: " يوما ما ستجدين جدكِ يضعنا واحدا تلو الآخر على الرف ويقرب منه ذاك الذي تريدين دعمه.. حينها سنصبح بلا فائدة وهو سيد الدار "
عبست شمس بضيق وهي تقول: " زيد لماذا تبدو عدائيا ناحيته بهذا الشكل؟ إنه لم يؤذيك في شيء "
هتف زيد بغيظ: " سيفعل قريبا حينما ينتزع مني مكانتي هنا "
توسعت عينيها بدهشة وهي تقول: " لا أصدق أنك تغار منه لهذا الحد.. هل تخشى أن يحتل مكانتك لدي جدنا؟ "
أشاح بوجهه عنها دون رد فتابعت هي: " ولماذا سيسعى لينتزع منك مكانتك أنت بالذات؟ ما الذي بينك وبينه لتجبره على فعل ذلك؟ "
رد بضيق: " لا شيء بالطبع.. أنا مثلي مثلكم لم أره من قبل ولم أكن أعلم عنه شيء "
رمش فجأة وتهدجت أنفاسه وهو يتذكر حديثه السابق مع يوسف وقد أخبره صراحة أن من حضر ليلة حناء حمزة وزهراء لم يكن هو بل كان صخر
أخبره يوسف أن فؤاد الناصر كان يخطط لقتله ظننا منه بأنه من يتسبب له في تلك الخسائر لكن صخر تصرف سريعا واستطاع أن يقمع محاولة فؤاد
أخبره أن صخر هو من وصل إلى عمران الناصر وهو من طلب بتأمين بيتا له حتى يحين الموعد المناسب لأن يلتقيه
اشرست ملامحه بغيظ وغيرة حارقة وهو يرى صخر بصورة الفارس الهمام الذي كرس حياته في الدفاع عن عائلة ترفض اليوم الإعتراف به ومنحه هويته التي هي من حقه
شعر بالكره والحقد عليه لسبب حتى هو لا يعرفه ولا يريد أن يعرفه من الأساس
ربتت شمس على كتفه بخفة حتى تنبهه إليها: " ما بكَ زيد؟ تبدو منزعجا "
ازدرد ريقه بضيق قبل أن يرد ببرود: " لا شيء.. أنا بخير "
تنهدت شمس وهي تقول: " ألن تخبرني عن سبب عدائيتك تجاه صخر؟ "
صاح زيد بإنفعال: " صخر.. صخر.. صخر ألا سيرة لنا لنتحدث فيها غير سيرة السيد صخر؟ "
أجفلت شمس من انفعاله المبالغ فردت بتوتر: " لم أقصد أن اضايقك "
تأفف زيد وهو يغير الموضوع قائلا: " جدي يريد العرس نهاية الشهر المقبل "
ردت بدون تفكير: " هل تتوقع أن يكون جدي يفكر في دعوة صخر لعرسنا ولم شمله بنا في مناسبة كهذه؟ "
هب زيد من جلسته وهو يصيح بغضب: " تبا لصخر هذا.. ما شأنه هو بعرسي؟ "
ردت شمس بإرتباك: " من الطبيعي أن يحضر... "
صاح زيد بصوت حاد يقاطعها: " لا.. لن يحضر هذا الكائن عرسي مهما حدث "
تجمع أبناء عمومته على إثر صوته المرتفع المنفعل ولسوء حظه كانا قاسم وياسين قد سمعاه وهو يسب صخر فتقدم الأخير منه بعصبية قابضا على تلابيبه وهو يصرخ غاضبا: " من هذا الذي تسبه؟ ما لك وماله أيها المغرور؟ "
صرخ زيد في المقابل: " أنا حر.. لا أريده في عرسي بل لا أريده أن يظهر أمامي في أي مكان.. أنا حتى غير واثق مما تدعون بأنه ابن عمي خالد "
هزه ياسين بعنف وهو يقول من بين أسنانه: " رأيك فيه لا يهمنا بالمرة.. أما عن حضوره للعرس فهذا يعود إليه وحده إن أراد الحضور فلن تستطيع منعه "
رد زيد باستخفاف: " ومن سيمنعني؟ "
قبل أن يرد ياسين بعصبية تكلم قاسم بصوت جامد واثق النبرات وهو يقف أمامهما بثبات واضعا كفيه في جيبي بنطاله: " أنا سأمنعك "
صاح زيد بوقاحة في وجهه: " فلتريني حينها أقصى ما لديك لكنني أؤكد لك بأنه لن يحضر عرسي.. جدي لن يسمح له بدخول الدار من الأساس وفي هذا أنا أسانده "
لكمه ياسين بقوة وهو يصيح: " أيها النذل ألا تقدر له المعروف الذي فعله لأجل أخيك على الأقل؟ "
هتف زيد بكره: " أنت قلتها بلسانك.. معروف فعله لأخي وليس لي.. كل منا عليه سداد ديونه بنفسه "
عبس حمزة وهو يناظره بضيق قائلا: " لم أكن أعلم أنك تحمل بداخلك كل هذا القدر من الكره والحقد والغيرة التي أعمت بصيرتك قبل بصرك "
في حين أشار أنس لأخته بأن تتبعه وانسحبا بهدوء تاركين أبناء العمومة وحدهم يفضون شجارهم
ابتسم قاسم إبتسامة صغيرة لكنها مسيطرة وهو يقول: " سأريك حينها ما قد أفعله لأجل أخي الأصغر لربما حينها فهمت أن الأخ يفترض به أن يضحي بحياته في سبيل إخوته بطيب خاطر دون أن ينظر للدين الذي يكبلهم أيهم كان السبب فيه؟ "
نظر قاسم لأخيه يقول بجمود: " اتركه ياسين ولا تهدر وقتك مع إنسان متبجح أناني مثله لن يُقدر ما تحاول أن تفهمه إياه "
لم يكن أحدهم لاحظ وجود نبض بعد حتى رفعت حاجبا باستفزاز وهي تقول بثقة: " ما تخشاه سيكون ويحدث عما قريب لذا يجب أن تحصن مكانتك وسلطانك جيدا فحين يأتي صخر سيكون من السهل عليه انتزاعه منك دون بذل أقل مجهود منه.. أتعلم السبب؟ (ابتسمت بترفع وهي تقول بفخر) لأنه الصخر.. اسأل أخوك عنه إن لم تكن تعلم من هو الصخر حقا؟ "
ثم إلتفتت إلى ياسين تقول برقة: " لقد أعدت ملاك اليوم العشاء بنفسها "
ابتسم ياسين بامتنان لها لأنها دافعت عن صخر بقوة في حين رمقها قاسم بفخر وهو يفكر بأن تلك القطة الصغيرة تثبت كل يوم أنها حقا تليق بصخر آل الجبالي الذي حتى الآن لازالت هيئته مجهولة بالنسبة لهم
***

بعد شهر آخر / قبيل الفجر
كانت نبض تقف في بهو الدار تفرك عينيها بقبضتيها كالأطفال بينما يقف قاسم أمامها بملامح جامدة ورغم ذلك خرج صوته مغلفا بالحنان واللطف على عكس ما تظهره ملامحه: " عذرا صغيرتي لأنني ايقظتكِ فجأة هكذا من النوم "
اومأت نبض برأسها بهزة بسيطة وهي تقول بصوت خفيض لازال أثر النوم عالقا به: " أخبرني أبيه هل هناك شيء ما حدث؟ "
تنهد قاسم وهو يرد: " لا صغيرتي لا شيء جديد "
طالعته ترمش بقوة لتطرد عنها النعاس وتستطيع التركيز معه وهي تقول: " إذن "
عبس بتفكير للحظة قبل أن يميل عليها فجأة ولعجبه لم تجفل منه ولم تتراجع للخلف بل ظلت ثابتة في مكانها تتطلع إليه وعلى ثغرها ترتسم بسمة رقيقة
قطب بغموض وهو يقول: " لستِ خائفة مني إذن "
اتسعت إبتسامتها وهي ترد عليه برقتها التي اعتادوها منها: " لا لست خائفة "
سألها بأمل ونبرته تحمل رجاء تعجبت منه: " هل تثقين بي؟ "
اومأت دون تردد أو أن تعقب بشيء آخر فتنهد براحة وهو يقول: " طمأنتيني يا نبض "
قطبت بحيرة وهي تسأله: " ماذا يحدث معك أبيه؟ "
تكلم بصوت مضطرب قليلا وكأنه طالب يقف أمام معلمه: " أنا أريد رقمه؟ "
عبست نبض بغيظ وهي تتمتم لنفسها: " لا أعرف ما الصعب في نطق إسمه؟ أولاً ياسين والآن أبيه قاسم "
ردت بهدوء: " من تقصد أبيه؟ "
تنهد قاسم وهو يقول: " أقصد صخر.. أنا أحتاج إلى الوصول إليه في أسرع وقت "
ردت نبض بشجن: " كيف ستصل له أبيه؟ صخر خارج البلاد "
قطب قاسم وهو يقول بشك: " وما أدراكِ بأنه خارج البلاد هل تعلمين مكانه؟ "
أطرقت نبض رأسها وهي تشعر بالبؤس قبل أن تقول: " نعم "
هتف قاسم بتعجب: " كيف تعرفين وقد أخبرنا يوسف أن أمه شخصيا لا تعرف مكانه؟ "
ردت بصوت خافت: " جدته هاتفتني قبل أسبوع "
سألها بترقب: " لماذا؟ "
ازدردت ريقها بصعوبة وهي تقول بصوت مختنق حزين: " كانت لديه حمى وطوال الليل ظل يهذي بإسمي.. أخبرتني جدته بأنه يحتاجني وبأنه ندم أشد الندم على ما فعله معي و... "
انتظرها بصبر حتى تابعت بحسرة: " وبأنه لن يعود إلى هنا مرة أخرى "
توسعت عينيّ قاسم ذهولا من المفاجأة قبل أن يقول: " هل هو مجنون أم ماذا؟ "
غمغمت نبض بغيظ منه: " إنه أحمق.. أكبر أحمق رأيته في حياتي "
عبس قاسم في وجهها باستياء وهو يوبخها وكأنها ابنته: " عيب هذا.. لا يصح أن تنعتي زوجكِ بالأحمق على الأقل ليس أمام أخيه الأكبر "
نظرت له نبض بغيظ وهو تضرب الأرض بقدمها قبل أن تهتف بعصبية دون أن تشعر: " قل لأخوك أن يعود إذن فقلبي لا يحتمل غيابه "
زفر قاسم بقوة وهو يوبخها ثانية كاتما ضحكته: " ما هذه الوقاحة.. ألا تخجلين؟ "
عبست نبض وهي تكتف ساعديها أمام صدرها صائحة بتذمر: " وما ذنبي أنا يا أبيه؟ "
تصنع قاسم التفكير للحظات قبل أن يقول: " لا حل إذن سوا أن أجبره بنفسي على العودة "
ردت نبض بتنهيد: " لا أعرف شخص واحد قادر على إجبار صخر على فعل ما لا يريد "
ابتسم قاسم بمكر ليس من صفاته لكنه لاق به وهو يقول: " إذن هذه مهمتكِ لتُحدِثي تغيير وتكسري تلك القاعدة الثابتة لديه "
قطبت بحيرة وهي تنظر له سائلة: " ماذا تريدني أن أفعل بالضبط يا أبيه؟ "
رد قاسم بتنهيد: " سأخبركِ "


انتهى الفصل..
قراءة ممتعة.


**منى لطيفي (نصر الدين )** 05-11-19 11:39 PM

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الفصل جميل وشامل...
خالد اخطأ جدا حين طلب من زوجته الاجهاض وتركها من
احل والده لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق... اخطا جدا
والجد اخطأ اذن ...
زيد غيرته طفولية جدا نحو صخر ...
وشذى هذه لا ارتاح لها أبدا....
في انتظار القادم باذن الله تحياتي

Shimo debo 11-11-19 03:38 AM

سردك اكثر من رائع .. اول مرة اقرأ لكي لكنها لن تكون الاخيرة باذن الله .. اتمنى ان تظل احداث الرواية بهذه القوة
سلمت اناملك حبيبتي

Hend fayed 12-11-19 01:51 PM

..
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة shimo debo (المشاركة 14595169)
سردك اكثر من رائع .. اول مرة اقرأ لكي لكنها لن تكون الاخيرة باذن الله .. اتمنى ان تظل احداث الرواية بهذه القوة
سلمت اناملك حبيبتي

حبيبتي حضورك هو الأروع، واتمنى أن أكون عند حسن ظنك دائما ويارب تفضل الرواية عجباكي للآخر بإذن الله. 😍

Mini-2012 12-11-19 04:24 PM

🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸

Mini-2012 12-11-19 04:25 PM

الرواية روعة وجميلة بانتظار القادم
ويعطيكي الف عافية

Mini-2012 12-11-19 04:27 PM

بانتظار فصل اليوم 🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸

Hend fayed 12-11-19 05:33 PM

سُلاف الفُؤاد
 
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد؛
|| الفصل الثامن ||

قرابة الفجر / في الحديقة بدار الجبالي
كانت نبض ترفع الهاتف إلى أذنها، تقف بتشنج وقبضتها متصلبة إلى جانبها.. لقد عاودت الاتصال به للمرة الثالثة بعد انقطاع الرنين المرتين السابقتين دون أن تحصل على رد منه حتى أتاها صوته أجشا خافتا تسيطر عليه سحابة النعاس: " السلام عليكم "
شعرت حينها برجفة تسري في أوصالها لمجرد سماع صوته بعد حرمانها منه لأربعة أشهر كاملة فردت بعد لحظة بصوت متوتر: " وعليكم السلام.. صخر أنا... "
لم يدعها تضيف كلمة أخرى وهو يقاطعها بلهفة واضحة: " نبض هذه أنتِ.. يا إلهي إشتقت لسماع صوتكِ يا صغيرتي "
فترقرق الدمع في عينيها وهي تشعر بعدم القدرة على الكلام بينما على الطرف الآخر هب صخر من استلقائه جالسا وهو يتمسك بالهاتف على أذنه وكأنه طوق نجاته قائلا برقة: " كيف حالكِ يا نبض؟ "
ردت نبض بصوت مختنق: " أنا لستُ بخير أبدًا "
قطب صخر بقلق وهو يقول: " ما بكِ صغيرتي؟ "
ازدردت ريقها وهي ترد بخفوت تحت نظرات قاسم المراقبة لها: " أنا أحتاجك يا صخر.. كيف استطعت الرحيل وتركي بهذا الشكل؟ "
رد على الفور بعصبية: " لم أرحل إلا بعد أن تأكدت بأنكِ بين يدي أمينة يا نبض لكن قسما بالله لو خاب ظني وكان أحدهم قد أساء إليكِ فسوف... "
قاطعته بتنهيد: " أنا بخير ولم يزعجني أحد "
سألها بحيرة: " إن كنتِ بخير معهم فما حاجتكِ لي؟ "
صاحت بإنفعال: " بل ما حاجتي بهم؟ هل تزوجتهم هم أم تزوجتك أنت؟ "
عبس متعجبا وهو يقول: " هل فقدتِ الذاكرة يا نبض؟ أخبرتكِ أن زواجنا باطلاً أي أنه ما من رابط حقيقي بيننا "
ردت بحنق وهي تتخصر أمام قاسم المتسلي بالوضع رغم أنه لا يسمع شيء من طرف صخر: " وهل اتخذتها حجة لتفر هاربا من الطفلة السخيفة التي فرضوها عليك؟ "
شعر صخر بالحيرة فقال بتنهيد وهو يمسد جبينه بتعب: " أهدئي نبض.. أخبريني ماذا تريدين وسأنفذه لكِ لكن رجاءً اهدئي فأنا لا أحب الصوت العال؟ "
ردت بغيظ: " كيف لا تحبه وأنت لا تكف عن الصراخ عليّ؟ "
ابتسم صخر بحنو وهو يقول: " أنتِ لا تعرفين أي متعة أشعر بها وأنا أراكِ غاضبة حينما أصرخ عليكِ.. تبدين حينها مبهجة للعين "
عبست وهي تقول: " أنا مبهجة دومًا "
ضحك بخفوت وهو يقول: " طبعا صغيرتي "
ابتعدت نبض قليلا عن مرمى بصر قاسم وهي تقول بكآبة: " متى ستعود إليّ يا صخر؟ "
'يعود إليها' كلمتان تغنيانه عن ألف كلمة أخرى.. كلماتنا كافيتان لتشعراه بمدى أهميته عندها لكن رغم سعادته بلهفتها لعودته سألها بإحباط: " لماذا تريديني أن أعود؟ "
ردت بشراسة: " لأن لي حق عندك وأريد أن أناله كاملا يا دكتور.. أقسم أنك سترى معي أياما لا معالم ولا حدود لها فقط عُد وسترى مني العجب "
قهقه صخر بتسلية وهو يقول: " أحبكِ شرسة يا صغيرتي.. بَشركِ الله بالخير كما بشرتِني "
توردت من الخجل وهي ترد بعبوس مصطنع: " إذن متى ستعود لأحصل على حقي منك؟ "
رد بإحباط عاوده من جديد: " لا أعرف يا نبض.. ليس في الوقت الحالي وقد لا أعود يومًا.. صراحة لا أعلم ولم أقرر بعد "
هتفت بدون وعي بفكرة خطرت لها ولم تفكر في عواقبها: " بعد أسبوع سينعقد عرس زيد وهناك من تقدم لي ويفترض أن أخطب له في نفس اليوم "
صاح صخر وهو يهب من الفراش: " من ذاك الذي تجرأ وفعلها؟ "
ردت بمكر: " أخاك الأكبر.. قاسم "
صرخ صخر بعصبية: " من؟ كيف فعلها ذاك ال... تبًا يا نبض سأقتله إن مس شعرة واحدة منكِ "
ردت ببرود متهكم: " وكيف ستقتله وأنت في قطب وهو في قطب آخر؟ هل تنوي إرسال الرصاصة عن طريق البريد؟ "
بدأ يسب ويشتم بغمغمة لم تتبين منها إلا بضعة كلمات فصاحت بضيق: " كف عن تلك الوقاحة يا صخر.. أنسيت أنني أسمعك؟ "
صرخ على الطرف الآخر: " لم ترِ أي وقاحة بعد "
تأففت نبض بغيظ وهي تقول: " حسنًا سأغلق وأتركك على راحتك مع وقاحتك.. سلام "
صاح بشراسة: " أقسم بالله إن فعلتها وأغلقتِ الهاتف قبل أن أسمح لكِ يا نبض فسوف... "
قاطعته ببرود مصطنع قائلة: " لا داعي للقسم.. نعم.. أخبرني ماذا تريد؟ "
جلس على طرف الفراش مقطبا وهو يقول: " هل فعلها حقا وطلبكِ للزواج يا نبض؟ "
ردت بلامبالاة: " قلت نعم طلبني ويبدو أنني سأخبره بأنني موافقة على طلبه "
تكلم من بين أسنانه بوحشية: " أفعليها يا حلوة حتى أمزقكِ إربا وأطعمكِ لوحوشي الضارية التي تُلح عليّ في تلك اللحظة بأن آت إليكِ حالاً وأقتلكِ "
كتمت ضحكتها وهي تتصنع الملل قائلة: " وماذا بعد؟ هيا اطربني بالمزيد "
تنهد بعمق وهو يحاول السيطرة على أعصابه التي توشك على الانفلات منه قائلا: " أخبريني أنكِ تسكنين مع العمة فاطمة يا نبض "
ردت بهدوء: " لا أنا أسكن في دار الجبالي.. رفضت العودة مع عمتي فاطمة لبيتها لأنني أخاصمها "
تكلم بهدوء ورفق وكأنه يحدث طفلة صغيرة: " حينما تشرق الشمس أريد صغيرتي الوديعة بأن تنحي خصامها جانبا وتعود لبيت عمتها فاطمة حتى يكون قلبي مطمئنا عليها "
عبست نبض وهي تقول: " تريد أن يكون قلبك مطمئنا عليّ من أي ناحية بالضبط؟ "
رد صخر بغيظ: " بما أنكِ سألتِ هذا السؤال فأنتِ تعرفين الإجابة "
قالت بدلال حتى تغيظه: " لا.. لا أعرف الإجابة أخبرني أنت "
هتف صخر بما يشعر به دون تفكير: " أكاد أشتعل من الغيرة عليكِ يا حمقاء.. أشعر بقلبي سيتوقف من الحرقة.. حالاً ستحملين نفسكِ وتعودين إلى بيت العمة فاطمة يا نبض لن تبقِ دقيقة واحدة في هذه الدار "
رفعت حاجبيها بذهول وهي تقول: " هل جُننت يا صخر؟ هل تعرف كم الساعة الآن؟ "
رد بعصبية: " أنتِ من تهورتِ وهاتفتني في هذه الساعة.. ليس ذنبي فتحملي نتيجة أفعالكِ "
عبست بحنق وهي تقول: " لم أكن أعلم أنك ستتصرف بتلك الطفولية ثم أنا لن أعود لبيت عمتي فاطمة هي شاركت يوسف في إخفاء حقيقته عني وأنا أخاصمهما "
فجأة تغيرت نبرة صوته للرجاء وهو يقول: " بالله عليكِ يا نبض عودي لبيتها وارحمي قلبي.. لا تضطريني لفعل شيء قد أندم عليه لاحقا يكفيني ما فعلته بكِ ولازلت أندم عليه "
رمشت ببؤس وهي تقول: " لما لا تعد وتأخذني معك حيث ستكون وحينها سيكون قلبك مطمئنا عليّ؟ "
هتف بحرقة: " بأي صفة سآخذكِ معي؟ أنتِ بالنسبة لي كما النجوم في كبد السماء.. بعيدة كبُعدها عن الأرض.. القدر فرض علينا ألا نجتمع أبدًا "
تكلمت نبض برجاء رقيق مس قلبه وهي تقول: " كل ما أطلبه منك أن تعود فحسب.. عُد لي سالما وبعدها أعدك بأن تُحل كل الأمور بإذن الله "
سكت صخر وهو يشعر بمرارة العجز عن تلبية مطلبها الأول الذي تطلبه منه بينما تابعت هي بصوت حزين: " قل لي بأنك ستعود لأجلي يا صخر "
أيضا لم يرد فأردفت بصوت مختنق وهي على وشك البكاء: " أرجوك صخر.. لأجل خاطري عُد "
تنهد يقول: " نبض أنا... "
شعرت برفضه فقاطعته بضيق وقد بدأت عبراتها تنساب بالفعل: " ماذا أفعل لك حتى تعود؟ أنت لست طفلا صغيرا لتتهرب من مسئوليتك تجاهي بهذه الطريقة السخيفة.. لكن لعلمك إن لم يصلني خبر مؤكد بعودتك خلال يومين لا أكثر سأخبر أخوك بأنني موافقة على طلبه ليس هذا فحسب بل سأزف له ليلة عرس زيد أيضا "
هوت على ركبتيها أرضا بعدما رمت الهاتف إلى جوارها وغطت وجهها بكفيها وهي تجهش في البكاء بحرقة بينما قاسم يتابعها بنظرات حزينة محبطة لفشل محاولته في إجبار صخر على العودة
***

قُبيل الظهر
كانت فرح تجلس على السلم الخارجي للدار وإلى جوارها حلا منشغلة بدميتها.. كانت حزينة شاردة وفجأة شعرت بظل طويل يخيم فوقها فرفعت رأسها مقطبة لتجده أنس فأبتسمت بلطف قائلة: " صباح الخير أنس "
رد مقطب الجبين: " صباح النور فرح.. ما بكِ تجلسين وحيدة على غير عادتكِ؟ "
حاولت اصطناع المرح وهي تقول: " لست وحدي أنظر حلا الشقية معي تسليني "
زادت تقطيبته وهو يقول: " لما كل هذه الكآبة يفترض أن تكوني سعيدة؟ "
تنهدت بإحباط وهي تطرق برأسها دون رد فجلس على الناحية الأخرى جوار حلا وقال: " ألستِ سعيدة بعرس زيد وشمس؟ "
نظرت له بحماس حقيقي وهي تقول: " بلى أنا سعيدة جدا لأجلهما وأتمنى لهما السعادة من كل قلبي "
سألها بحيرة: " إذن ما سبب تباعدكِ عن الجميع بهذا الشكل وفي هذا الوقت بالذات؟ "
ردت بحزن: " أنت لا تفهم أنس.. تلك الفجوة في قلبي ازدادت اتساعا ووحشة "
لم يعقب بشيء في حين تابعت هي ببؤس: " في أوقات سعيدة كالتي نمر بها حاليًا كنت أفتقد أمي كثيرا لكن اليوم أفتقد شخص آخر.. أفتقده بجنون "
نظرت له بألم وهي تكمل بصوت مختنق: " أتمنى لو يسمح لي جدي بأن ألقاه لمرة واحدة.. فقط لبضعة دقائق لا أكثر "
أغمض عينيه بحزن لأجلها وهو يقول: " لهذه الدرجة هو مهم لديكِ؟ "
ردت فرح بصدق: " إنه أخي يا أنس.. أخي الذي كان يفترض بي أن أتنعم بحضنه منذ خلقني الله.. أشعر بالعجب من نفسي وأنا أجد كل ما بداخلي يصرخ بالشوق إليه "
طالعته بحيرة وهي تقول: " كيف نشتاق من لم نراهم من قبل ولم نعرفهم أبدًا؟ كيف أشعر بقلبي تعلق بشخص غريب لمجرد أنه أخي.. لمجرد أن أبانا واحد ودمنا واحد "
ابتسم أنس وهو يقول بحنو: " أنتِ طيبة القلب يا فرح وأتمنى أن يحقق لكِ الله كل أمانيكِ وأن يجتمع شملكِ بأخيكِ عن قريب "
ابتسمت فرح بإتساع وهي تقول بسعادة: " هذه أجمل دعوة سمعتها يوما.. شكرا أنس "
وجد نفسه يبتسم بسعادة لأنها سعيدة، كان يطالعها بمقلتين لامعتين وقد بدأ لونهما العسلي يصفو أكثر من العادة
تنحنحت فرح بخجل من نظراته وهي تقول: " إلى أين كنت ذاهب؟ "
رمش لوهلة قبل أن يضحك بحرج قائلا: " لا أعلم.. يبدو أنني نسيت "
شاركته الضحك بينما تدخلت حلا فجأة تقول بعبوس: " هل تحب اللعب بالدمى؟ "
عبس أنس وهو ينظر لها قائلا: " لا "
رمقته حلا بطرف عينها قبل أن تتمتم ببرود: " إذن لا نصيب لك فيها فهي تحب اللعب بالدمى "
قطب أنس بعدم فهم يقول: " ماذا؟ "
ردت حلا بلامبالاة: " فرح تحب اللعب بالدمى "
شهقت فرح بصدمة ووجنتيها تتخضبان من الخجل بينما جحظت عينيّ أنس وهو ينظر إلى حلا بذهول بينما الأخيرة تقول بمكر: " هل ستغير رأيك وتحبها أم ماذا؟ "
للحظات شعر أنس بالبلاهة قبل أن يتكلم بتعجب: " لا أصدق بأنكِ طفلة "
ردت حلا ببساطة: " ولا أنا أصدق ذلك عن نفسي "
مال على أذنها فجأة وهو يكلمها بخفوت حتى لا تسمعه فرح: " هل تعرفين كل ما تحبه فرح؟ "
اومأت برأسها وهي تنظر له بحماس فضيق عينيه وهو يتابع كلامه: " لما لا نعقد اتفاقا بيننا؟ "
رفعت حلا حاجبا وهي تقول بمكر: " لما لا؟ "
ابتسم أنس بمكر مشابه وهو يقول: " ستخبريني عن كل ما تحبه فرح في مقابل أن أشتري لكِ دمى كثيرة وجميلة من العاصمة.. ما رأيكِ؟ "
اومأت على الفور وهي تقول بحماس: " اتفقنا "
رفع أنس بصره إلى فرح التي تقطب بحيرة وهي تناظرهم وهما يتهامسان فنظر لها بحماس ونصر وكأنه ربح جائزة ما فأبتسمت له بلطف في المقابل
انشغل أنس بالثرثرة مع حلا بينما أخذت فرح تتأمله خفية، كانت تظنه لا يشعر بها بينما هو يكتم بسمة ماكرة تكاد تفصح عن نفسها وهو يعلم أنها تنظر له لكنه ترك لها الفرصة كاملة واصطنع الإنشغال بالحديث مع حلا حتى لا يحرجها
أجفلته فرح فجأة وهي تقول: " لماذا تترك شعرك دائما مبعثرا هكذا؟ ألا تمشطه أبدًا؟ "
برمت حلا شفتيها وهي تغمغم: " بدأت الهانم في إظهار تحكماتها فيما يخصه من اللحظة "
بينما رد أنس بحرج: " أنا أحبه هكذا.. ألا يعجبكِ؟ "
ردت بعفوية: " بلى هو جميل.. كان مجرد سؤال "
شهقت حلا بطريقة مصطنعة وهي تغمغم: " فضحت نفسها بنفسها.. ماذا سيظن الرجل بها؟ أنها هائمة به مثلا لا سمح الله! "
كتم أنس ضحكته وقد وصلته غمغمة حلا بينما استدركت فرح ما قالت بحرج: " أنا أقصد أنه يليق بك.. و... و... عن إذنك "
هبت من جلستها ودلفت للداخل بسرعة وهي تشعر بأنها زادت الأمر تعقيدا أما حلا فنظرت لأنس وهي تقول ببرود: " لو سمعها عمي قاسم وهي تتغزل بشعرك سيقتلها "
حرك أنس كتفيه بخفة وهو يرد: " قريبا لن يكن له شأن بها وسيكون أمر طبيعي أن تتغزل بي "
قطبت حلا وهي تقول: " هل تظن جدي سيوافق؟ "
نظر لها بإهتمام وهو يسألها سؤال آخر: " ولماذا قد يرفض؟ "
ردت حلا بعفوية: " سمعت جدي عبد الرحمن يقول لجدي سليم أن عمو يوسف يجب أن يخطب فرح بعد أن ينتهي عرس عمو زيد "
شحب وجه أنس وهو يردد بصدمة: " ماذا؟ "
ردت حلا: " لكن فرح لا تعلم.. لم يخبرها أحد "
ازدرد أنس ريقه وهو يقول: " هل يعرف جدكِ خالد بهذا الأمر؟ "
اومأت إيجابا وهي تردف: " لكن جدي خالد قال أنه لن يزوج فرح إلا لمن تختاره بنفسها وإن لم تكن تحب عمو يوسف فلن يرغمها على الزواج به "
تنهد أنس براحة طفيفة وهو يقول: " إذن يجب أن أتصرف بسرعة حتى أضمن أنها لن تكن ليوسف "
ردت حلا بهدوء: " نعم تصرف بسرعة قبل أن يأتي آخر ويخطفها منكما أنتما الإثنين "
عبس أنس بغيظ وهو يقول: " مستحيل أن يكون عقلكِ هذا عقل طفلة "
رمقته ببرود قبل أن تولي دميتها اهتمامها من جديد بينما شرد أنس في أفكاره بوجوم
***

بعد قليل
إلتفتت نبض بعصبية وهي تقول: " توقفي فرح عن ملاحقتي.. أنتِ توتريني "
وقفت فرح مطرقة رأسها عاقدة يديها خلف ظهرها في هيئة بائسة فاقتربت منها نبض تقول بندم: " آسفة فرح لا تنزعجي مني.. لم أقصد "
رفعت فرح رأسها وهي تطالعها ببؤس مصطنع قائلة: " أريد أن أطلب منكِ طلب لكنني أخشى أن ترفضيه "
ردت نبض على الفور بود: " اطلبي حبيبتي وإن كان في مقدرتي سأفعله بإذن الله "
نظرت لها فرح بأمل ولهفة وهي تقول: " أريد أن أسمع صوته وأراه "
ردت نبض بكآبة: " لا أملك أي صورة له "
قالت فرح بنفس الحماس المتلهف: " لا بأس لدي فكرة.. لكن عديني أولاً أن تنفذيها لي "
قطبت نبض وهي تقول: " لن أعدكِ قبل أن أعلم ما هي فكرتكِ؟ "
اصطنعت فرح الحزن وهي تقول: " حسناً لا بأس لا تشغلي عقلكِ "
خطت فرح بضعة خطوات قبل أن تستوقفها نبض قائلة بقلة حيلة: " أعدكِ فرح أنني سأنفذها لكِ.. ما هي؟ "
إلتفتت فرح تحتضنها وهي تكاد تقفز كالأطفال قائلة: " سأخبركِ "
***

بعد لحظات / في غرفة فرح
كانت تجلس على طرف الفراش تشبك أصابعها بقوة وهي تنظر إلى نبض بترقب شديد حتى قالت نبض بإرتباك: " يبدو أنه نائما الآن.. دعينا نحاول في وقت لاحق "
هتفت فرح برجاء: " لا.. حاولي مرة أخرى الآن.. أرجوكِ نبض "
تنهدت نبض بقلة حيلة وهي تعيد الإتصال به مرة أخرى
كانت مغمضة العينين، كاتمة أنفاسها وقلبها لا زال يئنّ منذ ما حدث فجر اليوم وفجأة أتاها صوته اجشا مختنقا فظنته نائما فقالت بحنق: " هل تقضي وقتك كله في النوم؟ ألا تفعل شيئا نافعا سوا ذلك؟ "
رد صخر ببرود: " وماذا سأفعل غير هذا؟ "
قالت نبض بضيق: " وكأنك في سجن مثلا "
رد صخر ببرود سقيعي: " إن لم أجبر نفسي على إلتزام غرفتي فما سيحدث خارجها لا أظنه سيعجبكِ "
قطبت وهي تقول: " ماذا تقصد؟ "
ابتسم بسخرية وهو يرد: " أنا محاصر تماما.. تحيطني الفتيات من كل جانب كلما خرجت لأي مكان لهذا أفضل البقاء في البيت وفي غرفتي بالخصوص "
زمجرت نبض بغضب وهي تقول: " وأنت ماذا تفعل لهم يا سيد محاصر حتى تلتففن حولك بهذا الشكل؟ "
رد ببراءة مصطنعة: " لا أفعل لهن شيء والله "
عبست نبض بغيرة وهي تقول: " إذن التزم غرفتك كما تفعل هذا أفضل لك ولي "
سألها بعدم فهم: " أفضل لي ولكِ.. كيف؟ "
ردت نبض بإنفعال: " لا أعرف.. لا تسألني "
زفر صخر وهو يقول: " نبض اهدئي واخفضي صوتكِ قليلا "
جزت على أسنانها وهي تقول: " لا تطلب مني أن أهدأ وأنت تخبرني ببساطة أن الفتيات تلتف حولك في كل مكان تذهب إليه لأنني لن أفعل.. أنت زوجي أنا "
رغم حلاوة الكلمة وهي تخرج من بين شفتيها إلا أنه أسكت هتاف قلبه الفرح وقال ببرود: " لست كذلك "
صاحت نبض بإنفعال: " بلى أنت كذلك.. رغما عنك أنت زوجي أنا وإن لم تكن اللحظة فستكون يومًا "
صاح في المقابل بضيق: " كيف وأنتِ تخبرينني أن هناك آخر طلبكِ للزواج؟ "
هتفت نبض بصوت مختنق: " لا تصرخ عليّ "
صاح صخر بعصبية: " وأنتِ لا تقولي بأن آخر يفكر بكِ كزوجة له.. أكاد أجن من التفكير منذ أخبرتني بهذا الهراء "
شهقت باكية فجأة فزفر صخر بضيق وهو يقول: " لا تبكِ نبض "
لم ترد عليه فقال برقة: " هلا توقفت عن البكاء لأجلي صغيرتي؟ أرجوكِ "
تمتمت بعبوس: " أنت السبب "
رد بتنهيد: " أنتِ من استفزتيني أولاً يا نبض "
جففت عبراتها وهي تقول بجمود: " عامة لم اهاتفك لأجل هذا الموضوع.. أختك من تريد رؤيتك وسماع صوتك "
قطب بحيرة يقول: " أختي! تقصدين نغم؟ "
ردت بنفس النبرة: " بل فرح "
ردد بسكون غريب: " فرح "
تكلمت نبض حينما طال صمته: " هلا فتحت الكاميرا لتكون المكالمة مرئية؟ إنها متشوقة جدا لرؤيتك فلا تخذلها "
رد صخر بصوت لا حياة فيه: " لماذا تريد رؤيتي؟ "
اجابته نبض بتنهيد: " اسألها هي فأنا لا أعرف "
مرت بضعة دقائق وكلاهما صامتا حتى ترقرق الدمع في عيني نبض وهي تهمس له تحت نظرات فرح المتلهفة كطفلة صغيرة في انتظار سماع صوت والدها
" دقيقة واحدة ستكفيها يا صخر.. فقط دقيقة كل ما أطلبه منك.. أرجوك "
لحظات مرت ونبض تشعر بأن قلبها يتفتت ببطء مع مرور اللحظات الواحدة تلو الأخرى وهي ترى نظرات فرح التي بدأت تنكسر لهفتها ليحل محلها الحزن والوجوم
أتاها صوته أخيرا جامدا يقول: " امنحيني بضعة دقائق حتى أرتدي ملابسي فأنا... "
قاطعته بخجل: " حسنا "
على الطرف الآخر كان صخر يجلس على طرف الفراش مقطبا بألم نضحت به نظراته رغم توحشها
نظر بوجوم إلى قميصه المطوي إلى جواره ومد يده يلتقطه بخفة بينما وصله تمتمة بعيدة لكنها واضحة على الطرف الآخر
سألت فرح ببؤس: " رفض أليس كذلك؟ "
ردت نبض بحنان وهي تجلس إلى جوارها: " بلى هو الآخر متلهفا لرؤيتكِ يا فرح "
ابتسمت فرح بكآبة وهي تقول: " واضح "
افتعلت نبض الحماس وهي تقول: " صدقيني هو فقط طلب مني منحه بضعة دقائق وبعدها سيفتح الكاميرا ويحدثكِ "
قطبت فرح وهي تقول: " لماذا يريد وقت قبل أن يكلمني؟ "
ردت نبض بحرج: " حتى يرتدي ملابسه "
قالت فرح بتلقائية: " هل كان يغتسل؟ ليتنا انتظرنا قليلا حتى انتهى بدلا من أن نقاطعه هكذا "
ردت نبض: " لقد كان نائما "
قطبت فرح بذهول وهي تقول: " عاريا! "
شهقت نبض بخجل وهي تقول: " ليس بهذه الصورة التي تخيلتها بالطبع "
رفعت فرح حاجبا بمكر وهي تقول: " وما أدراكِ؟ هل أخبركِ بالتفاصيل؟ "
صاحت نبض بإرتباك ووجنتيها تتخضبان من الخجل: " توقفي فرح.. صخر لم يخبرني أي شيء "
تنبهت فجأة إلى أن صخر يتحدث فرفعت الهاتف إلى أذنها تجيبه: " نعم "
رد ببساطة: " الآن فقط تأكدت بأنها أختي "
قطبت بتعجب تقول: " كيف تأكدت؟ "
رد ببرود ساخر: " إنها وقحة "
عبست نبض وهي تقول: " تشبهك أليس كذلك؟ "
تنهد وهو يرد: " في هذه النقطة نعم.. نحن نشترك في الوقاحة "
تأففت نبض بينما قال هو: " اخفضي الهاتف لأراكِ أولاً "
أبعدت الهاتف عن أذنها بسرعة وهي تتطلع إلى الشاشة قائلة بحيرة: " لقد فتحت الكاميرا لكن أين أنت؟ "
تمتم ببرود وهو يغلق أزرار قميصه: " غيرت رأيي "
صاحت بعدم فهم: " ماذا؟ ألن تكلمها؟ "
رد بسماجة يغيظها: " ليس هذا ما قصدته.. ما غيرت رأيي بشأنه شيء آخر (رد بعد لحظة بلامبالاة كاذبا رغبة في رؤية تعثرها وخجلها) لا ارتدي قميص هل تستطيع أن تراني هكذا أم... "
قاطعته نبض بتوتر تقول: " سأسألها "
إلتفتت إلى فرح تقول بحرج: " لديه شرط حتى يكلمك هو... "
قاطعتها فرح بحماس شديد: " موافقة "
زفرت نبض وهي تقول: " انتظري إنه... "
صاحت فرح تقاطعها من جديد: " موافقة يا نبض "
عبست نبض بغيظ وهي تقول: " حسنا.. أنتِ حرة "
ناولتها نبض الهاتف وابتعدت قليلا وبمجرد أن تحولت المكالمة الصوتية إلى مرئية وباتت صورة كلا منهما ظاهرة أمام الآخر حتى توسعت عينيّ فرح بشكل طفيف وهي ترى أمامها شابا، وسيما، وأنيقا فهتفت بدون وعي: " ما هذا الكائن يا نبض؟ أين أخي؟ "
تمتمت نبض بعبوس: " ذاك الكائن الفظ المتوحش الذي أمامك هو أخوكِ "
رفعت فرح عينيها إلى نبض تقول بذهول: " لا أرى تلك المواصفات التي تقولينها فأمامي كائن فضائي "
قطبت نبض بعدم فهم وهي تقول: " ماذا؟ "
رمشت فرح لوهلة قبل أن تعيد بصرها إلى شاشة الهاتف وهي تحدق في صخر بقوة بينما تحدث نبض: " إنه وسيم جدا ما شاء الله لكنه عابس.. ما به؟ "
ردت نبض ببرود: " هذا المعتاد منه فيوم أن يضحك ستمطر السماء "
قالت فرح بإبتسامة واسعة: " بل ستشرق الشمس.. يا إلهي! لا أصدق بأن ذاك الوسيم أخي "
على الطرف الآخر كان صخر ينظر بسكون إلى تلك الفتاة التي تحدق فيه بطريقة احرجته، يستمع إلى هذرها دون أن يحاول مقاطعتها حتى وقد شعر بالراحة لرؤيتها سعيدة بهذا الشكل لأنه لبى طلبها وسمح لها بأن تراه
بعد لحظات معدودة تنحنح قليلا قبل أن يتكلم بصوته القوي: " مرحبا "
أشارت فرح لنفسها بذهول تقول: " نعم! هل تحدثني أنا؟ "
رمش لوهلة بحيرة من ذهولها قبل أن يقول: " نعم.. أحدثكِ أنتِ "
ابتسمت بحماس وفرح طفولي وهي تقول: " مرحبا.. أنا فرح "
اومأ بخفة وهو يقول: " أعرف "
ردت ببساطة: " بالطبع نبض أخبرتك عني "
هز رأسه سلبا وهو يقول: " لا.. أنا أعرفكِ قبل أن تعرفكِ نبض نفسها "
شعرت بالسعادة فقالت: " حقا! "
اومأ إيجابا دون تعقيب فقالت فجأة بإندفاع: " لعلمك أنا أحبك كثيرا "
رمش لوهلة وهو يتنحنح مجددا متمتما: " شكرا.. هل نبض إلى جواركِ؟ "
اومأت فرح وهي تقول بتعجب: " نعم.. لماذا؟ "
سألها بترقب: " أين تنام؟ "
ردت فرح بعدم فهم: " في دارنا "
تكلم صخر مقطبا: " أعرف ذلك.. أقصد هل غرفتها قريبة من غرف أولاد عمومتك؟ "
اومأت برأسها وهي ترد بثرثرة: " إنها تنام في غرفة يوسف وهي بجانب غرفة زيد من ناحية اليسار أما من الناحية اليمنى فهناك غرفة حمزة القديمة ثم غرفة... "
توسعت عينيه فجأة وهو يجز على أسنانه غيظا قبل أن يقاطعها: " كفي.. كفى.. وماذا عن غرفة الضيوف.. بالطبع لديكم أليس كذلك؟ "
اجابته فرح ببساطة: " غرفة الضيوف يشغلها عمي أكرم والد شمس ابنة عمتي رقية "
زفر صخر وهو يحاول تماسك أعصابه قليلا قبل أن يقول بصوت متصلب: " هلا فعلتِ شيء لأجلي؟ "
اومأت فرح على الفور بحماس ودون تردد وهي تقول مبتسمة: " بالطبع.. أي شيء؟ "
رد صخر بهدوء ظاهري: " أريدكِ أن تقنعي نبض بالعودة إلى بيت العمة فاطمة الليلة "
قطبت فرح وهي تقول: " لكنها ستظنني اطردها من دارنا "
رد صخر بجدية: " أفعليها إذن.. اطرديها "
تكلمت فرح بذهول: " لماذا تريدني أن اطرد نبض؟ "
قطبت نبض متفاجئة من حديث فرح وبعصبية كانت تسحب الهاتف من يد فرح صارخة: " هل جُننت يا صخر؟ "
أجفلها صراخه المفاجئ وهو يقول: " بل أنتِ من جُننتِ إن ظننتِ بأنني سأترككِ ليلة أخرى في هذا المكان "
ردت بعناد: " لن أترك دار الجبالي "
صاح في المقابل بإنفعال: " لا تستفزيني يا نبض حتى لا أؤذيكِ "
غامت مقلتيها في بحر من البؤس والوجع وهي تقول بصوت ضعيف: " لست خائفة منك فلن تستطيع أن تؤذيني أكثر مما فعلت يا صخر "
هتف فجأة بحرقة: " نبض أنا أحبكِ "
تسمرت مكانها متسعة العينين وهي تحدق في عينيه بينما هو يتابع بنفس النبرة: " لم أؤذيكِ متعمدا أقسم بالله.. كيف أفعلها وأنتِ يا نبض.. نبضي؟ "
تمتمت نبض بصوت هارب منها: " صخر هل عاودتك الحمى من جديد؟ "
نكس رأسه بقهر وهو يغمغم: " ليتني أموت حتى أرتاح يا نبض "
ردت بلهفة: " بعيد الشر عنك.. لا تقل هذا.. هل جُننت؟ "
رد بتمتمة محبط النفس: " نعم جُننت مذ رأيتكِ أول مرة؟ "
قطبت نبض بكآبة وهي تقول: " أنت تهذي يا صخر "
رفع رأسه بعد لحظات يقول: " ماذا أفعل لكِ حتى لا تكوني حزينة هكذا؟ ماذا أفعل حتى أجعلكِ تصدقينني يا نبض؟ "
ردت بعفوية: " لا تعلقني بك أكثر حتى لا تحترق روحي شوقا إليك في غيابك عني كما هو حالي الآن "
تكلم صخر باسما برقة: " فداكِ روحي يا نبض فلتحترق هي وتظل روحكِ في أمان وسلام "
أشاحت بوجهها وقد بدأت بضعة دمعات ينفرط عقدها على وجنتيها فتابع بصوت متألم: " لا أملك ما أنتِ بحاجته يا نبض.. حياتي جحيم ليس فيها سلامكِ "
ردت دون أن تنظر له: " وأنا أريد جحيمك "
تنهد بعمق وهو يقول: " سيحرقكِ يا نبض "
نظرت له برقة وهي ترد: " وأنت ستطفأني "
كاد بصيص الأمل أن يتسرب إلى روحها لكنه قطعه بوحشية وهو يقول بجمود قاس قبل أن ينهي المكالمة: " لا أعلم إن كنت سأعود أم لا يا نبض فلا تنتظريني "
رمت الهاتف بعنف فأصطدم بالحائط المقابل لها وسقط مهشما بينما صرخت هي بقهر: " كان يجب أن أعرف بنفسي أنك حقاً إسما على مسمى.. أكرهك يا صخر.. أكرهك "
***

في مجلس الدار
كانت جلسة صامتة باردة كل واحد منهم ينظر للآخر بعبوس عدا قاسم وحده من كان ينظر إلى الأفق البعيد من النافذة التي تقابله
تكلم عاصم قاطعا الصمت بقوله: " لابد أن ينتهي هذا الأمر سريعا حتى لا نثير الأقاويل حولنا "
أيد صالح كلامه مكملا: " إن علمت الناس برفضك للاعتراف بصخر يا حاج فسوف يحيكون حوله الأكاذيب ويبتدعون قصصا ليس لها محلا من الصحة وهذا سيكون ظلما مضاعفا له "
وتدخل يوسف هو الآخر يقول: " هذا حقه يا جدي.. أمنحه إسم العائلة وإن شئت ألا تكلمه بعدها فأفعل لن يطالبك أحد بالمزيد "
كان عبد الرحمن يستمع لهم مقطبا دون أن يرد على أحد فقال آدم بهدوء: " إنه شاب جيد، ذو سمعة طيبة وفخر للعائلة أن يكون واحدا منها "
حدجه عبد الرحمن بنظرة حادة وهو يقول: " كل فرد في عائلة الجبالي هو فخرا لها ولا ينقصنا ذاك ال... "
قاطعه قاسم بجمود: " لا داع لسبه يا جدي "
صاح عبد الرحمن بضيق: " يبدو أنك تؤيده "
رد قاسم ببرود: " ولما لا أفعل؟ إنه أخي "
حينها تدخل زيد بتهكم يقول: " أتمنى ألا تخيب ظنونكم "
رمقه ياسين بغضب بينما سأله صالح: " ماذا تقصد يا بني؟ "
رد زيد بلامبالاة: " أقصد أنه من الممكن ألا يكون أخاهم.. ما أدرانا أن ما سمعه يوسف صدق؟ "
هتف يوسف بضيق: " ما هذا الهراء الذي تقوله زيد؟ هل جُننت؟ "
قطب زيد بحنق يقول: " ليس لديك دليلا يثبت صحة كلامك إذن من المحتمل أن يكون الأمر كله كذبة "
صاح يوسف بإنفعال وحمائية لأجل صخر: " أخرس زيد.. أنت بالذات لا أريد سماع كلمة واحدة منك في حق صخر.. لا أصدق بأنك جاحدا لهذه الدرجة؟ "
هب زيد من مكانه وهو يقول بغيظ: " هل غسل عقلك وجعلك تنقلب على عائلتك لصالحه؟ "
هب يوسف بعصبية من مكانه متقدما من زيد لكن آدم وقف بينهما بسرعة يمنع وصول أحدهما للآخر قائلا بإقتضاب: " لا ينقصنا شجاركما الطفولي في هذه اللحظة.. صخر ليس طفلا صغيرا وسيرد على زيد بنفسه حينما يعود "
تكلم صالح بهدوء حازم: " فليعد كلا منكما إلى مكانه حالاً "
أطاعا كلمة صالح باحترام وعلى مضض عاد كلا منهما إلى مكانه بينما غمغم آدم بسخرية: " أنتظر يا زيد حتى يعود صخر وحينها سنرى كيف ستقف أمامه ترتجف كالكتكوت المبتل "
بعد وقت طويل من نقاش لم يصلوا فيه إلى شيء جديد نهض ياسين من مكانه قائلا: " لن أضيع وقتي في لا شيء.. لقد مللت "
ودن أن ينتظر سماع رد من أحد غادر وتبعه قاسم مغمغما ببضعة كلمات لا معنى لها فلحق به آدم وبعدما أصبحا في الحديقة استوقفه قائلا: " قاسم هل تنوي الإستسلام؟ "
صمت قاسم ولم يرد فتابع آدم برفق: " أخوك لم يستسلم أبداً من قبل.. هل تنوي تركه وحده في هذه المعركة؟ "
صاح قاسم بحنق: " أين أخي هذا يا آدم؟ "
سكت آدم دون رد فتابع قاسم بضيق: " ها هو ينسحب من أهم معركة في حياة أي إنسان.. هرب كأرنب مذعور دون أن يواجه مصيره "
أتت فرح باسمة وهي تقول: " عمتي فاطمة حضرت و... "
سكتت فجأة حينما رأت شرارات الغضب التي تحوم حولهما وقبل أن تضيف كلمة أخرى كان قاسم يرفع سبابته في وجه آدم قائلا من بين أسنانه بغضب مكبوت: " قل لصاحبك أن يعود لو كان يريدنا في صفه وإلا فلا ينتظر منا التدخل حينما يتأزم الأمر أكثر لأننا لن نفعل "
أمسكت فرح ذراعه وهي تنظر له برجاء قائلة: " أنت لا تعني هذا يا أخي أليس كذلك؟ "
رد قاسم بغضب: " بلى أعنيه يا فرح.. أعنيه تماما.. لن أسعى لحل مشكلة صاحبها يترفع عن مواجهتها "
قالت فرح ببؤس: " إنه يتألم يا قاسم.. هل تظنه سعيدا بهذا الوضع؟ "
رد قاسم بصوت حاد: " إن كان رجلا على حق فليعود.. هذا ما أعرفه أنا.. ما عندي قلته "
أنهى حديثه وتركهما ببساطة ورحل بينما أطرقت فرح رأسها بكآبة فقال آدم: " الأمور تسوء أكثر "
أتى يوسف من خلف فرح وهو يقول مقطبا: " هل خرج قاسم؟ "
اومأ آدم وهو يرد: " إنه غاضب "
زفر يوسف وهو يتمتم بخفوت: " ليس هناك حلاً سوا عودة صخر "
تكلم آدم بيأس: " هذا رأي قاسم أيضا "
تدخلت فرح تقول: " ورأي عمتي فاطمة "
قطب يوسف وهو يقول بتعجب: " متى وصلت عمتي فاطمة هي لم تخبرني أنها قادمة إلينا وقد كنت أكلمها قبل ساعة؟ "
ردت فرح بتنهيد: " للتو وصلت.. هي في الحديقة تحاول أن تصالح نبض "
هتف آدم فجأة بحماس: " لما لا تحاول نبض أن تطلب منه أن يعود؟ "
قطب يوسف بتفكير وهو ينظر له قائلا: " هل تظنه سيسمع لها ويعود؟ "
اومأ آدم وهو يقول: " المحاولة لن تقتلنا "
قال يوسف وقد بدأ يتحرك بالفعل: " إذن دعنا نخبرها الآن فلا وقت لدينا لنضيعه أكثر "
تحركا قاصدين مكان نبض بينما غمغمت فرح في سرها بكآبة قبل أن تتبعهما: " حتى نبض فشلت في اجباره على العودة "
***

في الحديقة الخلفية
كانت نبض تجلس إلى جوار فاطمة ملتزمة الصمت التام، عينيها محتقنتين من أثر بكاء في وقت سابق ووجها شاحب كالموتى بينما كانت العمة فاطمة تقول: " نحن لم نقصد أن نخدعكِ يا ابنتي لكن الأمر كان معقد منذ البداية ولم نشأ أن نشغلكِ عن دراستكِ بتلك الأمور "
لم ترد نبض بينما تابعت فاطمة: " في كل الأحوال ما كان بيديكِ ما تفعلينه ليوسف.. ما كنتِ تملكين محو ماضيه وإعادة حياته لسابق عهدها لما كانت قبل أن يحدث ذاك الحادث "
أغمضت نبض عينيها وهي تكز على أسنانها بقوة في حين قالت فاطمة: " ماذا عن صخر.. هل يهاتفكِ؟ "
شبح ابتسامة مريرة ظهر على ثغرها وهي تقول بصوت مختنق: " ولما قد يهاتفني صخر بك؟ هل أعني له أي شيء حتى يفعل؟ "
تنهدت فاطمة بحزن تقول: " لن يستطيع أحد مواجهة الحاج عبد الرحمن في هذا الأمر سواه لذا يجب أن يعود "
قالت نبض بتهكم مرير: " العالم كله يريده أن يعود.. سبحان الله! "
ربتت فاطمة على كتفها وهي تقول بلطف: " صخر يحبكِ ويهتم كثيرا لأمركِ أظن بأنكِ لو طلبتِ منه أن يعود فسوف يلبي طلبكِ و... "
هبت نبض من مكانها وهي تصرخ بقهر وتلوح بكفيها في عصبية: " إلى هنا وكفى عمتي.. لقد تعبت.. تعبت من الأوهام التي تغزلونها كالخيوط من حولي.. تعبت من كذبكم وخداعكم لي.. تعبت ولم تعد لدي مقدار ذرة من القوة لكي أصدق المزيد "
أطرقت فاطمة بحزن بينما نبض تشهق بالبكاء وهي تتابع: " لا أحد يحبني.. لا أحد يهتم لأمري "
وصل يوسف ومن خلفه فرح وأدم لكن الجميع تسمروا في أماكنهم حينما شاهدوا الحالة العصبية التي تمر بها نبض
تقدمت نبض من يوسف وهي تشير إليه باتهام بينما تصيح في وجهه بحرقة: " أنت لا تحبني لأنك أخفيت حقيقتك عني وتعاملت معي على أني طفلة لا تفقه شيء.. لا أفهم كيف استطعت أن تخدعني وأنا أناديك أخي؟ "
ثم إلتفتت بعصبية تشير لفاطمة مردفة: " وأنتِ شاركتيه في خطأه عمتي وأبي وأمي أيضا مشتركين معكم في هذا.. جميعكم خدعتموني "
قال يوسف برجاء: " نبض اهدئي وحاولي أن تتفهمي موقفي أنا كنت... "
قاطعته صارخة في وجهه: " لا أريد سماع شيء ولا أريد فهم شيء لقد مللت.. هل تسمع؟ أنا مللت.. لماذا عليّ أنا أن أتفهم الجميع؟ لماذا عليّ أنا تقبل أخطائكم بصدر رحب؟ لماذا أنا؟ "
اجهشت في البكاء وهي تتابع بانكسار: " لماذا لا تشعرون أنتم بي؟ لماذا لا تحاولون أن تضعوا أنفسكم في مكاني لبضعة دقائق وترون حجم الضعف والخوف الذي أعاني منه وأنا أشعر بنفسي وحيدة تماما؟ "
رفعت رأسها تنظر لهم بقهر وهي تقول بشراسة حادة: " لا أريد سماع المزيد من الأكاذيب.. لم أعد أهتم بذاك المتبلد عديم الإحساس والشعور.. لم تعد تهمني عودته من غيابه لأنه لا يمثل لي أي شيء "
إلتفتت تهم بالرحيل لكنها توقفت ثانية وهي تستدير لهم صائحة بمرارة: " لا أحد يطلب مني أن اهاتفه لكي يعود لأنني فعلتها مرتين وفي المرتين رفض ولم يمنحني أي أمل حتى.. لن أكررها للمرة الثالثة تكفيني خيبات أمل حتى الآن.. لم أعد أحتمل المزيد "
***

ليلا / في إسطنبول
كان صخر يقف أمام النافذة في غرفته بينما الهاتف على أذنه وهو يستمع لمصطفى يقول: " تم الأمر كما خططت له يا باشا "
رد صخر بإيجاز: " جيد.. هل هناك شيء آخر؟ "
تكلم مصطفى بضيق طفيف: " سعد الناصر لازال يبحث عن عمه عمران وعلى ما أظن هو بات قريبا جدا منه "
رد صخر وهو يضيق عينيه مرهفا السمع بينما يلتفت بجسده ببطء وحذر: " سأتصرف أنا بشأن هذا الأمر "
سأل مصطفى بهدوء: " ألن نخبره عما حدث لعمه فؤاد؟ "
رد صخر بصوت خافت وهو يقترب من الباب بحذر دون أن يحدث صوت: " حينما تحن اللحظة المناسبة سأخبره "
قطب مصطفى وهو يقول بجدية: " لكنه لو علم من أحد قبل أن تخبره ستكون مشكلة يا باشا "
جز صخر على أسنانه وهو يهمس فجأة: " سأغلق الآن يا مصطفى.. سلام "
وضع الهاتف في جيبه في ذات اللحظة التي انفتح فيها الباب ودلفت شذى بحذر قبل أن تغلق الباب خلفها
توجهت نظراتها مباشرة إلى الفراش وهي تهمس بصوت خافت ونبرة تفيض بالمكر: " فلنرى يا صخر كيف ستقاوم؟ "
كانت الغرفة مظلمة فتقدمت من الفراش بحذر حتى لا تصدر صوت وفي اللحظة التي جلست على الفراش ومدت يدها نحوه كما ظنت أضاء صخر المصباح وهو يقف عند الباب بوجه جامد ونظرات متوحشة جعلتها تشهق بهلع للحظة وهو يقول: " تخطيتِ حدودكِ كثيرا يا شذى "
ازدردت ريقها وهي تنهض ببطء عن الفراش قائلة بصوت مرتبك: " أنا... أنا أتيت لأطمئن عليك فأنت لم تغادر غرفتك اليوم أبدًا وأنا قلقت عليك "
رفع حاجبا بسخرية وهو يقول: " قلقتِ عليّ في منتصف الليل فتسللتِ لغرفتي كاللصوص بدون أن تطرقي الباب أو تستأذني من باب الإحترام! "
ارتبكت كثيرا وهي تقول: " لم أرد أن ازعجك فلم أطرق على الباب قبل دخولي ولم أظن أن هناك داعي لهذه الأمور السطحية المسماة بالذوق واللباقة "
جز صخر على أسنانه وهو يقول: " لم أتكلم عن اللباقة تكلمت عن الإحترام "
ردت ببرود مصطنع: " وما الفرق؟ "
هتف صخر بحدة: " الفرق كبير.. أنتِ لستِ نغم لكي انبهها لأن تطق الباب وتطلب إذني قبل الدخول عليّ من باب الذوق رغم أنها لو لم تطع أمري ودخلت ما من مشكلة أما أنتِ فلا.. غير مسموح لكِ بالدخول أبدًا بدون إذني لأنك لستِ أختي ولستِ إحدى محارمي "
ردت شذى بوقاحة وهي تقترب منه: " وأنا لا أريد أن أكون كنغم.. (وضعت يديها على صدره وهي تكمل بلهفة) أنا أريدك كحبيب لا كأخ "
دفع يدها عنه بقوة وهو يقول: " لا أصدق وقاحتكِ.. ما هذا القرف الذي تفعلينه؟ "
صاحت شذى بغيظ: " قرف! هل ترى حبي لك قرف يا صخر؟ "
رمقها بضيق وهو يرد: " لا أرى لما تفعلينه مسمى آخر سوا هذا.. هيا أخرجي حالا من غرفتي "
تراجعت للخلف حتى جلست على كرسي جانبي وهي تقول بوقاحة: " لن أخرج "
رافق قولها حركة يديها وهي تخلع سترتها ببساطة فيظهر ثوبها الخليع بلونه الأحمر البراق وكأنها للتو عادت من حفل ما تحت نظرات صخر المصدومة حتى غمغم بصوت هارب منه: " يا إلهي! ماذا تفعلين يا شذى؟ أنتِ بالتأكيد فقدتِ عقلكِ "
رفعت حاجبا بمكر وهي ترد: " أخبرتك.. لن أخرج من هنا قبل أن أصل معك لحل يرضيني بشأن علاقتنا "
صاح صخر بحدة: " ليست هناك أي علاقة بيننا من الأساس "
طالعته بهدوء مستفز وهي تهز كتفها بلامبالاة قائلة: " بسيطة.. فلتكن إذن "
رفع يده يمسد جبينه بتعب وهو يغمغم بصوت مشحون بالكثير من الانفعالات المكبوتة: " رُحماك يارب.. رُحماك.. ما هذه الكارثة؟ أكانت تنقصني هذه هي الأخرى؟ "
نهضت شذى من مكانها وتقدمت منه من جديد وهي تقول بصوت خفيض خبيث: " لما لا تترك العنان لنفسك لبعض الوقت لتجرب ما تحرم نفسك منه؟ التجربة لن تقتلك وقد يعجبك الأمر "
جحظت عينيه بصدمة من حديثها وهو يحدق في عينيها، عاجزا عن الرد للحظات وكأن من تتحدث ليست ابنة خالته التي كانت ذات يوم قريب تتعامل معه بطفولية مغيظة
تمتم بعد لحظة باشمئزاز كسى نظراته: " متى انحدرتِ لهذا المستوى يا شذى؟ لا أصدق أنكِ تقفين أمامي بهذا العري تطلبين مني أن أجرب معكِ أمر بهذه البشاعة والقرف "
هتفت بغيظ وحقد: " بشاعة! هل لو كانت تلك الحمقاء التي خدعتها بزواج باطل هي من طلبت منك هذا الأمر كنت ستشير إليه بنفس الطريقة؟ "
شهقت بفزع أكبر منه ألماً على إثر لطمته القوية لها قبل أن يقبض على شعرها وهو يجز على أسنانه قائلا بنبرة تنضح بالشراسة والغضب: " أولاً غير مسموح لكِ بذكر سيرتها على لسانكِ القذر هذا.. ثانيا أنا لم ألمسها أبدًا حتى أننا لم نكن نسكن في نفس البيت.. ثالثا نبض ما كانت لتطلب مني هذا الأمر حتى وهي زوجتي لأنها فتاة خجولة أكثر مما قد يخطر في عقلكِ الملوث هذا.. رابعا طلبكِ مرفوضا وليس عندي.. خامسا وهذا الأهم هو أنني لست بحاجة لأن أجرب معكِ أي شيء لأن ما حرمت نفسي منه لا أريد الحصول عليه في الحرام بعد طول صبر وانتظار.. (ثم طالعها وهو يكمل باشمئزاز) ما أحرم نفسي منه إما أناله بالحلال أو لا فنفسي تعاف الحرام.. ولا تطيقه "
حرر شعرها من قبضته وهو يدفعها بخشونة هادرا بأمر لا يقبل الجدال: " غادري "
دون أن تتفوه بحرف واحد كانت تهرول للخارج وهي تكتم شهقتها المقهورة بشق الأنفس
ما إن خرجت حتى زفر بقوة وهو يتخلل خصلات شعره بوحشية هاتفا: " ما هذا العالم الملوث يا ربي؟ أين أذهب لأحصل على بعض الراحة فقد تعبت؟ "
بعد لحظات معدودة كان يرفع هاتفه إلى أذنه بعدما طلب رقما ما وحينما رد الأخير قال صخر باقتضاب موجز: " جد لي حجزا في أسرع وقت.. أريد العودة غدًا "
رد الآخر بتوتر: " للأسف أكتمل الحجز يا بك هلا منحتني فرصة لبعد غد وستكون التذكرة بحوزتك... "
قاطعه صخر بنفس الاقتضاب: " حسنًا.. لا مشكلة "
***

في اليوم التالي / صباحا
كانت حياة تقف أمام باب غرفة قاسم عاقدة ساعديها أمام صدرها وهي تنتظر خروجه بفارغ الصبر
وحين انفتح الباب فجأة توترت للحظة قبل أن تستعيد السيطرة على أعصابها بينما قاسم عبس في وجهها قائلا ببرود: " ماذا تفعلين هنا؟ "
فردت حياة بجدية تامة: " أريد أن أتحدث معك في أمر هام "
أغلق الباب وهو يتخطاها قائلا بنفس البرود: " لست متفرغا لثرثرة النساء تلك أمامي أعمال أهم "
لحقت حياة به وهي تصيح بحنق: " وأنا لا أريد أن اثرثر معك سيد قاسم الأمر جدي بالفعل "
توقف مكانه وهو يزفر بضيق قائلا: " حسناً.. تكلمي لكن اختصري رجاءً "
واجهته حياة بنظرات مغتاظة وهي تقول: " لماذا انسحبت من المواجهة؟ هل ستتخلى عن أخيك؟ "
نظر لها بقوة وهو يقول: " برأيك هل سأفعل؟ "
ردت حياة بتلقائية ودون تفكير: " مستحيل.. أنت لا تتخلى عمن يحتاجك أبدًا "
تنهد بعمق وهو يقول: " وطالما تعرفين الإجابة ما حاجتكِ للسؤال؟ "
أطرقت برأسها بإحباط وهي تقول: " أردت أن اتأكد فالجميع بدؤا يستسلمون لأمر جدي "
قطب وهو يسألها: " وماذا عن نبض؟ "
هزت رأسها بلا معنى وهي تقول بكآبة: " تلتزم غرفتها منذ الأمس وترفض أن تتكلم مع أحد "
جز قاسم على أسنانه وهو يقول: " هل تبكي؟ "
اومأت برأسها إيجابا وهي تقول بحزن: " لو سمعتها يا قاسم سيوجعك قلبك عليها.. تلك المسكينة تلقت الكثير من الضربات الواحدة تلو الأخرى ولم تحصل على أي راحة بينهن حتى تجدد طاقتها لكي تتمكن من المواصلة والمواجهة.. الفتاة متعبة ومستنزفة للغاية يا قاسم "
أطرق رأسه وهو يتنهد بقلة حيلة بينما تشبثت حياة بذراعه فجأة وهي تقول بأمل: " لما لا تحاول أنت معها ربما تسمع منك وتتمكن من إخراجها من تلك الحالة البائسة؟ "
نظر ليدها بجمود وهو يقول: " ارفعي يدكِ عني "
سحبت يدها بسرعة وقد شحب وجهها وهو يتابع بقسوة: " هو علتها، هو سبب بكائها ولوعتها وأنتِ نفس الشيء.. أنتِ علتي وسبب لوعتي "
انسابت عبرة من زاوية عينها وهي تنظر له بألم بينما هو يكمل: " يبكيكِ قلبي قبل عيناي يا ابنة العم لكنكِ لا تشعرين به.. أخبريني ماذا أفعل لكِ لترضي عنه؟ "
شهقت بحرقة وهي تهز رأسها ببطء تنفي شيء لا تعرف كنهه فرفع قاسم يده يريد مسح عبراتها لكن يده توقفت في الهواء قبل أن تمسها وهو يقول: " لم أعاتبكِ لتبكي يا حياة الروح.. أردت فقط أن أخبركِ أنني أنا الآخر متعب ومستنزف للغاية ولا أجد من يخرجني من حالتي البائسة فلا تطلبي مني أن أحاول فعل شيء لم يفعله أحد معي.. لأنني لن أستطيع فهذا صعب وفاقد الشيء لا يعطيه "
تركها ورحل وهي من خلفه تشيعه بنظرات تكتم آهات عشق يحرقها دون أن تستطيع الإفصاح عنه
***

أثناء مروره بالصدفة من أمام غرفة يوسف والتي تشغلها نبض سمع صوت بكائها بوضوح فخطى مبتعدا وهو يجبر نفسه على تجاهلها لكنه لم يستطع فعاد ادراجه إليها يطق الباب بهدوء فسمعها تقول بصوت مختنق أبح من البكاء: " بالله عليكم اتركوني وحدي قليلا "
تكلم قاسم بصوت صارم: " افتحي الباب يا نبض إنه أنا قاسم "
هبت نبض من جلستها على الفراش وهي تشهق فجأة مغمغمة: " أبيه قاسم "
هرولت للباب تفتحه مندفعة إليه وهي ترتمي بين ذراعيه هاتفة بحرقة: " لن يعود لي يا أبيه.. لن يعود أبداً "
بدى قاسم مصدوما مما فعلته فظل متسمرا مكانه للحظات دون أن يتحرك بينما هي تكمل: " أنا أحبه "
تنهد قاسم بحسرة تملكته قبل أن يبعدها عنه بلطف قائلا: " لا تبكِ يا صغيرة.. كل شيء سيحل بإذن الله "
رفعت رأسها تنظر له بقهر قائلة: " كيف وهو بعيد؟ "
نظر لها بغموض يسألها: " إلى أي درجة تثقين فيه يا نبض؟ "
ردت بتلقائية: " أثق فيه لأبعد الحدود "
رفع حاجبا وهو يقول بترقب: " حتى بعد أن خدعكِ وكذب عليكِ؟ "
اومأت بخفة وهي تجيبه ببراءة: " لم تهتز ثقتي به أبداً.. إنه صخر يا أبيه كيف لا أثق فيه؟ "
سألها بإهتمام: " هل يحبك؟ "
ردت بعفوية: " هو أخبرني أنه يحبني لكنني أظنه كان يهذي من أثر الحمى "
ابتسم بلطف قائلا: " لماذا تظنينه يهذي؟ "
أطرقت برأسها للأرض في حرج وهي ترد بصوت متحسر: " صخر شاب ثري وسيم كل الفتيات تتمناه وتلاحقه أينما كان فلماذا سيحبني أنا ويتركهن؟ "
قطب قاسم بذهول وهو يقول: " ألا تنظرين لنفسك في المرآة أبداً يا نبض؟ أنتِ أجمل من كل الفتيات اللاتي رأيتهن في حياتي حتى أجمل من حياة نفسها وإن كان الحب يشترط على نسبة الجمال فمن الطبيعي أن يحبكِ صخر "
نظرت له بترقب تقول: " إذن الجمال لا علاقة له بالحب "
رد ببساطة: " من وجهة نظري أنا فلا.. لا علاقة بينهما وليس الجمال أمرا مهما "
طالعته بإهتمام وهي تسأله: " ما المهم من وجهة نظرك إذن؟ "
أشار قاسم على صدره وهو يقول بصوت قوي ذو معنى: " المهم هو ما يسكن خلف تلك القضبان يا صغيرة.. كل شيء قابل للمقايضة عدا القلب ما إن يسكنه شخص بصدق فمن الصعب أن يخرج منه "
عبست نبض وهي تقول: " قلبي يحترق "
إبتسم قاسم بمكر وهو يرد: " أهلا بكِ في واحة الحب ومآسيه "
نظرت له بحيرة فتابع يقول: " لا تتعجبي هكذا فمن يقف أمامك عضو قديم ولديه إمكانية على أن يعطيك دروس تقوية إن شئتِ "
قطبت بعدم فهم تردد: " دروس تقويه! فيما؟ "
اتسعت إبتسامته وهو يشاكسها: " في كيفية التعود على تبلد المشاعر واللامبالاة "
فغرت فاهها ببلاهة بينما هو يتابع ببساطة: " وعندك ياسين قد يعطيك دروس في كيفية الرد بسخرية وفكاهة في أصعب المواقف "
قطبت بذهول تقول: " ماذا؟ "
كتم ضحكته وهو يكمل: " عاصم أيضا يعتبر أستاذ في الرد بسماجة.. ويوسف ما شاء الله طبيب متخصص في التأفف والتذمر كالأطفال.. أما حمزة فأفضل شخص قد يمنحك دروس في العبوس.. وزيد قد تحتاجينه إن أردت تعلم العجرفة (ابتسم بتهكم قبل أن يقول) لدينا مدرسة متكاملة ومتعددة المواهب.. معنا لن تحتاجي لأي نصائح خارجية من أي أحد.. ما رأيكِ؟ "
انفجرت نبض مقهقهة بقوة وهي تغطي فمها بكفها بينما عينيّ قاسم تطالعانها بحنان وعذوبة قبل أن يتنهد قائلا: " سعيد لأنكِ ضحكتِ أخيرا "
بعد أن توقفت ضحكاتها نظرت له برقة وامتنان وهي تقول: " شكرا أبيه "
رفع قاسم حاجبا بمناكفة وهو يقول: " لما لا تتزوجيني ونحرق دم صخر وحياة في وقت واحد؟ "
قهقهت من جديد وهي تهز رأسها سلبا قائلة من بين ضحكاتها: " مستحيل صخر سيقتلني "
برم قاسم شفتيه وهو يقول: " أما حياة فستختبئ في جحرها كالفأر وتبكي "
قالت نبض بتنهيد: " الحب عذاب يا أبيه "
رد قاسم بشرود: " تحلي بالقوة يا صغيرتي فأنتِ لم ترِ منه شيء بعد "
اومأت برأسها دون رد فأضاف بلطف لكنه حازم وكأنه يحدث طفلته الصغيرة: " احذري يا صغيرة أن تندفعي مرة أخرى وتكررين لمس أي شاب لأي سبب فلولا أنني أقدر حالتكِ لكنت صفعتكِ.. مفهوم "
أطرقت برأسها محتقنة الوجه بحرج وندم وهي تتمتم بصوت مرتبك: " آسفة أبيه إنها المرة الأولى والأخيرة.. لن أكررها أبدًا "
ابتسم قاسم بحنان وهو يقول: " حسنا.. اعتني بنفسكِ يا صغيرة (ثم أردف بشقاوة) اممم نسيت أن أخبركِ أن صخر بالطبع إستثناء من تلك القاعدة "
رفعت وجهها تطالعه مقطبة الجبين بحيرة فتابع كاتما ضحكته: " بعد الزواج أقصد "
جحظت عينيها بصدمة لحظية قبل أن تفتح فمها هاتفة بغيظ ووجهها يحتقن بشدة: " يبدو أن الوقاحة داء متوارث في عائلتكم العجيبة تلك "
انفجر قاسم ضاحكا وهو يومئ برأسه متمتما: " إنها الجينات "
وتحرك مغادرا بعدها بينما وقفت نبض عابسة تراقب رحيله قبل أن تغمغم بغير رضا: " جينات وقحة يجب القضاء عليها قبل أن تتفشى في النسل الجديد "
***

في المساء
كانا يجلسان في الحديقة، يتحدثان بشأن العرس والتجهيزات القادمة له حتى سكتت شمس فجأة فطالعها زيد بحيرة يقول: " ما بكِ شمس؟ فيما شردتِ عني؟ "
رمقته شمس بطرف عينه بخجل وهي تتمتم: " أنا أريد الإعتراف لك بأمر مهم و... "
قاطعها باسما بمكر وهو يقول: " إن كان ما أفكر فيه فلا مانع عندي إطلاقا "
قطبت حينها وهي تسأله: " وفيما تفكر أنت؟ "
رفع حاجبا بشقاوة وهو يجيبها: " أظنكِ تريدين الإعتراف لي بمدى إعجابكِ بي.. حسنا ما من داعي لهذا فأنا أعرف أنني حلم كل الفتيات "
رفعت هي حاجبيها تعجبا من نبرته المغترة وهي تقول: " ما كل هذا التواضع يا ابن عمي؟ تتحدث وكأنك قادم من الفضاء "
ضحك زيد وهو يرد مازحا: " أوَ لست كذلك؟ "
فزفرت شمس غيظا وهي تقول: " لا أمل في تغييرك أبدًا.. غرورك هذا سيكون قاتلك ذات يوم "
حرك زيد كتفيه بدون تعقيب فأردفت شمس: " رحم الله امرئ عرف قدر نفسه "
حينها ابتسم زيد باستفزاز قائلا: " أعلم ذلك وأنا أعرف قدر نفسي جيدًا "
قطبت بحنق وهي تهمهم: " واضح "
لحظات وشردت شمس بعيدا، تنظر للأعلى نحو السماء المعتمة عدا عن وجود بعض النجوم التي تتناثر على صفحتها بوجه كئيب ونظرات حزينة جعلت زيد يزفر بملل وهو يقول: " لا تخبريني أننا عدنا إلى ذاك الموضوع من جديد "
لم ترد شمس فزفر ثانية يردف: " حسنا على الأقل أخبريني عما يزعجكِ منذ الصباح؟ "
نظرت له بيأس تجيبه: " أنت ما يزعجني يا زيد.. ها قد أخبرتك فماذا ستفعل حيال ذلك؟ "
فعبس وهو ينظر لها قائلا: " أنا! لماذا؟ "
تنهدت بأسى وهي ترفع نظراتها إلى السماء بينما تقول: " لأنك تغيرت كثيرا يا زيد أو ربما أنت كنت كذلك منذ البداية لكنني من اوهمت نفسي بالعكس "
زاد عبوسه وهو يقول: " لا أحب الألغاز يا شمس.. هلا أخبرتني السبب مباشرة؟ "
إلتفتت تنظر له مقطبة وهي تقول: " السبب هو انانيتك يا زيد.. لا أصدق حجم الحقد الذي تحمله بداخلك لشخص لا تعرفه ولا أفهم لما هو بالذات؟ "
رد ببرود: " لا أحبه "
سألته بعدم فهم: " لماذا لا تحبه؟ ماذا فعل لك؟ "
هب من جلسته فجأة وهو يصيح بنزق: " لا أريد أن أتحدث عنه.. ألا يوجد لديكِ ما هو أهم من ذلك لنتناقش فيه؟ "
هزت رأسها سلبا وهي تقول بقلة حيلة: " لا ليس لدي يا زيد "
أشاح بوجهه بحنق وهو يقول: " إذن سأصعد لغرفتي لأنام.. أرى أن هذا الأفضل "
فردت بإحباط: " أفعل ما تشاء يا زيد "
رمقها بحنق وهو يقول: " أو لن تخبريني عن الإعتراف الذي... "
حينها طالعته بقوة وهي ترد: " أرى من الأفضل أن أؤجله قليلا بعد لربما كنت مخطئة فيه من الأساس "
قطب بضيق وقد فهم مقصدها، هو أبدًا لن يخطئ فهم لمعة الإعجاب التي ترمقه به كلما تلاقيا، يعلم أنها تحبه كما يفعل هو لكن.. ظهور صخر فجأة في هذا التوقيت بالذات كان خاطئا جدا حيث أنهما لازالا في بداية علاقتهما وها قد بدأت المشاكل بينهما
رفض التنازل وظل متشبثا بغروره وهو يغمغم ببرود قبل أن يرحل: " تصبحين على خير "
فأطرقت شمس شاعرة بالحزن من رده، هو حتى لم يحاول مراضاتها بل فضل الإنسحاب كما يفعل كل مرة.. لو أنها تجد تفسيرا لغيرته الطفولية تلك من صخر لربما كانت منحته العذر فيما يفعل لكنها للأسف لا تجد أي تفسيرا لذلك بل إنها لا ترى أن هناك تفسيرا قويا قد يتخذه زيد حجة لتدعم موقفه العدائي تجاه صخر.
لحظات وشعرت بمن يجلس إلى جوارها فألتفتت له لتجده أخوها فنظرت له بكآبة تقول: " هل تظنني أخطأت الظن به وأوهمت نفسي بالسراب؟ أتظنه لا يحبني يا أنس؟ "
رد أنس وهو يطالعها بهدوء: " إنه يحبك بالفعل يا شمس.. لكنه مغرورا قليلا كما ترين ومن الصعب على أمثاله أن تشعرين بحبهم تجاهك بسهولة فهم لا يعبرون ببساطة عما يشعرون به "
قطبت شمس بحنق وهي تقول: " لكنه لا يكف عن التذمر.. لا يمنحني أي فرصة لمناقشته في شيء ويعتبر رأيه هو الأصح في كل مرة ولا ينفذ إلا ما يراه أنسب حتى لو كنت أرفضه "
حرك أنس كتفيه بخفة وهو يقول: " أنتِ من اخترتِ رجل أناني يا شمس فتحملي تبعات اختياراتك "
زفرت بغيظ وهي تتمتم: " ألا توجد طريقة لتغييره؟ "
إبتسم أنس ببرود وهو يجيبها: " التغيير لابد أن ينبع من الداخل أولاً يا شمس وإلا فلا قيمة له "
رمقته شمس بغموض وهي تقول: " مثلك أنت أليس كذلك؟ لقد أقلعت عن التدخين وشرب الكحول منذ فترة.. تقريبا منذ تواصلت أنا مع عائلة أمي رحمها الله "
توتر أنس قليلا وهو يرد بمراوغة: " تعلمين أنني كنت أحاول الاقلاع عنهما منذ فترة طويلة بالفعل لكن الأجواء هنا ساعدتني لأجتاز الأمر بسرعة أكبر "
رفعت حاجبا بمكر وهي تقول: " الأجواء فقط أم هناك شخص دفعك لذلك؟ "
أشاح أنس بوجهه جانبا وهو يقول بإرتباك: " عن أي شخص تتحدثين؟ "
ردت بلامبالاة مصطنعة: " ظننت أنك بدأت تحب فتاة ما وفعلت ذلك لأجلها "
رد أنس بمراوغة: " لو كنت أحب فتاة بالفعل كنت أخبرتك عنها "
تصنعت شمس البراءة وهي تقول: " بالطبع ستفعل يا أخي.. فأنت لا تخفي عني أي شيء أليس كذلك؟ "
اومأ برأسه دون رد وهو يتهرب من نظراتها فقالت بخبث: " كنت أتمنى لو تكون فرح هي حبيبتك.. إنها فتاة مميزة جميلة و... "
هب أنس من جلسته وهو يقول بغيظ: " توقفي شمس.. هل جننتِ؟ لو سمعكِ أحد لن يمر الأمر بسلام ولن يعتبره أحد مجرد كلام "
رفعت حاجبيها تتطلع إليه بقوة قائلة: " وهل هو بالفعل مجرد كلام يا أنس؟ قل لي أنك لا تحبها وأعدك ألا أذكرها أمامك مرة أخرى "
قطب أنس دون رد فقالت شمس ببسمة ماكرة لكي تغيظه: " أ رأيت أن معي حق فيما قلت؟ "
تأفف أنس وهو يتمتم: " إلتفتي إلى خطيبك واتركيني في حالي إذا سمحتِ "
ردت شمس ببرود: " أنت حر.. كنت أود المساعدة ليس أكثر "
رد أنس باسما بسماجة: " شكرا.. فلتساعدي نفسكِ أولا ففاقد الشيء لا يعطيه أختاه "
***

صباح اليوم التالي
كانت نغم تقف أمام الرجلين وهي تكاد تعض على أناملها من الغيظ وهما مطرقان الرأس أمامها بهدوء
أعادت سؤالها عليهما للمرة الألف بنفس الحنق والغيظ: " لآخر مرة سأكرر سؤالي.. إلى أين سافر صخر بك؟ "
كانا يتناظران خفية فيما بينهما وهما على نفس حالهما مطرقي الرؤوس ليهمهم مصطفى بغيظ: " أشعر بألم في مؤخرة عنقي متى ستحل تلك العفريتة عن سمائي لأرفع رأسي؟ "
عبس سيف يحدجه بحزم وهو يهمهم: " تأدب مصطفى في حديثك عن الهانم وإلا سأخبر صخر بك عنك "
همهم مصطفى بضجر: " ليتك تخبره حتى يقتلني وأرتاح من هيئتها المخيفة تلك التي تقابلنا بها كل صباح "
كتم سيف ضحكته وهو يرسم الجدية على ملامحه يهمهم: " لا تزد مصطفى أنت تتخطى حدودك كثيراً "
أجفلتهما صارخة: " بماذا تتهامسان.. ها؟ "
رد مصطفى بإستفزاز: " أحاول جهدي في تذكر هل أخبرني صخر باشا عن البلد التي سيسافر إليها أم لا وكنت أستعين بصديق حتى أتذكر؟ "
رفعت نغم حاجبا بغيظ تقول: " وهل تذكرت؟ "
رفع مصطفى حاجبيه ببراءة يقول: " لا أبداً يا هانم آخر ما أتذكره أنني بت ليلة أمس دون عشاء (ثم أشار على سيف وهو يكمل ببؤس مصطنع) بعدما أكل ذلك البغيض كل الطعام ولم يترك لي ولو لقمة خبز جافة حتى "
كتم سيف ضحكته بشق الأنفس وهو يرى عيني نغم التي تكادان تنفثان لهبا من شدة الغيظ والغضب الذي تكبتهما
بعد لحظات من التفكير بسطت نغم كفها أمامه وهي تقول بأمر: " أعطني هاتفك "
قطب مصطفى يقول بنفس نبرة البؤس الكئيبة: " وهل لو كان لدي هاتف كنت لأعمل حارسا يا هانم؟ إن الهواتف الخاصة رفاهية لا يمتلكها الجميع "
تقدمت نغم منه وقبضت على قميصه بكف بينما الآخر تشير به قائلة بحنق من بين أسنانها: " قلت أعطني هاتفك اللعين "
رد مصطفى بثبات: " ليس لدي هاتف يا هانم وإن لم تصدقينني فبإمكانك أن تسألي صخر بك "
زمجرت نغم والغيظ يتآكلها بينما تغمغم: " وهل لو كان يرد عليّ من الأساس كنت أضعت وقتي مع حمقى مثلكم؟ "
عبس مصطفى بطفولية وهو يشير خفية لسيف متمتما: " عفريتة، طويلة اللسان "
زم سيف فمه بقوة كاتما ضحكته وهو يراها تلتفت له رافعة حاجبيها بشر واضح في مقلتيها وهي تقول بفحيح: " أنتَ تملك هاتف.. لقد رأيته بحوزتك ذات مرة "
رد سيف بتهذيب وصدق: " نعم لدى واحد يا هانم.. أهناك مشكلة في ذلك؟ "
بسطت كفها أمامه تقول ببرود متسلط: " أعطينيه حالا "
قطب قليلا وهو يقول: " عذرا في السؤال يا هانم ولكني أريد معرفة السبب أولاً "
ردت نغم بنفاذ صبر وهي تكاد تصرخ فيهما: " أريد الرقم الخاص بصخر بك "
تدخل مصطفى يقول بتعجب: " ألم يمنحك صخر بك رقمه؟ "
هتفت نغم في وجهه وقد بدت فاقدة للسيطرة وعلى وشك ضربه: " ماذا تظن أيها الأحمق السخيف؟ بالطبع معي رقمه لكني أريد رقمه الخاص.. ذاك الرقم الذي بحوزة أشخاص قلة وللأسف أنتما منهم "
رد مصطفى بسماجة يغيظها: " أعذريني يا هانم فيما سأقول لكن ألا ترين أنه لو كان يريد منحك إياه لفعل دون أن تطلبي حتى؟ "
جحظت عينيها بغضب من وقاحة مصطفى معها فصرخت وهي تلكزه في كتفه: " وما دخلك أنت أيها السخيف؟ لماذا تحشر أنفك الكبير هذا فيما لا يعنيك؟ "
شهق مصطفى بصدمة وهو يتحسس أنفه ناظرا إلى سيف بينما يقول بذهول مصطنع: " هل تضخم حجم أنفي دون إذن مسبق مني؟ ما هذا التسيب؟ "
لم يستطع سيف كتم ضحكاته أكثر فأنفجر ضاحكا وحينما رأى كيف تنظر له نغم بغضب تنحنح بحرج يقول: " آسف يا هانم "
قطبت نغم وهي تنظر إلى سيف تارة ومصطفى تارة أخرى قبل أن تقول بصوت جامد مختصر: " الرقم "
رفع مصطفى رأسه يناظر سيف بصمت بينما قطب الأخير بجدية وهو يقول بتهذيب: " آسف نغم هانم لا يمكنني أن أعطيك إياه.. غير مسموح لي بهذا "
صاحت نغم بضيق وعجرفة: " كيف ترفض تنفيذ أوامري أنسيت مع من تتكلم؟ أنتَ هنا تعمل لدي وأوامري لا يقال لها لا "
قطب سيف وأطرق رأسه للأرض دون رد بينما عبس مصطفى وهو يقول: " لسنا عبيداً لديك يا هانم وإن أختلط عليكِ الأمر فمن واجبي أن أصححه لكِ.. نحن لا نعمل لديك بل لدى صخر بك وأوامره وحده هي التي لا يقال لها... لا "
ثم رمق سيف بنظرة غامضة قبل أن يلتفت لها قائلا بجدية: " بعد إذنكِ يا هانم "
كانت ليال تقف على بعد منهم تتابع الحوار دون تدخل رغم رفضها التام لطريقة ابنتها المتعالية في الحديث مع الحارسين
قبل أن تتفوه نغم بحرف وهي تتابع انسحاب الحارسين من أمامها دون أن يهتما بأمرها نادتها أمها بحزم تقول: " نغم.. أريدك حالا في المكتب "
ضربت نغم الأرض بقدمها بطفولية وهي تشعر بالغيظ قبل أن تستدير لاحقة بأمها
دخلت المكتب تقول بعبوس: " نعم ماما "
نظرت لها ليال بهدوء وهي تشير لأحد الكراسي قبالة المكتب حتى تجلس فأطاعتها نغم وهي تجلس ببساطة منتظرة أن تخبرها أمها بما تريد
رفعت ليال حاجبا ببرود مقصود وهي تقول: " تلك العجرفة التي تتحدثين بها مع سيف ومصطفى غير مقبولة بالمرة وقد ناقشتك في تلك النقطة أكثر من مرة من قبل "
صاحت نغم بغيظ متفاقم: " إنهما مجرد حارسين يعملان لدينا كالكثير غيرهم.. لماذا تضعينهم دومًا في خانة خاصة؟ "
ردت ليال بهدوء: " لأنهما عزيزين جداً على أخيك.. صخر يحترمهما كثيرا ولا يعاملهما كحارسين بل كأنهما أخوة له ويزعجه كثيرا أن يهينهما أحد "
تكتفت نغم بحنق وهي تتمتم: " اه بالطبع نسيت أنهما مخزن أسراره الغامضة التي يخفيها حتى عن عائلته لكنه يفصح عنها لغريبين "
ابتسمت ليال وهي تنظر إلى ابنتها قائلة: " لطالما كنتِ مندفعة كالعادة في تفسير الأمور وتحليل المواقف.. أنتِ غبية بالفعل "
عبست نغم وهي تنظر إلى أمها قائلة بغمغمة: " لماذا تنعتيني بالغبية؟ "
تنهدت ليال وهي ترد بعد لحظة بشرود يحمل الشجن: " لأنه من الصعب بل من المستحيل أن يفصح صخر عما يحمله بداخله لأحد سواء كان قريبًا أم غريبًا.. أسراره الغامضة كما تصفينها لا أظن بشر غيره يعلم عنها شيء.. أتعلمين السبب؟ "
هزت نغم رأسها سلبا وهي تقول بإهتمام شديد وترقب: " أخبريني أنتِ السبب ماما "
نظرت لها ليال مبتسمة بفخر تخص به صخر: " لأن أخاكِ لا يحب أن يشاركه أحد أسراره ومسؤولياته.. أعتاد دوما أن يقوم بواجباته أولاً بأول دون أن يطلب أي مساعدة من أحد ولطالما أداها كلها على أكمل وجه دون خطأ أو تقصير "
غامت مقلتي نغم برقة مفرطة كحالة استثنائية عن تلك الحالة العجيبة المتقلبة التي تظهر بها عادة قائلة بإبتسامة: " تتحدثين عنه بفخر وكأنه حبيبكِ مثلاً وليس ابنكِ "
أتسعت إبتسامة ليال بحب شديد وهي ترد: " بلى هو حبيبي.. الحبيب الأول في حياتي، الحبيب الذي لم تقلل الأيام والصدمات من حبه في قلبي مثقال ذرة.. كثيرا ما أرى نفسي طفلة أمامه.. أتعلم منه الكثير مما أجهله وأتعجب من جهلي هذا وأنا أكبر منه عمرا وأكثر منه تجاربا وخبرة "
تسمرت يد معتز على مقبض الباب وهو يسمع صوت ليال المبتهج وهي تتحدث عن حبيبها، تسمر في مكانه وهو يفكر بجنون.. ترى أتحكي لابنتهما عن حبيبها الأول دون مراعاة لشعوره كرجل غيور وكزوج؟
نهضت ليال من مكانها واتجهت إلى النافذة تقف أمامها ممسكة بحافتها وهي تكمل حديثها بسعادة تتلألأ كالنجوم في مقلتيها الزرقاوتين بلونهما الشفاف الصافي: " أتعلمين نغم.. كثيرا ما تمنيت في مرحلة مراهقتي وشبابي أن أحظى برجل صارم، شديد لا ينحني أمام مخلوق ولا يهاب سوا خالقه.. تمنيته فارسا لا ليأخذني معه وينطلق بي على صهوة جواده كما تحلم كل الفتيات بل ليعاملني بأخلاق الفرسان التي حلمت أنا بها "
رددت نغم بتعجب: " أخلاق الفرسان! "
إلتفتت لها ليال وهي ترد برقة: " نعم أخلاق الفرسان.. كما كان أبي رحمه الله لأمي وكما أخبرني ذات يوم بأن الفارس المغوار ليس فقط من ينتصر في حروبه أمام العدو وهو يشهر سلاحه بل من يربح كل الصولات والجولات على اختلاف أنواعها وأشكالها فأنا لا أحب الخسارة.. تشعرني بالضعف وهذا بالنسبة لي شعور كريه لا أحبه "
سألت نغم بإهتمام أكبر: " لم تخبريني بعد عن أخلاق الفرسان التي كنت تحلمين بها "
تنهدت ليال بعمق قبل أن ترد وهي تتكتف مستندة بظهرها على النافذة من خلفها: " تمنيت فارس شجاع لا يفر هاربا من الصعوبات بل يواجهها ببسالة وصمود.. تمنيته شديد، صارم، متبلد المشاعر مع كل بنات حواء لكنه أمامي وحدي يلين ويحنو.. تمنيته رقيقا مترفقا في معاملتي.. يتحملني ويتفهمني ولا يحملني فوق طاقتي.. تمنيته شغوفا بي ومكتفيا بوجودي عن كل النساء.. تمنيته قوي لا يهاب أحد ولا يقبل بالخطأ مهما كلفه الثمن.. تمنيته أن يتمسك بي مهما تكالبت علينا الأزمات واشتدت علينا مشاكل الحياة.. صدقيني حبيبتي تمنيت في فارسي الكثير مما قد ترين أن بعضه عجيب "
ابتسمت نغم بمكر وهي تقول: " وهل حظيتِ بفارسك أم لازلتِ تبحثين عنه وتترقبين مجيئه؟ "
ضحكت ليال بعذوبة فأنسابت تلك الضحكات على قلب معتز تروي ظمأه وتطفئ القليل من نيران غيرته التي تنهش أحشائه دون رحمه
ردت ليال بفخر واعتزاز وهي ترفع حاجبا بغرور بينما تقول بدلال: " حظيت باثنين.. الأول هو زوجي حبيبي ومالك فؤادي والثاني هو إبني سلطان روحي "
ضحكت نغم وهي تقول بشقاوة: " أين هو زوجكِ ليسمع ما يقال عنه من خلف ظهره؟ "
شاركتها ليال الضحك وهي ترد: " بالطبع في عمله منشغل بمرضاه "
توسعت عيني معتز بصدمة أثلجت قلبه الذي كان قبل لحظة واحدة مضت يشتعل بحرقة الغيرة وألم اليأس والقهر، فغر فاهه وهي يردد بغير تصديق: " هل أتوهم ما سمعت؟ "
بينما لسان حاله كان يتخبط بحيرة، ويتساءل هل قصدته ليال حقا؟
أتراه بالفعل الفارس الذي حلمت به وتمنته يوما؟ أهو ذاك الحبيب ومالك فؤادها الذي أخبرت نغم عنه؟
تنهدت نغم تقول بلطف: " لم أكن أعرف أنكِ تحبين بابا لهذه الدرجة "
ابتسمت ليال برقة وهي ترد: " والدكِ يستحق ما هو أكثر من الحب.. معتز كنزي الخاص، ثروتي التي لا أقبل فيها المشاركة.. لو أملك تغيير الأقدار لاخترت أن يكون الرجل الأول الذي ألتقيه.. لاخترت أن لا تقع عينيّ على رجل سواه ولا عشق قلبي قبله ولا غيره "
نكست رأسها بتفكير وهي تتذكر بعض الذكريات المريرة التي مرت بها من قبل ثم تابعت بصوت ينبض بالألم: " حييت لسنوات طويلة أبكي على الأطلال وما ندمت في حياتي على شيء أكثر من بكائي هذا.. كنت هبلاء عاطفية بشكل مثير للشفقة وذلك ساعد في تيهي وتشتتي لسنوات حتى بدأت أشعر فجأة بالارتواء من بعد ظمأ، بدأت أشعر بالطمأنينة والأمان من بعد خوف وقلق، بدأت أشعر بنفسي بعدما ظننت لفترة طويلة بأني فارقت الحياة رغم أن صدري لازال يحتوي قلبا نابضا وأنفاسا هادرة "
شهقت كاتمة غصة البكاء الحارقة حتى لا تنفجر منهارة أمام ابنتها وهي تضيف: " معتز كان السبب في تلك السكينة التي اكتنفتني بظلالها.. كان السبب في أن أرى الحياة بمنظور جديد، بطريقة سليمة ومحايدة كنت أفتقر لها "
انهمرت بضعة دمعات وهي تجز على أسنانها بشراسة بينما تقول: " معتز يظنني لازلت أبكي ذاك الرجل الذي تخلى عني وأتحسر عليه.. يظنني نادمة وأتمنى لو يعود إليّ لكنه مخطئ (نظرت إلى نغم وهي تصيح بمرارة) أجبر نفسي كل يوم على تذكره حتى أظل شاكرة للنعمة التي بين يديّ الآن.. أرغم نفسي كل يوم على استرجاع كل لحظة قضيتها معه حتى أرى الفارق الكبير بينه وبين معتز وفي النهاية أرى كم كنت حمقاء حينها حينما وثقت به وآمنت له وأوهمت نفسي بأني أحبه.. أجد نفسي أضحك على نفسي وأسخر منها على وقوعها في خطأ فادح كهذا "
أغمضت عينيها بقوة وهي تكمل بصوت معذب مختنق: " حينما أنظر إلى صخر لا أرى أي شبه بينهما، أي تفصيلة صغيرة تجمعهما.. حينما أنظر إلى صخر أشعر بأني... بأني أنظر لانعكاس صورتي في المرآة أو هكذا أوهم نفسي حتى أشعر بالراحة (ثم شهقت وهي تتابع) لا أحب فكرة أنه يحمل منه أي شيء.. الفكرة في حد ذاتها قاتلة.. هو لا يستحق أن يشبهه صغيري، لا يستحق أن يحظى بابن كصخر.. أبدًا لا يستحق "
اقتربت نغم من أمها تربت على كتفها بحنان تواسيها وهي تقول بصوت قوي واثق يشبه كثيرا نبرة صخر التي دوما تنبض بالثقة والسيطرة: " اهدئي ماما.. صخر ابنك أنتِ، صغيركِ أنتِ ولا يستطيع مخلوق في الوجود أن يسلبك إياه.. ما كان صخر ليسمح لأحد بأن يبعده عنكِ لأنه يحبك أنتِ، يرى فيكِ وحدكِ نفسه.. صخر فارس تلقن دروسه على يديكِ أنتِ ومحال أن يخذلك لأنه أمين وعلى قدر المسؤولية التي حملتيه إياها.. حتى أنا حينما أنظر إليه أراكِ فيه ماما أنتِ لا تتوهمين شيء.. صخر قطعة منكِ... قطعة ملتصقة بكِ وغير قابلة للانفصال عنكِ ولا بأي شكل من الأشكال "
هدأت ليال وقد كان لكلمات نغم مفعول السحر على قلبها المهتاج بلوعة الهجر وروحها المنكسرة بمرارة الخوف من فقد ابنها فلذة كبدها ومهجة فؤادها وقرة عينها الذي لا تشعر بالسكينة إلا وهو أمام ناظريها سالما قويًا
همهمت ليال بشوق وهي تميل مستسلمة لذراعي ابنتها التي تحيطها بها: " لقد إشتقت إليه جداً وأشعر بأن تلك الأشهر الأربعة التي ابتعدها عني تعادل دهرا كاملا "
تنهدت نغم وهي ترد بخفوت: " وأنا الأخرى إشتقت إليه ماما "
أما معتز فقد ظل مكانه وقد خبت شعاع الفرح الذي للتو قد أستضاء بعدما سمعها وهي تفصح بحبها له
يشعر بالحزن على حبيبته التي تأبى تصديق أن صخر لن يهجرها ويرحل يوما ولا يعرف ما يفعل ليريحها ويطمئن قلبها؟
***

في الخارج
بينما كان مصطفى يغمغم بينه وبين نفسه شاتما تلك المغرورة المزعجة نغم إذ بعطر قوي مميز يعكس عن شخصية صاحبه يلفه بنفس القوة فيخرسه وهو يستدير ببطء متفاجئا مما يرى
كان صخر يقف واضعا كفيه في جيبي بنطاله رافعا حاجبا وملامحه عابسة بوحشية مكبوتة وهو يطالع مصطفى بصمت وإلى جواره كان سيف يكتم ضحكة متشفية تكاد تصدح مجلجلة وهو يرى هيئة مصطفى المتوترة
تمالك نفسه بعد لحظات ليهلل فجأة قائلا: " صخر بك.. حمداً لله على سلامتك يا باشا.. اشتقنا لكَ والله "
ارتفع حاجبي صخر بتعجب مصطنع بينما مصطفى يتابع متنحنحا بإرتباك وهو يقول: " كنت في سيرتك للتو يا باشا "
رد صخر بتهكم: " واضح.. فأنا مدرك جيدا لما تفعله سيرتي بكَ من خلل في العقل وطولا في اللسان "
تنحنح من جديد بحرج وهو يقول: " لا تقل هذا يا باشا.. من أنا لأطيل لساني على سيرتك حاضرا كنت أو غائبا؟ "
مال صخر برأسه اتجاهه يطالعه بشر واضح وهو يقول من بين أسنانه: " لكن لا مانع لديك أن يستطيل لسانك على أختي أليس كذلك مصطفى بك؟ "
رد مصطفى بغيظ وهو لا يدري كيف اندفعت الكلمات منه بهذه السرعة ودون تفكير: " والله لو تعطني إشارة واحدة كنت قتلتها وأرحتك منها حتى لا تلاحقك كالأشباح، وأرحت ليال هانم منها حتى لا تزعجها، وأرحت معتز بك المسكين الذي يكاد يفقد عقله بسببها وأرحت سيف من عجرفتها وأرحت نفسي من هيئتها المريعة التي أشعر وكأنها تتقصدها حتى تخيفني "
قطب صخر بعبوس بينما أخذ مصطفى يضيف المزيد لاهيا عن اشتعال النيران في مقلتي صخر: " وكأنه لا يكفينا صوتها الرفيع كلحن مزعج نشاز حين تصيح فيسبب التشنجات في الجسد حتى تضيف على هيئتها ذلك الكحل الأسود الذي تلطخ به عينيها وكأنها طفلة عبثت في أدوات الزينة الخاصة بأمها.. لكنه للحق يا باشا يليق... بعفريتة... مثلها... ماذا؟ هل تماديت في حديثي؟ "
قطب صخر بهدوء متعجبا وهو يرد: " لا تقل هذا مصطفى بك.. من حقك طبعا أن توضح رأيك في هيئة أختي الغريبة... "
قاطعه مصطفى يصحح له بعفوية: " تقصد المريعة يا باشا "
اومأ صخر برأسه وهو يكمل حديثه متحليا بالصبر والتماسك: " العفو منك مصطفى بك... أقصد أن رأيك مهم بالفعل في هيئة أختي... (وشدد في نطقه للكلمة) المريعة لكن أسمح لي أن أخبرك بشيء مهم يخصك "
ابتسم مصطفى بسماجة وهو يقول: " بالطبع تريد أن تكافئني على فكرتي العبقرية.. لكن ليس هناك داعٍ لهذا يا باشا ولا تتعب نفسك فأنا لا أريد سوا راحتك وتكفيني أفضالك التي تغرقني "
جز صخر على أسنانه غيظا وهو يقول بفحيح وحشي: " أنتَ مقتولا الليلة على يديّ يا مصطفى.. فقط أنتظر حتى يحل المساء وحينها (ثم مال عليه يهمس بنفس الفحيح) سترى كيف سأدهشك بآخر أفضالي عليكَ والتي من فرحتك بها ستخر صريعًا "
ثم تركه بخطى ثابتة مختالة يحدق في ظهره الغارب عنه بينما أخذ مصطفى يتمتم بدهشة مضحكة: " هل سأنال هذا الشرف حقاً وأكون أول من يُقتل على يدي صخر باشا؟ يا لحسن حظك يا مصطفى يا محظوظ "
ومن خلفه وقف سيف يضرب كفا بآخر وهو ينظر له بذهول متمتما: " فقد المسكين آخر ذرة تعقل كان يمتلكها "
***

خطى صخر للداخل متصنعا اللامبالاة وهو يرتدي إحدى قناعات الصلابة حتى يخفي عمن حوله لهفته الشديدة وتوقه البليغ في أن يرمي بنفسه وأحماله الثقيلة بين ذراعي أمه
فتحت له الخادمة مبتسمة وهي تقول بتهذيب: " حمداً لله على سلامتك يا بك "
اومأ برأسه وهو يرد بلطف: " شكراً علية.. أين أمي ونغم؟ "
ردت علية بنفس البسمة الهادئة: " آنسة نغم بصحبة ليال هانم في المكتب وقد وصل معتز بك منذ بضعة دقائق أيضاً "
اومأ مجددا وهو يقول بإيجاز: " حسنا "
لحظات وكان يطرق على باب غرفة المكتب بخفة قبل أن يفتحه دالفا للداخل وهو يلقي عليهم التحية ببساطة: " السلام عليكم "
توسعت عينيّ ليال بدهشة وهي تطالعه واقفا أمامها بهالته الملوكية التي تحيط به أينما كان بينما قطبت نغم مغمغمة: " لو جئنا على سيرة اللهو الخفي لما تمثل لنا بتلك السرعة "
أما معتز فقد ابتسم بسعادة مقتربا منه وهو يعانقه قائلًا بمودة: " حمداً لله على سلامتك بني "
بادله صخر العناق بنفس المودة وهو يرد: " سلمك الله يا أبي "
تقدمت نغم منه هي الأخرى تقول ببرود: " مرحبًا "
رفع حاجبا وهو يرد ببرود مماثل: " أهلاً "
حادت عينيه قليلاً بتعجب نحو أمه التي لازالت تقف أمام النافذة المفتوحة بعيدة عنه وفي خاطره تدور أفكار قاتمة حول ما تسبب في بقايا الدموع التي يراها عالقة بأهدابها
نظر إلى والده بتساؤل صامت فأشار الأخير برأسه بخفة يخبره أن يقترب منها وخلال تقدم صخر منها انسحب معتز ونغم من الغرفة وتركاهما على إنفراد لربما كانا بحاجة إليه
توقف أمامها مباشرة لا يفصل بينه وبين أمه سوا بضعة سنتيمترات قليلة ودون سابق إنذار رفع يده متلقف بطرف سبابته تلك العبرة التي سالت من عينها
نظر لتلك العبرة مقطبا وهو يقول بصوت قوي مؤثر: " تعلمين أن لآلئك الماسية تلك غالية عليّ فلماذا ترهقين قلبي العليل برؤياها؟ "
عضت ليال على طرف شفتها السفلى تمنع نفسها بقوة من الانخراط في موجه بكاء شديدة تلح عليها في تلك اللحظة بينما تابع صخر بنفس النبرة: " هل تريدين لقلبي انتكاسة أخرى قد لا يقوى على تحملها هذه المرة؟ "
هزت رأسها بعنف وبضعة عبرات تنهمر رغما عنها وهي تقول شاهقة برعب: " لا.. بعيد الشر عنك يا حبيب قلب أمك أنت.. لا تقل هذا وتؤلم قلبي بالله عليك فلست أحمل من القوة ما يمكنني من تحمل فراقك "
رفع عينيه إليها يتطلع إلى زرقاوتيها الشفافتين المكللتان بسحابة مطيرة وهو يقول بصوت يفيض رقة وحنانا: " إذاً لا تبك أمي فلا ينتكس قلبي العليل ولا يتألم قلبك "
جذبته ليال إليها تضمه بقوة إلى صدرها وهي تجهش في البكاء قائلة بحرقة: " لو بيدي كنت انتزعت قلبي من مكانه وقدمته لكَ يا حبيبي حتى تبرأ من عِلتك.. لكني لا أستطيع فهو ليس ملكي وقد قدمته لكَ منذ سنوات فلم تحافظ عليه ونقلت إليه عِلتك فبات يشاركك الألم والداء.. فمن أين آتيك بقلب يشفيك ويداويك؟ "
لجم لسانه عن الكلام حتى لا يجرحها فكلاهما يعلمان أن علته الوحيدة تتمثل في تشتته بين طرفين لا يشعر في قرارة نفسه بالانتماء لأي واحد منهما، كلاهما يعلمان أن علته وسبب انتكاسة قلبه في كل مرة هي اشتداد وتأزم حالته النفسية حين تتكالب عليه الأفكار فيؤذي نفسه بدون تفكير
تنهد بإحباط وهو ينظر إليها، يكره رؤيتها على مثل هذه الحالة التي تضعفه وتسقط جميع قناعاته، لا ينكر بأن من أكثر الأشياء التي تؤثر به حد إيلام قلبه هو رؤية مآساتها النفيسة منسكبة بتلك الغزارة من المحجرين الشفافين اللذين يحبهما
طوقها بقوة أكبر يدعمها ويمدها من قوته وصلابته وهو يقول: " لا تكلفي نفسكِ عناء البحث عما سيداوي قلبي أماه فهذا ليس مهما بقدر اهتمامي اللحظة بمعرفة سبب بكائك "
شهقت بقوة وهي تمرغ وجهها في صدره تتشممه كهرة صغيرة تتمسح بصاحبها وهي تتمتم بصوت باك: " غبت عني لأربعة أشهر كاملة دون أن تهاتفني لمرة واحدة حتى وتركتني قلقة عليك يؤلمني الشوق إلى مرآك دون أن تهتم لأمري "
رمش لوهلة بحيرة وهو يسألها بشك: " هل هذا هو ما يبكيك حقا أمي؟ "
اومأت وهي تدفن وجهها في صدره أكثر مغمغمة من بين شهقاتها: " بالطبع وهل هناك ما هو أكثر إيلاما لقلبي من غيابك عني؟ "
انفصل عن أمه في تلك اللحظة بروحه وقلبه وهو يفكر في أخرى
ترى كيف ستستقبله نبض حينما يذهب لزيارتها؟
هل بكت شوقا إليه في غيابه عنها؟ هل تمنت عودته إليها سريعا أم أنه لم يخطر في بالها قط بعد مكالمتهما الأخيرة المشحونة؟
أغمض عينيه يتخيل ويتمنى لو أنها تلقي بنفسها بين ذراعيه حينما تراه حتى وإن لم تنطق بعدها بكلمة، سيكفيه ذلك بل وسيفيض ليدخره لوقت لاحق
فتح عينيه بقوة وهو يعبر بغيظ من أفكاره ساخرا من نفسه وهو يحدثها: " غبي أنتَ يا صخر لتمني نفسك بالمستحيل بل وتستشعر حلاوته بحمق أكبر منك "
أبعدت أمه نفسها عنه مقطبة وهي تشعر به شرد في شيء ما لتقول بعد لحظة من مراقبتها له: " فيمن تفكر؟ "
حرك كتفيه ببساطة وهو يضع كفيه في جيبي بنطاله قائلا: " لا أحد "
قطبت ترمقه بحذر وهي تقول: " ونبض؟ "
قطب هو الآخر يسألها: " ماذا بها نبض؟ "
ردت بإبتسامة تصنعت فيها اللامبالاة وهي تمسح عبراتها قائلة: " ألم تكن تفكر فيها للتو؟ "
حرك رأسه سلبا وهو يرد كاذبا: " لا "
رفعت حاجبا باستفزاز وهي تقول: " لماذا تحاول أن تكذب وأنتَ لا تجيد ذلك؟ "
تنحنح بحرج من وضوح أفكاره بهذه البساطة أمام عيني أمه المراقبتين لكل شاردة وواردة عنه فقال بهدوء ظاهري: " ولماذا سأحاول أن أكذب عليكِ أماه؟ لستُ في حاجة لهذا "
ابتسمت ليال بمكر وهي تقول: " قد يكون غرضك من الكذب هو إخفاء شوقك إليها مثلا "
نظر لها مقطبا بعبوس شديد فرمشت ببراءة مصطنعة وهي تقول: " ماذا؟ لقد قلت مثلا ولم أجزم بشيء "
عبس بغيظ مكبوت وهو يتمتم: " سعيد لأنك أصبحت بخير.. بعد إذنك أمي أحتاج للاغتسال "
ابتسمت ليال بحنان وهي تقول: " حسنا وسأجعل علية تحضر لك الغداء "
رد وقد أصبح عند الباب: " لستُ جائعا كل ما أحتاجه حاليا أن أغتسل وأنام "
تنهدت ليال وهي تقول: " حسنا حبيبي كما تشاء "
***

نفس التوقيت / في دار الجبالي
كان سليم يلزم غرفته الخاصة التي يصلي فيها منذ بضعة أيام، لم يخرج منها لمرة واحدة أو يدخل إليه أحد حتى يوسف لم يفعل وفضل أن يترك لوالده حريته في العزلة وعاد هو إلى العاصمة.
كانت المرة الثانية التي يفعلها سليم بعد وفاة زوجته ورحيل ابنه.. مرة ثانية حملت نفسي ألم وحرقة الأولى.
حزين لحال أخيه وقسوة والده وضياع ذاك الابن الذي ظلمته الحياة ووضعته في منتصف الطريق فلا هو طال السماء ولا ثبت قدميه على الأرض.
طرق أحدهم الباب فجأة قاطعا عليه عزلته وهو يقف إلى جوار النافذة يتطلع إلى السماء بسكون، عرف سليم ببساطة أن الطارق هو آخر شخص أراد مواجهته اللحظة لكنه لم يستطع منعه من الدخول أو رده فتنهد باستسلام قائلا: " تفضل أخي "
دلف خالد إلى الغرفة وأغلق الباب من خلفه وهو ينظر إلى حيث يقف أخوه الذي يوليه ظهره، تقدم منه بهدوء حتى جاوره أمام النافذة، ناظرا هو الآخر إلى السماء قبل أن يقول بصوت عاتب: " أتخاصمني يا سليم؟ "
لحسن حظ الأخير أنه لم يطالع خالد في تلك اللحظة فلم تنكشف أمر تلك العبرات الثقيلة التي كانت تفرض نفسها كغمامة تحول بينه وبين الرؤية التامة.
سكت ولم يرد، خشى إن رد أن يؤذي أخوه بالكلمات فأختار السكوت، لكن خالد لم يسكت وهو يعيد سؤاله من جديد: " إذن أنت تلزم غرفتك بسببي.. لا تريد أن تراني أو تكلمني أليس كذلك؟ "
أطرق سليم رأسه للأرض وهو يرد بصوت خافت تغلفه نبرة الأسف: " السماح منك أخي لكني لم أستطع مواجهتك بعد ما جرى "
التفت حينها خالد ينظر لأخيه وهو يقول: " أنا لم أخطئ يا سليم.. لم أفعل ما هو حرام... "
قاطعه سليم بصوت متشدد النبرة: " بلى فعلت يا أخي.. فعلت وأنت تعلم ذلك علم اليقين فلا تنكر "
ازدرد خالد ريقه يطالع أخوه بصمت، علم الآن أن ما يدور في عقله صحيحا وأن سليم بالفعل كان يتجنب رؤياه لأنه ليس راضيا عما فعله في الماضي.. كان يعلم أن الأمر مع سليم لن يمر مرور الكرام إلا بعد تأنيب طويل سيعيد الآلام إلى السطح من جديد لكنه يستحق.
تحرك سليم من مكانه مبتعدا عن النافذة، متجها إلى جلسته المنخفضة أرضا في إحدى الزوايا فسبقه خالد يستوقفه قبل أن يشرع في قراءة القرآن: " لا يصح أن نتخاصم هكذا كالأولاد الصغار وانا لا أجد سببا لهذا من الأساس "
جز سليم على أسنانه وقرر التزام الصمت لآخر لحظة فعلى ما يبدو أن أخاه يماطل فيما يعلمه ويدركه لذا قرر ترك الساحة له وحده حتى يفرغ ما في جوفه دفعة واحدة وبعدها لكل مقام مقال وحديث.
زفر خالد بنفاذ صبر وهو يتجه إلى أخيه يجلس أمامه قائلا: " سليم تعلمني لا أحب تلك الحركات الصبيانية ولا أطيق أن يتجاهلني أحد كما تفعل الآن "
رفع سليم عينين كئيبتين يطالع أخوه أخيرا وهو يقول: " في هذه النقطة لا فرق بينك وبين الحاج عبد الرحمن الجبالي.. تبدو بكريه وشبيهه على حق "
قطب خالد وهو يرد: " ماذا تقصد؟ "
فحرك سليم كتفيه لحفظ وهو يجيبه: " لا شيء "
زفر خالد من جديد وهو يقول: " أخبرني السبب على الأقل "
أطرق سليم رأسه مجيبا: " السبب أن أخي الأكبر، قدوتي، ومثلي الأعلى كاد أن يكون قاتلا لولا إدراك رحمة ولطف الله له وبه "
جحظت عيني خالد بصدمة وكأنه لم يتخيل سماع تلك الكلمات التي أخذته بغتة دون أن يستعد لها ويعد عدته بينما سليم يضيف بصوت حزين: " السبب صدمتي فيك يا أخي.. لا أصدق أنك اعترفت ببساطة بأنك طلبت من طليقتك أن تجهض طفلها.. أردت قتله قبل أن يخرج إلى النور ويرى الحياة التي هي من حقه "
ابتلع خالد غصته المريرة وهو يرد بصوت خافت وكأنه لا يجرؤ حقا على المواجهة: " لقد كانت في الشهر الأول من الحمل "
تابع بعد لحظة بصوت أكثر خفوتا: " كان مجرد نطفة.. نطفة صغيرة لم تنفخ فيها الروح بعد وهذا ليس قتلا "
رفع سليم رأسه يبتسم بسخرية اختلطت بالمرارة وهو يقول: " قل لي أخي أنسيت ما علمنا إياه الشيخ عبد الله رحمه الله أم تراك تجبر نفسك اللحظة على تناسيه حتى لا تعترف بذنبك العظيم وإن كنت نسيت حقا فهل نسيت أيضًا كلام الله الخالد في كتابه المجيد؟ "
رمقه خالد بصمت فأضاف الأخير بصوت شديد البأس: " إذن لازلت تذكر يا أخي.. تذكر جيدا أن الإجهاض حرام شرعا طالما ليس هناك عذرا قويا يحول دون إتمام الحمل، وعلى ما يبدو أنه ما كان من عذر أو حجة قوية بحوزتك لتطلب منها ذلك "
أطرق خالد برأسه وهو يتمتم بصوت هربت منه الحياة: " أردت حمايتها من بطش أبي.. أليس هذا عذرا كافيا؟ "
رد سليم بقوة: " لا ليس كافيا بل إنه حتى عذرا واهيا لا قيمة له.. العذر الحقيقي يكون حين تكون حياة الأم في خطر وشيك مؤكد وطليقتك كانت حياتها في أمان فأنت تعلم أنه مهما بلغت قسوة أبينا فلن تصل به إلى قتل امرأة بريئة بغية ابعادها عن ابنه وبالنسبة للجنين فهو أتى بصورة شرعية صحيحة إذن سقطت كل الحجج والاعذار التي قد تحاول استخدامها في نفي ذنب ما فعلت "
ظل خالد على صمته بينما سليم يضيف بلوم: " كيف واتتك الجرأة على قولها يا أخي؟ كيف وأنت الحافظ لكتاب الله والمتبع لهدي وسنة نبيه _عليه الصلاة والسلام_؟ كيف وأنت من أكملت تعليمي على يديه بعد وفاة الشيخ عبد الله؟ أعلمتني ونسيت ما تعلمته أنت يا أخي؟ "
ازدرد خالد ريقه علقما مسننا في حلقه وهو يستمع إلى أخيه يضيف بيأس: " أين أنت من قول الله تعالى 'بسم الله الرحمن الرحيم'
" وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ "
وأين أنت من قول ابن وهبان الذي أقره جمهور الحنفية 'إن إباحة الإسقاط محمولة على الضرورة'
أين كنت من كل هذا يا أخي وأنت لا تملك الحق ولا حتى حجة بالضرورة؟ "
رفع خالد وجهه شاحبا وهو يرد بصوت مختنق متردد: " لحظتها لم تكن أمامي أية فرصة للتفكير الصحيح.. كنت... أنا كنت خائفا عليها حقا، ظننت هذا الأفضل لها قبلي فهي من بعدي كانت ستصبح وحيدة ومن الظلم أن أحملها عبء طفل بالإضافة إلى هجري لها "
رد سليم بتنهيد: " فاخترت أن تظلم الطفل بدلا منها "
صاح خالد وقد بدى غير محتملا للمزيد من اللوم والعتاب: " قلت لك كانت في شهرها الأول من الحمل أي لم يكن هناك أي طفل من الأساس.. كان مجرد نطفة "
رمقه سليم بهدوء وهو يقول: " وأنا قلت لك ما تعلمه في قرارة نفسك وتصر على إنكاره والتغافل عنه.. ما فعلته خطئا جسيما في حق ابنك يا أخي، ذنبا عظيما ترك من خلفه تبعات سوداء في نفسه.. ما فعلته حرام والحرام لا أثواب متلونة له ولا مفر من الاعتراف به فالحرام في الشرع حرام في كل شيء آخر "
ظل خالد على تجهمه وتشنج قبضتيه للحظات حتى تراخى كتفيه فجأة وهو يقول بصوت مهزوم موجز بكلمة نضحت بالمرارة: " أعلم "
أطرق رأسه وهو يزم شفتيه حتى بديتا كخط مستقيم مشدود بينما اقترب سليم منه يربت على كتفه بحنو قائلا بتفهم: " لا تغضب مني يا أخي.. كان يجب أن اعاتبك لأنني لا أقبل لأخي بأن يقع في مثل هذا الخطأ.. ما حدث قد حدث فاستغفر الله بصدق يغفر لك إنه الغفور الرحيم يا أخي.. أنت اعترفت بذنبك وهذا كافيا ليكون الأمر أسهل في المواجهة القادمة بينك وبينه إذا ما تطرق حديثكما لهذا الأمر "
تمتم خالد بصوت يائس، كئيب: " كيف أسهل يا سليم؟ كيف أخبرني؟ هل تتخيل أنني سأملك القدرة حتى على الوقوف أمامه وجها لوجه؟ وماذا سأخبره حينها؟ أنني تخليت عنه، لفظته وأمه من حياتي لأنني كنت جبانا وانصعت خلف كلمة أبي دون أن أفكر في مصيرهما من بعدي، دون أن اتأكد من حقيقة وجوده أو عدمه "
رفع خالد عينين تتلألأ فيما العبرات الحارة وهو يردف: " إن كنت تظنني أحاول إنكار بشاعة ما طلبته منها فأنت محق في ظنك فالإنكار أسهل علي من الإعتراف بما سولت لي نفسي طلبه "
حاول سليم أن يقاطعه لكن خالد لم يسمح له وهو يضيف بصوت متحسر: " أنا أتألم يا أخي أقسم لك أتألم.. ما فعلته جرما كبيرا سأظل ألوم نفسي عليه لآخر لحظة في عمري وما بيدي حيلة لتصحيحه اليوم.. حين أنظر إلى فرح أرى في عينيها سؤالا متحيرا وكأنها تسألني لماذا تزوجت على أمها؟ فأتهرب منها غير قادرا على إجابتها وحين أنظر إلى ياسين أرى في عينيه استنكارا من فعلتي وكأنه يسألني كيف جرؤت على خيانة زوجتي ثم التفريط في ابني؟ وقاسم يا سليم قاسم عينيه تسألانني نفس سؤالك.. كيف استطعت أمر ليال بالإجهاض بهذه البساطة؟ "
خانته عيناه وهما تدمعان بلا حرج أمام أخيه متابعا حديثه: " أتراهم يكرهونني الآن يا سليم؟ يرون أنني لا أستحق أن أكون أبا لأبناء رائعين مثلهم؟ وماذا عن... عن صخر؟ ترى ماذا يظن بي الآن؟ أنا لي ابن فرط فيه وقصرت في رعايته يا سليم؟ ابن نشأ بعيدا عن كنفي وحمايتي! "
أشفق سليم على حال أخوه فربت على كتفه بمؤازرة يقول: " أنت أب رائع يا أخي.. لا تفكر في غير ذلك لأنها الحقيقة ولا ترهق نفسك بالتفكير في المستقبل.. أترك كل شيء لوقته المناسب هكذا تخف وطأة الشدائد وتزول الصعاب.. ثق بربك ورحمته التي لولاها لطال بك الزمن دون أن تصل إلى ابنك أو تكتشف وجوده من الأساس وزد من حمدك له لأنه حفظ لك ابنك وها هو يرده لك سالما "
تنهد خالد بانكسار وهو يتمتم: " معك حق، لا فائدة من البكاء على الأطلال.. اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك "


انتهى الفصل..
قراءة ممتعة🌸..


Hend fayed 12-11-19 05:37 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة mini-2012 (المشاركة 14597984)
الرواية روعة وجميلة بانتظار القادم
ويعطيكي الف عافية

حبيبتي تسلمي يارب، حضورك هو الأروع😚

houda4 12-11-19 07:32 PM

الرواية رائعة حقًا لكن لدي بعض استفسارات
مثلا قصة شمس وزيد لم تتطرقي لها أبدًا كيفا التقى وأحبت بعضهما البعض وقررا الزواج ...... إلخ
كذلك نبض كانت فتاة صغيرة منعدمة الشخصية تقريبا ، انطوائية والآن أصبحت بطلة القصة !!
كذلك صخر كان يراها فتاة صغيرة جدا وهي حسب القصة تبلغ فقط 18 سنةً والآن أصبح يعشقها بجنون يوجد عدة تناقضات والآن أصبحت تملك قوة كبيرة وتتحدث مع الجميع فتاة في 18 مستحيل تكون بهذا النضج صراحة !!!
ارى انكي سلطتي القصة كثيرا على نبض وصخر خاصة في الفصول الاخيرة مع ان الجميع كانت له مساحة من القصة

Shimo debo 13-11-19 05:25 AM

اشيد بسردك و لغتك .. لي بعض التساؤلات و ارجو ان تردي عليها ..
لما غضبت نبض عندما عرفت شخصية يوسف الحقيقية طالما هي تعرف من البداية انه ليس اخ حقيقي فما يضيرها ايا كان نسبه
في البداية تم قتل الاخين من اجل الثأر فلما قرروا قتل يوسف و لما تركوا زيد طالما هما تؤام
لما اخفوا خبر نجاة يوسف خوفا عليه و ابعدوه طالما ان العائلة الاخرى اخذت بثأرها
شرعا.. هل تأكدتي من جزئية عدم صحة زواج صخر و نبض لمجرد انه يعيش بنسب ليس نسبه .. اعتقد في هذه الجزئية سقطة كبيرة

Hend fayed 13-11-19 08:24 AM

..
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة houda4 (المشاركة 14598280)
الرواية رائعة حقًا لكن لدي بعض استفسارات
مثلا قصة شمس وزيد لم تتطرقي لها أبدًا كيفا التقى وأحبت بعضهما البعض وقررا الزواج ...... إلخ
كذلك نبض كانت فتاة صغيرة منعدمة الشخصية تقريبا ، انطوائية والآن أصبحت بطلة القصة !!
كذلك صخر كان يراها فتاة صغيرة جدا وهي حسب القصة تبلغ فقط 18 سنةً والآن أصبح يعشقها بجنون يوجد عدة تناقضات والآن أصبحت تملك قوة كبيرة وتتحدث مع الجميع فتاة في 18 مستحيل تكون بهذا النضج صراحة !!!
ارى انكي سلطتي القصة كثيرا على نبض وصخر خاصة في الفصول الاخيرة مع ان الجميع كانت له مساحة من القصة

أولا تحياتي لك حبيبتي وشكرا لمتابعتك🌹
ثانيا/ بالنسبة لزيد وشمس: زواجهم في حد ذاته كان أمر مسلم به بعد قرار الجد الصريح بكدا ومع عودة شمس لعائلة أمها بعد سنوات طويلة فهي تقبلت الزواج بالطريقة دي إرضاء لجدها دا أمر متوقع بالنسبة وكمان ظننت أن القراء هيشوفوه من نفس الجهة لكن بإذن الله في الفصول القادمة هتبدأ لقاءات زيد وشمس تكتر عشان نبين قصتهم بشكل أوضح فعلا.
نبض: أنا مقولتش في أي فصل من الفصول أو الفقرات إنها انطوائية هي فقط مثال لفتاة اتربت في بيت مغلق عليها بدون ما تختلط بالناس اللي برا ومش معنى دا ان شخصيتها انطوائية هي فقط كانت مكتفية بوالديها ويوسف كأخ ليها.
نقطة سنها إنه 18 أنا قلت اننا بدأنا وهي 18 بالفعل لكن مع تطور الأحداث مش ممكن هتفضل نبض في سن ال 18 اكيد كبرت يعني سنة مثلا لأنها شوية وهنلاقيها في قلب الجامعة ومعاها صاحبتها وليلة كبيرة جاية بعدين.
وبالنسبة للقوة اللي أظهرتها في نبض فجأة بعد ما كانت بالنسبة للجميع وأولهم صخر مجرد طفلة فهي فعلا كانت فيها لكن ارجع وأقولك إن لكل إنسان قوة داخلية مش بتظهر غير في المواقف اللي بتتطلب إظهار القوة فعلا ونبض مش انطوائية، فتاة عاشت عمرها اللي هو ال 18 سنة بدون خلافات أو بمعنى أصح متعرضتش إطلاقا لمواجهة المشاكل ودا وضح في حوارها مع العمة فاطمة في الفصل الثامن لما اتكلموا بخصوص يوسف، العمة فاطمة كان ردها إنهم خبوا عنها عشان مش عايزين يشغلوها عن دراستها ويدخلوها في مشاكل هي كطفلة من وجهة نظرهم مش هتقدر تتصرف فيها.
صخر: شايفها طفلة بحكم سنها لكن دا برا نزاع مشاعره لأنه بالفعل كان بيحبها من البداية لو تفتكري معايا اول مرة راحت نبض المدينة الجبلية عند فاطمة بعد ما مات والديها، وأفتكر تي كمان المقتطف الفلاش باك اللي حصل في مرة وهما بيفتكروا موقف حصل وهما صغيرين لما إياد اتكلم عن صخر بطريقة وحشة وهي كانت مستنياه على الأقل يدافع عن نفسه وهو خذلها ومشي.. أنا قلت ان دا أثر فيها جدا لأنها منجذبة لصخر وهو كمان اتاثر باللي حصل لما افتكره.. يمكن انا عندي مشكلة وهي إني عايزة القارئ كمان تكون له مساحته في ربط الأمور بدون ما أفصص كل جزئية لكن بإذن الله هحاول اغير من دا وأوضح أكتر.
وأخيرا/ طبعا لكن ثنائي مساحته وقصته الخاصة اللي المفروض تتوضح ولغاية دلوقتي انا اكتفيت بوضع الخطوط العريضة لعلاقة كل ثنائي بس بالفعل صخر ونبض هما أبطال الرواية الرئيسيين وفكرة الرواية اصلا بتدور حولهم وصخر بالأخص.
أرجو إني أكون قدرت ارد على استفساراتك يا جميلة وفي إنتظار تعليقك وتساؤلاتك🌸

Hend fayed 13-11-19 08:44 AM

..
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة shimo debo (المشاركة 14599256)
اشيد بسردك و لغتك .. لي بعض التساؤلات و ارجو ان تردي عليها ..
لما غضبت نبض عندما عرفت شخصية يوسف الحقيقية طالما هي تعرف من البداية انه ليس اخ حقيقي فما يضيرها ايا كان نسبه
في البداية تم قتل الاخين من اجل الثأر فلما قرروا قتل يوسف و لما تركوا زيد طالما هما تؤام
لما اخفوا خبر نجاة يوسف خوفا عليه و ابعدوه طالما ان العائلة الاخرى اخذت بثأرها
شرعا.. هل تأكدتي من جزئية عدم صحة زواج صخر و نبض لمجرد انه يعيش بنسب ليس نسبه .. اعتقد في هذه الجزئية سقطة كبيرة

بالنسبة لنبض: الموضوع دا أثر فيها من نقطة ليه اخفوا عنها هل لعدم ثقتهم فيها مثلا او لأنها طفلة مش من حقها تعرف أمور زي دي؟؟؟ هو دا اللي ضايق نبض أو بمعنى أصح هو دا اللي جرحها، هي فكرت إن علاقتها بيوسف وإن كان ليس اخوها في الواقع لكنها علاقة تتسم بالصدق فلما تيجي بعدين وتكتشف إنه كان مخبي عنها سر زي دا فأكيد كان لازم تزعل.. لو أنتِ مكانها ايه هيكون رد فعلك؟؟؟ أنا شخصيا هزيل وأصيب ناس تزعل معايا😂
بالنسبة للثأر: أنا قلت كمان ووضحت ان فؤاد في اللحظة دي كان وحش بيقتص من ناس ملهمش أي دخل في اللي حصل اصلا ومتطلبيش من وحش زي دا لما يشوف طفل بينتقص من قدر وقيمته قدام رجالته إنه يعدي الأمر بسلام اكيد كان هيكون له رد فعل وانا اخترت الموت بالذات عشان أوضح درجة الحقد الكبيرة اللي بيكنها فؤاد لعائلة الجبالي.. ومش شرط عشان زيد ويوسف توأم انهم كانوا يتقتلوا هما الاتنين لأن اللي غلط بس كان يوسف وفؤاد شاف أن زيد جبان اصلا فسابه.

صحيح ليه اخفوا وجوده طالما الثأر كان واجب بما ان عائلة الجبالي قتلة وفؤاد كل اللي عمله انه أخد حق عيلته منهم إلا إذا كانت عائلة الجبالي في الأساس ملهاش ذنب في الثأر دا.. وهو دا الحقيقي فعلا ولما يظهر فؤاد هنعرف ليه ألصق التهمة دي في عائلة الجبالي وكان قاصد مين بيها؟؟؟

حبيبتي بالنسبة لزواج صخر من نبض: هو بالتأكيد باطل طالما هوية أحد الطرفين مزيفة وغير صحيحة.. حقيقة النسب دا من أكبر الأمور اللي بتترتب عليها كل حاجة فما بالك بزواج هتترتب عليه تكوين أسرة وأطفال فيما بعد.. أنتِ تقدري تطلعي على أقوال الفقهاء وعلماء الدين لو عايزة تتأكدي أكتر لكن أنا واثقة من النقطة اللي طرحتها وان الزواج بينهم فعلا غير صحيح.
اصلا النقطة الأساسية اللي بناقشها في الرواية هي ضياع نسب صخر الحقيقي.
تحياتي لكِ غاليتي🌹 وشكرا جزيلا لمتابعتك وتساؤلاتك🌸

أم همس 14-11-19 09:55 AM

روعة شكرا على مجهودك الرائع وفى انتظار اكتمالها

**منى لطيفي (نصر الدين )** 14-11-19 12:54 PM

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
القصل جميل يا قمر
جميل ان سليم لم يواجه اخاه امام العائلة وترك التعبير عن غضبه
ونصحه لاخيه ولومه الى ان انفرد به...
نبض فتاة رغما عنها وفاة والديها وايجاد نفسها فجأة لوحدها وغياب
عنصري الامان في حياتها وهما والديها تقف في وجه الريح تعبر
عن غضبها وما يثير حنقها بالعصبية وتبحث عن من الفتهم في حياتها
صخر ويوسف... ما تغبر عنه الان نتيجة من سخط أخرجها بصدمة عن شخصيتها الانطوائية التي كانت عليها...
زواجها من صخر طبعا يبقى باطلا لان الجميع علم بقضيته ويجب ان ينسب لابيه شرعا اولا لانه ابن شرعي من زواج صحيح .. وما فعلته والدته من نسبه لرجل اخر فهي آثمة في ذلك.. وحين يصحح وضعه يتزوجان بنية صحيحة وادراك...
هند اتمنى في الفصول القادمة ايجاد تفاصيل اكثر في ما يخص الثنائيات الأخرى ... اعلم ان القصص كثيرة وتحتاج لوقت ومساحة ونحن في الانتظار...
الجد وزيد مثيران للحنق والغيظ هههههههه وان شاء الله في انتظار
الفصول القادمة . تحياتي

ام زياد محمود 15-11-19 03:39 AM

السلام عليكم

بداية موفقه جدا ان شاء الله

قريت المقدمة والفصل الاول وحبيتهم جدا

بداية حبيت اهتمام زيد الطفل ورغبته فى ارضاء يوسف اخوه بعد ما تسبب فى ايذاء ريحانه الحصان الخاص بأخوه وماكنش سهل ابدا الجريمة اللى شافوها بمقتل اعمامهم على ايد الحقير المتلاعب فؤاد واضح جدا خيانته ورغبته فى التغطية على اعماله المشبوهه
اعتقد ان الطفل اللى تلقى الرصاصة عن يوسف ممكن يكون صخر وبعدها نشأت الصداقة اللى بينهم واضطرت العيلة تخفى يوسف خوفا عليه لأنه الشاهد على اللى حصل ومقتل اعمامه

ويوسف كمان قرر الاختفاء للتخطيط للانتقام والايقاع بفؤاد ومساعدة عمران الوحيد اللى رفض اللى حصل وكان مصدق قصة عم يوسف

ابناء الاعمام ماشاء الله كتير ولسه مش عارفه اربطهم ببعض غير ان ياسين بيحب ملك زهراء هتجنن حمزة بشهر العسل اللى عايزه تعمله مرتين

شمس وكره زوجة ابوها ليها حقيقى قصة اكرم مؤثره جدا بس الحمد لله ان انس بيحب شمس بالرغم من حقد امه على شمس واعتقد انها هترجع لعيلة امها لوصل ما انقطع بوعد امها لجدها بعدم العودة

مين بقى دى اللى عند صخر مع ان التواقيع الجميلة دى بتأكد انه لنبض

لى عودة ان شاء الله تسلم ايدك

ام زياد محمود 16-11-19 03:17 AM

الفصل الثانى
واضح ان فؤاد لسه حقير كالعادة وبيستغل ضعف العقول المحيطة بيه للتأثير عليهم وخداعهم لتنفيذ خطته فى الانتقام من عيلة الجبالى والتغطية على اعماله المشبوهه ودا اللى بيستخدمه مع سعد عشان يعمل كل اللى هو عايزه ودلوقتى عايز يخلص من زيد اللى واقف فى طريقه

شمس اخيرا قابلت عيلة امها وحصل انسجام لطيف بينها وبينهم بالذات مع بنات العيلة

زعلت جدا ان ام يوسف ماتت لاعتقاده ان ابنها مات فى حريق المزرعه والاسوء ان زيد هو اللى نقل ليها الاخبار المغلوطة واكيد بيعانى بسبب اللى حصل دا

يوسف قرروا ابعاده خوفا عليه عشان يعيش فى بيت مختار ابن الشيخ عبدالله وبيعانى نفسيا بسبب اللى حصل ومحمل نفسه ذنب موت امه

موقف ظريف جدا لصخر وهو بيهرب من شرح الدرس لنبض وكمان علم تامر عديم الادب دا درس يستاهله بصراحه

ادم من عيلة الناصر وواضح كدا انه مايعرفش بسعى يوسف وصخر للانتقام من عمه الحقير
تسلم ايدك الاحداث مشوقه جدا

bahija 80 18-11-19 06:50 PM

رواية جمييييييييلة كثيرا

م ام زياد 18-11-19 10:23 PM

هوه انا لو شتمت فؤاد ده هيحصل حاجه متهيالي ولا هيحصل حاجه ده اقل واجب ليه 😒
وبعدين انا حاسه اني تهت 🙄ليه يوسف ما ظهرش لما هوه ما ماتش 🤷وصخر بيقول ايلي يخصه مين ايلي يخصه 🤔لا تعالي هنا قوليلي تفهميني لحسن هيعيطلك 😕

زهرة الغردينيا 19-11-19 10:20 AM

صباح الورد
رواية رائعة مليئة بالأحداث المشوقة
تسلم ايدك حبيبتي 🤩❤❤❤

زهرة الغردينيا 19-11-19 10:21 AM

صباح الورد
تسجيل حضور
بانتظار الفصل التاسع ❤❤❤

Hend fayed 19-11-19 05:37 PM

سُلاف الفُؤاد
 
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد؛
|| الفصل التاسع ||

في نفس يوم عودة صخر / عصرا
قسم الشرطة
كان صخر يجلس على الكرسي واضعا ساقا على الأخرى بأناقة بينما نظارته السوداء تخفي تحتها نظراته القاتمة بوحشية مخيفة وأصابعه تطرق برتم رتيب على سطح المكتب الذي يجلس أمامه
فجأة تكلم الرائد الذي يجلس مواجها لصخر: " هل أنت واثقا مما تريد يا صخر؟ "
رد صخر بإيجاز وهو على نفس وضعه الجامد: " نعم واثق "
تكلم طارق بعبوس: " ألن تخبرني عن علاقتك بذلك الرجل؟ "
رد صخر بهدوء ظاهري: " لا علاقة لي به "
زاد عبوس طارق وهو يقول: " كيف؟ وماذا عما فعلته معه؟ على حد علمي أنك من كلفت مصطفى بالتبليغ عنه أي أنك من سلمته للشرطة فكيف لا علاقة لك به؟ "
رد صخر بلامبالاة: " أخبرتك أنني فعلت ما يحتمه عليّ ضميري فحسب.. هو مجرم ويستحق العقاب لهذا بلغت الشرطة عنه.. هل هذا يدينني؟ "
تنهد طارق بقلة حيلة وهو يقول: " بالطبع لا.. ما فعلته تستحق عليه الثناء "
رد صخر بوجوم: " لا أريد إلا أن أقابله فهلا استعجلت قدومه إذا سمحت يا طارق؟ "
قطب طارق للحظات رافضا الرد بالإيجاب، متخوفا من نتيجة لقاء صخر بذاك الرجل، هو في الأساس يشك بأن هناك علاقة خفية بين صخر وذاك المدعو فؤاد
حينما بدى صخر مصرا على طلبه اومأ طارق برأسه وهو يقول باختصار: " حسنًا "
أمر طارق العسكري المرابط أمام الباب بإحضار فؤاد الناصر من حجزه وحين فعل فاجأه صخر بقوله الجاد: " يمكنك الآن أن تأمر الرجل الذي كلفته بحماية دار الجبالي بالانسحاب.. ما عدت أريد معرفة المزيد "
قطب طارق بجدية مماثلة قائلا: " لازلت انتظر منك تفسيرا لهذا الأمر يا صخر.. لقد حافظت على العهد بيننا ولم أخبر أحد بل وغامرت بمساعدتك في فكرتك المجنونة لكنني لن اتنازل عن حقي في فهم السبب الذي دفعه لفعل ذلك الأمر "
طالعه صخر بهدوء وهو يرد: " كنت بحاجة لمتابعة سير الأمور هناك ولم أجد فرصة أفضل من ذلك إلا عن طريقك "
ظل طارق على صمته بينما صخر يوضح أكثر: " تعلم أن ثأر قديم حدث قبل عشر سنوات في تلك المدينة الجبلية بين عائلة الجبالي وعائلة الناصر وبعد وفاة ابنيّ الحاج عبد الرحمن واختفاء حفيده كما تعلم تدخلت الشرطة وحينها أصر الحاج عبد الرحمن على إنكار معرفته لهوية القاتل "
اومأ طارق وهو يكمل الكلام: " اتذكر ذلك.. والدي رحمه الله أخبرني أن مركز الشرطة المسؤول عن تلك المدينة كلف بعض العساكر بمراقبة دار الجبالي حتى يتأكدوا من استقرار الوضع ويتوصلوا لهوية القاتل آن ذاك لكنهم لم يتوصلوا لأي نتيجة إيجابية "
تنهد صخر وهو يردف بسخرية مريرة: " وبفضل علاقتك الوثيقة مع أحد الضباط العاملين في مركز الشرطة هناك أتحت لي الفرصة للتواصل مع أحد العساكر والذي أصبح جاسوسا لي لأتوصل إلى أخبار عائلتي أولاً بأول "
زفر طارق وهو يقول: " لازلت للحظة غير متقبلا لما فعله عمي معتز.. حالك البائس هذا لا يسر عدو ولا حبيب.. تراقب عائلتك وكأنك تتجسس على عدو تريد الإيقاع به وفي الواقع أنت من يقع بين كفي الرحى "
رد صخر بصوت واجم: " هذا قدري وليس أمامي أي خيار آخر يا طارق فاكتشافي للحقيقة في وقت متأخر جعلني في مواجهة صعبة لم أستطع التصرف فيها وبقيت مكاني ساكنا أراقب فحسب "
أطرق طارق برأسه محبطا من كل ما يدور بشأن هوية صخر، غاضبا من قرار قديم اتخذه عمه معتز ظنا منه أن فيه مصلحة صخر لكنه في الحقيقة كان فيه ظلما جديدا له.
أما صخر فقد شرد في تفاصيل زيارته الأخيرة لعمران الناصر والتي كانت قبل سفره ببضعة ساعات قليلة، زيارة لم يخبر عنها أحد ولا يظن بأنه سيفعل في أي وقت أو حال

كان يجلس أمام عمران بوجه جامد لا يظهر أي تعبير بينما الأخير كان يرمقه بحذر تخللته بعض الرهبة بسبب نظرات صخر القاتمة
نظر له صخر بغموض بعد لحظات وهو يقول: " هل تذكرني عماه؟ "
اومأ عمران ببطء وهو يبادل صخر النظرات بأخرى حذرة بينما يجيبه: " لم أرك من قبل لكن صوتك ليس غريبا عليّ "
رد صخر بجمود: " ألا تذكر متى سمعت صوتي؟ "
ازدرد عمران ريقه وهو يقول بترقب: " أنت ذاك الملثم الذي وجدني بقرب الجبل أليس كذلك؟ "
اومأ صخر برأسه وهو يرد: " نعم أنا هو "
طالعه عمران بامتنان وهو يقول: " لكَ عليّ معروف كبير يا ولدي.. أكرمك الله كما أكرمتني "
رمش صخر لوهلة قبل أن يميل بجذعه للأمام محدقا في عينيّ عمران وهو يقول: " لدي سؤال وأحتاج منك إجابة صادقة علي "
أجابه عمران على الفور: " أسأل ما تريد يا ولدي لن أكذبك القول أبدًا "
فقطب صخر قائلا: " فؤاد الناصر هو من قتل أخوه حسين.. أليس كذلك؟ "
شحب عمران وهو ينظر لصخر بذهول قائلا: " ما علاقتك بفؤاد يا ولدي؟ هل ورطك معه في شيء؟ "
عبس صخر بضيق وهو يقول: " ليست هذه الإجابة التي انتظرها "
أشاح عمران بنظراته بعيدا وهو يقول بصوت كئيب: " وما المشكلة؟ حسين ليس الأول ولن يكون الأخير "
اتسعت عينيّ صخر وهو يسمعه يتابع حديثه: " كان الدور عليّ بعد حسين لولا أنني كنت أفلت من الموت في كل مرة بمعجزة ولا أستبعد أنه كان سيلصق التهمة بخالد من جديد فهو المشجب الذي يضع عليه اوزاره ويلصق به جرائمه "
هتف صخر بذهول: " خالد من؟ "
ناظره عمران بأسى مجيبا: " خالد الجبالي.. أنت لا تعرف كم يكرهه فؤاد ويحقد عليه.. مذ كانوا أولادا صغارا يلعبون في الشارع وفؤاد لا يحبه ويضمر له الحقد والشر "
أطرق برأسه وهو يكمل بمرارة: " خالد المذنب، هو من آمن له منذ البداية وقد كنا نحذره من فؤاد ونفسه اللئيمة لكنه لم يسمع منا.. كان يظن بأنه يحمل من القوة ما يستطيع بها تقويم فؤاد وجعله إنسانا أفضل "
صاح صخر ولم يستطع منع نفسه: " وبما أنك تعرف عنه كل هذا كيف ساعدته قبل عشر سنوات في قتل ابنيّ عبد الرحمن الجبالي؟ "
رد عمران بصوت متحسر: " لو لم أفعل لكان قتل ولدي وقتها "
رمقه صخر بسخرية متمتما: " وكأنه الآن حيا يُرزق ولم يُقتل بالفعل قبل أيام على يدي عمه المبجل "
تجاهل عمران تعليق صخر الساخر وهو يكتم مرارة فقد ابنه في حشاه رغما عنه فكيف ينعى إبنه العاق الطالح بعد كل ما جرى منه، أكمل حديثه: " الجميع كان يحالفه بينما أنا كنت وحدي من أقف ضده.. يومها حاولت أن أجد ثغرة تثبت أن عائلة الجبالي ليس لها دخلا فيما حدث لكني لم أستطع خاصة بعدما خسر محمد الجبالي رحمه الله الدليل الوحيد الذي يثبت كذب فؤاد "
قطب صخر بغموض وهو يقول: " وما أدراك لربما كان محمد الجبالي يكذب ولم يكن معه أي دليل من الأساس؟ "
رد عمران بأسى: " بلى محمد كان صادقا فأنا من أعطيته ذاك التسجيل "
سأله صخر بتعجب: " ومن أين حصلت عليه أنت؟ "
أطرق عمران رأسه بانكسار وبدأ صوته يختنق وهو يقول بحرقة: " ابنتي من سجلته من الأساس.. كانت طفلة صغيرة لا تعرف شيء عن الخلاف الناشب بين عمومتها.. يومها كانت تصور شيء ما بهاتفي وحينما رأت فؤاد وهو يرفع سلاحه في وجه أخويه ظنتهم يتمازحون فصورتهم حتى تريني أن الكبار أيضا يلعبون وليس الصغار فقط "
انسابت عبراته بحرقة لم يستطع أن يداريها وهو يتابع: " فؤاد علم بما فعلته خاصة بعد الحالة النفسية السيئة التي ألمت بابنتي بعدما علمت أن عميها ماتا بالفعل.. أخذ يبحث عن الهاتف لكني كنت أخفيته لسبب لم اعرفه أنا حينها حتى فوجئت بعد يومين بأن فؤاد يتهم خالد بأنه هو من قتل أخويه "
سأله صخر بجمود: " ولماذا لم تكشف حقيقة الأمر أمام الجميع وقتها؟ "
رد عمران بندم: " انشغلت مع ابنتي ولم أكن أهتم بشيء أكثر منها.. ظننت أن خالد قادرا على مواجهته وكشف الأمر وحده دون أن أتدخل أنا لكن... "
سكت عمران فتابع صخر بعنف: " لكن خالد الجبالي لم يستطع مواجهته وانتهى الثمن بمقتل أثنين أبرياء لا علاقة لهم بالأمر من الأساس "
رد عمران بصوت أكثر ندما وعذابا: " بل ثلاثة فأحد ولديّ سليم الجبالي قُتِلَ على يد فؤاد أيضا "
تحولت عينيّ صخر إلى جمرتين مشتعلتين وهو يقول: " يوسف لم يمت.. لم يصاب يومها من الأساس لقد تلقى شخص آخر الرصاصة بدلا منه "
ران بينهما صمت للحظات قبل أن يقطعه عمران قائلا بمرارة: " لقد نلت عقابي على سكوتي وكتم شهادة الحق.. ماتت ابنتي أمام عيني دون أن أستطيع مساعدتها بشيء وتهجم عليّ ابني وضربني حتى كاد يقتلني وليته فعل وخلصني من عذاب الضمير الذي ينهش في داخلي لكنه لم يفعل بل رحل هو وتركني "
سأله صخر بجمود: " هل أخبركم فؤاد أنه يريد أخذ ثأر أخاه حسين من خالد الجبالي؟ "
اومأ عمران بالنفي وهو يجيبه: " فؤاد لن يفكر فيه بعد اليوم فهو لئيم، داهية في التخطيط ومن معرفتي له أظن بأنه سيختار أن يحرق قلب خالد على أولاده واحداً تلو الآخر "
قطب صخر وهو يقول: " لكنه كان يريد قتل زيد ابن سليم الجبالي "
ابتسم عمران بسمة مريرة وهو يرد: " يظن بأنه بذلك سيكسر عبد الرحمن الجبالي حينما يحرمه من حفيده الأغلى على قلبه "
غمغم صخر بضيق: " ذاك المغرور هو الأغلى على قلبه! "
ناظره عمران بغموض وهو يقول: " لماذا يحمل صوتك لمحة من الغيرة؟ أ تريد أن تصبح لديه ذو مكانه أيضا؟ "
ازدرد صخر ريقه وهو يقول بمراوغة: " ولماذا أتمنى شيء كهذا؟ أنا لا علاقة تربطني به من الأساس "
أحجم عمران عن الرد وظل يطالعه بنفس الغموض المتفكر حتى نهض صخر من مكانه وهو يقول بصوت غامض قاتم: " إذن لا خوف على حياة خالد الجبالي.. أليس كذلك؟ "
رد عمران بتنهيد: " هذا ما اعتقده.. خالد ليس فريسة سهلة المنال أبدًا فالجميع يحسب له ألف حساب قبل أن يفكر أحد في المرور من أمامه لذا لا تقلق عليه "
أشاح صخر بوجهه جانبا وهو يقول بعبوس: " أنا لست قلقا على أحد "
ابتسم عمران بلطف وهو يقول: " ألن تخبرني من تكون؟ ولماذا تساعدني؟ "
طالعه صخر بقوة مجيبا: " برأيك ماذا كان سيفعل معك خالد الجبالي لو كان مكاني وقتها؟ "
رد عمران دون تردد: " كان سيكرمني ويضيفني في داره رغم خطئي في حقه وأخوته.. خالد لا يترك مظلوما إلا ونصره ولا ضعيفا إلا ومده من قوته "
خفق قلب صخر بقوة وهو يشعر ببصيص صغير من الفخر يشتعل في روحه
للحظة شعر بالعزة والرضا لأنه ينتمي لهذا الرجل الذي يتكلم عنه عمران لكنها كانت لحظة واحدة قبل أن ينطفئ ذلك الشعاع الصغير ويرحل لحال سبيله وهو يستعيد جموده من جديد
خطى صخر ناحية الباب ليغادر لكن قبلها قال: " قريبا ستعود لدارك عماه بعدما ينال فؤاد العقاب الذي يستحقه "


" ها هو فؤاد الناصر يا صخر "
أجفل فجأة على صوت طارق فرمش لوهلة وهو يطرد طيف الذكريات ليعود للواقع
التفت صخر برأسه ببطء وهو ينظر إلى فؤاد الناصر نظرة شملته من رأسه حتى اخمص قدميه قبل أن يخلع نظارته بهدوء وعينيه مثبتتان على خاصتي فؤاد، لا تحيدان عنهما بينما يوجه حديثه لطارق قائلا: " هلا منحتني بضعة دقائق معه على انفراد إذا سمحت يا طارق؟ "
ترك طارق كرسيه وهو ينظر إلى صخر قائلا: " كما تشاء لكن احذر فهذا مجرم وأنت لا تعرف كيف تتعامل مع أمثال هؤلاء "
ابتسم صخر بتسلية سوداء كمزاجه في تلك اللحظة وهو ينظر إلى طارق قائلا: " هل تظن حقا بأن أصل أمي التركي يؤثر عليّ بهذا الشكل؟ عامة لا تخف عليّ أنا أعرف جيدًا كيف أتعامل مع أمثال هؤلاء بنفس طريقتهم وقد أفوقهم أحيانًا "
ناظره طارق بتردد رده له صخر بنظرة مطمئنة فخرج الأول مغلقا الباب خلفه بهدوء والتفت صخر من جديد إلى فؤاد يتأمله باستفزاز دون أن يتخلى عن بقايا بسمته المتسلية
رجل طويل القامة، قوي البنية، يبدو على وشك بلوغ الخمسين، ذو ملامح حادة وعينان سوداوان تفيضان بالمكر الخبيث الذي يشوه ملامحه ويجعلها أكثر قسوة وبشاعة
قطع فؤاد تفحص صخر له وهو يقول بسخرية: " لم أكن أعرف أن هناك عرضا مقاما هنا "
أشار صخر ببرود إلى الكرسي المقابل له وهو يقول: " تعال اجلس يا فؤاد "
رفع فؤاد حاجبا بدهشة وهو يقول باستفزاز: " فؤاد! تبدو كمن هو معتاد على نطق إسمي (ثم أضاف بسخرية) لا أتذكر بأنك صديق قديم لي "
ابتسم صخر ببرود وهو يرد باستخفاف: " لست أنا بالطبع لكن أبي كان صديق لك ذات يوم "
ناظره فؤاد عابسا وهو يقول بجدية: " من تقصد؟ "
رفع صخر حاجبا باستفزاز وهو يقول: " ألا يمكنك أن تتذكره من خلالي أنا؟ أظنني اشبهه كما أخبرني الكثيرين "
قطب فؤاد بتركيز وهو يفكر بجدية بينما عينيه بدأتا بالفعل في تفحص صخر بنظرة لم تخف عن الأخير ولم يأخذ وقتا طويلا في تأمل هيئته حيث لم يهتم فؤاد بشيء في صخر سوا عينيه
نفس عينيّ عدوه اللدود!
نفس الوحشية المكبوتة في نظراته!
نفس الصلابة التي تنضح بها مقلتيه!
نفس الهالة الغامضة من الرقي والهيبة التي تفرض نفسها على الجميع دون تكلف منه أو عناء!
رمقه فؤاد بنظرة غامضة وهو يفكر بأن هذا الشاب بالفعل يشبهه في الكثير لكن بخلاف أنه يعرف أبناء عدوه جميعا فقد أستبعد أن يكون لصخر أي علاقة به خاصة مع النبرة المميزة الغريبة في صوت الأخير والتي تؤكد على أن ذاك الشاب ليس عربي تماما رغم أن ملامحه عربية أصيلة
لحظات وعبس فؤاد بضيق قائلا: " لم أتذكره "
عقد صخر ساعديه أمام صدره وهو يطالعه بقوة بينما يقول ببرود: " يمكنني أن أعرفك بنفسي إذن "
ضيق فؤاد عينيه وهو ينظر له بينما تابع صخر حديثه: " صخر خالد الجبالي "
رد فؤاد بإندفاع ودون وعي: " مستحيل.. كيف هذا؟ أنا أعرف أبناء خالد وأنت بالطبع لست واحدا منهم "
شعر صخر كما لو أن أحدهم سكب على رأسه دلوا من الماء المثلج، أجفل بقوة حتى رمشت عينيه وتسارعت أنفاسه بينما فؤاده يراقبه بعبوس
أغمض صخر عينيه للحظات وهو يقول بصوت قاتم: " وهل تظن نفسك تعرف كل شيء عن خالد الجبالي؟ إذن دعني أخيب ظنك واخبرك أنني بالفعل ابنه "
فتح عينيه فوجد فؤاد يطالعه بضيق مكبوت فتابع حديثه بوحشية: " ليس هذا فحسب.. بل إنني أيضا من بلغت عنك وقدمت للشرطة كافة الأدلة التي ستجعلك تقضي ما تبقى من عمرك متعفنا بين قضبان السجن هذا إن لم يعدموك في أسرع وقت "
شحب فؤاد وهو يناظره بذهول بينما نهض صخر من مكانه مردفا: " لم آت إلى هنا لكي أثرثر معك بشأن عداوتك مع أبي بل لأخبرك بأن ذاك الصبي الصغير الذي اخترقت صدره رصاصة من فوهة سلاح أحد رجالك وأقسم أن ينتقم منك هو نفسه من رد لك تلك الرصاصة أضعافا مضاعفة ووفى بقسمه "
ردد فؤاد بخفوت حاقد: " أنت من فديت ابن سليم! "
رد صخر بغل في المقابل: " نعم أنا.. وأنا من سجنتك، وأنا من أنرت بصيرة سعد ومنعته من قتل زيد، وأنا من كنت أسبب لك المشاكل والخسائر الواحدة تلو الأخرى، وأنا من كنت أسبط جميع محاولاتك التي كنت تخطط لها لكي تؤذي عائلة الجبالي، وأنا من سأتشفى فيك حينما أراك ذليلا كما أردت أن تذل أبي وتحرمه من أولاده "
صاح فؤاد: " لكنني لم أحرمه من أحدهم "
هتف صخر بحدة: " كنت ستفعل "
صرخ فؤاد وهو يقبض على مقدمة قميص صخر بينما الأخير لم يمنعه أو يقاومه: " نعم كنت سأفعل.. كنت أخطط لقتلهم جميعا حتى أراه وهو يتحسر عليهم حتى أراه وهو يبكي من الحرقة كما أبكاني ليالي حينما أخذ مني حبيبتي "
رد صخر وهو يجز على أسنانه بغضب مكبوت: " كان أحق بها منك.. هي ابنة عمه وكانت تحبه هو "
هزه فؤاد بقوة وهو يصرخ بعنف وحقد: " لا يهمني من كانت تحب المهم أنني أنا من أحببتها وهو من سرقها مني كما كان يفعل معي دومًا.. كما سرق من قبل إهتمام الجميع مني وجعل الكل يفخرون به وحده.. كان السبب في أن أبي كلما رآني كان يتحسر لأنني لا أشبه السيد العظيم خالد الجبالي.. لم يفهم يوما بأنني لا أريد أن أشبهه لأنني أكرهه.. أكرهه من كل قلبي "
سكت لحظة قبل أن يتابع بغل: " أبي لطم أخي حسين على وجهه أمامي ذات يوم لأنه شتم أباك العظيم بل وضربني أيضا واتهمني بأنني من أحرض أخي الأصغر على الإساءة إليه... "
قاطعه صخر بشراسة: " وأنت قتلت أخاك بيديك بسبب جشعك وطمعك "
رد فؤاد بوحشية: " بل قتلته لأنه كان جبانا ضعيفا لم يرض بأن يساعدني في إتمام مخططي.. لا قيمة لشخص يقبل على نفسه الهوان فالبقاء دومًا يكون للأقوى وهو لم يحاول لمرة واحدة في حياته بأن يأخذ حقه من خالد الجبالي لذلك قتلته فالموت أهون له من أن يعيش حاملا معه هذا العار طويلا "
سأله صخر بعنف مكبوت غلفه بالسخرية: " وماذا عن أخويك الآخرين هل لأبي دخل فيما فعلته معهما أيضا؟ "
رد فؤاد بخبث منفر وابتسامة أكثر بشاعة: " كانا يحبانه ويتأملان له الخير وهذا أزعجني منهما.. أردت أن أقلب الجميع عليه فقتلتهما ولفقت له التهمة والجميع صدقني حينها بسبب العداوة التي كانت بيننا على قطعة أرض.. حتى حينما حاول عمك محمد أن يكشفني لم يستطع لأنني كنت حاسبا لكل خطوة حسابها جيدا.. أحرقت قلبه على أخويه وكدت ازيده حرقه على ابن أخيه لولا تدخلك أيها اللعين "
دفعه فؤاد بعنف فلم يهاجمه صخر بل ظل واقفا في مكانه بجمود وفؤاد يكمل بكره أسود: " أعلم أنها النهاية.. شعرت بها منذ تم الإيقاع بي وكالعادة كنت حاسبا حسابي جيدا لها لكني للحق ظننت أن من سيزورني هو خالد بنفسه فجهزت له هدية لكن بما أنه لم يأت وأتيت أنت بدلا منه فلما لا تكن ولدا مطيعا، وديعا وتحمل لأبيك هديتي "
أطرق صخر برأسه وهو يشعر بالهمّ والاختناق فجأة، لم يكن يتوقع أن يحدث كل هذا في هذا اللقاء.. أي هدية يتحدث عنها هذا المختل؟ ألا يكفيه ما سمعه منه سما زعافا لوث ما تبقى له من روحه؟
لم يكن يرد أن تدور تلك المحادثة بينهما، لم يرد أن يتواجهان، كل ما أراده أن يرى وجه فؤاد حينما يعلم بأن ابن خالد الجبالي الذي يكرهه هو من انتقم منه ورد لكل شخص حقه لكنه أخطئ ففؤاد بدى كمسخ بشع لم يتأثر بما حدث بقدر ما تأثر هو
فؤاد في الأساس لم يكن يرى أن صخر من أمامه بل تجسدت صورة خالد من العدم أمام عينيه ببسمته القوية الأبية وكأنه يسخر منه فأراد وأد تلك البسمة في مهدها قبل أن يتوج صاحبها بنصر جديد.. حقا كل ما سيطر عليه في تلك اللحظة هو كيف يقتل تلك البسمة قبل أن تقتله هي كمدًا.
وبينما كان صخر واجما في أفكاره حتى أستل فؤاد تلك المدية التي كان يخبأها في بنطاله ثم عاجله بغتة وهو يغرسها في صدره
شعر مع تلك الضربة كما لو أن أحدهم شق صدره نصفين.. صوته لم يخرج من بين شفتيه بينما عينيه تتسعان رويدا رويدا من الألم المباغت الذي لم يكن يتوقعه أو ينتظره
أما فؤاد فكان شعوره في تلك اللحظة هو النقيض لشعور صخر، كان يشعر بالنصر.. أخيرا سدد ضربة قاضية لعدوه وسيجعله يبكي حرقة مع ضمان أكيد بألا ينساه أبدًا.
ها هي بسمة فؤاد تظهر رويدا.. رويدا مع تلاشي البسمة الأخرى التي هيأ له خياله القاتم بأنها مرتسمة على شفتي صخر الذي يراه فؤاد اللحظة بهيئة خالد.
خلال تلك الدقائق الماضية كان طارق يقف أمام الباب في الخارج ينصت السمع بإهتمام وانتباه خوفا على صخر من ذاك المجرم وحتى يتدخل بنفسه في اللحظة المناسبة إذا ما أحتاجه صخر وظل يترقب وينتظر حتى سمع صرخة مكتومة هرع على أثرها للداخل فوجد صخر جاثيا على ركبتيه أرضا وهو يضغط بكفيه على صدره موضع الجرح ورأسه مطرقة تكاد تمس الارض
في لحظة كان اثنين من العساكر يطوقان فؤاد بقوة بينما هو يصيح في غل وابتسامة شامتة منفرة مرتسمة على شفتيه: " ها قد وفيت الدين الذي كان في عنقي لك يا خالد، لكن إياك أن تنساني أبدًا لأنني لن أفعل.. سأكون الكابوس الذي يطاردك أينما ذهبت.. لن أتركك تحيا بسلام أبدًا.. لا تظنها النهاية يا خالد.. لنا لقاء جديد.. قريب "
طلب طارق سيارة الإسعاف بسرعة وهو يجلس على الأرض بجوار صخر يحاول أن يجعله يتماسك بينما الأخير يغلق عينيه ببطء واستسلام حتى فقد الوعي تماما.
***

في نفس التوقيت
في إحدى المطاعم العصرية
كانت شمس تكبت لجام ضحكتها بشق الأنفس بينما زيد في جلسته المقابلة لها يبدو كمن على وشك الانفجار في أي لحظة
إبتسم أنس بغباء زائف وهو يقول: " حتى اللحظة لم أفهم سبب تلك العزيمة.. صمتك بات يقلقني "
رمقه زيد بطرف عينه جازا على أسنانه قبل أن يبتسم إبتسامة صفراء وهو يوجه حديثه لشمس: " لم تخبريني يا شمس في أي مرحلة من محادثتنا صباحا بأن أنس سيأتي بصحبتكِ "
تنحنحت شمس بحرج وهي ترد: " وأنا لم أكن أعلم أنه سيأتي "
رفع زيد حاجبيه ببلادة وهو يقول: " حقا! "
اومأت برأسها وهي تزيح خصلة شقراء فلتت من عقدة شعرها إلى خلف أذنها وهي تجيبه: " نعم لقد تقابلنا صدفة أمام بوابة الفيلا وقرر أن يأتي معي "
ردد زيد وهو يجز على أسنانه بقوة حتى كاد يحطمها: " قرر! "
حينها رمش أنس ببراءة مدعية وهو يناظر زيد قائلا: " ماذا يا خطيب أختي؟ ألا تريد أن أشارككما في تلك الجلسة الهادئة؟ ظننتك مرحبا بي! "
رد زيد وهو يبتسم بسماجة: " بلى أنت مرحبا بك في أي وقت "
اومأ أنس برأسه ببساطة وهو يقول: " هذا من كرم أخلاقك "
غمغم أنس لنفسه وهو يطرق رأسه بغيظ: " هي دقيقة وأقسم بالله لن أسمح لأخرى بأن تمضي حتى أريه كرم أخلاقي الحقيقي إن لم يتحلى ببعض الذوق وينهض من هذا الكرسي الذي أظنه ألتصق به ويتركنا وحدنا "
رفع رأسه بعدها يطالع شمس بنزق فأومأت له باعتذار صامت لم يتقبله أبدًا بينما يصوب نظراته على أنس الذي إم شفتيه بطفولية يقول: " لم أكن أعلم أنك بخيلا لهذا الحد.. ألن تطلب لنا الغداء؟ "
اتساع طفيف في عينيه، واحتقان بسيط في أذنيه مع سيل من الكلمات اللائقة التي تعبر عن مدى كرم أخلاقه هو كل ما اعتراه اللحظة وهو يناظر أنس وكأنه ذنب عظيم قرر فجأة أن يتوب عنه بل ويحطمه إلى قطع صغيرة.. صغيرة جدا في الحقيقة
قبضة يده تشنجت على سطح الطاولة وكأنه بغتة ينوي تسديدها إلى فك أنس ليحطم صفيّ أسنانه الجميلة لكن صوت شمس حال دون إتمام المهمة التي كان يتوق لإنجازها وهي تقول: " أظن يا أنس بأن زيد كان يريد أن يخبرني ب... "
قاطعها أنس بعبوس يقول: " لا تقولي أنه يريد إخباركِ بكلمة سر فليس عندنا بنات يخبرها خطيبها بكلمة سر قبل إتمام عقد القران "
زاد اتساع مقلتي زيد بينما شمس سعلت بخجل وقد تورد خديها من كلمات أخوها الذي أردف ببرود: " لا أفهم لماذا تحاولين طردي رغم أن زيد يرحب بي بينكما؟ أليس كذلك زيد؟ "
رد زيد وهو يبتسم إبتسامة صفراء يخفي تحتها لهيب غيظه: " طبعا.. طبعا.. المكان مكانك أجلس أينما تحب "
ابتسم أنس نفس الابتسامة الصفراء، المستفزة وهو يرد: " صدقني كرم أخلاقك هذا أخجلني والله "
غمغم زيد لنفسه: " بصراحة واضح أنه أخجلك.. بني آدم لزج "
ضرب أنس على سطح المنضدة فجأة فأجفل زيد من أفكاره بينما يقول بحماس: " ما رأيكما أن نذهب إلى السينما بعد أن نتناول الغداء؟ "
رفع زيد حاجبا بدهشة وهو يقول: " حقا تقول! "
اومأ أنس بهدوء يسأله: " نعم.. لماذا تتعجب؟ "
رد زيد ببعض الحيرة: " هل تعلم ما يحدث داخل تلك الأماكن أو المغزى الحقيقي التي يقصدها بسببه الناس؟ "
رد أنس ببراءة زائفة: " بالطبع لأجل مشاهدة فيلم رومانسي أو مسرحية فكاهية مثلا.. أليس هذا هو الغرض من الذهاب إليها أم أن في معلوماتي خطأ ما لا أعلمه؟ "
زفر زيد مغمغما بخفوت غير مسموع: " إلى هنا وكفى والله فاض الكيل ولن أحتمله أكثر.. ما هذا الابتلاء الصعب يا ربي! "
عادت شمس تحاول أن تنقذ ما يجب إنقاذه وهي تقول بهدوء ظاهري: " ما رأيك أن تتركني وزيد وحدنا قليلا و... "
قبل أن تنهي جملتها كان أنس يقاطعها بفظاظة: " هل جُننتِ أم ماذا؟ أ تظنين أنني قد أترككِ وحدكِ معه؟ "
ابتسم زيد ساخرا وهو يرد: " نعم لا تفعل أرجوك فإن تركتها معي وحدها قد ألتهم عضوا منها ونحن لا نريد أن تحضر عرسها بعضو مفقود "
رمقه أنس باسما بسماجة وهو يتمتم: " معك حق لهذا لن أتركها معك وحدها "
لم يستطع زيد منع نفسه أكثر فهتف بضيق: " ليست هناك مشكلة.. سأتركها لك أنا وارحل حتى لا أكون كالعلقة السمجة بينكما "
جحظت عيني أنس بصدمة الشعور بالإهانة فزيد دون أن يدري كان يصف حال أنس بينه وبين شمس في ذلك الوقت بينما شمس طالعتهما بيأس وهي تغمغم بحنق: " والله إن كان على أحد الرحيل حقا فأنا من يجب أن أرحل واترككما وحدكما حتى تفضان نزالكما الصبياني هذا "
تناظر زيد وأنس فيما بينهما بغيظ متبادل بينما شمس تردف: " ها! إلى أين توصلتما يا سادة؟ "
رفع زيد حاجبا ببرود يطالع أنس بصمت فغمغم الأخير بامتعاض: " الجو أصبح خانقا هنا "
نهض من مكانه، تاركا مقعده وهو يبتعد بخطاه عنهما دون أن يضيف كلمة أخرى فزفرت شمس براحة من كان يخوض نزال محتدم بينما تنهد زيد بعمق وهو يتمتم: " الحمد لله.. أخيرًا "
لم تستطع شمس كتم ضحكتها وهي تقول: " نعم الحمد لله أن أحدكما لم يقتل الآخر "
رمقها زيد بعبوس طفولي وهو يقول: " وعلى من يقع اللوم يا آنسة؟ لا أظن أنني من اصطحبته معي ولا حتى أنه أخي؟ "
اومأت وهي تضع كفها على فمها ضاحكة: " نعم أعرف.. أنا المُلامة دائما هذا ليس جديدا عليّ أليس كذلك يا سيد؟ "
ضحك زيد بخفة، قائلاً بمزاح: " زيد لو سمحتِ سيد هذا لا أعرفه "
كتمت ضحكاتها وهي تتصنع الجدية، وتشبك أصابع كفيها أمامها على سطح الطاولة قائلة: " حسنا يا.. زيد ها قد أصبحنا وحدنا هلا أخبرتني عن سر دعوتك لي على الغداء اليوم؟ "
رد زيد على الفور: " لقد إشتقت إليكِ "
رمشت بعينيها للحظة وهي تتورد متنحنحة بخجل بينما تتمتم: " حسنا "
طالعها باسما برقة وهو يقول: " حسنا ماذا؟ "
لمست شعرها بحركة متوترة وهي تجيبه بصوت خافت خجول: " حسنا لقد فاجئتني "
تنهد وهو يقول بهدوء: " ظننتكِ تعلمين "
طالعته بحيرة متمتمة: " أعلم ماذا؟ "
أخذ وقته في تأمل ملامحها الجميلة، بشرتها الخمرية، حدقتيها القاتمتين بلون الشوكولا التي تطالعانه بحيرة وشعرها الأشقر الناعم الذي لم يرها يوما إلا وهي تعقده خلف رأسها كذيل فرس.. إنها تعجبه حقا قلبا وقالبا فكيف ظن لوهلة بحماقة منه أنه قد لا يتفق معها أو تروقه كامرأة؟
طال صمته حتى غرق هو في جمالها وغرقت هي في حيرتها تعيد سؤالها عليه من جديد: " زيد لم تخبرني بعد ما الذي يجب أن أعلمه؟ "
رد متنهدا بهيام وهو يبتسم: " يجب أن تعلمي أنني بتُّ أشتاق إليكِ كثيرا في الآونة الأخيرة "
سعلت بخفة وهي تتلمس وجنتيها اللتان غزتهما الحرارة بينما تتمتم بخجل: " زيد أنت غير معقول أبداً.. تتغير بين ليلة وضحاها مائة وثمانين درجة "
ضحك بمرح قائلاً: " بل ثلاثمائة وستين درجة "
لم تجد ما ترد به سوا أن رمقته بنظرة فضحت حبها له قبل أن تطرق برأسها متمتمة: " لا أظنك قررت التنازل عن غرورك لأجل إرضائي "
أغمض عينيه للحظة قبل أن يفتحهما باسما بهدوء وهو يقول: " دعينا نتفق على شيء من البداية يا شمس حتى لا تتزايد معدلات الخلافات بيننا أكثر "
رفعت رأسها تطالعه بإنصات وترقب بينما تنهد هو بعمق قبل أن يقول بنفس بسمته دون أن يتخلى عنها: " لا تأتي على سيرة صخر أبدًا وأنا أعدكِ بأن أحاول التحكم في غروري هذا و... والسيطرة عليه أمامك "
عبست باستنكار وهي تتمتم: " باتت غيرتك الصبيانية هذه لا تحتمل.. صدقا لا تحتمل ألا تملّ؟ "
قطب بحنق دون رد فأردفت هي بضيق: " هكذا لن نصل لنتيجة ترضينا معا.. هناك من الأمور ما هو مسلم به كحقيقة وجود صخر بيننا حاله بالنسبة لي كحال أي فرد آخر من أبناء أخوالي وليس من الطبيعي أن أبغضه هو بالذات لنيل رضاك "
هتف زيد بضيق: " أنا لم أطلب منكِ أن تبغضيه لكن... "
قاطعته شمس ببرود يائس: " آه بالطبع لكنك فقط لا تريدني أن أذكره أمامك أبدًا "
رد مقطبا: " نعم هذا ما أريده "
رمقته شذرا وهي تكتف ساعديها أمام صدرها قائلة: " قد أحاول أنا الأخرى التحكم في لساني حتى لا يذكر سيرة صخر أمامك وأسيطر عليه في حالة أن منحتني حجة قوية أو سبب يجبرني حقا على ألا أفعل "
تأفف بقوة وهو يشيح بوجهه جانبا مستغفرا بصوت مسموع فقالت شمس بغيظ: " هذه سخافة يا زيد "
عاد يطالعها مقطبا وهو يردد: " سخافة! "
قطبت بعبوس شديد وهو تومئ برأسه في عصبية هاتفة: " نعم سخافة.. أن تجبرك غيرتك الصبيانية المستفزة هذه بأن تحقد على ابن عمك فهي سخافة، أن تكون كارها حتى لسماع إسمه فهي سخافة ومن تمنعني من الحديث بشأنه فهي سخافة.. سخافة لن احتملها فهلا "
فتح فمه ليرد لكنه عاد وأغلقه عاجزا عن إيجاد الكلمات المناسبة بينما هي تحول عبوسها فجأة إلى اليأس والكآبة وهي تقول: " ماذا دهاك يا زيد؟ لم تكن جاحدا، حاقدا على هذا النحو حينما التقيت بك لأول مرة ولا حتى حينما اخبرتني أن ارتباطنا في المقام الأول لرغبة جدي في لمّ شمل أحفاده "
أطرق برأسه وهو يجز على أسنانه ملتزما الصمت بينما شمس تردف: " لقد أجبرتني بصراحتك وقتها على احترامك وتقبلت ارتباطي بك راضية النفس رغم غرورك المستفز الذي يكاد أحيانا أن يفقدني رشدي فلماذا ترفض أن اواجهك أنا اللحظة بنفس الصراحة التي تأبى نفسك ألا تعترف بها رغم علمك بصدقها؟ "
نهض من مكانه فجأة وهو يقول بصوت مقتضب ساخر: " أظن بأن اللقاء العاطفي تحول إلى لقاء درامي وهذا ما لم أخطط له صراحة لذا من الأفضل أن أترككِ و... "
نهضت من مكانها هي الأخرى تقاطع حديثه بصوت محبط : " لا تقل شيء يا زيد حقا لست في حاجة لقول أي شيء.. إلى اللقاء "
وأمام بصره رحلت دون أن ترد كلمة أخرى، ودون أن يتمسك هو بها للحظة أخرى وما إن خرجت من المطعم بصحبة أنس حتى هاد هو يرتمي على كرسيه، جالسا بإحباط وهو يتمتم لنفسه: " ما الحل يا زيد؟ أنت دومًا تفسد لقائكما بسبب غبائك.. عليك أن تجد حلا سريعا قبل أن تهرب نورك فجأة وتغادر حياتك "
***

بعد ساعة
في دار الجبالي
كانت نبض تجلس في غرفتها على نفس الحال الذي اعتاده منها الجميع إما شاردة أو تبكي
فجأة طرق أحدهم باب غرفتها بقوة أجفلتها فهرعت للباب تفتحه وهي تردد بقلق: " يارب سلم "
وجدت يوسف يقف أمامها بملامح منقبضة ولم تكد حتى أن تسأله عما حدث حتى أمسك معصمها وجرها خلفه وهو يقول: " ليس أمامنا وقت "
كانت تهرول خلفه لتلحق بخطواته الواسعة وهي تكاد تلهث من المجهود هاتفة: " ما بك يوسف؟ لما تجرني خلفك بهذه الطريقة؟ "
وصلوا خلال لحظات إلى باحة البيت حيث يركن سيارته فدفعها نحوها وهو يقول: " هيا يا نبض قبل أن يستوقفنا أحد "
ناظرته بخوف وهي تقول: " إلى أين ستأخذني؟ "
فتح يوسف الباب بقلة صبر وهو يدفعها ناحيته هاتفا بضيق: " سأخبرك في الطريق هيا "
***

بعد قليل إلتفتت له بقلق تقول: " أخبرني الآن إلى أين تأخذني؟ "
رد يوسف وهو يقود السيارة بأقصى سرعة: " إلى المشفى "
تقبضت ملامحها برعب وهي تقول: " من أصيب؟ لا تخبرني أنني سأفقد شخص آخر "
رمقها بشفقة دون أن يرد فتشبثت بمرفقه بقوة وهي تقول برجاء: " تكلم يوسف بالله عليك.. لمن نحن ذاهبين في المشفى؟ "
ازدرد ريقه بصعوبة وهو يرد: " لصخر "
قطبت بعدم فهم وهي تقول: " صخر في إسطنبول عند جدته "
هز رأسه سلبا وهو يقول: " صخر عاد صباح اليوم يا نبض "
رمشت لوهلة قبل أن تطالعه بترقب وهي تشعر بانقباض قلبها: " لم يخبرني أنه عائد لكن... لماذا سنقابله في المشفى؟ هل عاد للدوام في العمل منذ عودته مباشرة وبهذه السرعة؟ "
هز يوسف رأسه بنفي من جديد وهو يقول بصوت مختنق: " صخر لا يعلم بأننا ذاهبين إليه "
سألته بخفوت حذر: " لماذا؟ هل تريد أن نفاجئه؟ "
طالعها بأسى وهو يقول: " أتمنى أن يكون مستيقظ حينما نصل إلى المشفى "
صاحت نبض فجأة بعصبية: " ما هذا يا يوسف؟ لما لا تخبرني مباشرة عما يحدث؟ "
جز يوسف على أسنانه وهو يقول بصوت متألم حزين: " حينما نصل ستعلمين بنفسك "
انزوت نبض في أبعد زاوية في كرسيها وهي تطالعه بقلب منقبض متمتمة: " نفس الكلمات التي أخبرتني إياها في المرة السابقة.. إن خسرته سأموت يا يوسف.. لن أحتمل خسارة المزيد.. لن أحتمل "
***

بعد بضعة ساعات قليلة
كانت تتحرك بخطى بطيئة لا تقارن بخطوات يوسف الواسعة وهما يسيران في رواق المستشفى الطويل، كانت تشعر بنفسها كلما تقدمت خطوة تتراجع عشر
لا تريد أن تصل إلى صخر، لا تريد أن تراه إن كانت رؤيته تتوقف على وجع جديد وصدمة إضافية تضاف إلى سجل الصدمات المتلاحقة التي لا تكاد تخرج من واحدة حتى تتلقى أخرى
توقفت خطواتها فجأة على إثر توقف خطوات يوسف وهو يتحدث مع أحد الأطباء الذي بدى عابسا بغير رضا على أمر لم تكتشفه بعد
التفت يوسف بغتة يطالعها بنظرات مشفقة فغاص قلبها عميقا وقد بدأت عينيها تتوسعان تدريجيا استعدادا لسماع الصدمة التالية
أطرق يوسف للحظة بينما ذلك الطبيب كان مستمرا في الكلام وقد بدأ يلوح بكفه بحركة عصبية جعلتها تصل من الرعب أقصى حد
لا تصدق أنها ستفقده هو الآخر.. ستموت إن حدث ذلك
تشعر بكيانها يتفتت ببطء وحشي وكأنه تحالف ضدها يريدها أن تشعر بوجع مضاعف
ظلت مكانها متسمرة حتى رفع يوسف رأسه يرمقها بنظرة كئيبة وهو يدعوها للاقتراب قائلا: " تعالِ نبض لتستريحي في غرفتي حتى يفيق صخر "
اقتربت بالفعل ولم تكن هي من اقترب بل أخرى لا تقربها بصلة أما هي فظلت مكانها كما هي
تقدمت شبح إنسانة تتحرك بملامح شاحبة وعينين متسعتين برعب يسكنهما حتى وصلت إليه تقول بصوت لا حياة فيه: " يفيق! من أي شيء؟ "
رد يوسف بصوت متخاذل: " من أثر المخدر "
سألته بصوت خفيض مرعوب ليس لها: " ولماذا هو مخدر؟ "
رد الطبيب الآخر بدلا من يوسف: " دكتور صخر أتى إلى المشفى في حالة خطيرة.. مطعون بسكين في صدره ولولا لطف الله به لكان السكين اخترق قلبه "
جحظت عينيها وهي تشهق مكممة فمها بكفيها ناظرة إلى يوسف بجزع وكأنها أمّ أخبرها أحدهم بأنها فقدت طفلها للأبد
طالعها يوسف ببؤس وقلة حيلة بينما الطبيب يضيف بأسى قبل أن ينسحب مغادرا: " سيفيق بإذن الله بعد ساعة على أقصى تقدير إن لم تدخل حالته في مضاعفات كالمرة السابقة "
هزت نبض رأسها وهي تقول بأنفاس مكتومة وكأنها إن اخرجتها ستتألم أكثر: " ماذا يعني الطبيب بالمرة السابقة؟ "
أجابها يوسف بمرارة: " صخر هو من تلقى تلك الرصاصة بدلا مني ذاك اليوم قبل عشر سنوات.. كادت الرصاصة أن تخترق قلبه لولا ستر الله ولطفه به.. بعد أن أجروا له العملية واخرجوا الرصاصة دخل صخر في غيبوبة طويلة دامت لبضع أسابيع "
كانت تستمع إليه وهي تهز رأسها بعنف وما إن أنهى حديثه حتى كانت طاقتها تنتهي هي الأخرى وهي تسقط فجأة مغشيا عليها
***

في المساء
كانت الدار هادئة وكأنها قد خلت فجأة من ساكنيها، الكل واجم في عالمه الخاص بعدما أخبرهم يوسف بخبر إصابة صخر
جلست حياة على الأريكة بملامح كئيبة محبطة وهي تحمل حلا على ركبتيها وتضمها إلى صدرها بينما الأخيرة تبكي بنشيج متقطع وهي تقول: " هل سيكون عمي صخر بخير؟ "
طالعتها حياة بأسى وهي ترد: " إن شاء الله سيكون بخير.. اهدئي حبيبتي "
أما شمس فمنذ أن علمت بالخبر وحضرت إلى دار جدها وهي تجلس على الأريكة المقابلة لحياة وتنظر إلى هاتفها بوجوم وإلى جوارها فاطمة تدعو بتضرع إلى الله كي ينجي من مصابه
بينما حفصة تجلس إلى جوار فرح المنهارة في البكاء، تحاول أن تهدئها لكنها لم تستطع والأخيرة تصيح بحرقة: " لماذا لم يأخذوني معهم؟ ما فائدة بقائي هنا وأخي هناك بين الحياة والموت؟ "
هتفت ملك فجأة بدهشة وهي تقف إلى جوار النافذة المطلة على باحة الدار الخارجية: " قاسم وصل! "
نهضن جميعا من أماكنهن بترقب بينما دخل قاسم وهو يتلاعب بمفاتيحه مطرق الرأس إلا أنه أجفل حينما وجدهن أمامه على هذا الحال فقطب حاجبيه وهو يقول بترقب: " ماذا يحدث؟ ما بكن؟ "
هرولت فرح إليه وهي تبكي قائلة: " صخر يا قاسم.. صخر في المشفى مصابًا "
قطب قاسم بشدة وهو يقول: " صخر خارج البلاد "
أجابته حياة بتوتر: " يوسف قال أخبرنا أنه عاد صباح اليوم "
ضيق قاسم عينيه وهو ينظر لها قائلا بترقب: " لا أفهم.. هلا وضحتِ كلامكِ أكثر؟ "
ازدردت ريقها بإرتباك وهي تتهرب من عينيه دون أن ترد، لم تستطع أن تخبره فتقدمت منه ملك تقول بصوت مختنق: " أخوك قبل ساعات قليلة أجرى عملية جراحية "
جحظت عينيّ قاسم في صدمة بينما ملك تضيف: " لا نعرف أي عملية بالضبط فيوسف لم يخبرنا أكثر من ذلك "
هتف قاسم بعصبية وهو ينظر إليهن: " ولماذا لم يخبرني أحد؟ "
ردت شمس بإرتباك: " أنت كنت في العاصمة وظننا أن يوسف سيخبرك أيضا "
استدار قاسم مسرعا للخارج وهي يغمغم بعنف: " تبا لهذا الحظ العاثر "
هرولت فرح خلفه تمسك بمرفقه وهي تقول برجاء باكِ: " خذني معك أخي "
صاح قاسم بإنفعال: " عودي للداخل فرح.. فأنا على وشك قتل كل من يظهر أمامي في هذه اللحظة "
سحبتها حياة برفق وهي تقول بكآبة: " أذهب قاسم.. سأعتني أنا بها "
اومأ بلا معنى وهو يستقل سيارته التي أصدرت صرير عالٍ بمجرد أن أدراها وأنطلق
***

بعد بضعة ساعات أخر / في المستشفى
كانت نبض تقف أمام الجدار الزجاجي العريض الذي يغطي جانبا من الغرفة التي يقبع بداخلها صخر وهي تصرخ بإنفعال يكاد يصل حد الجنون: " لم يفق بعد.. لماذا لم يفق يا يوسف؟ مرت سبع ساعات.. سبع ساعات كاملة وهو على هذه الحالة "
كانت تدور حول نفسها وهي تضغط على جانبي رأسها بعصبية أكبر وعنف شديد بينما تهدر بالمزيد وشعور الضياع يحتل كيانها: " الطبيب قال ساعة واحدة.. وها قد مرت سبع ساعات.. هذا كثير.. أي مخدر أعطوه بالضبط؟ "
أوقفها يوسف ممسكا بكتفيها برفق وهو يقول بشفقة: " اهدئي نبض.. هذه العصبية لن تفيدك.. اهدئي أرجوكِ حتى لا تفقدي الوعي مرة ثانية "
صرخت بحرقة وهي تدفعه بعيدا عنها: " ليتني أفقد حياتي حتى أرتاح.. ليتني أموت قبل أن يريني فيه الله مكروها.. أنا أحترق "
هوت على الأرض جالسة على ركبتيها، مستندة بكفيها على الأرض وهي تتمتم بحرقة وأنين: " أنا أحترق.. كلي يحترق.. عُدت للضياع من جديد.. يا رب السماوات رُحماك "
اقتربت منها نغم على الفور وهي تربت على كتفها بمواساة قائلة: " إن شاء الله سيكون بخير ولن يصيبه أي مكروه.. أطمئني وثقي بالله "
اجهشت نبض في البكاء وهي تردد: " يارب.. يارب "
***

كان معتز يقف مع خالد وياسين وبقية من حضروا من العائلة في حديقة المستشفى يحاول أن يمنع ياسين عن الدخول بينما الأخير يصرخ بهياج: " لا يحق لك أن تمنعني من رؤية أخي "
رد معتز بحزم: " أنت لن تراه قبل أن يسمح هو شخصيا بذلك.. الأمر منتهي "
صاح ياسين بحدة: " سأدخل ولو رغما عنك ولتريني كيف ستمنعني؟ "
قطب معتز وهو يتراجع للخلف بهدوء مسيطر وهو يقول: " لن تدخل "
زمجر ياسين بشراسة وقد استفزته نبرة الثقة التي يتحدث بها معتز فكاد يقترب منه ناويا أن يفرغ فيه كل غضبه حينما قطع طريقة رجل في منتصف الثلاثينات، وقف طارق أمام معتز بحماية وهو يسأله بعبوس بينما نظراته موجهه إلى ياسين: " ماذا يحدث عمي؟ هل هناك مشكلة؟ "
رد معتز بهدوء: " كلا بني.. الأمور على ما يرام "
إلتفت طارق بوجهه إلى معتز يقول: " كيف حال صخر الآن؟ هل أفاق؟ "
أطرق معتز رأسه بإحباط وهو يجيبه: " حتى اللحظة لا.. أتمنى ألا يستسلم لأشباحه السوداء ويظل حبيس في سجنها طويلا "
كان خالد يقف على بعد خطوات منهم، بقلب مكلوم وروح تئِّن من الألم وهو يرى ابنه يكاد يضيع من بين يديه قبل أن يلتقي به لمرة واحدة حتى
هتف ياسين بعدائية وهو ينظر إلى طارق: " ومن أنت الآخر؟ كل لحظة يظهر شخص يسأل عنه.. ماذا تريدون منه؟ "
قطب طارق بضيق وهو يقول: " وما دخلك أنت؟ "
صاح ياسين بغيظ: " إنه أخي.. سمعت هو أخي؟ "
رفع طارق حاجبا باستفزاز وهو يقول بتهكم: " حقا! ومن أين ظهرت؟ "
زمجر ياسين بغضب وقبل أن يتحرك من مكانه أمسكه عاصم بإحكام وهو يقول: " أهدأ ياسين.. الوضع لا يحتمل عصبيتك أنت الآخر "
جز ياسين على أسنانه وهو يتراجع للخلف على مضض بينما تنهد معتز قائلا: " هذا الرائد طارق والده يكون ابن عمي، ويعد بمثابة أخ لصخر... "
قاطعه ياسين هاتفا بحنق: " ليس أخاه.. نحن فقط أخوته "
هتف طارق في المقابل: " كيف تخاطب عمي بهذه الطريقة هل جننت؟ "
صاح ياسين: " أنا أتكلم كما أشاء وأنت لا تتدخل فيما لا يعنيك "
كاد طارق أن يرد حينما صدح صوت نغم فجأة وهي تهدر بحدة أسكتت الجميع: " ماذا أصابكم؟ هل جننتم؟ تصرخون على بعضكم في المشفى ولا ينقصكم إلا أن تتشابكوا بالأيدي وكأنكم في الشارع.. ما هذه الهمجية؟ "
جحظت عينيّ ياسين وهو يتمتم بذهول: " هل وبختني تلك الفتاة الأشبه بالدمية للتو؟ "
رد عاصم بنفس الذهول: " هذا ما سمعته أنا أيضا "
في حين أولاهم حمزة ظهره وهو يحاول ألا ينفجر ضاحكا من منظر الفتاة المسيطر وهي توبخ رجلين يتعادانها طولا وعمرا
قطب طارق وهو يسألها: " هل هناك أخبار جديدة؟ "
فردت نغم بفظاظة من بين أسنانها: " عدا أصواتكم الصاخبة لا.. لم يفق صخر بعد "
دارت بعينيها قليلا بينهم حتى تسمرت عينيها على خالد.. قطب فجأة بتهكم من تفكير أمها فكيف ظنت للحظة أن صخر حقا لا يشبه والده أو يرث من ملامحه شيء
تنهدت بعمق وهي تتقدم نحو خالد بثقة بينما والدها يشيعها بنظراته القلقة وهو يخشى من تهورها وسلاطة لسانها
وقفت أمامه تتأمله بهدوء وللحظة قطبت بدهشة وهي ترى الشبه الكبير بين تلك النظرة المتألمة في عينيه وأخرى ترتسم في عينيّ صخر حينما يحزنه شيء
رمشت لوهلة وهي تزدرد ريقها محدثة نفسها بصدق ما تراه وهو أن صخر ورث الكثير من والده وأهم ذاك عينيه الكحيلتين المتألمتين وصلابته حتى في أحلك المواقف وأصعبها وللعجب وجدت نفسها تشعر ناحيته بالشفقة بالرغم من حقدها عليه بسبب ما فعله مع أمها قديما
كان يوسف هو الآخر قد لحق بها للأسفل وحينما وجدها تقف أمام عمه تقدم نحوهما بسرعة كي يوقفها قبل أن تتهور وتسيء إليه في ذلك الظرف الصعب الذي يمر به لكنه توقف فجأة حينما رآها تومئ برأسها بهزة بسيطة وهي تحييه بتهذيب غريب على طبعها البارد المتعجرف: " مرحبا عماه "
رد خالد ببساطة: " مرحبا "
سألته نغم بلطف: " لماذا تقف هنا؟ ألا تريد أن تطمئن على ابنك؟ "
رد خالد بهدوء: " ليس كل ما يريده ويتمناه المرء يتحقق.. عامة أنا أنفذ كلمة والدك ليس أكثر "
قطبت بعدم فهم فتابع بتوضيح: " أخبرنا أنه لن يسمح لنا برؤيته قبل أن يسمح صخر شخصيا بذلك "
اومأت بفهم وهي تقول بتبرير لموقف والدها: " أبي يفعل ذلك لأنه يخشى أن ينزعج صخر في مثل حالته تلك ويسوء وضعه "
تنهد خالد بقلة حيلة وهو يرد: " أنا أقدر له ذلك ولست متعجلا فأنا لا أريد سوا سلامة ابني لذا سأنتظر مهما طال الوقت "
عادت نغم لطبعها المتقلب وهي تقول بترفع: " بالطبع ستنتظر.. أنت مجبر على ذلك وليس أمامك أي خيار آخر من الأساس "
غمغم يوسف بغيظ: " نعم هذه هي نغم.. للحظة أوشكت على الظن بأنها تحولت لأخرى أكثر لطفا "
رمقته نغم بتقطيب وهي تستدير مغادرة بينما تتمتم بوقاحة: " أتمنى ألا يطردكم أخي حينما يعود لوعيه "
زفر يوسف بضيق بينما هي رمقته ببرود وهي تتخطاه قائلة باستفزاز: " لا تنس أنك واحدا منهم أي أنك معهم في نفس القارب إن طردهم أخي ستلحق بهم أنت الآخر "
جز يوسف على أسنانه وهو يقول: " هل ترين هذا ظرفا مناسبا لإظهار جانبكِ المتعجرف المتبلد هذا؟ "
رفعت حاجبا باستخفاف وهي تجيبه بثقة: " يوسف آل الجبالي لا تنس مع من تتحدث؟ أنا النغم.. لا تعبث معي أبدًا حتى لا تختل أوتارك "
تركته بعدها وتحركت مبتعدة فجز على أسنانه بغيظ وهو يتبعها مغمغما: " تبا لأوتاري التي لا تكف عن عزفك يا نغم "
توقفا فجأة على صوت قاسم الذي للتو قد وصل وبدأ يتشاجر مع طارق ومعتز ومن حوله أبناء عمومته لا يستطيعون السيطرة عليه
صرخ قاسم بإنفعال: " لا تجبروني على الخروج عن سيطرتي.. أنا مجنون بالفطرة من الأساس "
تقدمت نغم منه مقطبة الجبين وهي تقول بضيق شديد: " المزيد من الهمجيين.. لم تعد هذه مشفى بل سوق خضار "
جحظت عينيّ قاسم بخطورة وهو يرفع سبابته في وجهها قائلا بتهديد: " لا يهمني من أنتِ حتى لكن نصيحة لكِ مني اغربي عن وجهي حالا قبل أن أقطع عنقك وأعلقه على باب سوق الخضار هذا "
هتفت نغم بغضب: " كيف تجرؤ أيها المتخلف؟ ألا تعلم من أنا؟ "
جحظت عينيّ يوسف بصدمة وهو يغمغم: " سيقتلها قاسم.. تبا لوقاحتك وتهورك يا نغم.. ألم تجدي سوا قاسم لتتشاجري معه؟ "
رفع قاسم حاجبيه وعينيه تزدادان شراسة وهو يقول بصوت خفيض خطير: " يبدو أنكِ أنتِ الأخرى لا تعرفين مع أي متخلف تورطي يا حلوة "
رمشت نغم بخوف تملكها فجأة بينما قاسم يضيف بصوت قاتم موجها الحديث ليوسف: " من هذه؟ "
رد يوسف بتوتر: " إنها نغم أخت صخر "
رمقها قاسم بنظرة شملتها من رأسها حتى أخمص قدميها قبل أن ينظر لعينيها بقوة قائلا: " إن كان أخوها مثلها بنفس الوقاحة وسوء التهذيب فهذا يعني أن عليّ تقويم الكثير فيه "
جحظت عينيها بغيظ وهي ترفع سبابتها في وجهه صائحة: " تخطيت حدودك يا هذا "
ضرب قاسم أصبعها وهو يقول من بين أسنانه: " لا أظن ذلك يا هذه "
إلتفت بعدها يوليها ظهره وهو يقول بصوت قاتم خشن: " سوف أرى أخي وأطمئن عليه بنفسي وإلا سأقلب هذه المشفى فوق رؤوسكم جميعا "
صاح ياسين بتشفي: " حقك يا أخي وأنا أساندك في هذا "
***

في الأعلى / بغرفة صخر
كانت نبض تقف إلى جوار فراشه، تطالعه بخوف وهي تمسك بكفه وعبراتها تتساقط كزخات المطر وهي تتمتم بحرقة وتوسل يمس القلب: " أنت ستفيق يا صخر.. ستشفى وتصبح بخير لأجلي.. أنت تعلم أن ليس لي سواك وأنني بحاجتك أليس كذلك؟ تعلم أنك كل ما أملك ومن بقى لي من بعد والديّ.. أنت لن تتركني وحدي أليس كذلك يا صخر؟ "
شهقت بقوة وهي تنظر له بضياع أكبر وهي تضيف: " بالله عليك أجبني.. لا تتركني أهذي هكذا.. سأفقد عقلي "
رفعت رأسها عاليا تهتف بحرقة قلب وأنين روح وعذاب: " يارب.. يارب.. ليس لي سواه من بعدك فلا تريني فيه مكروها.. رُحماك يارب.. رُحماك بي "
أجهشت في البكاء وهي تميل بدون وعي تستند بجبهتها على صدره المغطى بالشاش بينما يديها تزدادان تمسكا بكفه وكأنها تخشى أن يهرب منها
همهمت بأنين مكتوم: " أفق يا صخر وأرحمني.. أفق قبل أن أموت.. قلبي سيتوقف أرحمني أرجوك.. أرجوك أفق.. أرجوك.. يارب.. يارب "
تحركت أصابع كفه التي تقبض عليها نبض بين يديها بحركة بسيطة تكاد لا تحس لكنها شعرت بها فرفعت رأسها كالمدفع في لمح البصر
حدقت فيه بلهفة وهي تقول بصوت مختنق متحشرج: " أنت تسمعني يا صخر.. تسمعني أليس كذلك؟ "
لم يتحرك صخر أو يرد عليها فصاحت بلوعة: " لا تحرق قلبي عليك يا صخر.. أفق كفاك دلالا.. أفق "
عادت أصابعه تتحرك من جديد بنفس الحركة البسيطة فهتفت بلهفة أكبر وهي تقترب منه أكثر: " إن كنت تسمعني حرك يدك من جديد "
تحركت أصابعه مرة ثالثة فشهقت نبض بقوة وكأن روحها المسلوبة في لحظة رُدت إليها قائلة: " كنت أعلم أنك لن تخذلني يا صخر.. شكرا يا ربي "
تحركت أصابعه ببطء لتلتف حول أصابعها فأغمضت عينيها فجأة وهي تجهش في البكاء متمتمة: " شكرا يا ربي ما أرحمك.. ما أرحمك بعبادك! "
لحظات وامتلأت الغرفة بالأطباء لمعاينة حالته بعدما أخرجوها فانزوت في إحدى الزوايا تطالعه بعينين دامعتين من خلف الحائط الزجاجي العريض ولسانها لا يكف عن الحمد والشكر لله
اقتربت منها ليال وأحاطت كتفيها برفق وحنان وهي تقول: " لا تخافي حبيبتي.. لن يخزيك الله أبدًا ثقي برحمته الواسعة "
هزت رأسها فتساقطت المزيد من عبراتها وهي تهمهم: " أثق فيها تمام الثقة فمن دون رحمة ربي أضيع "
اقتربت نغم بلهفة ما إن وصلها الخبر بأن صخر أفاق وقفت إلى جوار نبض من الناحية الأخرى وهي تتطلع لداخل غرفة صخر قائلة: " ماذا يفعلون؟ "
ردت أمها بهدوء: " يعاينون حالته.. كادوا ينتهون على ما اظن "
لحظات بالفعل وخرج الأطباء واحدا تلو الآخر وكان آخرهم ذاك الطبيب الذي رأته نبض لحظة وصولها إلى المستشفى مع يوسف قبل ساعات طويلة
تقدم الطبيب نحو ليال يقول ببسمة هادئة: " بطلك بخير ليال هانم.. لا تقلقي "
ردت ليال بسمته بأخرى ممتنة وهي تقول: " شكرا دكتور "
سألت نغم وعينيها مثبتتان على أخيها: " متى سندخل له دكتور؟ "
رد الطبيب بمشاكسة: " لو كان اسمك نبض وليس نغم لكنتِ بجواره الآن "
إلتفتت نغم تنظر إلى الطبيب بعبوس قائلة: " ماذا تقصد دكتور سامح؟ "
رد الطبيب ناظرا إلى نبض: " أخوكِ طلب آنسة نبض وحدها.. وعلى أي حال الزيارة ممنوعة حتى الغد "
قطبت نغم بغيظ طفولي وهي تنظر إلى نبض التي ابتسمت بفرح فهتفت: " هل تقصد أن أخي فضل حبيبته على أخته حتى وهو في هذه الحالة؟ ما أبغضه! "
ضحك سامح وهو ينظر إلى ليال قائلا: " لم تجدي حلا لسلاطة لسانها بعد على ما يبدو ليال هانم؟ "
هزت ليال رأسها وهي ترد بتنهيد: " لم ينفع معها أي شيء دكتور.. حاولت معها كثيرا لكني فشلت "
صاحت نغم بغيظ: " ماذا تقولين ماما؟ "
ضحك سامح من جديد وهو يشير إلى نبض بعد أن استأذن من ليال
تبعته نبض على الفور حتى توقفا أمام باب غرفة صخر فنظر لها سامح قائلا بلطف: " حالته لم تستقر بعد لذلك أرجوكِ لا تحاولي أن تجهديه بالكلام حتى لا ينفعل ويضر نفسه "
اومأت برأسها بسرعة وهي تقول: " لن أفعل "
ابتسم سامح وهو يقول: " حسنا يمكنكِ الآن الدخول إليه "
سألته نبض بحيرة: " هل ستظل عمتي ليال ونغم واقفتان بهذا الشكل طويلا؟ "
قطب سامح وهو يقول: " لم أفهم "
ردت نبض ببساطة: " ستتعبان من الوقوف.. لما لا تسمح لهما بالاطمئنان عليه دكتور؟ "
هز سامح رأسه سلبا وهو يقول: " لا أستطيع.. الزيارة ممنوعة حتى تستقر حالته ولولا أنه أصر على وجودك إلى جانبه ما كنت سمحت لكِ بالدخول إليه يا آنسة.. هذا لسلامته "
اومأت نبض بتفهم وهي تلتفت إلى الباب تفتحه بهدوء وقلبها يدوي بصخب بين أضلعها
قبل أن تغلق الباب قال سامح: " هناك ستار في الداخل يمكنك أن تغلقيه لتحصلا على خصوصية أكثر وعلى أي حال ليال هانم وآنسة نغم ستنزلان للأسفل حالا فلا فائدة من بقائهما هنا "
ابتسمت له بلطف وهي تغلق الباب ببطء حتى لا يصدر صوت بينما عينيها تلتقطان انسحاب ليال ونغم على مضض كما يبدو
كادت تتوجه ناحية صخر حينما أجفلها الأخير وهو يقول بصوت خافت أبح: " أسدلي الستار أولاً "
توقفت مكانها للحظة تطالعه بلهفة لازالت متقدة بداخلها فوجدته يغلق عينيه بقوة وكأن هناك ما يزعجه فتوجهت إلى الجدار الزجاجي وأسدلت الستار عليه فباتت الغرفة منعزلة تماما لا يظهر شيء مما بداخلها لمن يقف في الخارج
لم تكد أن تلتفت حتى عاد صوته المتعب يتمتم بخفوت: " أطفئي الضوء أيضا وبعدها تعالِ إليّ "
ارتبكت قليلا من كلماته الأخيرة لكنها نفذت ما قاله دون تردد واقتربت منه حتى جلست على الكرسي الموضوع أمام الفراش
فتح صخر عينيه ببطء وهو يرمش بأهدابه الطويلة للحظات حتى أعتادت عيناه على الظلام المسيطر على الغرفة عدا من شعاع شاحب يتسلل من النافذة بسبب قرص القمر المكتمل ببهاء
ظل على سكونه التام وعينيه مثبتتان على السقف بينما كانت نبض تجلس في كرسيها تراقب كل شاردة وواردة منه متسعة العينين حتى وجدته يبسط كفه أمامها بدون أن يوجه لها كلمة واحدة فمدت يدها بتلقائية تضعها في كفه الدافئ حينها رأته يقطب حاجبيه قليلا وهو يقول بصوت الأبح: " كفك باردة على عكس قلبك يا نبض "
رمشت نبض بتوتر وهي تتمتم: " وما أدراك أن قلبي ليس باردا؟ "
رد بوجوم: " أنتِ من أخبرتني بأنه يحترق إذن هو دافئ "
تنهدت نبض بحزن وهي تقول: " لا ترهق نفسك.. أغمض عينيك وحاول أن تنام قليلا "
رمش لوهلة قبل أن يقول: " لا أريد.. نمت كثيرا "
طالعته بحنان وهي تقول: " حسناً أبق مستيقظا لكن لا تتكلم حتى لا تجهد نفسك "
سألها بشرود: " ستبقين إلى جواري أليس كذلك؟ "
ردت نبض برقة والدمع يترقرق في عينيها: " للأبد "
رأته وهو يزفر أنفاسه ببطء شديد وكأن مجرد إخراج بضعة أنفاس من صدره بات يؤلمه فتألم قلبها عليه أكثر
وساد الصمت
مالت بجذعها للأمام تسند مرفقها على طرف الفراش بينما تريح جانب رأسها على قبضتها المضمومة وعينيها مثبتتان على خاصتيه الشاردتين بينما كفها الآخر لازال في قبضته يتنعم بدفئها
***

في الأسفل
خرج معتز بعد لحظات بوجه مهموم متعب وهو يقول موجها حديثه لخالد: " الطبيب المسؤول عن حالة صخر عاينه قبل قليل.. أخبرني أن حالته لم تستقر بعد ويلزمنا الصبر حتى الغد لنطمئن تماما "
سأله خالد بلهفة: " ألن نستطيع رؤيته الليلة؟ "
رد معتز بأسف: " لا.. الزيارة ممنوعة عنه حتى يسمح بها دكتور سامح وحتى أنا لم أره ولن أراه الليلة مثلكم تماما على أي حال "
صاح ياسين بتذمر وضيق: " لن أستطيع الإنتظار حتى الغد "
أطرق معتز برأسه وهو يقول: " مضطرين لهذا "
قطب قاسم وهو يقول: " ألن يرافقه أحد الليلة؟ "
رد معتز بهدوء: " هو لا يحتاج لأي مرافق الليلة فهناك ممرضة ستعتني به طوال الليل لكن إن كان هذا يطمئنك فأعلم أن نبض معه "
عبس قاسم بشراسة وهو يقول: " ماذا تفعل معه وحدهما؟ هذا لا يصح.. أخرجها من عنده "
رفع معتز حاجبيه بتعجب وهو يقول: " هي وافقت بإرادتها على البقاء معه فلماذا تعارض أنت؟ "
زمجر قاسم متجاهلا الرد على معتز وهو يستل هاتفه من جيبه طالبا رقم نبض وبمجرد أن فتحت الخط صاح قاسم بحدة: " أخرجي من عندكِ حالا يا نبض "
ردت نبض بإرتباك: " لماذا يا أبيه؟ "
هتف قاسم بغضب: " كيف تجالسين رجلا غريبا في غرفة مغلقة عليكما وحدكما بهذا الشكل؟ "
ردت نبض بتورد: " يا أبيه إنه مريض... "
قاطعها قاسم بغيظ: " ولو كان على حافة الموت... "
قاطعته نبض بلهفة قائلة: " بعيد الشر عنه.. حماه وحفظه الله لي.. ماذا تقول أبيه؟ "
صرخ قاسم بحنق وهو يكمل كلامه وكأنها لم تقاطعه: " الرجل منا لا يمنعه حتى الموت عن... "
قاطعته بهتاف حمائي: " صخر ليس كما تظن يا أبيه.. لم يفعلها وهو صحيح الجسد أتظنه سيفعلها وهو في هذا الوضع؟ "
غمغم قاسم بغيظ: " تبا لكِ وله يا روح أبيه عله يأكلك ويمتص دمك ووقتها لن أتدخل "
في هذه اللحظة ترك صخر كف نبض وأشار للهاتف فأعطته إياه بإرتباك وبينما كان قاسم على وشك قول شيء آخر حتى أتاه صوت صخر مشتد كالوتر رغم الجهد والتعب الواضحان به: " عندي سؤال واحد وأريدك أن تجيبني عليه بإيجاز.. هل قلت لنبض يا روح أبيه؟ "
كان قاسم يقف مشدوها فاغرا فاهه وللحظة لم يصدق بأنه أخيرا يسمع صوت أخوه لكنه أفاق من دهشته على آخر ما قاله صخر فقطب وهو يجيبه: " نعم قلت هذا "
شهق قاسم بدون صوت وهو يسمع صخر يصرخ عليه بصوت أبح ناري: " تبا لك إذن يا أبيه.. لو كنت أمامي اللحظة لكنت شربت من دمك أنت "
لم يفق قاسم من دهشته بعد بينما صخر يتابع بأمر صارم: " أخبر أبي أنني أريدك أن تكون أول واحد يزورني ما إن يسمح الطبيب بالزيارة "
سأله قاسم وهو يقطب بحيرة: " أباك من؟ "
رد صخر بحنق: " معتز الجياد.. أ نسيت أنني لازلت صخر معتز الجياد؟ "
عبس قاسم وهو يقول: " لن يظل هكذا طويلا "
رد صخر ببرود: " سنرى ذلك حينما نلتقي "
أغلق صخر الهاتف ورماه على الفراش وهو يتنفس بقوة فطالعته نبض بخوف وقلق وهي ترى حركة صدره العالية صعودا وهبوطا
جلست على طرف الفراش وهي تمسك يده قائلة بقلق: " هل استدعي الطبيب؟ "
لم يرد فتابعت بخوف: " أخشى أن تسوء حالتك ويتضرر قلبك "
رد صخر دون أن ينظر لها: " ضعي يدكِ عليه وهو سيشفى "
فغرت فاهها بذهول وهي تقول: " نعم! "
سحب يدها بخشونة ووضعها فوق صدره موضع القلب وهو ينظر لعينيها بنظرة نارية مشتعلة قائلا من بين أسنانه: " هكذا "
اخفضت بصرها تطالع كفه التي تغطي كفها وتضغطها إلى صدره قبل أن ترفع عينيها إلى خاصتيه من جديد وقد بدأت أنفاسها تعلو وقلبها يخفق بعنف متمردا عليها وهي تستشعر قوة المضخة التي تضرب باطن كفها بقوة
ظلا على هذا الحال لبضعة دقائق والسكون يسود المكان من حولهما وضوء القمر الشاحب ينعكس على وجه نبض فيزيده جمالا خاصة مع عينيها البراقتين بشكل عجيب
بصوت أجش مختنق كان صخر يقول: " اقتربي يا نبض "
رمشت بقوة وهي تشعر بنفسها أسيرة له: " كيف؟ "
رفع يده الآخرى المتصلة بالأسلاك الطبية الرفيعة يشير لها ببطء فمالت برأسها قليلا قبل أن تشهق وهو يجذبها إليه أكثر متمتما أمام عينيها المتسعتين بإرتباك: " هكذا "
غمغمت نبض بصوت هارب منها: " صخر لا تتهور.. سيقتلك أبيه قاسم "
ارتسمت بسمة ماكرة على ثغره انعكست في مقلتيه المتعبتين: " لن أفعل أكثر من إمضاء صك ملكية يثبت أنكِ لي وحدي.. حصرية لي أنا فقط وإلى الأبد يا نبض الفؤاد "
توسعت عينيها أكثر بشكل مؤلم بينما هو يضيف بصوت أكثر خفوتا: " لن تمنعيني يا نبض.. أليس كذلك؟ "
هزت رأسها سلبا وهي تهمس بتلعثم: " لن تفعل يا صخر "
رد بإصرار: " بلى سأفعل يا نبض صخر "
في لمح البصر كانت شفتيه تعانقان شفتيها بعذوبة وهي تشعر بأنها ضاعت وإلى الأبد
ضياع عذب المذاق لكنه مخيف!
مثير لكنه غير معلوم القرار!
قبلته كانت كبئر سحيق سقطت فيه فخرجت نبض أخرى، لا هي الطفلة الوديعة ولا هي المراهقة الخجول، خرجت ولا تدري أيهما تكون؟
أفلتها صخر بعد لحظات طواعية فشهقت نبض بقوة وهي تتنفس بلهاث حاد آلم صدرها
شعرت وكأنها انفصلت عن الواقع وعن الوجود وظلت على حالتها تطالعه من عليائها ولا يفصل بين وجهها ووجه إلا الأنفاس التي تخرج منهما لكنها كانت لحظة غفلة من كلاهما.. غفلة نسيا فيها المكان والزمان وأنه ما من رابط شرعي بينهما.. غفلة اوقعتهما في خطأ جسيم خرج منه صخر على صفعة نارية من كف نبض الذي قبل لحظات فقط كان يعانق كفه وخرجت منها هي شاحبة، ترتجف رعبا من هول ما حدث
صدمة صخر تجلت في اتساع مقلتيه وترجمها لسانه حين قال: " هل صفعتني حقا؟ "
تراجعت للخلف وهي تختض متمتمة: " أخبرتك ألا تفعل "
صاح بصوت جهوري فجأة جعلها تطلق صرخة فزع رغما عنها وهي تقفز متراجعة للخلف أكثر: " هل جُننتِ يا نبض؟ تصفعينني! "
ازدردت ريقها وهي ترد بصلابة واهية: " رد فعل طبيعي ومتوقع على تطاولك عليّ أم ظننت أنني سأمرر لك ما فعلت مرور الكرام؟ "
قبض على كفيه بقوة إلى جانبيه وهو يتمتم بذهول مصدوم: " أنتِ صفعتني حقا "
طالعته بسخرية باردة ترد: " ألم تقرأ روايات من قبل أم ماذا؟ هذا رد فعل متداول في كل الروايات "
أغمض عينيه يحجب عنها نيران غضبه ومرجليه المشتعلين وهو يقول من بين أسنانه: " نحن لا نحيا في رواية "
هتفت حينها نبض وهي تشعر بغضبها يوازي غضبه: " كان عليك إذن أن تُذكر نفسك بهذه الكلمات فلا تفعل ما ليس من حقك "
تبدد كل غضبه فجأة وهو يطالعها بيأس قائلا: " أنتِ لي وحدي يا نبض كما أنا لكِ.. أنتِ من أريد ولا سواكِ.. لا تتركيني أرجوكِ "
وجدت نفسها بدون وعي تتخلى عن غضبها منه وهي ترد عليه: " أنت من يتركني في كل مرة يا صخر "
غمغم بإحباط: " هذا لأنني أحمق "
طالعته بكآبة دون أن تعقب بشيء بينما عاد هو يقول برجاء: " لن تتركيني يا نبض أليس كذلك؟ "
اومأت سلبا وهي ترد بيقين من قرارها: " أبدًا "
تنهد حينها وهو يقول بصوت متعب: " أخبري قاسم إذن أنني قبلتكِ حتى يقتص لكِ مني وإن لم تفعلي سأخبره بنفسي "
قطب وهي تسأله بحيرة: " هل تمزح؟ أبيه قاسم لو علم بما فعلت فسوف... "
قاطعها صخر وهو يغمض عينيه بسكينة متمتما بصوت متراخي: " ربما تكن في نفسي حاجة لشجار أخوي لم أحظ به يومًا وها قد أتتني الفرصة أخيرًا فلا تحرميني منها رجاءً "
حين أنهى جملته وطلبه توسعت عينيها بذهول وهي تتمتم في سرها: " هل أثرت الطعنة على عقله؟ والله إن تفكير صخر أحيانا يصبح من الغباء حد التطرف "
***

في الصباح / دار الجبالي
دخلت حفصة إلى جناحها بخطى هادئة حثيثة حتى لا تزعج زوجها في نومه الذي لم يحظى به إلا قبل ساعتين فقط.
أغلقت الباب من خلفها وهي تتحرر من حجابها وتضعه على طاولة الزينة قبل أن ترفع يديها وبصفة كانت تسدل شعرها البني الناعم لينساب على ظهرها وكتفيها بينما تطلق تنهيدة عميقة تحمل بين طياتها تعب وإرهاق كبير.
رعاية كل فرد من أفراد الدار ليست بالمسؤولية الهينة أبدًا ومهما ظنت الأمر يسيرا بمساعدة حياة لها يكون في واقعه عكس ذلك تماما.
تنهدت من جديد وهي تتجه إلى خزانة الملابس، تخرج جلباب آخر نظيف بلون الفيروز حتى تبدل الجلباب الذي لا تزال ترتديه منذ الأمس حيث لم تسنح لها أي فرصة حتى تنعش جسدها المرهق أو تبدل ملابسها.
استدارت بنفس الهدوء الذي دخلت به الغرفة وهي تخطو تجاه الحمام دون أن تنسى أو تغفل عن إلقاء نظرة حنونة ناحية الفراش الذي يعتليه زوجها.

بعد ربع ساعة
خرجت من الحمام وهي تشعر بأن بعض الاسترخاء بدأ يزحف تدريجيا إلى خلايا جسدها المرهق فيبدد تعب وسهر الأمس.
اتجهت إلى طاولة الزينة، تلتقط فرشاة الشعر قبل أن تبدأ بتمشيط شعرها وهي تشرد قليلا بنظراتها ناحية الفراش من جديد.
عاصم!
لقد أصبح عاصم هو شاغل عقلها الوحيد منذ الأمس بعد أن اطمأنت على ابن عمها صخر.. لازالت كلمات عمها سليم تتردد في أذنيها تاركة خلفها رعب من شيء لم تكن تفكر فيه من قبل.

بالأمس في ساعة متأخرة من الليل
كانت تصعد إلى غرفة ابنتها حلا لتطمئن عليها بعد أن تكفلت شمس بتهدئة خوفها حتى تتمكن من النوم، لكن فجأة أتاها صوت عمها سليم يستوقفها عم متابعة الخطى نحو وجهتها.
" إلى أين يا حفصة؟ "
إلتفتت تطالع عمها بهدوء وهي تجيبه: " إلى غرفة حلا يا عمي.. سأطمئن من أنها نامت أم لا تزال مستيقظة؟ "
كان سؤاله التالي يحمل العتاب واللوم بين طياته وهو يقول: " وهل فعلتِ نفس الشيء مع زوجكِ يا حفصة؟ هل اطمأننتِ عليه هو الآخر؟ "
رفعت يدها بإرتباك تعدل من حجابها وهي تطرق برأسها في حرج مجيبة: " زهراء قبل قليل هاتفت حمزة وهو طمأنها أن الجميع بخير وأيضًا صخر "
قطب بين حاجبيه غير راضيا عن جوابها وهو يقول: " دعي صخر جانبا يا ابنة أخي وإلى جواره الجميع فأنا لم أسألكِ إلا عن زوجكِ.. هل هاتفتِ زوجكِ بنفسكِ؟ "
هزت رأسها سلبا دون أن ترفع بصرها إلى عمها الذي أردف بتوبيخ: " وهل هذا يصح يا حفصة؟ لم تعودي فتاة صغيرة وبرغم ذلك لازالت الكثير من الأمور تفوتكِ وإن أردنا أن نكون أكثر تحديدا فما يفوتكِ دومًا يكون متعلق بزوجكِ "
رفعت رأسها وهي تطالع عمها بتوتر تسأله بصوت مضطرب: " هل... هل تتهمني بالتقصير مع زوجي عماه؟ "
كتف سليم ساعديه أمام صدره وهو يجيبها دون مراوغة: " نعم يا ابنة أخي أنتِ مقصرة في حق زوجكِ وكثيرا أيضًا بينما تكونين أكثر تفانيا مع الجميع، تهتمين بشؤون الصغير قبل الكبير لكن حين يتعلق الأمر بعاصم تقصرين معه "
لمعت الدموع جليا في مقلتيها العسليتين وهي ترمش متمتمة: " هل... هل شكا عاصم مني؟ "
رد سليم بلوم: " وهل يعقل أن يشكو عاصم من الأميرة؟ "
هزت رأسها سلبا وهي تطرق برأسها هامسة: " أنا... "
فقاطعها سليم وهو يقول بحنو مربتا على كتفها: " لا أريد سماع أي تفسير منكِ يا حفصة فأنتِ لستِ مطالبة بذلك إلا مع زوجكِ فحسب ولكن أنا أحببت أن أعطيكِ نصيحتي لأن الوضع لا يعجبني حتى وإن لم يشكو عاصم أبدًا "
تساقطت عبراتها على خديها وهي تتمتم بصوت مختنق: " أنا فقط كثيرا ما انشغل عنه بسبب مسؤولية الدار "
جادلها سليم بهدوء: " أردنا إحضار أكثر من خادمة للقيام بتلك الأمور وأنتِ من أصريتِ على الرفض "
لم ترد بينما هو يردف: " وأيضًا لا تسمحين لأي واحدة من بنات عمومتكِ في أن يساعدنكِ "
أجابت بصوت خافت والحرج يسيطر عليها إلى جانب شعورها بالذنب تجاه زوجها في تلك اللحظة: " لا أريد أن أتعبهن معي "
هتف سليم بغير رضا: " من أين تأتين بهذا التفكير بالله عليكِ يا حفصة؟ هذا واجب كل واحدة منهن رغما عنهن جميعا ولا تحسبين بأنكِ هكذا تفعلين الأمر الصحيح بل تخطئين، ففي سبيل إراحتهن تقصرين دون شعور منكِ في حق زوجكِ وهذا غير مقبول يا حفصة "
لم ترد وهي تعض على شفتها السفلى كاتمة بكائها بينما سليم يزفر بقلة حيلة وهو يقول: " هذا ما كان يمنعني جديا من الحديث معكِ أنتِ بالذات يا حفصة.. دموعكِ لا لجام يربطها حتى أنها تسبق جوابكِ "
لم تجد ما ترد به فظلت على إطراقها بينما سليم يتابع بنبرة ذات مغزى: " مهما طال صبر وتحمل أي زوج إلا أنه عند لحظة معينة يفجر كل ما كتمه بداخله وحينها تكون الطامة أكبر والعواقب وخيمة "
رفعت رأسها بخوف وهي تسأله: " دبرني عماه ماذا أفعل؟ "
ضحك سليم وهو يطرق رأسه محركا رأسه يمينا ويسارا بقلة حيلة قبل أن يقول: " أظن أن الجواب التفصيلي ستجدينه عند طويلة اللسان ملاك "
توترت حفصة واحمرت وجنتيها وهي تتمتم: " ملاك أفكارها لن تفيدني في شيء.. إنها مجنونة "
ضحك سليم من جديد وهو يقول: " والله ما عندها من أفكار هو ما سيفيدكِ ثقي بكلامي وعلى سيرة المجنونة أخبري أختكِ هي الأخرى أن تتكرم ببعض الوقت الإضافي على زوجها حرام أن يحيا المسكين مع لوحاتها بدونها "
هزت رأسها علامة أنها ستفعل بينما ينسحب سليم إلى جناحه ولم ينس أن يشدد عليها قبل رحيله: " زوجكِ بحاجتكِ اللحظة أكثر من أي وقت مضى يا حفصة فما نمر به من ظروف تقع على رأس الجميع فكوني له نعم الزوجة كما هو لكِ نعم الزوج "


عادت الدموع تنساب على خديها من جديد وهي تستدير بجسدها فتصبح في مواجهة الفراش وحين شعرت بأن صوت بكائها قد يقلق نومه رفعت كفها إلى فمها تكتم شهقة بكائها وهي تهمس لنفسها برعب شديد: " هل يعقل أن يشكو عاصم مني أو... أو يملّ مني فينظر لامرأة أخرى؟ يا ويلي! إن فعل سأموت "
أطرقت رأسها وهي تمسك حافة طاولة الزينة من خلفها ودموعها تنساب غزيرة حتى أجفلت فجأة على صوت عاصم القلق: " حفصة! ماذا بكِ؟ "
رفعت وجهها إليه سريعا وهي تجيبه بلهفة: " أنا بخير.. هل أنت بخير؟ "
قطب لحظة بحيرة من حالتها وهو يقول: " أنتِ تبكين! "
هزت رأسها سلبا تجيبه: " لا "
فعبس بعدم فهم وهو يعتدل جالسا بينما يقول مشيرا لوجهها: " كيف لا وماذا إذن عن تلك الدموع التي لازالت عيناكِ تفيضان بها؟ "
شهقت باكية وهي تتمتم: " أنا لا أبكي "
هنا لم يستطع عاصم أن يبقى في مكانه أكثر فقفز مسرعا إليها يدفعه قلقه وخوفه من أن يكون قد أصابها شيء وتخفي الأمر عنه.
وصل إليها، ورفع وجهها إليه بحنو وهو يطالع عينيها الجميلين قائلا بقلق: " ماذا بكِ يا حفصة؟ ماذا جرى لكِ في غيابي بالأمس؟ "
رمشت ببؤس وهي تجيبه بصوت مختنق تتحكم فيه غصة البكاء: " لا شيء أنا فقط... "
سكتت فحثها على المتابعة بلطف: " أنتِ ماذا يا أم حلايّ؟ "
ردت وهي تشهق باكية مرة أخرى: " أنا خائفة.. أخشى أن تتركني و... "
قاطعها هو تلك المرة هامسا بذهول: " أنتِ جُننتِ يا حفصة بالتأكيد "
هزت كتفيها بطفولية بينما هو يرفع كفيه ويسمح دموعها بلطف قائلا: " ما الذي تسبب لكِ في هذا الشعور البغيض يا حفصة؟ "
إجابته بخجل وشعور الذنب يعود ليطفو على السطح من جديد: " لأنني مقصرة معك "
رفع حاجبيه وهو يطالعها بذهول أقرب إلى الصدمة متمتما: " من الذي جعلكِ تفكرين في هذا الأمر يا حفصة؟ أنا لم أشكو منكِ أبدًا ولم أكن لأفعل في أي وقت أو حال "
رمشت بحزن تقول: " ورغم ذلك أنا أعلم أنني مقصرة في حقك كثيرا و... هذا بدون قصد مني والله يا عاصم فأنا... أنا أحبكِ "
تهللت اساريره فرحا وهو يحتضن جانبي وجهها بكفيه، مائلا بخفة إلى شفتيها يلثمها برقة قبل أن يطالع عينيها هامسا بحنان وكأنه يخاطب طفلته وليست زوجته التي فرق العمر بينهما فقط بضعة سنوات قليلة: " صباحكِ سكر يا أميرتي "
توردت حفصة وهي تتهرب بنظراتها الخجولة بعيدا عن نظراته الحنونة المغلفة برغبة الشوق لها.. أوَ ليست هي الأخرى تشتاق إليه؟ هي حتى لا تتذكر متى كانت آخر مرة نامت بين ذراعيه، تنتظره حتى يغفو وتغيب عنها عينيه البنيتين المغلفتان بحنان العالم بأسره حتى تغفو هي الأخرى، لا تتذكر متى كانت آخر مرة مشطت خصلات شعره التي تشبه لون عينيه بأصابعها وهي تضحك هامسة: " بدأ الشيب يغزو جانبي رأسك فيزيدك وسامة يا ابن عمي "
تنهدت رغما عنها فقطب عاصم بمرح يقول: " لم أكن أعلم أن الشوق استبد بكِ لهذه الدرجة.. تبدين بائسة للغاية "
ضحكت وهي تعود ببصرها إليه، تطالعه بشوق يفوق شوقه، بحنان تربت عليه وعلى يديه منذ نعومة اظافرها.. نعم الموت أرحم لها على أن يفارقها عاصم حب الطفولة والصبا وحلم شبابها وأمل حياتها.
شردت من جديد فنبهها صوت عاصم وهو يناديها بنعومة: " أميرتي "
وجدت نفسها بإندفاع ليس من شخصيتها تقول: " أنا لا أكون بدونك.. وجودك معي هو ما يجعلني حقا أشعر بأنني أميرة يا عاصم "
ابتسم لها بحنو فتغضنت زاويتي عينيه وهو يرد: " لا حرمني الله منكِ يا أميرتي فأنا لا أستطيع العيش لحظة بدونكِ "
طالعته بحماس ولهفة طفولية وهي تقول: " حقا يا عاصم؟ "
اومأ ضاحكا وهو يرد: " حقا يا أميرة قلب عاصم "
مالت فجأة بنفس الاندفاع الغريب تقبل وجنته وهي تهمس بتوتر خجول: " صباح الخير "
كتم عاصم ضحكته وهو يهز رأسه قائلا بمكر: " قُبلة الصباح لا تكن هكذا يا أميرتي "
عضت طرف شفتها السفلى بخجل، تكتم بسمتها وهي تهمس بخفوت: " إذن كيف؟ "
دون أن يجيب مال يقبل شفتيها بشوق جلي فلم تبخل الأميرة على أن تبادله قبلته، تخبره هي الأخرى بأنها مثله مشتاقه ليهمس عاصم بعد لحظات بصوت خافت مغازلا إياها: " ألم أقل لكِ أن صباحكِ سكر؟ "
فجأة أجفلهما صوت حلا التي صاحت بامتعاض وهي تقف أمام الباب متخصرة: " السكر الكثير ضار بالأسنان ويسبب لها التسوس يا سيد عاصم "
فغر عاصم فاهه مصدوما بينما وضعت حفصة كفها على فمها وهي تكتم ضحكتها بينما حلا تردف بعبوس: " عمي زيد يسأل عنك وينتظرك بالأسفل "
تحركت خطوة ثم ثبتت قدميها مكانها مرة ثانية وهي ترفع سبابتها بتهديد تقول: " إن تأخرت عليه وتغالظ ابن عمك عليّ سأخبره عما تفعلانه هنا.. اللهم قد بلغت على قول حياة "
انتفض عاصم من مكانه يصيح بغيظ: " بنت يا حلا تهذبي وأنتِ تتحدثين معي.. أنسيتِ أنني والدكِ؟ "
طالعته بنزق وهي تصيح في المقابل: " أنا والدي لا يخبرني بأضرار السكر الكثير ثم يذهب هو من خلف ظهري ويأكل كل السكر وحده "
لم تستطع حفصة الصمت أكثر فانفجرت ضاحكة وهي توليهما ظهرها فتمتمت حلا بامتعاض: " وأنتِ يا سيدة حفصة هل نسيتِ نصائحكِ لي؟ والله يبدو أنكِ نسيتِ بالفعل! "
رمقت والدتها بنظرة مستاءة قبل أن تخرج من الغرفة مغمغمة: " قمة الظلم والله.. السكر ضار لحلا بينما له مفيد "
ما إن أغلقت الباب من خلفها حتى عبس عاصم وهو يتمتم: " هل تعجبكِ قلة حياء ابنتكِ هذه؟ "
استدارت حفصة تطالعه بهدوء وتجيب ببراءة: " لا تحملني الذنب فهي ليست ابنتي وحدي على ما يبدو "
رفع حاجبا بشقاوة وهو يقول: " هل تشيرين إلى أنها اكتسبت قلة الحياء هذه مني أنا؟ "
هزت رأسها وهي تبتسم بخجل قائلة: " بالطبع لا ليس هذا ما قصدته... "
قاطعها ضاحكا وهو يقول: " لكنها الحقيقة يا أميرتي.. ألم تسمعي من قبل المثل الشهير الذي يقول 'هذا الشبل من ذاك الأسد' "
قطع صوت حلا من الخارج ضحكات أمها وهي تصيح: " باقي من الزمن دقيقة واحدة يا سيد أسد وبعدها سأخبر ابن عمك بأنك لست متفرغا لرؤيته لأنك منشغل بأكل السكر "
غمغم عاصم يسبها بغل فانفجرت حفصة في الضحك وهي تقول: " ليست ابنتي أنا بريئة منها "
فجز عاصم على أسنانه وهو يخطو ناحية الحمام بغيظ متمتما: " وأنا سأنتهي من ابن عمكِ البغيض زيد ثم آخذ ابنتكِ إلى الصحراء واتركها للوحوش الضارية هناك عساها تأكلها فارتاح من لسانها الطويل "


انتهى الفصل..
قراءة ممتعة🌸..

Hend fayed 19-11-19 05:51 PM

..
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أم همس (المشاركة 14601284)
روعة شكرا على مجهودك الرائع وفى انتظار اكتمالها

حضورك هو الأروع عزيزتي😍


الساعة الآن 01:54 PM

Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.