آخر 10 مشاركات
ملك يمينــــــك.. روايتي الأولى * متميزه & مكتمله * (الكاتـب : Iraqia - )           »          307 – الحب والخوف - آن هامبسون -روايات أحلامي (الكاتـب : Just Faith - )           »          319 - زواج غير تقليدي - راشيل ليندساى - احلامي (اعادة تنزيل ) (الكاتـب : Just Faith - )           »          ومازلنا عالقون *مكتملة* (الكاتـب : ررمد - )           »          306 ~ على حافة الربيع ~ هيلين بيانشين ~ روايات أحلامي ،، (الكاتـب : Sarah*Swan - )           »          305 - المحب العدواني - فيوليت وينسبير - روايات احلامي (الكاتـب : الأسيرة بأفكارها - )           »          جدران دافئة (2) .. سلسلة مشاعر صادقة (الكاتـب : كلبهار - )           »          طريقة سهلة لعمل صينية أرز معمر مصري بخطوات سهلة (الكاتـب : الماخيكو 123 - )           »          من عقب يُتمها صرت أبوها،للكاتبة/ حروف خرساء "سعودية" (مكتملة) (الكاتـب : فيتامين سي - )           »          [تحميل] شيءٌ من الأحزان ... ! لـلكاتبة / ضجة صمت (جميع الصيغ) (الكاتـب : فيتامين سي - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > ارشيف الروايات الطويلة المغلقة غير المكتملة

موضوع مغلق
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 06-04-20, 01:40 PM   #31

روح الوسن ..

? العضوٌ??? » 455523
?  التسِجيلٌ » Oct 2019
? مشَارَ?اتْي » 91
?  نُقآطِيْ » روح الوسن .. is on a distinguished road
افتراضي



.. الفصل الثالث والعشرون ..
.
.

[ ما بينَ نجمٍ وقمر ]
.
.

تحت سماء الإمبراطورية الخضراء والتي انتثرت حبات اللؤلؤ في سمائها تضيء العالم بأكمله رغم صغر حجمها تساند القمر جنبا لجنب لتسطع في الليالي الحالكة ، نرسم أحلامنا ما بين نجم وقمر، في تلك المساحة الواسعة التي تسع كل ما قد نريده ونرغب به ، رفع رأسه يتأمل الجمال الكوني فوقه والكفيل بسحر أعين الجميع حينها برقت عيناه ببريق خفيف جعلت من تلك المقلتين العسليتين وكأنها تضيء كما النجوم في السماء لا يعلم كم مر من الوقت عليه يستمتع بالهدوء والسكينة وهو جالس في مكانه حيث يحب أن يجلس بجانب الحفرة الكبيرة والواسعة التي تحوطها الصخور بأحجامها المختلفة فتحاصر المياه بداخلها لتصنع سداً منيعاً يحتجز ما ينحدر نحوها من سيول الأمطار وقد عرفت باسم (بركة الحكمة) والتي لم تجف يوما تتجدد المياه بداخلها كل شهر مع نزول الأمطار الغزيرة ، تعكس مياهها ضوء القمر فيها لتتكون أجمل صورة قد تراها عينيك ، تحوط البركة من جميع الجهات مساحات شاسعة مغطاة بالعشب الأخضر حيث امتدت على أطرافها من جميع الجهات الأشجار العالية والكبيرة لتعزل ذلك المكان عن أنظار الناس ، بركة الحكمة كما يطلق عليها سر من أسرار الإمبراطورية الخضراء والتي يجهلها الكثير ويعلمها القلة فقط منهم ، رجع للخلف يستند بظهره على الشجرة الكبيرة تلعب نسمات الليل العليلة بخصلات شعره البني وياقة معطفه الكبيرة ، ابتسم بخفوت عندما صهل حصانه (برق) المنتصب واقفا بجانبه وكأنه ظله وحارسه الشخصي ، جلده الناعم ذو اللون البني المحروق والذي يكاد يقارب السواد بشعره الأسود الناعم تتمايل خصلاته الطويلة مع ميلانه لرأسه يحركه في الهواء بخفة يمد عنقه المتسق مع جسده يمينا وشمالا بكبرياء شامخ ، أذناه طويلتان حساستان لجميع الأصوات منتصبتان لا تدلان إلا على أنه لا يزال يحتفظ بكامل عنفوانه وقوته ونشاطه في حين قوائمه الأمامية ذات عضلات قوية يتصل بها كتفان مائلان إلى الأمام قليلا يتصل بهما العضد الطويل شديد العضلات الذي يعطيه دفعة من السرعة ، حصان يشبهه في كثير من الصفات وأكثر من يفهمه ويشعر به هادئ وقوي مثله ، نهض من جلوسه وأخذت أنامله الطويلة تمسح على وجه برق تارة وتارة تلعب تلك الأنامل بخصلات الشعر الحريرية وبرق خاضع له بالكامل وكم يعشق هذه اللحظات التي يبقاها بجوار فارسه ، دائما يتركه وسام هنا يأكل من الأعشاب ويشرب من مياه البركة وإذا هم بالعودة لمنزله امتطاه وعادا معا وفي الصباح يمتطيه ويتركه هنا ويكمل سيرا على الأقدام إلى المعسكر ، ضربه بخفة بيده قبل أن يقفز على ظهره بحركة واحدة سريعة ليستقر على ظهر برق فهمس في أذنه بنبرته الموسيقية الهادئة :
- لننطلق يا برق ..
وما هي إلا لحظات وأصبحا يسابقان الريح مجتازان وسط المدينة تتطاير خصلات شعورهم بسبب سرعة برق والتي تكاد تصل لسرعه البرق ، بعد مسافة لا بأس بها سحب وسام لجام برق للخلف ليخفف برق من سرعته والذي استجاب له سريعا ، ثبت نظره حيث البعيد مركزا في مكان معين وسرعان ما ضرب برق برجله بخفه ليتحرك نحو الأمام فشد لجامه يمينا ليغير من وجهتهم نظراته لا زالت مثبته فهمس قائلا بنبرة شابها القلق :
- العيادة ..!!
واتبعها بصرخته قائلا :
- نحو العيادة يا برق بسرعة ..
فانطلق برق قاطعا الطريق المعبد الهادئ إذ أن اغلب ساكني الإمبراطورية يغطون في نوم عميق ، بعد دقائق وقف أمام العيادة والتي استغرب ضوء الشموع التي لا زالت تضيء بالداخل لينعكس نورها خارج النافذة إذ لا بد من وجود شخصا بداخلها وغالبا ما تغلق العيادة أبوابها قبل منتصف الليل لذلك لا بد من وجود خطب ما والوقت الآن تجاوز ما بعد منتصف الليل ، قفز من على ظهر برق وتقدم نحو الباب دفعه بيده فوجده مغلقا غضن جبينه مستغربا فدار حول العيادة إلى أن وقف أمام النافذة والتي ينبعث منها ضوء الشموع مد يده نحوها وسحبها برفق يسارا ليجدها مفتوحة وبقفزة واحدة مدروسة كان داخل العيادة تنقلت نظراته في أرجاء الغرفة الواسعة لتستقر عيناه على التي تضم ركبتيها لصدرها تسند رأسها جانبا على ذراع الأريكة ويبدو أن النوم غلبها ، تقدم نحوها ببطء ولا يعلم لماذا هي لا تزال في العيادة حتى هذا الوقت المتأخر ولم تعد إلى منزلها ، وقف أمامها ومد أنامله نحوها ليرفع خصلات شعرها الأشقر عن وجهها والتي تغطي اغلب ملامحها ليتأكد إن كانت نائمة أو متعبة أو شيء آخر قد حل بها ففتحت عيناها الزرقاء الواسعة تنظر إليه فانتفضت برعب وسرعان ما عادت تغمضها بقوة بعد أن شهقت برعب كادت روحها أن تخرج مع شهقتها المذعورة أبعد وسام يده سريعا وأعادها إلى جيب معطفه وقال بهدوء وكأنه لا يلحظ رعبها الشديد وانتفاضة أطرافها :
- مايا لماذا لا تزالين في العيادة .. ؟!!
فتحت عيناها عندما سمعت اسمها فهي من خوفها لم تنتبه حتى لهويته كل ما جال بخاطرها بأن أحد دخل العيادة وسيؤذيها ، رمشت عدة مرات والرعب يتملك كل خلية في جسمها وانفلتت أنفاسها المضطربة عن السيطرة فكانت كالغريق الذي أخرجوه من مياه البحر ، تنهدت والخوف لا زال مسيطرا عليها وهي ترفع يدها لصدرها تحس بأن قلبها سيخرج من مكانه لا محالة ، تنظر لتلك العينين العسليتين الهادئتين يقف أمامها بهدوء وكأن شيئا لم يحدث محتفظا بهدوئه واتزانه ، فقالت بصعوبة من بين أنفاسها المتلاحقة :
- وسام هذا أنت لقد أخفتني ، أخفتني حقا يا وسام ..
بقي على صمته وكأنه ينتظر أن تتجاوز خوفها لوحدها ينظر إلى ارتجاف أناملها وهي تمتد لتمررها خلال خصلات شعرها الأشقر والذي تناثر بعشوائية بسبب نومها الذي لا تعلم كيف نامت على تلك الطريقة ، شتت نظرها عندما وقعت عيناها على عيني وسام الذي كان بدوره ينظر لها منتظرا جوابها وقالت بارتباك :
- كم الساعة الآن .. ؟!!
تجاهل سؤالها وأعاد قائلا بهدوء بنبرة متزنة :
- لماذا لا تزالين هنا يا مايا .. ؟!!
نظرت إليه وقالت بقليل من التردد :
- اااه .. ا..أبي قال لي أن .. أن انتظره لنعود معا إلى المنزل ..
رفع نظراته ببطء لتعانق الفراغ يسترجع أمرا ما نعم فالضابط جميل منذ الظهيرة وهو متغيب عن المعسكر وأيضا ... تذكر شيئا للتو فقال بقليل من الغيض :
- وحسام ..؟!!
قالت مغضنه جبينها بتفكير عابس :
- لا أعلم أين هو كل ما قاله لي أنه سيتغيب فترة الصباح ثم يأتي لكن لا أثر له حتى الآن ..
هز رأسه بتفهم إذ أنه لا بد من وجود خطب ما في الأمر وبالتأكيد يتعلق الأمر بشيء في أمن الإمبراطورية وإلا ما كان سيتغيب الضابط جميل ولا يختفي حسام فجأة وهو والعيادة كالجسد والروح لا ينفصلان عن بعضهما أبدا إلا عند الموت ، قال بنبرته الموسيقية الباردة وهو يتوجه نحو الباب :
- سأوصلك بنفسي إلى منزلك لن تبقي هنا أكثر ..
أرادت أن تعترض وترفض أرادت أن تقول أي شيء لكن وسام ونظراته شديدة البرودة هذه وتلك الهالة المخيفة حوله تمنعها من الاعتراض وتجبرها على الانصياع إذا لماذا هي خائفة منه كل هذا الخوف فوسام تعرفه منذ زمن طويل ويعرف والدها ووالدتها أيضا إذا لا خوف معه لكن قلبها لم يطمئن لذلك أبدا فهو ليس على ما يرام اليوم كما يبدو ، نهضت مستسلمة للأمر الواقع تتبع الذي خرج قبلها بهدوء إلى أن خرجت من العيادة فقال وهو يمسح بيده على عنق برق :
- أغلقي العيادة جيدا ..
التفتت بسرعة إذ أنها كانت ستنسى الباب مفتوح من شدة ارتباكها ، أحكمت إغلاقه وبقيت واقفة لا تعلم ما الذي تقوله فأرادت أن تشكره وأن تعتذر منه في نفس الوقت فقالت :
- أنا حقا أشكرك يا وسام لكن لا داعي بأن تتعب نف...
رمقها ببرود وقال متجاهلا كلامها :
- هيا اصعدي على ظهر برق ..
بلعت ريقها من الخوف الذي أصاب قلبها فوسام يبدو لها شاحبا جدا ونبرته تكاد تتحول لثلج من شدة برودتها إذ أنها لأول مرة تسمعه يلقي عليها الأوامر المتتابعة ، اقتربت من برق تفرك يديها بارتباك واضح في حين نظر إليها برق بنظرة أرعبتها وهو يزفر الهواء بقوة ولم تستطع كتم الشهقة الصغيرة التي خرجت منها فنظر إليها وسام الذي ابتعد قليلا ليعطيها حريتها في ركوبه والتي فسر تلك الشهقة التي صدرت منها على أنها لا تعرف كيف تمتطي برق إذ أنها يبدو بأنها لم تركب حصانا من قبل وقد صدق ظنه بعدم معرفتها بكيفية امتطائه فهي معتادة على ركوب العربات فقط كونها ابنه الضابط جميل الذي لديه ما يقارب الثلاث عربات الخاصة بهم مجهزة بأحصنة وسائقين ، اقترب منها بخطواته الخافتة التي لا يسمع لها صوت وقال بنبرة شابها الخجل والتردد رغم لا مبالاته وبروده ونظراته الهادئة لم تفارق برق :
- يمكنني مساعدتك على ركوبه ..
فعضت حينها مايا شفتيها بقوة بقليل من الندم على موافقتها لمرافقته وعدم اعتراضها وكثير من الخجل والحياء منه فماذا سيظنها الآن معتوهة أم غبية أم مدللة حد أنها لا تعتمد على نفسها في شيء ودائما ما تحتاج المساعدة من الغير كما كانت صغيرة ، فقالت منقذة نفسها من الحرج وهي تقترب منهما إلى أن وصلت بالقرب من برق ووسام يبعد عنها مسافة خطوتين فقط فقالت وهي تشتت نظراتها كي لا يقرأ فيهما مدى ارتباكها وخوفها والأهم كذبها :
- لا بالطبع فأنا يمكنني أن ....
وبترت جملتها بصرخة دهشة وصدمة لم تعرف كيف خرجت منها وهي تحدق بدهشة وخدان متوردان من شدة الخجل الذي تشعر به عندما امسك وسام بخصرها ورفعها بكل خفة لتستقر أخيرا على ظهر برق بحركة واحدة سريعة ومدروسة ولا تعلم كيف تقلصت المسافة بينهما بسرعة لم تلحظها وكما عهدت وسام ينفذ كل ما يقول دون اعتراض ، لم يحتاج الأمر لأن يمسك وسام بلجام برق لكي يسير خلفه بل رفعه إليها لتمسكه بيديها المرتعشة لكي لا تفقد توازنها وتقع فهي كانت جالسة على ظهره كما جلوسها على الكرسي ، تقدم وسام بعد أن رمقها سريعا قبل أن يعود بنظره إلى الطريق وقال بهدوء :
- مستعدة ..؟!!
حركت رأسها إيجابا بقوة كأنه يراها في حين تيبست الحروف والكلمات في حنجرتها فسار وسام وتبعه برق يسيران في تناغم تام في صمت مطبق سيطر عليهم طيلة رحلتهم لا يُسمع إلا أصوات الليل التي أثارت الرعب في قلب مايا وظهر ذلك جليا في أنفاسها المضطربة وبعثت الأمان والسكينة في قلب وسام وزاد ذلك الهدوء في نفسه صوت مداعبة الريح لأوراق الشجر حولهم.

*****

يجلس على صخرة كبيرة مرتفعة عن مستوى سطح الأرض يسند مرفقيه على ركبتيه ينظر للأسفل حيث كومة الحطب وأعواد الأخشاب المشتعلة تضيء ما حولها في بقعة مشعه وسط تلك الظلمة الحالكة شديدة السواد ، خصلات شعره الأسود تتراقص مع نسمات الهواء بسبب انحناءته تلك وجلسته بتلك الطريقة وليس لقوة تلك النسمات الليلية الهادئة ، ينعكس في عينيه السوداء الباهتة حمرة اللهب المتراقصة مع نسمات الهواء لا يُسمع إلا صوت طقطقة النار واضطراب أنفاسه التي أبت والرضوخ له تعلن للجميع عن مدى الكره والحقد الدفين في قلبه ، تنهد بعمق عندما نظر للسكين الصغيرة التي تلعب بها أنامله منذ مدة دون توقف تتنقل بينها بخفة وسرعة وفي حركة أصبحت كعادة له ولا يشعر بنفسه عندما يفعلها ، حركة كان وسام من علمها له أو بالأحرى سرقها منه وهو يتأمله ويراقبه خلسة ، دائما ما يفعلها وسام إذا ما كانت يديه سجينه جيبيه فتعلمها منه بمجرد النظر له ولا ينكر بأنه كان يحاول دائما عندما ينفرد بنفسه لكي يفعلها بكل تلك الخفة والمهارة كوسام وكم جرح أصابعه يومها مما جعل وسام يدرك ما الذي كان يحاول فعله واكتشف سره الذي كان الشيء الوحيد الذي لم يخبر وسام وفارس به فأخبره حينها وسام بسره الصغير لفعل تلك الحركة وكيف يمررها بين أنامله بإتقان كما يفعلها هو فأصبحت حركة لا تفارقه أبدا التصقت به كما أشياء كثيرة وطباع تعلمها منه وكم كرهها هي ونفسه الآن لأنه لم يتخلص منها بعد ، هز رأسه بقوة طاردا تلك الذكرى يريد نسيانها مهما كلفه الأمر فوسام مات .. مات كما فارس ولكن موتته كانت أقسى عليه من موتت فارس ففارس كان مخلصا لهم إلى آخر يوم في حياته أما وسام فماتت مشاعره ولم يتبقى سوا صورته التي لا تزال متجسدة في هيئة أشبه بكونها بشري ، صر على أسنانه بقوة يكتم غيضه ورفع يده اليسرى التي تمسك بالسكين رافعا ذراعه للأعلى ليرمي بالسكين بعيدا ، يجب عليه فعلها عل ذكرى وسام الرائعة التي في ذهنه تنقشع وتذوب في هذه الظلمة وتموت كما مات هو ، دفع يده بقوة للأمام ولكنها توقفت فجأة ممدودة ومتصلبة في الهواء أمامه فشحب وجهه عندما لم يسمع صوت ارتطام السكين بالأحجار تحته فأغمض عينيه بقوة ثم فتحها بصدمة عندما فتح يده أمام وجهه وعلم أن السكين الصغيرة لا تزال فيها وهذا يعني شيئا واحدا أنه لم يستطع حتى رميها وكم كان هذا قاسيا على قلبه ، حاول رميها والتخلص منها ثانيتا ولم تجدي نفعا اتبعها بالثالثة لكن يده تتصلب فجأة وأنامله تزداد شدا على السكين وكأنها ترفض الانصياع لأوامره فعلم أنه لن يستطيع مهما حاول ، رفع كفيه بعد أن وضع السكين بالرفق على الأرض جانبه فاستجابت حينها تلك الأنامل وأخفى بها وجهه وبكى .. بكى لأنه لم يستطع حتى التخلص من قطعة المعدن البالية والتي كانت تخص وسام فكيف بالماضي المرير الذي شكل أجمل لحظات حياته لا يستطيع مهما حاول لقد تعلق في السكين التي كان ينوي رميها قبل قليل لأنها كانت لوسام لقد أعطاه إياها وشعر حينها بأنه ملك الأرض وما عليها من سعادته لم يستطع رمي سكين وسام فماذا عليه أن يفعل الآن وهو من عاهد نفسه على قتل وسام وتدرب ليل نهار لأجل ذلك الحلم الذي كرس حياته على تحقيقه وهو يقترب من ذلك الحلم رويدا رويدا ، ابعد يديه ومسح دموعه التي غلبته وصرخ بأعلى صوته :
- سحقا لك يا وساااااام ، سأقتلك سأقتلك بيداي علّي أتخلص منك ومن ذكراك أيها الخائن ..
التفت سريعا عندما سمع تلك الخطوات الهزيلة والكسولة من خلفه ليجد أنه لم يكن إلا بهاء صديقه الوحيد بعدما اعتزل الكل وتجنبهم ، من تعرف عليه وأصبحا صديقين مقربين من بعضهما بعدما هجره وسام وغادر إمبراطورية البراكين ، الشاب النزق اللعوب غريب الأطوار بخصلات شعره السوداء الطويلة التي تكاد تصل إلى مرفقيه يربط جزئه الأمامي برباط رافعا إياه عن مرمى نظره ، وقف بجانب سيف وأخذ يمد ذراعيه يتمايل بجسده طاردا للكسل وعلى شفتيه ترتسم ابتسامته الكسولة ، قال وهو يحرك يديه في الهواء حوله :
- ما الذي جرى لك يا سيفي ، أحوالك لا تعجبني ..
قال سيف بهدوء يتأمل النار أمامه وتمايل ألسنتها مع نسمات الهواء :
- اقترب الوقت يا بهاء ، اقتربت مواجهتي ..
ابتسم بكسل وجلس بجانبه وقال بنزق :
- إذا يجب أن تكون سعيدا بهذا ..
التفت سيف بوجهه ناحيته وقال ينظر إلى عينيه :
- الإمبراطورية الخضراء ما الذي تعنيه لك يا بهاء ..؟!!
غضن جبينه وكأنه يفكر مبتسما ولا تبدو عليه علامات الجد في كلامه أبدا وقال بعد تفكير قصير :
- اممم لا شيء ..
ابتسم سيف ولمعت عيناه بحقد وقال بكره :
- أتعلم إنها تعني لي الموت البطيء اكرهها واكره كل من فيها ..
رفع بهاء كتفيه بلا مبالاة وكأن الأمر لا يعنيه فقال سيف بعد صمت :
- ما الذي تريد فعله إن انتقلنا هناك .. ؟!!
ابتسم ساخرا وقال وهو يدور بعينيه مفكرا :
- أريد أن أتسلى ، فقط للتسلية والمرح لا شيء مهم بجانب المهام طبعا ..
عاد بنظره نحو النار مبتسما بشرود وقال بخفوت :
- كيف سندخل الإمبراطورية الخضراء ، ما هي الخطة ..؟!!
اخرج بهاء حينها غليونان فضيان من جيبه وقال وهو يمد احدهما لسيف والذي التقطه بسرعة :
- سندخل مع الضابط مهند إلى معسكر البلدة كفريق واحد نقوم ببعض المهام لديهم وفقط هكذا ..
هز رأسه بتفهم يعلم عن شروط معسكرهم السخيف ذاك وهو أن يكون ضابط واحد يشرف على جنديين فقط من حيث تدريباتهم إلى المهام الموكلة لهم ، شفط شفطة قوية من ذلك الغليون الذي جهزه له بهاء مسبقا وقال بسخرية ونظره على النار ينفث الدخان من فمه دفعة واحدة يخرج كل ما في صدره من كره مع خروج الدخان من فمه :
- انتظرني إذا يا وسام ، فقط انتظرني ..
مد حينها بهاء ذراعه اليمنى محوطا بها كتفي سيف الذي رمقه مبتسما وقال بخبث كسول لا يتقنه أحد سواه وهو يحرك رأسه بلا مبالاة لتتطاير تلك الخصلات السوداء حوله :
- ما هذا يا سيف !! لقد شوقتني لرؤية وسامك هذا ..
حرك الغليون في يده وقال بمرارة ونظره على ما يفعل :
- لا يغرك فيه شيء فهو مخادع وكاذب وخائن ..
في حين همس بهاء مبتسما بمكر نزق تلمع عيناه بالخبث في أذن سيف بعد إن قرب وجهه منه :
- لا تنسى بأننا مخادعين وكاذبين وماكرين أكثر منه ..
لحظة صمت قصيرة بعدها هز سيف رأسه بخفة نافيا وقال بهدوء حزين :
- لا .. لسنا مثله ، لسنا مثله أبدا ..
تنهد الآخر بقلة حيلة إذ أن سيف لا يزال كما يبدو عالق في ماضيه يهذي دائما بذاك الوسام وبكرهه الشديد له وأنه سينتقم منه وكرس حياته كلها لأجل ذلك السبب الذي يظن بأنه ليس بالأمر المهم بل سخيف إلى حد ما فالمهم هو أن يعبث ويستمتع ويتسكع في الأرجاء يسعى لأجل إرضاء نفسه وإشباع غروره الذكوري العابث ليس للانتقام من الآخرين وهذا كان سبب انضمامه للإمبراطور جاسم فهو ضمن ذلك له هو ينفذ المهام في مقابل المتعة التي يقدمها له على طبق من ذهب ، حرك جزئه العلوي بحركة ساخرة متململا في جلسته وقال بنصف ابتسامه بنبرته الخبيثة التي لا تدل إلا على انحطاط أخلاقه :
- لا تنسى فنحن نريد أن نستمتع فلقد سمعت بأن الإمبراطورية الخضراء مثيرة جدا وبكل المقاييس ..
رمقه سيف بابتسامة صغيرة إذ أنه لا يفكر بالاستمتاع والعبث حاليا كما يفكر الآخر فهدفه واحد وهو الانتقام من وسام فقط ، فقال وهو يرمق الذي اسند رأسه على كتفه يشفط من السم الذي بيده باستمتاع :
- أريد الانتقام أولا يا بهاء ..
ابتسم بخفة ورفع نظراته إلى وجه سيف القريب منه وقال دون اكتراث بعد أن أماء برأسه إيجابا مازال يستند برأسه على كتف سيف :
- انتقم منه كما شئت يا عزيزي ..








نهاية الفصل , قراءة ممتعة لكم أحبتي ..
بقلم محبتكم : روح الوسن ..





روح الوسن .. غير متواجد حالياً  
قديم 06-04-20, 01:43 PM   #32

روح الوسن ..

? العضوٌ??? » 455523
?  التسِجيلٌ » Oct 2019
? مشَارَ?اتْي » 91
?  نُقآطِيْ » روح الوسن .. is on a distinguished road
افتراضي

.. الفصل الرابع والعشرون ..
.
.

[ أزمة مؤقتة ]
.
.

تنهد باستسلام وهو ينظر إلى شتى أنواع الأطعمة أمامه بمختلف الأشكال والألوان كما الأحجام ، منها الفاكهة الطازجة للسلطات الخضراء والملونة بجانب اللحوم وأطباق الأرز والمعكرونة والكثير الكثير غيرها والتي أصرت عليه السيدة هند بأن ينتظر ويتناول الطعام معهم هذا غير الحفاوة والترحيب وحسن الاستقبال الذي تلقاه منها وهي تغدقه بحبها وحنانها وعبارات الترحيب والشوق والحب الذي لم يفهمها كلها ولم يتوقف لسانها عن نطقها وفمها عن التفوه بها وكأنه ابنها الوحيد عاد من السفر للتو أو أنه نجا من موت محدق في حرب ساحقة ، فاكتفى بابتسامة صغيرة أهداها إياها لتزيده وسامة على وسامته مع كلمات شكر بسيطة نطقتها شفتيه التي تفضل الصمت دائما ، قالت السيدة هند تنظر إليه بحب بمقلتيها الزرقاء :
- ما هذا المساء الرائع وأنا أراك يا بني لماذا لا تزورنا كما في السابق ..؟!!
نظر إليها ببرود ولم يعرف حقيقة بماذا يرد عليها فقالت تنظر إليه بتوجس :
- هل زوجي جميل يزعجكم ويتعبكم بتدريباته في المعسكر .. ؟!!
إماءه بسيطة منه تدل على عدم صحة كلامها اتبعتها تنهيدتها المستاءة وقالت :
- جميل لا يتغير يعشق التدريبات بجنون حتى أنه كاد يجبرني عليها بحجة أنني قد احتاجها ..
ضحكت ضحكة صغيرة ترفع أناملها تغطي بها شفتيها ثم أكملت قائلة ترمي خصلات شعرها الأشقر خلف ظهرها :
- يا ويلي تخيل ذلك يا بني وأنا امسك بالسيف وأقاتل أقسم أنها لا تليق بي ..
ابتسم حينها وسام ابتسامة صغيرة لهذه السيدة العظيمة فهي والضابط جميل و مايا كان يعرفهم وهو لا يزال في إمبراطورية البراكين ومع الضابط طلال ضمن جماعة قراصنة الموت والتي يقودهم فارس ، الذكرى القديمة والوحيدة التي انتقلت معه من ماضيه المؤلم إلى حاضره الغريب .. والأغرب من ذلك بأنهم انتقلوا معه مباشرة بعد أن وطئت قدماه أرض الإمبراطورية الخضراء هربا وكم استغرب ذلك وشك في كونه أمرا مدبر لكن الضابط جميل أكد له أنها مجرد مصادفة بحته وأنه تم استدعاءه من قبل القائد رائد بطلب منه بأن يكون أحد الضباط الذين يدربون الجنود في معسكر البلدة والذي فتحه الإمبراطور عامر حديثا وأصر على أن يأخذه معه لذلك المعسكر ومن يومها وهو جندي مخلص له إذ أنه سانده في أشد لحظات عمره قسوة عليه ولم يتركه وحيدا ، أما عائلة رامي بأكملها كانوا أول عائلة ترحب به بينهم بعد انتقاله للإمبراطورية الخضراء وبعد تلك الحادثة المنكوبة التي حلت به ورغم تحفظه الشديد في عدم الاختلاط بهم إلا أنه وجد رامي ابنهم الأوسط شريكا له في معسكر البلدة ليتشاركا التدريبات والمهام معا بقيادة الضابط جميل ..
نهضت حينها السيدة هند بعد أن اعتذرت من وسام بأدب شديد وأنها قليلا وتعود فتمتمت بغيض وهي تتوجه لإحدى الغرف في ذلك القصر الضخم والفخم بجميع المقاييس :
- يا الهي ما الذي تفعله مايا !! أكل هذا الوقت استحمام وتبديل ثياب فقط ..
توجهت نحو الباب الذي قصدته على نظرات وسام التي تبعتها بهدوء وصمت وطرقت الباب طرقتين قبل أن تدخل وتغلقه خلفها جالت بنظراتها بسرعة في تلك الغرفة الواسعة والتي دمجت اللونين الوردي الفاتح مع الذهبي في جميع أثاثها وجدرانها التي زينتها أوراق الحائط والشمعدانات الذهبية تحمل شموعا مضيئة عليها والكثير من اللوح الفنية غالية الثمن لتستقر نظراتها على السرير الواسع بملاءته الوردية والمنقوش بالزخارف الذهبية تتوسطه تلك الشقراء الفاتنة والتي غطت خصلات شعرها كتفيها تضم ركبتيها إلى صدرها بفستانها الحريري بلون عيناها الزرقاء والذي انساب على جسدها بكل عنفوان ، توجهت السيدة هند نحوها وقالت بقلق وتوجس :
- مايا حبيبتي نحن ننتظرك على طاولة الطعام وأنتِ جالسة هنا ماذا بك هل تشكين ألما .. ؟!!
هزت رأسها بخفه وقالت تتجنب النظر لها :
- أمي لماذا تصرين على أن أكون معكم !! تناولوا الطعام بدوني ..
شهقت الأخرى بصدمة لم تخفيها وجلست على طرف السرير ترمقها بقلق لم تستطع السيطرة على ظهوره في ملامحها الجميلة رغم كبر سنها وقالت وهي تمد يدها لتلامس خد مايا تنظر إلى عيناها الزرقاء الواسعة :
- لماذا يا عزيزتي ما الذي جرى لك هل أنتِ متعبة .. ؟!!
هزت مايا رأسها نفيا ولم تتحدث فقالت السيدة هند بعتاب :
- إذا ما الذي يجري؟! ما بك لا تقلقيني عليك يا ابنتي ..
تمتمت ببرود :
- لا شيء أمي ..
نظرت إليها بشك وقالت وهي تقف مستعدة للانصراف :
- إذا لا تجعلي وسام ينتظر أكثر فهو ضيف عندنا ومن واجبنا إكرام الضيف ..
غادرت وتركتها تتخبط بين مشاعرها المتضاربة ما بين شد ورد تخرج أم لا .. تواجه أو لا ، لا تريد مقابلة وسام بعد المواقف المحرجة معه وكلها كانت ستتناساها فهي قطعا لا تستطيع نسيانها لكن أخر موقف لها معه وعند وصولهم لمنزلها لا حتى مجرد التفكير فيه يشعرها بكمية كبيرة من الغباء والخجل سحقا لها ما كان عليها أن تتهور وتدعي معرفتها بكيفية النزول من على ظهر الحصان فلقد انتهى بها المطاف بين ذراعي وسام تتكئ على صدره بيديها لأنها تعثرت في نزولها ولا تعلم كيف إذ أن قدمها يبدو بأنها علقت في فستانها ، هزت رأسها بخفة تطرد كل تلك الذكرى التي لم يتعدى حدوثها بضع ساعات ونهضت للتوجه للمرآة الكبيرة المعلقة على خزانة الثياب والمزينة بنقوش ذهبية بارزة ، نظرت لنفسها فيها رتبت فستانها ومسحت على شعرها ترتب خُصَلة الطويلة وأخيرا ضربت خداها بخفة فهي لازالت تشعر بالخجل يقفز على خداها ليصبغهما بلون وردي ، أخذت نفسا عميقا وبعد بضع خطوات متتابعة كانت تقف أمامهم في غرفة الطعام تضم يديها قبل أن ترتفع أناملها لتدس خصلات شعرها خلف أذنها حين قالت بهمس :
- اعتذر على تأخري ..
رفعت رأسها لهم وعادت خطوة صغيرة للخلف عندما علمت بأن الأربع عيون تنظر إليها عينا والدتها المحبة وعينا وسام ترمقها بهدوء عجيب ، أخفضت نظرها سريعا وتوجهت نحو أقرب كرسي خشبي بقرب والدتها سحبته وجلست ليبدأ الكل بتناول الأطباق المتنوعة من الطعام .

*****

انقلبت على الجهة اليسرى ثم عادت وانقلبت على الجهة اليمنى وسرعان ما اخفت وجهها بين طيات وسائدها البيضاء والمحشوة بالقطن الطبيعي والريش تخفي دموعها الصامتة فيها ، تتقلب في فراشها الناعم ولم يزرها النوم منذ ساعات وهي تتقلب تطارده كما تطارد السراب ولا تجده وكيف تنام وعائلتها كل فرد فيها لا يعلم عن الآخر شيئا !! كيف وكل واحد منهم غاضب من الآخر والأسباب مجهولة !! ماذا بهم تشتتوا هكذا وبسرعة !! من يريد أن يسرق فرحة قلبها الصغير بعائلتها الصغيرة التي تعني لها كل شيء جميل في هذه الحياة !! ، أبعدت اللحاف عنها بقوة وجلست ترتب شعرها الذهبي لا تستطيع أن ترتاح وتنام قبل أن تتأكد من أن الأمور تسير على ما يرام ، نهضت بخطوات خافته تعلم بأنها بفعلها هذا تخالف أوامر والدتها لكنها لا تستطيع فقلبها لم يرضخ لها ، فتحت باب غرفتها ببطء وأخرجت رأسها من خلاله تراقب الرواق الطويل والمظلم نسبيا إلا من ضوء بعض الشموع المعلقة في جدرانه ، فتحت الباب أكثر وخرجت راكضة كي لا يوقفها أحد ما ولم تتوقف عن الركض إلا عندما وقفت أمام أحد الأبواب الكبيرة والذي غطاه الطلاء الذهبي والنقوش البارزة ، دفعت الباب بخفة مصدرا صريرا خافتا ليلتفت لها فورا من كان يحبس نفسه هناك منذ ساعات يقف أمام رفوف خشبية امتلأت بالكتب يمسك بين يديه كتاب أسود كبير يرتدي بدله بيضاء لا تناسب سواه عدا المعطف الذي وضعه على طرف الكرسي والذي يبدو بأنه كان يجلس عليه ، امتلأت عيناها الواسعة بالدموع لرؤيتها للشخص الذي لم تكن تريد إلا أن تراه هو فقط خصوصا هذا الوقت وفي هذه الظروف الصعبة وتحت التقلبات التي حلت بهم فهو الذي ستجد كل الإجابات عنده ومتأكدة بأنه لن يخفي عنها أي شيء بينما كان الأخر يرمقها بقليل من الاستغراب إذ أن الوقت متأخر ما الذي يجعلها مستيقظة إلى الآن ؟! ولماذا هي هنا ؟! انقبض قلبه بضيق عندما انتقلت نظراته من ملامحها إلى ارتعاشه أطرافها وجسدها وعلم تماما بأنها كانت في سريرها من فستان النوم الأبيض الحريري الذي وصل إلى نصف ساقها بأكمامه الطويلة فلا تظهر إلا تلك الأنامل البيضاء من تحته ، عاد بنظره إلى عيناها الغارقة في بحر الدموع فابتسم لها ابتسامة دافئة محبه لا يهديها لأحد سواها ، هذه الطفلة لن تكبر أبدا ومهما مرت بهم السنين ، فمد يده نحوها أن اقبلي وتعالي فما كان منها إلا أن تلبي النداء في عجل فركضت نحوه لترتمي في حضنه تبكي بحرقة ، ضمها بقوة يمسح بيده على شعرها الحريري بعد أن رمى الكتاب على الطاولة الخشبية الكبيرة التي كانت تتوسط المكتبة الخاصة به مكانه المفضل والذي دائما ما يجد نفسه بين جدرانها ورفوفها المصفوفة والممتلئة بالكتب ، قبّل رأسها وقال بنبرته العميقة ذات النبرة المخملية :
- ما يبكي شقيقتي الغالية يا ترى .. ؟!!
حركت رأسها نفيا وهي لازالت تخفي وجهها ودموعها في صدره فلم يعد للكلمات أي معنى قد يفيد ويصف ما تشعر به وهي متشبثة بأحد مصادر أمانها وسعادتها فهذا ما كانت تريده وتريده فقط إلى آخر يوم في حياتها ، تركها تبكي طويلا حيث اختارت أن تفرغ كل ما تكبته في نفسها يمسح على شعرها بخفة إلى أن خف بكائها سوى من شهقات صغيرة متتابعة فأبعدها عنه بخفة ماسحا دموعها من على وجنتيها المحمران من كثر البكاء بظهر أنامله ، قال بهدوء ناظرا لعينيها :
- ماذا بك يا زهرة تكلمي ..
شهقت شهقة صغيرة وقالت بعد أن أنزلت رأسها مبتسمة ابتسامة حزينة كسيرة كروحها :
- لقد قلقت عليك ..
ابتسم ابتسامته الدافئة يرمقها بحنان وقال بضجر مصطنع يمازحها بعد أن وضع يديه وسط جسده :
- نعم نعم لا تكوني والدتي وأنا لا أعلم !! ثم أين ذهبت لتقلقي علي ؟؟ بحق الله يا زهرة لا تكون والدتي أصابتك بعدوى قلقها المستمر ..
رفعت رأسها تنظر إليه وقالت بنفس ابتسامتها الحزينة تميل برأسها قليلا :
- هذا لأننا نحبك يا شقيقي ..
- بربك زهرتي لقد أصبحت رجلا إلى متى ستنظرون إلي كطفل ..؟!!
قالها مندفعا يلوح بيده في الهواء ولم يظهر في نبرته تلك أي علامات على المزاح فيبدو بأن كل ما يحتاجه الآن هو أن يعبر ويبوح عما يخالج صدره مما قد أثقله وكم خشي هذه اللحظة التي سينفجر فيها غضبه وحنقه من الجميع وكره نفسه أكثر كونه يفجره في القطعة من قلبه التي تقف أمامه والتي لا علاقة لها في كل ما حدث له ، هو حقا لا يريد ذلك لكنها أكثر من يفهمه ويقدره ويشعر به لكنها الآن تحتاج إلى من يستمع إليها لا أن تسمع من أحد تحتاج إلى من يحتويها لا أن تحتوي أحد وكم شعر بالتشتت في أفكاره حينها ، فقالت تنظر إلى عينيه بصدق يخرج من أعماقها ليمتزج مع كلماتها الهادئة :
- بل أروع وأقوى وأذكى رجل أنت يا طارق لكن هذا لا يمنعنا بأن نقلق عليك ..
أشاح بوجهه يزفر الهواء بقوة فهي كمن سكب عليه الماء البارد ليتوقف كل ذلك الانفعال ففي الأيام الأخيرة أصبح يفقد أعصابه سريعا وهو الذي عرف بحكمته في التصرف لا بتهوره وطيشه فقال بعد لحظات :
- ها أنا أمامك بخير هيا يا طفلتنا المشاغبة لسريرك فورا ..
فابتسمت بمشاغبة وهزت رأسها نفيا بخفة وكأنها تثبت له أنها لازالت طفلة وأنها تتحداه بأنها ستفعل ما يعجبها وتريده ولن ترجع إلى غرفتها لوحدها فعلم مغزاها سريعا ولم يحتج الأمر لتفكير فهما روح واحدة ، وضع يديه وسط جسده يرمقها بضيق بنصف عينه هذه المحتالة تريد كما في السابق أن يجلس بجانبها إلى أن تنام ، فابتسمت له ابتسامة تحولت لضحكة صغيرة رقيقة تشبهها تماما في كل شيء وهي ترى كيف اختلطت ملامحه ببعضها بعبوس زاده وسامه ، هي تريد حقا كما كانا في السابق ولا يهمها إن كبرا في العمر فهو شقيقها وتوأمها أيضا فلتعانده قليلا لتحصل على بعض حنانه وعطفه وحبه الذي لم يبخل بها يوما بإعطائها إياها بل يعطيها بسخاء دون توقف ، ارتخت كتفاه باستسلام وهو يمر بجانبها مجتازا لها قاصدا المغادرة فقال بنبرته المخملية التي تخللها الضيق :
- تحلمي يا زهرة تنامي وتحلمي بأن اقرأ لك قصة لكي تنامي كما في السابق ..
تبعته مبتسمة بحب فكم تحب شقيقها بجنون ولا تعتقد بأن يأخذ مكانه أي شخص في هذا العالم وتحت أي مسمى كان ، شاب ملامحها الفاتنة الحزن عندما تذكرت بأن والدها يريد تزويجها من ابن عمها حسام هل يريدون إبعادها وبأي ثمن عنهم ؟! هل هي عبء على عاتق والدها لدرجة أن يزوجها بمن يكرههم كره جما ؟! وبالتأكيد هي ليست مستثناه من كرهه الجنوني اتجاههم ، أخذتهم خطواتهم حيث غرفتها فوقف طارق بجانب الباب لتدخل أولا احتراما لها ولخصوصياتها التي لم تمانع يوما بأن يطلع عليها كلها ودون قيود وشروط وكم يحرجه ذلك وفي نفس الوقت لا يريد جرحها ، دفعت الباب بخفة لازالت تختار مقلتيها الأرض عن كل شيء حولها حتى الذي كانت سعيدة جدا بأن لبى نداءها الذي لم تنطقه شفتيها وقدم معها بنفسه تاركا كل شيء خلفه لأجلها ، توجهت نحو سريرها لتجلس على طرفه تشد أناملها على فستانها الحريري فغضن مستغربا الذي لم تفارقها نظراته فتقدم نحوها وسحب كرسي طاولة التزيين ليجلس عليه وقال بهدوء ناظرا إلى ملامحها التي يخفيها شعرها الذهبي بسبب انحناء رأسها :
- ماذا بك يا زهرة ؟! كم مرة سأسألك نفس السؤال وتتجاهلينه ..؟!
لتسقط أول دمعة من عينها لتستقر في حجرها فتنهد طارق بعمق فيبدو بأنه علم لما هي متضايقة لأنه نفس السبب الذي هو متضايق لأجله بل يعتبر أحد همومه التي تشغله ، نهض وجلس بجانبها وحوط كتفيها بذراعه فقالت له بعبرة :
- لماذا يا طارق يريد أبي تزويجي هل أنا عبء عليه ولماذا يسجن نفسه في غرفته ولا يقبل رؤية أي أحد منذ ذلك الاجتماع البائس حتى أنني أردت أن أفهم منه الأمر لكنه لم يعطيني فرصة اخبرني وأرحني يا شقيقي أرجوك ..
ارتفع نظره ليعانق الفراغ إذ أنه يعلم جيدا تفكير والده والمسؤوليات الكثيرة على عاتقه يريد تأمين الإمبراطورية وردع المتربصين بها ولم يجد غير هذه الطريقة بأن يعلن رسميا عن نائب له ويزوجه ابنته فهو سيحقق انجاز عظيم بفعله لذلك لكنه يخطئ .. يخطئ كثيرا بفعلته فهو امّن مستقبل ابن شقيقه الذي يكرههم وابنته التي لازالت تطلب حنانهم وقربهم والإمبراطورية الخضراء بأكملها من الضياع بينما لم يذكره في شيء متناسيا إياه ولم يفكر به مطلقا ويذكر جيدا موقفه كالمتفرج الأحمق و المشاهد المستمع لقراراته في ذلك الاجتماع العائلي ولم يذكر حتى اسمه وكأنه ليس ابنه الذي دائما ما يقف بجانبه ويسانده ، قال بعمق بنبرته المخملية لازالت يده تمسح على كتف زهرة :
- أهذا كل ما يقلقك ؟! لا تخافي يا شقيقتي لن يتم أي أمر ما لم تكوني موافقة عليه برغبتك ..
همست ببكاء :
- ووالدي ماذا به لماذا أشعر بشيء خطير يحوم حوله ويرفض أن يصارحنا به وكأننا لسنا عائلته ..
قبل رأسها بخفة وقال لها بنبرة مطمئنة :
- هناك أمور كثيرة يا زهرة تجري في الإمبراطورية بأكملها في الخفاء ووالدي يبدو بأنه خائف من أن تحدث توقعاته لذلك يجب علي أن أتصرف سريعا وسريعا جدا ..
نظرت إلى عينيه بنظرات ملئها الرعب وقالت بارتجاف خائف :
- ما الذي تقصده يا طارق أنت تخيفني ..
هز رأسه بخفة نفيا وكم بدا مشتتا وتائها فانقبضت تلك الأنامل البيضاء على قميصه جهة صدره ترجوه بأن يرحمها ويتحدث فقال بعد صمت :
- لا تشغلي تفكيرك فأنا لم ولن أقدم على أمر متهور وطائش ولن اسمح بأن يلحق الأذى أي شخص من عائلتنا أو من الإمبراطورية الخضراء جميعا ..
ولم يدل تفكيره هذا إلا على رجاحة عقله وحكمته في التصرف اللذان لطالما عرفا به ، الأمير الهادئ وصاحب الانفعالات المتزنة وذو النظرة الثاقبة وسريع الملاحظة لكن شقيقته كانت لها نظرة أخرى وبأنها ستفقده أيضا كما عائلتها ولن تبقى إلا لحسام فهي خطيبته حسب قوانين العائلة الحاكمة فتساقطت دمعاتها تحكي عجزها عن حماية المقربين لها ولملمه شتات قلوبهم ودفع الأذى والمتربصين بهم بعيدا ، قال طارق بعد أن استقام واعتدل في وقفته :
- توقفي عن البكاء يا زهرة وكما قلت لك سابقا أنا لن أتهور بأي شيء وسنتخذ الإجراءات اللازمة قبل وقوع الكارثة ووالدي سأتحدث معه بنفسي عن أمور كثيرة لذلك لا تقلقي فهي أزمة مؤقتة وستزول وتنقشع للأبد ..
أماءت برأسها إيجابا وأهدته ابتسامة كسيره فهي إن صدقت أحد فلن تصدق إلا والديها وشقيقها فبادلها ابتسامة دافئة وقال متوجها نحو الباب :
- تصبحين على خير يا شقيقتي واتركي كل شيء للغد ولا تفكري كثيرا وكما أقول لك دائما بأن لا تخافي وأنا بجانبك زهرتي ..
راقبته نظراتها المحبة إلى أن اختفى من أمامها ، كم تتمنى أن تهدي شقيقها سعادة الدنيا كلها وتجمعها له وتخبئها داخل صدره فهو يعرف تماما ما الذي يدخل السرور لقلبها ويعرف كيف يرسم ابتسامتها ويمسح دمعتها فهمست بحب ودموعها أبت أن تجف :
- أحبك يا شقيقي ووجودك بقربي أنت ووالدّي هو مطلبي ومرادي في هذه الدنيا بأكملها ..





نهاية الفصل , قراءة ممتعة لكم أحبتي ..
بقلم محبتكم : روح الوسن ..


روح الوسن .. غير متواجد حالياً  
قديم 13-04-20, 10:06 PM   #33

روح الوسن ..

? العضوٌ??? » 455523
?  التسِجيلٌ » Oct 2019
? مشَارَ?اتْي » 91
?  نُقآطِيْ » روح الوسن .. is on a distinguished road
افتراضي

.. الفصل الخامس والعشرون ..

.
.

[ خيبة أمل ]

.
.

أغلق الباب خلفه بهدوء شديد بعد أن رمق تلك النائمة تغط في نوم عميق وبعد أن أفرغت كل ما في قلبها من كلام وكل ما في عيونها من دموع وأخيرا استسلمت للنوم بعد أن مزقت قلبه ببكائها ونحيبها ذاك ولم تكن تردد إلا بأنها لا تريد لعائلتها أن تفترق لأي سبب كان ، تنهد بألم فهو يجب عليه أن يتحرك وأول محطاته في هذا القصر الكبير هي مكتب والده حيث سجن نفسه فيه منذ انقضاء الاجتماع العائلي والكارثي ذاك ، سار بخطواته الثابتة والواثقة في الرواق الطويل ونزل العتبات المتراصة والمتقاربة من بعضها البعض لتسلك خطاك دون جهد وتعب لتصميمها الراقي جدا ولم يلبث إلا وقد وقف أمام المكتب المقصود ، طرق الباب طرقتين ولم يأتيه أي رد فقبض أصابعه بتوتر شديد إذ أن القلق راوده فأعاد الطرق من جديد فسمع همهمة تسمح له بالدخول حينها تنهد بارتياح ، أدار مقبض الباب وفتحه بهدوء كهدوء ملامحه رغم الضجيج الذي بداخله ، تعلقت عيناه بالجالس خلف مكتبه منغمس في عمله ما بين ورق ومجلدات يمسك بها بين أنامله ، تقدم طارق حتى أصبح واقفا منتصبا أمام المكتب الكبير ، تنحنح قليلا وقال باتزان بنبرته المخملية بأدب يلف كلماته :
- أتأذن لي يا سيدي بأن أحادثك قليلا واستقطع جزءا من وقتك ..
إماءة بسيطة هي ما صدر عنه وقال ببرود وعيناه تبحثان عن شيء ما في كومه الورق :
- اجلس يا طارق ..
تنهد بضيق إذ أن والده لم يرفع حتى بصره ليطالعه ولا يعلم لماذا دائما ما يغمض عينيه عما يفعل من أجله وأجل الإمبراطورية جمعاء ولا يقدر له أي صنيع ، جلس على الأريكة العتيقة وحلت فترة من الصمت كان قد تأمل طارق فيها بأن يتوقف والده عن عمله ويترك كل شيء لأجله ولأجل الاستماع له لكنه خيب ظنه في ذلك وهو يمسك أحد الظروف الورقية التي أخرجها من درج المكتب الكبير ووضعها أمامه وأخذ يخط عليها بالحبر الأزرق الخاص به بصفته الإمبراطور عامر وأكمل وكأنه غير موجود ، لقد استغرب طارق في بداية الأمر بأن والده أذن له بالدخول وصور له عقله بأنه يحتاجه بجانبه كما كان دائما يقترح عليه بعض الأفكار في بعض الأمور ويساعده في عمله ويقدم إليه الاستشارات التي يحتاجها والتي لم يخيب ظنه أبدا فيها بل انتشله من مآزق كثيرة كاد أن يوقع فيها لكن لاشيء من ذلك قد حدث ، فأدخل طارق أكبر كمية هواء إلى رئته يستجدي بذلك الهدوء كي لا يفقد صوابه وينطق لسانه بما قد يسبب في ندمه طيلة عمره فمهما كان فهذا والده يجب عليه احترامه وتقديره ومساندته وقت يحتاج المساندة أو لا يحتاجها فلا أحد يملك القدرة على تغيير والديه أو اختيارهم ، قال بهدوء ينظر إلى الذي لم يرفع نظره إليه حتى الآن :
- لقد أعدنا ترتيب الحرس كما أمرت سيدي وعممنا الأوامر الجديدة بينهم كما تم تبديل قائد الحرس السابق بآخر من الجيش العسكري ..
تردد في قوله كثيرا وظهر ذلك جليا في ملامحه عندما قال بهدوء حذر :
- لكني يا أبي لا أظن أن تلك فكرة صائبة بأن نستبدل قائد الحرس بقائد من الجيش العسكري ..
وشعر حينها عامر بارتباك طارق الذي راوده فلقد ناداه أولا بسيدي وعندما أبدى رأيه قال والدي لكنه لم يعر ذلك أي اهتمام وأكمل عمله بصمت ، فحاول طارق مرة أخرى بأن يبدي رأيه في الموضوع ويتحاور مع والده ويناقشه دون أن ينتهي الحوار الذي لم يكن إلا هو يحادث نفسه بالصمت المطبق وقال بنبرة شبه مترجيه :
- أرجوك يا أبي أنا لم أقصد بأني لا أثق في قراراتك لكني أعتق...
- للضرورة أحكام ويجب علي أن أُؤَمِّن القصر بما فيه الكفاية ..
قاطعة بحدة ظهرت في نبرته منهيا أي مجال للحديث في الموضوع فعم الصمت بينهما مجددا وكأنهما ليس والد يجلس مع ولده فلا زال والده يبني الحواجز المنيعة بينهم دون أي اكتراث وبدون أي سبب ، أرخى طارق كتفيه باستياء ويأس وظهرت على شفتيه ابتسامة ميتة يحدق في الفراغ بشرود حزين لا يعلم ما الذي يجب عليه فعله لكي يستمع إليه والده لمرة واحدة على الأقل فهو لم يرتاح مطلقا لتلك الفكرة التي أمرهم بتنفيذها، كيف لقائد جيش أن يحرس القصر ؟! فلو حصل أي انقلاب عسكري سيكونون أول الضحايا هو وعائلته فهم على شفى خطر سحيق وشيك الوقوع وهم يرون التزعزعات التي تحصل في الخفاء وكأنهم ينون إعادة الفوضى كما حدث سابقا ، أردف طارق مكملا بنبرة هادئة لازال نظرة معلق في اللاشيء :
- وعيّنا قائدين جديدين في الجيش ومازال البحث مستمرا على القائدين السابقين اللذان اختفيا فجأة ورجالنا منتشرون في الإمبراطورية بأكملها متخفين بين العامة يبحثون عن أي خيط قد يوصلنا لهم ..
صمت للحظة ولم يتلقى أي رد فعل من والده فأكمل قائلا :
- سير التجارة يسير على ما يرام بين الثلاث إمبراطوريات أما إمبراطورية الجليد فلم يرضى الإمبراطور أدهم بتبادل البضائع بينهم وبين أي من الإمبراطوريات حتى نحن بعد حادثة اغتيال أحد تجارهم على حدود إمبراطورية الصخور والتي حدثت قبل ثلاثة أعوام ولازالت ملابسات تلك الجريمة مجهولة إذ أن الإمبراطور صخر أمر بإغلاقها لأسباب مجهولة ..
صمت لبرهة يتنفس بعمق وقال وقد تغير مرمى نظره إلى والده المشغول تماما بما يفعل :
- أرى ألا نتغافل عن تلك الجريمة التي حلت بتاجرهم الوحيد الذي خرج من عندهم يتاجر ببعض الحلي غالية الثمن فلماذا لم يكن لديه قافلة ولم يكن لديه أي خادم أو حارس أو حتى فارس فمن من التجار يخرج لوحده ويتاجر بنفسه دون مساعدة أي شخص وهو يخرج من بلدته لبلده أخرى لأول مرة ؟! أرى أن هنالك تلاعب وخدعة في الأمر وكيف للإمبراطور صخر بأن يدعي بأنه أحد جنوده من قتله بعد أن أنكر ذلك أولا ..؟!
اعتدل طارق في جلسته فالأمر يستحق الانتباه ووالده لا يوليه أي اهتمام فقال بنبرة متزنة لكن الضيق أخذ مأخذه منها في الظهور :
- أبي هنالك سر خلفهم أنا متأكد ولأول مرة يحدث حدث يرج الإمبراطوريات الأربع كلها ويزلزلها ولا يتدخل الإمبراطور جاسم وهو الذي يحشر أنفه في كل صغيرة وكبيرة تخصه أو لا تخصه ألا ترى أن في الموضوع شك وريبة وا....
وقطع كلامه مجفلا بصدمة عندما دوى صوت تلك الضربة القوية من يد عامر الذي ضرب مكتبه بقوة أسقطت بعض الأوراق من عليها وهو يرفع نظره به لأول مرة منذ دخوله فقال صارخا به فكما يبدو بأنه كان يجاهد نفسه على أن يضبط أعصابه طيلة المدة السابقة وها قد انفجر كالبركان مدمرا كل شيء حوله وأوله ذلك القلب الذي ينبض بحبه لوالده وخوفه الشديد عليه :
- أصمت .. توقف عن الادعاءات الباطلة والوساوس ، من يسمع كلامك هذا لا يصدق بأنك ابني ، ابن الإمبراطور عامر ما الذي حل بعقلك هل يعقل أنها الغيرة من حسام وبأنني اخترته ليكون نائبا لي وأنت بعده !! لا يجوز أن ترمي بظنونك السيئة على الآخرين يجب أن تتوقف عن التفكير في كل شيء وبدقة فسوف تصاب بالجنون بالتأكيد وأنت تحاول أن تجد تفسيرا لكل شيء وها أنا أراك قد قاربت تلك الحالة وبشدة ..
توقف يتلقف أنفاسه وكأنه كان يركض لأميال وأميال فهذا هو الغضب المكبوت عندما يخرج دفعة واحدة مدمرا كل شيء وبدا أنه كان يريد أن يكمل لكنه تدارك نفسه وهو يخفض رأسه ويخلل أنامل كلتا يديه في شعره يشده بقوة وكأنه يريد أن يقتلعه من جذوره ، حينها نهض طارق بهدوء وانحنى بكل احترام وقال بهمس هادئ ومتزن :
- اعتذر على إزعاجك سيدي ، اسمح لي بالانصراف ..
وغادر بصمت يجر خطواته ، أحس حينها بأن ساقيه تحولتا إلى صخرتين كبيرتين لثقلهما ، شعور الخيبة يتملك كيانه بأكمله خيبة أمل لم يشعر بها طيلة حياته استوطنت روحه المنكسرة ، أقال والده بأنه مجنون !! وبأنه يغار من حسام لأنه فضله عليه !! هل شعر بالخزي والعار كونه ابنه ولأنه يفكر بشكل مختلف ومن منظور آخر !! هل يستحق ذلك لأنه كان خائفا على والده ومنصبه وإمبراطوريته !! هل يستحق ذلك فعلا !! ، خطى خطواته التائهة وشعر بأن القصر كبر حجمه وازداد ظلمة رغم كل تلك الشموع التي تكاد تضيء الدنيا لكثرتها ، ارتفعت يده لياقته وأخذ يفك أزرار قميصه بأنامل مرتجفة يشعر بالاختناق فهو يكاد يموت ، تنقلت عيناه في جميع الأرجاء وأحس بأنه ضائع لا وجهة محددة له يتنفس بصعوبة ولا يعلم هل فقد القصر الأوكسجين أم أنه بدا يفقد الحياة !! ولم يحس بأن الحياة دبت عروقه وإن شيئا يسيرا إلا عندما وجد نفسه وسط الحديقة الخارجية للقصر ، أسرع الخطى متوجها نحو إسطبل الخيول وتوجه عنوة نحو خيله الذي يشبه في لونه لون الرماد الصافي بشعره الأسود الحريري ، أخرجه وامتطاه سريعا وانطلق لا يريد إلا أن يبتعد .. يبتعد عن القصر متناسيا المخاطر التي قد تحل به وهو يتنقل في الإمبراطورية لوحده دون حراسة وهو ابن الإمبراطور عامر ، لكن العقل قد يتوقف عن العمل في بعض الأحيان لقوة الصدمة التي تلقاها ومن يمكنه أن يلومه على ذلك بعد كل ما حدث ، ابتعد وابتعد وابتعد وسار طويلا حيث لا وجهة محددة بسرعة خاطفة يكاد يطير خيله من سرعته ، يلفح وجهه نسيم الليل البارد مبددا كل الاختناق الذي شعر به وحابسا لتلك المياه المالحة التي بدأت في التجمع في عينيه ، لا يعلم أهو من فعل الهواء القوي الذي يسير عكسه يضرب وجهه بقوة !! أم بسبب ضربه أخرى أصابت قلبه وبقوة أكبر !! ، توقف بعد سير طويل جدا ووجد نفسه حيث ملاذه منذ سنوات ، أمانه واطمئنانه الذي وجده في هذا المكان بالتحديد ، نزل من على ظهر خيله وتقدم يسير بهدوء وجلس أمام تلك المياه الصافية التي عكست ضوء القمر فيها ، مد يديه وغمرهما في البركة وأخرجهما حاملا بعضا من مياهها ورماها سريعا على وجهه وكرر فعلته تلك مرة واثنتين وثلاث فكم أنعشته هذه المياه مياه بركة الحكمة التي لطالما عشقها وعشق اسمها وكل ما يخصها ، استند على إحدى الأشجار خلفه وقطرات صغيرة تنزلق من خصلات شعره التي تشبعت بالمياه لجبينه تمر بوجنته لتنتهي عند ضقنه وتسقط بعدها حامله جزءا من همه معها ، أغمض عينيه يستمتع بالهدوء وأصوات الطبيعة حوله حيث لا ضجيج ولا صراعات نفسية لا يوجد إلا الهدوء والسلام الداخلي وسرعان ما أخذه النوم وكم كان شاكرا له لأنه سرقه من واقعه لحيث عالم الأحلام الذي لا يعرف إلا السلام والسعادة .

*****

أغلقت الباب خلفها بهدوء وقال الذي اتخذ الشرفة مسكنا وملاذا له :
- هل نامت ..؟!!
أماءت برأسها ترمقه بحب وقالت وهي تقترب منه :
- أجل يا بني لقد نامت أخيرا ..
سحبت الكرسي المقابل له وقالت بضحكة رقيقة كرقة قلبها :
- لا تعلم أي نومه نامتها فهي لا زالت تكمل لعبها تصارع الوسائد واللحاف على السرير ..
ابتسم ابتسامة صغيرة وعاد بنظره إلى الشرفة المطلة على الحديقة الخارجية لمنزلهم ولم يلبث إلا وقد عادت عيناه ترمق التي قالت بحنان وسعادة :
- لقد أسعدتها يا رافع باللعب معها وأسعدتني أيضا برؤيتكم معا ..
انزل بصره لتعانق عيناه الأرض ولم ينطق بكلمة فهو لم يكن يريد ذلك إلا لأجل أن ينتظر والده والذي لم يأتي إلى الآن والفجر كاد أن يطلع فهو لازال عازما على ما قد قرره سابقا لكنه ينتظر والده على أحر من الجمر ، قال بهدوء بنبرة عميقة يتجنب النظر لها :
- لماذا تأخر والدي يا أمي ..؟!!
تنهدت الأخرى بحسرة وقالت :
- لا أعلم يا بني وكم اشغلني فأنا قلقة عليه جدا فليست من عادته أن يتأخر كل هذا الوقت ..
لحظة صمت طويلة حلت بينهما لم تشأ السيدة بثينة على أن تقاطعه وتزعجه بل اكتفت بتأمل ملامحه التي اشتاقت لها كل تلك الشهور الماضية التي كانت عليها أقسى مما قد يتصور رغم أنها أرادت أن تحكي وتحمي وتحكي له الكثير والكثير فلقد اشتاقت له ولكل تفاصيله فهو الوحيد الذي يصغي لها بانتباه شديد ويشعرها دائما بقربه منها ، يحب أن يطلع على كل ما تحب صنعه ويشاركها فيها في أوقات فراغه ، لم يمل يوما من سماع قصصها وحكاياتها التي تعيدها على مسامعه مرارا وتكرارا بل يبدو متحمسا أكثر كلما أعادتها ، شاب رائع بكل المقاييس هادئ وحنون ومحب لا يفتأ إلا ويساعد من حوله يقدمهم على رغباته وطموحاته ويسعى جاهدا لإسعادهم ، تنهدت بعمق تشعر بحسرة وندامة شديدة فهاهي تنظر إليه وتجلس معه وكأنها لا تعرفه شخص آخر ليس ذلك الذي عرفته منذ كان صبيا صغيرا ، منعزل ومنطوي يحاول تجنب الكل ونظرة الحزن والانكسار لم تفارق عينيه العشبية حتى وهو يبتسم ويضحك معهم ، كم كرهت زوجته السابقة والتي كانت السبب الأول والأخير لما هو فيه الآن تمنت حينها بأنها منعته من الزواج لكن أي والده كانت ستسعد بقرار ابنها بالزواج بالرغم من كونه ليس ابنها إلا أنها كادت تعانق السماء لسعادتها بهكذا خبر ويا ليته لم يتزوج لكن الليت لا تقدم ولا تؤخر وما حدث حدث ليس لأي كائن حي القدرة على إرجاع ما ضاع ومات وتدمر في الماضي ، حينها رفع رافع أنامله ومررها في خصلات شعره الأشقر والتفت ينظر نحو الأريكة وللمستلقي عليها بعشوائية يغط في نوم عميق لا يُسمع إلا صوت شخيره ، فابتسم بفتور ونظر إلى والدته التي لم تمل بعد من النظر إليه وتأمل ملامحه وكم يقدر هذه الإنسانة العظيمة التي لم تتغير نحوه كما تغير كل من عرفهم بسبب مصيبة حلت به لم يكن له أي يد فيها وكم تساءل في نفسه لو كانت والدته الحقيقية على قيد الحياة هل كانت ستعامله كما تعامله التي تجلس أمامه الآن أم لا ؟! ، فقال ناظرا إلى عينيها البنية بنبرة شامتة يشير بإصبعه على المستلقي خلفه :
- يبدو بأن الضابط جميل لم يقصر في تدريب ابنك المدلل ..
أفلتت منها ضحكة وهي ترمق رامي النائم على الأريكة يبتسم تارة ويتمتم بكلمات غير مفهومه تارة ويتحرك بعشوائية وقالت :
- هذا ما يستحقه دعه يتعلم الحياة الصعبة ويعتاد عليها ولا يعتاد على حياة الرفاهية والدلع ..
ابتسم لها ودفع الكرسي للخلف ونهض بهدوء عندما أحس بأن رافع السابق قد يعود في أي لحظة وسيضعف كما في السابق فقرر أن يعود لسجنه الذي تحرر منه لأقل من يوم إلى حين عودة والده ، صحيح أنه لم يرغب بالعودة إلى غرفته قبل أن يحصل على مراده لكن هكذا حكمت الظروف ، وقبل أن يغادر توقف بسبب تلك الأنامل التي التفت حول معصمه تمنعه من المغادرة وقالت صاحبتها بعينين تلمع من حبس الدموع داخلها :
- إلى أين يا رافع أبقى معي قليلا فأنا لم أشبع منك بعد بني ..
هز رأسه بخفة نافيا فهو يرى كمية النوم والنعاس والإرهاق والتعب في عينيها وإن ادعت غير ذلك ، اقترب منها بعد أن حرر معصمه من قبضتها وأمسك برأسها وقبله قبلة طويلة وقال هامسا :
- يجب أن تنامي يا أمي لا تجبري نفسك على البقاء أكثر لأجلي ..
سقطت أول دمعه من عينيها وهي ترفع رأسها تنظر إليه فوقها وقالت بابتسامة حزينة :
- من قال لك أني أجبر نفسي على البقاء فنفسي اشتاقت لك أيضا يا رافع ..
فأطلق حينها آآهه عميقة مرهقة ومتعبة مثقلة بهمومها فلو تعلم والدته ما الذي يريد فعله لما قالت ذلك ، لا يريد جرحها ولا يريد التراجع عما قرر ومصر على أن يفعل ، وعندما لم يجد الكلمات المناسبة ليقولها وأي كلمات بحق الله قد تسعفه في هذا الوقت وهذا الموقف قد تشفع له تصرفاته !! ، جلس عند قدميها وأمسك بكفيها وأخذ يقبلهم واحدة واحدة ثم أعادهم لحجرها ونظر لعينيها الدامعة وقال بابتسامة حزينة :
- لا أريدك أن تبكي يا أمي أرجوك فلا أحد يستحق ..
ابتلع غصة شعر بها تحرق جوفه وقال بمرارة :
- حتى أنا يا أمي لا استحق دموعك ، لا استحق أي شيء ..
مسحت دموعها بأناملها وقالت ببكاء :
- لا يا بني لا تقل ذلك مجددا أرجوك ..
هز رأسه بخفة إيجابا ليس إلا رغبة منه بأن يداريها عل دموعها تتوقف وإن قليلا فهو منذ أن خرج لهم ظهر اليوم وهي لم تتوقف عن ذرفها لأجله ، نهض بهدوء وقال بهمس كسير يتجنب النظر لعينيها الدامعة :
- سامحيني يا أمي سامحيني ..
وغادر بخطوات واسعة رغم الانكسار الذي أصاب قلبه وخيبة الأمل ليس من اليوم ولا الأمس بل منذ شهور طويلة فأوقفته مرة أخرى قائلة برجاء :
- لا تعود لحبس نفس يا رافع وإن من أجلي بني ..
استدار بوجهه فقط لها وأهداها ابتسامة رغم بهوتها إلا أنها كانت صادقة نابعة من قلبه وقال لها بحنان :
- لا تقلقي يا أمي المهم أن ترتاحي وتنامي الآن ..
ثم استدار نحو الذي كان يحضن إحدى وسائد الأريكة ولا يسمع إلا صوت شخيره ، رمقه بابتسامة دافئة فرامي رفض أن ينام في غرفته من فرط سعادته برؤيته يخرج لهم من جديد ويجالسهم وكأنه خشي أن ذهب ونام في غرفته أن يستيقظ صباحا ولا يراه وهذا ما كان عازما عليه لكن لا أحد يعرف نواياه ويبدو تأخر والده سيمنعه ويعطله قليلا لكن لا بأس فهو عازم ولن يرده أي أحد كائنا من كان ولا حتى أي شيء .









نهاية الفصل , قراءة ممتعة لكم أحبتي ..
بقلم محبتكم : روح الوسن ..


روح الوسن .. غير متواجد حالياً  
قديم 13-04-20, 10:11 PM   #34

روح الوسن ..

? العضوٌ??? » 455523
?  التسِجيلٌ » Oct 2019
? مشَارَ?اتْي » 91
?  نُقآطِيْ » روح الوسن .. is on a distinguished road
افتراضي


.. الفصل السادس والعشرون ..

.
.

[ بريق الحياة ]

.
.

ربت بخفة على ظهر برق الذي أطلق صهيله ذو نغمته المتزنة والصافية والتي يكاد يميزها عن غيرها ولو كان بين مئة حصان بسبب الرنة المميزة له بعد أن نزل من على ظهره وأكملا سيرا على الأقدام حينها رفع عينيه العسليتين التي برقت ببريق الحياة الذي نادرا ما يظهر والشيء الوحيد الذي يدل على أنه لا زال بشريا يحس ويشعر كغيره إلى جهة الشرق ليرى الضوء الخفيف الذي بدأ يتسلل إلى السماء السوداء ببطء ليشع شعاع خفيف يظهر على هيئة حزم ضوئية تخترق الغيوم التي تلبدت بها السماء لتعلن عن حلول وقت الفجر وبداية يوم جديد ، ابتسم بخفة لا يعلم كيف قضى تلك الساعات الأربع كلها في منزل الضابط جميل وبين أسرته التي لم تمانع أبدا ببقائه بينهم بل وأصروا على أن يشاركهم جلستهم العائلية حتى شاي الأعشاب اللذيذ الذي لا تعده إلا السيدة هند وبالرغم من تغيب الضابط جميل عن منزله كل تلك الساعات التي تأكد حينها بأن هناك خطب ما وخطر كبير محدق لا يعلمه ، لم يشعروه ولا للحظة بأنه شخص غريب عنهم بل عاملوه كأحد أفراد العائلة ، يتساءل في نفسه كثيرا عن السبب وهو بطبيعته ليس بالشخص الاجتماعي ولا الودود والمرح الذي يحبه الناس ويطلبون قربه حتى حديثه والكلمات التي نطقها لسانه وهو بينهم تكاد تعد على الأصابع لقلتها لكن السيدة هند وبطيبة قلبها لم تتضجر منه أبدا وكأنها تعلم عن ماضيه كله وعن شخصيته التي صقلوها له ولم يختارها هو بنفسه بل وجد نفسه مجبرا على تلك الشخصية القاسية والباردة واللا مبالية بحكم البيئة والظروف التي عاش فيها ، كما يريدونه بالضبط آله للحرب فقط لا تحس ولا تشعر ولا تتذمر من المهام والتدريبات وليس له أي أحقيه في الاختيار مسير ومجبر على كل شيء ، يفكر بعقله الذي بالكاد تركوه له وهم كادوا أن يصيبونه بالجنون مرارا وتكرارا ولم يتركوا لقلبه أي فرصة بالحياة بل قتلوه وغدروه من أعوام وأعوام حين جعلوه يشهد مقتل والدته وهو ابن الثلاث أعوام لا حول له ولا قوة وأمام عينيه بكل بشاعة وفظاعة وقسوة وجبروت ليغرسوا في قلبه ألما لا أحد يستطيع نزعه انغرس هناك في قلبه الصغير بجانب الحقد والكره للجميع ، يغلف نفسه بالجمود وينطوي بنفسه عن الآخرين هكذا أرادوه وهكذا كان لم يتغير إلا مدة بسيطة وسرعان ما حسدوه عليها وهي الفترة التي اجتاح فارس حياته فغيرها له وإن كان تغيير غير ملحوظ لكنه نجح في ذلك وببراعة لكنهم كالعادة يقفون له بالمرصاد دائما لذلك سرقوه منه وبطريقة بشعة خالية من الرحمة كالعادة ليعود بعدها لنقطة البداية حيث لا يوجد إلا الصفر الذي لا يدل على شيء سوى كونه لا شيء ، تنهد بتعب من هذا الماضي الذي يطارده في كل وقت وحين حتى في اللحظات البخيلة التي يشعر فيها بالسعادة تداهمه بقوة لتنسيه إياها وكأنه خلق ليتعذب بها فقط ، مرر أنامله في خصلات شعره يخفف من الألم الذي داهم رأسه قبل أن يتوقف بصدمة هو وبرق في نفس اللحظة وكأنهما متفقان على ذلك مسبقا ، غضن جبينه باستغراب إذ أنه يسمع صوتا ما ، نعم هو أشبه بنفس أحدهم أي أن أحدهم هنا ، غريب من يكون يا ترى !! بل وكأنهم شخصين أو لا ليس كذلك ، أسرع في خطواته وبرق يتبعه في حركات متناغمة ، هذا زفير حصان بكل تأكيد والدليل الحوافر المطبوعة على الرمال يراها بوضوح وهي ليست لبرق فهو يميز حوافر خيله عن غيرها ، ابعد وريقات الشجر التي تحوط بركة الحكمة من بعيد بكل خفة بكلتا يديه وسرق نظرة خاطفة حادة بعينيه الصقرية حول المكان بأكمله متفحصا إياه لتستقر أخيرا على المستند على إحدى الأشجار ويبدو أنه لا يعي شيئا حوله والنوم قد سرقه من عالمه ليهمس الآخر بصدمة اتسعت عيناه معها بذهول :
- طارق ..!!!

*****

يقف أمام الصورة المعلقة والتي تكاد تغطي الجدار بأكمله لكبر حجمها بكل شموخ وكبرياء حاد ، يمسك بيديه المغطاة بقماش أسود من الجلد الطبيعي في قفازات لم تصنع وتحاك لأحد غيره عصا سوداء اللون برأس دائري مصنوع من الذهب نقشت بنقوش غريبة متداخلة في بعضها البعض لتعطي معنا للقوة الملتفة بالغطرسة ، يزين أصابعه بحلقات فضية مرصعة بالأحجار الكريمة الملونة ، بمعطف أسود مصنوع من الفرو الطبيعي يضعه على كتفيه العريضان ويغطي جسمه الضخم والمليء بالعضلات ليلامس الأرض من خلفه وينساب على ظهره بكل عنفوان ، يبتسم بكل تهكم لتلك الصورة المعلقة أمامه ، صورته هو فقط رسمها له أشهر رسام عُرف في الإمبراطورية بكل دقة وحرفية موضحا كل تفصيل من تفاصيله وعكس فيها البذخ والغطرسة والكبرياء ، رسمها بدقة ولم ينسى النظرة الحادة القاتلة والمتكبرة والمتعالية التي تميزه عن غيره ، رسم أعجبه جدا وأعجب بالرسام الماهر ، كيف له أن يرسم كل تلك التفاصيل ؟! وكل ذلك الشر وحب السيطرة والاستيلاء الذي يجري في عروقه ؟! هل هو الإبداع ؟! أم المهارة التي اجتمعت في ذلك الرسام البسيط في كل شيء ؟! أي نظرة يملكها ؟! وأي تصور هذا الذي يصوره له عقله ليطابق الحقيقة كل هذا التطابق ؟! بقدر الفخر والإعجاب برسمة الرسام التي رسمها له وبنفسه هو الذي ظهرت شخصيته حتى في صورته مهيبة تخيف كل من رآها وليس إعجاب بمهارة الرسام بقدر ما شعر بالغيرة والحقد بأن هنالك من ينافسه في القوة والسيطرة حتى وإن كانت صورته ، مريض بحب الاستيلاء والسيطرة مغرور بنفسه حد الكبرياء اللامعقول فكيف لشخص يغار حتى من انعكاس صورته على الورق ؟! ، هو في عين نفسه كل شيء ومن هم دونه .. دونه بكل بساطة ، أي باختصار هو كل شيء وهم لا شيء ، فلذلك فقط أنهى حياة الرسام بيديه بعد أن صفق له بحرارة على صنيعه .. لا بل هو كان يصفق لنفسه وبكونه عظيما حتى وهو حبيس أيطار مصنوع من الذهب ، يكره أن يحلله شخص ويقف في وجهه وذاك الرسام أبدع في وصف صفاته حتى المخفية عن الجميع فقتله بكل دم بارد لأنه هو المسيطر والمتحكم وصاحب القرار وليس لأي شخص حق في محاسبته ، علت ضحكته الخشنة والمخيفة أرجاء الغرفة وحرك رأسه مبتسما بفخر وتهكم شديد تحركت معها خصلات شعره شديد السواد الملامس لكتفيه والذي يثبت أنه أحد أبناء إمبراطورية البراكين حتى وإن كبر في السن إذ أنه زعيمهم كلهم فهو الإمبراطور جاسم والذي يجب أن يهابه الجميع كونه الأقوى والبقاء للأقوى فقط ، رفع عصاه الممسك بها بين قبضتيه القويتان وضرب بها الأرض بقوة ضربتين متتاليتين لتصدر صوتا عميقا امتلأ في الأرجاء التي سيطر عليها الصمت والهدوء ليتبع ذلك الصوت صوت طرقات خفيفة على الباب في نداء لا يعرفه إلا ذراعه اليمنى ، قال بصوته ذو النغمة الجهورية :
- ادخل يا مهند ..
صرير الباب الذي أظهر بعدها الجسم الضخم والملامح الحادة ينحني بكل احترام لسيده وكأنه يراه فقال جاسم بعمق :
- ماذا حدث معك ..؟!!
قال مهند باحترام شديد رغم نبرته العالية والخشنة :
- رفض سيدي الانصياع لنا ..
قال بحدة ولازال يعطيه ظهره تتنقل عيناه السوداء كليلة مظلمة في تفاصيل الصورة أمامه :
- حتى بعد إعطائه الهدايا والأموال والجواري ..
قال بقليل من الارتباك :
- رفضها كلها ..
قال مباشرة ونبرته تزداد حدة أكثر وأكثر :
- والدعم الذي سندعمه إياه والمكانة التي سنعطيها له والرشاوى والأموال والقطع الذهبية وكل شيء يريده ذلك المعتوه هل رفضها كلها ..؟!!
ابتلع ريقه بتوتر وقال :
- نعم سيدي وقال أنه لا يريد أي شيء منها ..
افلت شتيمة قاسية من بين شفتيه وقال بهمس حاقد :
- السافل ماذا يريد إذا ..؟!!
قال مهند وهو لازال منحني احتراما :
- أراد أن يعرف السبب الحقيقي لضمنا لهم ..
التفت حينها جاسم وقال بحدة ينظر إليه بعينين اشتعلتا غضبا :
- هل أخبرته ..؟!!
هز رأسه بقوة نفيا وقال :
- اقسم لك سيدي أنني لم اخبره مما جعله يحاول بشتى الطرق معرفه السر ..
تنهد الآخر وقال ببرود :
- إياك أن تخبره ..
ثم قال بأمر بعد لحظة صمت كان يرتب قراراته في عقله :
- سننطلق إلى الحدود الجنوبية الآن وقبل أن تشرق شمس الصباح ..
وعندما أراد أن ينصرف مهند بعد أن همس بالموافقة والانصياع المطلق لأوامره استوقفه الذي سار نحو مكتبه يسير بكبرياء إلى أن استقر على كرسيه الضخم كضخامته وقال :
- أين سيف وبهاء .. ؟!!
قال مهند مباشرة :
- سيف قضى ليلته كاملة عند تلك الصخرة الكبيرة بين الجبال المهجورة والموحشة ..
فانطلقت ضحكة جاسم التي صدحت في الأرجاء وقال بنبرة شفقة ويأس :
- ذلك الأبله المعتوه لازال يعتكف تلك الحجارة والصخور ويظن أنني أغفل عن مكانه وكل تحركاته..
نظر في الفراغ وكأنه يتذكر شيئا ما وقال :
- مكان تجمعهم سابقا إذا ..
هز رأسه بقلة حيلة وأكمل قائلا بسخرية لاذعة :
- لا أعلم أي سحر ألقاه فارس في قلبه ليتعلق به هكذا !! معتوه وغبي يرفض حاضره ليطارد ماضيه الذي لن يعود أبدا ، كم هو سخيف ذلك الفتى لكن لا بأس فهو ممن تدرب على يد فارس ووسام أقوى ثنائي عرفتهم الإمبراطورية تبا لهم جميعا تبا..
صمت لبرهة فهو يكره أن يضم الفشله والحمقى له ويكره أن يعترف بمهارة فارس ووسام القتالية فهو مغرور بنفسه ويمقت كل من ينافسه في القوة لكن سيف له ميزات سيستفيد منها لاحقا لذلك لا بأس سيصبر عليه قليلا ثم يتخلص منهم جميعا ودفعة واحدة أما وسام فهو لازال يخبئ له المفاجآت التي ستنهيه كما أنهى حياة فارس من قبله ، فعلت ضحكته التهكمية متوعدا كل من يقف في طريقه بالموت السحيق ، ثم قال ببرود بعد أن هدأت نوبة الضحك الساخر والمتعالي على الجميع :
- وبهاء ..؟!!
رد عليه مهند واختار الأرض لينظر إليها خجلا مما سيقول :
- يتسكع كعادته في الأرجاء وسعيد بما أعطيته سيدي من مال ..
قال ببرود متهكم وهو يستقيم ويعدل من معطفه على كتفيه :
- ذلك المنحل السخيف سنبعدهما عنا وننطلق أنا وأنت فقط فالأمر يحتاج إلى جدية وليس لعب أطفال ..
أماء برأسه احتراما وتنحى جانبا ليمر من أمامه جاسم بكل كبرياء وثقة وتكبر وتبعه وكأنه ظله يتبعه أينما كان وما هي إلا ثوان حتى كانوا داخل عربة كبيرة وفخمة مجهزة بالكامل تتبعهم عربات الحراس ، انطلقوا متوجهين نحو الحدود الجنوبية والتي تقع بين إمبراطورية البراكين والإمبراطورية الخضراء قاصدان قصر السيد رأفت الرجل الذي بلغ السبعين عاما ، عجوز غريب في مبادئه وأفكاره ، لا تعنيه الأموال ولا النفوذ والسلطة ، يحتفظ بآرائه لنفسه ، له قناعات خاصة وصعب المراس ، وصلوا حيث وجهتهم التي لم تبعد عنهم سوى بضع ساعات وتوجهت عرباتهم الأربع عنوة نحو القصر ، وبعد الاستقبال الذي تلقوه من السيد رأفت رغم عدم معرفته بقدومهم في الصباح الباكر إلا أنه عرف عنه الكرم وحسن الضيافة لذلك استقبلهم أفضل استقبال ونزل لهم بنفسه بحلته البهية يضع رداء أحمر على كتفيه شعره ذو الخصل الرمادية التي تدل على كبر سنه وحكمته تزين شفتيه ابتسامة هادئة ، قال عندما أصبحا مقابلين لبعضهم البعض لا تفصلهم إلا عدة درجات متراصة مفروشة ببساط أحمر مذهب :
- أهلا أهلا بالإمبراطور جاسم لهو لشرف كبير بأن تزورنا بنفسك سيدي ..
ابتسم ابتسامة أجبر نفسه عليها إذ أنه يتمنى فقط لو يقتل هذا العجوز الخرف الذي يقف أمامه فهو سبب تواجده هنا وبنفسه عله يقتنع بأخذ الأموال ويكف عن العناد لكن لا بأس سيقضي عليه بعد أن يحصل على مراده وهو أن ينضم لهم وتصبح الحدود بأكملها له .. له لوحده فقط إذ أنه يستفيد من خيراتها ورجالها يضمهم في جيشه ليكون أقوى جيش عرفه التاريخ ، قال ببرود ونظراته الحادة مسلطة على عيني الآخر :
- سيد رأفت يبدو بأن بيننا كلام يجب أن نتناقش فيه ..
فعلت ضحكة السيد رأفت وقال بابتسامة :
- مهلك مهلك يا سيدي فأنت ضيف عندي ولك علي حسن الضيافة ..
حينها همس جاسم بشتيمة وهو يتقدم نحوه يسير بثقة مجتاز صفي الحرس المنتصب عن يمينه وشماله وكأنهم جبال شامخات يسير خلفه مهند يضع يده اليمنى على مقبض سيفه استعدادا للدفاع عن سيده في حال الهجوم عليهم بغتة ، ولم تدل حركته تلك إلا أنه رجل حروب دائما ما يكون على أهبة الاستعداد ، مد السيد رأفت يده مصافحا لجاسم الذي نظر إليه من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه في نظرة متعالية ورغم منزلة السيد رأفت إلا أن جاسم لا يراه شيئا إلا كذبابة مزعجة عليه أن يتخلص منها سريعا ، ارتفعت زاوية شفتي جاسم في ابتسامة ساخرة تهكمية ومد يده ليتصافحا ، لم يحتاج الأمر إلى ذكاء ودهاء خارق ليشعر السيد رأفت بغرور جاسم وكبريائه اللا محدود ، بل عرفه منذ أن وقعت عينيه في عيني جاسم الحادتين وكأنها صخرتين سوداء ، سحب جاسم يده سريعا بعد أن شد قبضته على تلك اليد المتهالكة لكبر سنه ودلفا معا لداخل القصر .
استقبال كبير وكرم وحسن ضيافة وكل ما لذ وطاب قُدم إليهم على وجبة الفطور التي تم إعدادها خصيصا له ، فواكههم وخضرواتهم الطازجة التي اشتهرت تلك المناطق بزراعتها وأشهى الأطباق أعدت بكل إتقان لتناسب جميع الأذواق ، ولم يقتصر كرم السيد رأفت للإمبراطور جاسم فقط بل كل الحرس الذين قدموا معه ، استقبلهم أحسن استقبال مما أثار غضب جاسم وهو يراه يحسن إلى كل شخص من حرسه الذين لم يفكر هو في النظر حتى لوجوههم استصغارا واستكبارا ، كيف له ذلك هل يريد استمالتهم نحوه ؟! هل يفكر هذا العجوز بخبث مثله ؟! لا هذا مستحيل فالسيد رأفت لم يُعرف عنه طيلة السنوات الماضية إلا بأنه رجل مسالم لم يتدخل يوما في أي موضوع يخص الإمبراطوريات الأربع بل اكتفى بالاهتمام بأمور منطقته وغض بصره عمن سواها ، وعندما فقد جاسم كل ذرة صبر لديه قال بصوته الجهوري بكل جدية ينظر للذي لازال يشرب من عصير الفاكهة باستمتاع وكأنه يجلس مع عائلته :
- سيد رأفت أنا إمبراطور لإمبراطورية البراكين كما تعلم ولا وقت لدي لأضيعه بالطعام وأمور أخرى لا تعنيني لذلك سنتحدث فيما جئت لأجله ..
أماء برأسه إيجابا ووضع كأس العصير مبعدا إياه لازالت ابتسامته الهادئة تزين شفتيه ، وعندما اعتدل السيد رأفت في جلسته رفع يده اليمنى يفرد ثلاث أصابع ويضم الأخرى وقال بهدوء بنبرة متزنة وابتسامة على شفتيه لينعكس صدقه في كلماته وحكمته في التصرف قائلا :
- الصدق والتضحية والوفاء هذا كل ما أريده منك أيها الإمبراطور جاسم ..
فعلت الصدمة وجه جاسم بالكامل ، أيرفض الأموال والكنوز والمنزلة العالية لأجل هذه السخافات حقا ؟! هل يعاني هذا العجوز من مشكلة في دماغه أم أنه لا يعرف من يكون الإمبراطور جاسم ؟! ، قال جاسم بعد صمت وبنبرة حذرة رغم الضيق التي تخللها :
- ما الذي تقصده يا سيد رأفت ..؟!!
أماء برأسه إيجابا بخفة وقال بهدوء :
- كما فهمت سيدي ثلاث شروط ..
فزم شفتيه بحنق يكاد أن ينقض عليه ويقتله ليرتاح من لعب الأعصاب هذا لكنه تمالك نفسه عند آخر لحظة وقال بحدة :
- لم افهم شيئا هل يمكنك أن توضح ذلك لي من فضلك .. !!
وكم كره حينها نفسه لأنه ينزلها لذاك المستوى ويدعي عدم الفهم لكنه يراوغ هذا كل ما يريده أن يكسب المزيد من الوقت مع هذا العجوز الخرف ويحاول سحبه واستدراجه لكي يتراجع عما يريد ويسعى له ، قال السيد رأفت موضحا :
- الشرط الأول أن تكون صادقا معي وتخبرني سبب رغبتك بأن ننظم للإمبراطورية البراكين ..
صمت لبرهة وأتبع قائلا :
- الشرط الثاني أن تضحي لأجلنا بشي نحن نطلبه منك ..
قطب جاسم حاجبيه بغضب فلم يفهم هذه النقطة جيدا إذ أنها تحمل الكثير في طياتها فقال بتساؤل حذر بنبرته الخشنة :
- أضحي لأجلكم !! أضحي بماذا ..؟!!
فابتسم حينها السيد رأفت وكأنه مستمتع باللعب بأعصاب جاسم الذي يرى بوضوح مدى انفلات أعصابه منه شيئا فشيئا وقال وكأن شيئا لا يعنيه :
- نريد أن نرى إلى أي مدى ستضحي لأجلنا لأني حينها سأسلمك كل الحدود الجنوبية وليس الأرض فقط بل والأرواح التي فيها ويجب علي أن أضمن بأن أرضي وقومي لن يضيعوا ولن يهانوا ولن يتأذوا إذا ما سلمتهم إليك أو لا اتفاق بيننا ..
رفع جاسم رأسه بكبرياء وقال بثقة يشبك أنامله الطويلة :
- اطلب ما شئت فأنا قادر على تنفيذ كل ما تريده ولترى إلى أي مدا أضحي به لأجلكم ..
كان واثقا بأنه سيلبي رغبات هذا العجوز ويستطيع خداعه بسهوله لكنه كان مخطئ ، فهز الأخر رأسه متنهدا بقلة حيلة إذ أن الإمبراطور جاسم وكما عُرف عنه حاد الذكاء وذو نظرة ثاقبة إلا أنه لم يفهم ما الذي يريده منه بالضبط ولم يفهم كلماته ، فقال حينها يثبت نظراته في عيني جاسم :
- ليست بهذه السهولة سيدي فأنا كما تعلم أملك نخبة من الرجال وسلطة خفية واستطيع بذلك معرفة أشياء لا أحد يعلمها غيري ..
قال جاسم بثقة :
- قل وسنرى إذا ..
قال مباشرة وراميا بكلامه كسهام أصابت الآخر في مقتل :
- تطلق سراح الأسرى لديك جميعهم والذين أصبحوا في قبضتك لعشر سنوات ..
فألجمته الصدمة وشحب وجهه وكأنه مفارق للحياة لا محالة وظهرت الدهشة في تقاسيمه الخشنة والحادة ، أصحيح ما سمعه ؟! هل يريد منه أن يطلق الأسرى والذين اتخذهم كجيش له دربهم أحسن تدريب وبمهارات عالية وأخفاهم عن الجميع سرا لكي ينفذ ما يريده ؟! لا مهلا كيف عرف هذا العجوز بأمر الأسرى ؟! ولماذا اختار هذا الشرط كتضحية ؟! إذا هو يعلم تماما نقطة ضعفه والشيء الذي يستحيل عليه أن ينفذه بحجة التضحية كما يدعي لكن ما الذي يجب عليه فعله الآن ، فقال رأفت قاطعا حبل أفكاره المتشابكة والمشوشة :
- هذا الشرط الثاني أما الشرط الثالث فنريد الوفاء ، الوفاء لنا فقط ولا يهمني المال ولا غيرها ولا يهم شعبي وقومي أيضا لأن ذلك لا ينقصنا فنطلبه ..
فانتصب جاسم واقفا ينظر إليه بحدة وقال من بين أسنانه :
- وإن رفضت إطلاق سراح الأسرى .. ؟!!
فأهداه ابتسامة وقال بتأني ليصل مقصده إليه بكل وضوح :
- تذهب في حال سبيلك فأنت تملك إمبراطورية كاملة والحدود الجنوبية لا تساوي ربعها في الحجم ولا اتفاق بيننا كما قلت سابقا ..
صرخ بحدة يشد قبضتيه بقوة :
- ما هذا يا سيد أنت تسخر مني وتستهزئ بي وكل هذا جزاء لي لأني أريد أن أضمكم إلى أراضيَّ تحت رقابتي وفي عهدتي تجازيني بهذا يا من عرفت بحكمتك وحبك لقومك .. ؟!!
نهض الأخر حينها ويبدو بأن الكلام لا ينفع مع هذا الرجل ولا شيء يأتي إلا بالأوامر لديه حتى وإن لم يرضى الطرف الآخر بذلك ، فقال بصراحة نطقها قلبه قبل شفتيه :
- أنت تعلم بأن ما تفعله يعد مخالفة من المخالفات العامة أليس كذلك يا سيدي ..
وشدد الحروف على أخر ما لفضه لسانه ليؤكد له ما قال قبلها ولا ينسى نفسه ويضن أنه هو المتفضل عليهم بفعلته ، فاتسعت عيني جاسم السوداء وقال بنفاذ صبر :
- أنا أتيتك بالسلم ولم أتيك بالحرب لتدعي أنني ارتكب مخالفة يا سيد ..
فعاد رأفت للجلوس بكل ارياحيه وقال بهدوء يعاكس انفعال الذي لا يزال واقفا أمامه :
- اجلس إذا يا سيدي وفكر مليا بما قلت فأنا لا أريد غير الثلاث شروط التي قلتها ..
فجلس جاسم يكتم غيضه يحاول ألا ينقض عليه ويقتله ويقطعه بأسنانه ليلقنه أخر درس في حياته هذا المعتوه ، قال بعد صمت دام للحظات :
- وما الذي ستستفيد منه إن أطلقت سراح الأسرى .. ؟!!
قال ببرود :
- هذا لا يعنيك يا سيدي وأنا مصر عليه ولن أغير رأيي مهما حدث ولا تنسى الشرط الأول والأخير أيضا فأنا أريدهم ثلاثتهم ..
نظر إليه بعينين برقتا بلهيب الغضب الذي يسري في شرايينه ولم يعد يعلم ما الذي يتوجب عليه فعله هل ينصرف ويترك هذا العجوز الخرف ؟! أم يرضخ له ولشروطه المستحيلة بالنسبة له ؟! لا وألف لا هو لا يرضخ لأي كان ومهما حدث فهو الإمبراطور جاسم والذي سيصبح في يوم ما إمبراطور على الجميع ويحكمهم كلهم وهذا يراه أصبح أقرب إليه أقرب بكثير فلذلك على هذا العجوز أن يغير أفكاره السخيفة ويرضى بالمال وإلا قتله ويعلم تماما كيف يدبر له من يقتله ويتخلص منه لكن ومع معرفته بالأسرى أصبح مترددا وتراوده الظنون بأن له جواسيس منتشرون بين رجاله ولا يستبعد ذلك أبدا لذلك عليه أن يحرص ألا يكشف جميع أوراقه لرجاله ويحذر منهم أكثر ، فانتصب واقفا ينظر إلى السيد رأفت من طرف عينيه باستحقار شديد نطقت به عينيه الحادة ، يجب عليه أن يتعلم هذا العجوز مع من يتعامل فهو ليس ضابط أو قائد عادي بل هو إمبراطور وأعلى منه منزلة إن لم يكن يعلم فلا تغره منطقته الصغيرة هذه بأنه أفضل منه وأقوى فلا قوي سواه لذلك انصرف دون أن ينطق بأي كلمة أخرى يرفع رأسه عاليا يمشي بثقة عمياء وغرور أشبع كل تفاصيله وكأنه خرج بما يريد وليس صفر اليدين ، فتنهد الآخر بارتياح فهو يعرف مع من يتعامل وكم أسعده أن غادر دون إحداث أي ضجة ويعلم تماما بأنه يجبر نفسه ليس إلا وذلك حسب القوانين الصارمة التي اجتمعت عليها الإمبراطوريات الأربع وتعاهدوا على ألا يخل أحد بها وإلا سيتلقى العقاب القانوني به ودون أي رحمة ، تمنى حينها بأن جاسم يرضخ له ويتغير لكن التكبر والغرور أعمياه فلا أمل يرجى منه بأن يتغير ويحسن إلى من هم حوله والدليل القاطع كانت تلك النظرات المستفزة التي رماه بها وكأنه أصغر أولاده وليس شيخا كبيرا يكاد يبلغ سن والده لو كان على قيد الحياة ، التفت للجندي الذي بجانبه وقال :
- ودعوهم بالشكل المشرف لنا وراقبوهم إلى أن يخرجوا من حدودنا ..
انحنى له احتراما وقال من فوره :
- حاضر سيدي ..










نهاية الفصل , قراءة ممتعة لكم أحبتي ..
بقلم محبتكم : روح الوسن ..


روح الوسن .. غير متواجد حالياً  
قديم 16-04-20, 01:58 AM   #35

روح الوسن ..

? العضوٌ??? » 455523
?  التسِجيلٌ » Oct 2019
? مشَارَ?اتْي » 91
?  نُقآطِيْ » روح الوسن .. is on a distinguished road
افتراضي


.. الفصل السابع والعشرون ..

.
.

[ فوق الأعالي ]

.
.

تقدم نحوه يسير بخطوات غير مسموعة وكأنه نسمة هواء إلى أن جلس أمامه يستند على ركبته على الأرض ، مد يده نحو كتفه وهزه بخفة قائلا بملامح باردة وبنبرته ذات النغمة المميزة :
- طارق ..
لتنفتح تلك الجفون المرهقة من التعب والسهر كاشفة عن الأحداق البنية المرهقة والتي شاب بياضها حمرة لتستقر على عيني وسام وملامحه الباردة واللا مبالية كالعادة فارتسمت على محياة ابتسامة صغيرة وهو يعيد إغلاق عينيه بهدوء وقال بنبرة كم ظهر فيها الألم جليا :
- هذا أنت يا وسام يالا المصادفة كم مر من الزمن .. !!
رمقه وسام ببرود وقال بتهكم شديد وسخرية لاذعة :
- هل فقدت عقلك أيضا يا طارق !! يكفيني رامي الذي يهذي فوق رأسي طيلة النهار ..
أفلتت من شفتي طارق ضحكة لم يستطع كتمانها وقال وهو يعتدل في جلوسه :
- هذه طبيعة رامي لن يتغير ذلك المشاكس ..
فاستقام وسام وسار نحو بركة الحكمة والمكان السري لهما فقط ومنذ سنوات عدة ، دنى منها واغترف غرفة بيده وغسل بها وجهه مبددا الإرهاق الذي يشعر به فهو لم ينال أي قسط من الراحة طيلة اليومين السابقين ولا يبدو ذلك سيحدث قريبا فالمهام العالقة كثيرة يجب عليه أن ينهيها سريعا ، قال وسام ببرود بعد أن استدار ناظرا إلى طارق الذي استند على الشجرة خلفه وأخذ يتأمل السماء بشرود حزين :
- ما الذي تفعله يا طارق هنا هل من خطب .. ؟!!
ولا مجيب وكأن طارق انفصل عمن حوله تماما فاقترب الآخر منه وجلس أمامه متربعا وقال بهدوء :
- طارق ..
عاد طارق بنظره إلى وجهه وسام الشاحب وملامحه المرهقة رغم مكابرته على ألمه وتعبه فتح فمه ليقول شيئا لكن سرعان ما تراجع عما كان سيفعل فأطلق آآهه مليئة بشتى أنواع الألم وقال بهدوء بنبرة متعبة :
- ما هي أخبارك وكيف هي الأوضاع معك في المعسكر ..؟!!
فأنزل حينها وسام رأسه وعيناه لازالتا مثبتتين على عيني طارق في حركة يفعلها عندما يريد اختراق عيني الذي أمامه ليكشف كل دواخله ويفهم كل ما يخفيه عنه ، فأشاح طارق بوجهه الجهة الأخرى سريعا فهو يعلم تماما مع من يجلس وكيف سيستنتج الأمر ويفهمه بسرعة كبيرة فقال بحنق وهو على نفس حالته تلك يشيح بوجهه بعيدا :
- لا تنظر إلي هكذا يا وسام ..
ولم يلبث طويلا إلا وقد قال وسام بنبرته الموسيقية الباردة والذي يبدو بأنه نجح في اختراق أعماقه في أجزاء الثانية تلك :
- ما الذي جرى لعائلتك يا طارق .. ؟!!
نظر إليه بسرعة حين علت الدهشة ملامحه من استنتاجه الذي أصابه بكل دقة لكنه أعاد وأشاح بوجهه وقال مغيرا مجرى الحديث :
- اخبرني ما الذي جرى للقائدين اللذان قمت بمراقبتهما ولتلك المهمة السرية ..
فتنقلت نظرات وسام الباردة على جميع تفاصيل طارق وهيئته في الجلوس والذي كان يسند ظهره على الشجرة خلفه ينصب إحدى ركبتيه أمامه ويريح مرفقه عليه والأخرى يجلس عليها لا زال يشيح بوجهه عنه فضحك ساخرا من وضعه الذي يظن بأنه لا يعلم ما الذي يفكر فيه الآن وبالتأكيد عائلته ووالده بالأخص وتوأمته تلك فلا يوجد شيء قد يقلب مزاج الذي أمامه ويشتته ويفقده صوابه وحكمته في التصرف إلا عائلته التي تعني له كل شيء في الحياة ، قال بهمس ساخر تزين شفتيه ابتسامة تهكمية عندما وضع راحة يده جانب وجهه يستند بمرفقه على فخذه ينظر إلى ما يظهر من وجهه طارق الذي يشيح بأغلبه :
- سحقا لك يا طارق أي عقل هذا الذي تملكه .. !!
فنظر إليه طارق مستغربا هل يعقل بأن خطته فشلت !! وأن تقديره للأمور فشل وللمرة الأولى !! ، قال وسام ببروده الصقيعي مقاطعا لأفكاره المشتتة ينظر بتركيز إلى عينيه التي تاهت في الأفكار ينظر إليه بضياع وعلم حينها بأنه يعاني من فقدان الثقة بنفسه فعيناه نطقت بذلك قبل أن تنطقها شفتيه :
- لم أقابل كل حياتي بشخص مثلك يملك كل تلك الأبعاد في دماغه ..
ولم تزده تلك الكلمات إلا حيرة وضياع هل يعقل بأنه نجح في مهمته وعرف سرهم !! أم أنه يملك خيالا واسعا وهو ليس إلا بالمجنون كثير الشك فيمن حوله وعقله يصور له خلاف ذلك !! ، قال بهمس متسائل بعد أن وجد صوته أخيرا وببحة لا يعلم كيف خرجت مع كلماته :
- ما الذي جرى ..؟!!
هذا كل ما استطاع قوله وسؤاله وكم يخشى من الإجابة وأن تكون عكس ما تمنى وأراد خصوصا أن وسام تجاهله وكأنه لم يسمعه يسند كلتا يديه خلف ظهره وكأنه مستمتع بتعذيبه بسبب تلك الابتسامة الساخرة التي تزين شفتيه ولم يفهم ما الذي يريد فعله بداخله بالضبط بتلك النظرات الباردة ، أيريد أن يكمل إتلاف ما اُتلف من أعصابه !! أم يختبر صبره ويعلمه درسا في الهدوء واللامبالاة كعادته !! أم يضربه بالضربة القاضية التي تنهي حياته ويقر بأنه فاشل أيضا !! فقال بحدة بعد أن فار دمه غضبا وهو الذي نادرا ما يفقد أعصابه يلوح بيده في الهواء :
- وسام تحدث ولا تبقى صامتا قل أي شيء .. أي شيء وإن فشلت خطتي الفاشلة من أساسها فأنا لا يعنيني ذلك في أي شيء ..
وانتبه لنفسه وما قال بعد أن فات الأوان فهذا هو وسام يجيد اللعب بالأعصاب ويجعلك تتحدث بما لا تريد التحدث عنه ودون أن ينطق بكلمة وهو كما يبدو مستمتع وجدا بالإصغاء ، فاخفض رأسه تتخلل أنامله خصلات شعره الذهبي يمررها خلالها مرارا وتكرارا ليهدأ قليلا فلا زال تأثير كلمات والده تضرب أرجاء قلبه ودماغه دون رحمة وكم بات يصدقه بأنه مجرد ابن فاشل ، حينها شعر بالكف الباردة وكأنها لجثه ميتة حين وضعت على كتفه ولم تكن إلا لوسام الذي قال بهدوء تخلل نبرته الموسيقية :
- كم أنت عبقري يا طارق فخطتك نجحت نجاح باهر وعلمت أين هما القائدين اللذان اختفيا وعلمت أمورا لم أكن اعلمها وظنونك وشكوكك كانت صحيحة كلها وفي محلها ..
رفع رأسه حينها ينظر بضياع للذي أهداه ابتسامة دافئة صادقة رغم صغرها وقصرها إلا أنها كانت كفيلة بإشعال شعلة أمل داخل قلبه المظلم والمحطم ولم يعد يعلم حينها هل يبكي أم يضحك فرحا لسماعه لما نطقت به شفتي وسام التي نادرا ما تنطق بشيء ولا يعلم حقا لماذا يبدو له وسام اليوم متغيرا وإن كان بنسبة قليلة ، لقد أيقظ الأمل في كيانه المهتز وأعاد إليه ثقته التي هُزت بعنف ولم يقوى حينها على الكلام فشعوره حينها لا يمكن وصفه واحترم وسام ذلك الصمت الذي بالتأكيد تبع عاصفة مدمرة قد عصفت به ، قال طارق محطما الصمت بينهما وبدون تصديق وكأنه لم يسمع جيدا :
- حقا يا وسام علمت أين هما و....
وانقطعت كلماته لتكمل عينيه الحديث بدلا عنه وهو يتنقل ببصره بين عيني وسام فأماء وسام رأسه إيجابا فقد وصله المقصود والتقطت عيناه تلك الإشارات التي أطلقتها عينيه وقال بهدوء مبددا كل شكوكه :
- أتصدق ذلك يا طارق !! ، لقد صدقت ظنونك ودخلا إمبراطورية البراكين وكما كنت تتوقع بأنهما لن يدخلاها معا فالأول دخل مباشرة إليها أما الآخر فقد دخل إمبراطورية الصخور ومن هناك دخل إلى إمبراطورية البراكين وكأن شخصا ما ساعدهم على ذلك ومخططين له جيدا من قبل ..
فابتسم وسام ساخرا وقال بلا مبالاة :
- الإمبراطور جاسم خلف ذلك بكل تأكيد ..
أفاق طارق من شروده عند هذه الكلمة وقال بشرود :
- الإمبراطور جاسم ..
ونظر إلى وسام وأراد أن يتأكد من آخر شيء كاد يقتله بصمت ففتح فمه لكنه أغلقه بسرعة ودهشة عندما قال له وسام يرمقه بنظرة إن لم يكن متوهما فقد كانت نظرة إعجاب وقال بابتسامته الساخرة التي دائما ما تزين شفتيه :
- عبقري منذ قابلتك .. وأنت يوم بعد يوم تثبت لي ذلك أكثر ..
رفع وسام رأسه عاليا لتعانق عينيه السماء وقال بهدوء وبنبرته المميزة والتي تجعلك تصغي له رغما عنك لوجود تلك النغمة العجيبة فيها :
- هناك يا طارق .. هناك في الأعالي مكانك الحقيقي ..تذكر ما قلته جيدا ..
فزحفت الابتسامة الصادقة إلى قلبه قبل محياة لا يعلم لماذا لكن كلمات وسام رغم برودتها إلا أنها كانت كل ما يحتاج سماعه هذا الوقت ، وليست المرة الأولى التي يسقط فيها ويوقفه وسام ، يحار في أمر هذا الرجل فبالرغم من الظروف الغريبة التي جمعتهم وشخصيته الباردة واللا مبالية والتي كثيرا ما يفضل الاحتفاظ بأفكاره ومخططاته له إلا أنه شخص رائع لمن يعرفه عن قرب بغض النظر عن كل الغموض الذي يلف شخصيته وماضيه المجهول فهو إلى اللحظة الحالية لا يعرف قصته وسبب تواجده الحقيقي في الإمبراطورية الخضراء وهو من إمبراطورية البراكين وهذا الذي قالها له بصريح العبارة بعد التقائهم في هذا المكان بالضبط والذي لا يعلم أي واحد منهم عن الآخر أو ابن من يكون إذ أن وسام بادر بإخباره بنسبه وأنه ابن كريم أحد أبناء إمبراطورية البراكين ولم يتطرق إلى قصة والده وبأنه يعتبر أحد الخونة في إمبراطوريته بل اكتفى بأن حذره من الاقتراب منه وتكوين صداقه معه بسبب معتقداته التي التصقت به منذ صغره بأنه خطر على كل من يقترب منه إلا أن طارق رفض جميع معتقداته وتحذيره وأكد له بأن لا أحد سيعلم عن صداقتهم وستكون سطحية ليس إلا لأنهم تشاركوا سر بركة الحكمة التي لا يعلمها سواهما وتعاهدا على ألا يخبروا أحدا عنها إلا لمن يثقون به كما يثقون في أنفسهم ، ويوم بعد يوم اكتشف وسام مدى رجاحة عقل طارق وعبقريته وذكائه واستشف طارق من صمت وسام ومهاراته القتالية العالية والتي شاهده أكثر من مرة يتدرب في هذا المكان على التصويب والكثير من مهارات استخدام السيف وبعض الفنون القتالية الجسدية على أنه يعتبر أحد الأبطال والفرسان الحقيقيين الأوفياء والذي قل تواجدهم في الفترة الأخيرة إذ أنه يتنكر في لباس جندي وهو في الحقيقة بطل لا يهاب شيئا ، لا ينكر طارق بأنه صُدم في بداية الأمر من كون وسام من إمبراطورية البراكين والذين عُرفوا بمكرهم وخداعهم وحبهم للسيطرة فأخذ الشك نصيبه من قلبه حينها فلقد ظن بأن وسام من الإمبراطورية الخضراء لأنه بشعر بني وعينين عسلية ، صحيح أن شعره البني الذي يراه من بعيد يضن أنه أسود لكثافته وغمق لونه إلا أنه أخذ من ملامحهم الكثير بغض النظر عن الوسامة التي فاقتهم بكثير ، فتقصى عنه قليلا ليعلم بعدها أنه أحد جنود معسكر البلدة وهذا السبب منطقي لتواجده بينهم وهو ليس منهم إذ أنه يشعر بأن خلفه الشيء الكثير لكنه لم يبحث خلفه بل اكتفى بالصداقة الحقيقية التي جمعتهم فلم يكن وسام يعلم بأنه ابن الإمبراطور عامر إلا من وقت ليس بالكثير ، وكم يتعجب من نفسه بأن وثق به كل تلك الثقة التي جعلته يطلعه حتى على أفكاره الخاصة وبعض المشاكل الحساسة التي تحدث معه في القصر ولم يرى وسام إلا خير صديق وخير سند وخير مصغي لمشكلاته كما أفكاره ومخططاته ، يشعر بشيء تجاهه غير الصداقة يشعر بأنهم يتشاركون نفس الدماء وليس الأفكار فقط والمواقف الكثيرة التي حدثت بينهم تشهد ، لكن ذلك مستحيل فكل واحد منهم من إمبراطورية تبعد كل البعد عن الأخرى ولا يعلم ما سر هذا الشعور ، فتنهد طارق براحة وكأن جبلا كبيرا كان يحمله على كتفيه أزيح عنه ثقله وقال مبتسما بصدق :
- كم أنا ممتن لك يا وسام ..
نعم كم هو ممتن وشاكر له فهو على الأقل لم يصرخ به غاضبا أو يشككه في قدراته العقلية ويرميه بالكلمات المنقصة لقدراته وقيمته ، نهض وسام بخفة ينفض معطفه الأسود وقال ببروده الصقيعي وكأن شيئا لا يعنيه في كل ما حدث :
- هيا للقصر فورا يا طارق فيبدو بأنك خرجت ولا أحد يعلم بأمرك ..
لتعلوا الدهشة تقاسيم وجهه طارق ولا يعلم كيف لوسام أن يعرف كل تلك الأشياء هل هو مجرد تخمين يصيبه بدقة كل مره ؟! أم هل يجيد هذا الرجل الثلجي قراءة الأفكار واختراق الدواخل ؟! وكم بات يشك في ذلك ، هز رأسه بخفة مبتسما على أفكاره ونهض وقال بضيق مصطنع بعد أن عادت إليه حيويته وثقته بنفسه كما ابتسامته :
- نعم أشكرك على حسن استقبالي لذلك سأذهب من حيث أتيت ..
رمقه وسام بنظرته الباردة وتلك الابتسامة الساخرة التي تزين شفتيه وأشار له برأسه وكأنه يشير لشيء ما خلفه ، فالتفت طارق بسرعة خلفه لتسقط نظراته على خيله وعلم حينها بأن وسام يقصد غادر بسرعة ولا تنسى أخذ خيلك معك ، فرمقه طارق بضيق حقيقي هذه المرة فوسام لا يتخلى عن تصرفاته التي تثير الغضب في النفس وقال له بعد أن استدار يسير نحو خيله بخطوات غاضبة :
- وسام هذا المكان لك حق فيه كما لي أنا أيضا لا تنسى ذلك وتتصرف وكأنه منزلك ..
فجاءه الرد السريع والساخر بذات النبرة الموسيقية الباردة :
- إذا ليس من واجباتي أن أحسن استقبالك فهذا ليس منزلي كما قلت ..
فأكمل خطواته وهو ينفث الهواء من صدره كالإعصار الحارق وحاول جاهدا بأن يتجاهله ولا يرد عليه فوسام يبدو له في أحسن حالات مزاجه البارد المتقلب ووجده أمامه وكأنه ينقصه لعب بأعصابه التالفة أساسا ، فاتسعت ابتسامة وسام الساخرة واخرج السكين الصغيرة من جيب معطفه وأخذت أنامله تلعب بها بخفة وسرعة بينما يده الأخرى سجينه جيبه ، تبعه يسير خلفه بخطواته الغير مسموعة وقال بنبرة ساخرة يرمقه بتسلية :
- ما الذي جرى للأمير الحكيم يا ترى هل فقد حكمته في التصرف وبدا بفقد أعصابه ..؟!!
استدار طارق بسرعة رامقا إياه بقوة بعينان امتلأتا غضبا ما الذي يحاول الوصول إليه وسام الآن ؟! هل بعد أن خفف عنه أوجاعه يزيدها له بالضعف ؟! أم يستخف ويتسلى به ليس إلا ؟! ، فقال طارق من بين أسنانه يشد قبضتيه بقوة :
- وسام ما الذي تريد الوصول إليه بالضبط ..؟!!
فتلاشت من على وجه وسام تلك الابتسامة الساخرة وسيطر الجمود على ملامحه الوسيمة وقال ببرود وعيناه مثبتتان على عيني طارق الغاضبة والذي يتلقف أنفاسه التي أفلتت منه :
- هناك شيء ما يجب عليك رميه هنا ثم تذهب في حال سبيلك هذا الذي أريده منك فقط ..
فتنقلت عينا طارق التائهة في قسمات وجه وسام وكم بدا مشتتا وضائع فقال بهدوء :
- ما الذي تقصده يا وسام ..!!
قال مباشرة :
- الذي فهمته يا طارق يجب عليك أن ترمي غضبك وانفعالك هنا وتذهب وأنت كأنت أمير الحكمة والرزانة التي عُرفت بها وليس من تتحكم فيه مشاعره ويخلط الأمور كلها معا وينفعل سريعا ..
واستدار متوجها حيث البركة تاركا صدى كلماته تصدح في صدر الذي تركه خلفه يتخبط في متاهات مغلقة يحارب لوحده ليخرج منتصرا لوحده هذا ما أراده منه وسام أن يعي لنفسه ولا يترك أي مجال للآخرين بكسره وثنيه وتغيير مبادئه وطباعه فهكذا هم البشر لا يتوقفون ويبتعدون عنا تاركينا في حال سبيلنا إلا أن انحنينا لهم وداسوا على رؤوسنا ليعتلوا القمة ويتركونا خلف ظهورهم إن لم يكن تحت أقدامهم ، جلس وسام عند البركة بهدوء يراقب ما أخفاه الظلام عن أعينهم فيها من أعشاب ملونة تتراقص في المياه واسماك صغيرة تتحرك في مجموعات بكل عنفوان وحرية تأسر الناظر إليها وتبعث السكون إليه ، وبعد لحظات ودقائق لم تكن بالقصيرة سمع خطوات طارق متوجهة نحوه ، جلس بجانبه بكل هدوء ولم ينطق أي منهم بأي كلمة فالذي قاله وسام لطارق وصل مضمونه بالكامل إليه فيجب عليه الآن أن يهدأ ويعود إلى طبيعته السابقة ولا يسارع في المغادرة فبالتأكيد أنه سيقابل والده هناك ما أن يعود إلى القصر ويسمعه من التوبيخ ما قد يسمعه ويرى الدموع في عيني والدته وأيضا زهرة لتتخبط مشاعره من جديد ويعود إلى نقطة البداية صفر اليدين ومشوش التفكير ، يحتاج إلى الهدوء لتهدأ كل خلية عصبية في جهازه العصبي ويعود للتفكير بروية والتخطيط السليم ، طال صمتهما كما طالت أفكارهما المختلفة فكل واحد منهم يفكر في مشكلة فوسام يفكر في كلام القائد رائد وما قد قاله عن الفوضى والتخريب وعودة ماضيه الأسود الذي لم تتركه ذكراه المؤلمة حتى الآن تطارده أينما كان ، أما طارق فكان يفكر في مشاكله العائلية والأوامر التي ألقاها عليهم والده كالقنابل لتفككهم وكأنه ينقصهم تفكك وضعف في العلاقة بينهم ، لم يستغرب طارق صمت وسام القاتل إذ أنه اليوم بالذات سمع صوته كما لم قد يسمعه سابقا لطول الحديث بينهما والذي عرفه لسنين لا ينطق إلا بكلمات معدودة ، حتى أنه كان يستدير بوجهه بين حين وآخر ليتأكد من أن وسام لازال يجلس بجانبه ، فلا يصدر عن هذا الشخص أي أصوات وكأنك تجلس بجانب جدار إن لم يكن جثة لا صوت أنفاس ولا تنهيدات عفوية تخرج من صدره على تلك الأفكار التي بالتأكيد كل شخص يحتفظ بها لنفسه ولا أي شيء ، قطع طارق ذلك الصمت ينظر إلى جانب وجهه وسام الذي يقابله قائلا بابتسامة ماكرة وبنبرته المخملية ومبددا تلك الهالة الباردة التي سيطرت على الجو :
- لا بد وأن رامي سعيد للغاية بيومي العطلة ..
وختمها بضحكة غلبته في حين رمقه وسام ببرود بنصف عينه قبل أن يعود على وضعيته السابقة متجاهلا إياه إذ أنه فهم مقصده وهو أنه لا يجيد فن التحدث مع الغير بعكس رامي ذو الشخصية المرحة والذي لا يتوقف عن الحديث في كل شيء فبالتأكيد هو سعيد بأنه تخلص منه ، هز طارق رأسه بخفة مبتسما على حال وسام فما الذي توقعه منه ؟! هذه هي عادته البرود والتجاهل والهدوء بل كان يجب عليه أن يستغرب منه قبل لحظات وهو يمدحه ويشجعه ويعلمه دروسا في التعامل مع الغير واحباطاتهم على غير العادة يكتفي ببعض الكلمات فقط ، نهض طارق بهدوء فلقد تعلم من وسام الكثير اليوم وأعاد له ثقته المسلوبة بنفسه وحكمته وترويه في كل شيء ، وقبل أن يغادر توقف مصدوما من همس وسام الجاد عندما قال :
- سأذهب إلى الحدود الجنوبية يا طارق ..








نهاية الفصل , قراءة ممتعة لكم أحبتي ..
بقلم محبتكم : روح الوسن ..


روح الوسن .. غير متواجد حالياً  
قديم 18-04-20, 04:02 PM   #36

روح الوسن ..

? العضوٌ??? » 455523
?  التسِجيلٌ » Oct 2019
? مشَارَ?اتْي » 91
?  نُقآطِيْ » روح الوسن .. is on a distinguished road
افتراضي


.. الفصل الثامن والعشرون ..

.
.

[ تحدي المستحيل ]

.
.

نظر إليه بعينين متسعة من الدهشة وتعالت أنفاسه المضطربة ووسام على حالته لم يلتفت إليه يهيم بنظره في مياه بركة الحكمة وكأنه يستمد هدوئه وصموده منها فقال طارق بهمس مصدوم :
- الحدود الجنوبية لماذا .. ؟!!
فاستقام حينها وسام منتصبا واقفا أمامه فما سيقوله يحتاج إلى أن يكون هكذا في كامل استعداده وكأنه يخبره بأنه لن يتراجع ولن يثنيه أي شيء عما قال وسيقول ، قال ببرود ينظر إليه بتركيز :
- يجب أن أتفاوض مع زعيمهم لينضموا إلى الإمبراطور عامر ..
اتسعت عيني طارق بصدمة أشد من سابقتها ، ما الذي يقوله له وسام أهو يعي خطورة الأمر أم يظنها سهلة هكذا يستطيع هو لوحده فعلها وبكل بساطة ، هز رأسه غير مصدق وقال بتساؤل :
- ولماذا ينضمون إلى أبي وهي المنطقة الموجودة بين إمبراطورية البراكين والإمبراطورية الخضراء ومنفصلين تماما عن جميع الإمبراطوريات في كل شيء .. ؟!!
فتنهد وسام بعمق رافعا أنامله يفرك بها جبينه وعيناه مبددا الإرهاق والتعب الشديد الذي يشعر به وقال بهدوء :
- إنها الفوضى يا طارق سوف تعود إن لم نتحرك الآن فكما يبدو بأن الإمبراطور جاسم يسعى خلفها لأسباب مجهولة ويريد ضمها له بطرق ملتوية ..
رفع طارق يديه إلى رأسه يضغط عليه بشدة ما هذه المصائب التي يلقيها عليه وسام الواحدة تلو الأخرى ألا يكفيه مشاكله الخاصة ليزيد عليها هذه أيضا ؟!، فقال بغير تصديق :
- أي فوضى ولماذا يسعى خلفها الإمبراطور جاسم وكيف علمت بذلك يا وسام ..؟!!
حينها نظر إلى عينيه ببرود وقال بسخرية :
- الحدود الجنوبية يبدو بأنها تحوي سرا ما والإمبراطور جاسم قد عرفه لذلك يسعى خلفها ويجب أن نضمها إلى الإمبراطورية الخضراء لنتفادى المصائب والأخطار ولكي يبتعد عنها الإمبراطور جاسم رغما عنه عندما تكون في حمى الإمبراطور عامر ..
هذا الذي فهمه من القائد رائد واستنتجه من خوفه الشديد وارتباكه ، فلأجله فقط سيضحي بكل شيء وإن كان سيدفع حياته ثمنا لذلك فهو آخر شيء قد يتمسك بالحياة لكونه فيها فهو والده الذي لا يعلم كيف خرج له بعد كل هذه السنين والذي لم يسرقوه منه بعد وبالتأكيد لأنه زور هويته بهوية أخرى فهو في نظر أبناء إمبراطوريته خائن ، قال طارق مجددا وبضيق ولا يوجد أي علامة من علامات الرضا والهدوء في ملامحه :
- لكنك يا وسام من إمبراطورية البراكين وتريد ضمها إلى الإمبراطورية الخضراء ، هذه ستعد خيانة لإمبراطوريتك حتى لو كُنا في سلم وكونك جندي من جنود معسكر البلدة هذا لا يشفع لك أبدا فعلتك هذا مستحيل فلتنسى الأمر برمته ..
فلم يتلقى من وسام أي رد وملامحه الباردة تدل على أنه قرر وانتهى ولا رجوع في ذلك أبدا ومهما كان ، فقال في محاولة أخرى ليثنيه عن قراره المتهور الذي قد يفقده حياته :
- كما أن زعيمهم السيد رأفت غريب أطوار والتفاوض معه عبثا هذا ما عُرف عنه حاد الذكاء وشرس يصيبك في مقتل بشروطه التي يشترطها فهو غالبا لا يحب الحروب وسفك الدماء وله رجال منتشرون في جميع الإمبراطوريات لا أحد يعلمهم أقوياء وكلهم ذوي كفاءة عالية لا أحد يقدر عليهم ..
ولم يتلقى أي رد أيضا وكأنه يقف أمام جدار ليس إلا أو صخرة من هذه الصخور المنتشرة حولهم ، زفر الهواء من صدره كالنيران المشتعلة وعلم حينها أن الصراخ والحدة لا تجدي نفعا أبدا ومع أي شخص لاسيما وسام وقال بهدوء يحاول للمرة الثالثة بأن يقنعه بالتراجع فهو يعلم تماما ما عقوبة ما يريد أن يقدم على فعله غير الخيانة التي ستحتسب عليه هي أنه اخترق القوانين العامة وعقوبتها قد يكون السجن خصوصا كونه أحد الجنود وليس من عامة الناس أي أن العقاب أشد :
- دعنا نفكر بروية يا وسام ونجد خطة محكمة لنقوم بتنفيذها أعدك بأنني سأسعى جاهدا في ذلك وسنضمها لنا في أقرب وقت ..
هز رأسه بخفة نافيا وقال ببرود :
- ليس هنالك وقت للتفكير والتخطيط يجب أن أغادر سريعا وخلال اليومين هاذين ..
فأخذ طارق يجوب المكان ذهابا وإيابا في توتر شديد لم يشعر به سابقا يحاول بأن يجد مخرج .. خطة .. فكرة .. حل .. أي شيء قد ينفع فما فهمه من وسام بأن احدهم اخبره أو علم هو بطريقته الخاصة بتحركات الإمبراطور جاسم الغير قانونية وأن عليه أن يوقفه لكن مهلا ماذا لو قابل وسام الإمبراطور جاسم بالتأكيد أن الأمر لن يمر بسلام وهو أكثر من عرف عنه أنه يكره أن يخرج أبناء إمبراطوريته لأي من الإمبراطوريات حتى تجارهم فهو متحفظ جدا ولا يريد لهم بأن يختلطوا بأي أحد أي أن المسألة أكثر تعقيدا مما قد يتوقع ، هو لا يشك أبدا بصدق وسام وصحة معلوماته فكم كان يخبره بمعلومات غريبة مجهولة المصدر لكنها حقيقية ورآها بعينه لذلك لم يتطرق لسؤاله عمن اخبره أو كيف علم ، قال طارق بتوتر بعد أن توقف وتنهد بضيق :
- والآن ما الذي سنفعله .. ؟!!
فعاد وسام للجلوس ناصبا ركبته أمامه يريح مرفقه عليها وقال ببروده القاتل وكأنه كان يلقي مزحة ليس إلا :
- ما الذي سنفعله !! الذي قلته لك قبل قليل أم نسيت لأذكرك ..؟!!
فرمقه طارق بقوة أهذا وقت السخرية الآن ؟! تنفس بعمق مهدأ لنفسه وقال بهدوء حاول استجماعه بصعوبة :
- وسام فكر في الأمر جيدا أرجوك فهذه ليست لعبة أطفال لتضمن نجاحك وليست ساحة قتال وحرب لتضمن أيضا فوزك وانتصارك فيها هذه خطط مرسومة وتحركات مدروسة خلفها عقول مدبرة قد لا تفكر في أي شيء إلا مصالحها الشخصية ..
فتنهد حينها وسام بحدة إذ أن الخوض في الحديث أكثر أصبح مهلكة له ولأعصابه وكم شعر بالندم بإخباره لطارق بما سيقدم عليه فهو يفكر ويخطط ويعمل لوحدة دائما لكن الآن وفي ظروف قاسية وصعبة كهذه يجب عليه أن يطلعه على مخططاته ، فقال بنبرة هادئة بعد أن استقام مواجها له :
- طارق أنا أخبرتك فقط لتعلم ما الذي يجري في الخفاء وتأخذ الحذر والحيطة فأنا لا أثق بشخص غيرك في إعادة السلام بيننا مجددا إن اندلعت الحرب وعمت الفوضى من جديد فلا أحد يستطيع فعلها حينها أحد سواك ..
هز طارق رأسه نفيا بضياع ويشعر بكم هائل من المسؤولية وُضعت على عاتقيه ، كم هو شاكر وممتن لوسام بأن وثق به لتلك الدرجة بأنه هو من يستطيع إعادة السلام بين الإمبراطوريات إن حدث أي شيء لكنه يشعر بالخوف نعم خوف يتملكه ولا يعلم ما الذي يخيفه في الموضوع بالضبط فكل شيء حوله أصبح يخيفه ، فشعر حينها طارق بكف لامست كتفه فنظر إلى وسام الذي ربت على كتفه بخفة ناظرا إلى عينيه وقال بهمس :
- لا تفكر كثيرا ولا تقلق يا طارق فأنا معك سأسعى جاهدا لكي لا تعود الحرب من جديد وهذه أول خطوة سأقدم عليها أنا بأن أتوجه إلى الحدود الجنوبية وأتفاوض معهم وأنت عليك بالباقي فإمكانياتك ومؤهلاتك أكثر وأقوى من إمكانياتي ومؤهلاتي ..
فلم يشعر طارق بنفسه إلى وهو يعانق وسام بقوة وكم كان عناقا صادقا اخويا مبني على ثقة وتضحية من الطرفين ، فعلم طارق حينها أن في الحياة مواقف صعبة يجب على الشخص أن يتحلى بالصبر والقوة والشجاعة ليقدم عليها بكل شجاعة واندفاع ولا يقف خائفا من المجهول مشوشا وتائها متفرجا لمن حوله لا يتقدم خطوة ويساعد غيره ولا هو يعود إلى الخلف ويترك المجال لغيره بل يقف في المنتصف كالأبله إلى أن يخسر ويفقد كل شيء حوله وأمام عينيه ولا ينفعه الندم حينها ، أبعده وسام عنه بخفة فهو ليس معتاد على هذه المشاعر الأخوية المحبة أبدا ، وقال وعينيه تتنقل في السماء فوقهم :
- لقد تأخر الوقت عليك العودة إلى القصر قبل أن يعلموا بغيابك ..
هز طارق رأسه إيجابا ولم ينطق بكلمة فتوجه نحو حصانه امتطاه في صمت وغادر بهدوء لكنه سرعان ما التفت خلفه بدهشة ليجد وسام يمتطي حصانه أيضا يسير خلفه فقال وسام وكأنه توقع ما الذي سيقوله :
- لن أتركك وحدك تذهب إلى القصر ودماغك لازال مشوشا ..
فابتسم له طارق رغم أنه أحس بأن وسام يسخر منه فهو ليس طفلا يحتاج من يرافقه إلى منزله لكن لا بأس فهو قد لا يراه مجددا بما أن الأوضاع في تدهور ، انقبض صدره لمجرد الفكرة فلا يتخيل بأنه سيفقد وسام والذي كان له نعم السند والأخ فهو لا يعتبره سوى صديقه الوحيد وأخاه الأكبر منه الذي يلجأ إليه وقت ضعفه وانكساره ليعيد ترميمه من جديد ، شد قبضتيه بقوة على لجام خيله المزركش ويشعر بكم هائل من الاختناق واحتباس دموع العجز في عينية وكم حسد حينها شقيقته زهرة عندما تعبر عن كل ما في قلبها بدموعها فيا ليت الرجال لهم نفس قدرة النساء في البكاء بدون حدود ولا قيود عله يخفف ما يشعرون به ويحملونه في صدورهم ، صهل برق بقوة بسبب ضرب وسام له مما جعل طارق يلتفت إليه مجددا باستغراب لكن ليس خلفه بل أصبح حينها أمامه بسبب انطلاق حصانه فقال وسام بنبرته الساخرة التهكمية يرفع صوته لكي يسمعه من أصبح خلفه :
- هل تسير على سلحفاة وأنا لا أعلم .. ؟!!
فزم شفتيه بعبوس فوسام لا يترك له الوقت ليحزن قليلا ولا ليفرح أيضا بل يقطع عليه مشاعره بسخريته الدائمة منه ، لكز حصانه هو الأخر لينطلق به حصانه سهم كالسهم يطير في الهواء وقال بتحدي :
- لن يسبق برقك سهمي ..
واتبعها بضحكة عالية حماسيه عندما انطلق الحصانان يسابقان الريح يشقان الطرقات مسرعين وكم تبدد حزن طارق وخوفه على وسام لمرح وحماس بينما فضل وسام كبت كل ما يشعر به داخله ولا يسبب في حزن احدهم وتعاسته كما كان يوصيه فارس دائما ..
وصلا في وقت قياسي إلى حدود القصر وفضل وسام بأن يتوقف بين الأشجار خلف القصر ليضمن دخول الذي لم تبتعد عسليتيه عنه بسلام ولازال يرمقه بسخرية ، قال طارق بضيق من تلك النظرات الساخرة بعد أن نزل من على ظهر حصانه سهم :
- لقد فزت بمحض مصادفة يا وسام فلا تغتر بنفسك كثيرا ..
فضحك وسام بخفة ضحكة قصيرة عندما صهل برق يرفع قوائمه الأمامية ليهز رأسه بكبرياء تطايرت معه خصلاته السوداء في الهواء وكأنه يثبت له أنها مهارة وليست مصادفة كما قال ، منظر جعل التي ظهرت من خلف أحد الأشجار تحدق بهما بصمت فقد اكتملت الصورة الأسطورية للفارس وفرسه ، فوسام أخذ من الوسامة الشيء الكثير رغم برودة ملامحه وتجهمها دائما فما بالك لو ابتسم أو ضحك !! فقال طارق بغيض ينفض بدلته بضجر :
- مغرور أنت وحصانك ..
حينها رفع وسام نظراته بالتي لم تفارقه نظراتها سريعا والتي أحس بها منذ أتت وكانت على نفس حالتها ساكنة وصامتة هذه ليست المرة الأولى التي تقابله لكنها نادرا ما تراه وكم هي معجبة بشخصيته القوية والصلبة والتي تعاكسها تماما ، فقطب طارق حاجبيه منزعجا إذ أنه كان يعطيها ظهره ولم ينتبه لوجودها وقال :
- وسام أنا أحدثك ما بك يا رجل هل كل هذا غرور بفوزك علي ..
وعندها سمع طارق الصوت الأنثوي الرقيق من خلفه قائلا بنبرة باكية :
- طارق ..
فالتفت بسرعة ليعلم حينها فيما كان ينظر إليه وسام وقال باستغراب :
- زهرة لما أنتِ هنا .. ؟!!
فركضت نحوه لترتمي في حضنه باكية وقالت بتقطع بسبب بكائها :
- لقد قلقت عليك يا شقيقي أين ذهبت ولماذا لم تخبرني ..؟!!
فمسح على شعرها بخفة وقال يهمس في أذنها :
- أنا بخير يا زهرة وها أنا ذا أقف أمامك لا داعي لكل هذا القلق ..
فابتعدت عنه مجبرة لنفسها إذ أنها تذكرت وجود وسام خلف شقيقها مباشرة فأخذت تمسح دموعها بإحراج وقال لها طارق بعتاب :
- لا أريد أن تأتين إلى هنا لوحدك يا زهرة مرة أخرى فالمكان خال ولا يوجد إلا بعض الحرس وأنا أخاف عليك منهم ..
أومأت برأسها إيجابا وقالت بهمسها الباكي :
- وأنت لا تذهب هكذا دون أن تخبرني وإلا لن استمع لك ولأوامرك أيضا ..
فابتسم لتوأمته وشقيقته الوحيدة للطفلة المشاغبة التي لن تكبر مهما بلغت بهما السنين فقال بابتسامة ماكرة :
- أيتها الطفلة أنا رجل متى ستفهمين ذلك ..!!
هزت رأسها بقوة لتتطاير معها خصلاتها الذهبية حولها لتزيدها جمالا ورقة وتكّون للناظر لها الصورة الحية للزهرة الجميلة الفاتنة وهي ترتدي فستانا ورديا منساب على جسدها بكل عنفوان لا يناسب سواها تناغم لونه مع خداها المتوردان من البكاء وقالت برقة بالغة :
- عندما تفهم بأنك جزء مني اقلق عليك دائما عندما تغيب عنا ..
فطوقها بذراعيه وقبل رأسها وقال لها مبتسما :
- حسنا حسنا فهمت يا زهرتنا الصغيرة ..
فأفلتت منها ضحكة رقيقة وهادئة لا تعلم ما الذي ستفعله إن فقدت شقيقها فهي بالتأكيد ستفقد روحها حينها ، التفت طارق سريعا خلفه عندما سمع خطوات برق مبتعدة ونسي تماما وجود وسام معهم كل ذلك الوقت فابعد زهرة عنه وقال بهدوء :
- زهرة اسبقيني للقصر قليلا واتبعك ..
لكنها هزت رأسها نفيا فهي لم تصدق بأن رأته أمامها لتطمئن عليه لتذهب الآن وتتركه خلفها أي جنون هذا ، فتنهد بقلة حيلة من عنادها وأسرع الخطى نحو وسام الذي ابتعد عنهم وقال صارخا باسمه ليتوقف :
- وسااام انتظر ..
فتوقف وسام ينظر إليه ببرود تحته وقال طارق بقليل من الخجل يتلقف أنفاسه بعد أن وصل عنده :
- أنا آسف لم اقصد ما...
قاطعة وسام بهزة خفيفة من رأسه أن لا بأس فقال طارق بعد أن نظر إلى عيني وسام بجدية :
- احذر يا وسام من السيد رأفت ومن الحدود الجنوبية بأكملها ..
أماء برأسه إيجابا دون أن ينطق بكلمة فقال طارق بهمس حزين :
- اعتني بنفسك أرجوك ولا تتهور كثيرا فإن وجدت الأمر صعب للغاية لا تكمل فقط انسحب وسنرسم خطة أنا وأنت سويا لننالها بذكاء ..
قال وسام ببرود بعد صمت :
- أشكرك ..
وعندما هم بالمغادرة ساحبا لجام برق ليتحرك استوقفه مجددا قائلا :
- لا أريد أن أخسرك يا وسام فتريث قبل كل خطوة تخطوها أرجوك ولا تضغط على نفسك لأجلنا وتخسر الكثير بسببنا ..
قالها والألم يلف كيانه فما سيفعله وسام لأجلهم سيعد قفزة كبيرة لهم هم الإمبراطورية الخضراء وخصوصا عائلة الإمبراطور عامر وسيخسره الكثير فأول شيء سيكون خائن في نظر أبناء إمبراطوريته وسيكون منبوذا أكثر مما هو منبوذ عليه الآن ناهيك عن إذا فشل ولم ينجح فذلك بالتأكيد سيرميه في الهاوية ودون رحمة سيخسر كل شيء وأولهم حياته وهو يضحي بها للغير دون اكتراث ، كم يشعر بالخزي من موقفه هذا وهو الأمير ابن الإمبراطور عامر يقف كالمتفرج بينما الجندي البسيط ابن الإمبراطورية المجاورة لهم هو من ينقذه وينقذ والده كما كل أبناء شعبه وزد على ذلك سيوسع لهم أراضيهم ويزيد من مناصريهم وأتباعهم ليكونون قوة لا تهزم إذا نجح وانضمت الحدود الجنوبية لهم فلطالما عرفوا بكفاءة أبناءهم وقوة جيشهم ووفرة العتاد والسلاح عندهم أي أنهم صفقة لا تفوت وفرصة لا تعوض ، حينها ابتسم وسام واستشعر طارق مدى الحزن العميق في تلك الابتسامة الباهتة والملامح الشاحبة والذابلة مما جعل صدره ينقبض وبقوة وقال بنبرة هادئة لفها الحزن والألم ولأول مرة يسمع طارق هذه النبرة الموسيقية المتألمة التي تعزف لحن الألم والأسى بشتى أنواعه من وسام حين قال :
- لن أخسر أكثر مما خسرته في حياتي يا طارق ثق بذلك ..
فقط وغادر بعد أن همس بالوداع مخلفا دمارا وحطاما خلفه وتساؤلات لا حصر لها ، ما معنى الذي تفوه به وسام هل فقد الشيء الكثير في حياته وهذا لا يعد شيئا مقارنه بها ؟! وهل وصل به الأمر لهذه الدرجة بأن يرمي بنفسه للتهلكة دون اكتراث لأنه بظنه لن يفقد شيء ويخسره لأنه خسر كل شيء سابقا ؟! ، جلس على الأرض مستندا على ركبتيه يضم رأسه بين يديه يشعر برأسه قليلا وسينفجر من التفكير الكثير ، لماذا لا يصل لحل يرضي الجميع ويساعدهم ويخرجهم مما هم فيه ؟! لماذا يعجز عن فعل أي شيء الآن ؟! لماذا سمح لوسام بالمغادرة ونسبة نجاحه أقل بكثير من نسبة فشله ؟! بالرغم من تأكده بأنه سيتحدى الجميع وسيفعل المستحيل لأجل أن يخرج منتصرا في معركته إلا أنه سيشعر بتأنيب الضمير إذا لحقه أذى ، لكن هل سيضحي بصديقه الوحيد بهذه الحجة الضعيفة ولأجل الإمبراطورية ووالده الذي لن يعترف بمواهبه وقدراته في التخطيط ويقدرها مهما فعل ليقدر ما فعله صديقه لأجلهم !! ، ابعد يديه عن رأسه عندما التفت ذراعي زهرة حوله تبكي بصمت لحال شقيقها الذي لا تعلم ما الذي يجري معه اليوم وهو لا يبدو لها على طبيعته أبدا تشعر به يعاني ويتألم ولكن لا يتحدث وكم يؤلمها ذلك أكثر ، فتنهد تنهيدة مليئة بالألم وقال بهمس :
- كم أشعر بأنني عاجز يا زهرة عاجز عن فعل أي شيء ..
فزادتها كلماته المتألمة بكاء ولم تعلم بماذا ترد عليه وما هي الكلمات المناسبة لتقولها له فاكتفت بالبكاء ، نهض ونهضت معه وقال عندما حوط كتفيها بذراعه :
- هيا يا زهرة توقفي عن البكاء أرجوك ودعينا ندخل إلى القصر ونترك كل شيء في وقته ولا نستبق الأمور ..
فسارا معا متوجهان للقصر وتوقف طارق قليلا والتفت حيث مكان وسام الخالي الذي كان فيه وقال بهمس متألم :
- أنا أثق بك يا بطل فعد سالما لنا أرجوك ..







نهاية الفصل , قراءة ممتعة لكم أحبتي ..
بقلم محبتكم : روح الوسن ..



روح الوسن .. غير متواجد حالياً  
قديم 20-04-20, 09:57 PM   #37

روح الوسن ..

? العضوٌ??? » 455523
?  التسِجيلٌ » Oct 2019
? مشَارَ?اتْي » 91
?  نُقآطِيْ » روح الوسن .. is on a distinguished road
افتراضي

.. الفصل التاسع والعشرون ..

.
.

[ العهد ]

.
.

في غرفة مغلقة بإحكام قد غطت جدرانها أقمشة رمادية رسمت عليها رسومات ونقوش امتزجت باللونين الفضي والكحلي في تصميم غريب وكأنه يحفظ الخصوصية وتوفير السرية التامة ، لا تتسلله ولا حتى أشعة الشمس فحتى النافذة الزجاجية الكبيرة المتصلة بشرفة كبيرة غطت ستائرها كل الضوء المنبعث من أشعة الشمس التي بدأت تصعد وتظهر للعنان في السماء ، تتوسط الغرفة طاولة كبيرة مغطاة بالجلد الأسود ويقع أعلى الطاولة ثريا كريستالية مليئة بالشموع لتسقط ضوئها على الورقة الكبيرة الموضوعة على الطاولة والتي رسمت فيها الإمبراطوريات الأربع بألوان مختلفة ليسهل التعرف على كل جزء منها ، قال الذي كان يمسك بعصا خشبية يشير بها على الخريطة يقف أمام الشخصين الآخرين :
- يجب علينا تعزيز مناطق الحدود بالحراسة والدعم للأسر ..
وأشار لمناطق صغيرة أخرى على الرسم وقال :
- في هذه المناطق الصغيرة المنفصلة عن الجميع بدأت الفوضى تعم بسبب قلة المؤن وبدأ الناس فيها بالثورات على الإمبراطوريات يطالبون بحقوقهم ..
بعدها اخذ يحرك العصا الخشبية يمررها على الخريطة مصدرة صوتا مزعجا إلى أن توقفت عيناه كما العصا على الحدود الجنوبية وصمت وملامحه تصلبت بشكل مفاجئ فقال جميل بضيق :
- سحقا لهم كل هذا يجري في الخفاء ..
فرد عليه مروان بنبرته الحازمة التي لم تخلو من القلق والحنق :
- لا ولا يريدون أن يعلنوها بصريح العبارة بل يستمرون في تناقل الأسلحة بالخفاء أيضا ، بصراحة لقد صُدمت من أفعال بعض القادة كيف يجرؤن على ذلك ..!!
ضحك جميل ساخرا وقال :
- يريدون الحروب من جديد وهم أكثر من عانى منها سحقا لعقولهم المريضة أكل هذا لأجل المال والسلطة .. !!
حرك مروان رأسه لا زال وقع تلك الأخبار والمعلومات السرية التي ألقاها عليهم رائد يفتك برأسه ولا زال غير مصدق ما سمع ، قال بهمس :
- يستعينون بالتجار لأجل نقل كل ما يحتاجونه بينهم من عتاد وغيرها يا لا وقاحتهم ..
قال جميل ينظر في عيني مروان البنية كما لون شعره والتي تثبت كونه ابن من أبناء الإمبراطورية الخضراء ولكن لظروف اضطرتهم ثلاثتهم قاموا بتزوير هوياتهم الحقيقية وهو الآن يعتبر من أكبر التجار وابن إمبراطورية الصخور :
- كن حذرا يا مروان فأنت تتعامل مع التجار طيلة الوقت لا تنخدع بتجارتهم وتروج لها وفي النهاية يظهر بأنها مجموعة سيوف وأسهم تساعد في الخراب والدمار ..
أماء برأسه إيجابا وارتسمت على ملامحه الحزن وقال بنبرة متألمة تنطق مرارة :
- لا تقلق عليّ يا جميل من هذه الناحية فأولئك الأوغاد لم يقصروا مع من اعتبره ابني وقاموا بتشويه سمعته بطريقة ملتوية لا تخطر على البال حتى ، ليكسروني قبل أن يكسروه ..
أطلق شتيمة قاسية وهو يشد قبضتيه والألم يعتصر قلبه حين تذكر ملامح ابنه رافع والذي دخل عالم التجارة بكل ثقة ومرح وإصرار لينشهر اسمه في السوق في بضع شهور فقط ، وكم أسعده ذلك فهو شعور لا يمكن وصفه عندما ترى أبنائك أو من تعتبرهم في منزله أبنائك يخطون خطاك ويتبعون طريقتك ويحبون ما تحب ، وما أشده من شعور عندما ترى ابنك مكسورا مسلوب القدرة والثقة ومغدور من أعز شخص عليه ، ربت جميل على كتف مروان يواسيه فجميل ومروان ورائد أصدقاء منذ سنوات كثيرة ولم تفرقهم مفارقات الحياة وصعابها التي بعثرتهم بل ظلوا أصدقاء أوفياء لبعضهم حتى بلغوا ثلاثتهم الأربعين من العمر وهم يفنون كل قواتهم وشبابهم لأجل نشر الأمن والسلام بين الإمبراطوريات كلها ، قال جميل بابتسامة حزينة يشعر بمدى الحزن والألم الذي يلف كيان مروان :
- كيف هم أبنائك وكيف هو حال زوجتك ..؟!!
فضحك جميل على نفسه وأكمل قائلا :
- كان يفترض بي سؤالك هذا السؤال منذ تقابلنا وليس الآن ونحن سنودع بعضنا البعض ..
ورمق بمكر الطرف الثالث والساكن سكونا مرعبا وكأنه اختفى وتلاشى وقال ساخرا :
- أرجوك اعذرني يا مروان فهذا كله بفضل الذي استدعانا استدعاء سري مستعجل ولم يتوقف عن قراءة خطاباته المرعبة وخططه المستقبلية المجهولة فأفقدنا حتى عقولنا ..
فنظر مروان إلى رائد المقصود بسخرية جميل لكنه جامد مكانه لم يتأثر ولم يرفع حتى نظراته بهم ، هائم نظره في الخريطة تحته ومركزا عينيه السوداء التي سيطر عليها وجوم كئيب في منطقة معينه ولم يغيرها ، ابتسم مروان شاكرا لجميل وقال :
- لا تقلق لا تقلق يا صديقي معذور دون أن تبرر فأنا اعلم الناس بهذه الحالة البائسة وهم كلهم بخير ..
فتبادلا ضحكة مبددين الهم والأرق الذي سيطر عليهم ورفعوا أعينهم بالذي لم يشاركهم في شيء وكم بدا شاردا متألما فقال مروان بهدوء :
- رائد لا تشغل تفكيرك كثيرا فنحن بجانبك ..
وقال جميل يثبت صحة كلام مروان :
- ولن نتخلى عن الإمبراطوريات جميعها وسننقذها من الدمار والفوضى كما فعلناها سابقا مع الإمبراطور عادل هذا ما تعاهدنا عليه سابقا وسنظل نبذل قصارى جهدنا لحماية ذاك العهد ..
حينها رفع رائد رأسه ونظراته بهم وارتسمت على شفتيه ابتسامة باهتة وقال بهمس مكسور بعد صمت دام للحظات سيطر عليهم :
- يريدون قتلي مرتين ..
فعلت الدهشة ملامح من يقفون أمامه ولم يفهموا ما الذي يقصده بأنهم يريدون قتله ، ومن هم !! وهل هو مهدد فعلا من قبل أحدهم !! ، ألجمتهم الدهشة والصدمة فرائد شخص كتوم لا يتكلم إلا بخطط وأوامر ونصائح ولم يشكي لهم يوما هما لكنه وعلى ما يبدو تحمل أكثر مما قد يستوعبه قلبه فباح لهم ، قال مروان بتساؤل بعد أن أفاق من صدمته :
- من هم يا رائد ..؟!!
واتبع جميل بقوله :
- ولماذا يريدون قتلك هل كشفوا هويتك الحقيقية .. ؟!!
انزل رائد بصره وقال وهو ينظر إلى الخريطة وبالتحديد الحدود الجنوبية :
- من هنا بدأت الفوضى قبل أكثر من عشرون عاما ومن هنا يريد جاسم بدأها من جديد ..
رفع نظره بهم بعد أن طال صمتهم ويعلم تماما بأنهم تاهوا في متاهات التفكير والتساؤلات وقال بعد ضحكة صغيرة ساخرة :
- الإمبراطور جاسم يسعى خلف الحدود الجنوبية ويبدو بأنه علم بالسر ..
فلم يستطيعوا حينها منع شهقات الصدمة والاستنكار التي خرجت من حناجرهم فأخر ما كانوا يتوقعوه هو معرفة الإمبراطور جاسم بالسر المخبأ في الحدود الجنوبية فأكمل رائد يسرد لهم آلامه دون رحمة :
- يريد قتلي بالبطيء بأن يضم الحدود الجنوبية بأكملها له ، وكم بت أخشى بأنه بدأ يشك بهويتي الحقيقية ويريد أن يراقب تصرفاتي وردود أفعالي بعد أن أعلم بالخبر، يعلم ما الذي تعنيه لي الحدود الجنوبية فهي الأرض التي ولدت وتربيت وترعرعت فيها وأكملت باقي حياتي بعد زواجي فيها أنا وزوجتي التي أعادت لي حب الحياة في قلبي بعد أن كدت افقدها وأنجبنا ابننا فلذة كبدي في أرضها لذلك خبأت السر فيها ولم أعتقد للحظة بأنه قد يعلم بالسر ..
فتقدم منه جميل وعانقه يخفف الألم الذي يعتصر قلبه يربت على ظهره بقوة يريده أن يتماسك أكثر فلا يخفى عليه نبرة الألم والانكسار والحزن في نبرته ، فتنهد رائد بألم وسحبه جميل معه ليجلس على الأريكة وناوله كوب ماء ليهدأ ، جلس مروان مقابل لهم وقال بعد تفكير :
- وماذا سنفعل الآن ؟! يبدو بأن وجهتنا ستتغير إلى الحدود الجنوبية ..
أماء رائد نافيا وقال بهمس :
- لقد كلفت وسام بهذه المهمة ..
فعلت الدهشة وجوههم مجددا ويبدو بأن هذا اليوم يوم تلقي الصدمات وارتسام الدهشة على وجوههم وقال جميل باستنكار :
- وسااام ..!!
قال رائد مباشرة :
- نعم وسام فهو لازال يعتبر ابن كريم من إمبراطورية البراكين وسيستطيع فعلها بالتأكيد ..
فقال جميل والفكرة لم ترقه :
- لكنه ....
وصمت قليلا وقال بهمس متردد وكأنه يخشى أن يسمعه أحد :
- لكنه ابنك يا رائد لا تلقي به إلى التهلكة فالحدود الجنوبية لا أحد يعرف أسرارها وغموضها فهي منعزلة تماما عن الجميع منذ غادرتَها للعيش هنا ..
ابتسم رائد عندما قال جميل ابنك وكأن سمعه لم يلتقط إلا هذه الكلمة التي حرم منها وحرموه من ابنه ومن سماع كلمة أبي من فمه وصنعوا منه أله للحرب والقتال فقط خالي من المشاعر والإنسانية أيضا ، ولا يلومه أبدا بل يلوم نفسه والظروف التي سيرتهم على هذا الطريق المفترق ليحكم عليه بالابتعاد وعدم السؤال ويكتفي بالمراقبة من بعيد وفي الخفاء فقط ، قال مروان وهو يضع يده على ذقنه مفكرا :
- وكيف سيفعل ذلك ..!!
قال رائد بهدوء ينظر إلى يديه المتشابكة أناملها الطويلة ببعضها البعض :
- لقد طلبت منه التفاوض مع زعيمهم ..
قال مباشرة :
- تلك مخاطرة ومغامرة ماذا لو فشل ..؟!!
ولم تنطق شفتيه بأي كلمة فهذا أكثر شيء يخاف حدوثه ووسام أمله الوحيد بأن ينجح بالتفاوض وينضمون إلى الإمبراطورية الخضراء ليضمن ابتعاد الإمبراطور جاسم عنها وبذلك سيحمي السر الدفين بين طيات أراضيهم ، وعندما لم يرد رائد على تساؤلاتهم علموا مدى وقع الأمر على قلبه وأنه ليس بالأمر السهل وأنه لم يلجأ لوسام ابنه إلا أنها قد أقفلت الأبواب كلها في وجهه ولم يبقى له غير هذه الطريقة التي كم باتوا يخشونها ، نهض جميل وسار بخطى واهنة يريد أن يبتعد قليلا لربما يجد فكرة أفضل فعودة وسام هناك تعني الكثير من المخاطر التي ستلحق به فهو يعلم بكل ماضيه والذي قاساه سابقا وكيف كاد يجن ويفقد صوابه بعد موت فارس ودخل في حالة من الهستيريا المرعبة لكنهم انقضوه في آخر لحظة وجلبوه إلى الإمبراطورية الخضراء دون علمه بخطة ذكية ليلتحق بمعسكر البلدة والذي كان بالأساس فكرة رائد ليكون ابنه بقربه ، فتح الستارة قليلا لتتسلل أشعة الشمس مبدده كل ذلك الجو المتوتر فقال باندهاش لم يستطع إخفائه :
- يا إلهي إنه الصباح .. !!
فقال رائد بهدوء :
- أعتذر على تأخيركم كل هذا الوقت لكنه كان يتوجب علي إخباركم بكل المستجدات التي تصلني يمكنكم الذهاب الآن ..
نهض مروان وربت بخفة على كتف رائد وقال بابتسامة :
- لا داعي للاعتذار وشكرا لك على كل شيء ..
ثم صمت لحظة وأكمل قائلا بعد أن اعتدل في وقفته :
- ولا تقلق بشأن وسام فإن حدث له أي أمر سوف نكون أنا وجميل بجانبه ولن نتخلى عنه أنا أعدك فنحن نعتبره كابن لنا ..
فتنقلت نظرات رائد بين مروان الذي يقف أمامه وجميل الذي يقف خلفه قرب النافذة ليهز الآخر رأسه إيجابا مؤكدا ما قال فارتسمت على شفتيه ابتسامة صادقة وهدأ أخيرا ، قال بامتنان :
- أشكركم ، أشكركم حقا يا رفاق ..
فودعهم بعدها بعد أن تأكد أنه لم يلحظ أحد دخولهم لمنزله وغادرا بأمان ، عاد لمكتبه وأعاد كل شيء كما كان قبل قدومهم يشعر بوحشة تسكن قلبه لم يحس بها سابقا رغم أنه كان يعيش لوحده ولسنوات طوال لكنه كما لو أنه بات متيقنا بفقده لابنه وسر ابتسامته في غربته التي تنهش روحه ، ذهب إلى غرفته وفتح خزانته واخرج له ملابس مريحة كل ما يريده الآن هو حمام دافئ وأن ينام بسلام وكم هو شاكر بأن اليوم عطلة فهو قائد لإحدى الفرق في جيش الإمبراطورية الخضراء، دخل الحمام وأطفأ كل النيران التي اشتعلت بصدره بالمياه فهذا هو تأثير المياه عندما تضرب برذاذها كل جسمك لتستعيد بعدها نشاطك وحيويتك ، انتهى من حمامه بعد ما يقارب النصف ساعة يعلم بأنه وقت طويل جدا للاستحمام لكنه كان يرتجي الهدوء به ، لبس ثيابه وأخذ يجفف شعره الأسود بالمنشفة ورماها على سريره بإهمال وكان ينوي أن يذهب ليعد لنفسه كوب قهوة لمزيد من الاسترخاء والهدوء والسكينة والراحة فرأسه لا زال يشعر بأنه يؤلمه ، خرج من غرفته ومر بباب مكتبه ليتوجه مباشرة نحو المطبخ لكن عظامه تصلبت ولا يعلم لماذا لكن قلبه نبض بانفعال شديد استدار برأسه فقط لينظر داخل مكتبه والذي غلبه الظلام فشعر بحركة أحدهم رغم خفوتها إلا أنه سمعها ، دقق النظر ليتراءى إليه طيف أسود لشخص طويل وعريض ، تنفس بعمق مهدئا نفسه فلا مجال للهروب الآن بل لا بد من المواجهة وكم يستغرب من الذي استطاع دخول منزله المؤَمن بكل وسائل الأمان فلا يمكن لأحد اختراقه ، تنقلت نظراته المتوجسة في تلك الهيئة التي لا تدل إلا على أنه رجل محارب ، اتسعت عيناه بصدمة من الذي كان يعتقد بأنه آخر شخص سيقابله فقال الذي اقترب منه بنبرة متهكمة اتضحت له ابتسامته الساخرة التي تزين شفتيه :
- حتى متى كنت ستستمر في حمامك هذا .. !!
وخرج له لتسقط أضواء الشموع عليه كاشفة عن ملامحه الوسيمة فقال رائد بعد أن وجد صوته والصدمة والدهشة علت ملامحه :
- وسام .. !!
وصمت وكأنه غير مصدق أنه يراه أمامه ولا يزال تحت تأثير الصدمة فقال وسام بهمس وقد لمعت عينيه العسلية :
- مرحبا أبي ..
وكسرت هذه الكلمات أو بالأصح كلمة أبي من فم ابنه كل تلك الصدمة بالرغم من برودها إلا أنها كانت كافيه لإشعاله ، تقدم نحوه دون حتى أن يسأل كيف دخل مع كل تلك الحراسة ؟! وما الذي يريده في الصباح الباكر ؟! ولماذا هو هنا فهو خطر عليه ؟! كل ما كان يريده هو رؤيته وكأن ذكراه اليوم نبشت كل أوجاعه ، سحبه إليه وضمه بقوة إلى صدره وكم بدا سعيدا ومتألما جدا في نفس اللحظة عندما ضم جسد وسام البارد والأشبه بكونه جسد جثه قد فاضت روحه منه ، فقبل رائد رأس وسام ولم ينتظرها منه فوسام لم يعتد على هذه الأمور من احترام وتقدير للوالد ولا يلومه أبدا بل هو شاكر كونه رآه والآن أمامه ، أبعده عن حضنه وحوط بكفيه وجه وسام يتلمسه بأنامله والذي بالرغم من وسامته شاحب جدا وهالات سوداء بسيطة ظهرت أسفل عينيه وكم ألمه قلبه فلقد علم بأن ابنه يعاني من الضغوط حتى أنه يبدو لم ينام ليومان أو أكثر ناهيك عن الأكل القليل ، تأمل عيناه العسلية وشعره البني ووجهه الوسيم وتذكر حينها زوجته عنان وأم وسام ، لقد أخذ الكثير منها فهو تزوج من الإمبراطورية الخضراء المتميزون بالعيون والشعر البني لكن وسام أخذ عينا والدته العسلي والقريب للاصفرار بلمعتها الغريبة وكم شابهت ملامحه ملامحها الفاتنة ، سيطر الحزن عليه وعاد ليقبل ابنه وكأنه طفل صغير وليس شاب يبلغ من العمر الثامنة والعشرين ، فهذا كل ما يريده بأن يخبئ وسام في صدره ويبقيه بقربه ويهرب من هذا العالم بأكمله ويترك الإمبراطوريات لتحترق ، فما أسوأه من شعور عندما تضحي بأغلى ما تملك لأجل الآخرين والمصلحة العامة ولكي لا يعيش أحد ما عاشه هو من ألم وحزن وتفكك ، بينما كان وسام هادئ وبارد وهو يرى كل ذاك الحب والشوق في عيني والده الحقيقي ومن بقي له في هذه الحياة البائسة ولا يفهمه أو بالأحرى لم يعتد على هذه المواقف والمشاعر الجياشة ، هو فقط يشعر بعض الأحيان بأن هناك جزء في صدره ينبض ويؤلمه ذاك النبض إذ أنه لا يعلم لماذا يفعل ذلك !! ، سحبه رائد لداخل المكتب وأجلسه على الأريكة ووسام منصاع له بالكامل وقال بنبرة متلهفة :
- سأعد لك القهوة يا بني واتي حالا ..
لكن وسام هز رأسه بخفة نافيا وقال بهمسه ذو النغمة الموسيقية الخافتة :
- ليس لدي وقت وقد أؤذيك بمجيئي المفاجئ لك ..
وصمت لحظة ثم أكمل :
- فقط أنا أردت أن أخبرك بأني ذاهب إلى الحدود الجنوبية اليوم ..
تنهد الأخر بألم ومسح وجهه بكفيه وجلس بجانبه ، قال بحزن :
- أرجوك اعذرني يا بني فأنا فاشل ، والد فاشل وبجدارة ..
نظر له وسام باستنكار وقال بنفس نبرته الهادئة :
- لا تقل ذلك يا أبي ..
فأسند رائد رأسه بيديه ينظر للأرض وقال بنبرة متألمة وشعور الخيبة يقتله :
- أنا أعلم تماما بأني ألقيك في النار بيدي وأنت نور عيني التي أبصر بهما يا وسام ..
بلع ريقه مع غصة أحرقت جوفه وقال :
- لكنني عاجز عن فعل شيء وخائف من أن تكتشف هويتي حينها سأعرضك للخطر أضعاف فإذا علموا بأني كريم ابن إمبراطورية البراكين الخائن في نظرهم سيقتلونني وبالتالي يقتلون كل عائلتي ونسلي وأنا لم يتبقى لي في هذه الحياة سواك ..
رفع رأسه وحدق في عيني وسام الهادئة هدوء أشبه بالموت وقال :
- لذلك فكرت وفكرت ولم أجد طريقة إلا هذه فلربما يكون ضررها عليك أقل أما بالنسبة لي فالأمور تساوت عندي وليقتلوني لا داعي المهم أنهم لا يحرموني منك يا قرة عيني والدك ..
فابتسم وسام لوالده ومد يده لكتفه وقال بابتسامة ساخرة ونبرة شديدة التهكم :
- لا تقلق يا أبي فلن يصعب علي التفاوض مع زعيمهم وأعدك أن ابذل كل جهدي لأحصل عليها لترضى فقط ..
فسحبه مجددا لحضنه وقال بانكسار يهمس في أذنه :
- كم أنا فخور بك يا بني كم أنا فخور كونك ابني دونا عن الجميع ..
فابتسم وسام ابتسامة ساحرة لكنها بخيلة كابتساماته السابقة ما لبثت إلا قليل واختفت ، وكم شعر بالسعادة تسكن كيانه من هذه الكلمات الصادقة التي اخترقت كل خلية فيه وقال بهمس :
- لن أخيب ظنك بي إذا ولو كلف الأمر حياتي ..
فأبعده عنه وقال ويديه لازالتا تمسكان بكتفي وسام وبنبرة جدية :
- لا يا وسام أرجوك لا تجازف وتخاطر بحياتك فإن تعقدت الأمور فقط انسحب أنا أريدك ، أريد سلامتك وإلا سوف الحق بك لنموت معا ..
فتنهد وسام بهدوء وشرد ذهنه ينظر في الفراغ كم يكره كلمة موت فهي لا زالت تؤثر عليه بشدة ، فاستغل رائد الوقت ونهض سريعا وما هي إلا لحظات وكان يضع كوبين من القهوة على الطاولة أمامهم تتصاعد منهما الأبخرة ، ووسام يريح ظهره على الأريكة هائم نظره في البعيد شاحب الوجه ومتجهم للغاية ، نظر إليه رائد بحسرة كم يتمنى أن يكون أبا صالحا يساعد ابنه لتجاوز الصعاب لا إقحامه فيها ، كان يتمنى أن يفهمه بمجرد النظر إلى عينيه لكنه قد يفهم جيش كامل ولا يفهم ابنه فسحقا لظروف أجبرتهم أن يكونا كغريبين ، تنهد رائد بعمق شعور الخسارة يقتله وسرعان ما تبدد شعوره إلى الصدمة التي كاد أن يفقد عقله ويتوقف قلبه بسببها عندما همس له وسام ببرود ظهر فيه نبرة توتر زاد تلك النغمة الموسيقية بحة غريبة وهو يتجنب النظر إليه :
- أبي أود خطبة مايا فما رأيك ..
كانت أول مرة له في حياته يطلب فيها رأي أحد في أمر يود القيام به بل فكر فيه مسبقا وخطط ولم يبقى إلا التنفيذ لكنه بشكل ما أراد أن يسعد والده الذي حرموه منه ، لم يستطع رائد حينها من السيطرة على دموع الفرح التي هربت من عينيه السوداء الحالكة تعلن للجميع مدى سعادته وفرحته بسماع ما سمع ، فابنه يجلس أمامه ويحادثه هذه سعادة بحد ذاتها ناهيك عن أنه يأخذ رأيه في موضوع يخصه لوحده وما أجمله من موضوع وهو الزواج والاستقرار ، هزت السعادة أركان قلبه المهجور فابنه وسام لا يزال يمتلك من الإنسانية التي جردوه منها رغما عنه ما يجعله يفكر بالارتباط والاستقرار والتفكير في بناء أسرة وعائلة دافئة ، فضمه مجددا بقوة وتنهد بعمق تنهيدة خرجت من عمق روحه حملت كل معاني الفرح والسعادة وقال له بحب :
- ما أسعدني بك يا بني وما أسعدني بسماع هكذا خبر ..
فابتسم وسام بابتسامة خرجت صادقة ونقية وقال بسخرية :
- هل أسعدك بأنني فكرت في ذلك أم فيمن اخترتها والتي تكون ابنه صديقك المفضل ..
فابتعد عنه وصوت ضحكته العميقة التي نسي كيف يضحك مثلها رن صداها في الأرجاء فهو لا ينكر بأنه سعد جدا بسماع اسم مايا والتي تكون ابنه صديقه جميل لكنه الآن في ورطة حقيقية فحتى مروان كان يأمل بأن يزوج وسام من رنا رغم صغر سنها فهي في السابعة عشر من العمر والتي رباها منذ كانت رضيعة ولا يعتبرها إلا كابنته المدللة ، اعتدل رائد في جلسته وكتم ضحكته بصعوبة وقال مبتسما :
- لا أنكر ذلك حقا فأنا سعيد بالخبرين ..
ثم أكمل رائد بحماس :
- إذا يا بني متى ستتحدث مع عائلتها ..
اخفض وسام بصره ثم نظر إلى والده ببرود وقال :
- ليس الآن يا أبي ، إذا انتهيت من مشكلة الحدود الجنوبية الشائكة سأحاول معرفة رأيها شخصيا بي وليس ضغط والديها عليها ..
هز رائد رأسه متفهما إذ أن رأيها بابنه وكونها سترتبط به هو الأهم ولقد فاته التفكير في ذلك حقا ، لكن البسمة سرعان ما عادت لترتسم على شفتيه وقال وهو يستقيم :
- من سيرفضك ونساء الإمبراطورية كلهم يريدونك ..
ابتسامة ساخرة كانت رد وسام فغمز له رائد وقال بمكر :
- أعرف تحركاتك وأعرف أيضا النساء اللواتي يرمين بأنفسهن لينلن إعجابك ..
فضحك ضحكة صغيرة وأكمل بتردد :
- حتى جنى اعرفها ..
فرمقه وسام بسرعة ولا ينكر بأنه صدم من سماعه لما قال والده ، قطب حاجبيه بغضب وكتف يديه لصدره وقال بحنق :
- تلك الغبية ..
فانطلقت ضحكة رائد وانصرف إلى غرفته مغادرا بعد أن قال له :
- انتظر قليلا وسأعود ..
فتنهد وسام بقوة فذكر تلك الجنى يصيبه بالجنون كيف لها أن تفعل ذلك وهي تعلم بأن رامي يريدها له وخطبها من والدتها !! سحقا لها ولأفكارها الغبية ، دخل رائد يحمل شيئا في يده وقال بضحكة :
- لو كنت أعلم بأنك تكره ذكرها كل هذا الكره لما نطقت حتى اسمها ..
فأشاح وسام وجهه بعيدا عنه وقال ببرود :
- رامي يريد خطبتها وهي تعلم لكنها تفتعل المشاكل الحمقاء تلك البلهاء الغبية ..
جلس رائد بجانبه وابتسم قائلا :
- هكذا إذا تريد اللعب بأعصابه ليس إلا ..
حينها امسك رائد كف وسام الذي نظر إليه بهدوء وقال بهدوء محب حزين وهو يدس شيئا في يده :
- كم سعدت يا وسام بسماع خبر جميل كالذي قلته لي وأقسم بأن الأرض لا تسع فرحتي بك أتمنى لك التوفيق يا بني وأن تسعد كغيرك وتستقر ولا تبقى وحيدا طيلة حياتك فأنت تستحق الأفضل ..
نظر وسام إلى يده والشيء الذي أعطاه والده له ليجدها حلقة معدنية مصنوعة من الفضة اللامعة وفيها نقوش سوداء زادتها جمالا في تنسيق مبهر ، قال رائد مبتسما بحزن وهو ينظر في الفراغ وكأنه يسترجع ذكريات جميلة :
- هذا خاتم زواجي بوالدتك اذكر يومها ذهبت أنا وهي إلى الصائغ ليصيغ لها أجمل خاتم زواج فاخترناه سويا فأصرت بعدها على أن تختار لي هي خاتمي وكيف سيكون شكله وألا أتدخل فتركتها تفعل ما تشاء فأنا لم يكن يهمني شكله بقدر ما كان يهمني أن يكون دليلا ملموسا لارتباطي بها فهي كانت مصدر سعادتي وقوتي وإلهامي في هذه الحياة ..
تنهد بعمق من تلك الذكرى بينما اكتفى وسام بالإصغاء وملامحه زادت شحوبا وبرودا مخيفا ، يتذكرها نعم يتذكر والدته يتذكر ضحكاتها ونصائحها يتذكر وجهها المبتسم المشرق كما يتذكر وجهها الشاحب الملطخ بالدماء فهو الوحيد الذي نال شرف رؤيتها تموت أمامه ليموت بعدها ألف مرة ، لحظة صمت سيطرت على الجو وهالة من البرود والحزن سيطرت عليهم فقال رائد مقاطعا لذلك الجو المشحون بشحنات الماضي السلبية :
- لذلك يا بني أنا أعطيك إياه ومتأكد بأن والدتك كانت ستسعد بهذا الخبر مثلي ..
نهض وسام بخفة ودسه في جيبه وقال بهدوء :
- أشكرك يا أبي ..
نهض رائد وقال بحزن :
- هل ستغادر الآن ..؟!!
أماء رأسه إيجابا وقال بهمس :
- لا أريد أذيتك يا أبي ، وسنلتقي قريبا ..
فضمه بقوة إلى صدره وكأنه طفل صغير وقال مودعا له :
- إذا انتبه على نفسك يا بني وكن حذرا دائما ..
ابتعد وسام عنه بخفة وقال مختصرا بهدوء :
- لا تقلق ، إلى اللقاء ..
وغادر سريعا كنسمة خفية كما أتى تاركا الذي خلفه يتنهد بعمق ، عاد إلى غرفته ليرتمي على فراشه بكل ثقله فمشاعر كثرة عصفت به اليوم وكل ما يريده الآن أن ينام وينام وينام ويهرب بعيدا عن كل شيء .









نهاية الفصل , قراءة ممتعة لكم أحبتي ..
بقلم محبتكم : روح الوسن ..




روح الوسن .. غير متواجد حالياً  
قديم 22-04-20, 05:20 PM   #38

روح الوسن ..

? العضوٌ??? » 455523
?  التسِجيلٌ » Oct 2019
? مشَارَ?اتْي » 91
?  نُقآطِيْ » روح الوسن .. is on a distinguished road
افتراضي

.. الفصل الثلاثون ..

.
.

[ رباط الماضي الخانق ]

.
.

طرقات متتالية وخافتة بعض الشيء على بابا غرفتها اتبعها صوت الخادمة قائلة باحترام :
- سيدتي حان وقت الفطور ..
هي ما جعلتها تستيقظ وتعتدل في جلستها ، رفعت خصلات شعرها الأشقر ونظرت إلى الطرف الآخر من السرير الكبير الفارغ وتنهدت بقلة حيلة فجميل لم يعد حتى الآن وكم ارقها ذلك حتى في نومها ، فليست من عادته التغيب كل هذا الوقت واليوم عطلة كم تتمنى بأن تمر على خير ، نهضت وأخذت لها فستانا رماديا ثقيل بعض الشيء فللصباح نسمات باردة ، استحمت سريعا وبدلت ثيابها وجلست تسرح شعرها وفكرها شارد تماما ، طرقات أخرى من الخادمة جعلتها تقطع أفكارها وتخرج ، توجهت نحو المطبخ لتشرف على ترتيب سفرة الطعام وتضع لمساتها عليها في حين قالت خادمة أخرى ترتدي زي الخدم :
- سيدتي يبدو بأن السيد عاد للتو ..
فانطلقت مسرعة نحو باب منزلهم الداخلي وفتحته بقوة دون أي تردد مما جعل من كان يمد يده ناحية الباب ينوي طرقه توقف فجأة والدهشة ارتسمت على ملامحه التي أرهقها السهر والتعب ، قالت ببحة والدموع تتجمع في عينيها :
- لماذا تأخرت يا جميل لقد أقلقتني عليك ..
فابتسم لها وسار نحوها وقد ضم كتفيها بذراعه يحثها على الدخول وقال بمرح يرمقها بمكر :
- أين صباح الخير يا عزيزي لقد اشتق لك استجواب هكذا من البداية ..
فلكزته بمرفقها بخجل وقالت بضحكة تمسح دموعها :
- أصمت لا أحد يسمعك أيها العجوز ..
فانطلقت ضحكته تملأ المكان بأكمله فكم يعشق أسرته ومنزله وكم هو سعيد بأن كانت زوجته هند أول من استقبله فلم يكن ينقص يومه المليء بالبؤس إلا رؤية وجهها الحسن لينسى كل شيء ، قبل رأسها وقال وهما يجتازان الصالة الكبيرة :
- أشعر بالجوع الشديد يا عزيزتي وعظامي أحس بها ستتكسر وأشعر بالإعياء فأنا لم أنم مطلقا ..
ابتعدت عنه سريعا وقالت :
- إذا اسبقني للغرفة وأذهب وأستحم ولن تخرج إلا وكل شيء جاهز ..
ابتسم لها بحب وغادر سريعا بينما توجهت هي لصالة الطعام وتفقدت كل شيء أنه في مكانه الصحيح وخرجت مسرعة وعندما قابلت إحدى الخادمات قالت لها :
- أيقضي مايا من فضلك ..
أماءت الخادمة رأسها إيجابا وانصرفت بينما توجهت هي لغرفتها وجهزت ثيابا لجميل على الكرسي في حين انفتح باب الحمام وخرج منه جميل يلف منشفته حول خصره وأخرى يضعها على رقبته وعندما رآها ابتسم وقال لها :
- كيف هي مايا ..
قالت مبتسمة تمد له ثيابه :
- بخير ..
واتبعت قائلة :
- ما الذي جرى يا جميل فهي ليست من عادتك التأخر كل هذا الوقت هل من خطب ..؟!
جلس على طرف الكرسي متنهدا بتعب وقال وهو يفرك كتفيه :
- آآه يا هند الأوضاع غير مستقرة حاليا وعلينا تكثيف جهودنا ..
وضعت يدها على فمها وكتمت شهقتها بصعوبة ، جلست بجانبه وقالت بخوف :
- ما الذي تعنيه يا جميل أنت تخيفني ..
تنهد مرة أخرى وقال بشرود :
- لا تقلقي يا عزيزتي لا تقلقي فأنا ورائد ومروان نكثف جهودنا ونسعى جاهدين لإيقاف أي مشكلة قبل أن تتفاقم وتكبر ولا نسمح للوضع بأن يتأزم فالأمور كلها الآن تحت السيطرة نوعا ما ..
وشرد فكره في الحدود الجنوبية وذهاب وسام إليها وكم يخشى عواقب ما قرره رائد ووافق هو ومروان عليه ، قالت هند بابتسامة وهي تمسح على ذراع جميل بلطف :
- إذا بما أن الأمور تحت السيطرة فلا خوف ولا قلق ..
أماء برأسه إيجابا ونهضت قائلة :
- هيا ارتدي ثيابك ولنتناول فطورنا معا ..
ابتسم بمكر وقال يرمقها بخبث :
- ألن تساعديني فعظامي تؤلمني ..
فرمقته بحدة وخرجت مسرعة بعد أن همست له بحنق غاضب يزيدها جمالا :
- عجوز وقح ..
فلحقتها ضحكته الجهورية إلى أن وصلت إلى صالة الطعام بخطا غاضبة وخجلة في حين نهضت التي كانت ترتدي معطف التمريض وتوجهت نحوها ، عانقتها وقبلت رأسها وقالت بابتسامة :
- صباح الخير أمي ماذا بك غاضبة هكذا في هذا الصباح هل من مكروه ..!!
فابتسمت هند وهي تسحب كرسيها لتجلس عليه قائلة ببرود :
- والدك عاد ..
فشهقت مايا بسعادة وقالت :
- حقا أمي عاد أبي ما الذي جرى له ليتأخر عنا كل هذا الوقت ..
فاتاها صوته من خلفها قائلا :
- صباح الخير حبيبتي مايا ..
فاستدارت ونظرت له بعينين محبه وارتمت في حضنه وقالت بطيبة تملأ قلبها :
- صباح النور يا أبي أخيرا تذكرت أن لك منزلا لتعود إليه ..
فتشاركت العائلة ضحكة متفاوتة قي درجاتها وابتعدت عنه قليلا ونظرت إليه بعينيها التي تشبه في لونها السماء الصافية ، كم تشبه والدتها وكم أخذت الكثير من حسنها ، قالت له بعد أن قربت حاجبيها الرقيقان بضيق :
- أبي أنت وعدتني بالأمس أن تصطحبني من العيادة وصرفت كل سائقي العربات لماذا جعلتني انتظر طويلا وماذا كنت تفعل أنا غاضبه منك ..
وكأنما تذكر للتو بأنه أمرها بأن تنتظره ولا تخرج مع سائق العربة المخصص لها ونسي تماما أمرها وكله بفضل تلك الأخبار البائسة التي شلت حتى تفكيرهم ، قال بعد أن استفاق من صدمته :
- أنا حقا آسف لقد نسيت الأمر بالكامل ..
فكتفت يديها بضيق وقالت بحنق تكلم والدتها :
- أمي انظري إلى أبي قال نسيني بالكامل ..
فابتسمت لها وقالت بلطف :
- لم ينساك يا حبيبتي هو انشغل قليلا ..
فأشاحت بوجهها غاضبة وسارت إلى أن وصلت إلى مقعدها سحبت كرسيها وجلست تتجنب النظر إليهما بضيق ، كيف ينسى أمرها وهي لوحدها هناك حتى حسام لم يكن معها وكيف تبتسم والدتها وتقول أنه انشغل قليلا ماذا كانت ستفعل إن لم يأتي وسام ويصطحبها !! بالتأكيد كانت سوف تبيت هناك لا طعام ولا شراب ، وكم هي شاكره لوسام الآن ، ورغبة شديدة في البكاء راودتها تتمنى لو تراه فقط لتشكره مرارا وتكرارا لأنه لم ينساها ويتخلى عنها ويتركها لوحدها بين جدران العيادة المظلمة رغم أضواء الشموع ، اقترب جميل منها وقبل رأسها وقال لها وهو يجلس على الكرسي بجوارها :
- سامحيني حبيبتي أعدك لن يتكرر ..
فأخفضت رأسها تنظر للأطباق أمامها وتمردت دمعة من عينيها لكن لم يلاحظها أحد حين قالت هند مبتسمة :
- أتعلم من زارنا بالأمس ..؟!!
نظر لها مستغربا وقال :
- من ..؟!!
قالت مايا بضيق :
- وسام ..
نقل نظره إليها يستغرب كل هذا الغضب والعداء من صغيرته لكن سرعان ما تردد الاسم في رأسه وقال باستنكار :
- من .. وسام ..!!!
قالت مايا ومقاطعة لوالدتها التي كانت تريد أن تتحدث تنظر إلى عيني والدها :
- انظر يا أبي كيف أصبحت عبئا على الآخرين ، لو أنك تركتني أعود في عربتي مع السائق ماذا كان فيها ..
هز رأسه فهو لم يستوعب شيئا وما دخل هذا في ذاك وما الذي احضر وسام إلى هنا ، هل يعقل أنه أراد أن يسأل عنه لأنه لم يحظر إلى المعسكر في فترة ما بعد الظهيرة يا ترى أم ماذا !! ، قاطعت تساؤلاته هند التي قالت بابتسامة :
- نعم وسام ، لقد احضر مايا من العيادة في وقت متأخر من الليل وكم كنا شاكرين له صنيعه ..
فتنهد حينها وقد ربط كل شيء في دماغه لكن السؤال الحقيقي هو كيف علم وسام بأنه منع سائقي العربة من اصطحابها خصوصا بالأمس لأنه شك في احدهم وأراد أن ينظر في أمرهم لكنه انشغل مع رائد ومروان ونسي بالكامل ، وكيف علم بأنها لا تزال في العيادة ؟! هل يعقل بأنه يراقبها ؟! لا هذا مستحيل فهو يعرف وسام لكن ماذا لو كان حقيقيا ، هز رأسه قاطعا كل تلك التساؤلات المهم أن مايا بخير وأصبح الآن يدين لوسام بالشكر ، سحب مايا من ذراعها لتستقر في حضنه وقال بحنان :
- آسف يا صغيرتي أنا حقا آسف أنا الملام الوحيد واستحق أن تغضبي مني ..
هزت رأسها نفيا فقبل رأسها وقال مبتسما :
- أعدك اليوم بأن أوصلك هناك وأعود بك هل يرضيك هذا ..؟!!
ولم يصدر منها أي رد فعل فقال بمكر :
- وسأشتري لك المثلجات أثناء ذهابنا وعودتنا هااه ما رأيك الآن ..!!
أماءت رأسها إيجابا وهي لا تزال تخبئ وجهها في صدره العريض فضحك ينظر إلى هند التي كانت تبتسم لهما وقال :
- هيا إذا نتناول فطورنا ثم نذهب ..

*****

أغلق الباب خلفه بهدوء وجالت عيناه الخضراء في الأرجاء ليقابله الصمت والهدوء ، تنهد بعمق فالوضع لا يحتمل ، يجب عليه الخروج من هذا المكان وبأسرع وقت ، سار بخطواته الهادئة مجتازا الرواق طويل ، وصل إلى الصالة الكبيرة ليقابله الصمت أيضا ، توجه نحو الشرفة فتحها بهدوء لتدخل الأصوات المزعجة والضحكات المتفاوتة في علوها من الخارج مع أشعة الشمس المشرقة ، تقدم وأستند بمرفقيه على السور المصنوع من الخشب يراقب سبب تلك الأصوات ومصدرها ليرى رامي مبللا بالكامل بالمياه يلحق برنا يمسك دلو ماء في يده تخرج المياه منه بسبب ركضه ويهددها بأنه سيسكبه فوقها ويريها إن أمسك بها وهي تضحك بمشاكسة وتركض بسرعة وخفة وكأنها فراشة تتنقل من زهرة لأخرى بفستانها الأصفر القصير ، ابتسم لشقاوة شقيقيه اللذان لا يكبران أبدا يلهوان كالأطفال في الحديقة ويبدو بأنهم كانوا يسقون بعض ما يزرعونه هناك ، لكن انتهى بهم المطاف يتقاذفون الماء فوق بعضهم ، سحب نفسه سريعا وأغلق باب الشرفة لا يريدهم أن يروه فهم بالتأكيد سيصرون عليه بأن يشاركهم وهو حقا لا يريد فهو يرى نفسه لا يستحق حتى أن يمرح ويخرج وكأنه شخص عادي ، جلس على إحدى الأرائك وأسند مرفقيه على ركبتيه ينظر إلى الأرض وتلك النظرة الحزينة المكسورة لم تغادرها بعد ، فسمع صوت خطوات مسرعة ويبدو متوجهة نحو المطبخ لكن تلك الخطوات توقفت فجأة وقالت صاحبتها :
- رافع ..!!
رفع رأسه ونظر إلى عينيها اللتان تنطقان فرحا وسعادة برؤيته مجددا وكأنها كانت متأكدة أنها لن تراه بعد الأمس ، فنهض رافع متوجها نحوها ، أمسك رأسها وقبله وقال بهدوء:
- صباح الخير يا أمي ..
فمدت كفها لتلامس خده وقالت بحنان :
- صباحي ويومي كله سيكون مليء بالخير برؤيتي لك بني ..
ابتسم لها ثم تردد كثيرا فيما يريد سؤالها عنه لكنه عزم أمره وقال يتجنب النظر لعينيها :
- هل عاد والدي ..؟!!
أماءت برأسها إيجابا وقالت :
- نعم يا بني لقد عاد للتو وهو في مكتبه الآن سأعد لكم الفطور لنفطر سويا فهو يبدوا بأنه لم ينام البارحة ..
وتوجهت نحو المطبخ وهي تنادي رنا بصوت عالي لكن لا مجيب فتنهدت بقلة حيلة وقالت :
- تلك المدللة أين هي ..
والتفتت لرافع الذي ينظر في الفراغ بوجوم كئيب وقالت له بتوجس من تلك الملامح التي ارتسمت على وجهه :
- بني هل أنت بخير ..؟!!
نظر لها سريعا وكأنه نسي نفسه وقال بارتباك :
- ن..نعم يا أمي بخير ..
فابتسمت له وقالت :
- إذا هل لك أن تنادي لي رنا أريدها لتساعدني تلك المشاغبة ..
أماء برأسه وهو لم يعد يعي ما حوله ولم يدري حقا ما الذي قالته له فقط كل ما أراده أن ينصرف بسرعة ليقابل والده ، فغادرت بثينة للمطبخ سريعا وهذه أول مرة تطلب من غيره أمرا في وجوده ولا يبادر هو بمساعدتها بل تركها ، فتنهدت بحسرة وكم تخشى من سؤاله المستمر عن والده لا بد من أنه يخفي أمرا وكم تخشى هذا الأمر ، في حين توجه رافع سريعا نحو مكتب والده فهو لم يصدق بأنه عاد ، طرق الباب ثلاثا فسمع صوت والده يأذن له بالدخول ، فتح الباب ودخل وسرعان ما أغلق الباب خلفه كي لا يراه أحد وهو هنا ، رفع مروان رأسه وفي يديه كومة من الورق وبعض الملفات كان يريد مراجعتها سريعا تخص أسماء بعض التجار ونوع بضائعهم فالخراب كله بدأ بالتجار فيجب عليه من اليوم أن يتأكد من كل شيء ويدرسه قبل المضي فيه ..
كاد يوقع الأوراق من بين يديه عندما رأى الذي دخل والذي لم يكن إلا ابنه رافع ، رافع !! الذي سجن نفسه لشهور طويلة داخل غرفته !! يقف أمامه هل يعقل ذلك أم أن دماغه مشوش بالكامل ولم يعد يميز بين رامي ورافع !! ، هز رأسه غير مصدق وقال باستغراب :
- رافع ..!!
كم أصبح يكر ويمقت اسمه بالفعل ، ما بال الجميع معه ، ولماذا كل من رآه ناداه باسمه باستغراب ليتأكد هل هو واقع أم خيال !! وكأنه كان ميتا وبعث لهم فجأة ، زفر الهواء بقوة مهدأ لنفسه فلا وقت لديه لكل هذا فما يريده يجب عليه أن يبدأ بسرده بسرعة فقال باستعجال :
- أهلا بعودتك يا والدي ..
فهو لازال يحتفظ بأسلوب اللباقة في الحديث مهما حدث ، فلم يتكلم فيما يريده يجبر نفسه فقط ، قال مروان والدهشة لا زالت مرتسمة على ملامحه وبابتسامه :
- تعال يا بني تعال ..
أقترب منه رافع في حين وضع مروان الأوراق على مكتبه وعانقه يربت على ظهره وقال بهمس :
- كيف حالك يا رافع .. ؟!!
ابتعد عنه رافع ونظر للأسفل وقال بهمس مكسور :
- لن أكون بخير إلا إن وافقت على ما سأقوله يا والدي ..
نظر إليه مروان باستغراب وقال بهدوء حذر :
- ما الذي تقصده يا بني .. ؟!!
رفع رافع نظره بوالده لتلتقي عينيه الخضراء بعيني مروان البنية والذي رباهم منذ كانوا صغارا ولا يعتبرونه إلا كوالدهم وقال بحزم استجمعه :
- أريد العودة إلى إمبراطورية الصخور ..
فاتسعت عيني مروان بصدمة مما سمع وقال :
- ماذا تعود لإمبراطورية الصخور ولماذا ..؟!!
قال مباشرة :
- هذه رغبتي يا والدي فلا مكان لي هنا بعد اليوم ..
صرخ مروان وقال بحدة لم يعهدها هو في نفسه لكن كل ما سمعه اليوم وجرى معه استنزف كل ذرة صبر لديه :
- ما هذا الهراء هذا منزلي ومنزلك كما إخوتك هذا هو مكانك ولك كل الحق فيه ..
قال رافع وعيناه تنطق حزنا عميقا :
- لا يا والدي فلا مكان لي هنا لذلك أريد أن أغادر المنزل أرجوك ..
لوح بيده في الهواء وقال بضيق :
- وإلى أين تريد أن تذهب هااه اخبرني ..؟!!
قال رافع بهدوء :
- سأنتقل للعيش في إمبراطورية الصخور وسأتكفل بكل النفقات بما لدي من مال ..
زفر الهواء بقوة يخرجه وكأنه إعصار من صدره وقال :
- لن تفترق عن إخوتك وستبقى بيننا فهذا منزلك كما أخبرتك سابقا وأنا لست عاجز عن نفقاتكم وكل ما تريدونه فأنتم أبنائي اللذين لم أنجبهم حتى لو ناطحتم السبعين من العمر ..
هز رافع رأسه نافيا وقال :
- سأبدأ حياتي من جديد يا والدي أرجوك دعني أذهب وأحقق ما أريد ..
قال مروان مباشرة ولازالت نبرة الضيق تسيطر عليه :
- نعم هذا هو كلام الرجال هذا ما أريده أن تبدأ من جديد وتترك الماضي في الماضي ..
هز رأسه بخفة وقال بانكسار :
- سأبدؤها لكن ليس من هنا فهذا المكان لا انتمي إليه ..
رفع مروان رأسه عاليا مخللا أنامله في شعره يكاد يقتلعه من جذوره ، ما الذي يجب عليه فعله الآن فرافع يبدو مصرا على تركهم وهذا ما لن يسمح به أبدا ، قال بنبرة حاول جاهدا أن تكون هادئة :
- ستبدؤها من هنا إذا ما الفرق ، وأنت بين عائلتك أفضل ..
قال رافع بجمود حازم فهو سبق وفكر وقرر :
- قررت وانتهى يا والدي لكنني كنت أريد أن أعلمك بالأمر فأنا لن أنسى فضلك علي أبدا ويجب أن أبتعد كي لا تلتصق سمعتي السيئة بك أيضا وتخسر كل شيء ..
ابتسم بسخرية وقال :
- هكذا إذا تريد أن تبتعد عني بحجة السمعة ..
قال نافيا وبشدة :
- لم أقصد ما فهمته يا والدي فأنا أريد حمايتك مني ومن فشلي ولا أريد مجازاتك بما فعلته لي بأن أسيء لك يكفي الأموال التي أعطيتني إياها لأتاجر بها خسرتها كلها ولم أعد أستطيع حتى النظر في عينيك ..
ابتلع ريقه مع غصة أحرقت قلبه وقال بمرارة وعيناه برقت بدموع القهر :
- وثقت بي وخذلتك ، ساعدتني ووقفت بجانبي وجازيتك بالخذلان ، اخبرني بحق الله ما الذي أفعله بنفسي ، فأنا فاشل وفشلت ولن أجلب لكم إلا الفشل ، لذلك سأبتعد وأعيد ما دمرته الحياة بي وإن كنت كفؤا عدت وأعدت إليك كل ما فقدته بسببي وأكثر ، ولو كان بيدي أن أهديك عمري لأهديتك إياه عله يخفف عني قليلا ما أشعر به وأرد لك جميلك الذي لن أوفيه حقه طيلة حياتي ..
وتكسر صوته العميق كما تحطم قلبه وقال بألم :
- أرجوك يا والدي اتركني أذهب وأبتعد فلا شيء يساعدني هنا لا شيء ..
فأحس حينها مروان بصداع داهمه كاد يفتك بحياته ، يا شعور الخسارة ويا حسرة القلب، ما أشدها تلك الكلمات التي ألقاها عليه رافع دون رحمة هل كان كل هذا في قلبه !! سحقا لمن كان السبب سحقا ، نظر إليه بهدوء وهو يتلقف أنفاسه وقال ناظرا لعينيه بعتاب أبوي :
- ليس هذا كلام ابن لوالده يا رافع ، فأنا لم أعطيك المال بنية أن ترجعه لي ، ولم أربيك حتى أصبحت شابا لتجازيني على ذلك وترد الدين بالمال ، لم يكن المال يوما ضمن حساباتي ، لم أكن أريد إلا أن أُربي رجالا ينهضون سريعا بعد كل سقوط ، أقوياء لا يكسرهم شيء بل يكسرون هم كل شيء إذا وقف في طريق حلمهم ومستقبلهم ، لا تعنيني الأموال أبدا بل انتم يا من اعتبرتكم أبنائي تعنون لي ووجودكم قربي هذا كل ما أريده ..
هدأت تلك الكلمات الهادئة المليئة بالحنان الأبوي قلب رافع الذي نبض بشدة وانفعل لكنه قال في محاولة لا تبدو الأخيرة أبدا :
- أرجوك يا والدي دعني أغادر فلم أعد أطيق شيئا ..
قال مروان مباشرة:
- حتى نحن أهلك وعائلتك ..
هز رأسه نافيا وصمت فقال مروان ظنا منه بأنه استسلم وانصاع :
- إذا لن تغادر وافعل كل ما تريده إن أردت التجارة أو أردت شيئا غيرها فكل شيء مسموح لك ..
- لا أريد شيئا غير الابتعاد ..
قالها مباشرة وبهمس كسير فاشتعل غضب مروان وقال بحدة :
- راافع قلت افعل ما يحلو لك وأنا سأساعدك إن أردت وأنت لا تزال مصر على الذهاب ..
قال بإصرار ينظر لعينيه برجاء :
- نعم مصر وبقوة فدعني أرجوك ..
فصرخ به وقال :
- رافع ما الذي غيرك هكذا فأنت لم تكن تعارضني في أمر ما ..
صمت للحظة ثم أكمل بضيق يلوح بيده في الهواء ويكاد ينفجر غضبا :
- كله يسبب تلك الليلى سحقا لها من فتاة لقد غيرتك بالكامل ..
شحب وجهه واتسعت عيناه فذكر ذلك الاسم كفيل بإثارة كل خلية عصبية في جسده فقال رافع بحدة:
- ليست السبب فليلى ماض وانتهى بالنسبة لي ..
ضحك مروان بسخرية وقال :
- كاذب وهي السبب الرئيسي في رغبتك بالمغادرة ..
طرقات متتالية على الباب ، وصوت والدته ينادي ، وماض مرير موجع قلب والده صفحاته ، وضيقة ملأت صدره بالكامل ، وشعور بالاختناق قاتل ، وسواد أطبق على بصره ، هي ما جعلته ينسحب بسرعة ويغادر الغرفة مجتازا لوالدته القلقة ومجتازا لرامي ورنا اللذان دخلا للتو للمنزل ، ولم يشعر بنفسه إلا وهو يغلق الباب على نفسه ، فماضيه لا زال يخنقه ويطارده أينما كان ، وأهلا بالوحدة والسجن الذي تملأه الضيقة والخيبة والألم من جديد .






نهاية الفصل , قراءة ممتعة لكم أحبتي ..
بقلم محبتكم : روح الوسن ..


روح الوسن .. غير متواجد حالياً  
قديم 29-04-20, 08:42 AM   #39

روح الوسن ..

? العضوٌ??? » 455523
?  التسِجيلٌ » Oct 2019
? مشَارَ?اتْي » 91
?  نُقآطِيْ » روح الوسن .. is on a distinguished road
افتراضي

.. الفصل الواحد والثلاثون ..

.
.

[ شغف الماضي والحاضر ]

.
.

- مييييمييييي ..
صرخت بصوتها منادية لتخرج لها تلك الطفلة الصغيرة والتي تكاد تبلغ الخامسة من العمر من الحمام مسرعة تحاول ارتداء معطفها الأزرق الصغير لكن لا جدوى ، اقتربت منها هالة مبتسمة وقالت :
- ما هذا الاستحمام لقد تأخرنا ..
قالت وهي لا تزال تحاول أن تدخل يدها اليسرى والعالقة في كم المعطف :
- آسفة ماما ..
ابتسمت بحب لميمي وجلست أمامها وقالت :
- يا قلب ماما هيا دعيني أساعدك في ارتداء معطفك ..
ألبسته لها ونفضت فستانها الأصفر والذي تجاوز طوله ركبتيها بقليل ، نهضت وأمسكت بيدها وقالت :
- نتناول فطورنا ثم نخرج سويا فأنا عاهدت نفسي ألا أتركك مجددا في المنزل لوحدك ..
ابتسمت ميمي ابتسامة واسعة وقالت :
- حااااضر ..
دلفا إلى المطبخ الصغير وكانت قد أعدّت بيضتان وبعض الخبز والعصير فهذا كل ما تملكه حاليا وإن استمر الوضع معها هكذا سوف ينفد من عندهم حتى الماء ، تنهدت بأسى على حالها وأخذتها الأفكار بعيدا وبدأت التساؤلات المتشائمة تتقاذف في ذهنها ، ماذا لو نفد الطعام من عندهم ما الذي يمكنها فعله ؟! فميمي ومتطلباتها كطفلة تحتاج الاهتمام ماذا لو لم تستطع توفير كل ما تريده ؟! ما الذي ستفعله الآن في حياتها وكيف تعتمد على نفسها فهي كلما أرادت النهوض لوحدها وقعت بقوة وكم ألمتها تلك الضربات العنيفة التي تلقتها عندما تقع أرضا ، وماذا لو لم تستطع إيجاد ذلك التاجر الصغير الذي علقت آخر آمالها فيه ؟! هل ستستسلم وتنسحب ؟! لكن كيف تنسحب وميمي أمانة في عنقها يجب عليها أن ترعاها وتربيها جيدا فهي وصية شقيقتها الوحيدة
، لا لا يجب عليها الاستسلام الآن يجب أن تكثف جهودها في البحث عنه نعم فهو أملها الوحيد الذي قد ينتشلها مما هي فيه ومن الفقر الذي أصبح كابوسا مرعبا يطاردها ، تنقلت نظراتها في حركات ميمي وتقاسيم وجهها البريء وهي تأكل بشهية مفتوحة وكأن الطعام الذي أمامها طعام ملوك ، ابتسمت بخفة على تصرفاتها الطفولية وحالميتها الوردية الواسعة فهي لا تأكل البيض والخبز إلا بالملعقة والشوكة تظن نفسها ابنة أحد العائلات الغنية ، مدّت هالة يدها لتمسك يد ميمي الصغيرة وقالت لها مبتسمة :
- أيتها الأميرة الجميلة يجب عليكِ أن تمسكي بيدكِ اليمنى الشوكة أما اليد اليسرى السكين وليس الملعقة هيا هيا افعليها فأنتِ تستطيعين ..
فابتسمت بسعادة وأخذت تحاول جاهدة أن تمسك الشوكة والسكين بالطريقة الصحيحة وانتهى بها المطاف بفوضى عارمة مما جعل هالة في ضحك مستمر عليها إلى أن استسلمت ميمي وأكلت بيدها الصغيرة والممتلئة والدمعة تكاد تفارق عينيها في أي لحظة ، قرصت هالة خدها وقالت :
- هل ما زلتي جائعة ..؟!!
هزّت رأسها نفيا وقالت وهي تمضغ الخبز :
- ماما أنتِ لم تأكلي بعد هيا تناولي فطوركِ كي تصبحين أميرة جميلة وتتزوجين بالأمير الوسيم ..
فانفجرت هالة ضحكا على تفكيرها البسيط والمضحك وقالت بضحكة وهي تمسح الدموع التي غلبتها :
- إذا كان في القصة زواج فلن أتناول طعامي أبدا فأنا لا أريد الزواج أريد أن أبقى أنا وأنتِ وفقط ..
قالت ميمي بفضول أطفال :
- لكنكِ قلتي لي سابقا بأنكِ كنتِ متزوجة أين هو زوجك الآن هل ذهب للعمل أم ذهب حيث أمي وأبي ..؟!!
نظرت إليها بحزن وتنهدت بعمق ، قالت وهي تجمع الأطباق وبنبرة ساخرة :
- لا أعلم أين هو كل ما أعلمه بأنه يعيش حياته في سعادة بعيدا عني ..
قالت ميمي بتساؤل :
- ماذا هل أصبح أميرا وتركك ..
تنهدت هالة بعمق من هذا الحديث وقالت بأمر :
- ميمي لا وقت لدي لهذه الأسئلة فلدينا اليوم الكثير لننجزه هيا بسرعة اغسلي يديك واتبعيني ..
فنهضت منصاعة لها لا تريد إغضابها في حين أخذت هالة تغسل الصحون بغضب فذكر ذلك الزوج السابق يثير غضبها ولا تعلم هل هي غاضبة منه حقا أم غاضبة من نفسها أم من الأوضاع التي جمعتهم وفارقت بينهم ، تنهدت بعمق وغسلت وجهها بالمياه فهذا ليس وقت الحزن والنكد يجب عليها أن تكون في قمة نشاطها لتبحث لها عن عمل فهي من اليوم وصاعدا ستعمل في أي عمل لتجني المال ، كم اشتاقت لتلك الأيام التي كانت تخيط وتصمم وجموع السيدات يتوافدن إليها يطلبن منها أن تخيط لهن ثيابهن ، كانت تكاد تكون مشهورة على مستوى منطقتها ولكن وبعد موت شقيقتها كانت مرغمة على الزواج بحكم أن لا عائلة لها فتزوجت صديق لزوج شقيقتها وبعد زواجها تدمر كل شيء فالمدعو زوجها نهاها عن العمل ولم يكن لها أي خيار للرفض ، لقد استغل ضعفها بقوة ، وانتقلت معه مرغمة حيث عائلته ومنزله الكبير الواسع بحديقته الضخمة لكنها لم تكن تشعر بالسعادة مطلقا معه ، ولم تلبث إلا ثلاث سنوات ثم رماها في بيت والدها مطلقة وولى هاربا تاركا إياها لألسن الناس الأشد حدة من سيوف الحرب ، وبعدها بقليل تولت رعاية ميمي وهي ابنة العام الواحد فقط لتتحمل بعدها مسؤوليتها كاملة وتخوض أصعب تجربة لها في حياتها وهي كلام الناس وجرح مشاعرها والاعتناء بطفلة والنفقة والاعتماد على النفس في جني المال ، ضربت خديها بخفة لتطرد كل تلك الذكريات السوداء التي داهمتها في حين دخلت ميمي مبتسمة وقالت :
- أنا مستعدة ماما ..
ابتسمت لها وأمسكت بيدها وغادرتا المنزل سويا ، بحثت هالة كثيرا هنا وهناك عن عمل يمكنها القيام به لوقت طويل ولم يحالفها الحظ مما جعلها تصاب بالإحباط ، سارت تمسك ميمي بيدها وفي نيتها العودة للمنزل فميمي يبدو أنها تعبت وتريد النوم ، تنظر إلى خطواتها بشرود وتفكر بعمق هي حقا تحب أن تخيط الثياب وتصمم فساتين للسيدات وللفتيات بأشكال جميلة ورائعة وجذابة فهي تملك حسّا فنّيا لا مثيل له والسنين التي كانت تخيط فيها تشهد ، فخياطة الثياب وتصميمها وتنسيقها شغفها الماضي والحاضر الذي تعلّقت به منذ صغرها ، قطع أفكارها تلك
صوت صهيل حصان ذو رنة مميزة آتٍ من خلفها ، فانتفضت مجفلة بخوف وسحبت ميمي لتبتعد عن الطريق الذي للتو انتبهت بأنها كانت تسير عليه ، رفعت نظرها وإذا به حصان بلون القهوة الغامقة بشعر أسود حريري طويل تطايرت تلك الخصلات بسبب وقوفه السريع ويبدو أنه كاد يدهسها لولا سحب من كان يمتطيه للجام في آخر لحظة ، أطلقت آآآهه حملت معنى فرحة النجاة من الموت فهي كادت أن تموت لا محالة ، نظرت لميمي بجانبها لتتأكد أنها سليمة ولم تصاب بأي خدش وإذا بها تحدق في الحصان بدهشة سرعان ما تحولت لابتسامة واسعة في حين حررت يدها الصغيرة من قبضة هالة لتنطلق منادية بسعادة :
- وسااااام ..
فتبعتها بنظراتها المستغربة وقالت بصدمة بعد أن وقعت عيناها على صاحب الحصان والذي لا زال يمتطيه :
- أنت ..!!!
تنقلت نظرات وسام بينهما ببرود في حين أمسكت ميمي رجله تضمها بسعادة وتنظر إليه فوقها وهي تردد اسمه ، غضن جبينه مستنكرا تصرفها وقال بضيق :
- ابتعدي ..
ابتعدت منصاعة بسعادة وأخذت تلوح له ، نزل وسام بخفة وبقفزة واحدة ينظر لميمي التي مدت يدها نحوه لتصافحه ثم رفع نظراته بهالة المصدومة بالكامل ، مد يده مصافحا لميمي ، فتقدمت هالة منهم بخطوات خجلة وقالت بتوتر :
- مرحبا سيدي ، أنا حقا آسفة لأنني وقفت في طريقك
أنا حقا كنت شاردة ..
نظر إليهم ببرود وكم يتعجب لرؤيتهم مجددا فكم تبدو الحياة قصيرة والعالم بأكمله صغير ، همس ببرود :
- لا داعي ..
قالت ميمي بسعادة :
- ماما ماما هذا وسام دعيه يزورنا في المنزل أرجوكِ ..
قالت هالة بتهديد هامس :
- ميمي عيب عليك ما هذا الأسلوب قولي سيد وسـ...
وتنحنحت قليا فكادت أن تقول اسمه الذي للتو عرفته فشعرت بالخجل الشديد منه وظهر ذلك جليا في احمرار وجنتيها ، قال وسام ببرود ينظر إلى هالة :
- هل من مشكلة ..؟!!
كم تستغرب تصرفات هذا الرجل معها فتارة يبدو لطيفا جدا وتارة تراه مرعبا ومخيفا ، قالت بارتباك :
- لا .. لا شيء سيدي اطمئن كل شيء على ما يرام أشكرك على كل شيء ..
وسحبت ميمي معها مسرعة تشعر بالخوف تملكها من نظراته الباهتة والباردة ، توقفت فجأة وقد خطرت ببالها فكرة ، استدارت ببطء فإذا بوسام يمتطي حصانه ، قالت بتوتر :
- أ..أممم س..سيدي هل لي بسؤال من فضلك ..؟!!
أماء وسام برأسه إيجابا فقالت تتجنب النظر إلى عينيه التي تشعرها بالخوف :
- هل تعرف طريقا يوصلني للمدعو بالتاجر الصغير ..
ونظرت إلى عينيه وقالت برجاء :
- أرجوك ..
فابتسم متهكما يعلم بأنها تقصد شقيق رامي رافع والذي ذاع صيته في التجارة في فترة وجيزة ، قال ببرود :
- ما الذي تريدينه منه بالضبط ..
فاتسعت عيناها بدهشة فرده هذا يدل على أنه يعرفه كما أنه ليس كجميع من سألتهم يتجنبونها ويتجنبون الرد عليها ومنهم من نعته بالألفاظ السيئة والبذيئة ، قالت وعيناها البنية برقت ببريق السعادة تضم يديها أمام فمها :
- أرجوك سيدي هل تعرفه ؟! أنا كنت أبحث عنه منذ مدة طويلة فهو من أفضل التجار الذين كنت أتعامل معهم وكم أتمنى بأن أتعامل معه أيضا فمتجري الصغير تدمر وأريد إعادة إحيائه بأجود الأقمشة والتي لا يبيعها إلا هو ..
لم تغب الابتسامة المتهكمة من على شفتيه فهاهو وجد أخيرا شخص يقدر رافع وتجارته الرائعة ، قال وكأنه يتأكد من صدق كلامها :
- هل تعلمين ما الذي انتشر عنه ..؟!!
قالت بعبوس طفولي :
- نعم سمعت لكني لا أصدق بأنه تاجر غشاش يختلس أموال الناس ظلما فأنا سبق وجربت بضائعه وكانت من أجود البضائع وأحسنها ..
قال وهو يضرب برق برجله بخفة لكي يسير :
- إذا سأجلب لك بعض من بضائعه ..
وانطلق بعدها برق ليختفيا عن مرمى نظرها ، رمشت مرارا وتكرارا تحاول استيعاب ما جرى ولم تفهم حقا ما الذي كان يقصده ، هل يعني ذلك بأنه هو نفسه المدعو بالتاجر الصغير وسيجلب لها بعضا من بضائعه ؟! أم هو على معرفة بالتاجر الصغير ؟! هزت رأسها بعدم فهم فهذا السيد المدعو وسام غريب أطوار حقا وتستغرب من مساعدته لها دائما ، رفعت كتفيها بلا مبالاة فالمهم هو أنها أخيرا ستعود لحبها الحقيقي وشغفها وهو الخياطة وستفتح منزلها من جديد ليستقبل الزبائن لكن عليها أن تنتظر تلك البضائع التي سيحظرها لها وسام ، تنفست بعمق والسعادة تتسلل إلى أعماقها ، صرخت بفرح :
- نعم هكذا هي الحياة يوما لك ويوما عليك وعساه أن يأتي يومي قريبا ..
ضحكت بسعادة وحملت ميمي من فرط سعادتها وأخذت تلف وتدور بها متجاهله كل تلك النظرات المستغربة التي ترمقها باستغراب ، وعادتا إلى المنزل وسعادتها لا توصف ، كم تتمنى أن تُقبل رأس وسام شكرا له على ما يفعله لأجلها فهو دائما يخرج لها من العدم وهي في أشد حالاتها بؤسا ليؤنسها ويساعدها .

*****

بعد دخولهما القصر وجدا في استقبالهما والدتهم التي انطلقت نحوهما لتعانقهما معا بحب ، قالت بنبرة شديدة القلق :
- أين اختفيت يا بني وأين ذهبتي يا صغيرتي تتركانني هكذا اقلق عليكما ..
ابتسم طارق لوالدته الوحيدة التي تقلق بشأنهما وتعاملهما كما لو أنهما لازالا طفلان صغيران من حيث اهتمامها بهما والقلق عليهما في حين ارتمت زهرة في حضنها وقالت برقة :
- هذا بفضل ابنك يا أمي فهو إن غاب غبت أنا معه ..
فضحك طارق وقال يمازح والدته ويرمق زهرة بمكر يرفع يديه بجانب وجهه :
- إذا يا أمي أنا بريء منها إذا اختفت أو لحقها أي مكروه فأنا رجل أخرج وأدخل وأعتمد على نفسي ..
ضحكت السيدة ميادة وقطبت زهرة حاجبيها وهمست بغضب :
- انظري يا أمي هذا جزائي أني أحبه ..
قبلت ميادة رأسها ومدت يدها لتمسح بها على ذراع طارق بحنية وقالت :
- لا حُرمت منكما ..
ثم اتبعت قائلة :
- هيا فلتبدلا ثيابكما لأننا سنفطر سويا ..
فتوجهت إلى إحدى الغرف الكبيرة والمنتشرة هناك في حين غادر طارق قاصدا غرفته وبعد أن قطع الرواق الطويل مشيا توقف وقال يدعي الحنق في نبرته العميقة:
- إذا هل ستدخلين معي حتى في غرفتي ..!!
فضحكت برقة تمسك فمها بأناملها البيضاء الطويلة وقالت بنبرة رقيقة كرقتها تكتم ضحكتها :
- من اليوم وصاعدا يجب علي أن أتأكد من كل خطواتك ولا أتركك لوحدك يا كبير فأنا أخاف أن تضيع كما ضعت البارحة مني..
ضرب جبهته وقال بأسى بعد أن استدار ليقابلها :
- إذا أنا مراقب ولا مجال للتصرف كالبالغين يا صغيرة ..
ابتسمت وقالت بمشاكسة :
- افهمها كما يحلو لك ..
هز رأسه بقلة حيلة وقال مبتسما :
- هيا هيا بدّلي ثيابكِ فأنا لن أطير وأهرب منك لا تخافي
يا مراقبتي ..
لكنها هزّت رأسها نفيا وقالت تنظر إليه بتشكيك مبتسمة :
- يجب أن أتأكد من فضلك سمو الأمير طارق ..
فاقترب منها ومد أنامله نحو وجهها وقرص خدها بخفة وقال :
- ما أروعك يا شقية ..
فابتسمت بحب له وتبعته إلى أن تأكدت من أنه دخل غرفته وتنهدت حينها براحة ، فلا حياة لها إن ابتعد عنها فهو جزء من روحها انشطرت في جسد آخر إن غاب غابت معه سعادتها ..
اجتمعت العائلة على طاولة الطعام الكبيرة ولم يتبقى إلا شخص واحد لم يحضر حتى الآن وعندما أرادت السيدة ميادة النهوض لتنظر ما به إذا به يدخل من الباب الكبير الذي فتح على مصراعيه ، تنقلت نظراتهم جميعا نحوه فإذا به مُكّفَهر الوجه عابس وملامحه لا تبشر بالخير ، بادرت السيدة ميادة بابتسامة نابعة من أعماقها وقالت تنظر للذي جلس بجانبها ولم يلقي عليهم حتى التحية :
- صباح الخير يا عامر أراك متعبا اليوم هل تشكو من شيء ..؟!!
نظر لها ولعينيها المحبة زوجته التي لطالما صبرت عليه وعلى تقلب مزاجه المستمر ولم تشكو يوما أو تتذمر فهو يعرفها جيدا كل ما يعنيها بأن يكونوا معا دائما مثلها مثل ابنته التي أخذت رقة قلب والدتها تحزن لحزنهم وتسعد لسعادتهم ولا يعنيها أن تسعد لوحدها أبدا ، نقل نظره إلى زهرة التي كانت مبتسمة توزع نظراتها بهم ، مرة ترمق طارق الذي يجلس بجانبها وكأنها تتأكد من وجوده بجانبها ، ومرة ترمق والديها بسعادة مفرطة ، وتذكّر كم ظلمها في قراراته التي ألقاها عليهم كقوانين للعائلة الحاكمة بأن فرضها على حسام بالإكراه ، في حين يجلس طارق بكل هدوء واحترام بجانبها ومقابل لوالده تماما ولا يظهر على وجهه أي تعبير يتجنب النظر في كل منهم حوله ، مر سريعا في ذهنه الحوار والمشادة الكلامية التي حدثت البارحة معه فتنهد بعمق ، عاد بنظره للتي لا تزال تنتظر جوابه تنظر إليه بحب وقلق وتوجس فقال لها ببرود :
- صباح النور ، لا .. لا أشكو من شيء أشكرك ..
تنهدت براحة وأخذت تدعوا له بالصحة والعافية كما تفعل دائما ويبدو أنها صدّقت كلامه ، بدأوا بتناول فطورهم بصمت سيطر عليهم وفقدوا المرح والمزاح الذي كانوا دائما ما يفتعلونه وهم يتناولون طعامهم معا فمرة يتحدثون عن مشكلة مرت بهم ومرة يمدحون ويثنون على صنف من الأصناف أمامهم أو شخص ما ومرة يخططون لما سيفعلونه في الوقت المخصص لهم كعائلة أما الآن فلا تسمع إلا أصوات الجوامد كالملاعق والشوك والكؤوس الزجاجية عند اصطدامها بالطاولة الخشبية تتحدث معا لتكسر السكون ، قطع الصمت المسيطر عليهم عامر عندما قال بجمود ينظر لطبقه أمامه :
- طارق وافني في المكتب بعد الفطور ..
فارتسمت الدهشة على ملامح طارق ينظر إليه ، ما الذي قد يريده منه والده ؟! وهو الذي أصبح دائما ما يعتمد على نفسه سواء في التخطيط أو التنفيذ وهو أصبح مهمّشا لا دور له ، هل يعقل بأنه علم بخروجه البارحة من القصر ؟! وهل عرف علاقته يا ترى بوسام ؟! وسيطلب الابتعاد عنه ، قال بعد صمت وباحترام شديد لم يخلو من التوجس :
- حاضر ..
نهض عامر وتبعه طارق في عجل ولا يعلم لماذا لكنه كان يجهّز نفسه لسماع مصيبة ما أو خبر مفجع ولم يخب ظنه أبدا حين قال والده بعد أن دلفا إلى المكتب واستوى جالسا على مكتبه :
- لقد طلبت باستدعاء أباطرة الإمبراطوريات كلهم ..
فألجمته الصدمة مما سمع ولم يترك له والده أي مجال لتلقي الصدمة والخروج منها فأتبع قائلا :
- لكن إمبراطور إمبراطورية الجليد ، الإمبراطور أدهم لم يوافق ويلبي النداء لذلك الإمبراطور جاسم والإمبراطور صخر سيصلان إلى إمبراطوريتنا وإلى القصر قريبا فعليك بالتجهيز لاستقبالهم ..
قال طارق بتساؤل والصدمة والدهشة مرسومة في ملامحه :
- لكن لماذا استدعيتهم هل هناك خطب ما ..؟!!
نظر إليه بحدة وكأن سؤاله لم يرق له وقال بجمود :
- يجب أن نتعاون ونتكاتف نحن الثلاث إمبراطوريات إن استثنينا إمبراطورية الجليد لكي نجد حلا لكل المشاكل الشائكة ونتفادى جميع المخاطر ..
قال طارق بعدم تصديق :
- لكن يا أبي.....
وقطع كلامه عندما قال عامر بحدة :
- لقد قلت لك بأنني استدعيتهم وانتهى الأمر فكن مستعدا لاستقبالهم ..
تنفس طارق بعمق ليعيد الهدوء إلى نفسه ولا يفقد السيطرة على أعصابه فوالده لازال يهمّشه في كل شيء في حياته ويبعده أكثر في كل مرة عنه ، قال عامر بجمود :
- وعلى حسام أن يكون هنا أيضا فهو من سيخلفني ورغما عنه ..
ها قد عدنا لنقطة البداية وإلى الألم الدفين وهاهو حسام يخرج له من العدم في كل مرة ويفضلونه عليه ، قال طارق بنبرته المخملية الهادئة ينظر مباشرة في عيني والده :
- لقد تحدثت معه سيدي وبذلت جهدي كله في إقناعه لكنه أصرّ على عدم الموافقة حتى أنه قال بصريح العبارة بأنه لا يريد شيئا وأنّ قدماه لن تعتب باب القصر مجددا ومهما كلفه الأمر ..
فصرخ حينها عامر به قائلا :
- ما الذي يفكر به ذلك الأحمق ، من إذا سيخلفني إن كان لا يريد وهو ابن شقيقي الوحيد عادل والأحق من الكل في تولي هذا المنصب ، كيف سأخرج للأباطرة عندما يأتون سحقا سحقا ..
أغمض طارق عينيه بألم فهاهو والده لا يراه أبدا أمامه ، يشك بعض الأحيان أو بالأصح كل الأحيان أنه شخص غير مرئي ولا يراه أبدا ، ويشك أيضا بأن والده لا يعتبره إلا متنفسا لغضبه كلما غضب من أحدهم صرخ به يفرغ كل غضبه منهم به ، فتح حينها طارق عينيه وأول ما جال في خاطرة كان وسام فابتسم بخفة فحتى لو لم يكن وسام بقربه جسديا فهو بقربه معنويا وحسيا أيضا ، قال طارق ببرود مميت لم يعهده في نفسه :
- لا داعي لكل هذا الانفعال يا سيدي فالإمبراطور جاسم لم يتخذ من يخلفه إلى الآن أما الإمبراطور صخر فأبنه الوحيد اختفى منذ سنوات ولا أحد يعلم إن كان ميتا أو حيا لذلك كلكم سواء ..
وانحنى سريعا له باحترام شديد ولم يترك له الفرصة بالصراخ به والتعليق على كلامه حين قال باحترام شديد قبل أن يغادر بخطوات ثابتة سريعة :
- سيكون كل شيء جاهز كما طلبت وإن أردت أي شيء فأنا في الخدمة سيدي ..
وفقط هكذا يجب عليه أن يعامل والده باحترام شديد وألا يرفض له طلبا أبدا ومهما كان ، ويحاول قدر الإمكان تجنب المشاكل بشتى الطرق كي لا تكبر الفجوة بينهما فهي كبيرة بما فيه الكفاية ، أما عن قرارات والده فيجب عليه الآن الذهاب لمكتبه الخاص ودراسة كل إبعادها ومخاطرها عليهم ويحاول بأن يضع الفرضيات ويرسم الخطط ويشتغل من اليوم وصاعدا لوحده ومع نفسه فذلك أفضل بكثير من وضعه الحالي ولا ييأس أبدا ويظن بأنه ابن فاشل فهناك من يقدره ويقدر مهاراته العقلية في التفكير والتحليل والتخطيط ، وكم هو شاكر وممتن الآن لوسام الذي أعاد ثقته بنفسه من جديد .









نهاية الفصل , قراءة ممتعة لكم أحبتي ..
بقلم محبتكم : روح الوسن ..


روح الوسن .. غير متواجد حالياً  
قديم 29-04-20, 08:45 AM   #40

روح الوسن ..

? العضوٌ??? » 455523
?  التسِجيلٌ » Oct 2019
? مشَارَ?اتْي » 91
?  نُقآطِيْ » روح الوسن .. is on a distinguished road
افتراضي


.. الفصل الثاني والثلاثون ..

.
.

[ من بقايا الماضي ]
.
.

عاصفة هوجاء حلّت بهم في الصباح الباكر وبعد دخولهما معا هي ورامي بعد أن اسقيا الأعشاب الخضراء وما تزرعه هي من زهور تحبها ، لم تفهم شيئا مما يجري إلا أن هناك مصيبة أخرى قد حلت بهم ، بقيت مكانها مندهشة بينما الذي كان يقف بجانبها هبَّ مسرعا لمكتب والدهم ليرى سبب كل ذلك الصراخ ، تنقلت نظراتها المتوجسة بين والدتها القلقة التي أسرعت الخطى نحو المكتب أيضا و الرواق الطويل الذي قطعه رافع في سرعة البرق ، وعلمت بأن الموضوع يخص رافع الذي لم يصدّقوا أنفسهم وهو يخرج لهم من جديد ليشاركهم على الأقل وجبات الطعام وبعض الأحاديث المتفرقة ، تنهدت بعجز فهي لم تقوى على الحراك ، لا هي تبعت رامي ووالدتها ولا هي ذهبت حيث رافع ، سمعت صراخ والدها يتعالى مجددا ولم تلتقط أذناها من ذلك الصراخ إلا كلمة رافع .. ومغادرة .. وليلى ، ففتحت عيناها على اتساعها بصدمة من ذكر ذلك الاسم مجددا ، الاسم الذي يخص زوجة رافع سابقا وطليقته حاليا ، اسم لطالما كرهته فمن بعدها تغير شقيقها وأصبح شخصا بالكاد تعرفه ، وكأنها دخلت حياته تلك الليلى لتسلبها منه وتغادر بكل دم بارد ، فوضى عارمة هزت أركان شقيقها من كل النواحي ، كانت ثلاث سنوات ارتبط بها وكانت لا تسعها الفرحة برؤية شقيقها سعيدا ومستقر ليعود إليهم بعد تلك السنوات شخص ميت جسد لا روح فيه ، سلبته كل أمواله في حين غفلة منه وليتها توقفت هنا بل شوهت له سمعته في السوق وغشّت كل بضائعه ليصدم من كبار التجار وبعض من اللذين يدعون كونهم الأمن في الإمبراطورية بإمساكه وجره حيث أكبر أحد الحكماء ليقيموا عليه العقوبة التي يفرضها عليه ، لولا تدخل والدهم في الأمر في آخر لحظة لما نجا من السجن لا محالة ، وبالرغم من معرفتها بكل تلك الأمور إلا أنَّ ما خفي أعظم فطبيعة شقيقها رافع كتوم ولا يعبّر بما يشعر به غالبا لكنها متأكدة من أنه حدث الكثير بينهما لدرجة انتهى به الأمر أن طلقها وتركها تذهب في حال سبيلها وهي التي سعى كل جهده ليحصل عليها فقط وكان مستعد بأن يعطيها أيام من عمره لو طلبت ذلك .. تنقلت نظراتها المتوجسة إلى والدتها التي خرجت من عند والدها ودموعها تسبق خطواتها متوجهة نحو الرواق والذي يضم غرفة رافع في أخرها ، بينما تكفل رامي بتهدئة والدهم والذي بشكل ما يبدو بأنه نجح ، بينما والدتها عادت تجر خطاها متوجهة إلى المطبخ تمسح دموعها والتي كان الفشل الذريع في محاولة التفاهم مع رافع وإخراجه من سجنه الذي يبدو بأنه لن يتركه مجددا من نصيبها ، دخلت المطبخ وبدأت تسمع أصوات الصحون تصطدم في بعضها البعض وعلمت بأن والدتها ترتعش أطرافها من بكائها ، كم تمنت بأن تقوم بمساعدتها وتطبطب على جرحها قليلا وتحاول أن تواسيها وتؤنسها بروحها المرحة التي عُرفت بها إلا أن التصلب المفاجئ الذي أصاب كل مفاصلها لم يسمح لها بذلك ، ففتحت الباب الذي لم يبعد عنها إلا مسافة بضع خطوات ، لتجد نفسها خارج المنزل الممتلئ بالشحنات السالبة وهالة سوداء حزينة وكئيبة سيطرت عليه ، خارت قواها وافترشت الأرض مستلقية على العشب والحزن قد نال منها ، تساقطت خصلات شعرها الأشقر حولها معلنة استسلامها ، قالت بخفوت والدموع أبت أن تنزلق على وجنتيها بل تكدست في عينيها وتجمدت لتبرق تلك العينان العشبية ببريق الحزن والعجز :
- كم أتمنى أن تحصل معجزة لتغير ما حل بنا منذ الصباح ..
ولم تكمل جملتها إلا وظل أسود حجب أشعة الشمس المتسللة من بين خصلاتها التي غطت وجهها وعيناها لتفتحهما بسرعة والخوف دبَّ في قلبها دفعة واحدة ، لتجلس بسرعة تنظر برعب لمن أصبح واقفا أمامها مباشرة والسبب في حجب ضوء الشمس عنها ، لم تكن ملامحه ظاهرة لها في بداية الأمر لكن قلبها نبض بشدة ليحثها على الوقوف بسرعة مبتعدة عنه ، فقفزت لتنتصب واقفة أمامه حينها اتسعت عيناها بصدمة لم تخفيها أبدا ، نطق ذلك الذي كان وجوده هنا أشبه بمعجزة هبطت من السماء وكأن أمنيتها تحققت ، فقال بهمس بارد حاول أن يكون مهذبا قدر الإمكان رغم نظرات اللامبالاة التي كان يرمقها بها :
- آسف إن أخفتك ..
وكأنها تحولت إلى أحد الجمادات المنتشرة حولها حتى تنفسها توقف فجأة من الصدمة الممزوجة بالدهشة ، نقل نظراته خلفها وقال ببرود أشد بعد أن طال صمتها وتحديقها المصدوم به :
- هل رامي موجود ..؟!!
ولا أي رد مما جعل عيني وسام تعود لترمقها ببرود ، ابتلعت ريقها من نظراته التي أصابتها في مقتل وقالت بنبرة هامسة لم تعرفها في صوتها سابقا ترفع رأسها لتنظر إلى وجهه فهي بالكاد يبلغ طولها نصفه :
- أ..أجل ..موجود ..
ولم تتحرك بل أخذت أناملها ترتفع لتبعد الخصلات المتمردة على وجنتيها وجبهتها وكأنها تريد التأكد من الذي يقف أمامها حقيقة هو أم وهم ، تنهد بخفة منها ولا يعلم ماذا بها ولماذا تحولت إلى جماد فجأة ، قال ببروده المعتاد ولا مبالاته ينظر خلفها حيث باب المنزل :
- إذا هل تنادينه لي أم ادخل ..؟!!
وكانت هذه الكلمات الشيء الذي ذكّرها بمدى غبائها وبلاهتها ، واقفة تطيل النظر فيه وكأنها لم ترى بشريا من قبل ، بل هو صحيح فهي لم ترى أحدا بكل تلك الوسامة المشبعة بها تفاصيله وكل تقاسيم وجهه من قبل ، احمرت وجنتيها خجلا وركضت مسرعة لتدخل إلى المنزل تعظ شفتيها بإحراج شديد من تصرفها الأحمق معه ، توجهت مباشرة نحو مكتب والدها ولم تجد إلا رامي يجلس على الأريكة ينظر إلى الأسفل ، ولم تتمكن من رؤية ملامحه بسبب انحنائه ، قالت بتوتر تتلقف أنفاسها التي أفلتت منها :
- رامي رامي ..
ألتفت إليها مغضنا جبينه باستغراب وقال :
- ماذا يا رنا ماذا بك ..؟!!
قالت كلماتها بسرعة تنظر إلى خارج المكتب :
- صديقك يريدك في الخارج بسرعة بسرعة ..
نهض متوجها نحوها وقال بتساؤل :
- من تقصدين ..؟!!
قالت مباشرة :
- وسام ..
قال بدهشة ارتسمت على تقاسيم وجهه :
- وسام ..!!!
ركض مسرعا مجتازا لها فوجود وسام هنا يعني أمرا خطيرا قد حدث أو هذا الذي صوره له عقله المضطرب من أثر ما حدث قبل قليل ، خرج من الباب ليرى وسام يعطيه ظهره مستندا على السور الحديدي الذي يحف المنزل من جميع الجهات ، تقدم نحوه بخطى مترددة في حين التفت وسام نحوه بكل برود وقال قاطعا أي مجال للتساؤل والاستفسار والتبرير لرامي بسبب وجوده هنا لأن ذلك ظهر جليا على ملامحه المتوترة فقال ببروده المعتاد :
- آسف على إزعاجك في الصباح لكني أردت أن أتحدث مع رافع إن أمكن..
تنهد حينها رامي مرة واثنتين وثلاث بدرجات متفاوتة فالأولى كانت تنهيدة راحة لأنه ولوهلة ظن بأن مكروها حصل لوسام والتنهيدة الثانية كانت متضجرة من طبع وسام البارد والمتعجرف فحتى أساليب اللباقة من الترحيب لم يعطه فرصة لقولها أما الثالثة فكانت تنهيدة ملؤها الأسى و الحزن على الحال الذي هم فيه الآن والذي لا يعلمه والسبب الأساسي هو ذلك الرافع الذي يريد محادثته ، قال بضيق بعد أن كتف ذراعيه وأشاح بوجهه :
- رافع يسجن نفسه في غرفته كعادته فاذهب من حيث أتيت إن كان هذا ما جاء بك ..
تنقلت نظرات وسام الباردة في ملامح رامي والتي يشيح اغلبها عنه وقرأ مدى الغضب فيها فقال ببرود :
- اخبره أنه أمر ضروري ..
نظر رامي إليه بحدة وقال بنفاذ صبر يلوح بيده في الهواء :
- ذلك الرافع الأحمق والأبله لا ينصت إلا لكلام نفسه ولوساوسه السوداء ضعيف ومهزوز ومنكسر لم يعد يعيش على هذه الأرض إلا جسده البالي فقلي بحق الله كيف أقنعه بأنه أمر ضروري وهو لم يعد يعرف الصواب من الخطأ ليعرف الضروري من غيره ..
وصمت يتلقف أنفاسه الغاضبة وأخذ يمرر أنامله في خصلات شعره الأشقر يكاد يجن بعد الذي سمعه من والده وأن رافع يفكر جدّيا بالرحيل وعدم العودة إليهم ليفني ما تبقى له من عمر وحيدا ، قال وسام بلا مبالاة وكأنه لا يهمه أي مما قاله له رامي ولا لانفعاله الذي يدل على كبته لمشاعره المحترقة داخله :
- أخبره بأنني أنا شخصيا أريده بسرعة فلدي الكثير لأقوم به ..
زفر رامي الهواء كالإعصار ينفثه بقوة فوسام المتعجرف المتحجر عديم الإحساس يريد أن يفقده ما تبقى لديه من عقل وصبر ببروده المميت هذا وأسلوبه النزق في إلقاء الأوامر ، نفض قميصه الذي كان يرتديه واستدار ليدخل إلى الداخل لكنه توقف فجأة ونظر إلى وسام الذي كان بدوره ينظر إليه ببرود بسبب توقفه المفاجئ ، قال رامي بعد تردد :
- وسام إن وافق رافع وخرج لك فأقنعه بالعدول عن فكرته المجنونة التي هو مصر عليها أرجوك فهو لن يرفض لك طلبا..
وغادر سريعا تاركا وسام الذي يفترض بأنه تشتت مما قد قاله له رامي لكنه لم يعر ذلك أي اهتمام فهو قادم لأجل شيء واحد وفي نيته أن يفعله مهما كلفه الأمر وهو عودة رافع إلى التجارة عشقه السابق وشغفه ولكن ليس بطريقة عائلته التي يراها لا تجدي نفعا أبدا بل على طريقته الخاصة فهو يعد رافع كصديق له مثله مثل رامي وطارق ويجب عليه مساعدته في أزمته الحالية ، انتظر عدة دقائق لم تكن بالقليلة أبدا وظن بأن رامي فشل في مهمته ، وإذا برافع يخرج له من باب المنزل ، مظلم الوجه وشاحب البشرة يسير بخطى واهنة وكأن هموم الدنيا كلها اجتمعت عليه دفعه واحدة مطأطأ الرأس لا يكاد يرى إلا خطواته الواهنة وكم بدا بأنه يجبر نفسه على الخروج فوسام لم يزرهم من مده طويلة وأن يأتي بنفسه ليراه وحده شيء لم يستطع تجاهله فهو لا زال يملك من رافع القديم الكثير من الأخلاق الفاضلة ، وقف أمامه وقال بهمس أجبر نفسه عليه وهو يمد يده ليصافحه :
- أهلا بك يا وسام ..
صافحه وسام ولم يرد عليه فقال رافع بعد أن سحب يده وبنبرة مرتعشة :
- تفضل بالدخول ولا....
قاطعة وسام بإطلاقه صوت يدل على عدم الموافقة فقال رافع بثبات رغم نبرة الانكسار فيها وبعد أن طال الصمت بينهما وهو يخشى النظر إلى عيني وسام :
- إن كنت هنا لتقنعني بأن أتراجع عن قـ....
قطع جملته بدهشة اعتلت ملامحه عندما ارتفعت يد وسام لتستقر على كتفه ، قال وسام ببرود ينظر إلى عينيه مباشرة :
- لا يعنيني أي شيء مما قد قررته وتريد فعله ولست هنا لما يصوره لك دماغك فأنا لم أفهم مما قلت شيئا من الأساس ..
حينها تنقلت عيني رافع الخضراء الصافية كلون العشب والخضرة حولهم في تقاسيم وجه وسام ، فإذا لم يكن وسام هنا لأجل طلب من والده أو رامي له بأن يقنعه بأن لا يترك المنزل والإمبراطورية بأكملها فلماذا هو هنا ؟! وما الذي يريده منه بالضبط ؟! فبالتأكيد أنها ليست مجرد زيارة وسؤال عن الحال فوسام لم يفعلها سابقا ليفعلها الآن ، قال وسام بعد أن سحب يده وأعاد سجنها في جيب معطفه :
- أتذكر بأنه لا يزال لديك بعضا من بضائعك السابقة ، صحيح ..!!
اتسعت عيني رافع بصدمة وأماء برأسه إيجابا ولم يفهم ما الذي يحاول وسام الوصول إليه ، ابتسم متهكما وقال ببرود :
- إذا هل تمانع إذا اشتريتها منك وأعطيتني إياها ..
ثم رمقه بمكر وقال ساخرا :
- إلا إذا كنت تريد أن تحتفظ بتلك البقايا البالية بالطبع ..
هز رأسه نافيا والصدمة قد ألجمته ولم يعرف ما سبب طلب وسام هذا وما الذي قد يريده منها بالضبط ولما هذا الأسلوب المتهكم ، غادر سريعا بعد أن قال له وسام بنفس البرود والابتسامة الساخرة :
- إذا سوف تتحرر من خناقها لك أخيرا ..
وما هي إلا دقائق وكانت عربة مجهزة بالكامل بكل ما تبقى من بضائعه السابقة والتي اختارها بنفسه وبأغلى الأسعار وأجود الخامات، قال رافع وابتسامة صغيرة ارتسمت على محياه وقد شع وجهه وكأن الحياة قد عادت له :
- لا اعلم ما الذي يتوجب علي قوله لك يا وسام فلقد خلصتني من أكبر مسببات تعاستي وخيبتي من نفسي ..
قال وسام :
- إذا سأدفع لك ثمنها فيما بعد أم لك رأي أخر ..
وأي رأي يملك فهو أخيرا تخلص من بقايا الماضي المرعب والكئيب بالنسبة له فما تبقى له من تجارته السابقة كان وكأنه جبل ضخم يقبع داخل صدره وبعد أن اشتراها وسام منه شعر بلذة التحرر من الماضي وأنه يستطيع فعلها ويعيد كتابه قصة حياته من جديد ولوحده ودون تدخل أيا كان ، قال مندفعا :
- خذها فأنا لا أريد المال أساسا..
نظر إليه وسام ببرود وقال بكل بساطة :
- إذا لا اتفاق بيننا ..
علت الدهشة ملامح رافع مرة أخرى فكم يجيد وسام ذلك وكم يجيد اللعب بالأعصاب ، ونسي لوهلة بأن ذلك يعد إهانة له بأنه يعطيه شيء ولا يأخذ أي مقابل عليه فوسام ومهما كانت طباعه متعجرفة بعض الشيء وخالية من الإنسانية إلا أنه يبقى رجل وله كبرياء شامخ ينافس فيه شموخ الجبال ، قال مبررا لنفسه :
- لا لم أقصد ذلك أنا حقا آسف لكن ادفع لي ثمنها متى شئت وكيفما شئت ..
ابتسم وسام واستدار يرفع يده ملوحا له ومودعا إياه وقال قبل أن يختفي عن أنظاره وبابتسامة متهكمة ونبرة لم يفهم معناها :
- سأعيدها لك بطريقة تعجبك ، أنا أعدك ..
لم يفهم كلماته ولا تصرفاته الغريبة فهذا وسام من المستحيل أن يفهمه أي شخص مهما كان قريبا منه وليس متأكدا مما فعله هل هو صحيح أم أنه تسرع قليلا لكنه متأكد من أنه لم يغادر سجنه عبثا وأن وسام سيساعده على الخروج ويقف معه في تحقيق رغبته وليس كما ظن سابقا بأنه سيقف مع عائلته وضده ، ولكن كما يبدو بأنها مسألة وقت ليس إلا .

*****

ابتسمت بخفة وهي تضيف ملعقة صغيرة من السكر إلى كوب قهوتها لتمزجهما معا كما امتزجت ضحكتها الرقيقة بسعادتها ، تجلس أمام النافذة مكانها المفضل والمطلة على العشب الأخضر والأشجار الكثيفة ، أكثر شيء ميّز الإمبراطورية الخضراء هي وفرة العشب وكثرته حولهم مع وجود كل تلك الأشجار الضخام والتي تزين الإمبراطورية بأكملها ، منظر يبث في النفس الراحة والطمأنينة ، ارتشفت القليل من القهوة وتذكرت شكل والدها وهو يجلس أمامها في العربة بعد أن أصرَّ على أن يرافقها إلى العيادة ، يغمض عين ويفتح الأخرى ، وفمه لم يُغلق طيلة الطريق في تثاؤب مستمر وكم بدا مرهقا ومتعب ، ضحكت وقالت بمشاكسة :
- تستحق هذا يا أبي لكي لا تتركني لوحدي في العيادة مرة أخرى..
وأكملت ضحكاتها الخافتة تجلس بهدوء تراقب الخضرة والطبيعة من نافذتها ، لتداهمها ذكرى أخرى وهي وجود وسام بالأمس معهم وكيف أصر على مساعدتهم حتى في نقل الأطباق للمطبخ ولو لم يكن هنالك خادمات لكانت متأكدة من أنه سيقوم بغسل الصحون معهم ، رجل يعتمد على نفسه في كل شيء كما يعرف كل شيء ، ويتحلى بكثير من الصفات الرائعة كما وسامته التي فاقت المعقول ، لا يتذمر لا يشتكي لا يأمر وينهى وليس بالمغرور المتكبر أبدا الذي يفرض قوته ورجولته المزعومة على من هم أضعف منه ، ولو أبعدنا هالة البرود والهدوء الذي يصل بعض الأحيان لصمت الأموات والنظرة القاتلة لكان رجالا تتمناه كل أنثى على وجه هذه الأرض ، تذكرت كيف أصر على أن تخلد للنوم لكي تستيقظ باكرا بنشاط وعندما رفضت ذلك بحجة أنها لا تشعر بالنعاس أبدا وأصرت على أن تؤنس والدتها ولا تتركها لوحدها نهض وادعى أنه لديه أعمال يجب أن ينهيها ، وسام لم يتغير أبدا بالرغم كل البرود والغموض الذي يغلف نفسه به إلا أنه يبقى وسام الفتى الذي عرفته من سنين طويلة ، طيب القلب محب للخير لا يترك أحدا يحتاج مساعدة ولا يساعده ..
نظرت بسرعة نحو الباب إذ أنها سمعت حركة وتبدو لشخص ما لتجده حسام يقف مكتفا ذراعيه يستند بكتفه على حافة الباب ويبدو بأنه كان يراقبها من وقت ، قالت بدهشة :
- حسام ..!!
ابتسم نصف ابتسامة ودخل بخطى ثابتة ، سحب الكرسي الآخر والمقابل لها وقال بسخرية يرمقها بنظراته :
- نعم حسام أم نسيتني ..!!
ضحكت بخفوت وقالت ببراءة تصدر من أعماق قلبها الأبيض :
- كلها يوم غبت عن العيادة فكيف أنساك ..!!
فاتسعت ابتسامته من كلماتها وجمد عند أعتاب ضحكتها يتأملها بصمت ، ارتبكت مايا من تلك النظرة التي لم تفهمها وقالت بقليل من الارتباك :
- أممم صحيح نسيت أن أقول أهلا بعودتك ..
ولم تتلقى أي رد منه وكأنه انفصل عن العالم أجمع ، كل شيء ساكن فيه حتى نظراته التي لم يبعدها عنها ، نهضت ولا تعلم لما نهضت لكن ارتباكها فاق المعقول مما جعل حسام ينتبه لنفسه ويتدارك غبائه فقد أطلق العنان لعيناه لتكسر الحدود وهذا كله من تأثير الاجتماع الكارثي ، فأول ما رآها تبتسم وتضحك تحتسي من كوب قهوتها تذكر فورا إجبار عمه بتزويجه من ابنته زهرة باعتبارها خطيبته حسب نظام العائلة ، والتي يكاد لا يطيق رؤيتها في أي أرض بالرغم من أنها لم تفعل له شيء ولم تكن بينهم أي مواقف لكنه وبحكم كرهه لعائلته كرها جما كرهها معهم بدون سبب فكونها واحدة منهم يعتبر بالنسبة له أقوى سبب يبرر له كرهه الشديد لها ، وكم خشي حينها بأنه سيفقد قمره التي تجلس أمامه الآن ويفقد سعادته المتكونة في أمرين فقط الطب ومايا ، قال بعد أن أشاح بوجهه جهة النافذة يكبح نفسه من التمرد أكثر :
- هلا حضرتي لي القهوة من فضلك ..
نظرت إليه بدهشة ، هل يعقل بأنه كان مترددا من طلبه البسيط هذا ولم يعرف كيف يطلبه منها !! أم أنه خشي أن ترفض مثلا !! ، تفكيرها البسيط وبراءتها المفرطة هي ما جعلتها تفكر هكذا وتعتقد بشيء لا وجود له في الأصل فحتى الأعمى كان سيقرأ في نظراته كميه هائلة من الحب لها والإعجاب بها ، ابتسمت ابتسامة جميلة كجمال روحها وقالت :
- بالطبع سأحضّرها لك الآن وحالا ..
غادرت مسرعة وعادت نظراته لتتبعها ، حضّرت كوب قهوة له سريعا وعادت ، وضعت الكوب أمامه فوق الطاولة الدائرية التي تفصل بينهما وقالت تنظر إليه :
- ما أخبار عائلتك ولماذا غبت طيلة البارحة ظننتك ستعود باكرا ..
اتكأ بمرفقه على الطاولة وقال ينظر إليها بمكر :
- ماذا هل اشتقتِ لي ..
اتسعت عيناها بدهشة ورمشت عدة مرّات فعقلها لم يستوعب الإجابة هذه فضحك عاليا على ملامحها المندهشة والفاتنة وقال :
- امزح امزح ..
مرر أنامله في شعره الأسود وقال ببرود :
- سؤالك الأول لن أجيب عليه أما الثاني فبسبب السؤال الأول طبعا ..
أماءت رأسها إيجابا فهي تعلم بأن حسام لن يجيب فهو يبغض عائلته جدا بالرغم من كونه في الأصل أمير وعمه الإمبراطور عامر إلا أنه يبدو بأنه ليس من النوع الذي يحب التفاخر بالأنساب والأحساب ويستخدمهما لقضاء حوائجه ، قالت بابتسامة مبددة الحالة الكئيبة التي سيطرت على حسام من ذكرها لعائلته :
- إذا دعنا نراجع بعض ملفات مرضانا وندرسها من جديد فيجب علينا طلب الأدوية المناسبة لهم قبل نفادها فلدينا اليوم الكثير من الأعمال لننجزها ..
ابتسم بدوره لها وقال يحتسي قهوته بتلذذ :
- نعم هذا الذي أريده الآن حقا ، تعديل المزاج ..
ورمقها بمكر وهو ينطق أخر جملته لكنه وكالعادة لم يتلقى منها إلا ابتسامة لطيفة تهديها للكل وكم يبغض ذلك فهي ستكون له ورغما عن الجميع ورغما عنها هي أيضا إن رفضت ذلك .














نهاية الفصل , قراءة ممتعة لكم أحبتي ..
بقلم محبتكم : روح الوسن ..




روح الوسن .. غير متواجد حالياً  
موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 06:04 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.