شبكة روايتي الثقافية

شبكة روايتي الثقافية (https://www.rewity.com/forum/index.php)
-   ارشيف الروايات الطويلة المغلقة غير المكتملة (https://www.rewity.com/forum/f524/)
-   -   بعثرات زمن / رواية فصحى .. (https://www.rewity.com/forum/t466259.html)

روح الوسن .. 02-01-20 12:14 AM

بعثرات زمن / رواية فصحى ..
 
بسم الله الرحمن الرحيم
.
.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
.
.

عضو جديد بينكم سادتي الكرام وأخت أنظمت لكم ، كنت مجرد متابعة لإبداعاتكم لكني قررت اليوم بأن أشارككم بعضا مما لدي من أفكار ، قد يكون ما سأضعه بين أيديكم لا يناسب فخامتكم فأنا لازلت مبتدئة في الكتابة ولا زلت أتعلم لكني أطلب منكم السماح إن كان هنالك تقصير مني وأتمنى دعمكم لي بمتابعتكم لروايتي وقراءتها وردودكم وتفاعلكم الذي لن استغربه منكم حتى لو لم اطلبه ليكون لي وسام شرف أعلقه على صدري دائما ..
.
.

بإذن الله سيكون التنزيل في كل أسبوع فصلين ..
.
.

" أمنيه صغيرة في عمق قلبي بأن التميز يكون من نصيب روايتي "



.
.

أختكم ومحبتكم : روح الوسن ..
.
.

" لا إله إلا أنت سبحانك اني كنت من الظالمين "




روابط الفصول

المقدمة .... المشاركة التالية
من الفصول 1 - 5 .... بالأسفل

الفصول 6، 7، 8، 9، 10، 11، 12 نفس الصفحة
الفصل الثالث عشر
الفصول 14، 15، 16، 17، 18، 19، 20، 21، 22 إعادة تنزيل
الفصول 23، 24، 25، 26، 27، 28، 29، 30، 31، 32 نفس الصفحة
الفصول 33، 34، 35، 36، 37، 38 نفس الصفحة
الفصول 39، 40 ، 41، 42، 43، 44 نفس الصفحة
الفصل45

روح الوسن .. 02-01-20 12:27 AM

بَعْثَرَات زَمَــنْ


( المقدمة )

يحدث لك أن تعصف بك الحياة بصعابها وتبعثرك في حياتك , تتفكك كل قواك وتذهب أدراج الرياح ,

يحدث أن تبعثرك الظروف المحيطة بك لتلقي بك في الهاوية , يحدث لك أن تتبعثر قواك تتبعثر

مشاعرك تتبعثر كلماتك تتبعثر روحك تتبعثر أحلامك في زمن من الأزمان وفي وقت من الأوقات

أو في موقف من المواقف فتحتاج إلى من يلملمك يلملم بعثرتك يلملم شملك لتعود كما كنت

أو أفضل من ذلك بكثير لذلك سأبدأ بكتابة أول فصول حكايتي بإذن الله تعالى [بعثرات زمن] رواية

مختلفة بعض الشيء في فكرتها أحداث حدثت في زمن من الأزمان القديمة لمجموعة من

الأشخاص الذين جمعتهم ليست مواقف الحياة بل بعثرات الحياة فكيف اجتمعوا ؟! وكيف تبعثروا ؟!

وهل سيضمد كل منهم الآخر ؟! هل لبعثرتهم أن تتلملم ؟! سنعرف كل ذلك وأكثر بإذن الله ..
[/size]

روح الوسن .. 02-01-20 01:12 AM

.. الفصل الأول ..

| البداية |

في تمام الساعة الثانية فجرا , في ليلة حالكة شديدة السواد لاختفاء اغلب ضوء القمر فيها , في إمبراطورية البراكين احد الإمبراطوريات الأربع مكان لتجمع أفضل واخطر اللصوص ، وبين تلك الجبال المهجورة والموحشة كان أفراد إحدى العصابات وامهرهم وأخطرهم أيضا تلك العصابة التي اشتهرت بلقب " جماعة قراصنة الموت " بلباسهم الأسود الموحد والذي كان عبارة عن قميص وبنطلون أسودان ومعطف طويل يصل إلى ما فوق الركبة بقليل بأحذية سوداء طويلة إلى نصف الساق , والاهم من ذلك وهو أكثر شيء عُرِفوا به هو عصابة العين التي يستخدمها جميع أفراد تلك العصابة لتغطيه إحدى أعينهم وذلك دليل على أنهم قراصنة وقناصين , ينفذون مهماتهم وهم بعين واحدة فقط ليبثون الرعب في قلوب كل من في تلك الإمبراطورية وتجعلهم يتساءلون ماذا لو أدوا مهماتهم وهم ينظرون ويستخدمون كلتا أعينهم؟؟ , والغريب في الموضوع هو عددهم الذي لم يزيد عن فردين فقط لسنين طويلة لم تقل عن العشر سنين إلا منذ أيام معدودة عندما انضم لهم فرد ثالث يبلغ من العمر الخامسة عشر فقط ليكون العضو الأصغر في تلك العصابة الخطيرة , أما الأغرب من ذلك فهي طبيعة عملهم ومهماتهم تلك التي لا تكون إلا عندما يسدل الليل ستارة , أما في وضح النهار فلا يكونون إلا جنود ضعفاء مغلوب على أمرهم يتدربون في المسكرات مثلهم مثل غيرهم ولا احد يعلم بهوياتهم الحقيقية إلا زعيمهم بالطبع والذي يدعي كونه احد الضباط العاديين الذين يقومون بتدريب الجنود في المعسكرات , أما في الليل فيتحول إلى زعيم قراصنة الموت.
شحب وجه ذاك الفتى الذي بالكاد بلغ الثامنة عشر من العمر بالكامل وهو يوجه حدقتيه العسلية التي لمعت في الظلام بلمعة خفيفة نحو بطن ذلك الرجل ذو الشعر الأسود والملامح الرجولية الوسيمة المستند على إحدى الصخور وقال بهدوء حمل في طياته الخوف والتوجس:
- هييه فارس أأنت بخير ما كل هذه الدماء..؟!!
مد يده نحو وسام ليقترب الآخر منه واضعا يده على كتفه ليبث في قلبه الطمأنينة وقال بمرح اعتادوا على سماعه منه رغم بلوغه الخامسة والعشرون من العمر:
- لا تقلق علي ي وسام إصابة خفيفة ليس إلا ..
رفع نظره إليه مجددا وقطب حاجبيه باستغراب ما إن استقرت نظراته الحادة التي لا تدل إلا على حدة ذكائه على عيني الجالس أمامه تلك العينان السوداء المتعبة التي تخفي ألما جليا فيها لكنها لم تخفى على عسليتي وسام والتي استطاع سريعا قراءة ما يخفيه فيهما وقال مستفهماً في بادرة نادرة منه وهو السؤال عن حال أيا كان:
- لكنك تنزف الكثير من الدماء.. ؟!!
مد فارس يده ببطء جاهد نفسه ليكتم أنينه المتوجع لتستقر على رأس وسام آخذا يبعثر خصلات شعرة البنية بخفه وقال بينما انطلقت ضحكاته في سكون الليل لتمزقه:
- ما ألطفك عندما تظهر هذه الملامح على وجهك ي وسام ..
ابعد وسام يد فارس بقوة ألمته وقال ببرود بينما احتدت عيناه لعلمه لما قصده من كلامه ذاك وهو يستقيم على طوله مبتعدا عنه :
- اصمت ودعنا نعود بسرعة نداوي جرحك ..
تجاهل فارس كلامه وقال بينما كان يلتفت في كل الجهات يتنقل بعينيه في الأرجاء :
- أين سيف لقد تأخر .. ؟!!
رمقه وسام بنظرات باردة وحادة لتجاهله له وقال بجمود :
- لا تقلق فذلك السيف سوف يشعل النيران في القرية ويأتي إلينا..
عاد بنظره إلى وسام وقال بنبره متسائلة :
- إذا يا وسام هل جمعت كل مجوهرات القرية ؟!!
ليرد عليه ببرود شديد وهو يهيم بنظره بعيدا عنه بشرود :
- نعم ..
لاحظ فارس تجهم ملامح وسام وهو يعلم تماما لما , فهذه المهمات التي توكل إليهم ليست إلا للسرقة وما شابهها من الأعمال الغير إنسانيه , إلا أنهم لا يتعرضون على أي شخص ولا يحق لهم ذلك إلا إن اكتشفهم احد أو رأى ملامحه فهنا يجب التخلص منه وسريعا , فحاول أن يخلق جوا لطيفا وقال بنبرته المرحة المعتادة يسأله ليبدأ حوار جديد بدلا من الصمت المميت الذي أحاط بهم :
- هل تعرض لك احد ما .. ؟!!
- نعم ..
ليفاجئه برده السريع والبارد أيضا الذي لا يعبر إلا عن انه لا يريد أن يتحدث ، اغتصب فارس ابتسامه ولم يستسلم بسهوله بل حاول من جديد بأمل كسير عندما قال :
- إذا لقد تخلصت منهم صحيح .. ؟!!
لكنه حطم آماله تلك وهو يستدير وقال ببروده المعتاد وبنبرته الهادئة :
- نعم ..
لتنطلق حينها ضحكات فارس والتي كادت أن تمزق الأفق وذلك السكون المميت واضعا يده على معدته وقال بضحكه بالكاد خرجت الحروف من بينها لتكسو معالم وجهه السخرية كما الألم :
- يا لا برودك يا وسام ألا تعرف غير كلمة نعم ..
لكن وسام وكالعادة لم يهتم لما قاله بل تجاهله وهو يتأمل البعيد بسكون مريب إلى أن سمع تنهيده العجز من فارس والذي يبدو انه أعلن انهزامه في كسر كتله الجليد هذه في حين التفت إليه وسام ينظر إليه بحدة يعلم جيدا بأن فارس يحاول دائما جعله يتحدث وذلك أكثر شيء يكرهه وهو أن يحوله ليصبح مثله ثرثارا كما ينعته دائما ولكن ما يحمله في قلبه اتجاهه اكبر بكثير من أن يغضبه ويزعجه فقال يشد على أسنانه محاولا أن يستجلب أي ذرة صبر لديه يشد قبضتيه التي كانتا سجينتي جيوب معطفه :
- وأنت هل قمت بعملك .. ؟!!
لكن فارس ذو الطباع المرحة فاجأه بقوله وهو يكبت ضحكته ويحاول تقليده في طريقه كلامه المختصرة الباردة والمتعجرفة :
- نعم ..
ليرمقه وسام بحدة بعينين التهبتا سعيرا من غضبه وقال ببرود اشد يعاكس ما بداخله :
- اخرس ..
ارتعش جسده من تلك النظرات القاتلة لا شعوريا وقال بضحكه صغيرة محاولا إخفاء ارتباكه منه :
- حسنا .. حسنا ..
وما هي إلا دقائق حتى وصل الفرد الثالث والأصغر في تلك العصابة إليهم لاهثا يتلقف أنفاسه بصعوبة من ركضه السريع ينحني بجسده قليلا واضعا يداه على ركبتيه في حين اندلعت النيران في جميع أنحاء القرية التي تقابلهم تماما لتأكل الشجر والأعشاب والأزهار والمنازل وكل من يقف في طريقها لتعلن تدميرها بالكامل ولتنهي الحياة فيها مانعه أي شخص من الاقتراب منها تاركين خلفهم منازلهم وممتلكاتهم وذكرياتهم فيها.
قال سيف بعد أن رفع رأسه ناظرا إليهم وهو يضحك بنصر ويحاول التقاط أنفاسه التي انقطعت من ركضه السريع :
- هيييه يا رفاق لقد فعلتها لقد أشعلت النيران وأخفيت كل أثارنا ..
ابتسم فارس ولم تخفى لمحه الحزن في عينيه فها هم يعلمون هذا الفتى الصغير أساليب المجرمين والتدمير والتخريب مجبرين على فعل ذلك وقال بكل حنية وفخر :
- أيه الشجاع تعال إلي لأحضنك فأنت بطلي الصغير ..
ابتسم سيف واحمرت وجنتيه خجلا وتقدم نحو فارس بخطوات سريعة وجلس بجانبه وقال بخجل وهو ينظر إلى الأرض :
- أنت تبالغ يا فارس فأنا مازلت أتعلم منكم ..
وفجأة صرخ بخوف واتسعت عيناه وقال بتلعثم شديد بالكاد خرجت معه الحروف عندما وقعت عيناه على بطن فارس وتحديدا على تلك الدماء النازفة :
- فاااارس ما كل هذه الدماء أأنت مصاب ؟؟ من الذي تجرأ على فعل ذلك سأقتله بيدي ..
فامتلأت أعين سيف السوداء بالدموع واخذ يشهق بقوة كطفل صغير ماتت والدته أمام عينيه أما فارس فضل يضحك بتعب ممسكا على معدته من تلك التعابير التي ارتسمت على وجه سيف وهو يقول بين ضحكاته وكأنه غير مصاب ولا ينزف أيضا :
- عزيزي سيف انه جرح بسيط لا تقلق ..
فالتفت سيف بسرعة نحو وسام الذي كان يقف خلفهم بهدوء وكأنه انفصل عنهم في عالم لا يوجد أحدا غيره فيه , متأملا بجمود النيران تلك التي تأكل تلك القرية شيئا فشيئا لتدمرها بالكامل لا يعلم متى سيتوقف تدميرهم لحياة الآخرين ولا يعلم متى يمكنه رفض تلك المهمات السخيفة والعيش كأي بشر بل هو يعلم متى يكون ذلك وذلك عندما يتخلص من دماء أبناء إمبراطورية البراكين , تلك الدماء الكريهة التي عُرفت بالخيانة والتدمير كما القوة والسلطة أيضا ، صرخ سيف بكامل صوته وهو يردد اسمه الذي يبدو بأنه لم ينته لنداءاته السابقة فاستدار بوجهه فقط ناحيتهم وكأن سيف لا يصرخ به وقال بنبره باكيه مترجيه :
- وسساااام إن فارس مصاب أسرع وضمد له جراحه ..
نظر وسام لفارس فوجده يبتسم ويرفع كتفيه بقله حيله بمعنى "عجزت عن إقناعه أني بخير" ثم عاد بنظره إلى سيف ببرود ورفع كتفيه بقله حيله وقال بابتسامه متهكمة ساخرة :
- انه يريد الموت ماذا عساي أن افعل ..
انتفض سيف من مكانه برعب احتل قلبه بالكامل ورفع حاجبيه بصدمه وبعدم الاستيعاب وتلعثم في كلامه وقال بتقطع خشي أن تنقطع معه أنفاسه ونبضات قلبه :
- أ..أأن..نت م..ما..ذا ... تق..ص..ص..د ..
فنهض فارس حينها وهو يمسك بطنه من شدة الضحك بينما يمسح دموعه بيده الأخرى وكأنه مجرد خدش وليس جرح امتد طوله من جانبه إلى منتصف معدته تقريبه وقال مبددا ذلك الجو المرتبك :
- سوف تقتلاني انتم الاثنان من الضحك بالتأكيد ..
فأكمل وهو يسير من بينهما قائلا بأمر :
- هيا , هيا لنعد بسرعة إلى المسكر فجراحي بدأت تؤلمني حقا ..
ابتسم سيف برضا ونهض بسرعة وهو يمسح دموعه وقال بفرح لم يجاهد لإخفائه :
- حاضر سيدي ..
أما وسام فتوجه نحو الحقيبة المملوءة بالمجوهرات الثمينة والنادرة وقال بنبرته الساخرة شديدة البرود في حين حمل الحقيبة على كتفه :
- أخيرا اقتنعت يا فارس بالبقاء على قيد الحياة ..
وسرعان ما تبعهم متوجها نحو فارس رافعا إحدى يديه ليلفها حول رقبته أما يده الأخرى فالتفت حول خصره قاصدا مساعدته على السير لملاحظته لخطوات فارس الغير مستقرة أما سيف فسار بجانبهما وقد كان ينظر إليهما بفرح شديد والسعادة تغمر قلبه راسما على محياه ابتسامه عريضة شاكرا في قرارة قلبه على عائلته الجديدة الصغيرة هذه التي منحوها إياه بغض النظر عن أعمالهم التي تجمعهم معا .

*****

بعد منتصف الليل وعندما سطع ضوء القمر منيرا السماء الواسعة وفي سكون مخيف في حجرة كبيرة وكما يبدو بأنها تحت الأرض بجدرانها الحجرية وسقفها القريب امتدت رفوف خشبية في كل جزء من تلك الغرفة التي تملؤها الكتب والظروف والملفات توسط الحجرة مكتب مصنوع بحرفية , مزيج بين أنواع الخشب مغطى بالقطع الجلدية السوداء الفخمة المطرزة لتعطيه منظرا مبهرا ومخيف ، انتشرت الأوراق على سطح ذلك المكتب وفي طرفه توجد كومه من الكتب المتراصة فوق بعضها البعض تنتظر من يقرأها ، أضواء الشموع الخافتة وصوت تقليب الأوراق من صفحات الكتاب هو ما يثبت وجود شخص ما هناك ، يقف شامخا بهيئته الرجولية الضخمة أمام إحدى الرفوف يحمل بين يديه كتابا يقلب صفحاته وكم بدا منسجما بما يقرأه كيف لا وقد طبع على مغلفه بالخط الكبير وباللون الذهبي عنوان (السيطرة) وهو أكثر شيء يعشقه بجنون في هذه الحياة ، طرقات متتالية صغيرة على الباب الحديدي جعله يخرج من شروده وانسجامه هامسا بشتيمة لاذعة على قطع حبل أفكاره وانغماسه الشديد بما يقرأ ، أطلق صوتا يدل على انه سمع الطرق وعرف من صاحبه فقال بنبرته الرجولية الخشنة :
- ادخل ..
دوى صوت صرير الباب المزعج في الأرجاء ليحكي لحنا مرعبا ومنبأ بخطر محدق وهلاك أكيد بسبب المتواجدين داخل الحجرة الحجرية ، انفتح حينها الباب وظهر رجل في أواخر العشرين من العمر يرتدي زي الضباط الأسود والذي نقش عليه شعار بركان باللون الأحمر ليثبت بأنه احد أبناء إمبراطورية البراكين الذين عرفوا بشرهم وجشعهم وهوس حبهم للسيطرة والتملك ، ضرب له التحية العسكرية وقال بنبرة حازمة :
- سيدي تمت المهمة ..
ارتفعت زاوية فمه بابتسامه تهكميه يعلن انتصاره كما قوته للجميع يشعر بنشوة انتصاره واقترابه من تحقيق حلمه الذي لطالما سعى جاهدا له ، قال له بعمق مخيف :
- والمعلومات التي طلبتها منك ..
اخرج ورقة ملفوفة من جيب معطفه نزع الشريط بقوة فاردا إياها أمام وجهه وقال :
- جاهزة سيدي ..
همهم إيجابا ليكمل الأخر قائلا :
- تم السيطرة على خمس قرى بالقرب من إمبراطوريتك سيدي وتم جمع جميع أموالهم وكنوزهم والذين أعلنوا ولائهم لك فقدم كبار القبائل أبنائهم الشباب ليخدموك ..
ضحكه صغيرة هي كل ما استطاع إخراجه وكأنه يعلم مسبقا بكل هذه المعلومات أم ربما لثقته الزائدة والتي وصلت للغرور بالتأكيد بأنه هو المسيطر القوي الذي لا يخشى شيئا فقال بنبرته الخشنة بعد صمت دام للحظات :
- جيد ، ذلك الطلال ليس سيئا ..
ثم أكمل قائلا بتهكم شديد يقلب صفحات كتابه ونظره عليه :
- وماذا عن أفراد جماعته السخيفة تلك .. ؟!!
تنحنح قليلا وبدا انه متوتر كيف لا والذي أمامه لا يفوت صغيرة ولا كبيرة من اشتهر بحدة ذكائه وعبقريته فقال بنبرة متزنة قدر الإمكان ولم يستطع منع الخوف الذي ظهر في قسمات وجهه من الظهور :
- هم من سيطر على تلك القرى جميعها و....
بتر جملته يبتلع ريقه مع باقي كلماته عندما التف وجه سيدة ولأول مرة منذ وصوله لتلتقي أعينهم مباشرة لا يفصلهم أي شيء ليعم صمت مخيف لا يسمع إلا صوت اضطراب أنفاس مهند ، قال جاسم متسائلا بحنق :
- ماذا تعني ..؟!!
سحب كميه هواء ليدخلها إلى صدره في محاولة التخفيف من توتره الشديد وقال بهدوء مصطنع :
- فارس العقل المدبر لجماعتهم والذي استطاع التخطيط لكل تلك الخطط الناجحة ..
وغض على شفتيه بقوة بعد أن رأى نظرة الغضب تنبعث من عيني سيدة السوداء كحجرين متقدين وعلم حينها أنها نهايته فهو يمقت أن يكون احد اذكي منه أو أقوى , يرى نفسه كل شيء بينما الآخرون ولا أي شيء , بلع ريقه وأكمل مستشهدا على نفسه بعد أن طال الصمت بينهم ثانيتا :
- كما انه ضم عضو جديد إلى جماعتهم ليكونوا ثلاثة بحجه أن المهام التي توكل إليهم تحتاج إلى عدد اكبر ..
قال جاسم بحدة :
- ومن يكون ..؟!!
رفع أنامله بتوتر ليفتح احد أزرار قميصه فهو حقا يشعر بالاختناق وكأن الهواء قد نفذ من حوله وقال بصوت ضعيف :
- ل..لا معلومات ك..افيه عندي له سيدي ك..ل ما في الأمر أن فارس هو من أصر على وجوده بينهم ..
ضحك حينها ضحكه هادئة برنه خبيثة وقال من بين أسنانه يضيق عينيه ينظر في الفراغ وكأنه ينظر إلى شخص ما ويكلمه :
- كاذب ، بل هناك شيء يخفيه عنا فهو لا يحتاج إلى أي احد بوجود ذلك الذئب المتوحش بجانبه ..
استدار يعطيه ظهره يعيد الكتاب حيث كان سار بهدوء يمرر أنامله على الكتب بالتتابع يبحث بنظره عن احدهم إلى أن استقرت أنامله كما نظره عليه , أخرجه بهدوء يحمله بين يديه متوجها نحو المكتب الواسع , جلس بكل ثقة على الكرسي الخشبي المغطى بالجلد الأسود كثير النقوش وقال وهو يشبك أصابعه في قبضه واضعا إياها أسفل ذقنه :
- قل ما عندك ..
رفع أنامله واخذ يفرك جبينه مبددا توتره فهو حقا أصبح يشعر بالخوف الشديد من سيدة والذي لم يلبث طويلا حتى قال بنبرته المخيفة :
- مهند ، ارفع رأسك ، وانظر إلي ..
رفع رأسه ببطء يعلم أن نهايته قد حانت واقرب مما كان يتصور فهو لا يزال مبتدئ ولا يعلم الكثير عن سيدة كما انه لم يعتد على هذه الأعمال فهو لم يكن إلى شخص عادي يعمل في التجارة قبل أن يخسر كل أمواله وينتقل إلى الجيش لينضم إليهم ويترقى بسرعة إلى رتبة ضابط ، قال بنبرة متوترة :
ح..حاضر س..سيدي ..
قال بنبرته الجادة وعيناه مثبتتان بعيني مهند يبث فيه من قوته من خلال تلك النظرات :
- إنا اعتمد عليك يا مهند في كثير من الأمور لذلك أريدك قوي وشجاع لا تهاب احد صحيح انك تعتبر جديد على هذا العمل لكنك اثبت لي انك مختلف عن الجميع فلا تخن ثقتي بك ..
شع النور في قسمات وجهه واعتلت شفتيه ابتسامه واسعة سعيدة وكأن الحياة عادت إليه بعد أن كاد يفقدها مما قال , أقال بأنه يثق به!! وبأنه مختلف عن الجميع!! أي سعادة هذه وكل هذا المديح يخرج من بين شفتي إمبراطور إمبراطورية البراكين نفسه ، قال بحزم سعيد :
- أمرك سيدي ..
قال بعد ابتسامه صغيرة تهكميه مغرورة :
- إذا أكمل ..
قال مندفعا :
- التاجر مروان وزوجته من إمبراطورية الصخور أعلنوا مدى براعتهم في التجارة وجمع الأموال للجميع وفي وقت سريع ..
أماء برأسه مبتسما بخبث وقال متمتما لنفسه :
- جيد , جيد قد نحتاجهم فيما بعد لكن الآن يجب أن ننتظر والى وقت طويل كما يبدو ..
أطلق جاسم بعد صمت ااهه وكأنه تذكر شيئا للتو حين لمعت عينيه ببريق من السعادة يحدق في الفراغ وقال بسؤال مفاجئ مباغت لمهند :
- وماذا بشأن الكتاب ..
انزل لفافة الورق بعد أن لفها كما كانت وادخلها في جيبه وقال وهو ينظر إليه بثبات :
- سألنا كل حكيم وحكيمة في الإمبراطورية وكلهم اجمعوا على انه لا توجد إلا نسخة واحدة وهي ف....
صمت بخوف ظهر على تقاسيم وجهه وكاد يشهق من الخوف عندما نهض جاسم من على كرسيه بقوة مصدرا صوتا دلاله على سحبه للخلف وقال بحماس ظهر جليا في نبرته :
- تكلم يا مهند أين ! أين هو ..!!
تنقل بنظراته في جميع الأرجاء بخوف وتوتر يتجنب النظر إليه لكن عندما علم بأنه لا مفر له تنهد بقله حيلة وابتلع ريقه وقال بصوت منخفض :
- في مكتبة القصر الخاصة بالإمبراطور عامر سيدي ..



نهاية الفصل , قراءة ممتعة لكم أحبتي ..
بقلم محبتكم : روح الوسن ..


قصص من وحي الاعضاء 02-01-20 01:26 PM

اهلاً وسهلاً بك بيننا في منتدى قصص من وحي الأعضاء ان شاء الله تجدين مايرضيك موفقة بإذن الله تعالى ...

للضرورة ارجو منكِ التفضل هنا لمعرفة قوانين المنتدى والتقيد بها
https://www.rewity.com/forum/t285382.html

كما ارجو منك التنبيه عندما تقومين بتنزيل الفصول على هذا الرابط
https://www.rewity.com/forum/t313401.html

رابط لطرح اي استفسار او ملاحظات لديك
https://www.rewity.com/forum/t6466.html



واي موضوع له علاقة بروايتك يمكنك ارسال رسالة خاصة لاحدى المشرفات ...

(rontii ، um soso ، كاردينيا73, rola2065 ، رغيدا ، **منى لطيفي (نصر الدين )** ، ebti )



اشراف وحي الاعضاء

تماضر عبدالله 03-01-20 07:20 AM

أهلا بك بيننا عزيزتي روح الوسن...
.أنرتي المنتدى....
بداية موفقة عزيزي...
.أتمنى نلقي التفاعل اللي يرضيك...


تحياتي

روح الوسن .. 03-01-20 01:52 PM

أشكركم من أعماق قلبي على ترحيبكم الرائع وردودكم اللطيفة وبإذن الله أكون عند حسن ظنكم ..

روح الوسن .. 06-01-20 08:59 PM

.. الفصل الثاني ..
.
.
| قراصنة الموت |
.
.
اشتد الظلام وتلبدت السماء بالغيوم منذرة بحدوث عاصفة قريبة ، كان يمشي ثلاثتهم بين تلك الأشجار الملتوية بحذر شديد إلى أن تباطأت سرعه فارس ، فبدأ جبينه يتصبب عرقا وارتجفت أطرافه وأصبح بالكاد يتنفس ، ظهرت على ملامحه آثار الألم الشديد اثر ذلك الجرح الذي افقده الكثير من الدماء
وكان كل دقيقة يوجه سيف نظره إلى فارس الذي اخذ يتألم بصمت إلى أن قال بنبرة حزينة ومرتبكة يحاول فيها أن يُهدئ من روعه ويخفف ألم فارس :
- لقد وصلنا يا فارس اصبر قليلا وسوف نطلب النجدة من الضابط طلال ..
نظر فارس إلى سيف الذي يسير بجانبه ورمقه بنظرة حنونة وأماء إيجابا برأسه مطمئنا إياه ، ثم رفع رأسه إلى السماء قبل أن يتنهد بصمت ، فالذي لا يعلمه سيف بأن الضابط طلال لا يسمح لأي طبيب بأن يداويهم في حال جرحوا أو أصيبوا في إحدى مهماتهم السرية خشيه أن يكتشفوا أمره بأنه يستغل ابرع جنوده لمهمات شخصيه تضر بالجميع وسيحال بالتأكيد إلى التحقيق ومن ثم ستنفذ عليه العقوبة المستحقة له والتي لن تكون بسيطة بالتأكيد ، لذلك سيتركهم إلى الموت فهذا مصيرهم بل وسيحاسبون على أخطائهم في مهماتهم بالموت فكأنه يقول لهم " إن تأذيتم ستتحملون نتائج طيشكم لوحدكم " وهذا هو حال فارس ووسام منذ سنوات كلما تأذى احدهم اخذ الآخر يحاول أن يضمد جراحه لكي لا يكون مصيره الموت ويعيش الآخر وحيدا ومنبوذا من الجميع .
احتدت نظرات وسام ونظر إلى سيف يرمقه بحده ، كم يتمنى بأن يخبره بالحقيقة التي لا زال يجهلها والحقائق المخفية عنه ، نقل بنظره إلى فارس والذي كان يحدق به فحرك رأسه بخفه وكأنه يمنعه من التحدث أو يأمره بعدم فعل ما يجزم بأنه يفكر فيه فسرعان ما أشاح بوجهه في الجانب الآخر يكتم غيضه كما غضبه الذي استشعره فارس فشد بأنامله على يد وسام التي كانت تمسك خصره وكأنه يخبره بأن يتحلى بمزيد من الصبر، ولأنه الوحيد الذي يعلم ما قد مر به وسام ، يعلم جيدا أن وسام عانى الكثير في حياته ولا يريد أن تتكرر مأساته في سيف أيضا ، وبالرغم من صغر سن وسام فهو مدرك لقوانين المعسكر وتلك التحركات السرية وعقوبات من يخالفها وهو أيضا كذلك يلم ذلك جيدا ..
ظهرت تلك البوابة الحجرية الكبيرة بل الضخمة التي كانت تلتف حولها أغصان الشجر بشكل مخيف ، خطوا خطوات متتالية نحوها وما إن دخلوا المعسكر حتى اخذ سيف يلتفت يمينا ويسارا محاولا إيجاد الضابط طلال في الأرجاء حيث كان ينتظرهم دائما عندما يعطيهم المهام السرية كتلك ، فقال بأسى ظهر في نبرته كما ملامحه :
- يبدو أن الضابط طلال ليس موجود يالا الأسف إذا سوف نذهب بك يا فارس إلى اقرب عيادة ..
عم صمت للحظات قبل أن يكسره وسام بقوله ببرود شديد بعد أن بدا عليه القليل من التردد وهو ينظر إلى كل شيء حولهم :
- أنا اعرف سيدة ماهرة في ذلك ..
نظر سيف إلى وسام وفتح عينيه بوسعها من شدة الفرح وقال بسعادة :
- أين ، أين يا وسام بسرعة اخبرنا ..
ابتسم فارس نصف ابتسامه وقال :
- اششششش هدوووء هيا يا وسام بسرعة دلنا على الطريق ..
فما لبثوا إلا وقد خرجوا من المعسكر بهدوء شديد كي لا يلاحظهم أي احد في تلك الظلمة الحالكة ، ولأن العربات والأحصنة غير مسموح لهم بأخذها لمهامهم كان يجب عليهم السير كل تلك المسافة سيرا على الأقدام فقط وكأنهم يعاقبونهم بذلك أيضا ، فكان وسام يمسك بفارس من الجهة اليسرى في حين سيف امسكه من الجهة اليمين مساندين له ليسير معهم على الطريق ، فجأة توقف وسام عن السير فقال فارس متألماً محاولا التماسك أكثر بصوت بالكاد خرج من بين شفتيه :
- ماذا بك يا وسام لماذا توقفت فجأة أوصلنا أم ماذا فأنا لا أكاد أرى شيئاً ..
وجه وسام نظراته الأشبه بكونها نظرات ميتة والتي أثارت الرعب إلى سيف وقال بضيق بينما ارتكزت عينيه في عيني سيف مباشرة مما جعل سيف يعود خطوتين إلى الخلف من الرعب الذي دب في قلبه من تلك النظرات الميتة وقال وسام بضيق :
- سيف ..
شهق سيف واخذ يحاول أن يتمالك نفسه على الوقوف فقد كان متأكدا بأن أقدامه ستخونه في أي لحظة ، سحب كمية كبيرة من الهواء إلى صدره ليرد أخيرا بقوله بحذر شديد وخوف غلب عليه:
- م..ماذا ... يا و..وسام ..
أخذت عينا وسام الحادة تتفحصه بدقة صعودا من أخمص قدميه إلى أعلى رأسه وقال :
- أين غطاء عينك ..؟!!
شحب وجه سيف كأن الدماء قد سحبت منه واتسعت عيناه وعظ على شفتيه بقوة وبدأت أطرافه بالارتجاف فهو لم ينتبه إلا الآن بأنه قد أضاعه في تلك القرية وبالتأكيد أنه وقع منه وهو يركض في الظلام الدامس ولم ينتبه لها ..
ابتسم وسام ساخرا عندما طال صمته وقال :
- لا بد من انك نسيتها ..
جثا فارس على ركبتيه وقال وهو يحاول التقاط أنفاسه التي فقدها بصعوبة بالغة ليهدئ من الوضع فهو يعلم أن سيف لن يسلم من وسام الذي يكره أي خطأ في أثناء تنفيذ المهمة كيف وهو يترك أقوى دليل على وجودهم هناك ألا وهو عصابة العين التي هم وحدهم أفراد جماعة قراصنة الموت من يرتديها:
- لا.. بد.. من.. أن.. الآن ..قد.. التهمتها.. النيران.. لا.. تقلقوا ..
ابعد وسام نظره عنهم وتمتم لنفسه قائلا بغضب وكأنه يذكرهم بفظاعة الأمر :
- سوف يُقضا علينا لو عرفوا بأن قراصنة الموت هم من أشعلوا النيران في تلك القرية فلا يوجد غيرنا يضع تلك الأغطية السوداء على أعينهم ..
هوى فارس نحو الأرض ليرتطم جسده بقوة وخر مغشياً عليه فهو لم يعد يحتمل الألم ولم يعد يتمالك نفسه بسبب الدماء الكثيرة التي فقدها، صرخ سيف بقوة وهو يمسك بذراع فارس ويحاول رفعه من على الأرض بوهن وقال بخوف غلب على نبرته :
- وساااااام أسسسررع ودعنا ننقض فارس أولا ثم نفكر ب .. ب ..
وسرعان ما اختفى صوته وهمس بحزن يلوم نفسه على غفلته تلك وهو يتجنب النظر إلى وسام :
- أنا حقا آسف ..
فألقى وسام تلك الحقيبة التي كان يحملها على ظهره وقال ببرود ونظره على سيف وكأن شيء لم يحدث :
- سيف احمل الحقائب ..
نهض بسرعة متوجها نحو الحقيبة وقال بتلعثم :
- ح..حاضر ..
جلس وسام على الأرض واستند على ركبته ثم رفع فارس ببطء كي لا يزيد من ألمه وحمله على ظهره بصعوبة لفارق العمر بينهم وقال بنبرته الباردة اللامبالية :
- سيف اتبعني ..
انطلقا بسرعة جاهد وسام فيها باستماتة أن يصلا في الوقت المناسب وتحركا بخفه شديدة بين تلك الأشجار قاطعين تلك الظلمات وتلك الطرقات بخطوات تكاد تجاري الريح في سرعتها وخفتها فكل ما كان وسام يفكر فيه هو أن لا يفقد شخصا آخر يعده من عائلة فيكفيه من فقد الأحبه ما فقده ، بعد مدة من الوقت توقفوا أمام منزل كبير بدا عليه الرقي في حين اسند وسام فارس على عتبه الباب بخفه وقال وهو يتحسس نبض فارس بأنامله وعيناه الباهتتين مرتكزة على ما يفعل :
- بعد أن تطرق على الباب اطلب منهم السيدة هند ..
وفقط هذا ما قاله فنظر سيف إلى وسام مندهشا من نظراته ونبرة صوته التي تغيرت فجأة فأصبحت عينيه اقل حدة على عكس العادة وقال بارتباك ظهر في نبرة صوته :
- ح..حاضر يا و..وسام ..
اخذ وسام يسترسل في كلامه في بادرة أخرى جديدة لم يعهدوها منه وهو يقول ببروده المعتاد :
- وإذا سألتك عن سبب جرحه فقل لها انه تمت مهاجمتكم من قبل اللصوص وإياك أن تكشف هويتك لها ..
أماء رأسه إيجابا وقال ولا زالت نظرات الدهشة ترتسم على وجهه فهو تقريبا أو مرة يسمع وسام يطيل في حديثه على غير العادة :
- ح..حسن ….
قاطعة قائلا بأمر وهو ينظر إلى ملامح فارس المتعبة بعد أن تأكد من انه لازال على قيد الحياة ولم ينظر جهة سيف أبدا والذي كان يقف بجانبهما :
- خبئ الحقيبة ..
رمق سيف وسام بنظرات ملأها الشك والريبة وشعر بأن وسام يفكر في أمر ما وبالتأكيد لن يكون أمرا عاديا من ملامحه وطريقته في الكلام فتجمع الدمع في عينيه وقال بنبرة خائفة متسائلة لكي يتأكد من شكوكه أهي صحيحة أم لا :
- ألن تبقى معنا ..؟!!
فوثب وسام واقفا ينفض الغبار عن ثيابه وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامه تحدِ لا يتقنها أحد سواه وكأنه واثق من قدرته في تحقيق ما يريد وقال :
- لا .. يجب أن أعود لتك القرية ففيها شيء يخصنا ..
اتسعت عينا سيف فهاهي شكوكه في محلها ولم يصدق ما قد قاله وسام أحقا بأنه سيعود إلى تلك القرية التي وبكل تأكيد أكلتها النيران ولم يبقى منها شيء لأجل غطاء عين ليس ألا ؟؟ تمتم في نفسه بخوف :
- كيف !! كيف تعود لتلك القرية التي أكلتها النيران ..!!
أما وسام فانطلق بسرعة خاطفة ولم يهتم بكل تلك الكلمات المترجية بأن يبقى ولا يخاطر بنفسه بعد أن استدار موجها نظره إلى سيف وقال بابتسامه صغيرة قد ارتسمت على محياه أول مر :
- أنا أعتمد عليك يا بطل ..
وما هي إلا ثوان حتى اختفى وسام في تلك الظلمة وسط تلك الأشجار الضخمة ، فبقي سيف يحدق بدهشة إلى حيث كان يقف وسام وكيف ابتلعته تلك الظلمة المخيفة إلى أن تدارك الوضع السيئ الذي هو فيه فأسرع نحو مجموعه أشجار وقام بتغطيه الحقيبة ببعض أوراق الشجر والأغصان كي تتوارى عن الأنظار ماسحا دموع الخوف من على وجنتيه متمتما لنفسه بأنه قادر على الاعتماد على نفسه كما يثق به رفاقه بأنه يستطيع فعلها ، عاد حيث فارس ونزع غطاء العين الخاص بفارس كي لا يتعرف عليهم أحد ، ثم توقف أمام الباب واستجمع قواه وأخذ أكبر كمية من الهواء لكي يهدئ من روعه وأخذ يطرق الباب بأدب حاول جاهدا تصنعه ليسمع بعد عدة طرقات صوتا أنثويا من خلف الباب يقول بقليل من التردد والخوف :
- من الطارق ..؟!!
قال سيف بنبرة مترجية وفرحة في نفس الوقت :
- أرجوكم أريد المساعدة ..
وسرعان ما فُتح الباب على مصراعيه وإذا بها سيدة ذات ملامح جميلة في منتصف العشرينات من العمر ترتدي فستانا أزرق طويل وقد انسدل شعرها الحريري الأشقر على ظهرها ، تنظر بخوف وتوجس لذلك الفتى ذو الخامسة عشر من العمر الذي قد انهمرت دموعه على وجنتيه والجروح قد انتشرت في جسمه كاملا تقريبا ليقول لها باكيا :
- أأنتِ السيدة هند ..؟!!
قطبت حاجبيها باستغراب شديد وقالت بقليل من الخوف :
- نعم يا بني وما أدراك .. ؟!!
شتت نظراته في جميع الأرجاء يدور بأعينه مرتبكا وتيبست شفتاه وذهبت مقدرته على الكلام فهو بطبيعته انطوائي ولا يعرف كيف يتناول أطراف الحديث مع احدهم ، ظل يفكر بشرود ولا يعلم حقا ما العمل الآن وكم تمنى من أن وسام بقي بجانبه ولم يتركه وحيدا في هذا الموقف ، وكل تفكيره كان منحصرا في ماذا لو رفضت مساعدته وأغلقت الباب في وجهه فهو حتى طريق العودة لا يعرفه بل كان اعتماده كله على فارس ووسام .
قاطعت السيدة الشقراء كل تلك الأفكار والهواجس المرعبة ورحمت حاله بقولها بنبرة خوف ظهرت على كلماتها :
- ماذا بك يا بني أهناك أمر أردته مني ..؟!!
فاتسعت عينيه ونظر إليها بخوف وارتباك وقال بخجل :
- لقد ..لقد.. اخبرني أحد المارة.. من..من.. هنا بأنك تجيدين إسعاف ال..أقصد أنك.. ربما.. تعرفين كيف.. تسعفين أحدا ما .. لا لا أقصد ..تساعدين.. نعم قال أنكِ ستساعدينني ..
عادت خطوتين إلى الخلف بحركة دفاعية وغير أرادية وقالت بتردد وقلق :
- وماذا عساي أن أساعدك به ..؟!!
امتلأت عينا سيف بالدموع وانهمرت على خديه مجددا ونظر بحزن إلى فارس الذي كان مستندا على عتبه الباب يراه هو من جهته لأنه خارج المنزل بينما هي لم تكن تستطيع رؤيته وقال :
- إنه مجروح ولقد اغشي عليه ، لقد نزف الكثير من الدماء ..
تقدمت نحوه بخطواتها المتزنة ليظهر لها ذلك الجسد المستند على الجدار ودماءه قد تسربت وبشكل ملحوظ على معطفه الثقيل فهذا دليل قاطع على انه فقد الكثير من دماءه ، شهقت بقوة وقالت بخوف شديد وبنبرة عالية معاتبة :
- لماذا لم تخبرني هيا هيا بسرعة احمله إلى الداخل بسرعة..
حمله سيف بصعوبة كبيرة وذلك لفارق العمر بينهم والجسم حيث كان فارس قوي البنية طويل القامة وقد برزت عضلاته دلالة على قوته وصلابته وادخله إلى ذلك المنزل الذي غلب عليه الطابع الفخم كما الرقي والذي لم يشد انتباهه ولا أي شيء لا تلك الدرجات المرصوصة والمتقاربة والأرضية الرخامية اللامعة ولا اللوحات الكبيرة والثريا التي تتدلى من أعلى السقف بلونها الذهبي لينعكس على الجدران البيضاء ذات النقوش الذهبية في منظر جميل لا يعبر إلا عن طبقة هذه العائلة الراقية ، لم يكن يرى أمامه إلا تلك المرأة وهي تدخل إلى إحدى الغرف الكبيرة ذات الجدران البيضاء المزينة بنقوش ذهبية التي لم تختلف كثيرا عن ذلك البهو الواسع والغرفة الكبيرة التي مروا خلالها ، ألقاه على إحدى تلك الأرائك المنتشرة فيها ببطء وخرج صوت فارس المتألم بشكل أنات متقطعة ومتوجعة فأغلقت السيدة الباب خلفهم بعد أن اطمأنت بأنهم دخلوا وتوجهت مسرعة إلى إحدى تلك الغرف في المنزل وما هي إلا ثوان حتى أحضرت صندوق خشبي به أدوات كثيرة من الممكن أن تساعدها في إسعاف هذا المصاب ولم تفكر في عواقب الأمر وأنه قد يكون مجرما أو لصا أو من قطاع الطرق كل ما فكرت فيه هو أنه يجب عليها أداء عملها على أكمل وجه ولا تتركه للموت ويقتلها الندم فيما بعد والذي لا نفع منه حينها ..
قال سيف وهو يحك جبينه خجلا :
- أشكرك حقا أيتها السيدة وأنا آسف لأنني أتيت في وقت متأخر ..
قالت هند بينما كانت ترفع أكمام فستانها الأزرق البحري وتخرج بعض الأدوات من الصندوق منشغلة تماما بما تفعل :
- لا تقلق يا بني لا تقلق ..
أخذت أولا المقص وقصت به قميصه الذي غرق بالدماء بعد أن انتزعت معطفه بالرفق فشهقت بقوة مما أدى إلى سقوط المقص من يدها واضعه يدها على فمها وقالت بخوف ظهر على ملامحها الشاحبة :
- يا الهي يبدو أن هناك من طعنه بسكين في بطنه وليس أي جرح بل هذا نصل سكين حاد اخترق جلده..
صرخ سيف وقال :
- أرجوكِ سيدتي أهو بخير أرجوكِ اخبريني ..؟!!
قالت وهي تخرج من الصندوق الكثير من الضمادات والأدوية بنبره لم تخفي فيها ارتباكها وخوفها :
- لا تقلق سوف نسعفه .. والآن يجب عليك أن تجلس بعيدا لكي أتمكن من تعقيم وخياطة جرحه فيبدو انه عميق ..
نظر إليها بأسى ثم رفع نظره إلى فارس الذي بالكاد يتنفس وقال بحزن :
- ح..حاضر سيدتي ..
بعد مرور ساعتين تنهدت السيدة هند وارتمت بجسمها على تلك الأريكة المقابلة للأريكة التي كان عليها فارس وبجانب سيف وقالت بتعب وهي تمسح حبات العرق التي ظهرت على جبينها بمنديلها القماشي المطرز من الحواف على شكل ورود صغيرة متراصة :
- أووووه أخيرا لقد انتهيت ..
نهض سيف بسرعة حيث امتزجت دمعاته مع ضحكاته قائلا بسعادة كبيرة :
- إذا سيدتي أهو بخير الآن ؟! متى سيستيقظ ؟! أرجوك اخبريني ..
ابتسمت السيدة هند بإرهاق وقالت وهي تضع المنديل على الطاولة :
- لقد أعطيته بعض المهدئات اعتقد انه سيستيقظ بعد ثلاث ساعات على الأقل ويجب أن لا يتحرك لمدة لا تقل عن ثلاث أيام لكي يلتئم الجرح مع أنني وضعت له على جراحه بعض الأعشاب النادرة التي تساعد على التئام الجروح بسرعة أكبر..
لكن ذلك لم يطمئن سيف أبدا بل جعلته تلك الكلمات شاردا وشاحب الوجه وهو يتذكر الموعد الذي يجب عليهم العودة قبله إلى المعسكر وهو قبل طلوع الشمس لكي يقومون بدورهم الآخر ألا وهو جنود عاديين يقومون بالتدريبات الصباحية مع بقية الجنود ، تدارك حينها بأنه في مأزق وعليه إيجاد حلول سريعة لها كما انه لا يعلم أين وسام وهل سينجو من تلك النيران أم لا ؟! وهل سيعود إلى المسكر قبلهم أم يأتي إلى هنا ؟! تزاحمت كل تلك الأسئلة والأفكار في رأسه ولا يعلم حقا ما العمل فهو لا يستطيع حمل فارس والخروج به والتوجه إلى المعسكر كما أنه لا يستطيع ركوب عربة أو امتطاء حصان وذلك حسب أوامر الضابط طلال طبعا ، حرك رأسه بخفة متمنيا في قرارة نفسه بأن يأتي وسام وينقذ الموقف ويخرجهم من هذه الورطة التي أصبح متأكدا من أنهم سيعاقبون على تأخرهم كل هذا الوقت .
نهضت السيدة هند متوجهة نحو حمام الغرفة الخاص بها ، غسلت يديها وتوجهت نحو طاولة خشبية كبيرة مزينه بمفرش أبيض من الحرير دائما ما تضع عليه كل ما تحتاجه لتعد الشاي وتقدمه للضيوف من بسكوت وبعض الحلوى وما هي إلا دقائق حتى جلست على الأريكة الشاغرة والمقابلة لفارس الممدد كالميت وسيف الذي كان يهيم بنظره في الفراغ بشرود وكم بدا مشوش التفكير ممسكا بيده بين أنامله المرتجفة ولم يخفى عليها بريق الدموع التي تجمعت في مقلتيه السوداء ، وضعت كوب الشاي مع بعض قطع البسكويت على تلك الطاولة التي تقع في منتصف تلك الغرفة الكبيرة الواسعة وقالت بابتسامة لطيفة زادها جمالا على جمالها :
- تفضل يا بني اشرب شاي الأعشاب هذا فهو منعش جدا يبدو أنك متعب جدا ..
وعندما لم يبدر منه أي رد تنهدت بيأس ونظرت إليه بحزن شديد فكما يبدو بأن حالته صعبة ويبدو لها أيضا بأن الشخص المريض يعني له الكثير ، كيف لا وهو من استقبله بكل رحابه وسعة صدر !! كيف لا وهو من سانده وبقي يرعاه في حين نبذه الكل !! بقي بجانبه حين رحل عنه الجميع علمه فنون القتال وظل يسانده إلى أن أصبح على ما هو عليه الآن ، لكن ذلك كله لم تكن تعلم هي به لكان عذرته فقالت بنبره مطمئنه تحاول تهدئته وبث الأمان في قلبه فكم يؤسفها حاله :
- يا بني لا تقلق أرجوك فهو بخير فقط يحتاج لبعض الراحة الآن ..
مسح سيف دموعه بذراعه بقوة حين أحس بتلك اليد الدافئة على رأسه تمسح خصلات شعره برقة وقالت وهي ترمقه بنظراتها الحنونة :
- يا عزيزي الم تسمعني !! أنا أقول لك انه سيكون بخير لا تقلق هيا كف عن البكاء واحتسِ الشاي ..
رفع بصره نحوها ليجدها مبتسمة الثغر ليبتسم هو الآخر وكأنها نقلت ابتسامتها له بمجرد تلك اللمسة الخفيفة منها وقال بخجل بعد أن احمرت وجنتيه خجلا :
- لا أعرف كيف أشكرك يا سيدتي ..
ضحكت بخفة ضحكه رقيقة وقالت :
- لا داعي للشكر يا بني ..
ثم أردفت قائلة متسائلة وهي تنقل نظرها منه للمستلقي بجانبه :
- لكن يا بني اخبرني من الذي الحق الأذى بكم .. ؟!!
ارتبك سيف وأخذت عيناه تجوبان المكان قلقا لكن سرعان ما تذكر قول وسام له فقال بقليل من الارتباك جاهد نفسه كثيرا بأن لا يظهر لها :
- ل..لقد .. لقد هُجمنا م..من..قبل اللصوص ..
فشهقت بصدمة ووضعت يديها على فمها وقالت بخوف سرعان ما تحول إلى غضب وحدة :
- يا إلهي سحقا لهم سحقا أناس لا يملكون قلوب ولا أي إحساس فهم يهاجمون ويؤذون ويقتلون الأبرياء لأجل مصالحهم ورغباتهم الشخصية ولا يهتمون لمشاعر الغير أنا حقا لا أعرف كيف يعيشون هؤلاء المجرمين بيننا أتمنى بأن يختفوا من على وجه الأرض ويتركونا نعيش بسلام ..
توقفت عن الكلام وكأنها تذكرت بأنها فقدت السيطرة على أعصابها وقالت مالا يجب قوله وهي تتلقف أنفاسها الغاضبة بقوة بعد أن تنهدت بعمق خرج من أعماق صدرها في حين حدق سيف بها مندهشا ومصدوما من نظرتها لهم ومن كبت كل ذلك الغضب والحقد في صدرها والاهم من ذلك هي الصور التي ظهرت أمام ناظريه عند كل كلمة قالتها فلم يرى سوى الذي كان يفعله هو مع فارس ووسام في جماعة قراصنة الموت ، فأغمض عينيه وطأطأ رأسه بقلة حيله والكثير من الخجل من نفسه دون أن ينطق بأي كلمة ، وأي الكلام قد يقوله في موقفه المخزي هذا وهو أحدهم ؟! فهاهي اتضحت أمامه الصورة وعلم حينها أي بشاعة تلك التي كانوا يفعلونها بالأبرياء ..

نهاية الفصل , قراءة ممتعة لكم أحبتي ..
بقلم محبتكم : روح الوسن ..



روح الوسن .. 09-01-20 01:03 PM

.. الفصل الثالث ..

| قراصنة الموت -٢|

عم الصمت أرجاء تلك الغرفة الكبيرة المليئة بالتحف الجميلة والأرائك المطرزة والألواح الكبيرة فكان سيف يبتلع ريقه بصعوبة من شدة الخوف والأسى على حاله وعلى حال فارس ، يشعر بكثير من التوتر بوجود شخص لم يكف عن إطلاق الشتائم المتنوعة ويكره المخربين وجماعات اللصوص كل هذا الكره لا وتجلس أمامه أيضا ولا تزال تتحدث بالسوء عن اللصوص والمجرمين وعمليات التخريب هذه التي تحدث في قريتهم في الآونة الأخيرة ، ولم يكن أحدا سوى تلك السيدة ذات الشعر الأشقر والعينان الزرقاوان ذات المهارات العالية في التمريض التي تمقت كل اللصوص والمجرمين والمخربين ، كيف لا تكرههم وهم من تسببوا بإلحاق الأذى بالجميع دون أي استثناء حتى زوجها لم يسلم منهم ، كان سيف مشتت التفكير يرفع بصره بتوتر تارة إلى تلك السيدة التي لا تزال غاضبة مما قاله عندما اخبرها بأن سبب جرح صديقه هو اللصوص وتارة يخفض نظره إلى ذلك المستلقي بتعب شديد جانبه ينظر إليه نظرات كأنها تقول "أرجوك اخبرني أننا لا نفعل شيء سيء" مع علمه بأنهم يقومون بالتخريب وأكبر دليل ما فعلوه في تلك القرية فلقد احرقوها بالكامل بعد أن اسروا جميع سكانها وكان هذا ليس ضمن اتفاق المهمة وشروطها بل أمر من فارس بأن لا يقتلوا أي بريء ومظلوم ، ولم يكتفوا بذلك بل وسرقوا كل أموالهم ومجوهراتهم ، لكن كان ذلك لينجوا من العقاب أو بالأحرى هذه كانت مهمتهم ويجب أن ينفذوها ، فلم يكن يفكر بشيء سوى تنفيذ المهمة على أكمل وجه ..
وبعد مرور نصف ساعة من التوتر والقلق والغضب الذي سيطر على جو تلك الغرفة المضطرب فتح فارس عيناه ليستقبله السقف الأبيض كثير النقوش والزخارف وتلك الشموع الكثيرة فيه لينهض بسرعة ويعتدل في جلسته لأنه علم حينها بأن هنالك خطب ما وهو ليس في المكان الذي يفترض به أن يكون فيه لكنه سرعان ما تأوه من الألم فوضع يده على بطنه وهو يتلفت برأسه يمينا وشمالا ينظر بنظرة شاملة إلى كل ما حوله يحاول جمع المعلومات عن مكان تواجده فهمس بذعر لم يخفى في نبرته المتوجسة بعد أن تيقن بأنه في مكان لا يعلم ما هو بالضبط :
- يا إلهي أين أنا.. ؟!!
ابتسم سيف الذي للتو انتبه لاستيقاظه بعد أن سمع همسه وصرخ بفرح :
- فااارس أنت بخيييير كم أنا ممتن .. اخبرني كيف جرحك أيؤلمك كثيرا أم لا .. ؟!!
قطب فارس حاجبيه بعد أن نظر إلى سيف وقال :
- سيف يجب أن نخرج بسرعة من هنا ..
لم تكن الرؤية واضحة بالنسبة لفارس فلا يزال اثر الأعشاب المخدرة يسري في دمه بما أن السيدة هند أسقته بعضا من شراب الأعشاب المخدرة لكي تخيط له الجرح بأقل ألم ممكن ، اتكأ فارس على حافة الأريكة وحاول أن يشد جسمه ليقف فأقترب منه سيف مذعورا ليساعده وقال بقلق :
- لكنك يا فارس مصاب ويجب أن ترتاح ..
شد قبضته ولم يعلق ونهض من على الأريكة بصعوبة وقال متسائلا بقلق وهو يتلقف أنفاسه :
- كم بقي على طلوع الفجر ..؟!!
نظر سيف إلى الأسفل وقال بحزن اكتسى معالم وجهه :
- نصف ساعة ..
شحب وجه فارس بالكامل وصرخ بصوت عال :
- ماااااذاااااا!!!!! ..
اقترب سيف منه أكثر وهمس له بنبرة خائفة :
- اهدأ .. اهدأ يا فارس لا تقلق أهم شيء الآن هو صحتك ..
تنقل بنظره في جميع الأرجاء كالتائه يعلم جيدا عقوبة تأخرهم وما سيؤول إليه حالهم حين يعلم الضابط طلال بفعلتهم إلى أن رأى باب الغرفة الكبير فتوجه نحوه يجر خطاه بصعوبة وهو يقول آمرا :
- بسرعة يا سيف بسرعة لنذهب ..
لحقه سيف بهدوء شديد ، في حين بقيت تلك العينان الزرقاء تحدق بصدمة امتزجت بالدهشة ، تتنقل بنظرها في تفاصيل ذلك المريض بدهشة اعتلت ملامح وجهها ، ذلك المريض الذي ظنت قبل قليل بأنه سيفارق الحياة كيف له بأن يقوم ؟! لا ويستطيع الحركة أيضا !! فهاهو يقف على قدميه متخطيا جميع الآلام وبقوة ، فتمتمت لنفسها بخوف قائلة وهي تهز رأسها بخفه نفيا غير مصدقة ما يحدث أمامها :
- مستحيل لا مستحيل لا يمكن أن يستيقظ الآن لقد أعطيته أعشاب منومة قوية لا يمكن لأي شخص أن يقاومها إلا.. إلا إذا كان .....
التفت سيف إليها بارتباك وكأنه للتو تذكر وجودها معهم في نفس الغرفة وقال مقاطعا تمتمتها الخائفة لنفسها بقوله بقلق وقليل من الخجل :
- لا اعلم كيف أشكرك أيتها السيدة وأنا آسف حقا لأني لا املك أي نقود لأجازيك به لكنني سأعوضك في الأيام القادمة ..
قطب فارس حاجبيه مستغربا من قول سيف ، فمن الذي يقصده بكلامه ؟! لا يعقل بأنه يكلمه أو يكلم نفسه فالتفت إلى سيف الذي كان ينظر في جهة من جهات تلك الغرفة الكبيرة وسرعان ما نقل نظره في نفس الاتجاه ليرى الشخص الذي كان سيف يتحدث إليه ليجدها تلك السيدة التي كانت تحدق بهم بخوف ظهر على ملامحها الجميلة فقال فارس محرجا بعد أن استوعب عقله وقام بوضع النقاط على الحروف :
- اوووه أنا آسف حقا يا سيدة اعتقد انك أنتِ من داويتي جراحي أنا آسف حقا على وقاحتي فأنا لم أشكرك حتى ..
فنفت ذلك سريعا بخوف بهز رأسها يمينا وشمالا دون أن تنطق بكلمة واحدة ، فكيف للكلمات أن تخرج من حلقها بعد أن رأت هؤلاء الغرباء !! وكيف لهذه الجثة التي كانت قبل قليل ملقاة على الأريكة بالوقوف والحركة مجددا في غضون نصف ساعة لا اقل ولا أكثر!! .
قال فارس مستعجلا بعد انتظاره الطويل لها بأن تتحدث :
- إذا اعذرينا يا سيدتي فيجب أن نخرج سريعا شكرا والى اللقاء ..
ابتسم سيف لها وقال بلطف :
- لن أنسى صنيعك لنا ما حييت ..
لف سيف ذراعه حول خصر فارس بينما وضع فارس ذراعه حول رقبة سيف وانطلقا الاثنان خارج ذلك المنزل الكبير وما أن أغلقوا الباب خلفهم بهدوء حتى قال فارس لسيف هامسا ومتسائلا :
- هييه سيف أين وسام وأين الحقيبة هااه اخبرني ؟!!
بدت ملامح القلق والارتباك على وجه سيف بالظهور مجددا فماذا عساه أن يقول وكيف يشرح ويبرر وهو السبب الأساسي في اختفاء وسام وإن أصابه مكروه فلن يسامح نفسه ما بقي يتنفس على هذه الأرض ، قال بحزن بعد أن أشاح وجهه بعيدا عن فارس تجنبا لرؤية رد فعله :
- أما وسام يا فارس فلقد عاد إلى تلك القرية ..
اتسعت عيناه وصرخ بقوة وقال مستنكرا :
- مااااذاااا !!! ما الذي يضنه ذلك المجنووون انه فاعل سوف يموت ..
ثم ابعد سيف ذراعه من على خصر فارس وتوجه مسرعا خلف تلك الأشجار الكثيرة التي خبأ خلفها الحقيبة واخذ يبحث هنا وهناك ثم تبعه فارس بصعوبة وسط ذلك الظلام الحالك وقال متسائلا :
- عن ماذا تبحث يا سيف أخبأت الحقيبة هنا .. ؟!!
فلم يتلقى أي رد ولم يجب سيف بل جثا على ركبتيه محدقا بالأرض بشرود فهاهي المصائب تتعاقب عليهم الواحدة تلو الأخرى وهو السبب الأساسي لكل تلك المصائب ، شحب وجهه بالكامل وأخذت أطرافه بالارتجاف وقال بخوف شديد بالكاد خرجت الحروف من حنجرته :
- ل..لقد.. ا..اختفت .. ال..الح..حقيبة.. !!
ضرب فارس جبينه بيده وعلم أي مصيبة أخرى وقعوا فيها وقال بتنهيده أسى :
- يااااااااا إلهي نحن في وررررطة حقيقية ..
خبأ سيف وجهه بين يديه المرتجفتان على قائلا بصوت باكي خائف :
- ا..أنا آسف ، آسف يا فارس أرجوك سامحني أرجوك ..
تنهد فارس وهو يرمق سيف بحزن أي إجرام هذا في حقه أن جعلوه أحد أفراد العصابات وأحد اللصوص ومن يراه الآن في حالته هذه وهو يبكي يقسم بأنه لا يزال طفلا يبحث عن حنان أمه في الأرجاء ، تقدم نحوه وجلس أمامه واضعا يده على رأسه يبعثر له خصلات شعره بعشوائية وهو يقول بابتسامة دافئة :
- عزيزي سيف لا تقلق دعها تذهب وتختفي ولو أردت أن تنحرق فدعها تنحرق أيضا ما رأيك .. ؟!!
نظر سيف إلى فارس من بين دموعه الذي كان بدوره مبتسما ينظر إلى عينيه مباشرة فقال له بصوت مبحوح :
- فارس أنا.. أنا ..
فارتمى في حضنه يضمه بقوة يبكي وهو يردد كل كلمات الأسف والحزن الشديد التي يعرفها بين شهقاته بينما ابتسم فارس بحنية وقال وهو يمسح شعره الأسود اللامع بيده :
- هيا ، هيا لا تبكي يا بطلي الصغير ..
ابتعد عنه وقد اعتلت وجنتاه حمرة طفيفة وقال :
- ح..حاضر س..سيدي ..
ضيق فارس عينيه وهو يهيم بنظره في البعيد بينما أصابعه تتخلل شعره الأسود الكثيف ، تنهد بقلة حيله ثم قال :
- أما الآن فيجب أن نتأكد من أن ذلك المجنون لا يزال على قيد الحياة ..
- إن ذلك المجنون يقف خلفك منذ دقائق أيها الغبي ويشاهد عرضكم العاطفي السخيف ..
أتى الصوت من خلفهم مباشرة ذات نبرة حادة وساخرة ، تلك النبرة التي تستفز كل من سمعها وتخيفه لحدتها والتي لا يتقنها غيره ، انتفض فارس دون شعور وقال مذعورا :
- ااااه .. أخفتني يا وسام ..
نظر وسام إلى عينيه تحديدا بحده وقال :
- بما أنك مصاب أيها المعتوه فلقد أحضرت لكم عربة لعلنا نصل بسرعة إلى المعسكر قبل طلوع الفجر ..
أخذ فارس يحك جبينه ويشتت نظره في جميع الأشياء حوله عداه وقال عندما غلبته ضحكة مرعوبة يحاول أن يخفي خوفه حينها :
- اوووه أشكرك حقا يا وسام .. أنت حقا فتى ذكي كيف فاتتني هذه ..
لم يُبالي وسام بكلام فارس بل تجاهله كالعادة ونظر إلى سيف الذي كان يختبئ خلف فارس جاثيا على ركبتيه نظره التصق بالأرض ولم يرفعه نحوه فقال له بحدة علم أن هناك خطب ما فلن يخفى عليه أي شي وهو بطبيعته يستطيع تفسير وتحليل جميع الحركات وحتى النظرات :
- سيف ماذا بك .. ؟!!
فقال فارس متصنعا الابتسامة ومحاولا تغير الموضوع لكي يتجنب غضب وسام إن علم أن الحقيبة فقدوها وهم استغرقوا قرابة اليوم الكامل لكي يجمعونها ولن يسلم سيف بالتأكيد من عقاب وسام له هذا إن لان قلبه ولم يقتله إن علم بأنه السبب في فقدانها :
- اوووه صحيح لم يتبقى سوى عشرون دقيقة على طلوع الفجر هيا ، هيا يا صغاري نذهب إلى معسكرنا الجميل ..
وختم كلامه بضحكة لم تكن إلا ضحكة كاذبة لتغطية الأمر ليس إلا ، اقترب وسام ودفع فارس بيده فمال في جلسته متأوها من الألم بينما لم يبالي وسام به في حين اقترب أكثر من سيف ونظراته النارية الحادة لم تفارق عينيه وقال بفكين متصلبين :
- اخبرني ما بك .. ؟!!
فاعتدل فارس في جلسته وعلم الآن أن المصائب لا تزال تترامى عليهم فتنهد ورفع كتفيه باستسلام لما سيجري بين وسام وسيف فوسام لا يمكن لأي شخص بأن يوقفه فالكل يهابه ، فتى ببرود ملامحه وحدة عينيه وابتسامته القاتلة كفيلة بأن تسقط عشرات الرجال ناهيك عن قوته القتالية وبراعته في استخدام السيوف وخفه حركاته التي تساير الريح بكل تناغم ، بدأت أطراف سيف بالارتجاف وجبينه بالتعرق ليقول بتلعثم نتيجة خوفه الشديد مما قد يلقى من عقوبة وسام له على إخلافه لأوامره :
- ا..أنا.. آسف.. ي.. يا.. وسام.. ل.. لقد.. اخت.. فت.. الحقيبة..
اتسعت عينا وسام غضبا وشحب وجهه ثم اخرج سيفيه ببطء ونظر كلا من فارس وسيف إليه بخوف قد اعتلى ملامحهم ليقطع ذلك الخوف ويقول سيف باستسلام :
- أنا استحق العقاب ..
لكن فارس نهض بسرعة ومد ذراعه أمام وسام لكي يحمي سيف الذي كان جاثيا على ركبتيه والدموع قد أغرقت وجنتيه ثم صرخ بوسام موبخا له قائلا :
- هييييه وسام أرجوك كف عن هذا .. هيا يا رجل ..
نظر وسام إلى فارس بنظراته الحادة المخيفة وقال ببرود :
- أنت أيها الغبي المصاب ادخل إلى العربة بدون أي كلمة أما أنت يا سيف فيجب أن تحرص على أن تبقيه معك وتعودان إلى المعسكر في أسرع وقت ممكن ..
اتسعت أعين كلا من سيف وفارس وقالا بدهشة
- مااذااا .. !!!
فهذا آخر شيء قد يتوقعونه منه كرد فعل على المصيبة التي حلت بهم ، قال وسام بينما استدار في الاتجاه المعاكس لهم :
- أسرعوا بالذهاب إلى المعسكر فلم يتبقى سوى بضع دقائق على طلوع الفجر..
صرخ فارس به لكي يسمعه وقال باستغراب :
- وماذا عنك .. ؟!!
توقف واستدار نحوهم وقال ببرود وكأن شيء لم يحدث :
- لقد رأيت أربعه شبان يمتطون أحصنه متوجهين إلى وسط المدينة لابد من أنهم هم من سرقوها ..
- قال فارس معاتبا يحاول عدله عن جنونه :
- وسام كف عن هذه السخافات قلت بأنهم متوجهين إلى وسط المدينة لن تجدهم أبدا فأنت كمن يبحث عن إبرة في كومه قش ..
قال سيف متسائلا عندما وجد صوته أخيرا :
- لماذا شككت بأمرهم يا وسام..؟!!
قال وسام ببرود :
- لقد كان معهم مجموعة بضائع وحقائب لابد من أنهم هم ..
قال فارس بينما كان يحرك رأسه يمينا ويسارا نافيا ومعارضا فكرة وسام بالذهاب خلفهم :
- إذا لا بد من أنهم قد وصلوا الآن إلى وسط المدينة لن تجدهم فقط انسَ أمرهم يا رجل ..
ابتسم وسام ابتسامته المستهزئة وقال بكل ثقة :
- ليس بعد ..
ثم رما شيئا ما على سيف وقال :
- غطاء العين الخاصة بك ..
صعق سيف وكذلك فارس مما قاله وقالوا بصدمة معا :
- كيف .. كيف فعلتها أدخلت وسط تلك النيران..؟؟!!!
ابتسم نصف ابتسامة ولم يجب بل قال آمرا :
- بسرعة اذهبوا ..
ثم استدار راكضا رافعا يده مودعا إياهم وما هي إلى ثوان أو حتى أجزاء من الثوان حتى اختفى وسام في تلك الظلمة الحالكة في ذلك الليل المظلم شديد السواد بين كل تلك الأشجار الضخام متخطيا لجميع الصعوبات والعوائق دون مبالاة ، انزل فارس كتفيه باستسلام وقال بضجر :
- هيا يا سيف فلا يمكننا أن نجادل ذلك الذئب الماهر في خططه وأفكاره فلنسرع بالتوجه إلى المعسكر ..
قال سيف بينما كان ينظر بحزن إلى ذلك الطريق الذي سرعان ما اختفى فيه وسام :
- ح..حاضر سيدي ..






نهاية الفصل , قراءة ممتعة لكم أحبتي ..
بقلم محبتكم : روح الوسن ..


روح الوسن .. 11-01-20 05:02 AM

.. الفصل الرابع ..
.
.
| الرغبة في الانتقام |
.
.
في وسط تلك الظلمة انطلقت تلك العربة التي كانت تحمل داخلها فارس الذي لا يزال يئن بصمت من ألم جرحه وسيف الذي لم يكف عن القلق والتفكير بوسام والاعتناء بفارس ، انطلقت عربتهم بسرعة جنونية متوجهة إلى المعسكر في صمت مميت ، بعد مرور عدة دقائق قال سيف بتوتر كاسرا ذلك الصمت الذي سيطر عليهم:
- فارس لقد وصلنا إلى المعسكر ..
أما فارس فكان متكئا على ذراعه شارد الذهن ينظر في الفراغ بعينين تنطق ألما مما جعل سيف يزداد قلقا إذ أنه ليس معتاد على رؤية فارس بتلك الحالة ففارس هو سر طاقته وسر قوته وسر ابتسامته فبرؤيته على تلك الحالة يزيد من توتره وقلقه ، فقال له بعينين ظهر فيها الخوف والقلق بعد أن وضع يده على كتفه يحركه بخفة :
- هيييه فارس أتسمعني .. ؟!!
أفاق فارس من شروده واخذ يعتدل في جلسته فقال بينما لا يزال واضحا على ملامحه الشحوب :
- ااه نعم ، نعم أسمعك يا سيف ..
نزل فارس من العربة بمساعدة سيف له الذي أحاط خصره بيده وانزله بهدوء ، أردف فارس قائلا :
- إذا بقي خمس دقائق فقط على طلوع الفجر صحيح .. ؟!!
اخفض سيف رأسه وقال بصوت منخفض حزين :
- ن..نعم ...
توقف كلاهما أمام تلك البوابة الحجرية الضخمة التي تدل على وصولهم إلى المعسكر لفترة من الزمن وكأنهم توقفوا يودعون الحياة كما العالم يقنعون أنفسهم بصعوبة بالدخول إلى المكان الذي لطالما تمنوا أن يتحرروا منه ويقنعوا أنفسهم بأن هذا مصيرهم الذي وكما يبدو لا أمل من تركه ، كان فارس يتأمل تلك البوابة الحجرية بصمت وجمود أما سيف فبدأت نبضات قلبه بالتزايد حين رأى تلك الملامح ترتسم على وجه فارس تلك الملامح الباردة الهادئة الغير مطمئنة التي تدل على انه الهدوء ما قبل العاصفة فتساءل سيف وقال بارتباك :
- أننتظر وسام أم ماذا .. ؟!!
تنهد فارس بقلة حيلة فهذا أكثر شيء يؤلم قلبه وهو غياب وسام عنهم وأكثر شيء يخاف منه هو أن يعاقب لوحده كما كان يفعل سابقا وبرغبة منه كي لا يعاقب هو ، ابعد ذراع سيف وادخل يديه في جيوب معطفه واخذ يمشي بخطوات كسولة وقال بابتسامه واثقة زينت شفتيه :
- يجب علينا أن نثق به .. هيا لندخل ..
شد سيف قبضته ونظر إلى فارس بحزن وقلة حيلة هو يعلم تماما أن فارس يتألم من جرحه الذي لم يشفى ولم يلتئم بعد كما أنه يعلم بأنه قلق على وسام فهما قريبان من بعضهما البعض جدا ، يعلم تماما أن قلق فارس كان بسببه .. بسبب مهاراته التي لا تزال ضعيفة في المهمات التي يتلقونها ، كان يشعر بالضعف والعجز كل تلك الأخطاء في المهمة كانت بسببه رغم أن فارس لم يكف عن مدحه ودعمه والوقوف بجانبه رغم كل تقصيره ووسام الذي يبدو انطوائي وهادئ مخيف ومرعب بنظراته الحادة القاتلة وابتسامته الباردة المخيفة إلا انه هو من كان يقوم بتصليح أخطائه كلها الواحدة تلو الأخرى انه يعلم تماما من يكون وسام ، وسام البطل الشجاع الذي يهابه الكل رغم صغر سنه إذ أنه يستطيع أن يسقط عشرة محاربين في دقيقة واحدة ، إذا لماذا لا يقتله ويتخلص من العقبة التي أمامه ؟! نعم كان يتمنى الموت حينها ولا يسبب مزيدا من المشكلات لمن استقبلوه كعائلة له ، سار خلف فارس بهدوء شديد وهمس قائلا بحزن :
- ح..حاضر ..
وما أن دخلوا من تلك البوابة الكبيرة حتى استقبلتهم تلك العينان الجاحظتان التي كانت تدور بلهف حبا للمال والكنوز ، وتلك الابتسامة الجشعة التي تلهث خلف حب الاستيلاء والسيطرة ذلك الرجل ضخم البنية قوي العضلات الذي يقف دائما أمامهم ، الرجل الخبيث الذي يظهر طيبته للناس وولائه للإمبراطور وانصياعه للأوامر والقوانين في الصباح أما في الليل فيظهر وجهه الحقيقي الوجه المخالف تماما لما يظهره في الصباح ، تقدم فارس بهدوء ووقف أمامه مباشرة وألقى التحية العسكرية بكل احترام بينما كان يجاهد نفسه على الابتسام وهو يقول :
- مرحبا بك سيدي الضابط ..
رمقه بنظره استصغار من أخمص قدميه إلى أعلى نقطة من رأسه وقال باستحقار شديد :
- هييه يا قراصنة الموت لقد تأخرتم كثيرا أتمنى أنكم أنجزتم المهمة على أكمل وجه ..
قال فارس:
- ااه يمكنك أن تقول هذا يا حظره الضابط طلال ..
قال وأعينه تدور حولهم متفحصة لهم :
- إذا ذلك الذئب لا أراه بينكم .. فليستعد لعقابي إذا ..
قاطعه فارس وقال وهو يلوح بيديه أمام وجهه بابتسامه صغيرة :
- لا لا لا يا سيدي بقي ثلاث دقائق على طلوع الفجر لا بد من أنه أراد أن يستنشق الهواء العليل قليلا بعيدا عن هذا المكان المخنوق ..
احمر وجه الضابط طلال غضبا عندما فهم ما يقصده من كلامه ويلمح إليه واتسعت عينيه وأخذ يصرخ به قائلا :
- اخرررس يا فااارس .. وأنت أيه الأبله الذي في الخلف لماذا لم تلقي علي التحية حتى الآن ..
تقدم سيف الذي كان سعيدا بأنه لم يلحظ وجوده بالرغم من أنه لم يكن يخافه في السابق إلا أنه والآن فقط شعر بشيء ما وبالتأكيد ليس أمرا جيدا ناحية هذا الرجل ولابد أنه تأثير كلمات تلك السيدة التي انغرست في ذهنه ، تقدم وأرجله لا تكاد تحمله من شدة الخوف وقال بتلعثم :
- أ..أنا.. آسسسف .. يا ..سيي..يديي ....
وضع فارس يده على كتفه وأخذ يربت عليه بخفة يحثه على المواصلة ونظره مرتكز على عينيه ينظر إليه بثقة نظرة بثت الأمل والثقة في نفس سيف ، وعلم حينها وبعد أن اشتدت أصابعه على كتفه بأنه ليس وحيدا ويجب عليه ألا يخاف مادام معهم ، فزينت شفتي فارس بابتسامه دافئة بعد أن استشف فهم سيف من لمسته تلك ومن نظراته فما كانت ردة فعل سيف إلا أن ابتسم لا إراديا ونظر للضابط طلال وألقى التحية وقال بصوت مرتفع :
- مرحبا بك سيدي ..
ضحك بسخرية ورمقهم باستصغار كعادته وقال :
- أنتم حقا حمقا ..
ابتسم الضابط طلال ابتسامه خبيثة ماكرة أخيرا .. أخيرا سيعاقب وسام ذلك الفتى المغرور الذي لطالما حلم بتعذيبه وضربه بيديه ذلك الفتى الذي قتل أقرب أصدقائه له وأقواهم في دقائق قليه وأمام عينيه ولم يترك أي اثر يدل على أنه هو من قتله ، الذي لم يصدقه أحد عندما اخبرهم بأن من فعلها كان وسام نفسه الذي كان يضحك بسخرية بعد أن قتل صديقه ببساطة وهو الذي اخبره حينها أن هذا مجرد تهديد له ولكي يُعرّفه من يكون وسام فقط بعد أن حاول إلحاق الأذى بفارس ، الفتى الذي يبلغ من العمر الثامنة عشر لكنه أقوى من عشر ضباط ، وبالرغم أفعاله السوداء الكل يكن له الاحترام ولا يستطيعون إلحاق الأذى به ، فبدأ الضابط طلال يعد تنازليا ويقول بصراخ فرح :
- ١٠ ، ٩ ، ٨ ، ٧ ، ٦ ، ٥ ، ٤ ، ٣ ، ٢ ، ١ ، ..
أما فارس وسيف فكانوا ينظرون بتوتر وحزن اعتلى ملامحهم ، ماذا بعد ذلك هل حقا سيعاقب وسام أم سيعطيه مزيدا من المهام الدموية مجددا لكي يتخلص منه بطريقة غير مباشرة !! إنهم لا يظنون بالضابط طلال سوى كل شر فهو وحش لا يهمه قتل الأبرياء وسرقة أموالهم والتعدي على ممتلكاتهم وتجاوز حدوده ، صرخ الضابط طلال وقال بعد أن أحس بنشوة الانتصار وهو يضحك ضحكة مجنونة عالية وحادة :
- صفررر استعد لعقابي يا وساااام ..
وما أن أكمل جملته حتى شحب وجهه بالكامل وكأن الدم قد سحب من جسمه بالكامل ، فتح عيناه على وسعها وبدأ جبينه يتصبب عرقا ، أطرافه تجبست ، تنفسه بدا أكثر صعوبة ، دقات قلبه تتزايد مما جعل فارس وسيف مذهولان بالكامل ، ما الذي جرى له فجأة !! فلم تكن الرؤية واضحة جدا لشدة ظلمة الليل ، كان الضابط طلال يبتلع ريقه بصعوبة عندما أحس بشيء حاد يلامس عنقه ليهمس ذلك الشخص الذي كان يقف خلفه مباشرة ويلف يده حول رقبته ويمسك سيفه بيده يمرره بخفه على عنقه ليهمس في أذنه ببرود بنبرته المخيفة الساخرة تلك التي تميزه هو فقط نبره هادئة يدب الخوف قلب كل من سمعها :
- يجب أن تنام جيدا أيها الضابط فيبدو انك تعاني من قلة التركيز وكم يسعدني بأن أساعدك في نومك .. أعدك بأنك ستنام نومه ستنسيك كل همومك..
صرخ فارس وسيف في نفس الوقت وقالا بفرح شديد واستغراب ظهر على نبرة أصواتهم بعد أن سمعاه يتمتم بشيء ما :
- وساااااااام ..
استدار الضابط طلال بسرعة ونظر خلفه بعينين زائغتين والخوف قد دب قلبه وسرى مجرى دمائه وقال بتلعثم يتلقف أنفاسه :
- أيها ... الذئب المتوحش.. من.. أين.. أتيت .. ؟!!
تجاهله وسام كعادته واكتفى برمي تلك الحقيبة البالية كما يسميها على مقربة من قدمي الضابط طلال ، لكم كان يريد أن يقطع رأسه حينها ويتخلص منه ومن أفعاله الشريرة السوداء التي يفعلها في الخفاء ويتخلص من تلك المهام السرية البشعة التي يجبرهم على فعلها فقال وسام بنفاذ صبر :
- لقد أنجزنا مهمتنا والآن لا نريد أن نرى وجهك حتى الظهيرة ..
اتسعت عينا الضابط واحمر وجهه غضبا ليصرخ به قائلا بغضب شديد :
- تبا لك أيها الذئب المتوحش تبا.. لقد نجوت مني هذه المرة ..
ثم ابتسم ابتسامه شريرة ساخرة وقال لوسام الذي كان ينظر إليه بحده وأنفاسه تتعالى من كبته لغضبه وهو يتفحصه بعينيه بغيه أن يستهزئ به ويثير أعصابه ليس أكثر :
- مالي أراك تلهث كالكلاب الليلة هاااه ..؟!!
ازدادت نظرات وسام حدة وأصبح صدره يعلو ويهبط يحاول التقاط أنفاسه بصعوبة من شدة غيظه وتعبه فقد امتلأت رئتاه من دخان تلك القرية المحترقة كما أنه ظل يركض ويجاري بسرعته سرعة تلك الخيول التي كان يمتطيها مجموعة من القطاع الطرق السارقين الذين سرقوا حقيبة المجوهرات واختفوا بين حشود الناس في وسط المدينة ناهيك عن ضيق الوقت الذي كان يجب عليه أن ينجز كل تلك الأمور فيها ، إيجادهم ومقاتلتهم واسترجاع الحقائب وحملها على ثقلها والركض بها كل تلك المسافة في تلك الظلمة ، إنه لأمر يستحق كل ذلك العناء في نظره لأنه فعلها لأجل من كان يراهم عائلته الوحيدة ، عائلته الصغيرة المكونة من فارس الأخ الأكبر وسيف الأخ الأصغر ، أدار وسام ظهره للضابط طلال ومشى بخطوات كسولة متعبة وتوجه نحو صديقيه وقال ببرود :
- الهث كالكلاب ؟! لأنني فقط كنت أحاول التواصل والتحدث مع احدهم بالفعل بطريقتهم الخاصة طبعا عله يفهم فقط ويخلصنا من شره..
اتسعت عيني الضابط طلال غضبا وقد احمر وجهه حنقا ، ماذا أكان يقصده بكلامه ؟! أكان يقصد بأنه هو الكلب الذي يحاول التحدث معه ؟! هو لا يزال يسخر منه مرة تلو الأخرى ويهدده بالقتل في كل ثانية أما آن الأوان للتخلص منه وإسكاته للأبد فبذلك سيستعيد كبريائه وسيوفي بوعده الذي وعده لصديقه الذي لقي حتفه على يد وسام بالرغم من صغر سنه ، اخرج الضابط سيفه الحاد بسرعة من غمده ووجهه نحو وسام وقال صارخا به وقد تصبب جبنه عرقا من شده غضبه :
- استعد لموتك أيه الوغد الماكر ..
شهق سيف وبدأت أطرافه بالارتجاف ، ما كل هذا !! ما الذي يجري الآن لابد من أن حرب على وشك البدء الآن ، تشبث سيف بذراع فارس الذي أخذ يتأمل محادثة وسام والضابط طلال بهدوء دون أن يبدي أي ردة فعل نحوهم ، استدار وسام وابتسم ساخرا ابتسامه لم تدل إلا على كره الشديد له يرمقه بحدة وكأنه ينتظر هذه اللحظة بفارغ الصبر وهاهي الفرصة أتته على طبق من ذهب ، نظر إليه بنظرته الحادة القاتلة واخرج سيفيه واحكم قبضته عليهما بعد أن سوا من وقفته تلك فارجا قدميه في وضعيه هجوم يمسك سيفيه اللذان تقاطعا أمام وجهه في نقطة فتمتم لنفسه قائلا بابتسامه ساخرة :
- وأخيرا أتت اللحظة التي احلم بها منذ سنوات ..
لكن فارس قرر أخيرا أن يتحرك من مكانه ويغير دور المتفرج لدور المنقذ لما رأى الجدية في عيني وسام ، فوقف بينهم بكسل يديه سجينة جيوب معطفه ونظر إلى الضابط طلال وقال له بابتسامة مغصوبة محاولا التقليل من هذا الكم الهائل من الكره والحقد والرغبة في القتل الذي سيطر على المكان :
- إذا يا سيدي لقد جذبت الضُباط بصراخك هذا فأنا اسمع وقع إقدامهم متوجهين إلينا قم بتغير ملامحك القاتلة هذه وادخل سيفك في غمده بسرعة كي لا يكتشفوا خيانتك ويقطعوا لك رأسك الفارغ هذا ..
توقف عن الكلام متنهدا وابعد خصلات شعره الأسود عن جبينه بعشوائية ورمقه بنظرة لم يعرف الضابط طلال معناها وأكمل قائلا:
- كما إننا أنجزنا مهمتنا وانتهى عملنا لليوم.. نراك غدا ..
فستدار وقال بكسل :
- إلى اللقاء ..
امسك بذراعي سيف ووسام يجرهم بالقوة ليسيروا معه مانعا محاولات وسام العديدة بإفلات ذراعه من قبضته والذي لم يتوقف عن التمتمة ببعض الشتائم يوجهها لفارس الذي تجاهله بكل برود ليتوجهوا إلى داخل المعسكر قاصدين غرفهم الخاصة بهم تاركين الضابط طلال يعظ شفتيه قهرا وغيضا وهو يقول صارخا بهم :
- سحقا لكم يا قراصنة الموت سحقا لك يا وسام .. سحقا لك يا فارس يا بغيض لماذا قطعت أجمل اللحظات في حياتي كدت أن اقضي على ذلك الوغد سحقا لكم كلكم سحقا ..
وسرعان ما تبدد ذلك الغضب والغيض وكأن شيئا لم يحدث وهو ينتبه لتلك الحقيبة الملقاة أرضا والتي سطع منها بعض الضوء بسبب انعكاس ضوء القمر على ما بداخلها من مجوهرات ثمينة، جلس على ركبتيه وأخذ يخرجهم بيديه ينظر إليها بابتسامه واسعة كاد لعابه أن يسيل معها .







نهاية الفصل , قراءة ممتعة لكم أحبتي ..
بقلم محبتكم : روح الوسن ..

روح الوسن .. 13-01-20 02:50 PM

.. الفصل الخامس ..

.

.

| حب الأصدقاء |

.

.

بين تلك الجدران المتصدعة القديمة ، في تلك الغرفة ذات الإضاءة الخافتة ، كانت النافذة مفتوحة ليتسلل جزء من ضوء القمر داخلها كأنه مصدر الأمل الوحيد للثلاث شبان الذين كانوا أمام النافذة جالسين بصمت ليقطع ذلك الصمت قول فارس لهم الذي توجه نحو ذلك الكرسي الخشبي ذو اللحاف القماشي المترهل الذي توسط تلك الغرفة ليرمي بجسده المرهق عليه وهو يتثاءب بينما كان يرفع يديه ليطرد الكسل :
- إذا يا صغاري أحسنتم في عملكم الليلة وشكرا على جهودكم ..
اقترب سيف منه بخطوات مرتجفة خائفة ليهوي على الأرض مستندا على ركبتيه جالسا وقال بنبرة قلقة واعين تترقرق من الدمع :
- فارس أأنت بخير!! كيف هي جراحك أتؤلمك .. ؟!!
نظر إليه بحنية ومد يده ليضعها على رأسه وبدأ يبعثر خصلات شعره بأنامله وهو يقول بابتسامة مشاكسة ونبرة مطمئنة مرحة :
- لا تقلق يا عزيزي فأنا فارس البطل الشجاع الذي لا يهاب شيئا ..
ابتسم سيف وأخذ يمسح دموعه التي شقت طريقها على خديه دون علمه بذراعه بحركة طفولية سريعة وقال بنبرة امتزج فيها الفرح والحزن :
- هذا رائع ..
نظر فارس إلى سيف وأخذ يربت على كتفه وهو يقول له بجدية غلبت نبرته :
- إذا يا سيف فلتذهب كي تنام وتأخذ قسطا من الراحة فأنا لدي الكثير من المهارات القتالية والدفاعية التي أريد تعليمك إياها كما أنك بذلت جهدا اليوم تشكر عليه أيها البطل الصغير ..
ابتسم سيف ابتسامه عريضة بعينين تتلهفان للتدريب على يد فارس الذي يراه دائما قدوته ومعلمه الأول وأخوه الأكبر واليد الحانية التي تربت على ظهره عند حزنه وفرحه ، السند الوحيد له نفسيا ومعنويا في كل وقت وقال بفرح شديد :
- أمرك سيدي ..
نهض بسرعة وألقى التحية عليه وتمنى له ليلة هانئة هادئة وعندما أراد التوجه نحو الباب التفت إلى تلك النافذة التي كان وسام جالسا على حافتها يستند على يده وينظر للسماء بشرود وكأنه في عالم آخر فقال سيف بنبرة حزينة متأسفة ومعتذرة :
- أنا آسف حقا يا وسام على كل ما تسببت به أدين لك باعتذار كما أنني أدين لك بالشكر ..
لم يسمع سيف أي رد من وسام مما جعله يظن بأن وسام غاضبا عليه فبدأت أطرافه بالارتجاف ، ماذا عساه أن يفعل !! صحيح بأنه هو من تسبب لوسام بكل تلك المشاكل لكنه حقا آسف فهو لا يزال مبتدئ في المهام وفي الفنون القتالية إذ أنه لا يزال يتعلم منهم ويكتسب الخبرة ، فوجه نظره نحو فارس بحزن شديد وكأنه يقول له "أرجوك ماذا افعل كيف أصلح ما فعلته دون قصد مني" ليبتسم فارس وهو يرمقه بنظرة مطمئنة ويشير ناحية الباب قائلا بهمس:
- لا تقلق لا تقلق اذهب فهذا هو وقت تأملات وسام في الكون والطبيعة ..
كبت سيف ضحكته واضعا يده على فمه واحمر وجهه واخذ يلوح لفارس مودعا إياه ، خرج بخطوات سريعة هادئة وأغلق الباب خلفه بكل هدوء وما إن أغلقه حتى قال وسام بنبرته الباردة المخيفة :
- وقت تأملاتي هااه أنا أسمعك يا فارس ..
انتفض فارس من مكانه وهو يهمس لنفسه ويقول :
- يااااوييليي ..
رمقه بنظره باردة بعينين باهتتين فقدت بريقها ثم استدار وعاد مستندا بحافة النافذة يحدق في السماء متمتما بحنق :
- ليتك تركتني اقتل ذلك الل.....
قاطعه فارس بنبرة حادة ولم تخلو من الجدية وقال :
- ليس الآن يا وسام ليس الآن تمالك أعصابك ..
تنهد وسام بضجر ولم يرق له ما قال أبدا فقال وقد عاد إلى برودة ولم يلتفت إليه يهيم بنظره في البعيد :
- إذا ألن تخرج من غرفتي ..؟!!
استلقى فارس على السرير بتعب شديد ينظر إلى السقف بكل شرود وسرعان ما دخل في أفكاره وكم بدا عليه الاستياء ليقطع ذلك الشرود وكل تلك الأفكار تلك النبرة ذات النغمة الموسيقية المميزة التي كانت تهمس في أذنه :
- هييييه كم مرة أناديك ولا ترد عليّ إلا تسمعني أم أصبحت أصم ..
نظر فارس إلى وسام الذي كان يهمس في أذنه ورمش عدة مرات مستغربا وقال بخوف بعد أن استوعب الموقف :
- وسام كيف أتيت بهذه السرعة إلى هنا ألم تكون تجلس على حافة النافذة ..؟!!
ضيق وسام عينيه بغضب وقد احتدت أكثر وأكثر وقال بفراغ صبر:
- لا تغير الموضوع اخبرني بما يشغل تفكيرك ثم اخرج من غرفتي ..
ابتسم فارس له ومد يده نحوه ووضعها على رأسه وقال له :
- اخبرني يا وسام كيف عرفت تلك السيدة التي داوت جراحي ؟! يبدو بأنها ماهرة جدا ومنذ متى وأنت تعرفها ؟! ومن هي بالضبط .. ؟!!
ابعد يده عن رأسه بغضب استغربه فارس ورمقه بنظرة حادة وقال بابتسامه ساخرة :
- أهذا ما يشغل تفكيرك ؟! إذا لن أخبرك ..
قطب فارس حاجبيه بعدم رضا وصرخ باستياء قائلا :
- هيييه وسام هذا ليس عدلا أرجوووك اخبرني ..
تجاهله وسام ونهض ببطء من على الأرض وجلس على طرف الكرسي الذي كان فارس مستلقيا عليه مكتفا ذراعيه وقال ببرود شديد :
- ليس من شأنك ..
حاول فارس جاهدا بأن يجلس ونجح أخيرا في فعل ذلك ليبتسم بمكر وهو يقول ساخرا يرمقه بنظراته الماكرة :
- يبدو أن جراحي لم تشفى بعد لذلك اعتقد بأنني سأذهب عند تلك السيدة الجميلة ..
لم يجبه وسام وتجاهله مره أخرى وهو ينظر لتلك النافذة مجددا حتى قال فارس متسائلا وساخرا من وسام الذي تجاهله يرمقه بخبث :
- وسام ألا تعتقد بأنها امرأة كبيرة .. أقصد بأنها لا تناسب عمرك ..
نظر وسام إليه بعينين قد اتسعتا بشدة يرمقه بنظرات نارية تطاير الشرر منها ، كيف لهذا الغبي أن يفكر بهذه الطريقة العوجاء ؟! أهو بسبب جرحه الذي افقده كثيرا من الدماء ؟! بالتأكيد وقد يكون تسرب جزء من عقله مع دمائه أيضا ، قال بغضب شديد بفكين متصلبين :
- أيها الغبي المعتوه ما الذي تتفوه به إنها سيدة متزوجة وأنا احترمها اشد الاحترام كما أنني بعمر أحد أبنائها ..
أخذ فارس يقهقه بأعلى صوته وهو يقول بضحكة جاهد نفسه على أن يوقفها :
- اعلم ، اعلم لكنني أردت أن استفزك قليلا فأنا أحب أن أرى ملامحك وتعابيرك اللطيفة هذه ..
أشاح وسام بوجهه بعيدا عنه وأخذ يتمتم ببعض الشتائم التي كانت من نصيب فارس ، قال فارس مداعبا له :
- إذا سوف أزورها غدا لتكشف على جرحي وقد أتعرف على عائلتها أكثر وأكثر ..
نظر وسام إليه بحدة وقال بابتسامة متهكمة ماكرة ومحذرة :
- إذا يا فارس اكتب وصيتك قبل أن تذهب إليهم أو ودع قدميك قبل أن تنوي الزيارة لمنزلهم لأنني سأكسرها وأهشمها وسأقطعها لك ..
صرخ فارس بذهول وهو يمسك ساقيه بيديه وينظر إليه نظرات إعجاب وقال بضحكه :
- اووووه أكل هذا لأجل ألا اقترب منهم يا الهي أنا لا أصدق ..
رفع وسام حاجبه وابتسم نصف ابتسامه إنه يعلم تماما بأن فارس يريد من كل هذه الثرثرة السخيفة تغير وتعديل مزاجه فقط لذلك يختلق كل تلك السخافات الساخرة فهذا هو فارس القلب الطيب الذي دائما يغرقهم بالحنان ، قال وسام بهمس لم يكن مسموعا في ضنه :
- أشكرك يا فارس ..
توقف فارس عن الضحك وقال بلهفه :
- ماذا قلت يا وسام لقد رأيتك تبتسم توا ماذا قلت .. ؟!!
عادت ملامحه الباردة تلك وقال بسخرية :
- لا أحب أن أعيد ما قلته مرتين وأنت تعلم ذلك ..
ضرب جبينه بقوة وتنهد بقلة حيلة وقال :
- خسسسسااارة ..
رمقه وسام وقال بجدية :
- متى تريد أن تخرج من غرفتي يا سيد ..
وضع فارس إصبعه على ذقنه وأخذ يدعي أنه يفكر يدور بأعينه ثم قال ضاحكا بينما استلقى مجددا على السرير:
- أمممم سأنام الليلة هنا ..
- لن اسمح لك هيا اغرب عن وجهي وإلا ...
أتاه الرد قويا وسريعا ولا يحتمل المزاح أبدا فرفع فارس حاجبه بعدم تصديق ونظر إليه وقال باستصغار :
- وإلا ماذا ؟؟ أكمل هيا وارني ..
قطب وسام حاجبيه منزعجا ونظر إليه بغضب ليبتسم بعدها بمكر وهو يتنقل بنظره على جسده إلى أن استقر نظره على بطنه وقال ببرود يشبه الجليد :
- وإلا فتحت لك بطنك مجددا طبعا..
صرخ فارس برعب ونهض من على السرير بسرعة ، نعم إنه كان يصدق كل كلمة يقولها وسام خصوصا اليوم ومع المزاج المشتعل هذا فهو لن يتراجع أبدا عن فعل أي شيء إذا لا بد من أنه سيفعلها حقا ، تنهد باستياء بعد أن استقر واقفا وأخذ يتمتم لنفسه ببعض الكلمات الغير مسموعة وتوجه نحو الباب بكل آسى ليبتسم وسام ويقول ببرود :
- نلت منك ..
تنهد فارس بقلة حيلة وهو يفتح الباب ببطء إنه حقا لا يريد أن يذهب إلى غرفته كم كان يريد أن يقضي اليوم كاملا مع وسام لكن للأسف وسام صعب المزاج وحاد الطباع مهما حاول فيه فلن يجدي نفعا معه ليقول بحزن واستياء :
- نعم ، نعم نلت مني أشكرك على تذكيري ..
ضحك وسام بقوة ولأول مرة في حياته مما جعل فارس يلتفت بسرعة ناظرا إليه باستغراب .. وسام يضحك ؟! حقا وبصوت عال ؟! أهذا حلم أم حقيقة ؟! وسام الذي لا يعرف كيف يبتسم يضحك الآن وأمام عينيه ؟! حرك رأسه بخفه غير مصدقا ما رأى فقال :
- لا بد من إنني فقدت صوابي فأنا لم اعد أعي شيئا ..
توجه وسام نحوه ليقف أمامه ، سحبه من ذراعه بقوة يدخله إلى الغرفة مجددا مغلقا الباب وقال بسخرية :
- كم أحب أن أرى تعابير وجهك الحزينة والبائسة يا فارس ..
غضن جبينه بعدم استيعاب ما الذي حدث أوسام كان يداعبه ؟! أم يلعب معه لعبة الكلمات وهو ردها له كما كان دائما يسخر على تعابير وجهه ؟! أم أنه يريد أن يبقى عنده لهذا اليوم حقا ؟! اخذ يرمش مرارا وتكرارا بعدم استيعاب وذهول كما الصدمة في حين ضربه وسام على جبينه بيده مما جعله يتأوه ألما فقال يرمقه بنظراته المستفزة :
- هييييه فارس هل أصابك الصمم مجددا .. ؟!!
هز رأسه يمينا ويسارا بحركة سريعة نافيا قوله ثم أكمل وسام وقال ببروده المعتاد :
- ماذا ؟! سخرت مني قبل قليل وسخرت منك أنا أيضا ..
قطب فارس حاجبيه بغضب وقال :
- أقلت بأنك سخرت مني ..
قال بكل برود :
- نعم ..
ابتسم فارس بمكر ورفع يديه وقال :
- إذا استعد لعقابي ..
فركض وسام مبتعدا عنه أما هو فأخذ يطارده بصعوبة يقاوم ألم جرحه الذي لم يشفى بعد في جميع أرجاء الغرفة الصغيرة تلك وضحكاتهم لا تكاد تتوقف حتى قال وسام بنبرته الباردة بعد أن توقف عن الركض وهو يحاول التقاط أنفاسه واضعا يديه على ركبتيه بتعب :
- أتظن بأنني سأترك غبيا مصابا مثلك ينام لوحده ..
توقف فارس وهو يضحك ليرتمي على السرير مجددا بتعب وإنهاك قائلا بفرح شديد بعد أن أغمض عينيه مبتسما :
- اقسم لك أنني أحبك يا قطعة الثلج الباردة .. يا كتلة المغرور فأنا لا اضحك بقوة إلا معك ..








نهاية الفصل , قراءة ممتعة لكم أحبتي ..
بقلم محبتكم : روح الوسن ..

روح الوسن .. 16-01-20 01:53 AM

.. الفصل السادس ..
.

.


| بداية التغيير |

.

.

في وسط تلك الغرفة ، وعلى ذلك السرير الخشبي بالتحديد الذي يتوسطها ، كان مستلقيا بعشوائية يغط في نوم عميق ، خصلات شعره الأسود انتشرت على الوسادة القماشية الصغيرة الواقعة تحت رأسه ، لحافه الأبيض القديم يغطي نصف جسمه بطريقة غير مرتبة ، وجهه شاحبا ولا يزال يُسمع أنينه اثر ذلك الجرح في بطنه ، تسللت إلى عينيه أشعه الشمس التي تخبره بأن يترك فراشه الدافئ ، قطب حاجبيه منزعجا ورفع اللحاف واضعا إياه على وجهه لكن أشعة الشمس اخترقت ذلك اللحاف بسهولة ، رفع ذراعه ووضعها على عينيه مانعا ذلك النور من الوصول إليه ، نجح أخيرا في ذلك لكن عصافير بطنه لم تدعه يكمل نومه بهدوء بل بدأت تزقزق بشدة تريد من يطعمها وحالا ، رفع ذراعه وامسك بلحافه ورماه على الأرض بعصبية فتح عينيه بضجر واخذ ينظر للسقف ويهمس لنفسه بسخط :
- سحقا للجوع سحقا ..
رفع جسمه بمرفقيه بصعوبة ليجلس على السرير ، وضع يده على جرح بطنه يتحسسه ليجد بأنه بدون قميص واللفافات البيضاء تغطي بطنه وممتدة على كتفه الأيسر فهمس مستغربا :
- ما هذا يبدو بأنني تلقيت العلاج وأنا نائم ..
جاب بعينيه في أرجاء الغرفة لتتوقف أخيرا على وسام الذي كان يجلس على كرسي خشبي صغير بجانب النافذة واضعا قدما على الأخرى ينظر إليه وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة منتصرة فهو نجح أخيرا ليستيقظ هذا العجوز كما يدعوه بعد محاولات كثيرة باءت بالفشل منه ، قطب فارس حاجبيه وقال :
- وسام ماذا تفعل هنا .. ؟!!
قال ببرود وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة :
- أتأمل ملامحك وأنت نائم واستمتع بإزعاجك بفتح النافذة وترك أشعة الشمس تلعب دورها بإقاضك من سباتك العميق ..
ضيق عينيه بغضب متمتما ببعض الكلمات الغير مسموعة بضجر واخذ يرفع خصلات شعره الأسود بأنامله بحركة خفيفة وقال :
- سحقا لك أيها الغبي تزعجني بهذه الطريقة وتستمتع على حساب غيرك ومنذ متى وأنت هنا .. ؟!!
رمقه بنظرة حادة وقال :
- أنسيت انك في غرفتي ..؟!!
أطلق قارس آآهه تدل على استيعابه وإدراكه للأمر ثم ضرب جبينه بيده واخذ يضحك ويقول :
- صحيح.. صحيح ..
قال وسام بنبرته الباردة الساخرة :
- لقد ظننت بأنك مت أيها العجوز ..
زم شفتيه وضيق عينيه بغضب وقال :
- من هو العجوز أيها الطفل الرضيع .. ؟!!
ابتسم وسام وهو يشير بعينيه إلى طاولة خشبية صغيرة وقال :
- هيا تناول طعامك قبل أن تموت جوعا ..
اتسعت عيني فارس فرحا وهو ينظر إلى الطعام غير مصدق وكأنه لأول مرة ينظر إليه واخذ يتمتم ببعض كلمات الشكر لوسام ، استند على ذراعه ليقوم لكنه أطلق آآهه متوجعة وكسا الألم ملامح وجهه في حين قفز وسام شاحب الوجه خوفا ليساند فارس ويجلسه مرة أخرى على السرير وهو يقول بنبرة هادئة وقد بدا على ملامحه القلق :
- فارس أأنت بخير.. ؟!!
جلس فارس بمساعده وسام على طرف السرير وتنهد بقلة حيلة وبدا عليه الانزعاج الشديد ، كيف له أن يُجرح هكذا !! إذا هو سيضطر إلى أن يبقى طريح الفراش لمدة ليست بالقليلة ، كيف سيبقى مكتوف اليدين يتأمل من حوله دون تدخله وكيف ستسير الأمور بدونه وكيف له أن يقوم بالمهام التي لا يتوقف الضابط طلال عن أمرهم بها بالنظر إلى انه هو قائد قراصنة الموت والعقل المدبر لهم فلا يمكنهم أن ينجزوا المهمات بدونه ، صحيح أن وسام بطل لا يقهر قوي وذو نظرة ثاقبة وذو مهارات قتالية عالية جدا يجاري بمهاراته مهارات ضابط إلا انه يفتقد إلى الحكمة في تصرفاته ومتهور ولا ينصت لأي أحد سواه ، كما أن سيف لا يزال صغيرا ومبتدئا وذو مهارات قتاليه بسيطة ومحدودة ناهيك عن أن أمر جرحه لا يزال سرا بينهم فالضابط طلال لا يعلم بذلك وإذا علم فإن المشاكل ستبدأ تنهمر عليهم واحدة تلو الأخرى ، تنهد بكل أسى وأطلق آآهه متعبة لعلها تخفف قليلا من همومه التي تكبت في صدره لكنه سرعان ما هز رأسه نفيا لكي يطرد كل هذه الأفكار السوداء المؤلمة عندما نظر إلى وسام الذي يناوله صينية الطعام ، ابتسم فارس بألم وتناول الصينية من يد وسام وقال بهدوء :
- أشكرك يا وسام ..
- فارس ..
قالها وسام الذي كان يستند على ركبته جالسا أمامه مباشرة على الأرض بنبرة غريبة يتخللها مزيج من الهدوء والغضب والخوف والترجي وقد غطت خصلات شعره البني الكستنائي معظم ملامح وجهه ، قطب فارس حاجبيه باستغراب وقال :
- ماذا هناك يا وسام .. ؟!!
عم الصمت أرجاء الغرفة لفترة من الزمن لم يكن يعلم وسام كيف يبدأ بالكلام فهو يشعر بالقلق على فارس ويعلم تماما بأنه يفكر فيه هو وسيف بشدة أكثر من نفسه ويشعر بإحساس لا يعرف كيف يوصفه هو فقط يريد من فارس أن يعتني بنفسه جيدا لكي يستعيد عافيته ويعودون للعمل معا مجددا ، لينطق أخيرا بقوله ببرود شديد :
- عدني بأن تعتني بنفسك جيدا ..
فتح فارس عيناه على وسعها بدهشة مصدوما بالكامل ورمش عده مرات غير مصدق ما قد قاله وسام له توا ، أهو قلق عليه كل هذه الدرجة ؟! وسام الذي يظن الكل انه فتى بدون قلب وبدون أحاسيس أهذه بداية التغيير حقا ؟! فأكمل قائلا بنبرة صوت عالي دون أن يسمع ردة فعله :
- أرجوك اعتمد عليّ وعلى سيف إلى أن تتعافى جراحك ..
أنهى جملته بأن هز رأسه بسرعة يمينا وشمالا ونهض بسرعة متوجها نحو الباب انه يشعر بإحراج شديد لقوله مثل هذه الكلمات التي تبدو للغير أنها عاديه لكن أن تخرج تلك الكلمات من فم وسام الذي لا يعرف سوى التهديد وإطلاق الكلمات المجردة من أحاسيس الاهتمام والعطف والحب لهو شيء غير عادي ، امسك مقبض الباب وفتحه بسرعة وقبل أن يغلقه خلفه قال ببعض الضيق ولم يلتفت إليه :
- هيا أيها العجوز الخرف الأصم أنا انتظر ردك ..
أفاق فارس من شروده حينها ورفع يده واضعا إياها على جبينه ليتحسس درجة حرارته ، أهذا وسام حقا ؟! أم أن الحمى جعلته يتخيل أشياء لا صحة لها !! حرك رأسه نفيا ببطء بعدم استيعاب ليقول ببلاهة بعد أن وجد صوته :
- أي رد تنتظره مني يا وسام .. ؟!!
فصرخ الآخر بقوة لأنه يكره هذا الشعور جدا ألا وهو الشعور بالضعف والخجل والخوف على شخص ما وقال بحدة :
- هيا عِدني بسرعة ..
ابتسم فارس واستند على يديه خلف ظهره ينظر متأملا لظهر وسام الذي كان يبدو من هيئته بأنه ينظر إلى الأرض خجلا في مشهد لأول مرة يراه فيه بهذه الحالة ليقول بفرح :
- لك ما تريد يا عزيزي وسام ..
وما أن أكمل جملته حتى سمع صوت ضرب الباب بقوة فانطلقت ضحكته وقال بنبرة عالية ضاحكة :
- هييييه يا وسام كدت أن تقلع الباب لا تنسى بأن هذه الغرفة غرفتك ..
ليأتيه الرد السريع من خلف الباب وهو يقول بحدة :
- اخرس وتناول طعامك ..
ضحك بقوة ونظره لا زال معلقا بالباب ، مد يده واخذ يتناول طعامه بمرح متلذذا بكل لقمه ، لقد كان ولا زال وسام بمثابة الأخ الصغير له سنده القوي الذي يعتمد عليه في اشد الظروف وأصعبها رغم صغر سنه ، لم يكن يتوقع أبدا من انه يوما ما سيتغير ولو لدرجة واحدة ويصبح يهتم بالآخرين لكنه فعلا نجح في ذلك ويستحق بأن يتوج باسم البطل ، كان حقا يشعر بلذة الانتصار فمهما كان الشخص متحجرا قاسيا باردا إلا انه ولا بد من وجود مفتاح لقلبه ، بينما الآخر والذي خرج راكضا في ذلك الرواق الطويل ومتوجها إلى غرفة سيف ، ارتسمت على شفتيه ابتسامة صغيرة لا تكاد ترى لكنها سرعان ما اختفت عندما لمح ذلك الشخص الذي يمقته بشدة ويتمنى أن يقطعه قطعة.. قطعة بيديه ليقول له هامسا بصرامة ينظر إليه بجمود :
- هيييه يا وسام أريدكم في مهمة اليوم أيضا كونوا مستعدين ..
سيطرت ملامح البرود والجمود على وجه وسام واحتدت عينيه بشدة واخذ يسير ببطء نحو الضابط طلال ، قطب الآخر حاجبيه مستنكرا ردة فعله وصرخ به قائلا :
- هييه ما الذي دهاك أيها المعتوه ..
اخذ يقترب منه أكثر وأكثر وملامحه تحتد شيئا فشيئا رجع الضابط طلال خطوتين للخلف خوفا من تلك الملامح وتلك النظرات القاتلة فهو نجا منه بالأمس وبأعجوبة ولكنه الآن لا يضمن ذلك أبدا ، تقدم ناحيته ثم مد وسام يديه ولف أنامله حول ياقة قميصالضابط طلال وشدها بقوة بحركة سريعة ودفعه بقوة لكي يرتطم جسده بالجدار الذي خلفه فهمس في أذنه قائلا بنفاذ صبر ونظرة محذرة :
- إن لم تعطنا أسبوعان لنرتاح فيها على الأقل فأنا اقسم لك أنني إما أن انتزع قلبك من مكانه وأنت تنظر إليه أو أنني أفضحك أنت وأعوانك أمام الجميع واسقط أقنعتكم أيها الخونة واسلب كل أموالكم ثم أقتلكم واحدا ، واحدا .. ما رأيك .. ؟!!
نظر إليه بصدمة في حين شحب وجهه بالكامل وكأن الدم قد سحب من جسمه ، أخذت أطرافه بالارتعاش والانتفاض وشعر حينها بالرعب يتملك كل ذرة في جسمه ، وسام قادر على تقطيعه إلى أشلاء وسحقه في طرف ثانية إن لم يوافق على ما أمره به سوف ينتهي به الأمر إما ميتا على يديه أو شخصا وضيعا أمام الكل ومصيره السجن بكل تأكيد إن لم يقتلوه بسبب خيانته واختراقه القوانين وهذان أسوأ خياران على الإطلاق ، تركه وسام ليسقط على ركبتيه وهو يبتلع ريقه محاولا السيطرة على خوفه الشديد وقال :
- ح..حاضر ..
تركه جاثيا في مكانه وابتعد عنه ليهمس بنبرة تهكمية صارمة مرعبة :
- إياك والعبث معي ..
اختفى وسام عن أنظاره وتنهد وكأن جبالا ضخمة أزيحت من على كتفيه ، رفع يده ووضع أنامله على عنقه يتحسسها برعب لقد ظن بأنها حقا النهاية استقام ينفض ثيابه بغضب وقال بغيض شديد :
- سأريك يا وسام .. ستدفع الثمن أنا أعدك ..
وأكمل سير خطواته الواثقة ترتسم على شفتيه ابتسامة ساخرة لا تنبئ بالخير أبدا حتى اختفى في زوايا المعسكر الكبير ، بينما توجه وسام إلى غرفة سيف واخذ يطرق الباب بهدوء طرقات متتالية ليفتح الباب أخيرا ويخرج مرتديا لباس النوم ينظر إليه بعين واحدة فتحها بصعوبة بالغة يقاوم النوم وهو يتثاءب ويقول بكسل :
- صباح الخير يا وسام ..
ضرب وسام جبينه بقوة فتأوه من الألم ورجع خطوتين للخلف وقال بانزعاج :
- ماذا بك يا وسام .. ؟!!
رمقه بنظرة وقال بصرامة :
- خمس دقائق فقط ويبدأ التمرين ..
اتسعت عينا سيف وقال متسائلا :
- الآن .. ؟!!
رمقه بنظرة قبل أن يبتعد عن الباب ويسير بخطوات كسولة ليقول ببرود :
- وبأقصى سرعه أيها الكسول ..
شهق سيف فرحا وأومأ موافقا وقال :
- وأين فارس أهو في صالة التدريب ؟! أم يريدنا أن نفطر سويا لليو..... ؟!!
توقف وسام عن السير وقاطعه ببرود :
- لن يشاركنا اليوم بل سيرتاح قليلا من التمرين ..
زم سيف شفتيه وقطب حاجبيه بحزن شديد وهمس قائلا :
- أهو بخير .. ؟!!
زفر وسام بغيض وتنهد بقلة حيلة كم يكره أن يكرر كلامه ويشرح ويبرر تصرفاته للآخرين فقال :
- سيف لا تُؤخر الوقت بثرثرتك التي لا فائدة ترجى منها فارس بخير لكنه يحتاج إلى بعض الراحة حاليا هيا بسرعة تناول فطورك واستعد للتمرين فلن أرحمك اليوم أبدا ..
ابتسم سيف نصف ابتسامة فهو لن يرحمه حقا خصوصا أن فارس ليس معهم فهو بمثابة الدرع الواقي له من غضب وسام وقال بنبرة خائفة مرتجفة :
- ح..حاضر سيدي ..








نهاية الفصل , قراءة ممتعة لكم أحبتي ..
بقلم محبتكم : روح الوسن ..

روح الوسن .. 16-01-20 01:59 AM

.. الفصل السابع ..
.

.

| الصدمة |
.

.

بعد منتصف الليل وفي وسط تلك الظلمة وعلى ذلك السرير الخشبي الذي اتخذه سريرا له لمدة لا تقل عن الأسبوع ، اخذ يتقلب يمينا ويسارا مطارا للنوم الذي قرر ترك جفونه وهجرها ليتركه هو وهواجسه السوداء يتنافسان من منهم سيصمد أكثر ويتغلب على الآخر، في حين عم سكون مخيف أرجاء تلك الغرفة وأرجاء ذلك المعسكر بالكامل ، تنهد بضجر واستلقى على ظهره يتأمل السقف بشرود ، وجهه شاحب وعيناه باهتتان ، خصلات شعرة الأسود غطت جبينه بعشوائية ، اخذ يرفع يده اليمنى بكسل إلى الأعلى لتصل إلى مستوى نظره ، قطب حاجبيه باستياء ينظر بحزن عميق إلى تلك الحلقة الحديدية الدائرية التي زينت بنصره ليبتسم بعدها بكل ألم ، مرت بضع دقائق وهو على نفس تلك الحالة إلى أن قرر أخيرا أن ينهض وينفض غبار الحزن والأسى من على كاهله ، أن يترك الحزن جانبا ويمضي قدما ، استقام على الأرض بطوله وسحب معطفه الجلدي الأسود يرتديه بهدوء ، سمع طرقات خفيفة على الباب ليفتح بعدها بهدوء شديد ، استدار وألقى نظرة سريعة على الشخص الذي دخل الغرفة بهدوء بملامحه الباردة متوجها إلى الكرسي الخشبي ليجلس عليه واضعا قدما على الأخرى ليكمل هو الآخر ارتداء وشاحه الرمادي ويلفه حول عنقه ، قال وسام ببرود متسائلا :
- فارس إلى أين أنت ذاهب .. ؟!!
صمت لوهلة ثم اخرج حذائه الجلدي من الدرج وجلس على الأرض لكي يتمكن من ارتدائه وربط كل تلك الأربطة بشكل صحيح ليقول :
- سأخرج قليلا يا وسام ..
نهض وسام بسرعة وقال بنبرته الباردة الحادة:
- أنت لم تشفى بالكامل يجب أن ترتاح ..
نهض بعد أن أنهى ربط حذائه واخذ يرفع خصلات شعره الأسود ويبعدها عن جبينه بأنامله بطريقة جذابة تجعله يبدو أكثر وسامه ليقترب من وسام الذي شحب وجهه واحتدت عيناه أكثر بمجرد سماع ما قاله فارس للتو ، أهو حقا يريد أن يخرج ؟! لكنه يجب أن يرتاح فجرحه لم يشفى بعد كما أن الحراسة في الليل تزداد فالحراس ينتشرون في كل بقعة من المعسكر، وماذا لو علم الضابط طلال بالأمر أو ....
وقف فارس أمامه مباشرة ووضع يده على كتفه يربت عليه بحنان وقال بابتسامة مطمئنة :
- لا عليك يا وسام فقد استعدت جزءا كبيرا من صحتي وطاقتي وكم أنا شاكر لك فقد اعتنيت بي جيدا طيلة تلك المدة التي لبثتها عندك في غرفتك ..
استدار فارس متوجها بخطوات بطيئة نحو الباب واضعا كلتا يديه في جيوب معطفه ليقفز وسام بسرعة خاطفة معترضا طريقه وهو يقول ببرود وبنبرة قد احتدت قليلا :
- لن اسمح لك بالذهاب ..
اتسعت عينا فارس أوسام قلق عليه كل هذا القلق ؟! ماذا عساه أن يفعل الآن فوسام لن يستسلم إلا إذا عاد أدراجه وظل مستلقيا على الفراش ، ليكمل وسام قائلا بعد أن انزل ناظريه للأسفل :
- وإذا كنت مصرا يا فارس فسوف أرافقك واذهب معك ..
تنهد فارس بقلة حيلة واضعا كلتا يديه على كتفي وسام ، اخفض رأسه ليكون بمستوى نظر وسام لتلتقي أعينهما ببعض ، عينا فارس التي تخبئ ورائها حزن عميق وعينا وسام الباردتان ذات النظرات الحادة ليبتسم فارس بدوره ويهمس لوسام بقوله :
- وسام اهتم بالأمور هنا لأجلي يجب عليّ أن اذهب لإنهاء بعض الأمور لوحدي في مكان ما ..
رمقه وسام بنظرة بان فيها قليل من القلق وقال بتردد :
- لكن يا ف..فارس ..
اعتدل في وقفته ومد يده واضعا إياها على رأس وسام واخذ يبعثر له خصلات شعره البني بعشوائية وهو يقول بمرح ويغمز له بعينه :
- سأذهب عند مخطوبتي لزيارتها ..إياك وأن تتبعني ..دع الكبار وشأنهم ..
أشاح وسام بوجهه بعيدا وزم شفتيه بغضب واخذ يتمتم ببعض الكلمات الغير مسموعة وكأنها كانت بعض الشتائم يلقيها على فارس واحدة تلو الأخرى وقال بغضب وقد احمرت وجنتيه خجلا :
- وكأنني سأفعل أيها الغبي ..
قهقه فارس بقوة على تلك الملامح الغاضبة الخجولة التي ارتسمت على وجهه وسام واخذ يربت على كتفه ويقول وهو يرمقه بابتسامه نصر تخللها السخرية :
- أحسنت أيها الفتى المطيع ..
رمقه وسام بنظرات حادة فيها نية القتل مما جعل فارس يبعد يده بسرعة عن كتفه بخوف ضاحكا بقلق ثم طالب منه بأن يعتني بالباقي ويهتم بالأمور لأجله في حين استدار ورفع يده مودعا إياه .

*****

في غرفة أخرى ذات جدران حجرية رمادية تنتشر فيها بعض اللوح والصور القديمة ذات أيطار خشبي أسود أصيل وذا سقف منخفض تتوسطه ثريا من الحديد الأسود وتزينه بعض النقوش ، يوجد بها نافذة ذات أسوار من حديد مانعة لأي شخص من العبور من خلالها ، تغطيها قطعة من القماش الأسود المنقوش بنقوش فضية فخمة ، يتوسط تلك الغرفة سجاد من الفرو الناعم الرمادي وسرير كبير ذو وسائد بيضاء ناعمة ولحاف أبيض تغطي به جسدها النحيف تحته ، من يراها يضن بأنها تغط في النوم لكن نومها متعب يؤرقها في كل لحظة ، تتنفس بصعوبة تمسك الوسادة وتضمها إلى صدرها بقوة ، أطرافها ترتعش حتى في نومها تتحسس لأي صوت من حولها لتقفز من على السرير بسرعة وجهها شاحب نبضاتها غير مستقرة قلبها يكاد يخرج من صدرها تنتظر طلوع الشمس بفارغ الصبر وهذا هو حالها بعد أن انتشر في البلدة اللصوص والمجرمين الذين لا يتحركون إلا في الليل لقضاء مصالحهم الخاصة وبحكم أنها فتاة وتعيش لوحدها فهذا ابسط ما قد تشعر به ، فتحت عيناها العسليتان على وسعها خوفا ورعبا عندما سمعت طرق الباب من قد يكون يا ترى ؟! من الذي يأتي الآن في هذا الوقت المتأخر ؟! أهو احد اللصوص ويريد سرقتها أم أحد القتلة المأجورين ويريد القضاء عليها وإنهاء حياتها التعيسة ؟! ازداد شحوب وجهها ونبضات قلبها بدأت بالتسارع ، وقفت بسرعة مما جعل شعرها الأسود الطويل ينسدل على جبينها وظهرها بعشوائية ، أمسكت بأناملها فستانها الأبيض الحريري وشدت قبضتها عليه بتوتر، توجهت نحو الباب بخطوات متعثرة خائفة ووقفت أمامه ، أخذت أكبر كمية من الهواء لتدخلها إلى رئتها ، أحكمت قبضتها ومدت يدها لتمسك أناملها المرتجفة مقبض الباب ، قالت بتوتر شديد ظهر في نبرة صوتها :
- م..من .. ب..بالباب ... ؟!!
لتسمع صوتا مألوفا لها اعتادت على سماعه سابقا ، صوتا لطالما أرادت سماعه وانتظرته بنفاذ صبر ، ذو نبرة هادئة حنونة ومريحة يقول هامسا لها :
- فاتن افتحي الباب أنا....
لم يكمل كلامه حتى فُتح الباب على مصراعيه لتقفز إلى حضنه متشبثة به والدموع قد شقت طريقها على خديها المتوردين وهي تقول بين شهقاتها المتتالية معاتبه له :
- فارس لقد كنت انتظرك أين كنت كل تلك المدة لقد غبت عني كثيرا كنت انتظرك حقا بفارغ الصبر ..
ابتسم فارس بحزن ووضع يده على كتفها وأبعدها عنه بصعوبة فقد كانت متشبثة بقوة بمعطفه لكنها سرعان ما أرخت قبضتها وابتعدت عنه بخطوتين إلى الخلف خجلا مما فعلته دون إدراكها اخفض رأسه ليصل إلى مستوى نظرها لكنها سرعان ما غطت عينيها بأناملها المرتجفة ودخلت في نوبة بكاء شديدة شهقاتها الصغيرة المتقطعة لا تكاد تتوقف ، مد يده ناحيتها ورفع خصلات شعرها الأسود اللامع الطويل التي كانت تنسدل على جبينها بعشوائية أبعدت أناملها من على وجهها لتنظر إليه مباشرة الذي كان بدوره يتأمل ملامحها الباكية بابتسامه خافته ، توقفت عن البكاء وقد احمرت وجنتيها خجلا من قربه فمد يده ثانيةً وضرب جبينها مما جعلها تتأوه ألما فرفعت رأسها وهي تنظر إليه بنظرات معاتبة على فعلته ليقول لها بابتسامة حانية ارتسمت على محياه :
- كم مرة أقول لك يا فاتن أن هذه الدموع لا تناسب وجهك الجميل وملامحك الفاتنة..
أشاحت بوجهها خجلا بعد أن اتسعت عيناها دهشة مما قاله ثم قالت بتلعثم وخجل شديد لتغير مسار الحديث:
- أهلا بعودتك يا فارس ..
ضحك وهو يرفع خصلات شعره الأسود عن جبينه بعشوائية وقال بابتسامة عذبة :
- إذا ألن تسمحي لي بالدخول أم سأبقى واقفا هنا .. ؟!!
استدارت بسرعة بخطوات متعثرة وهي تدخل المنزل وتقول بارتباك وخجل :
- ا..أنا..آسفة..حقا .. تفضل المنزل منزلك أم انك نسيت .. ؟؟
أماء برأسه بنفي مبتسما وسار خلفها بخطوات متثاقلة كسولة هادئة بنظرات يملأها الحزن ، دخلا إلى المنزل وتوجهت راكضة بخطوات سريعة قائلة بفرح شديد قد كان ظاهرا في نبرتها بوضوح شديد :
- سأعد لك الشاي يا فارسي ..
أغلق الباب خلفه بإحكام ورمقها بنظرة مندهشة واخذ يعيد الاسم الذي نعتته به قبل قليل مرارا وتكرارا وهو يضحك ، تقدم أكثر ليرمي جسده بثقله كله على الأريكة جالسا يتبع بنظرة فاتن التي دخلت إلى المطبخ وأخذت تعد الشاي بسعادة ، حرك رأسه متعجبا من فرحها الشديد وسعادتها الغامرة ، أولم تكن تبكي بحرقة قبل قليل ؟! أولم تكن شهقاتها المتتابعة غير قابلة للتوقف ودموعها كشلال منهمر لا يتوقف ؟! أهذا كله لأنها رأته حقا ؟! اخذ يهمس في نفسه بكل تلك الأسئلة في حين يرمقها بتعجب لكن سرعان ما اختفت تلك النظرات لتتحول إلى نظرات باهتة حزينة ، رفع رأسه ببطء وأسنده على حافة الأريكة ليوجه نظره نحو السقف يتأمله بعينين تائهتين مليئتين بالضياع والشرود ، لا يعلم ماذا يصنع وماذا يفعل كل ما كان يتمناه هو أن يعيش بسلام مع فاتن تحت سقف هذا المنزل ويُكون أسرته الصغيرة التي لطالما رسمها في ذهنه كصورة وردية تحمل في طياتها الكثير من الحب والفرح والسعادة بوجود فاتن بجانبه ، الفتاة التي اختارها بأن تكون رفيقة دربه هي نفسها ابنة خالته الوحيدة تلك الفتاة التي رأى فيها شيئا مختلفا عن كل الفتيات فتاة جميلة ومهذبة ، هذه أكبر سعادة قد تغمر قلبه حينها وحوله أصدقائه الذين يعتبرهم إخوته الصغار وسام وسيف حياة هادئة هذا ما كان يريده لكن هذا الحلم بدأ يتلاشى من مخيلته كلما تذكر آخر لقاء له مع الضابط طلال ومحادثتهم التي تعتبر كخنجر غرز في قلبه لينزف دما وهو لا يزال على قيد الحياة كيف يتصرف الآن ؟! ماذا يفعل ؟! كيف سيخبر فاتن بما جرى بينه وبين طلال ؟! كل هذه الأفكار تتعبه أثقلت كاهله وأخذت تجرح قلبه شيئا فشيئا فأطلق آآهه خرجت من عُمقه مُتعِبة مليئة بالحزن الذي أدمى قلبه ...
- فااااااااااااارس ..
أفاق من شروده ليلتفت إلى مصدر ذلك الصوت الذي كان صوت فاتن التي صرخت في أذنه مقطبة حاجبيها بغضب لينظر إليها لوهلة في صمت ثم ليتدارك ما هو عليه الآن استقام واعتدل في جلسته وهو يضع أنامل يده على جبينه لقد كان غارقا في الأفكار حقا حتى انه نسي انه عند فاتن الآن وفي منزله ، استندت على ركبتيها جالسه عند قدميه واضعه يديها على ركبتي فارس لتقول له بعينين تترقرق من الدمع وبنبرتها الخجولة الناعمة الحزينة القلقة جدا والخائفة :
- عزيزي فارس أأنت بخير يبدو وجهك شاحبا جدا ما الذي أصابك أهناك ما يقلقك ؟! يمكنك إخباري فأنا هنا بجانبك ..
فتح فارس عينيه على وسعها ، صدى صوتها يصدح في أرجاء صدره ، عيناها الحزينتان أكثر شيء يؤلم قلبه هو رؤيتها بهذه الملامح ، الشخص الوحيد الذي يريد إسعاده وحمايته لكنه لا يستطيع فعلها .. سحقا لكل هذا العناء .. ما الذي يجري كيف سيبدأ الموضوع ويفتحه لمناقشتها به !! وكيف ستكون ردة فعلها !! لا بد بأن الأمر لن يكون سهلا عليها وأيضا عليه ، لتقطع أفكاره ثانيةً وهي تمد يدها ناحية جبينه لتتحسس حرارته بأناملها الناعمة بنظرات خائفة ثم قالت :
- فارس أتسمعني يبدو انك تعاني من الحمى ..
ابتسم فارس ابتسامة حزينة وامسك بيدها ليبعدها عن جبينه ثم قال :
- لا تقلقي يا فاتن أنا بخير ..
شد قبضته على أنامل يدها بقوة فرفعت بصرها نحو عينيه بقلق فقد شعرت أن هناك خطبا ما ففارس لا يبدو على ما يرام ولا يبدو على طبيعته كما انه شارد الذهن من أول لحظة دخل فيها المنزل بدأت أطرافها بالارتجاف وقالت بتقطع متسائلة :
- م..ماذا..ه..هناك يا ف..فارس ..؟!!
قطب حاجبيه بضجر وهو ينظر إليها بحدة وحزن ثم قال بنبرة هادئة :
- فاتن يجب أن ننهي علاقتنا ..









نهاية الفصل , قراءة ممتعة لكم أحبتي ..
بقلم محبتكم : روح الوسن ..

روح الوسن .. 20-01-20 03:23 PM

.. الفصل الثامن ..
.
.

| بين الحلم والواقع |
.
.
في وسط غرفة المعيشة عم سكون مرعب لا يكاد يسمع فيها دبيب نمل إلا ضربات قلوب قوية تقرع كالطبول تكاد أن تنتزع من مكانها ، احدها كانت نبضات قلب لشخص حزينة وموجوعة تبكي بقهر وقلة حيلة ، ونبضات أخرى لقلب شخص أحب بصدق نبضات قلبه تكاد تعلن عن توقفها ومغادرتها الحياة في هذه اللحظة اثر تلك الصدمة المفجعة الموجعة التي تلقتها توا ، كان فارس يجلس على الأريكة ممسكا بأنامل يد فاتن التي تستند على ركبتيه جالسه على الأرض أمامه وبالقرب من قدميه ، فتحت عيناها على وسعها بدهشة كانت مصدومة بالكامل ما الذي سمعته للتو!! ما الذي قاله لها فارس قبل قليل !! حاولت الكلام مرارا وتكرارا لكنه أبى أن يخرج الكلام من حنجرتها الصغيرة إلى أن استطاعت وأخيرا أن تفتح فمها وتقول بنبرة صوت لا تكاد أن تكون مسموعة ومهزوزة بالكامل كقلبها :
- م..ماذ..ا قل..ت يا.. فا..رس ..؟؟!!
أشاح بوجهه بعيدا لكي لا ترى ملامح وجهه ثم قال ببرود شديد :
- كما سمعتي يجب أن ننهي علاقتنا والآن ،، كما يجب عليك نسياني بالكامل ..
شحب وجهها الجميل وكأن الدماء سحبت من جسمها بالكامل فأي نوع من أنواع الترهات هذه التي يقولها لها بكل بساطة !! فاستلت يدها من قبضته وابتعدت قليلا عنه ثم وقفت باضطراب كالتائه تماما لا تدرك ما الذي يجب عليها قوله أو فعله ، أنفاسها تخنقها أفكارها ترعبها دقات قلبها تؤلمها أطرافها لا تكاد أن تحملها ، استجمعت قواها ثانيةً ثم قالت بعبرة :
- ل..ماذا .. يا..فارس .. ما الذي فعلتُه .. أرجوك .. اخبرني بأنك.. تمازحني .. ؟!!
رفع رأسه ونظر إلى ملامح وجهها الشاحبة ونظراتها التي تتوسل إليه لكي يقول نعم أنا أمازحك فقط ولم أكن إلا أداعبك لأني لا أستطيع العيش بدونك أو حتى بعيدا عنك ، يتأمل أطرافها التي بدأت بالارتجاف يعلم تماما أن وقع كلماته على قلبها ليس بالأمر السهل ، قلبه يعتصر حزنا نظراته إليها كانت حزينة ومرتبكة فحتى هو يتمنى بأن تكون هذه مجرد مزحة أو كذبة اختلقتها شخصيته المرحة ، اخذ نفس عميق ثم اخفض رأسه وقال بنبرة معتذرة منكسرة :
- أنا آسف يا فاتن لكن ما سمعته حقيقيا ..
شهقت بقوة ووضعت أناملها المرتجفة على فمها بسرعة لكنها لم تكن إلا ثوان حتى خانتها أقدامها وخارت قواها فسقطت على الأرض كورقة شجر في فصل الخريف مغشيا عليها لولا تلك الأذرع التي حملتها وأمسكت بها بسرعة قبل أن يرتطم جسدها النحيل بالأرض ، فقدت وعيها كان كلامه أكبر من أن يتحمله قلبها المسكين ، صحيح أنها تحملت الكثير والكثير من الصعاب في صغرها عاشت تحت ظروف صعبة وقاسية عانت الكثير لوحدها لكنها كانت كل تلك الصعاب في كفة وما سمعته أذناها قبل قليل في كفة أخرى فقرر دماغها أن يهرب بعيدا عن الواقع المؤلم لتبقى طريحة الفراش ليوم كامل .

****

بدأت عيناها تفتح ببطء هاهي قد بدأت تستعيد وعيها سحابة بيضاء أمام ناظريها تحجب عنها الرؤية ، أخذت ترمش عدة مرات لكي توضح الصورة أمامها ولكي تتذكر ما حصل لها نظرت حولها فوجدت نفسها ملقاة على سريرها باعتناء شديد ، رفعت بصرها إلى ذلك السقف الذي اعتادت رؤيته ، أخذت تجول بعينيها العسليتين الباهتتين في أرجاء تلك الغرفة دون وجهة محددة أغمضت عينيها متنهده بكل أسى لأنها تذكرت كل ما جرى لها قبل أن تفقد وعيها وتخر على الأرض مغشيا عليها ، تمنت حينها أنها لم تستيقظ أبدا لقد فضلت الموت على تحمل تلك الذكرى الصادمة التي نزلت عليها كالصاعقة ، فتحت عيناها ثانيةً بخوف ومدت أنامل يدها اليمنى ببطء لتتنهد براحة عند رؤيتها لخاتم الزواج الذي لا يزال يزين بنصرها ثم همست لنفسها :
- يا الهي اشعر ببعض الاطمئنان الآن ..
ثم وضعت ذراعها على عيناها مغطيه إياها لتسلك دموعها وتشق طريقها على خديها المتوردان إذ يبدو أن الدموع لن تتوقف بعد اليوم ، أخذت تقول لنفسها بنبرة باكية مبحوحة :
- كم أتمنى أن ذلك مجرد حلم .. لا بل كابوس مرعب يا ليته كان كابوس .. أرجوكم اخبروني انه كان مجرد كابوس أرجوكم ..
أخذت تصرخ وتصرخ كطفل فقد أمه أمام عينيه تبكي بحرقة كأنها لم تبكي من قبل دموعها تنهمر على وجنتيها دون توقف وكأنها شلالات لا نهاية لها ، شعرت بصداع يهاجم رأسها لتمسك به وهي تصرخ بقوة اكبر تلف رأسها يمينا ويسارا عل الألم يزول ، لم يحتمل ذلك الشخص الذي كان واقفا خلف الباب يراقبها بصمت دون علمها ففتح الباب بقوة لتنظر إليه وقد اعتلت ملامحها الدهشة والاستغراب فقد ظنت بأنه قد رحل حقا كما قال سابقا ، تقدم ناحيتها وجلس على طرف السرير ومد لها بمنديل وهو يقول لها بملامح ذابلة وابتسامة كسيرة :
- فاتن الم أخبرك بأن الدموع لا تناسبك ..
بقيت عيناها معلقتان به وأمسكت بيده التي كان يمدها ناحيتها لتشد جسمها وتجلس على السرير معتدلة ، تمسكت بمعطفه الأسود الجلدي جهة صدره بيديها الناعمتين التي لم تتوقف عن الارتجاف ونظرت إلى عمق عينيه وقالت بنبرة باكية مليئة بالحزن والخذلان :
- اخبرني يا فارس من لي سواك في هذا العالم إن تركتني فماذا افعل لوحدي أمي كما تعلم ماتت بطريقة مجهولة منذ ما يقارب الشهر ماذا عساي أن افعل لوحدي أنت الوحيد الذي بقي لي في هذه الحياة اخبرني لماذا ، لماذا أرجوك لماذا ..
نظر بقلق إلى عيناها اللتان لم تتوقفا عن ذرف الدموع لفترة من الوقت وكأنه يفكر كيف يبدأ كيف سيخبرها الآن وهي بهذه الحالة التي يرثا لها تنهد بألم ثم قال بنبرته الجادة ينظر للفراغ :
- ذهبت عند الضابط طلال لأخذ منه تصريح الزواج الذي قد وقعه لي سابقا فقد وعدني بأنني لو قمت بتلك المهمة التي أوكلها لي أنا ورفاقي سيعطيني التصريح وبدون أي اعتراض ..
صمت لوهلة حين نظر إلى عيني فاتن الباكيتان التي كانت تنظر إليه بحيرة تنتظر منه أن يبرر لها كل ما جرى بفارغ الصبر ليتنهد بحزن ويكمل قائلا :
- وبعد أن أنجزنا المهمة على أكمل وجه ذهبت عنده وطلبت منه التصريح لكن ذلك الجشع الوضيع قام بتمزيق التصريح أمام ناظري كنت مصدوما بالكامل ألم يعدني أنني لو نفذت له ما يريد انه سيعطيني ؟! ثم أخبرته بأنه قد وعدني لكنه ضحك ساخرا وقال بأنه لن يفعل بل يريدني أن أنفذ له المهام تلو المهام كي لا يخسر ورقته الرابحة التي يعتبرني إياها كما قال ..
شهقت فاتن بقوة ووضعت أنامل يديها المرتجفة على فمها ثم أكمل وقال بحزن :
- حينها أردت أن اقتله كرهته بحق وبت امقته كنت صابرا ومتحملا كل تلك الصعاب لأجل تلك اللحظة التي يعطيني فيها تصريح الزواج واذهب ونتزوج ونعيش بسعادة لكن عندما رأيته يمزقها وهو يبتسم ساخرا بخبث قررت بأن اقطع له رأسه وانهي له حياته لكي أوقفه عند حده تقدمت نحوه بخطوات لا يكاد يسمع لها اثر لكنني توقفت فجأة وارتعش جسدي وصعقت بالكامل عندما رمقني بنظرة ساخرة وقال لي بأنه هو من أرسل ذلك القاتل المأجور لكي يقتل خالتي ..
شهقت فاتن للمرة الثانية لكن بقوة أكبر، فقدت توازنها ، وانتفضت كل ذرة في جسمها أذلك الوضيع المدعو بالضابط طلال هو من قتل أمها ؟! لا تصدق كيف ذلك كيف ، كيف وهو يعترف لفارس بجرمه الشنيع بكل هذه البساطة ، انهمرت دموعها مجددا شعرت ببرود يسري في جسدها علمت مدى الألم الذي أصاب فارس حينها ليضع يده على رأسها يربت على خصلات شعرها الأسود بكل حنية مخففا وقع الخبر عليها ، أخفضت رأسها ووضعته في حضن فارس لم تستطع أن تحبس شهقاتها الصغيرة فانفجرت بالبكاء ، نظر إليها بحزن وقال :
- فاتن لقد هددني الضابط طلال بأنه سيقتل كل من له صلة بي إذا رفضت أمر من أوامره ..
رفعت رأسها ومقلتيها ناظرة إليه لم تستطع الكلام بل اكتفت بسيل الدموع ذاك ثم أكمل بنبرة حزينة :
- لم استطع أن احمي خالتي فقتلوها ،، فاتن أنا لا أريد أن أفقدك أيضا لا أريد من الضابط طلال الخبيث وأعوانه بأن يلمسوا شعره من شعرك لذلك أرجوك ابتعدي عني وانسيني فحسب .. أنا افعل كل هذا لأجلك صدقيني ..
أخذت تضحك بين شهقاتها الصغيرة المتقطعة بطريقة غريبة جعلت فارس يقطب حاجبيه باستغراب ما الذي أصابها أفقدت عقلها يا ترى ؟! لتقول :
- فارس أنا لا ألومك أبدا على مقتل أمي اعلم تماما بأنك تعتبرها كأمك ولن تسمح لأي شخص بأذيتها لكن ذلك الخبيث لابد من انه استغل غيابك عنه وقام بقتلها ..
ضيق عينيه بحزن وهو يتأمل ملامحها لتكمل قائلة :
- كما أنني يا فارس لا أخشى أن يقتلوني بما أنني سأبقى بجانبك ولن القي لهم بالا حتى لو قتلوني لكن لن نفترق أبدا ولن تتغير علاقتنا وسننتظر قليلا لعله يغير من رأي.....
نهض من على السرير وصرخ مقاطعا كلامها بصوته الجهوري بقوة وهو يرمقها بنظرات حادة فارتفع ضغطه وشحب وجهه وقال بغضب :
- فاتن أنتِ لا تدركين ولا تعلمين من هو طلال ذلك الخبيث يريد أن يقتلني حيا بأخذ أحب الأشياء مني وإرغامي على فعل الأفعال التخريبية اللا إنسانية من حولي ،، فاتن كوني فتاة عاقلة وابتعدي عني فقط ..
ضمت يديها إلى صدرها ورمقته بنظرة حزينة منكسرة وقالت بهدوء بنبرتها الناعمة :
- وأين تريدني أن اذهب يا فارس أنت تعلم انه لم يعد لي أي منزل أوي إليه أنا هنا ضيفة في منزلك ..
أشاح بوجهه بعيدا ليرد بنفس النبرة الغاضبة :
- انه منزلك من اليوم وصاعدا عيشي فيه بسلام ، أنتِ يا فاتن فتاة يتمناك كل الرجال فلتلتقي برجل غيري يستطيع حمايتك ويؤمن لك مستقبلك ولتحيوا بسعادة ..
مد يده اليمنى واخذ يفرق أنامله لينزع تلك الحلقة الحديدية منها معلنا عن انفصالهما ببعض ، انفصال قلبين محبين منذ الصغر لطالما تمنا أن يعيشا سويا ويكملا بقية العمر معا لكنه تفاجأ وبحركة سريعة قفزت فاتن نحوه وأمسكت بيديه ودموعها لا تكاد تتوقف ، قالت بنبرة مبحوحة مترجية :
- لا يا فارس أرجوك أنا لن أعيش في هذا المنزل إلا مع مالكه الحقيقي ..
أخذت تضغط بقوة بقبضتها الصغيرة على يدي فارس الذي اتسعت عيناه دهشة من فعلتها ، اخفت رأسها وأسندته على يده تبكي بنحيب مؤلم ، اخذ نفسا عميقا متداركا ما قد فعله وقاله قبل قليل فأطلق آآهه متوجعة لتخفف بعض ما يشعر به من ثقل ، بقيت تشهق حتى لم تستطع أقدامها على حملها مجددا فخرت على الأرض لكن فارس امسكها وحمل جسدها الضعيف وأجلسها على طرف السرير بخفة ليجلس بجانبها وقد عادت ملامحه الهادئة وقال :
- أتصدقين يا فاتن ..!!
رفعت بصرها ناحيته وأومأت برأسها لكي يكمل وهي تمسح دموعها ثم قال :
- عند انتهائنا من المهمة كاد وسام أن يدخل في حرب معه أراد في تلك اللحظة قتل الضابط طلال وبشدة لكنني أوقفته قبل أن يبدأ كنت متأكدا بأن وسام سيقتله فهو شجاع لا يخشى شيئا ..
نظر إليها بحزن وأكمل بألم :
- أوقفته لأنه وعدني بأن يعطيني التصريح فلم أرد من وسام أن يقتله إلا بعد أن يعطيني مبتغاي لكنني ...
اتكأ على ركبتيه وصمت لوهلة غير قادر على البوح بمدى ندمه على فعلته اخفض رأسه وغطى ملامح وجهه بكفيه وقال بحزن :
- كم ندمت نعم لقد ندمت كثيرا بأنني أوقفت وسام ليته قضى على ذلك الحثالة البغيض الوضيع حينها يا ليييت..
اخذ يتنفس بصعوبة وقد فقد السيطرة على نفسه فسقطت دمعة من عينه دمعة حزن وألم وقهر لتقترب منه فاتن وتربت على كتفه وتهمس بنبرتها الخجولة قائلة :
- أنا هنا بجانبك يا عزيزي لا تقلق من أي شيء وذلك الوضيع سوف يُقتل عاجلا غير اجل ويتجرع من نفس الكأس المرة التي أذاقنا إياها وسنسعد أنا وأنت ونعيش هنا بسلام .. سنتخطى هذا الألم معا ..
ابعد كفيه عن وجهه رفع رأسه واستدار ناحيتها ليجدها باسمه الثغر ودموعها تنصب على وجنتيها المتوردتين دون توقف ليبتسم هو بدوره فمد يده وجذب يدها ممسكا بها بقوة وكأنها الرابط الوحيد الذي يربطه بالحياة رفعها لشفتيه مقبلا إياها بعمق ، قال بامتنان وهو يحكم قبضته على يدها :
- كم أنا محظوظ بوجودك بجانبي يا فاتن ..









نهاية الفصل , قراءة ممتعة لكم أحبتي ..
بقلم محبتكم : روح الوسن ..


روح الوسن .. 24-01-20 12:36 AM

.. الفصل التاسع ..
.
.

[ هدوء ما قبل العاصفة ]
.
.

بين الأسواق الكبيرة والبقالات الصغيرة التي انتشرت في تلك المساحة المتوسطة الحجم ، تعالت صرخات الأطفال الذين يركضون ويلعبون هنا وهناك وهتافات العامة لتلك الفرق الراقصة والأخرى الغنائية ، شهقات سعيدة وضحكات عالية صدى صوتها في كل مكان يقرع كالأجراس ، فرق جوالة بهلوانية يستعرضون ملابسهم ملونة تجذب الكبار والصغار ، مسابقات وتحديات بين الرجال منازلات قوية بالسيف الغرض منها التسلية وإضافة المرح ، هتاف النساء المشجعات وتصفيقهن الحار، رائحة الشواء غطت المكان بأكمله أشهى المأكولات تباع في تلك المتاجر عصائر ومثلجات وحلوى ..
صرخت بأعلى صوتها بفرح شديد وهي تمشي بمرح مرتدية فستانها الكحلي الطويل وقد انسدل شعرها الأسود اللامع ليغطي ظهرها قائلة بابتسامة عريضة :
- اااااه كم أحب هذا المكاااااااان ..
رمقها بنظرة حانية ذلك الشخص الذي كان يسر بجانبها واضعا كلتا يديه في جيوب معطفه الجلدي الأسود وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة سعيدة ، هذه أفضل طريقة لجعلها تخرج من نوبة البكاء تلك واستعادة ابتسامتها اللطيفة باصطحابها لهذا المكان الذي لطالما أحبته في صغرها ، قال مدعيا الاستغراب :
- حقا يا فاتن .. ؟!!
لتجيبه الأخرى وهي تتمايل بسعادة :
- نعم ، نعم أحبه كثيرا يا فارسي ..
مد يده ليضعها على رأسها مبعثرا لها خصلات شعرها الحريري بعشوائية وهو يضحك بمرح ويقول :
- ما بال ذلك الاسم الذي تنعتيني به يا فاتن طيلة اليوم .. ؟؟
توردت وجنتيها ورمقته بنظرة خجولة لتسير أمامه بخطوات سريعة لكي تتجنب رؤيته لملامحها الخجولة السعيدة ، اخذ يضحك بقوة وهو يشير بإصبعه إلى إحدى الطاولات الخشبية الكبيرة التي يبيعون أنواع مختلفة من الطعام طالبا منها بأن يتوجهوا ليبتاعوا بعض الطعام ، سارا معا وتوجها نحو تلك السيدة التي تبلغ من العمر قرابة الأربعين عاما بشعرها الرمادي الذي تخلله بعض الشيب ليزيدها وقارا ، كانت تعد الطعام وتبيعه لزوارها المكتظين الجالسين حول طاولة خشبية مستطيلة طويلة تتوزع المقاعد الخشبية في الجانبين الأيمن للطاولة والأيسر ، جلسا جنبا لجنب وطلبا بعض الشطائر والعصير وتناولا بعدها بعض الحلوى التي اشتهر ذلك المحل بإعدادها ، جلست فتاة شقراء بشعر قصير وبشرة بيضاء انتشر فيها النمش مقابل فاتن وبدت مقاربة لها في العمر، أخذتا تتعرفان على بعضهما البعض وتتناولان أطراف الحديث بسعادة فالبرغم من أنهما للتو قد تقابلتا إلا أنهما انسجمتا معا بشكل جيد وسريع فيبدو بأنهما تتشاركان الكثير من نفس الاهتمامات ونفس الذوق ، أخذت فاتن تتحدث بسعادة مع تلك الفتاة التي بدورها بدت في غاية السعادة أما فارس فظل ينظر إلى فاتن بسعادة ففاتن لم تكون أي صداقات منذ أن انتقلت هي ووالدتها إلى العيش هنا كما أنها تبدو وحيدة وهي حبيسة ذلك المنزل ، لم يقاطعهما في حديثهما بل كان يستمتع برؤيتهم بهذا الانسجام معا ، مرت ساعة وهم على نفس حالتهم هذه ، ضيق فارس عينيه بعدم الارتياح فقد شعر بأن هناك من يراقبهم رفع وشاحه الرمادي الذي كان ملتفا حول عنقه ليغطي به نصف وجهه لكي يخفي ملامحه ، نهض من على الكرسي والتفتت فاتن إليه وتساءلت هل سيعودون إلى المنزل لكن فارس انحنى ليهمس في أذنها بهدوء قائلا بأنه سيسير قليلا في الأرجاء ويتركهن يتحدثن فيما بينهن براحة أكثر ثم يعود ، لكن فاتن أخذت تودع صديقتها الجديدة ونهضت بسرعة هامسة له بقولها :
- سأذهب معك يا فارس ..
فوجئت بيد فارس التي وضعها على كتفها ليجلسها ثانية على كرسيها الخشبي وهو يبتسم ويقول بصوت منخفض كي لا تسمع من تجلس بجانبها :
- لا يا فاتن ابقي هنا فصديقتك الجديدة تتطلع لمعرفة المزيد عنك كما أنها ستشعر بالحزن إن ذهبتي الآن..
نظرت إليه بحزن وشعرت بأن هذه المرة هي آخر مرة ستقابله ، طريقة وداعه أشعرتها بالخوف والقلق ، ضمت يدها إلى صدرها لتقول بتوتر :
- ل..لكن يا..فارس أنا....
قاطعها قائلا :
- سأعود لا تقلقي ..
ابتسمت بحزن وقالت بأعين بدأت الدموع بالتجمع فيها :
- عدني إذا ..
اقترب منها وضرب جبينها بأنامله فتأوهت من الألم واخذ يضحك عليها ليستدير ويذهب لولا تلك الأنامل الناعمة المرتجفة التي أمسكت بمعطفه لتوقفه ، التفت إليها ونظر إلى عينيها المعلقتين به الدامعتين القلقتين التي كانت تنطق وترجوه قائله لا تذهب وتتركني لوحدي مجددا ، شعر بحجم الألم الذي تسبب به عند مغادرته واختفائه لمدة لا تقل عن الثلاث أشهر وعلم حينها كمية المعاناة التي عانتها فاتن حينها لوحدها وبعد موت والدتها وحريق منزلهم كم كانت تشعر بالخوف والوحدة لكنه لم يغب عنها كل تلك المدة وينقطع إلا انه كان يريد حمايتها من الضابط طلال الذي بات يسرق منه كل ما يحب ويهدده حتى بها ، لم يستطع حينها إلا إرسال ظرف سرا يحتوي على مفاتيح منزله ورسالة قصيرة جدا يخبرها فيها أن تعيش في منزله إلى حين عودته ، لكن بعد وفاة خالته عزم أمره وقرر العودة إليها عله يتخلص من كل هذا الكم من العناء ، ابتسم ابتسامته الحانية التي تطمئن كل من رآها وكأنه يقول لها ثقي بي فأنا لن أتركك مجددا ، فأرخت قبضتها وأبعدت أناملها وطلبت منه برجاء منكسر أن يعتني بنفسه ، أومأ موافقا ثم استدار ورفع يده مودعا إياها ليختفي بين كل تلك الحشود ، ظلت تراقبه بنظراتها القلقة إلى أن اختفى من أمام ناظريها لتتنهد بأسى وقلة حيلة ، سألتها تلك الشابة الشقراء التي تجلس بجانبها بقولها بحماس شديد :
- هيه فاتن من يكون ذلك الشاب الذي كان يجلس بجانبك يبدو بأنك تهتمين لأمره كثيرا ..؟!!
توردت وجنتيها ورفعت يدها اليمنى واضعة أناملها على خدها كحركة اعتادت فعلها لتخفف من حرجها الشديد الذي شعرت به حينها فقد تفاجأت بسؤالها كثيرا ثم ابتسمت بخجل وقالت :
- انه ......
لكنها لم تكمل حين صرخت تلك الفتاة بفرح وقالت وهي ترمق أنامل يد فاتن التي تزينت بحلقة ذهبية :
- اااااااه لم انتبه لخاتم الزواج في يدك ،، ااااه كم أنتِ محظوووظة ..
رمقتها فاتن بنظرة بريئة متسائلة :
- وما الذي جعلك تقولين هذا .. ؟!!
ابتسمت وقالت بحالمية :
- انه شاب لطيف جدا فهو لم يقاطع حديثنا منذ أن بدأنا بل كان يبتسم لرؤيتك تبتسمين ويبدو في غاية الوسامة كما يبدو بأنه مقاتل ماهر بناء على هيئته الجسدية ..
أومأت فاتن بالإجاب على كل كلمة قالتها تلك الفتاة بوجه قد احمر خجلا لتضحك الأخرى وتقول بمرح :
- لقد أحسنتي الاختيار يا فاتن فهو يبدو كزوج مثالي لفتاة جميلة ورقيقة مثلك ..
أخذت تضحك بقوة مما جعل الناس في ذلك المتجر ينظرون إليها باستغراب وهي تشير بإصبعها على فاتن التي احمر وجهها وأصبح كحبة طماطم لتشاركها الأخرى بالضحك متمنية بأن تلتقي بالشخص المناسب لها في أسرع وقت وأكملا سرد قصصهما وأحاديثهما الطويلة وكأن كل واحدة منهما قد وجدت توأم روحها .

*****

دخل فارس بين حشود الناس مغطيا نصف وجهه بوشاحه الرمادي كي لا يتعرف عليه احد ، اخذ يجوب بعينيه في جميع الأرجاء باحثا عن أي شخص مريب للشك فقد أحس حينها بأنه كان مراقب من قبل احدهم كما يبدو بأنه ذو خبرة ليست بالكثيرة مما سيسهل عليه أجاده لكن أين بين كل تلك الحشود ؟؟ اخذ يمشي بخطوات كسولة بين العامة يترقب لأي حركة مثيرة للشك يتجول بنظراته المتفحصة ليجد رجلان يرتديان ملابس غريبة يبدو بأنهم ليسوا من نفس المنطقة يقفان خلف احد الأعمدة الخشبية لأحد المتاجر هناك التي كانت تُزين بالأقمشة وبعض الزينات مقابل تماما للمطعم الصغير الذي كانوا يجلسون ويتناولون طعامهم فيه ، جلس على احد الصناديق الخشبية المرمية بعشوائية جانبا بكسل مدعيا الامبالاة بينما عيناه لم تكف عن تفحص الشخصان وحركاتهما بالكامل كما انه تأكد من وجود أسلحة معهم لكن يبدو بأنهم لا يعرفون كيف يستخدمونها جيدا ، بعد عدة دقائق ابتسم ساخرا من حالتهما المثيرة للشفقة لقد علم تماما أنهم ذوي خبرة قتالية تقارب الصفر فلن يصعب على رئيس جماعة قراصنة الموت أن يفوت حركاتهم الغير مدروسة ، لكن من أرسلهم يا ترى ؟! ومن يراقبون ؟! فمنذ أن ترك مقعده إلى الآن هما لم يكفا عن التهامس فيما بينهم موجهين نظرهما إلى ذلك المطعم كما أنهما لم يلحظا وجوده ومراقبته لهما ، نظر إلى تلك الطاولة الخشبية التي كانوا ينظرون إليها وعلم عندها انه لم يكن هو المراقب ، أغمض عينيه وتنهد بقليل من الاطمئنان لكنه سرعان ما أعاد النظر إلى أعينهم لعله يستطيع أن يحدد الشخص المستهدف فأخذ ينقل بصره مره نحوهما ومره نحو تلك الطاولة الخشبية ، فشحب وجهه واتسعت عينيه بصدمة ودهشة وتساءل في نفسه قائلا بخوف بدا في نبرته :
- أهما يراقبان فاتن .. ؟؟؟
عاد ينظر إلى حيث فاتن جالسه تتحدث مع صديقتها الجديدة بمرح ، ماذا هل أرسلهم الضابط طلال للتخلص منها ؟! لكن الضابط طلال لم ولن يرسل أحدا من قبل بهذا الضعف إذا هل هما يدعيان الغباء والبلاهة في تصرفاتهما أم ماذا ؟! اخذ يفكر بعمق وقد شحب وجهه بالكامل أيعقل بأن الضابط طلال علم بغيابه ؟! صحيح فهو غائب عن المسكر لمدة يومان لكنه واثق من أن وسام غطا غيابه فقد اعتمد عليه ووسام لم يفشل في أي مهمة من قبل إذا هذا الاحتمال مستبعد إذا م... توقف عن كل هذه التساؤلات والأفكار المرعبة التي تقفز الواحدة تلو الأخرى في رأسه عندما رأى تلك السيدة الأربعينية صاحبة المطعم التي كانت تعد الطعام وتقدمه لكل من وفد إليها رآها تخرج من باب خلفي تنظر يمينا ويسارا تترقب شيء ما أو ربما تنتظر أحدا ما وملامح القلق بادية على وجهها تضم كلتا يديها بقلق ، قطب حاجبيه بعدم الاستيعاب هل يعقل بأنهم يراقبون تلك السيدة ؟! أخذت السيدة تروح وتجيء خلف المطعم ثم تنهدت بقلة حيلة وعادت إلى داخل المطعم ، اخذ ينظر إلى الشابان هناك ويبدو بأنهم سعداء فملامح السعادة والخبث والانتصار كانت ظاهرة عليهم ، وما هي إلا دقائق معدودة حتى نهض بكسل وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة فكما يبدو بأنه علم كل شيء حولهم ، توجهه نحو الشابان وقال لهم بكسل وهو يتثاءب ويضع يده على فمه :
- هييه يا شباب أنا أحذركم من الاقتراب من ذلك المطعم وبالأخص تلك السيدة التي تبيع هناك هل هذا مفهوم..
انتفض الشابان رعبا وهما ينظران إليه بدهشة كيف لهذا الشخص أن يتواجد خلفهما وهما لم يسمعا آثار أقدامه ولم يشعرا بوجوده ، هَمّ فارس بالمغادرة لولا ذلك الشاب الذي صرخ بأعلى صوته قائلا بغضب :
- وما شأنك أيها الأحمق ومن تكون أنت يا هذا .. ؟!!
توقف فارس عن السير وهو يعطيهم ظهره ليقول بكسل وبرود :
- لا شأن لك أنا فقط جئت لكي أحذرك ..
اخذ يضحكان بسخرية ويقولان :
- أنت لا تعرف مع من تتحدث فنحن.....
رمقهم بنظرة مخيفة أخرستهما فأبتلعا ريقهما بصعوبة واخرجوا أسلحتهم يشيرون بها على فارس لتخويفه وتهديده مطلقين بعض الشتائم البذيئة ، وبحركة سريعة سحب فارس يد احدهم ولفها خلف ظهره ضاغطا عليها ليجثو على ركبتيه غير قادر على الحركة ، شعر بأن يده سوف تنكسر في أي لحظه فأخذ يصرخ متألما محاولا أن يفلت يده من قبضة فارس أما الآخر فكان يحدق بدهشة غير مستوعب لما حصل ، كيف له أن يتحرك بهذه الرشاقة وهذه السرعة !! وكيف سحب السكين من يد صاحبه دون علمه ولف له ذراعه بكل سهولة !! من يكون هذا الشخص انه ليس عادي من يكون بالضبط ؟! استفاق من شروده عندما تحدث فارس إليه ببرود قائلا :
- هييه يا أنت لا تنظر إلي بهذه النظرات الغبية ..
احمر وجهه غضبا كيف له بأن يسخر منه هكذا احكم قبضته ممسكا بسكينه الحادة وركض بسرعة متوجها نحو فارس وهو يصرخ بغضب شديد :
- مت يا هذا ...
لكن فارس ابتسم ابتسامة ساخرة وما إن اقترب منه يريد طعنه بالسكين حتى وجه إليه ركلة قوية بركبته في معدته مما جعله يسقط أرضا متألما ممسكا على معدته ويطلق آهات متألمة عديدة بينما كان فارس لا يزال يحكم قبضته على يد صاحبه ذاك ، تنهد بضجر وأرخى قبضته على يد ذلك المغرور قبل أن يكسرها له ثم نفض الغبار عن سترته وعدلها ببرود شديد وكأن شيء لم يحدث ، نظر إليهما وهما يتقلبان من الألم ، فكيف لشخص واحد غير مسلح بأن يسقط رجلين مسلحين ؟! قال فارس وهو يعطيهم ظهره متوجها إلى حيث تجلس فاتن :
- أحذركم للمرة الثانية من الاقتراب من تلك السيدة أما التحذير الثالث فصدقوني بأنكم لن تنجوا منه ..
شهق الاثنان برعب واخذ كل منهما يساند الآخر على النهوض والهروب بعيدا ، لقد علموا حينها أنهم نجوا منه بأعجوبة فكما بدا لهما انه لم ولن يتردد بقتلهما كما قررا بأن يتركوا تهديدهم لتلك السيدة والنجاة بحياتهم .
ابتسم فارس والحزن بادٍ على ملامحه الوسيمة كم كان يتمنى بأن يحمي أسرته كما فعل لتلك السيدة الآن ، كم كان يتمنى بأنه على الأقل حمى خالته من ذلك القاتل المأجور، كم تمنى بأن يهرب بعيدا عن عالمه المؤلم والعيش بسلام كم وكم ، وكم يتمنى بأن يكون احد هؤلاء العامة لا احد ينظر إليه ولا احد يستعمله كيفما يشاء وقتما يشاء أينما يريد وبالذي يريد ، ألا يستطيع التخلص من كل هذه القيود التي تعيق حركته وحريته !! إلا يستطيع أن يهرب بعيدا !! لكن إلى متى سيستمر هذا إلى متى ؟! أنهى أفكاره التي أثقلت كاهله وكبتها في صدره لمده طويلة بإطلاق ااههه موجوعة متألمة ، ليغير ملامحه سريعا من الحزن إلى الهدوء عندما رأى فاتن تقفز من على كرسيها راكضة ومتوجهة نحوه بابتسامة عريضة مليئة بالفرح وهي تصرخ به قائلة :
- فااااارس ..
أمال رأسه وابتسم لها وقال بمرح :
- أسمعك يا فاتن لا داعي للصراخ ..
ابتسمت بسعادة وقد تجمعت الدموع في عيناها العسليتين لقد ظنت بأنها لن تراه مجددا لكنه يقف الآن أمامها كم شعرت بالسعادة تسري في جميع عروقها كمجرى الدم فهي لن تفقد أحدا مجددا أو بالأحرى لن تفقد الشخص الوحيد الذي تبقى لها من أسرتها كاملة ، قالت بينما كانت تحاول جاهدة بأن تحبس دموعها وتمنعها من الانهمار مجددا :
- لقد تأخرت كثيرا لقد قلقت عليك ..
رفع يده ليخلل خصلات شعره الأسود بأنامله بطريقة جذابة وهو يقول بابتسامة لطيفة :
- هل غبت كل هذه المدة وأنا لا اعلم .. ؟!!
أشاحت بوجهها بعيدا لتأخذ أكبر كمية هواء ممكنة وتدخلها إلى رئتها وهي تضم كلتا يداها إلى صدرها بقوة فقد فقدت السيطرة على نبضات قلبها التي أخذت تقرع كالطبول في صدرها لم تكن تعلم ما الذي جرى لنبضاتها بالضبط أهي
سعيدة أم خائفة أم قلقة أم..... لكن كل تلك المشاعر التي تضاربت بصدرها وظهرت على دقات قلبها توقفت عندما أحست بأنامل يدي فارس الدافئة التي وضعت على كتفيها ذلك المعطف الجلدي الأسود الدافئ الخاص به ، استدارت نحوه بنظرات مندهشة ومصدومة لتجده يبتسم بلطف ويقول لها بابتسامة حانية :
- الجو بارد يا فاتن وأخاف أن يصيبك الرشح ..
لم تستطع بأن تحبس دموعها أكثر ولا شهقاتها الصغيرة فخانتها لتسقط على وجنتيها المتوردين خجلا وقالت بصوت مبحوح :
- أشكرك يا فارس ..
قال متسائلا وهو يرمق الطاولة خلفها والتي كانت تجلس عليها :
- إذا يا فاتن هل أكلتي جيدا .. ؟!!
أومأت برأسها إيجابا فتنهد بفرح وانحنى ليهمس في أذنها وقال بمشاغبة طفولية :
- إذا ما رأيك ببعض الحلوى .. ؟!!
رفعت يدها ووضعتها على فمها وأخذت تضحك على تلك النبرة الطفولية فبالرغم من أن فارس أصبح رجلا إلا انه لا يزال يحب الحلوى كما كانوا صغارا لتقول بين ضحكاتها الخجولة :
- أنت لم تتغير يا فارسي ..
رفع حاجبه مستنكرا لقولها واخذ يحك رأسه بأنامله بانزعاج وقال بقليل من الغضب :
- ماذا ألا تريدين ؟؟ حسنا ، حسنا حتى أنا لا أريد فكما كانت تقول جدتي الحلوى ......
لتكمل فاتن معه جملته بمرح ويقولان في نفس الوقت ملحنين كلماتهم :
- الحلوى هي عدوة الأسنان ،، على مدى الأزمان ،، تدخلها إلى فمك بسعادة ،، بينما هي تضحك عليك بوقاحة ،، تظن بأنك فقط ستأكلها ،، لكنها تقوم بفعلتها ،، تسرق النوم من عينك ،، لكي تزيد من همك ،، تجعلك تتألم بشدة ،، وأنت لا تدري ما العلّة ..
بعد أن انهيا نشيدهما الطفولي أطلقا ضحكات تنبع من القلب غطت على تلك البقعة المتواجدين فيها فقد مر وقت طويل على ضحكهم بعفوية ، امسك كل منهما على معدته من شدة الضحك بينما تكونت طبقة رقيقة من الدموع في عيني فاتن ، قالت بنبرة ضاحكة وهي تمسح دموعها بأناملها :
- يا الهي لا نزال نحفظ ذاك النشيد الأحمق ..
أومأ فارس بالإيجاب فهو لم يستطع التحدث والسيطرة على ضحكاته حتى تنهد في الأخير مبتسما فلقد ظن بأنه لن يتوقف عن الضحك أبدا ثم استأذن من فاتن للذهاب وشراء الحلوى لوحت له بيدها مودعة له لكنها أخذت تسير خلفه بشغب وهي لا تزال تضحك بخفوت ، تقدم فارس عند تلك البائعة وطلب منها بعض الحلوى التي اختارتها فاتن على ذوقها بعد محاولات عديدة من فارس يجبرها فيها على الاختيار، قدّم فارس لها المال واخذ منها الكيس الذي ملأته فاتن بشتى أنواع الحلوى ، مدّ بالكيس لها لتجذبه وتضمه إلى صدرها بفرح ، همّا بالمغادرة لولا قول تلك السيدة بقليل من التوتر :
- س..سيدي م..من فضلك ....
توقف فارس واستدار ناحيتها وقال باستغراب :
- ماذا تريدين .. ؟!!
أخذت تنظر في جميع الاتجاهات بنظرات قلقة لا تعرف كيف تبدأ بالكلام لكنها أخيرا نظرت إليه بتوتر وقالت هامسة له لكي لا تسمع فاتن ماذا تقول :
- اعلم بأنك قمت بإبعاد من كان يهددني عن هذا المطعم أنا أشكرك حقا ، اقصد بأنني لا اعلم كيف أشكرك فقد كانا يؤرقاني طوال الوقت ..
صمتت لوهلة وأنزلت نظرها ثم أكملت قائلة :
- أريد مكافأتك أرجوك اطلب أي شيء مني وأنا أعدك بأنني سأبذل قصارى جهدي لأفعله لأجلك ..
نظر إليها بإعجاب كيف لاحظته !! وكيف علمت بأنه هو نفس الشاب ذاك الذي أبعدهم عن مراقبتها فقد كان مغطيا ملامح وجهه بشاله كيف علمت إذا ؟! لابد من أن هذه السيدة ليست سيدة عادية تبيع في المطعم فقط ، لابد من أنها شخص ذو خبرة عالية وشديدة الملاحظة أيضا ، رفع حاجبيه بدهشة من ملاحظتها له فقال بابتسامة :
- لا تقلقي كما انك لا يجب أن تشكريني فأنا لم افعل شيء ..
أومأت برأسها نفيا وأصرت على إلا أن تقدم له شيء ولو كان بسيطا مكافأة على صنيعه الجميل لها ، وبعد محاولات كثيرة فاشلة من فارس لإقناع تلك السيدة بأن تنسى الأمر تنهد ورفع كتفيه باستسلام وبقلة حيلة ، ثم صمت لوهلة فتح فمه أراد أن ينطق بشيء لكنه قرر أن يصمت ويستدير ليوجه نظره نحو فاتن التي كانت تسترق النظر بسعادة داخل الكيس الذي امتلأ بالحلوى بابتسامة عريضة فابتسم فارس ثم أعاد النظر لتلك السيدة التي تنظر إليه وتنتظر بفراغ صبر أي شيء يطلبه وقد ارتسمت على ملامحها الجدية التامة في تنفيذها لأي شيء يطلبه منها ، ابتسم بخفوت وقال بنبرة لطيفة وحزينة :
- تلك الفتاة خلفي ..
وجهه نظره مجددا إلى فاتن وأكمل قائلا :
- لن استطيع أن أكون بجانبها دائما يجب عليّ أن ارحل فهل اعتنيتِ بها لأجلي ..
اخفض رأسه وتنهد بألم ليسمع ردها عليه وهي تقول بحماس شديد وبجدية كبيرة :
- لك ما تريد أيها الشجاع سأعتني بها إلى حين عودتك ..
رفع رأسه ورمقها بنظرات متألمة لكنها شاكرة لها فلقد خانه التعبير عجز عن النطق أي كلمات تعبر عن ما في جوفه الآن ، كم يشعر بالسعادة بأن سيدة طيبة وسريعة البديهة مثلها ستقوم بالاعتناء بفاتن ، لقد ظن حينها بأنه لم يعد يستطع حمايتها بعد اليوم لكن بظهور هذه السيدة المفاجئ قد أعاد إليه الأمل وبدأت أحلامه وتصوراته للمستقبل الذي يريده تعاود الظهور بعد أن تلاشت بالكامل من مخيلته ، اخفض رأسه وقال بنبرة امتزجت فيها كل كلمة قالها بجزيل الشكر والامتنان لها ليقول بتعب عاجز عن التعبير بشكل جيد :
- أي صنيع هذا !! ، أنا لن أنساه لك ما حييت ..
ابتسمت وطلبت منه أن يعتمد عليها أومأ برأسه إيجابا واستدار ليمشي بخطوات كسولة نحو فاتن وهو يرفع يده مودعا إياها .









نهاية الفصل , قراءة ممتعة لكم أحبتي ..
بقلم محبتكم : روح الوسن ..

روح الوسن .. 27-01-20 09:13 AM

.. الفصل العاشر ..
.
.

[ الوداع الأخير ]
.
.

تسير بخطوات مرحة ، تغمرها السعادة ، قلبها يخفق بشدة ، بفستانها الكحلي الطويل مرتديه معطفا جلديا أسود كبير لا يبدو انه لها كما انه يبدو رجوليا بهيئته تلك ، تضم كيس الحلوى إلى صدرها وكأنها طفلة ، ذات شعر حريري طويل انسدل على ظهرها ليغطيه بالكامل وخصلات انسدلت على كتفيها بعشوائية لتزيدها جمالا ، عينان واسعتان عسليتان نقيتان كنقاء العسل ، ارتسمت على وجهها أحلى ابتسامة ، ابتسامة نابعة من الأعماق ، فتاة عشرينية لكن بهيئتها تلك و مشيتها وضحكتها وحركاتها تدل عل أنها لا زالت طفلة لم تبلغ العاشرة ، مليئة بالحيوية والنشاط تكون بتلك الحالة دائما وفقط عندما يرافقها ذلك الشاب طويل القامة قوي البنية ذو الشعر الأسود بعينين داكنتين كالليل ووجه شاحب قليلا فكما يبدو بأنه لم يأخذ كفايته من النوم في الآونة الأخيرة مرتديا قميص وبنطال أسودان اللون بوشاح رمادي التف حول عنقه ترتسم على شفتيه ابتسامته الحانية اللطيفة كلما رأى تلك الفتاة سعيدة تمشي بجانبه ، قال لها :
- فاتن عندي مكان أريد أن اريك إياه ما رأيك .. ؟!!
نظرت إليه بفرح وأومأت سريعا بالإيجاب، بدا أنها متحمسة جدا وتتطلع لذلك المكان بفارغ الصبر لكن في الحقيقة لم يكن يهمها المكان بقدر أن فارس سيبقى معها لمدة أطول فلم تكن تمانع إلى أي مكان يذهبان إليه ثم قال لها هامسا في أذنها بعد أن انحنى ناحيتها قليلا :
- انه مكاني السري ..
رمقته بنظرة مستغربة ورمشت عدة مرات غير مستوعبه ما قال لم تكن تعلم ما الذي يجب عليها قوله أو بالأحرى لم تفهم ماذا كان يقصد ، أيقصد بأنه سيطلعها على إحدى أسراره الخاصة ؟! أم انه فقط يريد أن يريها إياه ؟! لكن ....
امسك بيدها مبتسما قاطعا لتساؤلاتها يجذبها بقوة يجرها خلفه يركض بمرح بأقصى سرعة ، فشهقت بصدمة من سحبه لها وأخذت تلتقط أنفاسها بصعوبة تركض بخطوات متعثرة غير متوازنة تحاول جاهدة مجاراة خطواته السريعة لكنه كان اسبق فصرخت بغضب بنفس متقطع :
- فااارس.. توقف.. سأسقط ..
توقف فجأة وهو يحدق بالسماء بدهشة وسعادة وكما يبدو بأنه لم يسمع ما قالته للتو لترتطم بظهره بقوة وتسقط على الأرض تطلق آهات متألمة ، التفت إليها يرمقها باستغراب وقال بذهول متسائلا ما الذي أوقعها :
- ما بك يا فاتن .. ؟!!
رفعت حاجبها الأيمن ورمقته بنظرة معاتبة غير راضية عما فعله بها وقالت بسخرية وهي تمسد جبينها بألم :
- لا شيء يا عزيزي كلما في الأمر أن حماسك الشديد كاد أن يوقع بي الأذى وكما ترى فقد تحطم جبيني بسببك ..
انحنى ومد يده إليها لكي يساعدها على النهوض بينما ارتسمت على شفتيه ابتسامة مشاغبة معتذر لها غير مدرك ما الذي فعله بالضبط ، امسك بيدها فنهضت ولازالت ملامح الألم بادية في وجهها فقال بسعادة :
- أنا آسف يا فاتن لكنني كنت سعيدا جدا بأن مكاني السري أصبح منذ هذه اللحظة مكاننا السري أنا وأنت فقط ..
اتسعت عيناها بدهشة وقالت بخجل :
- ا..أشكرك .. يا فارس ..
ابتسم وقال :
- وأيضا سوف نتقابل كل أسبوع هنا ما رأيك .. ؟!!
شهقت بسعادة محركة رأسها بصورة طفولية إيجابا على ما قاله والسعادة تغمر قلبها ، نعم هذا ما كانت تريده بالضبط أن تقابل فارس دائما ولا يغيب عن نظرها كما فعل سابقا ،علمت حينها أنها لن تعود وحيدة كما كانت فابتسمت وقالت بامتنان خجول :
- أشكرك يا فارس أنا أشكرك حقا ..
بادلها نفس الابتسامة واخذ يسير متوجها لتلك الأغصان الكثيرة الملتفة والأشجار الكثيفة وهي تتبعه بهدوء ، ابعد فارس تلك الأغصان بأنامل يديه وقال بسعادة :
- لقد وصلنا يا فاتن ..
ارتعشت أطرافها وقالت بخوف ظهر بين حروف كلماتها :
- فارس أنا لا أكاد أرى شيئا فالظلام حالك ..
رمقها بنظرة باردة ورفع حاجباه ساخرا وابتسم بمكر ثم قال :
- نعم هذا ما أريده ..
زمت شفتيها وقطبت حاجبيها بانزعاج مما زاد تلك الملامح الفاتنة جمال أكثر فأبتسم بحب أتبعها بضحكة صغيرة يرمقها بنظراته الحانية وهو يهدئها ويطمئنها بأن كل شيء على ما يرام مادام بجانبها إلى أن دخلوا بين تلك الأشجار الكثيفة ووصلوا إلى مبتغاهم ثم قال ونظره يجوب في الآفاق :
- اجلسي هنا ..
جلست بهدوء وقلة حيلة محاولة عدم إظهار خوفها الشديد من الظلمة ، جلس فارس بجانبها باسما وقال :
- ما هي إلا ثوان حتى تعتاد عيناك على الظلام وترين أجمل منظر في حياتك ..
رمشت عدة مرات فهي بحق لا ترى شيئا زمت شفتيها بضيق وأسندت رأسها على كفها بقلة حيلة تحاول جاهده بأن ترى شيئا فلم تستطع فتنهدت بأسى وأغمضت عيناها ، كم تخشى أنه يخدعها ويسخر منها فقط ، عدة دقائق مضت قبل أن يقول فارس :
- فاتن ما رأيك أن نأكل الحلوى الآن .. ؟!!
فتحت عيناها بضجر لترمش عدة مرات بدهشة ففتحت عيناها العسليتان على وسعها بذهول كبير ودهشة أي منظر خلاب هذا ؟! العشب يفترش تحتهم كالفراش الناعم وحولهم تنتشر أنواع من الزهور ذات الرائحة الزكية والألوان البهية ناهيك عن منظر السماء التي تزينت بتلك النجوم التي بدت كالمصابيح تزين السماء التي امتزج فيها اللون الأسود والكحلي باللون البنفسجي الجميل ليتوسط تلك السماء التي بدت كرسمة ذات ألوان بهية قمر كاد أن يضيء الكون كله بضوئه ، نسمات الليل العليلة تزيد الجو لطفا ، نغمات الطبيعة تسحر كل من سمعها صوت خرير ماء فكما يبدو بأن نهر يجري قريبا منهم وصوت تحرك أوراق الشجر لتختلط كل تلك الأصوات والنغمات والأضواء لتعطي ذلك المكان جوا هادئا رومانسيا ينسيك كل شيء ، بقيت على حالتها شاردة تتأمل جمال الطبيعة التي قد وقعت في سحرها ولم تستطع أن تخفي ملامح الدهشة والإعجاب بما تراه ، ابتسمت وأخذت تضحك بخفة وتمتمت لنفسها بقولها بنبرة ناعمة :
- ياااه كم يبدو المنظر مثيرا ..
فتحت فمها لتقول شيء ما في حين التفتت إلى فارس لتشهق شهقة صغيرة من صدمتها في حين احمر وجهها خجلا فتلعثمت في كلامها ونسيت ما أرادت أن تقول فأطبقت فمها ثم سرعان ما فتحته مجددا لتقول بغضب خجول :
- م..ماذا هناك يا فارس لماذا تحدق بي هكذا .. ؟!!
لتنطلق ضحكته التي كسرت سكون المكان لعلوها ، كم يعشق ملامحها الخجولة والفاتنة كما البريئة فقال بين ضحكاته :
- الم أخبرك بأن المكان جميل جدا ..
أشاحت بوجهها بعيدا عنه وقالت بخجل :
- صحيح انه أجمل منظر شاهدته في حياتي ..
ابتعدت عنه قليلا وشغلت نفسها بإخراج كيس الحلوى تتجنب النظر إليه وإلى عينيه التي لطالما عشقت النظر إليها ، مدت إليه بكيس الحلوى ليلتقطه ولكنه فاجأها بأن امسك بمعصمها بدل الكيس جاذبا إياها نحوه فشهقت بخوف شهقة لم تتعدى مستوى سمعها لكنها بدت واضحة للذي لا يزال يمسك بمعصمها نظرت إليه بتوتر كم فاجأها سحبه لها حتى أصبحت ملاصقه له فابتسم بمكر وهو يرمقها بنظرات لم تفهمها قائلا :
- ماذا بك ؟؟ .. لماذا خفتي ..؟؟
شتت نظرها تنظر في كل شيء حولها عداه ولم تستطع أن ترد على سؤاله فما الذي يمكنها قوله ؟؟ خفت منك !! كم ستبدو حينها سخيفة وساذجة ، لم تستطع التحكم بنبضات قلبها التي ارتفعت حتى خُيل لها انه يسمعها لشدة خفقانها عندما حوط كتفيها بذراعه بعد أن طال صمتها فقال بهمس هادئ لم يستطع إخفاء الحزن منه :
- سأعود للمعسكر غدا صباحا ..
نظرت إليه بسرعة بعينان سرعان ما امتلأت بالدموع عندما رأته ينظر للبعيد بشرود حزين ، لماذا يسرقون منها سعادتها وفرحتها دائما ؟! لماذا يقتلونها بالبطيء بإبعاد فارس عنها ؟! ألا يعلمون انه يشكل لها كل معاني الأمان والسعادة ؟! ألا يعلمون بأنها لا تستطيع الابتعاد عنه ؟! إذا لماذا يفعلون ذلك بها هي لم تطلب الكثير فقط تريد أن يكون معها وهي تكون معه أهو أمر صعب أم مستحيل ؟! ، تساقطت دموعها تباعا لم تعد تستطيع حبسها أكثر مدركة تماما شيئا واحدا حاولت بشدة نكرانه في السابق أن فارس لن يكون بقربها دائما ولن يعيشا معا كزوجين دون أن يحيل بينهما أي حائل إلا بمعجزة تخرجه من المعسكر الذي لطالما أكنت له جميع مشاعر الكره والحقد لسرقته لفارسها وفارس أحلامها منها وكم تنتظر هذه المعجزة أن تحل بهم قريبا وقريبا جدا ، امتدت يده ماسحا لدموعها بظهر أنامله الطويلة بخفة يستشعر مدى حزنها ومعاناتها عندما يبتعد عنها ولكنه يحاول جاهدا بأن يغير ما حوله يسعى ويخطط ليخرج بالحلول التي تكون بأقل الخسائر لأنه يعلم بأنه يتعامل مع من هم أقوى سلطة منه وأعلى مكانه والاهم من ذلك أنهم يحصلون على ما يريدون ولو دفعوا بذلك حياة الآخرين للهاوية ، بكت بنحيب موجع حين رأت عيناه المعلقتان بعيناها ونظرة الحزن لا تخفى عليها علمت حينها انه الوداع الأخير فارتفعت شهقاتها الصغيرة المكتومة فدفنت وجهها بين كفيها ليس لديها القدرة على التوقف عن البكاء أبدا ، شعر بالألم يجتاح صدره من رؤيته لدموعها فجذبها نحوه مقبلا رأسها يضمها بين ذراعيه يزيد من شدها نحوه وكأنه سيدخلها في صدره في حركة فهمت منها انه لن يتركها ويتخلى عنها مجددا وهذا ما كان يريد أن يخبرها به فعلا ، قبل رأسها مرة أخرى وهو يهمس لها قائلا :
- اششش يكفي بكاء يا فاتن يكفي ، أرجوك ارحميني ..
أبعدت كفيها عن وجهها تمسح دموعها ورأسها لازال للأسفل فتنهد تنهيدة عميقة خرجت من عمق روحه وقال بهدوء وعيناه تهيم في السماء الواسعة :
- اقسم بأنني لن أتخلى عنك حتى لو كان في ذلك موتي ..
- لا تذكر الموت أمامي يا فارس أرجوك ..
قالتها باندفاع قوي وسريع من بين شهقاتها وهي لا تزال سجينه ذراعه المحوطه لكتفيها فابتسم لها بحب وقال :
- حسنا حسنا لن اذكره مجددا لكن توقفي عن البكاء وارحميني يا فاتنتي ..
ابتسمت بخجل من بين دموعها عندما سمعته يناديها بفاتنته وأومأت له برأسها إيجابا فهي لا تزال تحت تأثير بكائها المجنون ذاك ، أرخى ذراعه عن كتفيها لترتفع يده إلى رأسها يربت عليه بخفة وحنان قبل أن يبعثره لها بمشاكسة جعلتها تنظر إليه بحنق فقالت ببحة بكاء وهي تحاول إبعاد يده عن رأسها بانزعاج :
- فارس ابتعد ، هيا ابعد يدك ألا تسمع ..
ابتسم لها وقال بضيق مصطنع ناظرا إلى عيناها العسليتان المجهدتان من كثر البكاء :
- أعطني من الحلوى ولا تأكليها لوحدك يا ظالمة ..
غلبتها ضحكة لم تتوقعها هي بنفسها خصوصا في هذا الوقت فمن يرى فارس وحركاته الطفولية التي لازالت تسيطر عليه وعلى أفعاله كما أقواله لا يصدق أبدا بأنه من امهر اللصوص وعضو في اخطر عصابة ومن الجنود الماهرين المكلفين بمهام مختلفة فقالت بابتسامة بريئة :
- أنت ألا تكبر أبدا ..؟!!
ضيق حاجبيه بضيق غزى ملامحه الوسيمة واضعا يديه وسط جسده وقال بعد أن ابتسم ساخرا يرمقها بمكر :
- ليس من صالحك أن اكبر والآن بالذات فسوف تندمين بالتأكيد ..
شهقت بصدمة كادت روحها أن تخرج معها من مقصده وسرعان ما احمرت وجنتيها ونهضت بسرعة في محاولة الهرب والابتعاد عنه لكن يده كانت اسبق لها فجذبها لتجلس على الأرض مجددا فقالت بغضب وهي تشيح بوجهها عنه في محاولة أن تبتعد عنه :
- ابتعد عني يا وقح ..
فلم تكن له القدرة أبدا على كبح نوبة الضحك التي سيطرت عليه ودوى صدى صوتها في الأرجاء وقال مبتسما بعد أن أوقف ضحكاته المجنونة التي أصابته ينظر للتي كانت تنظر إليه بغضب على ضحكته التي ترى بأنه يسخر منها ليس إلا :
- لقد جنيتي على نفسك لم أكن أريد ذلك .. كما أني خطيبك وقريبا زوجك إن نسيتِ ذلك ..
زمت شفتيها بغضب ورمقته بنظرة نارية كادت تحرقه وهو جالس في مكانه ولم تتحدث ولا بكلمة فقال مبتسما :
- هيا هيا أنا جائع وأريد الحلوى ..
فابتسمت له بخفوت خجول ومدته له ، التقطه واضعا إياه بينهما وضمت فاتن ركبتيها بذراعيها تتلذذ بطعم الحلوى في فمها بوضوح بينما كان فارس يسند ذراعه على ركبته المنتصبة أمامه يبتسم لها ، يأكلان من حلواهم بسعادة متأملين جمال الطبيعة من حولهم بكل هدوء ليسيطر عليهم الصمت لا تسمع إلا صوت الطبيعة من حولك وفي لحظات هادئة وساكنة كم تمنا بأن تدوم للأبد إلى أن شعر فارس بثقل على كتفه ليرمق تلك الفاتنة التي سيطر النوم عليها وسرق متعتها بالتأمل والاسترخاء لتذهب إلى عالمها الخاص وتكمل نسج أحلامها بكل حرية دون قيود وتدخل أيا كان ، تنهد بقلة حيلة ثم ابتسم وهمس قائلا :
- سحقا أهذا وقت النوم يا فاتن ..؟!!











نهاية الفصل , قراءة ممتعة لكم أحبتي ..
بقلم محبتكم : روح الوسن ..



روح الوسن .. 30-01-20 01:19 PM


.. الفصل الحادي عشر ..

.
.

[ بدء التحرك ]

.
.

يسير بهدوء واضعا يديه الباردتان في جيوب معطفه الرمادي في ذلك الرواق الطويل ذو الجدران الحجرية المظلم الذي لا تكاد الشمس تصل إليه ، ينظر في جميع الاتجاهات بعينيه الحادتين ، خصلات شعره البني تغطي جبينه ، علامات الضجر والغير مبالاة ظاهرة على ملامحه ، توقف أمام إحدى الأبواب الحديدية المنتشرة والمتراصة جنبا إلى جنب ، مد يده طارقا الباب ثلاث طرقات متتالية ثم ابعد يده ، انتظر ردا لكنه لم يسمع شيء فقطب حاجبيه بانزعاج واخذ يطرق ثلاث طرقات أخرى ليسمع أخيرا صوت الآخر الناعس المتضجر يقول بترجي :
- وسام أرجوك ارحمني قليلا من التمارين دعني أنام فالشمس لم تشرق بعد ..
تنهد بكل كره وقال بضيق :
- دعنا نتناول الفطور معا بسرعة ..
لم يكن وسام يريد ذلك فهو دائما ما يحب الابتعاد عن الكل بقدر المستطاع حتى في تناول الطعام فهو لم يشارك احد أبدا سوى فارس لكنه فعل ذلك لكي يغطي على غياب فارس ولكي يتفقد الأوضاع بين باقي الجنود أمثالهم المتواجدون في المعسكر فدائما ما يتناولون طعامهم في غرفة مخصصة لهم جميعا فيلقي نظرة عامة حولهم ليعلم كل ما يجري بينهم ، اخذ سيف يصرخ من داخل الغرفة بمرح ويقول :
- حاضر سيدي خمس دقائق وسوف اخرج لك ..
قال له ببرود وبنبرة تهكمية :
- ثلاث دقائق فقط وإلا ستعاقب ..
ارتعب سيف ليتخبط في غرفته فسمع وسام صوت حركاته الخائفة والمضطربة وصوت وقع أقدامه الغير مدروسة في أرجاء الغرفة وصوت باب الخزانة يفتح ويغلق بعشوائية ليضيق وسام عينيه بعدم رضا على أفعال سيف الطائشة لتتسع عينيه دهشة حين سمع صوت ارتطام شيء بالأرض لكنه لم يكن ذلك الصوت إلا صوت ارتطام جسد سيف الضعيف بالأرض ، اخذ يصرخ متألما ويقول :
- اااااخخخخخ حسنا ، حسنا سيدي ..
ابتسم وسام ساخرا فهذا الطفل لن يكبر أبدا ثم غادر بخطوات كسولة متوجها إلى غرفة الطعام ، فتح الباب بهدوء يخطو خطوات هادئة لا يسمع لها أي اثر داخل غرفة الطعام التي اكتظت بالرجال الأقوياء ، كانت تقاسيم وجوههم لا تبشر بالخير فهم نخبة من الجنود يعملون سرا لمصالح بعض المنافقين من الضباط مثل ذلك الطلال المخادع ، تتراوح أعمارهم مابين الثلاثين إلى الأربعين وقلما تجد شخصا في العشرين من عمره ، مفتولين العضلات ، طويلين القامة، ضخام البنية ، لا يعرفون الرحمة ، انتشرت على أجسامهم بعض النقوش والرسومات لتنانين وبعض أنواع الطيور وبعض الكتابات أيضا ، أصواتهم الخشنة ذات النبرات العالية غطت على المكان بالكامل ، ضحكات وسخريات وبعض الشتائم التي لم يتوقفوا عن نعت بعضهم البعض بها كما يوجد البعض منهم يتفاخر بجرائمه التي فعلها أمام أصدقائه ليُصفِروا له ويصفقوا بحماس ، خطا وسام بخفة وهدوء من بينهم وسحب صحنا حديديا يملأه بأنواع الطعام ، رغيف خبز وبعض قطع البيض والدجاج وأخيرا سلطة خضراوات مع عصير فاكهه كان الطعام مقسم على حسب قوة الشخص ودهاء فكره ومدى براعته في تنفيذ المهام فكانت جماعة قراصنة الموت لهم الأولوية في اختيار ما يشاءون من أفضل أنواع الطعام بقدر ما يشاءون مما جعل الجنود الباقين يمقتونهم بشدة ويكنون لهم الكره ، وما أن انتهى وسام من ملئ صحنه حتى انتبهوا له فسكت جميع الجنود في لحظة واحدة وعم صمت مخيف أرجاء الغرفة لا تسمع ألا همساتهم الساخرة وشتائمهم التي لا تكف ألسنتهم عن النطق بها يحدقون بوسام بنظرات استحقار ملؤها الكره والاستهزاء يتمنون تقطيعه إلى أشلاء صغيرة ورميه للكلاب لكي تأكله فهو المدعو بالذئب المتوحش والوحش الكل يهابه والكل يكرهه لذلك أعداؤه كثر ، رمقهم وسام بنظرة حادة وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة تهكمية ساخرة جدا ، أغمض عينيه بكبرياء ومشى من بينهم بكل ثقة وجلس على إحدى الطاولات الخشبية واضعا قدما على الأخرى بطريقة مستفزه ثم أشاح بوجهه لجهة الباب الذي فتح على مصراعيه ليظهر فتى بشعر أسود كما عينيه كما حال أغلب أبناء إمبراطورية البراكين الذين لم تختلط دمائهم بالغير، في الخامسة عشر من العمر والذي أصبح اصغر جندي واصغر رجل مهام أخذا اللقب الذي لطالما كان يدعى به وسام فوسام يكبره بثلاث سنوات فقط ، صرخ قائلا بسعادة وعيناه تجوبان المكان بحثا عن وسام :
- وسام أتمنى أنني لم أتأخ......
بتر جملته في حين اتسعت عيناه بذهول فالكل كان ينظر إليه بل يفترسونه بنظراتهم المميتة ، ابتلع ريقه بصعوبة من هول الموقف عليه ، تجبست أطرافه فنظراتهم فقط كانت كفيلة بقتل عشرات الرجال ، تسارعت نبضات قلبه عندما لمح احدهم يضحك بسخرية يخرج من بينهم متوجها ناحيته فكما يبدو بأنه يريد أن يفتعل شجارا عنيفا ويطرحه أرضا يفرغ كل الحقد والكره الذي في قلبه على جماعة قراصنة الموت في الذي يعتبر الحلقة الأضعف من السلسلة القوية والمترابطة لتلك الجماعة لكنه توقف حين سمع صفير دوى صدى صوته في الأرجاء جعلت العيون كلها تتجه ناحية مصدره ليروا تلك الابتسامة الساخرة لوسام في حين رفع يده ببطء في إشارة لسيف ليفهم الآخر بأن عليه التوجه نحوه بسرعة والجلوس جانبه تجنبا للمخاطر ، بعد خطوات متعثرة سريعة ونفس متقطع تنهد سيف بارتياح فلم يشعر بالأمان إلا عندما كان جالسا جانب وسام بكل هدوء ، قال وسام ببرود بينما كانت نبرة صوته الساخرة تعلو شيئا فشيئا لكي يسمعه كل من في الغرفة :
- اذهب وأملأ صحنك بما شئت يا سيف ثم عد ، ليس لدينا المزيد من الوقت لكي نضيعه في هذا المكان ..
امتثل لأمره ناهضا بسرعة واخذ يركض متخطيا إياهم واحدا تلو الآخر لم يجرؤ على رفع بصره بل اكتفى بالنظر إلى الأرض والى أقدام من حوله خوفا منهم ، سحب صحنا واخذ يملأه بعشوائية يداه لم تتوقفا عن الارتجاف بشكل ملحوظ في حين عاد بسرعة وجلس بجانب وسام الذي اخذ يقطع الخبز ويدخله في فمه ويشرب كوب العصير في غير اكتراث لمن حوله وكأنه في منزله الخاص يجلس بكل ارتياح على الكرسي الخشبي ليبتسم ويقول بلهجة شديدة السخرية ونظره على كوب العصير في يده :
- كم تبدو أشكالكم مثيرة للشفقة وانتم تحدقون بنا هكذا..
علت الدهشة وجوههم وكأنهم استفاقوا من سباتهم عند سماعهم لتك الكلمات حينها التفت كل منهم للآخر يلف رأسه يمينا وشمالا يتفقد حال من بجانبه ووضعه ليجدوا أنفسهم كالحمقى جميعهم فيبدو أنهم نسوا الطعام ونسوا جوعهم وانه لا وقت لديهم ليأكلوا إلا بضع دقائق معدودة ومحسوبة عليهم بالثانية وفضلوا إرسال نظرات الكره والحقد والغيرة لوسام في محاولة استفزازه وبث الرعب في قلبه والذي كان بدوره لا يكاد يبالي بوجودهم جميعهم ومن يلومهم على تصرفهم ذاك في حضور امهر عضو في جماعة قراصنة الموت الذي ذاع صيتها في جميع أرجاء الإمبراطورية كما العضو الجديد فيها الذي استنكر الكل وجوده بينهم ، صرخ احدهم بغضب منقضا لموقفهم السخيف متوجها نحوهم ، فضرب الطاولة الخشبية بقبضته الصلبة لدرجة أن الأطباق قد ارتفعت في الهواء ثم عادت مصدرة رنينا مزعجا ، تجبس سيف في مكانه خوفا في حين شحب وجهه واتسعت عيناه بصدمة أما وسام فأكمل تناول طعامه دون مبالاة ولا إي اكتراث لمن كان يقف أمامه ينظر إليه بغل وقد ظهرت على ملامحه النية في القتل ، كان يريد أن يفتعل شجارا مع وسام فكم كان يمقت غروره الشديد وبرود أعصابه ونظراته الهادئة المستفزة وضحكاته الساخرة خطواته الواثقة قوته ومهاراته القتالية التي تفوقهم بكثير كم يشعر بغليان دمه فقط بمجرد النظر إلى وجهه فقال وهو يشدد على كل كلمة يقولها بغيظ بفكين متصلبين يحكم قبضته الكبيرة والقوية أمام وجهه :
- كم أمقتك أيها المغرور ..
- اعلم ذلك ..
قالها وسام ببرود يشبه الصقيع يعلم مدى حقدهم الشديد له فلطالما لم تعجبهم أي من أفعاله وتصرفاته بينما حمل صحنه الذي لم يأكل منه إلى القليل ، توجهه نحو البوابة بخطوات واثقة ليغادر بهدوء كما دخل ، احمر وجهه غضبا من تركه خلفه بدون أن ينظر إليه حتى كم يكره برودته وثقته بنفسه كما تجاهله لهم وكأنهم حشرات حوله فصرخ به قائلا بصوته الجهوري :
- أتهرب مني أيها الجبان هيا نازلني ..
توقف وسام عن المشي بعد أن زفر بكره واستدار ناحيتهم ببطء مستفز يتنقل بينهم بنظراته الصامتة اللامبالية وتوقفت عند سيف الذي كاد أن يترك مكانه ليلحق به لولا تلك النظرات التي أوقفته عما كان ينوي فعله والتي تحولت لنظرات محذرة حادة وجهها له وسام والتي فهم منها بأن يجلس مكانه ولا يغادر فجلس سيف بسرعة يحار كيف لوسام قراءة أفكاره دون أن ينطق بها هل هي الخبرة ؟! أم ذكائه وفطنته التي عرفا بها ؟! كانت ملامح الخوف ظاهرة في قسمات وجهه مما قد يحدث فذلك الرجل الأشبه بكومة عضلات متحركة شمر عن ساعديه واخذ يفرقع أصابعه بغيض مبتسما بخبث ينوي تحطيم ضلوع وسام لكن وسام رمقه بنظرة اللامبالاه من أخمص قدميه صعودا إلى أن استقرت في عينيه التي تحولتا لحجرين مشتعلين وقال ببرود وكأن الذي أمامه لا يشتعل غضبا بينما رفع إصبعه بخفة يشير به إلى الباب خلفه :
- لقد جلبت الضباط بصراخك المزعج كالأطفال ..
اتسعت عينيه وعض على شفتيه غيضا بينما دخل ثلاث ضباط ضخام البنية ، مفتولين العضلات يحملون أسواط سوداء طويلة بأيديهم تلك التي يقومون بضرب كل من يخالف أوامرهم ويعاقبونهم بها ، اخذ يصرخ احدهم قائلا :
- ما الذي يجري هنا ..
ارتبك الجميع ليعود كل واحد منهم يتصرف على طبيعته وكأن شيئا لم يكن تجنبا للعقاب الذي لن يكون يسيرا أبدا متنهدين في أنفسهم بحقد على كتلة الغرور كما يسمونه كيف له أن ينجو منهم دائما ؟! لماذا لا أحد يستطيع إلحاق الأذى به ؟! فلم يزدهم ذلك الموقف إلا كرها على كرههم الأسود ، في حين اختفى وسام من بينهم وكأنه نسمة هواء لا تعلم متى تأتي ولا متى تذهب ، توجه نحو غرفته بخطوات هادئة كسولة فتح الباب وأغلقه خلفه ثم ابتسم بسخرية وهو يرمق المستلقي على ظهره بتعب شديد على سريره أقدامه على حافة السرير متدلية على الأرض يغطي عينيه بذراعه بينما يريح يده الأخرى على صدره جهة قلبه ليقول وسام ببرود :
- عدت أيها العجوز ..
قفز معتدلا في جلسته وهو يبتسم ويقول ناظرا إليه بنظرات ملأها الشوق كما الحنان :
- الم تشتق لي يا صغيري .. ؟!!
قال بكل برود :
- لا أبدا ..
فضرب فارس جبهته بحسرة وقال بينما كان يدعي الحزن بتلك النظرات الطفولية التي رسمها على وجهه :
- وسام هيا تعال وعانقني يا صغيري ..
جلس وسام على الأرض واضعا طبق الطعام أمامه وكتف ذراعيه وقال وهو يرمق فارس بنصف عينه :
- تعال وتناول الفطور فلن أرحمك اليوم من التدريب كما أنني ذقت ذرعا من التغطية عليك والقيام بمهامك السخيفة التي لا تنتهي ..
استقام فارس يمد ذراعيه للأعلى طاردا للكسل وقال له بابتسامة :
- أشكرك يا عزيزي فأنا لا استطيع الاستغناء عنك حقا وشكرا على الطعام لأنني اشعر بأني سأموت جوعا ..
تقدم وجلس أمامه متربعا يأكل اللقم تباعا دون توقف وبشراهة مستمتعا بكل لحظة ، قال له وسام بنصف ابتسامه وبنبرة ذات لكنه ساخرة بملامحه باردة في سؤال مباغت :
- إذا كيف كان شهر العسل .. ؟!!
غص فارس واخذ يكح ويكح ويكح يضرب صدره بقبضة يده لكن لا جدوى فيبدو أن الطعام سرى في مجرى تنفسه من صدمته فمد يده ليلتقط كوب الماء شربه دفعة واحدة لتتوقف تلك الكحة وليتنهد أخيرا وهو يتنفس بصعوبة ثم ضحك بارتباك وقال :
- اااااه يا وسام كدت أموت ، ما الذي تتفوه به أتعلم أن مزاحك ثقيل ..
وأنهى كلامه بضحكة متوترة حين رمقه وسام ببرود شديد وقال بجدية :
- من قال لك أنني امزح ..؟!!
رمش عدة مرات وقد احمرت وجنتيه قليلا لا يعرف بماذا يرد أو كيف يتجنب سؤاله فاخذ يدور بأعينه في جميع الاتجاهات بنظرات قلقة متوترة يحاول أن لا تلتقي عينيه بعيني وسام التي كادت أن تمزقه أربا أربا ليقول بتلعثم :
- ع..عزيزي وسام كانت زيارة ليس إلا ...
رفع وسام حاجبه الأيمن وقال بسخرية :
- غبت ثلاث أيام أي زيارة هذه .. ؟!!
تنحنح فارس وهو يدعي الجدية في حديثه وقال محاولا إنهاء الموضوع الذي بات يوتره كثيرا :
- وسام إنها يومان فقط ليست ثلاثة ..
اخذ وسام يجادله بجدية وكم بدا مستمتعا بإغاظته واستفزازه لاسيما عندما رأى حمرة طفيفة كست وجنتي فارس وقال :
- بل ثلاثة ..
رد فارس بسرعة مدافعا عن نفسه :
- يومان ..
- ثلاثة ..
فصرخ فارس بعد أن علم أن في ذلك نهايته قائلا :
- بل يومان يا وسام هيا كف عن هذا ودعني أكمل فطوري ..
كشر وسام عن أنيابه بخبث وقال ساخرا مبتسما :
- بربك يا فارس تعلم جيدا أن لا احد يغلبني في الحساب ..
ضيق فارس عينيه وعقد حاجبيه بغضب وقال بعد تنهيدة كارهه :
- صحيح ، صحيح تذكرت أنا آسف يا سيد فهيم ..
ابتسم وسام ساخرا معلنا انتصاره ورمقه بنظرات قوية تهكمية مغرورة التي لا تدل إلا على قوته فلطالما أجاد وسام رسمها على ملامحه وكم استفز الجميع بها ، تنهد فارس بقلة حيلة ثم اسند رأسه على كف يده اليمنى وبدا انه شرد إلى عالم آخر فقد دخل في صمت مطبق مخيف بنظرات شابها الحزن ، ليقطع وسام شروده بسؤاله بنبره هادئة :
- إذا كيف كانت زيارتك .. ؟!!
ابتسم فارس نصف ابتسامه ونظر إلى وسام الذي لا يجيد أبدا ما يحاول فعله الآن والذي كان يجاهد نفسه على ادعاء الاهتمام وطرح السؤال وتلطيف الجو قليلا ومحاولة الاستماع والإنصات إليه بجعله يفضفض له قليلا عله يستطيع مد يد العون له ، من يعرف وسام مثل فارس ؟! لا احد فقد عاشا معا مدة كافية لدراسة كل منهما الآخر..
ابتسم بصعوبة ثم تنهد بتعب وقال :
- من أين ابدأ لك يا وسام .. ؟!!
اعتدل وسام في جلسته في محاولة أخرى بأن يستمع ويهتم ليس لأجله فهو يمقت الاستماع لمشاكل الآخرين وحكاياتهم التي يظن بأنها مضيعة للوقت ليس إلا لكنه يفعل أي شيء إذا تعلق الأمر بفارس ، كم بدا انه يحاول أن يغير من تعابير وجهه الباردة إلى شيء يمكن للناظر إليه أن يفهم بأنه منتبه لما يقول كان منظره غير مألوف وغريب فوسام دائما ما يحب التجاهل وعدم الاهتمام بمن حوله ، انطلقت ضحكه فارس لا إراديا على منظر وسام ذاك وقال له بضحكة :
- كم أحب ملامحك اللطيفة يا وسام ..
قطب حاجبيه بانزعاج وكتف ذراعيه واخذ يتمتم لنفسه ويتندم على ما فعله وأطلق بعض الشتائم يوجهها في جبهة فارس مباشرة والتي انفجر ضاحكا عليها وعلى عودة وسام السابق سريعا ، اخذ يهدئه من بين ضحكاته الصبيانية ويقسم له بأنه سيصمت وهو يشير إليه بيده دلالة على انه سيتوقف عن العبث ليتنهد أخيرا ويقول :
- بصراحة يا وسام أنا اشعر ببعض الاطمئنان على فاتن الآن ..
سوى من جلسته معتدلا فيها ينظر إلى عيني وسام مباشرة والذي بدوره انزل رأسه قليلا وعيناه لا تزالان معلقتان بعيني فارس وكأنها عيني ذئب يراقب فريسته لينقض عليها ، في حركة فهم فارس معناها وهو علمه واستعداده المسبق بما سيقول فقال بهمس جاد بعد أن أماء برأسه مؤكدا بإيجاب لكي لا يسمع احد حديثهم :
- لذلك سنقوم بأول خطوات خطتنا ونبدأ بتحركنا ..







نهاية الفصل , قراءة ممتعة لكم أحبتي ..
بقلم محبتكم : روح الوسن ..

روح الوسن .. 30-01-20 01:22 PM

الفصل القادم إن شاء الله سيكون هناك تغير جذري في الأحداث فترقبوا أحبتي ..

ع عبد الجبار 31-01-20 02:49 PM

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته عنوان جميل جدا وجذاب جاري القرأة دمتي بخير 🌷

روح الوسن .. 02-02-20 10:14 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ع عبد الجبار (المشاركة 14749073)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته عنوان جميل جدا وجذاب جاري القرأة دمتي بخير 🌷

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ..
أسعدك الله وكم أنا سعيدة لسماع ذلك شكرا كثيرا وقراءة ممتعة إن شاء الله ..

روح الوسن .. 03-02-20 10:53 AM

.. الفصل الثاني عشر ..
.
.
[ بعد مرور عشرة أعوام ]
.
.

الإمبراطورية الخضراء في الساحة الخارجية من معسكر البلدة ، الساعة الثانية عشر ظهرا فترة الغداء حيث جميع الجنود يأكلون طعامهم ويحتسون شرابهم ، يجلسون على طاولات خصصت لهم مصنوعة من الخشب مرهقين من التمارين والتدريبات الصباحية ، يجلس على الأرض في زاوية مبتعدا عن إزعاج الجميع فلطالما أحب الهدوء والاستفراد بنفسه ، يعلو ملامح وجهه الوسيمة هدوء مميت وحزن عميق ينظر في الفراغ بعينيه العسليتين الباهتتين بجانبه سيفاه الصلبان المنحوت عليهما بركان صغير ليثبت هويته الحقيقية ، سيفاه اللذان لم يخسرا أي معركة سابقا ملقيان أرضا بكل إهمال ، تداعب خصلات شعره البني الرياح بطريقة جذابة تجعل منه وكأنه أحد الأمراء وليس أحد الجنود العاديين المكلفين بالمهمات في أرجاء البلاد ، امتدت ذراع والتفت حول عنقه وهمس في أذنه قائلا بمرحه المعتاد :
- ماذا يفعل الوسيم لوحده هل ينتظر أميرته أن تأتي ..؟!!
ابتسم بخفوت لمدة لا تتجاوز عدة ثوان لصديق غربته الذي لا يكف عن إزعاجه وقطع حبل أفكاره بترهاته السخيفة ، رمقه بنظرة باردة وقال له بنبرته الهادئة شديدة البرودة :
- اخرس ..
انطلقت ضحكته عاليا في جميع الأرجاء مما جعل كل من هم قريبين منهم ينظرون إليه باستنكار وقال :
- وسام بحق الله ما هذا البرود اعتقد انك ستموت في يوم من الأيام من شدة برودتك ..
لم يعره أي اهتمام ودخل في صمته المعتاد ثم قال بعد فترة :
- كيف هي جراحك .. ؟!!
تنهد الآخر وهو يجلس بجانبه ويضرب على كتف وسام بخفة قائلا :
- لا تقلق علي يا وسام جرح بسيط أشكرك على كل ما فعلته لأجلي لولا تدخلك في تلك المعركة لربما فقدت حيات...
نهض وسام بسرعة قاطعا لكلامه ينفض معطفه الأسود بيديه نافضا الغبار العالق به وقال بهدوء بينما كان يحمل سيفاه :
- اهتم بنفسك يا رامي فلن أكون بجانبك دائما ..
ابتسم رامي بخفوت يعلم مدى تأثر وسام بكلمة موت أو فقد للحياة يخشى عليه من الخطر المحدق بهم ويرى مدى قلقه عليه واضحا في ملامحه التي دائما ما تكتسي ملامح البرود واللامبالاه ، نهض هو الآخر ولف ذراعه حول عنق وسام وقال بمرح محاولا تغير مزاجه المتعكر قليلا :
- أين !! أين يا عزيزي أنت ذاهب فأنا لم أتناول غدائي بعد ..
ابتسم وسام بسخرية وهو يدخل يديه داخل جيوب معطفه قائلا :
- لن تنال مني يا رامي اذهب لحيث تريد فأنا لن اذهب معك مهما حاولت ..
صرخ رامي بيأس فمهما حاول التظاهر باللامبالاه يكتشفه وسام ويقرأ أفكاره بسهوله ، هو يريد من وسام أن يندمج مع بقية الجنود وتناول أطراف الحديث معهم ليخرجه من هدوئه المميت وانعزاله عن الجميع لكن للأسف فدائما محاولاته تنتهي بالفشل لكنه لا يزال يحاول كعادته ، أسرع في خطواته لكي يجاري خطوات وسام وقال له :
- هيه وسام انتظر ألا تريد أن تذهب معي إلى وسط المدينة لنتناول اللحم المشوي اللذيذ هناك ..؟!!
أجاب ببرود شديد :
- لا ..
بانت ملامح الضيق على وجه رامي ثم سرعان ما ابتسم بسخرية شديدة وهو يرمق وسام بحدة لقد خطرت في باله فكره يستطيع بها مضايقته فكم يكره هدوئه وبروده الشديد واختصاراته في الكلام وكم يعجبه مضايقته فقال بلهجة مستفزة :
- اها إذا أنت تهرب منها ..
توقف عن السير في حين تنهد بضيق يخلل أصابعه في شعره دلالة على غضبه فقال بحدة :
- رامي أغلق فمك وابتعد عني خير لك ..
رفع كتفيه بقلة حيلة هذا هو وسام لا يتغير أبدا لكن اليوم يبدو أكثر حدة وأكثر برودا لابد من أنها تلك الساعتين التي قضاها خارج المعسكر عندما طلبه احد القادة لرؤيته ، قال بعفوية :
- إذا يا وسام ما الذي أراده منك القائد رائد عندما طلب رؤيتك صباح اليوم ؟! ألن تخبرني ..؟!!
رمقه وسام بحدة بعينيه العسليتين وكأنه يحذره من أن ينطق بأي كلمة أخرى فمزاجه في أسوأ حالاته وهو يحاول جاهدا السيطرة على أعصابه والتماسك أكثر كي لا يثور ويفعل مالا يحمد عقباه .

*******

يجلس على أريكة عتيقة في مكتب واسع غلب عليه اللون البني ، طاولة من الخشب تقع بين الأريكتين المتقابلتين تزينها زهرية مليئة بالأزهار وبجانبها مجموعة أوراق ، رأسه بين ذراعيه مطأطأ برأسه أرهقه التفكير وأتعبه ، رجل في أواخر الأربعين من عمره بشعره الأسود وعينيه الداكنة ، يضرب برجله الأرض بحركة تدل على توتره وقلقه ينتظر بفارغ الصبر من يأتي ليخفف عنه توتره ويساعده في حل مشكلته التي حلت به وما هي إلا لحضات حتى سمع طرقات على باب مكتبه انتصب واقفا وقال بصوته الرجولي الجاد :
- تفضل ..
دخل حينها رجل لا يقل عنه في العمر بابتسامته البشوشة صاحب الخصلات الصفراء الناعمة ببدلته العسكرية التي يرتديها الضباط فقط ، أغلق الباب خلفه بهدوء وضرب التحية بكل احترام وقال :
- سيدي القائد رائد أنا تحت أمرك ..
توجه نحوه بخطوات سريعة ليقف أمامه في حين ارتسمت على شفتيه ابتسامه هادئة وقال :
- لا داعي لكل تلك الرسميات يا جميل فنحن وحدنا الآن ..
وما أن انتهى من كلامه حتى تعانقا بحب عناقا رجوليا ، أصدقاء منذ مدة طويلة قبل أن يرتدي كل منهم بدلته الرسمية صداقة حبلها متين لم تكن من اجل مال ومنصب ومصالح بل كانت أنبل واطهر صداقة ولكن مع مرور الزمن ترقى رائد إلى مستوى قائد أما جميل ففضل أن يبقى ضابطا يدرب الجنود في المعسكر ويشرف على المهام الموكلة لهم ، جلسا متقابلين كل على أريكة حينها اسند القائد رائد رأسه على حافة الأريكة ينظر إلى السقف بشرود في حين قطب الضابط جميل مستنكرا استدعائه له في هذا الوقت خصوصا ومن شحوب وجه صديقه فلابد من أن هنالك أخبار لا تسر أبدا ، عم صمت قاتل بينهم لكن سرعان ما كسره الضابط جميل قائلا بنبرة متوترة :
- هيه رائد هل من خطب ؟! لا أراك في صحة جيدة ..
رفع القائد رائد رأسه واعتدل في جلسته في حين غلبته ابتسامه هادئة وقال :
- اخبرني أولا كيف هي أحوال زوجتك وابنتك المدللة .. ؟!!
ضحك قليلا ثم تنهد مبتسما وقال بنبرة محب صادق وهو ينظر إلى في الفراغ :
- ااااه يا رائد أنا مشتاق لهم جدا ..
حينها انطلقت ضحكة رائد وسرعان ما تغير مزاجه هذا هو جميل سبب ابتسامته وضحكته دائما ثم قال بابتسامة خبيثة :
- وكأنك لم ترهم لمدة سنة أيها العاشق ..
قطب منزعجا من سخرية صديقه مكتفا لذراعيه وهو يرمقه بغضب فقال بضيق :
- أتسخر مني يا رائد ؟! أنت يجب أن تتزوج واعتقد بأنني أنا من سيبحث لك عن زوجة لتخلصنا منك قليلا ..
لم يستطع رائد أن يتوقف عن الضحك بل علت قهقهاته فنهض جميل مكشرا يسير بغضب إلى أن وصل أمامه فمد يديه إلى رقبته في محاولة لخنقه لكنها كانت فاشلة كعادتها فأمسك رائد يدي جميل بعد أن توقف عن الضحك لتتغير نبرته إلى الجدية فنظر إلى عينيه بثبات وقال وهو لا يزال ممسكا بيديه :
- جميل هناك تغيرات خفية في الجيش العام وحركات سرية خطرة لمجموعات مختلفة من العصابات انتشرت في الآونة الأخيرة هنا في الإمبراطورية الخضراء ..
صدم جميل لسماعه لهذه الأخبار ارتعشت يديه وخانته قدميه فجثا على الأرض ينظر إلى رائد بضياع فقال رائد متداركا حجم القلق والخوف الذي اعتلى ملامح جميل :
- اسمع يا جميل أنا لم أخبرك إلا لأني واثق بأنك ستساعدني وتساندني لا نريد لأخطاء الماضي أن تعاد ..
نهض رائد والتقط كوب ماء ومده لجميل فكما يبدو بأنه لم يسمعه من شدة صدمته كيف لا وهذا يعيد الماضي المرير ذلك الماضي الذي قامت فيه حرب شنيعة بين الإمبراطوريات الثلاث تقتل الكثير من الرجال وتيتم الأطفال وترملت النساء كله لأجل السلطة والمال وحب التملك ، اخذ كوب الماء وشربه دفعة واحدة ثم قال بعد أن عاد إليه هدوئه قليلا :
- إذا ما الذي سنفعله الآن .. ؟!!

******

بعيدا عن المعسكر وفي ذلك القصر الضخم المتكون من ثلاث طوابق ، مبني بشكل مختلف ذو طراز فريد من نوعه يجعل كل من في الإمبراطورية يستطيع رؤيته لموقعه الاستراتيجي ، في إحدى تلك الغرف المنتشرة تجلس فتاة هادئة وجميلة أمام المرآة مرتديه فستان باللون الأسود تزينه بعض حبات اللؤلؤ والشرائط ذات اللون الذهبي كشعرها تماما ، تضم يديها إلى صدرها تفكر بعمق لم تعد تعلم ما الذي تخبأه لها الأيام ولا تعلم كيف يمكنها الابتعاد عن عائلتها تحت أي ظرف كان ، مخاوف كثيرة وتساؤلات أكثر تقفز في ذهنها الواحدة تلو الأخرى ، لم تعد تعلم لماذا كل هذا التفكير ولماذا كل هذا الخوف فهي في الآونة الأخيرة أصبحت تفكر كثيرا وتشرد بذهنها إلى البعيد جدا قلبها يخبرها بأن تبقى دائما في استعداد لاستقبال المجهول وكم تكره هذا الشعور فهو يسرق منها يومها كما نومها لتفكر في شيء لا تعلمه ولا تعرفه وهل سيأتي أم لا ؟! وهل تستطيع المواجهة أم ستفشل ؟! لتقاطع تلك الأفكار صوت حنون وهادئ قادم من خلفها قائلا :
- ما الذي يشغل تفكير زهرتي الحبيبة ..؟!!
التفتت الفتاة لمصدر الصوت لتبتسم بحب وهي تقول بنبرتها الهادئة :
- لا تقلقي يا أمي أنا مرتبكة قليلا من الاجتماع الذي سيعقده والدي .. ؟!!
اقتربت منها السيدة ميادة وأخذت المشط الخشبي من على الطاولة الكبيرة المزينة بالنقوش الذهبية لتمشط لها شعرها الذهبي الطويل وهي تقول بابتسامة تغرس المشط في شعرها الحريري :
- كم تبدين جميلة يا زهرتي ..
ابتسمت بخجل وقالت بارتباك بان في نبرتها :
- لا تقولي هذا يا أمي فأنتي هي الجميلة بحق ..
ضحكتا معا فعلى ما يبدو أن السيدة ميادة نجحت في تخفيف توتر ابنتها ، سمعتا طرقا خفيفا على الباب مما جعلهن يتوقفن عن الضحك ليدخل ذلك الشاب الوسيم ببدلته الرسمية باللون الأبيض والذهبي ، انحنى باحترام لهن قائلا بابتسامة ساحرة بنبرته المخملية :
- زهرة هل انتهيتِ فوالدي يريد قدومنا حالا ..
أماءت رأسها إيجابا ونهضت بهدوء ، التفتت نحو والدتها بنظرات مرتبكة وقالت بشبه همس تقصد ذلك الواقف عند الباب بكلماتها :
- طارق أرجوك أريد أن تحضر أمي معي ..
تنهد طارق بقلة حيلة فهو يكره أن يرفض لها أي طلب وان يرى الحزن في عينيها وهي تترجاه لكنها يجب أن تعتمد على نفسها ولا تبقى تلك الطفلة التي تطلب حنان والديها كل حين ، رمقها بنظرات ساخرة قائلا في محاولة أن تتدارك وضعها وتعتمد على نفسها :
- بلغنا العشرون عاما من العمر يا زهرة ولا زلتي تريدين أمي أن تأتي معك ..
نظرت إليه باستياء لتنطلق ضحكته الرجولية المخملية الهادئة التي تناسبه هو فقط وهو يتوجه نحوها بخطوات واثقة ، امسك يدها وطبع قبلة على كفها بعد أن رفعها لمستوى فمه بخفة واخذ يسير بها خلفه وهو يردد بنبرته الهادئة والعميقة التي تبعث في النفس السكينة :
- عندما أكون بجانبك يجب ألا تخافي من أي شي يا زهرتي ..
ابتسمت زهرة بخجل لأخيها التوأم فلطالما كان يقف بجانبها ويساندها كلما احتاجته كما انه مصدر الأمان في قلبها والذي غالبا ما يفهمها جيدا فهما روح واحدة انشطرت في جسدين بجنسين مختلفين ، قالت بشبه همس :
- أشكرك يا طارق يا شقيقي العزيز ..
لوحت السيدة ميادة لهم بيدها مبتسمة بحب لرؤية قرة عينيها وأجمل شيء حصلت عليه في هذه الحياة يكبرون أمامها فما أجمله من شعور أن ترى ما جنيته من السنين وما زرعته وتعبت عليه مثمر ويانع وجاهز للحصاد فهم يعنون لها كل شيء جميل في الحياة تراهم سعادتها متجسدة فيهم كما بسمتها ، تمتمت بكلمات حنونة متمنيه لهم حظا موفقا وسرعان ما تبدلت تلك الابتسامة إلى الاستياء فهي تعلم تماما أن هذا الاجتماع لن يسر الجميع ولن يجلب لهم إلا المشاكل لذلك أصرت على زوجها الإمبراطور عامر ألا تحضره وفضلت البقاء بعيدا تحتسي كوب شاي الأزهار تجلس في شرفة غرفتها تستمتع برؤية الأشجار والأزهار وتطرب سمعها لزقزقة العصافير وخرير الماء تتمنى لهم بكل صدق من أعماق قلبها أن تسير أمورهم على خير ما يرام ، في حين توجها الشقيقين معا إلى احد الغرف المنتشرة بكثرة في الطابق الأرضي والتي غالبا ما يعقد فيها الاجتماعات العائلية وكل ما يخص عائلة الإمبراطور عامر لا يعلمون ما الذي تخبأه لهم الأقدار من مفاجآت .

******

في بناية بعيدة عن القصر والمعسكر علق عليها لوحة كبيرة وخط فيها اسم ( العيادة ) داخل إحدى الغرف ذات جدران غلب عليها اللون الأبيض بسرير مغطى بأغطية وشراشف بيضاء تستلقي عليه عجوز كبيرة في السن تشتكي آلام ظهرها والمفاصل اثر حمى أصابتها ، تقف بجانبها فتاة اقل ما يقال عنها فاتنة بجسم ممشوق وشعر أشقر انسدل على ظهرها بكل عنفوان ترتدي معطفا ابيض اللون تحمل في يدها حقنة صغيرة تحوي دواء للحمى ، ابتسمت وقالت :
- إذا يا خالة سأحقنك بهذه الحقنة اصبري قليلا على الألم وخزة صغيرة وسينتهي كل شي ..
ابتسمت لها العجوز وقالت ضاحكة :
- لا تقلقي يا مايا فأنتهي امهر ممرضة في البلدة لذلك لن اشعر بأي الم أو وخز ..
ابتسمت المدعوة بالممرضة مايا ابتسامة واسعة وقالت بمرح :
- انتهينا ..
رمشت العجوز عدة مرات غير مستوعبه ما قالته ومندهشة مما سمعت أحقا حقنتها ولكن متى ؟! وكيف ؟! إنها حقا أفضل ممرضة في الوجود فهي لم تشعر بأي وخز للإبرة على الإطلاق ، في حين استدارت الممرضة مايا وتوجهت نحو طاولة خشبية هناك ، أخذت تكتب لها بعض التعليمات التي يجب أن تتبعها وبعض الأدوية لتساعدها على التحسن ثم مدت لها الورقة وقالت بابتسامتها الجميلة ذاتها :
- حمدا لله على سلامتك يا خالة أتمنى لك الشفاء العاجل ، يجب عليك تناول بعض الأدوية كما يجب عليك أن تحرصي على أن ترتدي معاطف صوفية لتقيك تقلبات الجو الحالية ..
ابتسمت لها بحب وأخذت الأوراق وشكرتها كثيرا بكل عبارات الشكر التي تعرفها مما جعل مايا تحمر وجنتيها خجلا ، ودعتها وخرجت تلك العجوز من العيادة وهي بحال أفضل بكثير مما دخلت عليه بينما وقفت مايا تلوح لها ، أحست بيد وضعت على كتفها مما جعلها تشهق بقوة وتجفل من الصدمة
لتنظر خلفها بسرعة لتتنهد بارتياح وتوتر قائلة بنبرة تخللها قليل من التلعثم :
- اااه هذا أنت يا حسام لقد أخفتني ..
نظر إليها بحدة في حين ابتسم بسخرية وقال بشبه همس ظهر فيه انزعاجه :
- ومن ظننتني ؟! فلا يوجد في العيادة إلا أنا وأنتِ ..
قطبت بانزعاج من كلماته التي لم تفهم معناها جيدا لكنها أحست بنبرته المنزعجة من شي ما لا تعرفه ، لما هذه النظرة الحادة ما الذي فعلته ليغضب هكذا ؟! استدارت بسرعة متوجهة إلى غرفتها هناك التي تستقبل فيها المرضى من النساء لكن يده التي أمسكت بمعصمها بقوة أوقفتها فأطلقت ااهه متوجعة في حين رمقته بحدقتيها الزرقاء بغضب وعتاب قائلة بنبرة احترام جاهدت نفسها فيها بصعوبة :
- اتركني يا حسام من فضلك ..
لكنه لم يفلت يدها من قبضته حين تاهت نظراته في تلك السماء الصافية المنحصرة بين صفي رموش طويلة ينظر إليها مباشرة بهدوء شديد ثم قال :
- آسف هل أغضبتك بكلماتي .. ؟!!
أشاحت وجهها بعيدا عنه وقالت :
- لا لم اغضب فقط اتركني ..
سحبها معه يجرها خلفه دون أن يرد عليها أو يطلب إذنها ، ادخلها الغرفة المخصصة به وأجلسها على الأريكة مرغمة تحت نظراتها المصدومة والمستنكرة لفعلته ثم توجه نحو مكتبه واخذ بعض الأوراق وقال لها :
- مايا لقد تم استدعائي لأجل اجتماع عائلي ..
تنهد بكره ثم أكمل وهو يدخل أنامله في خصلات شعره الأسود مبعدا لتلك الخصل التي تسللت إلى جبينه :
- يجب علي المغادرة حالا ..
أومأت بالإيجاب وقالت بنبرة مرتبكة قليلا :
- هل من خطب .. ؟!!
هز رأسه نفيا ونظر إليها بهدوء لم تخفى نظرة الحزن أو الكره ربما فيها فلم تفهم تلك النظرة ثم قال بابتسامه ساخرة :
- لا تقلقي أوامرهم السخيفة تلك التي لا يكفون عن إلقائها والتفوه بها ..
تنهدت هي الأخرى بقلة حيلة تعلم مدى كره حسام لعائلته ولأوامرهم تلك كم تتمنى بأن يصلح الحال بينهم لكن يبدو أن حسام لا يعطيهم أي فرصه ، قالت بابتسامه هادئة :
- حسنا سأهتم بأمر مرضاك لليوم لا تقلق ..
ابتسم وقال ناظرا لحدقتيها بنظرة لم تفهمها :
- كم أتمنى ألا اذهب وان أبقى كل حياتي هنا ..
أمالت رأسها دلالة على ضياع أفكارها وعدم فهمها لكلماته تلك وقالت باستفهام وببراءة :
- ما الذي تقصده يا حسام ..
علت ضحكاته الرجولية وقال وهو ينزع معطفه الأبيض مبتسما على براءتها التي تقتله بها دون رحمه :
- لا تشغلي تفكيرك يا مايا أنا اعتمد عليك ..
نهضت وتوجه هو نحو الباب الخارجي بخطوات واسعة وما أن اخرج قدمه اليمنى حتى استوقفه صوتها قائلة بإحراج :
- اهتم بنفسك ..
التفت إليها وقد علت ملامحه الدهشة من قولها ، ضنها غاضبة قبل قليل لكن هذه هي مايا التي لطالما عرفها بقلب طيب لا تعرف للغضب طريق ، أخفضت رأسها بخجل حين علقت أعينهم ببعض وطال صمته ليستدير وهو يقول خارجا :
- أشكرك يا مايا ..









نهاية الفصل , قراءة ممتعة لكم أحبتي ..
بقلم محبتكم : روح الوسن ..

روح الوسن .. 06-02-20 10:28 AM


.. الفصل الثالث عشر ..
.
.

[ رجاء القائد رائد ]

.
.

أُطلقت صفارة معلنة عن انتهاء فترة الغداء وابتداء فترة تدريبات ما بعد الظهيرة والتي تكون غالبا على هيئة مجموعات على خلاف التدريبات الصباحية الفردية ، مئات الرجال في مختلف الأعمار والقوات الجسدية المختلفة والمهارات يجتمعون في ذلك المعسكر ، اتجه بخطوات كسولة وقد ظهر على ملامح وجهه الشاحبة مدى الهم والضيق والضياع الذي يقبع داخل قلبه ويملأه ، خصلات شعره البنية تدلت على وجنتيه لتخفي اغلب ملامح وجهه يسير بهدوء خطواته لا تكاد تسمع ، تنهد بضيق حين رنت كلمات القائد رائد في أذنيه كالصدى وهو يترجاه والخوف والقلق يلف كل كلمة تفوه بها عندما قال له :
- وسام أرجوك أريدك أن تساعدني في مهمة سرية ..
قطب وسام باستغراب وقال بهدوء :
- لا تترجاني أيها القائد فأنا تحت أمرك ..
تنهد بضيق ثم اقترب منه ملامح وجهه لا تبشر بالخير فهذا الطلب يبدو اكبر مما يتصور وسام ما الذي قد يكون يا ترى ؟! ما هو السبب الذي جعل قائد مثله يدعوه سرا لمكتبه ليطلب منه طلب كهذا وهو يملك جيشا كاملا يسيرهم وفق إرادته وتحت رغباته أما هو فليس إلا جندي من جنود معسكر البلدة البسطاء ذوي المهارات التي لا بأس بها ليس إلا وليس من جنود الجيش ذوي الصيت العالي الذين يتقاضون رواتب أعلى منهم ويعترف بهم من قبل الجميع ، وضع يديه على كتفي وسام وقال بهمس جاد لكي لا يستمع إليه احد غيره :
- الحدود الجنوبية للإمبراطورية يجب أن نضمها لنا وتصير ضمن ممتلكات الإمبراطور عامر وفي أسرع وقت ..
بقيت أعينهما متشابكة ببعض لمده من الزمن لكي يترجم وسام ما سمعه توا ، أيريد منه أن يضم الحدود الجنوبية للإمبراطورية ؟! وتحت اسم الإمبراطور عامر ؟! لكن لماذا يا ترى ؟! هل يضنه يستطيع فعلها هو لوحده وهو جندي بسيط للمهمات داخل البلدة فقط كيف يمكنه مغادرة الإمبراطورية الخضراء حاليا وهو في مهمات مستمرة وتدريب مكثف لا يمكنه أن يتغيب عنه والانتقال إلى الحدود الجنوبية بعد غياب دام لسنوات لا وزد على ذلك يضمها هو بنفسه إليهم هل يمتلك كل هذه القوة وهو لا يعلم ؟! أم لديه نفوذ لكي يساعدونه وهو حتى الأصدقاء لا يمتلك سوى رامي الفتى الذي جمعتهم مهمات المعسكر ليس إلا كما أن حروب ضم القرى للإمبراطوريات من المخالفات العامة التي وضعها الإمبراطور عامر باتفاق من الجميع والتي سينزل العقاب على كل من يتخطى حدوده ويتجاوزها ، همس بهدوء خالطته الدهشة :
- أنا يا سيدي ؟! هل يمكنني فعلها ؟! لكن كيف ؟! الديك خطة أنفذها ؟! ولماذا نضمها للإمبراطور عامر ..؟!!
تنهد الآخر بضيق لا يعلم من أين يبدأ بسرد الأحداث والقصص المنسية في السابق هل يستطيع قولها ؟! أم يتركها للنسيان ؟! لكن لابد من ذاك اليوم سيأتي الذي يقلب فيه صفحات الماضي المرير ، تعرق جبينه وهاجمه صداع مفاجئ في حين ارتمى على الأريكة بتعب شديد ، نظر إلى وسام بعينين باهتتين ثم قال بنبرة حزينة وخائفة تحمل الكثير من الألم داخل طياتها :
- انه الانقلاب ،، إن لم نتحرك الآن فسوف تعم الفوضى من جديد ..
وضع وسام كف يده اليمنى على جبهته حين بدأ بالتعرق اضطربت أنفاسه وهو يتذكر ما حدث له لا ليس مجددا لن تعم الفوضى لن تعود تلك الحروب اللعينة لأجل المال والسلطة لن يتقتل الرجال ولن يترمل النساء ولن يتيتم الأطفال ألا يكفي ما فقدوه قبل ما يقارب الخمسة عشر عام ألا يكفي ما فقده هو؟! ألا يكفي الم وحزن وفراق ألا يكفي ؟! تنهد بكره ثم تمتم لنفسه بألم شديد :
- يكفي ، يكفي لن أفقدك أيضا يا أبي ..
وضعت يد على كتفه لم يلتفت ولم يغير من وضعيته لأنه متيقن لمن تكون هذه الكف في حين سمع همسا قلقا قائلا :
- وسام لا تبدو اليوم على ما يرام ما الذي أصابك يا رجل ..؟!!
زفر بغيض شديد وملامحه قد احتدت أكثر، ابعد يده عن كتفه وقال بهدوء يعاكس مظهره الذي يوحي بأنه سيقتل شخصا ما الآن :
- أنا لست طفلا لتقلق علي يا رامي ..
تنهد رامي بقله حيلة وهز رأسه بيأس فهذا الشاب ميئوس منه وبحق قال ماذا قال لا تقلق علي أنا لست طفلا لماذا هل الأطفال هم فقط من نقلق عليهم ؟! والكبار لا احد يقلق عليهم ويهتم بأمرهم أي تفكير هذا كيف يفكر بهذه الطريقة العوجاء يا ترى ؟! قال رامي بغضب :
- سحقا لك يا وسام سحقا ما الذي يجري معك اخبرني تتصرف هكذا وعلى غير عادتك ..
ابتسم وسام بسخرية رامقا إياه بحدة وقال ببرود شديد :
- اغرب عني واهتم بشؤونك الخاصة ..
استدار وسام معطيا رامي ظهره وتابع خطواته الكسولة ويديه داخل معطفه متوجها لداخل المعسكر كل ما يريده في هذه اللحظة أن يبتعد عنه رامي لا يريد أن تزيد نسبة فقدانه للأشخاص الذين يعنون له الكثير يفضل أن يبقى وحيدا عله لا يخسر احد ولا يضطر أن يحمي أحدا مجددا فكل من حاول حمايتهم في السابق ماتوا وقتلوا شر تقتيل وأمام ناظريه وهو لم يكن سوى متفرج لا يستطيع فعل أي شيء وزاد على ذلك ذكر القائد رائد الانقلاب والفوضى وانه هو الوحيد من يستطيع حمايتهم وإيقاف الحرب والفوضى قبل حدوثها زاد من نسبة فقده للأمل وتيقنه بأن تلك المآسي السابقة ستعود فلعله وبفعله هذا لن تكون خسائره كثيرة حينها إذا وقعت الحرب ، توقف مصدوما حين وصلته كلمات رامي واخترقت قلبه كسهم مغطى بالسم أو كخنجر ركز في وسط قلبه حين قال بصراخ غاضب دوى صوته في الأرجاء :
- لن تبعدني عنك بهذه الطريقة يا وسام بل سأظل بجانبك ،، لماذا يا وسام لماذا لا تنسى الماضي أنت لست السبب في مقتل فارس كف عن لوم نفسك أيها الغبي الأبله المعتووووه..

*******

في رواق طويل ومظلم كان يسير بخطوات هادئة ظهرت على شفتيه ابتسامة ساخرة ، عيناه تجوبان المكان بتفحص ظهر فيها رغبة بالقتل والانتقام ، يضع يده اليمنى داخل جيب معطفه بينما الأخرى يرفع بها خصلات شعره الأسود في كل حين بلا مبالاة ليعطيه مظهر الشاب النرجسي اللا مبالي ، يضع في فمه عود خشبي طويل ، وصل عند باب مصنوع من الحديد المهترئ يقف عنده حارسان ببنية جسدية ضخمة مسلحان يرتدون بدلات سوداء تحمل شعارا صغيرا على الجهة اليسرى من الصدر وقد رسم فيها باللون الأحمر صورة لبركان ، انحنوا له باحترام وفتحوا له الباب الحديدي الذي اصدر صريرا عاليا مزعجا وقالوا له :
- تفضل ، سيدي ينتظرك بالداخل ..
ابتسم ساخرا واخذ يبعد خصلات شعره بيده اليسرى بحركة استفزازية رامقا إياهم بكل استصغار تخطاهم ودخل ليجد رواقا طويلا سار بخطواته الثابتة إلى أن وصل إلى عدة درجات تنزل إلى الأسفل فعلى ما يبدو أن هناك قبو ، اخذ ينزل الدرجات الواحدة تلو الأخرى ليصل أخيرا إلى صالة كبيرة لا تدل على أنهم تحت الأرض وفي قبو بل هي أشبه بقصر فخم بجدران سوداء منقوشة بنقوش ذهبية تتدلى من منتصف السقف ثريا كبيرة وضخمه مليئة بالزجاجات الصغيرة وبعض الشموع وكثير من الكريستال الأسود اللامع ينتشر في كل زاوية من تلك الصالة الكبيرة حرس ببدلات سوداء يضعون وشاح اسود ليغطي اغلب ملامحهم مسلحون بأجود أنواع السلاح ، فُتِح له باب ضخم أشبه بكونه بوابة في وسط ذلك الجدار الكبير ، ابتسم بسخرية وقال بما يقارب الهمس :
- سحقا لك أكل هذا لخوفك تختبئ كجرذ بين كل هذه الجدران وخلف كل هذه الابوا....
لم يكمل جملته إلا وقد شحب وجهه واتسعت عيناه من الصدمة حين أحس بذراع مفتولة العضلات التفت حول عنقه بسرعة خاطفة في حين سال القليل من دمه بسبب تمرير نصله الحاد على عنقه ، همس في أذنه ذلك الصوت الرجولي الثقيل قائلا بنبرة تهديد :
- لا يوجد جرذ هنا سواك أيها المعتوه احترم أسيادك وإلا قتلت....
في حين أوقفه عن الكلام صوت تصفيق وضحكة ثقيلة خشنة وصوتا مشبع بنبرة الكبرياء والسخرية والقوة قائلا بأمر :
- ابتعد عنه يا مهند ..
وسرعان ما ابعد مهند سيفه وانحنى باحترام لذلك الرجل الذي لم يكن ظاهرا للعيان لشدة الظلام في حين اشتعلت الشموع بعد إشارة من يده لتضيء المكان ليظهر صاحب الصوت الرجولي الثقيل ذو النبرة الساخرة الذي كان يجلس خلف مكتب ضخم باللون الأسود وخلفه امتدت رفوف مليئة بالكتب والمجلدات والملفات المختلفة من أسفله إلى ما يقارب السقف ، قال الرجل والذي لم يكن إلا الإمبراطور جاسم بضحكة ماكرة وعيناه مرتكزتان في عيني سيف يدرس حركاتها ويقرأ الرعب الذي سيطر عليه فيها :
- إذا يا سيف ما رأيك في هذا الاستقبال ..؟!!
تقدم سيف نحوه بخطوات مرتبكة جاهد أن تكون ثابتة يمسد عنقه بخوف ، لقد ظن لوهلة بأنه هلك وان عنقه سيقطع دون أدنى شك ، اقترب من مكتبه الضخم مقطب الحاجبين يوزع نظراته في جميع الأرجاء خشية هجوم آخر إذ يبدو بأنه قلل من شأنهم وسخر من قوتهم لكنهم حقا فاجئوه ، ابتسم سيف بسخرية بعد أن استعاد القليل من قوته وشجاعته وقال بعد أن وقف أمام المكتب مباشرة :
- تمتلك القوة وهذا ما أريد ..
علت ضحكة جاسم وزلزلت المكان بأكمله حيث كان لضحكته رنين خاص يميزها عن غيرها ذو رنة خبيثة وساخرة ومتهكمة نعم فهو يمتلك القوة التي ستمكنه من الوصول لغاياته لكن كل ما عليه الآن هو أن يجمع اكبر عدد من النفوذ ليزداد قوة حينها لن يتغلب عليه أي احد وسيحقق حلمه ويصل إلى مراده دون أدنى شك ، اخرج سيف من معطفه ظرف مغلف ووضعه أمام جاسم على مكتبه وقال له بجدية ونظره على الظرف :
- أنا معك سيدي وتحت أمرك وسأفعل ما تريد لكن اخبرني بصحة ما في هذا الظرف..
ابتسم جاسم متهكما علم تماما ما هي نقطة ضعف سيف ولقد أصابها وبجدارة حين اسند ذراعه اليمنى التي يحمل فيها غليون فضي كبير يتصاعد منه دخان كثيف ، ارتشف كمية كبيرة منه وأخرجه دفعة واحدة بزفير عميق ، كح كحتين متتاليتين ثم قال بنبرة خشنة متهكمة :
- صحيح مئة بالمائة وسأمدك برجالي وقوتي لكي تصل إلى غايتك لكن كما تعلم شرط بشرط ..
ابتسم سيف بنصر بعد أن لمعت عينيه بسعادة وقال مباشرة :
- لك ما تريد المهم أن اقتل وسام بيدي هاتين ..
نهض جاسم من على الكرسي الحديدي الضخم ليظهر طوله المخيف حيث فاق سيف بالطول والضخامة مادا يده مصافحا لسيف قائلا :
- اتفقنا تصبح تابعا لي وأنا أساعدك على التخلص من ذاك الأبله ..

******

يقف عند شرفة غرفته يتكئ بكتفه على حافتها الخشبية مكتفا ذراعيه لصدره ينظر بشرود إلى الخارج بعينين منكسرتين باهتتين ، يشهد قلبه ألما عظيما فشعور الخيانة يفتك به ويحس بالاختناق من كل شي حوله ففضل الانعزال والابتعاد عن الكل وتجنب أي شخص رغم شخصيته التي كانت تعاكس ذلك بالتمام شخصية حنونة محبة للكل ، تنهد بتعب شديد حين سمع طرقات متتالية على باب غرفته الذي طال إغلاقه ولم يفتح إلا نادرا حينها سمع صوت بنبرة مشاغبة طفولية قائلا :
- راااافع أأنت بخير ؟! لماذا لا تفتح لي الباب ؟! هيا يا أخي أرجوك أريدك أن تلعب معي وأيضا أريد أن ......
قاطعها قائلا بهدوء وهو يتوجه نحو مكتبه بخطوات متعبه مثقله يجر خطواته بصعوبة يريد إسكاتها بأي طريقه وإنهاء أي مجال للنقاش :
- أنا بخير يا رنا شكرا لك ..
تأففت هي الأخرى بضجر من خلف الباب فكم بدا عليها الاستياء واضحا من تصرفات أخيها في الآونة الأخيرة ، أخذت تطرق الباب دون توقف لن تستسلم أبدا يجب عليها أن تبذل جهدها ليخرج أخاها من عزلته وحزنه المسيطر عليه طوال الوقت فأخذت تقول أول شيء يخطر ببالها بعشوائية بحته ببراءتها :
- رافع هيا أريد أن نتسوق ،، اخرج حالا أمي يا رافع تريدك ،، انظر، انظر هنالك فراشة جميله تقف على رأسي اخرج لتراها ،، ااااي لقد جُرح إصبعي تعال وضمده لي ،، سوف تعد أمي كعكتك المفضلة دعنا نساعدها ،، أبي اشترى ......
فلتت منه ضحكة صغيرة غلبته على شقيقته المشاغبة التي رغم أنها تبلغ الثامنة عشر من العمر إلا أنها مازالت طفلة بريئة مزعجة جدا لكنها طيبة القلب واكبر دليل هي هذه المحاولات الفاشلة المتتالية في إخراجه من غرفته خصوصا في هذا الوقت ، قال لها بابتسامة حزينة مغيرا لمجرى الحديث :
- رنا عزيزتي هل قمتي بترتيب غرفتك ؟! لان أمي ستمنعك من الحلوى مجددا وككل مرة ..
صرخت حينها رنا برعب وهي تتذكر أنها تركت سريرها في حالة فوضوية ولم ترتبه عند استيقاظها وهذا الشيء الذي لن تسمح به والدتها أبدا بل ستعاقبها على فعلها وتوبخها بشدة بأنها فتاة مهملة وطائشة ولا تزال طفلة صغيرة لا يعتمد عليها في شيء فقالت بنبرة خائفة مترجية وهي تمسك بمقبض الباب بيديها تهزه مجدا بقوة :
- رافع ، رافع أرجوك ساعدني لقد نسيت أمي سوف ، سوف .. لا .. لا إلا الحلوى أرجوك رافع أنا خائفة لقد اقصد سوف ا......
فتح الباب لها بعد أن تنهد بقلة حيلة هذه الفتاة لا يمكن لأي احد أن يسكتها ولن تسكت إلا أن تقول كل شي تعرفه في الحياة سواء كان يعنيها أو لا يعنيها ، مد يده ببطء لتتخلل أنامله خصلات شعرها الأشقر الناعم يبعثره لها بخفة قائلا بحنان مطمئنا إياها :
- رنا عزيزتي أمي ليست في المنزل وسوف تعود بعد قرابة النصف ساعة هيا أنت فتاة كبيرة نشيطة وقوية مجتهدة سوف تفعلينها لوحدك ..
فتحت عينيها على وسعها بدهشة وسعادة أهي حقا يعتمد عليها ؟! هل يثق بها بأنها ستفعلها ولوحدها ؟! إذا رافع لا يراها كما يراها الآخرون بل يثق بها فابتسمت له ابتسامة واسعة مشاكسة كشخصيتها تماما وفي عينيها بريق سعادة من كلماته الحنونة التي سمعتها توا ، صرخت بمرح وهي تقفز كالأطفال قائلة :
- نعم صحيح أنا استطيع فعلها لوحدي أنا فتاة بالغة ويعتمد علي ..
حينها ركضت مسرعه متوجهة نحو غرفتها تكاد تطير من سعادتها وهي تقول بصراخ فرح :
- سأفعلها يا أخي سأفعلها لوحدي نعم أنا استطيع فقط اعتمد علي ..
ارتسمت على شفتي رافع ابتسامة ميتة متسائلا هل كل هذه السعادة والثقة فقط بأنها سترتب سريرها وغرفتها التي حتى الأطفال يستطيعون فعلها ولوحدهم كم تمنى حينها بأنه يملك روحا مرحه كأخته تعود الثقة إليها وتنسى خيبة الأمل وكل شيء بمجرد كلمات بسيطة من أي شخص قد تحتمل الكذب وقد تحتمل الصدق ، كم يتمنى أن تكون لديه القدرة على إعادة ترتيب حياته وترتيب مشاعره وأفكاره ونسيان ما كان والمضي قدما والعيش بروح أخرى ، تنهد بتعب وهو يهز رأسه نافيا وموقنا انه لا يمكنه فعل ذلك فهو لا يرى نفسه الآن إلا جسدا يعيش على وجه الأرض بدون روح ، استدار عائدا إلى غرفته ومنفاه حيث عزلته وسجنه لنفسه المكان الذي لا يحتوي إلا الألم والحزن والخذلان .









نهاية الفصل , قراءة ممتعة لكم أحبتي ..
بقلم محبتكم : روح الوسن ..


روح الوسن .. 29-03-20 07:46 PM

.. الفصل الرابع عشر ..

.
.

[ صراعات مختلفة ]

.
.

هبت رياح قوية في تلك اللحظة وعم سكون مرعب وكأن لا يوجد احد سوى ذلكم الشخصان متقابلان احدهما كان تنفسه ملحوظا وذلك بسبب الجهد الذي بذله في قول ما قاله في حين عيناه تطلقان شررا غاضبا موجها صوب صديقه أما الآخر فلم يزدد سوى شحوبا وكأن الدم قد سحب من جسمه كله ، نظر إليه بعينين متسعتين من الصدمة كيف له أن يذكره بما فعل سابقا ؟! انه هو سبب مقتل فارس كان ذكر اسم فارس فقط يثير دمائه ويثير رغبته في القتل نعم انه الانتقام يريد أن ينتقم ممن قتل صديقه الأول وأخيه الذي لم تلده أمه لكنه وفي تلك اللحظة لم يتهم احد سوى نفسه لا ينكر بأنه يرغب بالموت فقط لكي يكفر عن ذنوبه لأنه يعتقد بأنه السبب في موته هو وخطيبته التي ماتت ظلما معه وبدون أي سبب ، بعد أن داهمته تلك الذكرى تراءت في ذكراه صورة لصديقه فارس المغطى بالدماء وهو يتمتم له بأخر كلمات يلفظها بأن يعتني بنفسه ويبقى قويا ولا ينسى سيف وان يعيشا حياة طاهرة لا تلطخها دماء الغير نقية من الخبث والمكر غير الحياة التي عاشوها معا كمجموعة مجرمة تخرب وتقتل الأبرياء ، جثا على ركبتيه وهو يتنفس بصعوبة تلك الذكرى تقتله تؤلمه وترعبه ليس قادر على مسامحه نفسه وليس قادر على فعل أي شي انه يصارع بقوة صراعات داخل رأسه تؤلمه وكم تجرحه ، امسك رأسه بيديه وبدأ جبينه بالتعرق من جديد ، ركض رامي نحوه بخطوات سريعة واسعة ليجلس بجانبه وهو يتمتم بكلمات كثيرة وبدا على ملامحه مدى قلقه وتوتره من حال صديقه لكن وسام وكما يبدو انه لم يستمع لأي كلمة من كلماته تلك فوضع يديه على كتفي وسام وبدأ بهزة طالبا منه أن يكون أكثر قوة وشجاعة وان يتخطى الماضي لكنه لم يبدي أي ردة فعل تذكر بل بدأ يئن بخفوت حينها دوى صوت صفعة قوية في الأرجاء جعلت من وسام يسقط أرضا ، صرخ رامي بغضب قائلا :
- وسااااااام أفق ،، أفق يا وسااااام ..
حينها فقط استعاد وسام وعيه واخذ يتنفس بتقطع وما لبث إلا قليلا حتى انتصب واقفا ، نفض الغبار من على معطفه وقال ببرود وباختصار وكأن شيء لم يحدث بملامح مرهقة متعبة :
- أشكرك يا رامي ..
ابتسم رامي بألم من رؤيته لوسام بهذا الضعف والضياع وسام الذي يهابه الكل حتى الضباط أنفسهم لقوته ومهاراته العالية لا يريد أن يسيطر عليه الماضي ويُنسيه مستقبله ويُفسد عليه حاضره هو الوحيد الذي يعلم ما الذي جرى لوسام ربما ليس تماما فهو يجهل الكثير من الأمور التي تتعلق به وبماضيه الخفي الذي لا يعلمه إلا هو وسام نفسه وذلك لتكتمه الشديد حول خصوصياته وخصوصا ماضيه المجهول وهويته الحقيقية لكنه يعلم انه يتهم نفسه في قتل صديقه المدعو بفارس لأنه دائما ما يتمتم بقوله ( أنا من قتلك يا فارس أنا لن أسامح نفسي مهما حدث ) وبالرغم من يقين رامي بأن وسام ورغم بروده وهدوئه وقوته ومهاراته أللا محدودة فلن يقدم على قتل أحدا بريئا أبدا أو هكذا يظن لذلك فهو لا يزال يحاول أن يتخطى وسام ذلك الماضي الغامض وينسى كل شيء ، قال حينها رامي لوسام وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة باهتة :
- كيف تشعر الآن يا وسام أأنت بخير .. ؟!!
ابتسم الآخر بخفوت حين مد يده نحو رامي واخذ يبعثر له خصلات شعره الأشقر بعشوائية وهو يقول بهدوئه وبروده المعتاد مع ابتسامة ساخرة :
- كل من يعرفك يا رامي لا يعرف الخير مطلقا ..
ابعد يد وسام بقوة مغتاظا مكتفا لذراعيه لصدره مالذي يقصده بقوله هل هو جالب للمشاكل والمصائب لمن حوله ؟! انه يرى نفسه ليس إلا شاب صالح يحاول إسعاد كل من حوله ، صحيح انه خفيف ظل غالبا وكثير مزاح لكن هذا لا يعني انه يحمل هالة من الشؤم حوله ، زم شفتيه بعبوس شديد وقال يرمقه بنصف عين :
- نعم نعم حاول استفزازي يا بائس ..
حينها ابتسم وسام فرامي لن يتغير مهما حدث شاب بروح رياضية ومرح يرى كل شي بإيجابية وسعادة يسعد من حوله ويضحكهم هذا هو رامي والذي يذكره كثيرا بفارس وبروحه المرحة المحبة للغير كلما جالسه ، قال له بنبرته الباردة :
- إذا دعنا ندخل للمعسكر فالتدريبات قد بدأت ..
تنهد رامي وقال بهمس وهو يوزع نظراته حولهم خشية أن يسمعهم احد :
- اسمع يا وسام أردت أن أخبرك بأن الضابط جميل ليس موجودا في المعسكر بأكمله ..
قطب وسام مستغربا فليس من عادة الضابط جميل أن يتغيب عن التمرينات والتدريبات العسكرية هل يعقل بأنه علم بأمر الفوضى التي قد تحدث ؟! أم انه تم مهاجمته فأصيب ؟! أم ربما احد أفراد عائلته يعاني من مشكلة ؟! هز رأسه طاردا لكل تلك الأفكار التي لم تزده إلا ألما وضياع ثم قال بهدوء يعاكس ما بداخله من ضجيج التساؤلات :
- إذا مجموعتنا معفية عن التدريبات العسكرية لليوم ..
أومأ إيجابا وقد ظهر على ملامحه الاستغراب الشديد من وضع الضباط في الآونة الأخيرة فقال متسائلا :
- أرى أن حركة الضباط هذه الأيام غريبة ..
تابع وسام خطواته الكسولة وقال وهو يلوح لرامي ببرود :
- إذا دعنا نستغل الفرصة ونزور العيادة لأجل تعقيم جرحك ..
تبعه رامي مبتسما وقال بمكر :
- لكن أولا يجب أن نزور ذلك المطعم ونأكل من اللحم اللذيذ حتى التخمة ..
رمقه وسام بنظرة حادة كادت تفتك بحياته في حين ابتلع رامي ريقه مرارا وتكرارا ضنا منه أنها ستكون نهايته في حين تنهد وسام بقلة حيلة مكملا طريقه بخطواته الكسولة غير آبه برامي وبترهاته التي لم يتوقف عن سردها على مسامعه طيلة الطريق للتغير من الجو العابس قليلا وكأن من اخبره انه ينقصه ثرثرة غير ثرثرة أفكاره المتزاحمة التي تكاد تفجر له رأسه .

******

بين الخدم والحشم والحراس وبين الغرف الضخمة الأشبه بالقاعات الواسعة وبالتحديد في قصر الإمبراطور عامر حيث يقف الحراس في كل زاوية من زواياه والخدم يتنقلون هنا وهناك في جميع الأرجاء ، الشموع مضاءة وصوت الكؤوس المليئة بالعصير تصطدم بعضها ببعض تجهيزا للاجتماع العائلي الذي سيعقد بعد عدة دقائق ، الورود الطبيعية غالية الثمن ذات الرائحة الزكية تزين كل زهرية مركونة في زاوية من تلك الزوايا المتعددة ، كان يقف عند بوابة ضخمة تكاد تلامس السقف من طولها في ذلك الرواق الواسع طارق أو المعروف بالأمير الصغير طارق صاحب النظرة الثاقبة والعقل الحكيم مرتديا بزة بيضاء لا تليق إلا به بشاراتها الذهبية يمسك بيد شقيقته وتوأمته الأميرة زهرة التي تشبه الزهرة بكل شيء فهي رقيقة مثلها وتحتاج من يسقيها بالحب والحنان والاهتمام كل حين ، هادئة وخجولة وتملك ميزة خارقة لا يعلمها احد سوى شقيقها وتوأمها طارق ، يستندون على الجدار بجانب غرفة الاجتماعات وقد بدا على زهرة ملامح القلق والارتباك بينما اعتلت ملامح طارق الضجر والضيق من الانتظار والذي يبدو زاد عن حده ، ينتظرون الشخص الثالث والمعني بالأمر مثلهم والذي يعد فردا من أفراد العائلة المالكة أيضا والشخص الغائب الذي لا يعيش معهم في نفس القصر ليُسمح لهم بالدخول وما هي إلا دقائق حتى فُتحت بوابة تقبع آخر الرواق الطويل ليسمح بدخول شخص ما ، توجهت حينها نظرات كلا من طارق وزهرة هناك ليخرج لهم ابن عمهم وابن شقيق والدهم الأكبر منه سنا الذي فارق الحياة منذ زمن اثر الفوضى التي حدثت وقتلت الكثير من الأبرياء الابن الحاضر بالاسم والغائب بالجسد ، اقترب منهم بخطوات كسولة يرتدي بزة سوداء بكل لا مبالاة لم يكلف نفسه عناء ترتيبها في حين كانت أزرار قميصه العلوية مفتوحة وكأنه ينتظر انتهاء الاجتماع ليقتلع البزة من على جسده سريعا ، ملامحه لا تدل على أن قدومه هنا يسعده أو بملء إرادته في حين ظهر عليه انه لم يكن إلا مجبرا على حضور الاجتماع العائلي بما أن اسمه ينتهي بلقب يشابه اللقب الذي ينتهي به اسم الإمبراطور عامر ، مر من أمامهم وكأن شيئا لم يعنيه في حين رمقه طارق بحدة وقال من بين أسنانه بضيق واضح بعد أن فار دمه من برودة ابن عمهم وتجاهله لهم :
- أهلا بعودتك يا حسام ..
ابتسم حسام نصف ابتسامه حين سمع نبرة الغضب التي كانت تلف كل كلمة من كلمات طارق ، توقف أمامه حين رمقه بنظرة سريعة فهمهم بامتعاض شديد لا يريد أن يرد عليه ولا يريد منهم أن يرحبوا به لأنه هو نفسه غير مقتنع بوجوده بينهم يكره كل من في القصر ويكره البقية المتبقية من عائلته بشدة فلم يلبث قليلا إلا وقد أكملت خطواته سيرها متجاهلا طارق وشقيقته ، توقفت خطواته فجأة بسبب تلك اليد التي أمسكت معصمه بقوة كادت تمزق له لحمه وتكسر له عظمه التي لم تكن إلا يد طارق ، يعلم طارق جيدا مدى كره حسام لعائلته وللقصر ولكل شيء يربطه هنا لكن ليس هذا التصرف صحيحا أبدا فهم لم يتقابلا منذ ما يقارب السنتان أي برود هذا ؟! والى إي درجة قد يصل كرهه لهم ؟! وما ذنبه هو وشقيقته ليشملهم كرهه وغضبه الذي لا يراه إلا غير منطقي وحماقة وطيش شباب ، فقال حسام ببرود شديد يرمقه باستحقار وكره :
- اترك يدي يا طارق خيرا لك ..
لم يستطع طارق تمالك أعصابه أكثر وهو الذي عرف بحكمته في التصرف وبعقله الذي يوزن بالذهب لكنه وخصوصا في هذه اللحظة بالتحديد فقد عقله بسبب هذا المعتوه حسام فهو دائما يخرجه عن صوبه ويثير كل ذرة فيه فسحبه بقوه لكي يستدير حسام وتلتقي أعينهم ببعض وقال طارق بغضب حاول جاهدا من أن يضبطه :
- أهكذا يا حسام ؟! أهكذا تستقبل اهلك بعد غياب طويل ؟! !هكذا يتصرف الأمير العاقل ؟! تصرفاتك همجية ولا تليق بعائلتنا أبدا فأنت لس.....
قاطعة حسام وهو يستل يده من بين أنامل طارق بقوة وكأنه كان ينتظر أي هفوة وزلة منهم لكي ينفجر فيهم وحدث ذلك سريعا كما أراد في حين قال بنفس النبرة الغاضبة وتنفسه يعلو تدريجيا ووجه لم يزدد إلا شحوبا :
- أنا لا اعترف بكم كعائلة ولا أريد أن أتصرف كرجل مثلكم تحت مسمى أمير إن لم تعجبك تصرفاتي فأنا لم اطلب منك ذلك كل ما اطلبه منكم أن تتركوني وشأني ..
تبادلا نظرات حادة وشرسة وكأنهم سيفترسون بعضا بنظراتهم ولو كانت النظرات تقتل حقا لسقطا على الأرض جثتين هامدتين في حين كل منهما استعد لقتال حامي بينهما إن لم يكن بالأيدي فبالتأكيد بالكلام الجارح ، امتدت أنامل زهرة المرتجفة لتضعها على كتف شقيقها هامسة له بصوتها الرقيق من خلفه :
- أرجوك يا طارق توقف ،، يكفي أرجوك ..
رمقها بنظرة سريعة حادة ولأول مرة وكأنه يخبرها بأن تصمت وتبتعد ولا تتدخل فهذا هو الوقت المناسب لتصفية الحساب مع حسام فلن يجد فرصة أخرى ليستفرد به ويذكره بكل ما نسيه ويتناساه ، أعاد بنظراته إلى حسام الذي تلون وجهه من الغضب والذي بدوره كان مستعدا للقتال مع ابن عمه الذي لا يكف عن الثرثرة بكلام لا داعي له كما يضن وتذكيره الدائم له بكونه احد أفراد هذه العائلة هذه الحقيقة التي تقتله وتعكر مزاجه ليتخلل كل تلك المشاحنة والجو المشحون بشحنات سالبة مفعمة بالكره والحقد ذلك الصوت الجهوري الذي هز أركان القصر قائلا :
- يكفي توقفا وأنتما كالأطفال ..
شهقت زهرة خوفا ضامه يديها إلى صدرها تنظر إلى مصدر الصوت في حين اعتدل طارق في وقفته سريعا وبارتباك واضح لينحني بكل احترام لوالده أما حسام فلم تغادر ملامح الاستياء وجهه أبدا وهو يرمق عمه الإمبراطور عامر بغل وكأنه يخبره بتلك النظرات انه هو السبب في كل ذلك فهو لم يأتي إلا بعد إصرار شديد منه وهو يعرف موقفه منهم جيدا ، نفض حسام سترته حين توجهت نظراته لطارق المنحني بكل احترام لوالده رامقا إياه باستحقار واستنقاص ليهمس بسخرية لاذعة شديدة الاستفزاز قائلا له بعد أن انحنى لمستوى أذنه مما جعل ملامح طارق تتصلب بجمود كاد يفتك بقلبه ووجهه لم يزدد إلا شحوبا وكأن الدماء سحبت منه :
- جبان ..
حينها زفر طارق بضيق شديد ينفث إعصار حارق من جوفه ، شد قبضته بقوة طالبا مزيدا من الصبر والهدوء كم يكره هذه النبرة الساخرة وكم يكره هذه الكلمة التي تصيب قلبه في مقتل كسهم حاد قبل أن تطرق مسامعه في حين لم يتوقف حسام عن نعته بها دائما ويذكره بأنه جبان ويتبع الغير لا يتخذ قراراته بنفسه بل يتركها للآخرين يتصرفون بها كيف شاءوا يعيش حياة رسمها له الغير ليست من تخطيطه ، هو يسير خلفهم دون وجهه محددة ودن هدف ، أغمض عينيه بقوة حين قال الإمبراطور عامر بنبرة جادة آمره قاطعا كل تلك الهواجس المزعجة :
- اعتذر يا طارق من ابن عمك حسام وحالا ..
حينها فقط شحب وجه طارق ورفع عينيه ينظر إلى والده بقوة في حين اتسعت عيناه بصدمة وكأنه رأى شبحا أمامه ، علت ضربات قلبه معلنة للجميع مدى غضبها وألمها ، توقفت أنفاسه وكأنه سيموت قريبا هل ما سمعه صحيح ؟! أحقا يطلب والده الآن منه الاعتذار ؟! لماذا لم يكن هو المخطئ أبدا ؟! لماذا عليه الاعتذار ؟! متى سيعترف به والده ويقدر مشاعره كابن له ؟! لماذا والده يحب حسام كل هذا الحب وهو لا يجني منه سوى التوبيخ والأوامر وهو الذي يصارع كل من حوله بقوة ويبذل كل جهده لإسعاد والده وجعله فخورا به دائما ؟! ، هز رأسه بخفة ليبعد كل تلك الأفكار السوداء والتساؤلات التي لا يلقى لها إجابات مهما فعل ليتنهد بكل ضيق وغضب مطلقا أنفاسا حارة وساخنة تكاد تحرق القصر بأكمله ، حينها رفع رأسه بعد أن عاد إليه جزءا من هدوئه والتي كانت بسبب تلك اليد الناعمة والحانية التي كانت تمسح على ذراعه لتمده بالقوة وتثبت له أنها هي سنده مهما انقلب الكل عليه ، وجه نظره إلى حسام الذي كان بدوره يرمقه بسخرية شديدة وكأنه يذكره بكلامه سابقا بأنه جبان يجري خلف الآخرين ولا يستطيع أن يثبت نفسه ، لا يجدي نفعا إلا في إتباع أوامرهم كعبد مملوك ، ابتسم طارق بخفة وقال بنبرة جافة وباردة يلفها الأدب الراقي :
- بصفتي الأمير طارق أقدم لك اعتذاري أيها الأمير حسام ..
وشدد على آخر كلمتين نطقها وعيناه مرتكزتان بثبات في عيني حسام وكأنه يخبره ويذكره بأنه أمير ومن العائلة رغما عن انفه شاء ذلك أم كرهه ليزفر الآخر بغضب اشد منه بعد أن وصله المعنى المقصود وملامح الاستياء بادية على وجهه ، هز الإمبراطور عامر رأسه بيأس فكل هذا وهو لم يبدأ بالاجتماع والذي يخاف أن ينتهي بشجار عنيف ستترتب عليه جروح وضحايا اثر الموضوع الذي يريد أن يثيره بينهم فقال منهيا للجو المشحون الذي لن ينتهي أبدا بين أبناء العم كما أبناء العائلة :
- والآن لنعقد اجتماعنا العائلي ..







نهاية الفصل , قراءة ممتعة لكم أحبتي ..
بقلم محبتكم : روح الوسن ..

روح الوسن .. 29-03-20 07:49 PM


.. الفصل الخامس عشر ..
.
.

[ خروج الشر من مخبأة ]
.
.

في ذلك الزحام وبين حشود الناس اخذ يسير بمرح يدندن لحنا يضم قبضتيه خلف رأسه وابتسامة واسعة ترتسم على شفتيه وهو يرمق الذي يسير بجانبه شاحب الوجه صديقه الوسيم العابس دائما كما يقول في نفسه دائما ، يديه في جيوب معطفه ذو الياقة الكبيرة التي يرفعها لتغطي اغلب وجهه مما يزيد من وسامته وخصلات شعره البني تتلاعب بها الرياح بخفة ، لاحظ الآخر نظرات الاستفزاز التي يرمقها به رامي وسرعان ما أشاح وجهه جانبا ينظر إلى الأسواق الصغيرة المتراصة التي يجتمع عدد كبير من الباعة منهم من يبيع قطع القماش للحلي ومنها الفواكه والخضر ، تنهد بضجر واضح فهاهو انتهى به المطاف يسير مع رامي في وسط المدينة المكان الذي يعاكس صفاته بالكامل فهو لا يحب الأماكن الصاخبة المزدحمة وإنما الهادئة والخالية ، ربما يعود طبعه هذا لمعتقداته التي ارتسمت في دماغه منذ زمن طويل بأنه سبب كل شي سيء يحدث لمن حوله فيرى بأن الابتعاد عن الجميع خير سبيل ، صرخ رامي بحماس قائلا :
- هاهو ذا أفضل مطعم على مستوى الإمبراطورية بالكاااامل ..
وأنهى جملته بضحكة عالية متوترة وهو يرى تلك النظرات الحادة التي يرمقه بها وسام والذي ضحك ضحكة صغيرة تهكمية وماكرة وهو يشير برأسه خلف رامي بحركة استفزازية قائلا بمكر :
- اااه صحيح صحيح لا بد أن يكون الأفضل لان تلك الجميلة من تبي....
صرخ رامي بقوة شاحب الوجه ليقطع وسام من الاسترسال في حديثه فهو يعلم بأنه تمالك نفسه كل تلك الطرقات التي قطعوها ولن يرحمه الآن بل وكما يبدو بأنه سينفجر فوقه ويسلخه بكلامه المعسول ذاك والذي يبدو للمرة الأولى يستخدم جُمَله وعباراته التي كان يتشدق بها ويسخر ويعيدها له وينتقم شر انتقام ، جذبه يمسك بمرفقه بكلتا يديه متوجهان نحو البوابة الخشبية والمعلق على بابها لوحة من الخشب الأسود المحفور عليها ( أهلا بكم ) باللون الأبيض ، دفعه بقوة بيده والأخرى لا تزال تمسك بمرفق وسام ليصدر ذلك الجرس المعدني الصغير المعلق بالباب صوت رنينه المميز معلنا عن دخول احدهم ، دلفا داخله والذي كان عبارة عن مساحة كبيرة مغلقة بجدران طويلة تنتشر فيها الأعمدة الخشبية والمعلق فيها شمعدانات للإضاءة التي تتميز بلونها الأصفر لتعطي انطباع هادئ للمكان ، سقف منخفض من السعف يتخلله ضوء الشمس من بينها زينت جدرانها بالشموع أيضا لمزيد من الإضاءة ولوح بأحجام مختلفة لرسومات طعام وفواكه وبعض الطبيعة لرسامين ماهرين من شتى البقاع ، على الجهة اليسرى يوجد لوح طويل يستعمل كطاولة مستطيلة الشكل من الخشب خلفها تقف امرأتان ويبدو بأنهن فتاة وأمها لو نظرنا في فارق العمر والشبه الكبير بينهن ، توجد صناديق ورفوف كثيرة خلفهن مليئة بالعصائر المتنوعة والفاكهة ويوجد باب بجانبه يوصل للمطبخ لطبخ الوجبات من أرز ولحم ودجاج وخضر وغيرها من الأطباق الشهية التي اشتهر بها المطعم ، في الجهة المقابلة للطاولة الخشبية الطويلة تتوزع بعض المقاعد الدائرية الملاصقة لها والتي غالبا يجلس عليها من ينتظر طبقه ليأتيه فيأخذه ويجلس على الطاولات الخشبية الصغيرة والتي تلتف حول كل طاولة أربع مقاعد من الخشب أيضا ، تقدم رامي مبتسما بمشاكسة يرمق التي كانت تمسح الطاولة الخشبية بقطعة قماشية صغيرة وأول ما نظرت إليه أشاحت بوجهها جانبا مكتفه ذراعيها لصدرها تزفر بغيض وكم يبدو بأن هذا الضيف لم يرق لها أبدا ، ترتدي فستان اخضر عشبي كعينيها تماما بأكمام قصيرة يصل طوله إلى نصف ساقها ترتدي فوقه قطعه قماش بيضاء مربوطة في حزام حول خصرها تحوي جيبان كبيران ، ترفع شعرها الأشقر القصير للأعلى تربطه برباط صغير في حين تسللت بعض الخصل القصيرة على جبينها وحول وجنتيها كما رقبتها ليعطيها منظر الفتاة الجميلة المشاكسة الغير مبالية بمظهرها كثيرا ، جلس رامي على احد المقاعد الدائرية يستند بمرفقيه على الطاولة الخشبية والتي تفصل بينهم وقال مبتسما يقصد بكلامه العجوز وعيناه لا تزالان معلقتان على جانب وجهها وهي لا تزال تشيح بنظرها عنه تزم شفتيها بضيق يكاد يقسم بأنها تمسك نفسها بصعوبة عن الكلام والصراخ كعادتها :
- كيف حالك يا خالة .. ؟!!
ابتسمت العجوز له والتي مدت بالعصير للذي كان يقف أمامها ليشكرها وينصرف :
- بخير يا بني كيف حالك أنت ؟! ولماذا لم تعد تزرنا لمدة ..؟!
ضحك حينها بصوت عالٍ وهو يراقب تلك الغاضبة التي استدارت متوجهة نحو غرفة المطبخ ليوقفها صوته قائلا بمشاكسة وعيناه لا تزال تحاصرانها بمكر :
- بخير بخير يا خالة ، وكيف حال جوجو يا تُرى .. ؟!!
استدارت نحوه ترمقه بغضب وقالت بحده تنظر إلى عينيه مباشرة وتشير بسبابتها نحوه :
- لا تنادني بجوجو أتفهم يا هذا ..
في حين تنهد الشخص الآخر بكل كره والذي يبدو بأن لا احد لاحظ وجوده كم يكره مشاكسات رامي ومضايقته للجميع وكم يكره هذا المكان وتجمعات الناس وأكثر شي يكره هو تلك الشقراء وحركاتها الصبيانية التي لطالما أثارت أعصابه وأخرجته عن طوره ، تقدم بهدوء بخطوات غير مسموعة يدس يديه في جيبي معطفه هامسا بشتائم عدّه والتي يبدو أنها كانت من نصيب كل من حوله ولم يسلم منها أي احد حتى الجدران والطاولات والمقاعد والتحف والأزهار لم تسلم من شتائمه ليجلس بجوار رامي يفصله بينهم مقعد واحد معاكس له في طريقة الجلوس يتكأ بظهره على الطاولة الخشبية يعطيهم ظهره يهيم بنظره في اللوح المعلقة ويتجنب النظر لكل من حوله مما أعطاه مظهر الشاب المتعجرف المغرور الذي حتى التحية لا يتنازل ويلقيها عليهم ، تغيرت ملامحها في لمح البصر لترتسم ابتسامة واسعة على ثغرها ترمق وسام بسعادة لا تصدق انه أتى للمطعم ثانيتا بعد أخر لقاء لهم والتي لم تسلم من لسانه الساخط والذي انفجر فجأة عندما طلبت منه الزواج منها بعد أن باحت له بمشاعرها نحوه فرمقها بحدة حينها ونعتها بالطفلة البلهاء والكثير من الشتائم التي تسببت في سجنها في غرفتها يوما كاملا لا تتوقف عن البكاء ليس بسبب تلك الشتائم التي قالها لها بل بسبب أخر جملة قالها لها وهي ( كم اكره تصرفاتك ، فاغربي عن وجهي فأنا لن أكون لكِ ما حييت ) ، نظرت إليه بدهشة وسرعان ما تغيرت خطواتها لتتجه نحوه والذي كان يعطيها ظهره ولم تبالي بمن كانت تصرخ به بحدة قبل قليل والذي قطب حاجبيه منزعجا منها ومن تجاهلها له وكأنه جدار من جدران المطعم ولم تبالي بمشاعره التي ضربتها عرض الحائط ولم تلتفت له ، قالت باندفاع وابتسامة واسعة تنظر إلى قفاه :
- كنت اعلم بأنك ستعود وتعتذر عما قلته لي سابقا وها أنا أسامحك يا وسام ..
لم يتحرك ولم يتحدث ولم يرمش وكانت متأكدة بأنه لا يتنفس أيضا لم تظهر عليه أي ظاهره تدل على انه كائن حي حينها فكان أشبه بتمثال حجري منحوت بحرفية شديدة يجلس على المقعد فبدأت ابتسامتها بالتلاشي تدريجيا والتي ما لبثت قليلا إلا وعادت لترتسم على محياها عندما لمحت شفتيه تتحرك لكنها من فرط سعادتها لم تنتبه ولم تسمع ما قاله وكأن تصلبه وجموده انتقل لسمعها ، أقال شيئا أم كان يهمس لنفسه كعادته ؟! طال الصمت بينهم فتنهد وسام بخفة وقال هامسا ببرود بعد أن رمقها سريعا ببرود اشد بعينيه العسلية الباهتة :
- العصير يا بلهاء ..
رمشت عدة مرات بصدمة ودهشة علت ملامحها الجميلة هل نعتها بالبلهاء مجددا وبعد كل الذي حدث بينهما ؟! الم يتأثر بعد اعترافها له بحبها ؟! ألا يقدر كونها هي من بدأت بفتح قلبها له وأخبرته بكل ما في قلبها بصدق كما تضن ؟! لماذا لم يراعي خجلها منه ؟! وأين يصنف الحب والاعتراف في قائمته هل تندرج تحت القائمة الخاصة بالأعداء يا ترى أم ماذا ؟! ، ضربت على الطاولة بيدها بعد كم الأسئلة التي تقاذفت في رأسها دفعة واحدة وقالت بحدة تنظر إليه بغضب :
- كف عن مناداتي بالبلهاء لماذا لا تراعي مشاعري قليلا يا وسام أهذا جزائي بأنني بح....
قاطع رامي الجو المشحون بابتسامته المعتادة بلمحة الضيق في عينيه منها ومن تصرفاتها وظهر ذلك من تغضين جبينه قليلا قائلا يقصد العجوز بكلامه :
- خالتي من فضلك طبقي المعتاد من يديك الرائعتين ..
أماءت برأسها إيجابا مبتسمة له وسحبت ابنتها متداركة للوضع قبل أن يسوء أكثر قائله بهمس موبخه لها تجرها خلفها إلى المطبخ :
- هيا يا جنى تعالي وساعديني وكفي عن الصراخ كالأطفال فسنفقد زبائننا بالتأكيد بسببك ..
وما أن اختفيا حتى تنهد رامي بضيق فقال لوسام هامسا ينظر حيث اختفيتا :
- هيه وسام ألا تعتقد بأنك قسوت عليها بكلامك ..؟!!
ضحكة ساخرة لا تحمل أي معنى هي كانت ردة فعله قبل أن يستقيم بكل هدوء ليغادر ، همس له ببرود يشبه الصقيع بعد أن كان خلفه مباشرة وهو يسير بخطواته الهادئة :
- أحمق ..
التفت رامي سريعا له لكنه لم يرى إلا الباب يغلق خلفه ورنه الجرس الصغير تصدح في الأرجاء ولا وجود له ، تنهد بقلة حيلة فوسام طيلة السنوات التي عرفها فيه لم يكن ذو لسان حاد لدرجة التجريح إلا إذا كان يحدث احد المجرمين أو اللصوص في بعض مهماتهم فقط أما الغير فغالبا ما يتجنبهم هم والحديث معهم ، كانت لديه بعض الشكوك حولهما وكان يظن بأن هناك شيء حدث بين وسام وبين جنى ويجهل كل تفاصيله لكن الآن تأكدت شكوكه من هذه المحادثة المشحونة السريعة وعلم لماذا وسام لا يحب هذا المكان ولا يكاد يطيقه ويجب عليه أن يعرف كل شيء بالتفصيل ربما من باب الفضول أو ربما الغيرة وهذا الأرجح لأنه تنهد بضيق شديد عندما وصله صوتها الغاضب يخرج من المطبخ وتلك العجوز المسكينة تحاول أن تسكتها بشتى الطرق حتى أنها شتمتها في النهاية لتصمت لكن يبدو بأن ذلك لم يجدي معها نفعا وكيف تصمت وهي ومشاعرها تهانان بهذه الطريقة القاسية ألا مبالية من وسام ، ابتسم رامي بخفه وقال بهمس ماكر واثق :
- مصيرك لي يا ابنه ارضي ويا من تشاركيني الدماء نفسها ..

*****

ضحك بقوة ضحكة عميقة ورجولية بنبرتها الخشنة والمسيطرة يرفع رأسه للأعلى بكل شموخ حين زلزلت أركان مكتبه الواسع والفخم تلك الضحكات التهكمية ، يجلس خلف مكتبه الخشبي الكبير وهو يقرأ ما خُط على الورقة التي يمسكها بيده بعد أن طواها أربعا وادخلها في إحدى الكتب أمامه والتي انتهى توا من قراءتها ، رفع نظره للذي يقف أمامه منحنيا باحترام شديد عيناه أرضا والذي سلمه تلك الورقة فقال جاسم حينها :
- أخيرا ما انتظرته من عشر سنين ها هو يبدأ الآن ..
ضحك مجددا ضحكة صغيرة وعميقة واثقة لا تدل إلا على قوة صاحبها وتهكمه الشديد وكأنه يعلم مسبقا بمجريات ما حدث :
- اضطراب القصر وعائلة الإمبراطور عامر والمشاكل التي حلت بالحدود الجنوبية المتمردة ..
مد يده واضعا إياها أمام ناظريه ينظر إليها مبتسما وسرعان ما قبضها بقوة وقال :
- عصفوران بحجر واحد ..
اخذ يحك ذقنه ولحيته المشذبة بعناية بعد أن فك قبضته وتلك الابتسامة الخبيثة لم تفارق ثغره ينظر لمن يقف أمامه ولكنه كما لو كان يحدث نفسه وقال بعد أن أطلق صوتا يدل على الإعجاب :
- كم أنا عظيم ، عظيم جدا ..
فرقع بأصابعه وقال بأمر ينظر إلى الذي يقف أمامه بكل احترام :
- سيف وبهاء الآن يكونان هنا ..
عاد مهند للخلف خطوتين بعد أن استأذن باحترام للمغادرة قائلا :
- أمرك سيدي ..
هز رأسه يمينا وشمالا مبتسما بتهكم لا يصدق بأنه أخيرا سيبدأ بخطوات خطته التي استغرق عشر سنوات لكتابتها ولتخطيطها ودراسة كل جزء فيها لقد وضع النقاط على الحروف أخيرا واتضحت أمامه كل الطرق التي تؤدي إلى حلمه الذي لطالما سعى جاهدا على تحقيقه ، طرقتين على الباب تبعها دفع له بهدوء شديد قبل أن يقف أمامه ثلاثتهم مهند والذي تجاوز الثلاثين من العمر خادمه المخلص وذراعه اليمنى واحد ضباطه الأوفياء يليه بهاء الشاب النزق اللعوب غريب الأطوار كما يسميه الأغلب بتسريحة شعره الغريبة يرفع جزئا للأعلى يمسكه برباط صغير والآخر يتدلى على كتفيه يربط على جبينه قطعة قماشية سوداء كلون شعره طويلة يكاد يصل طولها إلى ركبتيه ملتفة حول رأسه ، ذراعيه العاريتان تكاد تكونا مصبوغتان بالسواد من كثر النقوش الغريبة التي يرسمها عليها ، يحب الحلقات المعدنية بشتى أنواعها وأحجامها يرتديها حول معصمه ويزين بها أنامله ويغرسها في أذنيه لا احد يعلم كيف له ذلك ومن أين جاء بتلك العادات الغريبة ، في حين يقف سيف مبتعدا قليلا للخلف ابتسامة ساخرة تزين شفتيه يضع عودا خشبيا في فمه كعادة اعتاد عليها سابقا يرفع خصلات شعره للأعلى دون مبالاة ، صمت طويل يحمل الكثير من الهواجس المرعبة سيطر عليهم قاطعه أخيرا جاسم بقوله :
- الإمبراطورية الخضراء وجهتنا يا شباب سوف نقوم بتحركنا قريبا وقريبا جدا كونوا على أتم الاستعداد ..
ثم اتبع قائلا بنبرة آمره ومحذرة :
- خطة وستسيرون عليها بالحرف الواحد وأي خلل قد يحدث بسببكم سيكون العقاب صارم جدا ولن أتساهل معكم فيه ..
صوت صرير الكرسي على الأرضية اتبعه وقوفه ليظهر لهم طول قامته وضخامة جسده ، قال وهو ينقل نظراته بينهم واحدا واحدا بثقة متفجرة كما لو انه يبث فيهم من قوته ويزيل فكرة كونه سيترتب على أدائهم أي خطأ :
- كما أنني أثق بكم يا شباب بعد كل السنوات التي قضيناها في التدريب والقتال لن يذهب تعبي سدا بالتأكيد ..
أومأ له ثلاثتهم بصياغات مختلفة وأصوات متفاوتة ليقولوا معا :
- أمرك سيدي ..
ضربوا التحية له وانحنوا بخفه احتراما وغادروا واحدا تلو الآخر بهدوء بعد أن وصلهم المهم وعلموا مالذي يتوجب عليهم فعله الآن والبدء بالشروع فيه والاستعداد له ، كان سيف آخرهم يسير بخطواته الهادئة واللا مبالية وما أن عتبت قدميه خارجا حتى أتاه صوت جاسم هامسا له ينظر إليه بتركيز :
- اقتربت مواجهتك يا سيف ، كم أنا سعيد لأجلك لذلك كن مستعدا ..
انقبضت أنامله بقوة كما قلبه وكم أزعجه انقباض قلبه ذاك أهو خائف من المواجهة كل هذا الخوف ؟! أم انه اشتاق لرؤيته فهو لم يراه منذ عشر سنوات ؟! أم لسبب أخر يجهله ؟! ، هز رأسه بقوة نافيا لتك الأفكار الحمقاء فهو مستعد جدا للمواجه ولم يشتق له أبدا ولا لرؤيته الخائن الذي خانه هو وفارس وولى هاربا منقذا لنفسه فقط ولم يفكر في غير نفسه ذلك المغرور الأناني ، قاطع جاسم حبل أفكاره التي داهمته وهو ينظر إلى قفاه الذي لم يستدير ليواجهه وشعر حينها بأن هناك خطبا ما :
- كن قويا يا سيف كما عهدتك دائما ..
استدار سيف بوجهه فقط فالتقت أعينهم حين غضن جاسم جبينه مستنكرا تلك النظرة التائه والتي تحولت سريعا لنظرة قوية لم يخفى عليه بريق الحقد فيها بوجهه الشاحب وتلك القطرات الصغيرة التي تجمعت أعلى جبينه دليل على انه يمر بحالة نفسيه من الصراع الداخلي الشديد وضغط عالي وقال وكم بدا مشتتا وضائع بعد هزه خفيفة من رأسه :
- لم اصبر كل هذه المدة وأسعى جاهدا لأجلها لأضعف عند آخر لحظة سيدي ..
واختفى من أمامه بسرعة وكأنه ذاب في الهواء حين ارتفعت زاوية شفتي جاسم بابتسامة تهكمية وتمتم لنفسه قائلا :
- أنت ورقتي الرابحة يا سيف خصوصا بعد أن علمت مالذي كان يخفيه عنا ذلك الفارس النابغة ..
ثم أكمل بعد ضحكة صغيرة لم تعبر إلا عن شعوره بنشوة الانتصار :
- أنت جسر عبور يا سيف لأصل لرغباتي الشخصية ليس إلا ..
فانطلقت ضحكاته العميقة والتهكمية ذات النغمة الخبيثة وهو يستدير ويسير ببطء نحو الرفوف الخشبية الكثيرة ليخرج كتابا يقرأه ويسلي نفسه به إلى أن يحين الوقت الموعود للخروج ومواجهة التحدي الكبير الذي سيشهده العالم بأكمله .










نهاية الفصل , قراءة ممتعة لكم أحبتي ..
بقلم محبتكم : روح الوسن ..

روح الوسن .. 29-03-20 07:51 PM

.. الفصل السادس عشر ..

.
.

[ زيارة العيادة ]

.
.

يجلس على العشب الأخضر على تل صغير بعيدا عن الكل وضجيجهم الذي لطالما كرهه ، ناصبا ركبته أمامه يرح مرفقه عليها بينما يده الأخرى تلعب بسكين يمررها من بين أنامله الطويلة بتناغم شديد وبكل خفه وحرفيه ينظر إلى أسفل التل حيث تجمعات الناس يراهم يتحركون دون توقف ويتساءل كيف لهم أن يعيشوا بهذه العشوائية وفي وسط الإزعاج الدائم ؟! ، شاحب الوجه خصلات شعره البنية تتراقص مع نسمات الهواء العليلة ، قطب حاجبيه منزعجا وتنهد بضيق عندما أحس أحدا يقف خلفه كم يكره أن يجتاح أي شخص عزلته وهدوئه الذي يحب أن يحيط به نفسه دائما ، التفت ذراع رامي حول عنق وسام وهمس في أذنه بعد أن جلس بجانبه :
- آسف يا وسام إن كنت ضايقتك في طلبي لك بالقدوم إلى هنا ..
أشاح بوجهه ولم ينطق بأي كلمة ، قال رامي بعد أن طال صمته يمد إليه بيده الأخرى التي تمسك بكأس العصير :
- تفضل عصيرك الذي طلبته ..
ثم تابع يرمقه بخبث بابتسامة ساخرة :
- الآن أنت مدين لي بالمال فلا تنسى أني أنا من دفع ثمنه ..
نظر إليه ببرود ثم إلى العصير في يده ثم أعاد بنظره إليه وقال ببرود وكأن شيئا لا يعنيه :
- اشربه أنت إذا ..
هز رأسه مبتسما وقال :
- كانت جنى تصر على أن تحضره لك لكني أصررت بأني أنا من سيأخذه لك ويبدو لي بأني تسرعت ليتها هي من أحضرته كي تشربه ولا ترفضه ..
وما أن أنهى جملته حتى اتسعت عينيه متصنما في مكانه مجفلا بصدمه حين استل وسام الكأس من يده بسرعة فاقت سرعة الصوت ورماها من أعلى التل بطول يده ولم يسمع إلا صوت تكسر الزجاج وتفتته وانسكاب العصير على الأحجار بعد أن تطايرت قطراته في الهواء ، ابتلع رامي ريقه وقال بابتسامه صفراء ومعالم الخوف والدهشة لا تزال عالقة في قسمات وجهه:
- اسحب كلامي الحمد لله أنني لم اتركها تأتي لكانت جثه الآن أسفل هذا التل ..
ففاجأه وسام هذه المرة بأن ابتسم نصف ابتسامه وهو ينظر للبعيد قائلا بهمس متهكم ساخر :
- نعم وكان الآن أنت تبكيها كالأطفال وتطلب منها ألا تترك وحيدا ، فأنت لن تستطيع العيش بدونها طبعا ..
ضيق رامي عينيه بضيق شديد مكتفا ذراعيه لصدره هاهو وسام لازال يسخر منه ويغدقه بالكلام المعسول مرة أخرى وكأنه يتسلى به وبمشاعره ، يعلم تماما بأن وسام من الذكاء أن يربط كل الحقائق حوله لينسج الحقيقة حتى لو لم يخبره احد بها فبالتأكيد انه يعلم بأنه يكن لجنى المشاعر والتي يبدو بأنها لا تهتم به ولا بمشاعره وتفضل صديقه عليه ، قال رامي بغضب :
- اخرس يا غبي يا منبوذ يا من لا تعرف شيء عن الحب وعن النساء بصفة عامة ، اشك بعض الأحيان انك إنسان بشري ..
قال آخر جملته لكي ينقض نفسه من الاهانات المتتالية ويسخر منه لكنه خاب أمله حين قال وسام ببروده المعتاد والذي يكرهه رامي بشدة وخصوصا الآن وهو لا يتوقف عن السخرية منه وكم تمنى بأن يلكمه على وجهه بقوة محطما وجهه الوسيم ذاك الذي خطف قلوب اغلب النساء لكنه تمالك نفسه بصعوبة بعد أن قال وسام :
- نعم فأنا تركتهم لك ..
أشاح رامي بوجهه بعيدا عنه مطلقا تنهيدة حانقة وغاضبة كادت أن تفجر له صدره إن لم تخرج ، طال الصمت بينهما ومات أمل رامي الكسير بأن يعتذر وسام له عما قال لكن لا اعتذار يلوح في الأفق كما يبدو ، تنهد مجددا ورمق الذي يجلس بجانبه على نفس الوضعية ولم يتحرك قيد أنمله ينظر في اللاشيء وكم يستغرب منه فمرات كثيرة دب الخوف في صدره لا يعلم هل الذي بجانبه حي يتنفس أم انه ميت لا روح فيه ؟! وكم يحسده على هدوئه المميت ذاك ، قال رامي بهدوء حذر يتأمل جانب وجه وسام :
- وسام مالذي جرى بينك وبين جنى ، اخبرني بالحقيقة ..
أفلتت من وسام ضحكة صغيرة وقال ساخرا يرمقه بعينيه العسلية التي اختفى اللمعان منها :
- لا تخف فلن اسرقها منك ..
زم شفتيه بغضب وكاد أن يتكلم لولا قاطعه وسام والذي بدا التردد واضح في تعابير وجهه بقوله بعد تفكير طويل جاهد نفسه على إخراج الكلمات التي يجهل معناها الحقيقي لكنه قد سمعها سابقا من احد الجنود في المعسكر وهم يتحدثون عن النساء ولكي يزيل أي شك عالق في ذهن رامي بأن بينه وبين جنى أي شيء اضطر لاستخدامها حتى لو لم يفهمها جيدا ويقتنع بها حينها قال:
- لا تقلق فهي ليست من نوعي المفضل إطلاقا ..
حينها لم يستطع رامي أن يمسك نفسه عن الضحك فانخرط في نوبة ضحك مجنونة كادت أن توقف له قلبه وتقضي عليه وقال أخيرا بعد أن استطاع إخراج الحروف من بين ضحكاته بصعوبة :
- وهل لديك نوع مفضل من النساء ؟! اقسم انك لا تطيق جنسهن بالكامل ولا تعلم عنهن أي شيء ولا حتى كيف تُنطق اساميهن ..
رمقه وسام ببرود معاكسا ما كان يتوقعه منه رامي وهو الغضب والزمجرة بالصوت العالي والدفاع عن نفسه ولم يتحدث بأي كلمة لأنه يرى بأنه ليس مجبر على توضيح وجهه نظره والبوح بكل ما يلوح في خاطره وهو أن يعيد لرامي بسمته كما يترك له تلك الشقراء ، فرامي محق هو لا يعلم عنهن شيء ولم يصبه الفضول الغريزي يوما لمعرفه أي شيء عنهن ولو الأمر بيده ما كان قابل أي منهن ولا حتى بالمصادفة ولا يعلم مالذي يخبأه له الزمن من أسرار ومفاجآت ، نهض ينفض الغبار عن معطفه وقال :
- هيا يجب علينا زيارة العيادة لتعقيم جرحك فأنا ألاحظك لا تستطيع تحريك ذراعك كما في السابق ..
ابتسم رامي لصديقه الذي مهما تشاجرا وغضبا من بعض إلا أنه يبقى يهتم به ويلاحظ كل تغيير يطرأ عليه والأهم بأنه يعلم كل شيء عنه ولا ينتقده وأكبر دليل هو رفضه التام لجنى وحتى النظر إليها أو التحدث معها لأنه يعلم بمشاعره نحوها فاحترمها بنبل أخلاقه وهو ليس بالغبي لكي لا يلاحظ كل ذلك حوله صحيح بأنه آذى جنى في كل هذا ولكنها يبدو بأنها تستحق فهي وشخصيتها المشاكسة لا يمكن التصرف معها إلا بتلك الطريقة لكي تتوقف عن تصرفاتها التي لطالما وسام نعتها بالصبيانية .

*****

تنهدت بارتياح وابتسامة جميلة تزين شفتيها الورديتان حين جمعت كل تلك الأوراق أمامها والتي وقعت عليها كلها بعد أن ملأت اسطرها بملخصات وتعابير لا يفهمها إلا من يمتهن مهنتها ، تنظر للأوراق بين أناملها البيضاء تدقق عليها كمراجعة أخيرة وكي لا تنسى أي شيء من أسماء المرضى الذين زاروها وأدويتهم الخاصة إلى بعض المستلزمات التي نقصت في العيادة ويحتاجون إلى المزيد منها فيطلبون من هم مختصون بها ليرسلوها لهم في الوقت المناسب ، لم تنسى أيضا التاريخ والوقت والجرعات التي صرفتها لمرضاها ولمرضى حسام أيضا فهي اليوم تقوم بالعمل في العيادة لوحدها وتستقبل جميع المرضى من رجال ونساء أطفال وبالغين وكم أنهكها ذلك رغم أنها لم تجتز إلا الفترة الصباحية وتنتظرها فترة الظهيرة إلى المساء ولا تعلم متى سيعود حسام ويرحمها من العمل قليلا كل ما تعلمه أنها يجب عليها أن لا تتكاسل في أداء عملها وتقوم به على أكمل وجه ، تمتمت لنفسها بابتسامة رقيقة تشبهها في صفاتها :
- لقد انتهيت ، كم هذا رائع ..
وختمت جملتها بضحكة صغيرة تشجع نفسها بها على العمل بجد ومواصلة يومها ولكي تبقى متنبهة ومستيقظة حتى وقت الظهيرة والتي كانت غالبا ما تذهب فيه إلى منزلها لأخذ قيلولة قصيرة يتوجب عليها اليوم البقاء طيلة الوقت فنهضت لتعد لها كوب قهوة عله يساعدها في استعادة نشاطها وحيويتها ، همسات منخفضة تبعتها ضحكات مكتومة لشخص يبدو بأنه مجبور على كتمان ضحكته تبع رنة الجرس الصغيرة المعلق على الباب الخارجي والذي يُعلق على جميع الأبواب للاماكن العامة كالمطاعم والعيادات وبعض الأسواق المغلقة ليعلن عن وجود زوار في الداخل جعلها تغضن جبينها باستغراب فلم يزرها احد لأكثر من نصف ساعة ولم تتوقع قدوم أي أحد الآن لأن غالبا ما تكون المراجعات للمرضى في الفترة الصباحية والمسائية فقط إلا إذا كانت حالة طارئة وهذا ما خطر ببالها متناسيه سماعها لتلك الضحكات والتي من المستحيل أن تكون لشخص حالته طارئة ، قفزت مسرعة في خطواتها لتتوقف فجأة مما جعل خصلات شعرها الأشقر الطويل تتطاير في الهواء في مشهد أذهل الشخصان الواقفان أمام الباب وإن لم يظهر ذو الخصلات البنية دهشته على ملامحه إلا انه يستحيل أن ينكر ذلك لكنه أخفاه بمهارة تحت قناع البرود الذي يلبسه دائما أما الآخر ففغر فاه بدهشة أكثر من كونه إعجابا بها لأنه كان يسخر قبل قليل من وسام وهو يكرر على مسامعه نفس العبارة بأنه أحمق وغبي ولا يعلم متى تغلق العيادة ومتى يسمح للمرضى بالقدوم لهم وكان يسخر منه بأنه هو من سيرتدي معطف التمريض ويقوم بتعقيم جراحه لأنه لا وجود للطبيب ويضحك عليه ساخرا لكنه صدم حقا بأن خرجت لهم هذه الفتاة والتي علم أنها ممرضة لأنها ترتدي معطف التمريض الأبيض ، في حين كانت الدهشة والصدمة من نصيب الواقفة أمامهم وعيناها لم تفارقا تلك الأحداق العسلية فهمست بعدم تصديق :
- و..وسام ..!!!
فنقل نظره من عينيها الزرقاء إلى ما خلفها إلى اللاشيء بسرعة ينظر ببرود بعينيه الباهتتين ، لم يرد أن يشيح بوجهه عنها فيؤذيها بحركته تلك لكنه حقا لا يعلم لما أراد الهروب من النظر إليها والى عينيها تحديدا ، تنقلت عينا رامي المفتوحة على اتساعها بدهشة ينقل نظره بينهما يعجز عن تركيب صورة واضحة في رأسه أو تكوين أي فكرة عما يجري حوله في فترة الصمت الطويلة التي وقعوا كالأسرى فيها ، قاطع ذلك الصمت همس وسام الذي جاهد نفسه فيه لأنه وُضع محط أنظار الجميع في موقف صعب يجب عليه الخروج منه بأي طريقة نظراتها المتسائلة والمنتظرة لردة إلى نظرات رامي المندهشة والمستغربة يكاد ينقض عليه ليعلم بما يخفي من الأسرار فخرج صوته عميقا رغم البرود الذي يلفه قائلا :
- كيف حالك مايا ..؟!!
اتسعت ابتسامتها وتقدمت نحوه دون شعور منها حتى وقفت أمامه مباشرة تنظر إليه بسعادة نظرة من كان ينتظر شخصا مسافرا وعاد بعد غياب دام لسنوات ، جمعت يديها أمام صدرها وقالت برقة :
- بخير يا وسام حقا أنا لا اصدق عيناي انك تقف أمامي بعد غيابك الطويل ..
نظر إليها بصمت لا يعرف بماذا يجيب أو ما هو التعبير المناسب الذي يقوله لها بعد هذه المدة من الغياب فهو كما قال عنه رامي سابقا لا يعلم عنهن أي شيء ولا يفقه في أمورهن الكثير ولا أحد يلومه على ذلك مع ذاك الماضي الصعب ولم يضع في حساباته بأنه سيجدها الآن لما اختار هذا الوقت فهو يعلم تماما بأنها تعود لمنزلها لأخذ قسط من الراحة فترة الظهيرة لكان أجل وقت تعقيم جرح رامي إلى المساء ربما ولم يصر عليه لكن الندم لا ينفع الآن بعد أن وقع ضحية ما يخشاه وهو مقابلتها شخصيا ، ابتسامة صغيرة كل ما استطاع فعله حينها فضحكت مايا ضحكة صغيرة على تعابير وسام التي عرفتها وعرفته منذ زمن طويل وهاهو ذا لم يتغير وتشك أيضا بأنه سيتغير .
- تبا لك أي حظ تملك يا رجل ..
كان هذا همس رامي لوسام الذي للتو خرج من صدمته بعد سماعه لمحادثتهم الأشبه بجمل ناقصة وغامضة لم يتبين منها أي شيء ، رمقه ببرود يعلم مغزى كلامه وفيما يفكر جيدا فقاطعته مايا قائلة بقلق بعد أن انتبهت لمكانها ولنفسها التي فقدتها للحظة:
- وسام أأنت مصاب ؟؟ هل تشكو من شيء ..؟!!
هز رأسه بخفة نافيا وقال بهدوء ينظر خلفها ولا زال يتجنب النظر لها :
- هل الطبيب حسام هنا ..؟!!
هزت رأسها بلا وقالت :
- لا لقد غادر منذ الصباح ، أتشكو من شيء يا وسام ؟! يمكنني مساعدتك ..
تنهيدة ضجر خرجت من الذي يقف بجانبهم وعلى ما يبدو بأنه أصبح هو والجدار الذي خلفه سواء لم ينتبه أحد له وكأنهم في لقاء تعارف بينهم فقط والمصيبة أنه هو المصاب وكل الاهتمام والسؤال عن الحال كان من نصيب وسام ، لا يعلم لماذا كل النساء يتجمعن حوله وكأنه زهرة والكل ينجذب لرائحتها العطرة يريدون امتصاص رحيقها العذب أما هو فلا يتلقى إلا الإهمال والاهانات منهن ، نظر وسام له بطرف عينه وهو يكتف ذراعيه لصدره يشيح بوجهه في الجانب الآخر وقال ببرود شديد يقصد مايا به :
- تعقيم جرح ليس إلا ..
نظر إليها وسبقها في الحديث قاطعا أي قلق ينتابها وردا على السؤال الذي علم بأنها ستطرحه بمجرد النظر في قسمات وجهها:
- لرامي وليس لي ..
أدركت حينها وجود شخص بجانبه هي رأته في الحقيقة ونظرت إليه لكن من دهشتها وصدمتها بأن وسام أتى وعاد للظهور بعد اختفائه أنساها وجوده فقالت بخجل وارتباك من موقفها الغبي :
- ا..أنا حقا آسفة سيد رامي يمكنني تعقيم جرحك إن لم يكن لديك مانع فالطبيب حسام ليس موجودا ..
تأفف بصوت مسموع وتجاوزها ماشيا يقصد الغرفة المخصصة للرجال والذي يكون بابها في الجهة اليسرى للباب المخصص للنساء قائلا بحنق :
- بالطبع ليس لدي مانع فأنا لست معقدا لا يقدر الآخرين وبما أنه لي وجود ولا أح...
فأوقفته تلك الأنامل الطويلة التي التفت حول معصمه موقفه له ليستدير رامي برأسه فقط وتلتقي عيناه بالذي رماه بنظرة تحذره من الاسترسال في الكلام لأنه يعلم تماما مالذي يريد قوله في حين تنهد بقلة حيلة وابتسم له بسخرية يربت على كتفه بخفة ساخرا يخبره بتلك الابتسامة أن لا يقلق على مشاعرها فلن يجرحها كما جرح هو جنى فتنهد حينها وسام مبتسما يهز رأسه بقلة حيلة من رامي الذي أصبح متأكدا بأن نهايته لن تكون إلا على يديه هو .






نهاية الفصل , قراءة ممتعة لكم أحبتي ..
بقلم محبتكم : روح الوسن ..

روح الوسن .. 29-03-20 07:53 PM


الفصل السابع عشر ..
.
.

[ بلوغ الحلم المنتظر ]
.
.

استوقفهما صوتها الرقيق منادية من خلفهما :
- وسام ..
فالتفت المعني بالنداء الخاص وصاحب العينين العشبية التي امتلأتا فضولا يرمق وسام بطرف عينه ساخرا يكتم ابتسامته ، نظر إليها ويداه سجينتي جيبي معطفه الأسود تنظر إليه فوقها لطول قامته مقارنة بها فقالت بعد أن أطرقت رأسها بخجل :
- لا تنسى زيارتنا فوالدتي لا تكف عن السؤال عنك ..
أخذت عيناه العسلية تتنقل في تفاصيلها وهي تطرق رأسها للأسفل قبل أن يرفع نظره عنها وينظر في الفراغ ، يشعر بدقات قلبه في جوفه نعم يشعر بها إحساس مات مع موت فارس ربما تدل على سعادته هذا الإحساس والشعور الذي لم يعرفه سابقا حتى عندما علم أن والده لا يزال على قيد الحياة أن يسأل عنك شخص ويهتم بك وكأنك إنسان لهو شعور فقده منذ زمن بعيد فعاش على أساس تلك الألقاب التي ينادونه بها ( الوحش ، الذئب المتوحش والمفترش ، عديم الإحساس والغير بشري ) ولا يستطيع حصرها لكثرتها لكنه يعلم تماما بأن هناك شيء يربط بين كل تلك المصطلحات وهو إخراجه من إنسانيته وإنكار كونه بشريا مثلهم ، رفعت رأسها تنظر إليه بترقب بعد أن طال صمته فابتسم لها كل ما استطاع فعله حينها هو الابتسام لها لكنه شعر بتلك الأعين التي تكاد تمزقه من سخريتها وعلم حينها بأن رامي لن يفوت هذه الفرصة للسخرية منه والتعليق الساخر عليه فقال بهدوء شديد واختصار أشد بنبرة صوته التي تسمع لها إيقاع خاص يميزها عن غيرها :
- سيكون ذلك قريبا ..
ابتسمت بسعادة وبكل براءة وأماءت برأسها إيجابا وقالت بعد أن استدارت قليلا توجه كلامها للآخر :
- وأنت يا سيد رامي يجب عليك تعقيم جرحك كل يومان لأنه لا يزال طريا نسبيا ولا يجب أن نكثر له المعقمات فمرة كل يومان كافيه تحت المراقبة وان تطور الأمر أكثر ستنتقل لخطوة أخرى ويجب عليك زيارتنا وسيقوم الطبيب حسام بواجبه نحوك ..
استدار وسام بسرعة ولا يعلم لماذا لكنها بمجرد أن ذكرت حسام شعر بشيء لا يعلمه فتوجه للباب خارجا وقال الذي كان يتبعه بنظراته المستغربة :
- حاضر حاضر أيتها الطبيبة ..
وأكمل بعد أن توجه خارجا لكي يدرك وسام بسرعة :
- شكرا لك ووداعا يا طبيبة ..
فابتسمت لقوله لها بأنها طبيبة وهي لا تزال تتعلم ولم تتعدى كونها ممرضة تساعد الطبيب حسام ، تنهدت بسعادة غمرت قلبها وتوجهت لكوب قهوتها التي أصرت عليهما الشرب منها فرفضاه وذلك لضيق الوقت لديهما ، سحبته وجلست على الكرسي الخشبي تنظر إلى النافذة الزجاجية الطويلة جانبها تتلذذ بكوب قهوتها فهاهو المكان الذي كان أشبه بالحلم المستحيل لتواجدها بداخله هي تجلس الآن فيه بكل يسر وسهولة واطمئنان وراحة لم تتخيل يوما بأنها ستمتهن مهنه التمريض أبدا بعدما علمت برفض والدتها الشديد للفكرة وتستغرب من ذلك وتتساءل في نفسها عن السبب ووالدتها كانت قبل زمن ليس ببعيد تُعد امهر طبيبة على مستوى البلدة كاملة وهي أحبت ذلك من والدتها وتعلقت بذلك الحلم بشدة فأصبحت تراه في يقظتها ونومها تهذي به ، ولم يكن موقف والدها حينها معارضا كوالدتها لكنه كان تائها لا يعلم مالذي يجب عليه فعله وهذا ما لاحظته من محاولاته العديدة في تجنب فتح الموضوع دائما ، ولا تعلم كيف جرت الأيام والشهور بعدها حتى أتاها والدها يوما من الأيام عند بلوغها سن العاشرة يخبرها عن عيادة فتحت في البلدة ويحتاجون إلى ممرضة للمساعدة لم تستطيع حينها أن تصف سعادتها فلقد أحست بأن الأرض لا تسعها لحملها من سعادة قلبها الصغير ولا صدمتها من الأمر الذي يئست منه من أيام ليست بالقليلة فقد فقدت الأمل من تحقيقه ولا شيء حولها يساعدها شعرت بأن كل أحلامها سقطت وتحطمت ولم تعد تدري مالذي يجب فعله حينها ، فما كان عليها إلا أن تقفز لحضن والدها باكية ولم تحرم والدتها أيضا من ذلك الحضن ولم تتوقف عن البكاء وشكرهم وسؤالهم لماذا حتى علمت أن والدتها ووالدها أيضا راضيان عنه وأنهما ليسا بغاضبين واختارا ذلك بمحض أرادتهما وأدركت حينها أنها بلغت الحلم المنتظر ، ابتسمت بسعادة ترتشف القليل من كوب قهوتها الساخن تبعد خصلات شعرها عن مرمى نظرها بيدها الأخرى تتأمل الخارج من خلال النافذة وعادت بها الذكرى إلى أول لقاء لها بوسام وهو ابن الخامسة عشر بعد أن علمت بأنها ستذهب للعيادة صباح اليوم التالي تتعلم التمريض من الطبيبة الوحيدة والموجودة فيه لتكون أول ممرضة ومساعدة لها وهي ابنه العشر سنوات وما فاجأها حقا ليس رؤيته بعد غياب طويل كما حدث اليوم بل أول ما قاله لها ببروده وهدوئه المعتاد عيناه العسلية تحاصر حدقتيها الزرقاوتان قائلا :
- لماذا لا تزال الطبيبة مستيقظة حتى الآن ..؟!!
قابلها عندما كانت في حديقة منزلهم بعدما غابت الشمس تسقي بعض الأعشاب التي زرعتها بنفسها ولا تعلم أكان سؤالا حينها أم تهديدا منه لها لكن ذلك لم يكن مهما بالنسبة لها فأفلتت منها ضحكة مستغربة وقالت وعلامات التعجب تظهر أعلى رأسها ولم تتساءل عن وجوده في حديقة منزلهم :
- وما أدراك بأنني سأصبح طبيبة .. ؟!!
تنقلت نظراته الباردة حولها في كل شيء وكأنه ارتبك أو تردد في الكلام وقال بهمس :
- لأنها لا تناسب غيرك ..
فابتسمت له بسعادة فوسام كان الشخص الوحيد الذي لم تخبره بما تتمناه أن تصبح عليه عندما تكبر خشية أن يسخر منها كما الجميع ورغم ذلك كان الوحيد الذي إذا جُرح ناداها لتداويه وكأنه يعلم بحبها الشديد للتمريض رغم خجله الشديد الذي كان يظهر عليه فيبقى طيلة الوقت يشيح بوجهه بعيدا عنها مغمض العينين إلى أن تنتهي من تضميد جرحه سواء كان في يده أو رجله ولا تعلم لماذا وكأنه يجبر نفسه على فعلها ، وكادت تقفز لحضنه من فرط سعادتها حينها فهي كل من مر عليها ذلك اليوم بعد سماع ذلك الخبر السعيد من والديها أصبحت تحتضن كل من تراه وتمر به في طريقها حتى الجدران وأبواب المنزل لم ترحمهم ولم تحرمهم من دفئ حضنها لكن سيطرتها تلك ذهبت أدراج الرياح من تلك المشاعر التي تدفقت في صدرها تغمر قلبها بسعادة وهي تقفز لحضنه تضمه بسعادة وتقول بين ضحكاتها على شهقته التي سمعتها رغم خفوتها من صدمته لفعلها :
- تفسد المفاجآت دائما أنت يا وسام ..

******

في تلك الغرفة واسعة الأركان ساطعة الإضاءة التي خصصت للاجتماعات العائلية فقط تتوسطها طاولة دائرية من الخشب العتيق في منتصفها تتوزع عليها الكراسي الخشبية المنحوتة بكل حرفيه موضوع على كل كرسي وسادة محشوة من القطن الطبيعي مغلفة بالحرير الخالص لتعطي كل من يجلس عليها شعورا بالراحة وإحساسهم بحياة الرفاهية ،غرفة كبيرة وواسعة مجهزة بكل إتقان ، هذا ما كانت عليه قبل أن ينعقد ذلك الاجتماع والذي انتهى بإعصار هائج وثائر قلب كل تلك المعالم الجميلة والفنية إلى دمار كان أشبه بعراك قوي وحرب دارت في الغرفة وليس اجتماع عائلي ، الأوراق مبعثرة في جميع الأرجاء والكراسي مرمية على الأرض بعشوائية بحته ، إحدى الزهريات مكسورة إلى قطع صغيرة اختلطت بزجاج الأكواب المكسورة حتى الورد الذي كان يزين تلك الأركان وينشر رائحته العبقة في الأرجاء لم يسلم منهم بل تنتفت وريقاته ذات اللون الأحمر القاني لتغطي الأرضية المبلولة بالماء والعصير اللذان امتزجا معا في بقعة كبيرة ، هدوء مميت سيطر على الأجواء حينها لا يُسمع إلا صوت شهقات خافتة متتالية للتي تخبئ وجهها كما دموعها بين كفيها ترتجف بقوة لا تعلم من بقي لها حيا من عائلتها ومن مات بعد تجمعهم فجأة هكذا ودون أي سابق إنذار تفارقوا بعد تلك الخصومة والتي تلوم نفسها فيها كثيرا لأنها كانت محور حديثهم بجانب الأحاديث الأخرى الكثيرة المتنوعة والمتفرعة ، تشعر بقلبها يتمزق لأشلاء صغيرة فلم يتبقى أحدا غيرها في تلك الغرفة ولم تستطع ولا حتى العودة إلى غرفتها ولا إلى والدتها قدماها تصلبتا ولم يعد بإمكانها الحركة تمر كل تلك الأحداث أمام عينيها دون توقف ولا تعلم ماذا تبكي بالضبط هل تبكي الأخبار السيئة التي نقلها لهم والدها عن اضطراب الإمبراطورية ؟! أم تبكي العراك الذي دار بين طارق وحسام وكل واحد منهم يذكر الآخر بواجباته وبمسؤولياته التي يجب أن يلتزم بها ؟! أم تبكي القرار الذي قرره والدها وهو تزويجها بحسام حسب قوانين العائلة الحاكمة بحكم أنها الفتاة الوحيدة وهو ابن عمها ؟! أم تبكي رفض حسام الصريح لها ولم يهتم بمشاعرها رغم أنها لم تفكر ولا حتى التفكير به وبأن يكون زوجا لها في يوم من الأيام لكنه جرحها بعنف وأمام والدها وشقيقها وهو يصرح برفضه لها كما انه طعن أنوثتها بدون أي اكتراث ولم يحترم حتى عمه ولم يقدر كبر سنه ولا حتى منصبه وكونه الإمبراطور بغض النظر عن شقيقها الذي لا يكاد يراه ولا تعلم سر كل هذه العداوة بينهما ، نهضت بعد أن خف بكائها قليلا تكفكف دموعها العالقة في رموشها الطويلة تسير بخطا واهنة تستند بالجدار بجانبها خشية أن تفقد القدرة على السير وتقع أرضا وسرعان ما عادت تلك الدموع بالتجمع في مقلتيها عند رؤيتها لوالدتها التي خرجت من أول الممر ففقدت أي قدرة على الصمود ووقعت أرضا تمد يديها لوالدتها وكأنها طفلة تطلب حضن والدتها حين شهقت الأخرى بصدمة من رؤيتها بتلك الحال وعلمت أن الذي كانت تخشاه طيلة الوقت قد حصل وأسرع مما تتوقع ، ركضت نحوها حتى جلست أمامها ساحبة لها لتستقر في حضنها تشاركها بكائها الصامت دون أن تنطق أي كلمه تمسح على رأسها وظهرها بحنان فقالت بعد صمت :
- توقفي عن البكاء يا قلب والدتك ، توقفي أرجوك ..
ولم يزدها ذلك إلا بكاء على بكائها وهي تعلم أنهم يريدون إبعادها عنهم وكم تخشى من حدوث ذلك قريبا بتزويجها لذلك الرافض لها رغما عنها وعنه ولن تستطيع ولا تصور حجم البؤس الذي ستمر به حينها وأي حياة تنتظرها ، تعلقت بثياب والدتها وقالت بارتجاف بين دموعها :
- أبي وشقيقي وحسام غادروا ولا اعلم مالذي حدث لهم لقد كانوا غاضبين جدا ..
أبعدتها عن حضنها وأخذت تمسح لها دموعها وقالت :
- لا تقلقي يا صغيرتي والدك رجل حكيم لن يتصرف بتهور أبدا ..
قاطعتها برفض تام وهي تهز رأسها نفيا وقالت بحرقة :
- لم تريهم يا أمي لم تريهم لقد تغيروا فجأة وشككت لحظتها بأني اجلس مع عائلتي ..
شهقت شهقتين متتاليتين اثر بكائها وأكملت قائلة :
- اقسم يا أمي أنهم كادوا يتقاتلون ولم يفكروا ولو للحظة بأنهم عائلة واحدة ..
تنهدت السيدة ميادة بقلة حيلة وهي تعلم تماما بأن زوجها عامر هذه الأيام أعصابه مشدودة على غير العادة ولا تعلم ما به بالضبط ، وقفت وأوقفت زهرة معها تحوط كتفيها بذراعها تحثها على السير قائلة لها ومطمئنة لقلقها :
- لا تقلقي يا صغيرتي لا تقلقي لن تكون الأمور إلا على خير ما يرام ..



نهاية الفصل , قراءة ممتعة لكم أحبتي ..
بقلم محبتكم : روح الوسن ..

روح الوسن .. 29-03-20 07:56 PM

.. الفصل الثامن عشر ..
.
.

[ نقطة تحول ]

.
.

ركض مسرعا وقال بنفس متقطع :
- هيييه وسام توقف ..
توقف وسام فجأة وكأنه تذكر انه ليس وحيدا وانه ترك رامي خلفه فقال رامي بعد أن وصل إليه يقف بجانبه :
- مهلك يا رجل ما هذا كدت أن أقع وأتعثر بسبب سرعتي لماذا طرت فجأة هكذا .. ؟!!
تجاهله واستدار ولم ينطق بكلمة فمزاجه لا يمكن وصفه ، تنهد رامي بقلة حيلة من وسام ومزاجه المتقلب منذ الصباح الباكر والذي يجهل سببه وكم يتمنى بأن يعلم وبأي ثمن ، قال متسائلا عله يفهم فيما يفكر وسام بفعله :
- إذا يا وسام إلى أين ستذهب .. ؟!!
قال بنبرة باردة لم تحمل أي معنى ونظره على الطريق أمامه :
- لا تدريبات اليوم كما لا توجد مهام خاصة لنا لذلك انتهى يومنا ولا تنسى غدا يوم عطلة ..
أطلق رامي صوتا دليل تذكره وقال بعد أن هز رأسه إيجابا وكأن وسام يراه :
- أها صحيح ، هل ستذهب إلى منزلك ..؟!!
رد عليه سريعا ببرود في محاولة إنهاء أي حديث يفتحه رامي لأنه يعلم تماما بأنه لن يتوقف عن ثرثرته المعتادة في المهم والغير مهم ولا مزاج لديه لصخبه ذاك :
- أجل ..
أسند رامي ذراعه على كتف وسام متجاهلا بروده واختصاراته في الكلام وقال ناظرا لجانب وجهه القريب ينظر إليه بمكر :
- وسام من تلك الممرضة الجميلة وكيف عرفتك .. ؟!!
ضحك بعدها ضحكة صغيرة وقال ولا زال ينظر إلى وسام بمكر قائلا بنبرة خبيثة عيناه تتنقلان في تفاصيل وجهه تدرسان أي رد فعل له :
- اقسم أنها كادت أن تقفز لحضنك من شدة سعادتها برؤيتك ، هيا اعترف من تكون ومنذ متى وأنت تعرفها ..؟!!
رمقه وسام بنظرة حادة قوية فها قد ابتدأ رامي بسرد خرافاته وتفاهاته وسخرياته اللاذعة والتي تحتاج لمعجزة لإيقافه ، تمتم بغيض قائلا :
- اخرس ولا شأن لك ..
انطلقت ضحكة رامي عاليا وقال بدون استسلام :
- اقسم أنني لن أرحمك فمن تكون هيا اخبرني لتتخلص مني ..
قال بلا مبالاة ودون أي اكتراث وببرودة الصقيعي المعتاد بعد أن تيقن أن رامي لن يدعه وشأنه ولن يستغرب بأن يرسم رسومات لها وله ويلصقها في شوارع البلدة ويكتب عليها إعلان هام أو خبر عاجل لكي يجبره على الاعتراف :
- ابنه الضابط جميل تكون تلك ..
شهق بقوة وعيناه شاخصتان من الصدمة ، توقف في مكانه ولم يستطع أن يتجاوز الصدمة التي كانت وكأنها صفعة صفعت وجهه بينما وسام أكمل سير خطواته الهادئة ولم يعطي رامي أي وقت لتلقي الصدمة بل رماها في وجهه وغادر عله يرتاح منه قليلا ، صرخ رامي بقوة عندما ابتعد وسام عنه وقال راكضا نحوه بعد أن استفاق لنفسه :
- مهلك يا رجل مهلك أتقول الحقيقة ..؟!!
تنهد وسام وقال بنبرة بدا فيها الضيق :
- رامي كف عن الصراخ لقد ألمت لي أذناي ..
قطب حاجبيه منزعجا وضرب كتفه بخفة وقال :
- يا رجل أعطني فرصة لأنصدم ..
ثم أكمل قائلا وهو يهز رأسه بخفه لا يزال تحت تأثير الصدمة :
- لا اصدق بأن تلك الفتاة تكون ابنته يا الهي جيد بأنني لم أتغزل بها لكان رأسي الآن عند والدي وجسدي منصوب في ساحة التدريب ويصبح عبرة لمن يعتبر ..
لم يستطع وسام إخفاء شبح الابتسامة التي ظهرت على ثغره رغما عنه وقال ببرود :
- ليته فعل ذلك لكي أتخلص منك يا مزعج ..
قهقه رامي بسعادة ويده تلتف حول عنق وسام وقال بمشاكسته المعتادة يهمس في أذنه :
- لن تتخلص مني بسهولة يا حبيب القلب ..
شتم وسام هامسا وقال بخفوت حانق :
- تلك الجنى ذهبت بعقلك ، سحقا لك ولها ..
أطلق صوت صفير دليل إعجابه وقال بنبرة مبتسمة يرفع حاجبيه للأعلى :
- اقسم أنها تعدل لي مزاجي دائما وكأنها كوب قهوة لذيذ ..
تمتم وسام بعبوس :
- تناسبان بعضكما جدا تزوجها وانقشع عني وأرحني من هذيانك بها طيلة الوقت ..
صرخ به قائلا برجاء طفولي وملامح يائسة وضيق مصطنع كم يحترف في رسمها على وجهه :
- هييه وسام بالرفق على قلبي الصغير ..
هز رأسه بيأس وقلة حيلة فهاهو رامي يسجل انتصاره كالعادة في جعله يتحدث ويخرج عن صمته وعزلته التي لم ينزعج هو نفسه منها أبدا ولا يعلم لماذا ينزعج رامي من صمته ومن المفترض انه هو من ينزعج من ثرثرته الدائمة بما يفيد وكثير مما لا يفيد في شيء ، قال رامي في محاولة أخرى لاستجواب وسام :
- اخبرني متى ستذهب لزيارتهم ..؟!!
رفع وسام كتفيه بمعنى انه لا يعلم أو لا يهتم بالأمر فعلم رامي أن وسام قد انتهى مخزون الكلمات لديه لليوم ، لا ينكر بأنه حقق انجاز عظيم يجب عليه أن يتوج نفسه به بأنه اخرج وسام من صمته وعلم عنه اليوم الشيء الكثير فهو أشبه بصندوق حديدي مغلق لا تعلم مالذي بداخله .
- هل انتهى تحقيقك معي أخيرا ..!!
فاجأه بتلك الكلمات التي كانت أشبه بسؤال هامس تهكمي واستفزازي في نفس الوقت فابتسم له وقال :
- نعم نعم لكن لا تحلم بأني سأنسى كل ما جرى اليوم ..
فابتعد عنه عند وصولهما إلى خط سير الأحصنة والعربات ولوح له بيده وقال :
- سأذهب الآن إلى المنزل فهناك أمور عالقة لا بد من حلها سريعا ..
رفع وسام يده ببطء يبادله التحية وسرعان ما أعادها سجينه جيبه لينحرف مساره إلى طريق خالي ليضمن عدم وجود أي إزعاج فيه من أي نوع فهو اليوم بالذات مر بضغط عالي يكاد رأسه ينفجر فلا بد من وقت مستقطع ليرتاح فيه فبداية تلك الضغوط كانت من المعسكر لكلام القائد رائد عن الحدود الجنوبية وحل مشاكلهم بنفسه لاختفاء وتغيب الضابط جميل وهو لم يفعلها سابقا لذكرى فارس التي تقتله بالبطيء وتلك الجنى المجنونة بتصرفاتها الاندفاعية والتي لطالما كرهها فيها وأخيرا مايا التي لم يراها منذ قرابة العامين لا يعلم لماذا لكنه يهرب من نفسه أكثر من كونه يهرب منها ومن مواجهتها ، أشياء كثيرة ذكراها كفيل بجعل الصداع المفاجئ يداهم رأسه مجددا وبقوة اكبر جعلت منه يطلق آآهه متألمة ومتعبة ومتوجعة في حين بدأ جبينه بالتعرق وهذا إنذار خطير ينذره بأنه سَيُسحب لتلك الظلمة التي تبتلعه ، لا زالت تلك النوبات السوداوية تؤرقه ولا تكاد تبتعد عنه وتخلصه ، تعالت أنفاسه وبدأت طبقة شفافة بيضاء تحجب عنه الرؤية يحس بجسده ينهار شيئا فشيئا وتذكر حينها انه لم يتناول أي شيء منذ يومين وهذا ربما له التأثير الأكبر في ذلك الخدر الذي أحس به في أطرافه ، هوى على الأرض يسند ركبتيه ولا زال يقاوم الألم الشديد يمسك رأسه بقوة ويغلغل أنامله الطويلة في خصلات شعره يشدها بقوة للخلف يستجدي بذلك المقاومة يحني برأسه للأسفل وفجأة ذهب ذلك الصداع المفاجئ بمفاجأة أخرى وفي لمحة البصر عندما أحس بتلك الذراعان النحيلتان تلتف حول رأسه تضمه إلى صدرها فرفع رأسه بسرعة مجفلا بصدمة ليرى تلك الطفلة الصغيرة ذات الشعر البني الباهت والتي أبعدت يديها بسرعة تضمها إلى صدرها عيناها تترقرق الدموع فيها ، طفلة لا تكاد تتجاوز الأربع أعوام من العمر قصيرة ووجهها ممتلئ خداها متوردان من شدة البكاء ، ينظر إليها بدهشة رُسمت على تقاسيم وجهه ولا يعلم من أين خرجت له هذه الطفلة ومالذي تفعله هنا فهو لم يرى يوما طفلا بهذا القرب من جميع النواحي لمساتهم الناعمة ونظراتهم البريئة كما بكاؤهم المزعج لكن ذلك لم يكن صادما له بقدر صدمته عندما همست ببحة بكاء بصوتها الطفولي تنظر إلى عينيه :
- بابا ..

*****

جمع الأوراق المبعثرة من على سطح مكتبه الخشبي ووضعها في حقيبته الملقاة أرضا بلا مبالاة ، توجه بعدها إلى الخزانة فتحها ببطء شديد يجاهد نفسه كل ثانية على أن لا ينهار لكنه مصمم وعازم على أمر واحد وسيفعله مهما كلفه الأمر ، نظر بعينيه العشبية داخل خزانته يتنقل بنظراته الحزينة والباهتة والمكسورة بين حاجياته ، ملابسه ومعاطفه بعض القبعات التي كان يحب ارتدائها أحذية بجميع الأشكال والألوان حقائب والكثير الكثير من الحاجيات التي كانت تنتظر بشغف أن تقع نظراته عليها لكنه خذلها كما خذله اقرب شخص له ولقلبه ، أغلق باب الخزانة بقوة يمنع نفسه من النظر إلى ما خلفه وكل ماضيه يرفضه بشدة ولا يعلم بأنه لن يستطيع فعلها بسهولة فهو لا زال مسيطرا عليه إلى اللحظة فتنهد بألم يرفع رأسه عاليا يرتجي الصمود والكثير من الصبر لتعانق نظراته سقف غرفته التي شهدت كل أفراحه كما انكساراته ، الثريا المعلقة في وسط السقف الذي لطالما نظر إليها وهو يرسم مستقبله في ذهنه عاليا شامخا لا يخشى شيئا وكم تخيله جميلا مدهشا ، تنهد هامسا لنفسه بعد أن أغمض عينيه ببطء لتبتعد كل تلك الأفكار والذكريات عن رأسه :
- توقف يا رافع هيا توقف ..
زفر بقوة شادا قبضتيه وسار نحو الباب الذي فضل إغلاقه والبقاء بين جدران غرفته وعزلته ونفي نفسه عن الجميع ، مد يديه ولم يستطيع إخفاء الرجفة التي سرت في جميع جسده المنهار انه يقدم على خطوة كبيرة جدا وقد تكون نقطة تحول كبيرة في حياته ولا يضمن نتائجها أبدا فقد تكون النتائج المترتبة عليها سيئة للغاية وسلبية ولكنه سيفعلها نعم لقد عاهد نفسه بتنفيذها وهذا ما سيفعله بالتأكيد ، فتح الباب وأحس بأنه يسحب جبلا كبيرا وثقيلا عن مكانه وليس مجرد باب فابتسم بسخرية على حالته المتردية وطاقته المسلوبة كم يبدو مثيرا للشفقة هذا هو ما كان يردده في نفسه (مثير للشفقة ويستحق السخرية من الجميع أيضا) ، خطا خطواته الأولى خارج غرفته وأحس بأن حتى الهواء تغير ليس كما في غرفته التي كان فيها الهواء أشبه بسُم ينتشر في جوها الكئيب ، نظر حيث مصدر الصوت العالي الذي كان أشبه بشجار وصوت ارتطام الأواني ببعضها ولم يستطع إخفاء شبح الابتسامة الباهتة التي ارتسمت على شفتيه فكم اشتاق لسماع تلك الأصوات عندما سمع شقيقته الشقية تقول باحتجاج رافض :
- لا يا أمي لن اغسل الأواني اليوم أيضا يكفيني أسبوعا كاملا وأنا اعمل كالخادمة في هذا المنزل البائس ..
قالت والدتها بغضب :
- لقد أفسدناك أنا ووالدك بتدليلنا الزائد لك وهذه نتائج أفعالنا ..
تقدم نحو المطبخ بخطوات هادئة مجتازا الردهة الكبيرة والواسعة المجهزة بأفخم الأثاث وأجمله لتظهر له تلك الشقراء التي ترتدي فستانا ورديا طويل ترفعه في عقدة تربطها في وسطها لتتمكن من السير بحرية أكثر كاشفا عن ساقيها ترفع أكمامها إلى مرفقيها وتضع رباط قماشي ترفع به غرتها عن وجهها وتمسك بالملعقة في يدها وهي تلوح بها في الهواء أمامها وتقول بغضب :
- أي تدليل هذا يا أمي وأنا اعمل طيلة الوقت حتى المتاجر لا تدعيني اذهب إليها ..
ثم نظرت إلى فستانها وقالت والدموع تتكدس في عينيها العشبية الواسعة :
- حتى هذه الملابس البالية لا أجد بديلا لها وكأننا فقراء وليس والدي اكبر تاجر على مستوى الإمبراطورية ..
تأففت الأخرى وهي تستدير نحو الخزانة تخرج أطباقا زجاجية منها وهي تقول بضيق لم تستطع إخفائه :
- لا اعلم ما هذا العقل الذي لديك يا رنا أقول لك ساعديني في غسل الأواني وتقولين أريد ثياب هل هذا ردا على ما قلته لك ..!!
قالت ببحة وهي تمسح دموعها بذراعها بحركة طفولية أضحكت الواقف بقرب الباب يراقبهما خفية :
- رامي مدلل والده ذاك هو من سيغسلها وليس أنا فاليوم إجازته ، هل أعجبك ردي هذا أم أغيره أمي ..؟؟
نظرت إليها نظرة حادة ولم تتكلم فكتفت ذراعيها لصدرها تمط شفتيها بعبوس فتنهدت الأخرى بقلة حيلة وقالت وهي تطفئ موقد النار :
- هيا هيا كفي عن هذا وكأنك طفلة ..
رفعت القدر من على النار وأخذت تسكب الحساء في الأواني الزجاجية الصغيرة وقالت بعد أن طال صمت رنا ونظرها على ما تفعل :
- هيا تحركي يا رنا ولا تقفين كالتمثال فهاهو طبقك المفضل أعددته لك خصيصا ..
قفزت تضمها من الخلف على ضحكة والدتها المصدومة وقالت بسعادة وكأنها ليست الغاضبة قبل قليل :
- أحبك يا أروع أم في الوجود ..
ضحكت الأخرى تهز رأسها بيأس وبقلة حيلة فهذه ابنتها رنا التي عرفتها متهورة ومندفعة وحساسة ولا تنكر بأنها غبية وتصرفاتها كلها تتمثل بالحماقة والعشوائية ، التفتتا كلتاهما سريعا نحو الباب ينظران بأعين متسعة من الدهشة بعد أن تنحنح رافع والذي كان يقف عند الباب بصوته الرجولي العميق لتعم لحظة صمت أحستا بأنها طويلة جدا قاطعها الذي اغتصب ابتسامه صغيرة عندما طال تحديقهم المصدوم به قائلا بنبرة خافته لم يتخلص من آثار الحزن والانكسار فيها :
- ما هذه الرائحة الشهية يبدو بأننا سنتناول اليوم أجمل وجبة غداء على الإطلاق ..
لكن تلك الكلمات لم تؤثران بهما فهما مازالتا تحت تأثير الصدمة وكل ما كان يدور في عقليهما هو هل هذا رافع يقف أمامهم أم خُيل إليهم ؟؟ هل خرج من سجنه ومنفاه أخيرا وبعد شهور عدة يرفض فيها حتى تناول وجبات الطعام معهم والخروج للتنزه معهم والأكثر صدمة كانت تلك الابتسامة البخيلة التي تصدق بها عليهم أخيرا وصوته الذي حُرموا منه أيضا هاهم يسمعونه مجددا ، موقف رغم بساطته إلا انه كان كفيلا بتيبس عظامهم وسلبهم القدرة على الكلام ، أرخى رافع نظره بعد أن قرأ في صمتهما مدى دهشتهما وعدم تصديقهما للأمر فأحس بانقباض في صدره لا يعلم هل أصبح الكل يرفضه ويرفض الحديث معه ؟! أم انه أصبح رمزا للفشل والخسارة لذلك يتجنبونه ويتجنبون الحديث معه ؟! قطع كل تلك الوساوس الشيطانية التي كادت أن تفتك بحياته تلك الذراعان التي التفتا حول عنقه تضمه إلى صدرها بقوة رغم قصر قامتها مقارنة به لكن ذلك لم يمنعها من ضمه بقوة ترفع نفسها على أطراف أصابعها ولم يكن لها القدرة على التحكم في دموعها أبدا والتي إنسابت على خديها تعلن للجميع مدى سعادتها وفرحتها التي لا يمكن أن تصفها مهما حاولت ، قالت بهمس محب وهي تضمه لصدرها أكثر :
- يا قرة عين والدتك ما هذا اليوم الجميل الذي أراك فيه واسمع صوتك لماذا يا بني تحرمني حتى من رؤية وجهك المنير ..
كان مصدوما بالكامل فأخر رد فعل توقعها من والدته هي هذه ، رفع يديه وضمها بعد أن انحنى قليلا نحوها وقال لها بهمس مكسور لكي لا يسمعه احد غيرها :
- سامحيني يا والدتي فهذا الذي تعتبرينه أبنك فاشل في كل شيء في حياته ..
زادت من ضمه بقوة تهز رأسها نفيا ولم تنطق بأي حرف ليس لأنها لم تجد ما تقول بل لديها الكثير والكثير لتقوله له فهي لازالت لا تصدق عيناها بأنها تراه أمامها مجددا لكن بسبب تلك الشهقات المتتالية هي ما أخرستها تماما عن الحديث ، أبعدها عنه ومسح دموعها بأنامله فقالت ببحة بكاء :
- لست فاشلا يا بني إلا في نظرك فقط فأنا كنت ولازلت افخر بك وسأفخر بك طيلة عمري ومهما حدث ..
امسك برأسها وقبله قبلة طويلة وقال بنبرة مليئة بالأسى تنطق مرارة :
- ليت الناس كلهم مثلك يا والدتي ..
ولم تزدها تلك الكلمات إلا بكاء على بكائها تعلم مالذي فعله الناس به كسره هكذا وهز ثقته بنفسه لا تنكر بأنه مر بموقف صعب ولكنها لم تتغير نظرتها له أبدا مهما قيل ويقال فهي تعرفه وهو ابن الثلاثة عشر عاما إلى أن بلغ التاسعة والعشرون من العمر تعرفه جيدا وتعرف تفكيره ومن المستحيل أن يفعل كل ذلك ، لم توقف تلك الدموع النازفة من مقلتيها الداكنة والمعاكسة لهم تماما إلا تلك اليدين التي أمسكت بثيابها من الخلف تسحبها بقوة لتبتعد فارتمت هي الأخرى بدورها في حضنه تطوق خصره بذراعيها النحيلتان وقالت والدموع تسير على خديها دون توقف :
- هيييه وأنا ألن أحظى بقليل من هذه المشاعر العائلية أم لا استحق ..؟!!
ابتسم ورفع نظره إلى والدته التي كانت تبتسم بحب لهما وهي تمسح دموعها بأناملها فهي تعيش أجمل أحلامها الآن وهي رؤية من اعتبرتهم أبنائها بسعادة وأمام ناظريها فعاد بنظره لها ولكن نظرته غلبت عليها المشاكسة قليلا وهو ينحني قليلا بعد أن أبعدها بصعوبة عنه ورفعها عاليا بسرعة خاطفة يمسك خصرها بكل خفة فهي لم يتعدا طولها كتفه ولا صدره حتى رغم بلوغها السابعة عشر من العمر ، دار بها حول نفسه وهي في صرخة واحدة مصدومة تتشبث بثيابه بقوة كي لا تقع فلقد فاجأها حقا بحركته تلك ولم يسلم من لسانها الساخط وهي تشتمه بكل ما تعرف من شتائم لكي يتوقف وتهدده بأنها سوف تتقيأ عليه ولم يزده ذلك إلا متعة وهو يدور بها أسرع وأسرع حتى غلبه التعب ووضعها على الأرض يتلقف أنفاسه ضاحكا عليها وهي تبكي وتمسك بمعدتها وقالت :
- سحقا لك يا رافع ما هذا لماذا تفعل هذا بي لماذا لم تفعله بوالدتي قبلي أم تسخر مني لأني قصيرة ..
نظرت والدتها إليها بصدمة وهي تتخيل أن يفعل ذلك بها فهو ذو جسد ضخم فلن يصعب عليه فعلها بالتأكيد فوكزتها بمرفقها لتصمت لكنها فاجأتهم بضحكاتها العالية التي اخترقت حتى الجدران لعلوها ورفعت يديها كطفلة تنظر إلى رافع بعينين لا تزالان دامعتين وقالت بابتسامة واسعة مشاغبة :
- هيا رافع افعلها مجددا ..
رمقها بنظرة مهدده فلا زال يحس برأسه يدور فضحكت بثينة وقالت :
- ما أسعدني برؤيتكم سعداء حولي لا ينقصني الآن إلا رؤية شقيقكم معكم أيضا ووالدكم لكي تكتمل سعادتي ..
ولم تكمل جملتها إلا على صوت فتح بابا المنزل والصوت الرجولي المشاكس قائلا :
- لقد عدت يا أمي ..



نهاية الفصل , قراءة ممتعة لكم أحبتي ..
بقلم محبتكم : روح الوسن ..

روح الوسن .. 29-03-20 07:59 PM

.. الفصل التاسع عشر ..
.
.

[ الطفلة الضائعة ]

.
.

نظر إليها بصدمة لم يستطع إخفائها ولا تجاوزها بسهولة فأي مصيبة هذه التي ظهرت أمامه ؟! ومن أين جاءته يا ترى ؟! وكيف سيتخلص منها ؟! ، همست ببحة بتلك الكلمة التي أصابته في قلبه مرة أخرى :
- بابا ..
وقف على طوله ونفض معطفه ينظر حوله عله يجد والدها هذا الذي لم تكف عن مناداته ويبدو بأنه يشبهه لذلك اختلطت عليها الأمور لكنه لم يرى أي اثر لأي شخص حوله فعاد بنظره إليها ولا يعلم مالذي يجب عليه قوله أو فعله فلا يوجد عنده في مجلداته ولا قواميسه بند اسمه كيفية التعامل مع الأطفال ، فلا يوجد أسوأ منه في التعامل مع النساء إلا التعامل الأسوأ مع الأطفال ، قاطع كل تلك الأفكار التي تزاحمت في رأسه ذراعاها الصغيرتان وهي تحضن ساقيه تتشبث بهما بقوة تخفي عبراتها بينهما وتبكي .. تبكي بنحيب دموعها لا تتوقف كما شهقاتها الصغيرة المتتابعة ، كم أحس حينها انه في مأزق حقيقي ولم يعد يعرف كيف يتصرف ولأول مرة في حياته لا يستطيع اتخاذ قرار سريع لفعله ، تنهد بكره وبدا عليه الاستياء واضحا مما زاد من شحوب وجهه أكثر فكم يكره هذه المواقف التي وقع فيها اليوم وكلها لا يطيقها ولا يعرف عنها شيء ، تمنى حينها انه قابل لصوص أو مجموعة مجرمين وقتله محترفين لكان عرف كيف يتعامل معهم ويتصرف بشأنهم وفي ثوان معدودة لكن نساء وأطفال ؟! هذا مالا يعلم تماما كيفية التعامل معهم ، انحنى قليلا يحاول إبعادها عن ساقيه بدفعها للوراء ولكنها كما لو كان هناك غراء الصقها به ولا يعلم ما هذه المصيبة التي التصقت بساقيه بالضبط ، غضن جبينه وهمس شامتا بكره وقال بعد محاولات فاشلة كثيرة بإبعادها عنه:
- سحقا ألا يمكنك الابتعاد قليلا ..
حينها رفعت رأسها تنظر إليه فوقها ومجرى دموعها لا زال يتدفق من مقلتيها اللتان برقتا ببريق الدموع المتكدسة داخلها وهمست ببحة :
- أريد ماما ..
ارتفعت يده وأنامله لتتخلل خصلات شعره يبعدها عن جبينه بنفاذ صبر فهاهي أولا تحسبه والدها والآن تقول تريد والدتها وما شأنه هو بكل ذلك ألا تكفيه المصائب التي مرت عليه اليوم الواحدة تلو الأخرى لتزيدها هذه الطفلة الضائعة التي تبحث عن والديها ، قال ببرود وكأنه يخاطب شخص كبير عاقل :
- وما أدراني أنا أين تكون والدتك ؟! ابتعدي عني يا فتاة لأكمل طريقي ..
لكنها كانت كما لو أنها لم تفهم شيئا مما يقول أو بالأصح هي لم تفهم ما قال فكل ما التقطه سمعها كلمه والدتها فابتسمت بسعادة من بين دموعها وقالت :
- ماما .. ماما أريد ماما ..
زفر بغيض فهو اليوم تحديدا مزاجه في أسوأ حالاته بالفعل ولا يحتاج لمزيد من المنغصات لتنغص حياته البائسة كما يرى ، عاد يبحث بعينيه العسلية في الأرجاء ربما يجد احد ويسلمه هذه الطفلة وينجو بنفسه ويتخلص منها لكن دون جدوى فقال بنفاذ صبر بعد أن تنهد تنهيدة استسلام حانق علم أن لا مفر له من هذه المصيبة :
- أين هي والدتك لأخذك لها ..؟!!
نظرت إليه نظرات استنكرها في بداية الأمر لأنها لم تدل إلا على عدم فهمها لما قال ولا يعلم لماذا هل قال شيئا صعبا ؟! أم تحدث بلغة لا تفهمها ؟! فرفع عينيه إلى السماء يستجدي مزيدا من الصبر فهاهي لا تفهم ما يقول ولا هو يفهم أي طريقة أخرى لإيضاح السؤال لها وكم تمنى بأن رامي معه الآن ليعرف ماذا يفعل وكيف يتصرف ، انحنى لها قليلا ينظر لعينيها بصمت يحاول إيجاد طريقة وبسرعة ليتفاهم معها فلديه ما يكفيه من الأمور المعقدة التي تحتاج لكامل قواه العقلية لحلها وبات يشك بأنه سيبقى بتلك القوى العقلية كما الجسدية إلى المساء ، داهمه الصداع فجأة والذي ذهب عنه قليلا فجلس على الأرض يسند ركبته اليسرى بينما يسند مرفقه على فخذ رجله اليمنى المنصوبة يحني برأسه للأسفل يفرك جبينه بأنامله بقوة في محاولة لتخفيف الألم وإبعاد الصداع القوي عنه ، رفع رأسه قليلا لتلتقي عيناه بعينيها الدامعة وقال ببرود يخفي ألمه ببراعة :
- أين هي والدتك يا فتاة .. ؟!!
حينها ابتسمت له وأشارت بسبابة يدها اليمنى الصغيرة خلفه وقالت بنبرة طفولية :
- كانت هناك ثم اختفت فجأة ..
بقيت نظراته معلقه بملامحها ولم يلتفت حيث أشارت لا يعلم مالذي انطقها فجأة وهو من حاول معها مرارا وتكرارا ولم تجب ، نظر لوضعيته بسرعة وكأنه استفاق للتو ينظر إلى هيئته وكيف انه يسند ركبته على الأرض ليترجم له عقله الفطن بأن هذه الوضعية هي فقط التي تستوعب من خلالها الكلام من الكبار وتفهمه ، رفع كتفيه بلا مبالاة ونظر حيث أشارت فغضن جبينه باستنكار هذه الطريق التي أتى منها قبل قليل أي أنها دخلت إلى وسط المدينة ومن المستحيل أن يجدها الآن وبين كل ذلك الزحام ، زفر بغيض إذ انه لا خيارات أخرى لديه إلا والرجوع لتلك البقعة المزدحمة والفوضى العارمة كما يراها فلم يصدق نفسه بأنه ابتعد قليلا عن إزعاجهم وعشوائيتهم وصراخهم الذي لا يتوقف لكنه لن يستطيع أبدا تركها هنا لوحدها ولا ينكر بأن هذه الفكرة لمعت في رأسه وكاد أن يفعلها دون تفكير لكنه تراجع في آخر لحظة وهو يتذكر وصايا ذلك الراحل منذ زمن له والذي عاهد نفسه على فعلها دون تردد ألا وهي مساعدة المحتاجين من الناس ، اعتدل في وقفته لترتفع تلك العينين الباكيتين معه ليظهر لها طوله المخيف وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامه باهتة حزينة وطيف فارس يمر من أمامه وكلماته تصدح في ذاكرته بنبرته المرحة والعميقة ، هز رأسه رافضا مسايرة ذكراه والتي يعلم تماما بماذا تنتهي وهو حفرة مظلمة سوداء تبتلعه فيها لن يخرجه شيء منها إلا بمعجزة ، تحرك بخطوات كسولة هادئة يرفع يده اليمنى لتتخلل أنامله الطويلة خصلات شعره البني بينما يدس يده الأخرى في جيب سترته السوداء والتي يكاد يصل طولها إلى ركبتيه ، قال بنبرة باردة آمره :
- اتبعيني لنجد والدتك ..
شقت الابتسامة ملامحها الحزينة وقفزت من شدة سعادتها لمساعدته لها فهي توقعت ذلك منه من أول ما رأته ولا تعلم لماذا لكن هالته الباردة والهادئة تلك هي ما جذبها نحوه وهذا بالتأكيد ما يسمى بسحر الوسيمين الواثقين واللا مبالين بالآخرين ، ركضت بسرعة لتجاري خطواته الواسعة لتصل إليه تسير بجانبه ترمقه بسعادة ولم تستطع منع نفسها من احتضان طرف معطفه الأسود ترتجي الأمان بذلك .

*****

تنهدت بعجز وملامحها الجميلة المستاءة لا تدل إلا على مدى إحباطها وهي تلف شوارع وسط المدينة سيرا على الأقدام تسأل كل من مرت به ولم تجد الجواب لدى أي منهم ولا تعلم هل كان سؤالها صعبا لدرجة أن ولا أي شخص منهم يملك جوابا له ؟! أم أنهم يتكتمون على الأمر ولا يريدون أن يخبروها بالحقيقة ؟! لكنها قرأت في ملامحهم الاستياء والتجهم والغضب ولا تعلم لماذا وهم يتصرفون بغرابة وكأنهم يتجنبونها ، لطالما تساءلت في نفسها عن سبب اختفاء التاجر الصغير كما يلقبونه الناس وانتشر صيته في جميع أرجاء البلاد في وقت قياسي واثبت نفسه للجميع كم كانت سعيدة بذلك لأنها بنت أحلامها الصغيرة عليه لأنه اشتهر ببيع أجود أنواع الأقمشة وكم سيساعدها هذا في مشروعها الصغير الذي بدأت لتوها به ولكن لا تعلم لماذا كلما حاولت التمسك بحبل أمل جديد سرعان ما ينقطع لتهوي على الأرض من جديد وكأنها لم تتقدم ولا أي خطوة للأمام وكلما أرادت أن تقوم لوحدها دون مساعدة احد تسقط على وجهها وبقوة كم تؤلمها وتتألم منها ، هل يعقل بأنها تملك حظا سيئا لهذه الدرجة التي يفسد عليها كل شيء في حياتها !! ، هزت رأسها نفيا لتتطاير خصلات شعرها البني الحريري الطويل حولها بخفة وهي تتمتم لنفسها قائلة :
- كُفي عن الهراء يا هالة فلا يوجد شيء اسمه حظ سيئ ..
ابتسمت لنفسها بعد أن أحست ببعض الحماس فهي دائما تساند نفسها بنفسها ولا تكف عن تشجيع نفسها وتذكيرها بأنها قوية وتستطيع فعل أي شيء مهما حدث فقبضت أناملها أمام وجهها وقالت بإصرار :
- سأبحث عنه وسأجده بالتأكيد عندها سيصبح متجري المتصدر في القمة وبدون أدنى شك ..
صحيح بأنها لا تعرف الشخص الذي تبحث عنه بدقة فهي لم تقابله يوما وجها لوجه أو حتى تلمحه من بعيد والذي يُصعب عليها الأمر أكثر هو جهلها حتى باسمه الحقيقي ولا تعلم إلا اللقب الذي يلقبونه به ، وقفت أمام متجر صغير لسيدة عجوز تحيك بالصوف بعض القطع الصغيرة من حقائب إلى قطع تستخدم للزينة ومفارش للطاولات لتعطي طابعا فريدا من نوعه وجماله ، قالت بنبرة طفولية تضم يديها أمام فمها تتنقل بنظرها بين الأعمال المعروضة على الطاولة الخشبية الكبيرة :
- ما أروعها يا الهي ..
ضحكت العجوز على مظهرها وقالت :
- أيهم أعجبك لكي اخفض لك سعرها ..؟!
ضحكت هالة بخفوت زادها رقة وجمال وقالت :
- كل ما صنعته بيديك أعجبني ..
أخذت تقلب القطع الصغيرة والكثيرة أمامها تعرضهم عليها واحدة واحدة وتعطي وصفا لنوعيتها وكيفية صنعها وكم استغرقت في حياكتها والفئة التي ينجذبون أكثر لكل قطعة تمسكها بيدها وكأنها تحكي قصصا قديمة لكل قطعة ، تتحدث بسعادة وحماس ولم تكن التي تقف أمامها اقل حماسا منها بل كانت تنصت إليها وتشاركها في بعض القصص تعلق تارة وتضحك تارة أخرى ولم تكف عن طرح الأسئلة فحلمها هو أن تفتح لها متجرا صغيرا وتمارس هوايتها المفضلة والتي تتقنها بكل حرفية ألا وهي الخياطة والتطريز فهي دائما ما يجذبها كل ما يتم صنعه باليد مهما كان حتى أنها توقفت كثيرا عند بعض الحدادين الذين يقومون بصنع السيوف تنظر إليهم بفضول يكاد يقتلها الحماس وهي تمسك نفسها بكل ما أوتيت من قوة عن عدم طرح الأسئلة لتجنب إزعاجهم في أداء عملهم أما هذه العجوز فنسيت نفسها معها وهي تدخلها إلى عالمها الصغير تتحدث بكل ارياحيه ، فقالت هالة باندفاع بعد أن تذكرت أهم سؤال لديها والذي لم تجد له جواب منذ خرجت صباح اليوم :
- خالتي هل تعلمين لماذا اختفى المدعو بالتاجر الصغير ؟! وأين استطيع أن أجده ؟! لأنني سمعت بأنه يعيش في الإمبراطورية الخضراء بعد أن سمح الإمبراطور عامر بالتجار بالتجول داخل الإمبراطوريات بحرية لأجل التجارة ..
رأت نظرة الاستنكار والتجهم في ملامحها بوضوح وتغضن جبينها دلالة على استيائها الحاد ولا تعلم مالذي أصاب الناس اليوم ، قالت في محاولة يائسة أخرى وبتردد واضح :
- أنا اقصد .. يا خالتي أني .. أني أتمنى لو اعرف على الأقل طريقا ليوصلني إليه .. أو أي أحد من معارفه لأني احتاج ل....
وبترت جملتها وعيناها قد اتسعتا بدهشة عندما رأت العجوز تستدير تعطيها ظهرها وتشغل نفسها بترتيب بعض ما تعرضه بتعليقها له على الجدار خلفها ، لا ليس أيضا هذه العجوز الطيبة والتي كادت أن تقسم بأنها مختلفة عنهم وأنها ستساعدها ليس مثل الجميع ، تنهدت بعجز غير قادرة على استيعاب ما يجري حولها وحول ذلك التاجر فقالت بنبرة خافته وكأنها تحدث نفسها بها :
- لماذا لا احد يجيبني والكل يتجاهل سؤالي ؟! لا اعلم حقا ما الخطب فيما قلت ..؟!
لكن تلك النبرة الخافتة لم تخفى على العجوز والتي استدارت نحوها بسرعة تنظر إليها بغضب وقالت لها بحدة تشير بيدها وكأنها تفرغ غضبا مكبوتا بداخل صدرها :
- تريدين أن تعلمين ما الخطب ؟! الخطب في ذلك المدعو بالتاجر الصغير والذي تسألين عنه بكل براءة في جميع الأرجاء وكأنك لا تعلمين مالذي فعله بنا أو كأنه لم يفعل شيء من أساسه ..
توقفت عن الاسترسال في حديثها تتلقف أنفاسها بشدة من غضبها الذي انفلت منها بينما تلك العينان البنيتان الواسعتان تنظران نحوها بصدمة اختلطت بكثير من الدهشة من انفعالها الغير مبرر كما ترى فهي حقا لا تعلم مالذي حدث هنا في الفترة الأخيرة لأنها لزمت منزلها تخطط للخطوة القادمة التي ستقدم عليها في حياتها لكي لا تقع فريسة للفقر والتسول وشفقة الآخرين عليها ، قالت ببلاهة بعد أن وجدت صوتها متسائلة بكل براءة :
- مالذي فعله بكم ذلك التاجر إذا ..؟!!
قست تلك الملامح وظهرت رغم التجاعيد الكثيرة في وجهها إلا أنها لم تخفي غضبها أبدا وقالت بحدة :
- ذلك المخادع تقصدين المتغطرس الذي لا يفكر إلا بنفسه وبماله خدعنا وسرق أموالنا ونحن كالحمقى نصفق له انجازه العظيم ..
دارت هالة بأعينها تحاول ربط الأمور فقالت بتفكير عابس بعد أن عجزت عن الفهم تماما :
- ولماذا خدعكم وبماذا ؟! هو تاجر معروف ولا يوجد مثيلا لبضائعه فهي من أجود أنواع الأقمشة التي رأتها عيناي ..
قالت العجوز بعد أن ابتسمت ابتسامة ساخرة تنطق مرارة :
- إذا يبدو بأنك مخدوعة مثلنا فكلنا كنا نظن ذلك واكتشفنا بأنه مجرد مخادع وغشاش ..
هزت هالة رأسها بعجز وحيرة فهي لا تصدق ذلك أبدا كيف لذلك التاجر أن يخدعهم ويغشهم لو أنها لم ترى بضائعه بعينها ولم تشتري قطع قماش من عنده قبل حوالي الأربع سنوات وحكمت عليها بحكم خبرتها في الأقمشة وجودتها والتي اكتسبتها من والدتها المتوفاة لصدقتهم لكنها الآن لا يمكنها تكذيب عيناها والاستماع لهم وتصديقهم .
- لذلك عليك نسيانه وعدم البحث عنه عله يختفي من على وجه الأرض المخادع الصغير ذاك ويريحنا منه..
انتشلها من أفكارها تلك الكلمات الممزوجة بالحقد الكبير ولم تتوقف تلك العجوز عن الشتم والسب كما الطعن به وهي ترتب الأغراض المبعثرة حولها تتنقل هنا وهناك والغضب لم يفارق ملامحها أبدا حين أكملت قائلة :
- يبيعنا أردى أنواع الأقمشة والخامات بعد أن كان يبيع أجودها لكي نثق به وندعمه إلى أن وقعنا ضحية جشعه واختلس أموالنا ظلما وذهب بها ، هه ذاك الأخرق الأحمق عله يستيقظ ضميره الميت الآن بعد أن أصبح الناس يكرهونه ويكرهون ذكره ..
أرخت هالة كتفيها بقلة حيلة بعد أن تنهدت فالأمور لم تتضح لها بعد ولا يمكنها طرح المزيد من الأسئلة حوله لهذه السيدة لأنها وبتأكيد ستنقض عليها وتقتلها لا محالة ، كانت تتمنى أن علمت على الأقل مكان سكنه أو اسمه الحقيقي ولم تكن لتمانع لو علمت باسم عائلته أيضا لكي تبحث عنه وتكتشف الآمر بنفسها فهي ليست بالغبية التي تصدق كلام الناس بسرعة دون دليل أو دون أن تتأكد بنفسها ، غادرت من عندها ولم تستطع حتى شكرها إذ أن دماغها امتلأ بكم التساؤلات التي لن تستطيع جمع الأجوبة كلها الآن وهي لا تعلم من قد يساعدها في ذلك فبالرغم من فضاضة هذه العجوز وهي تجيبها عن سؤالها البريء ذاك إلا أنها شاكره لها بأنها لم تتجاهلها كما الجميع ويكتفون برميها بنظرات نارية غاضبة ، زفرت بضيق وهي ترفع خصلات شعرها البنية خلف أذنها وهي تشعر بكم هائل من الإحباط والعجز فها هو أملها الجديد الذي بنت عليه أحلامها الصغيرة يموت في مهده وأمام عينيها وهي عاجزة بالكامل ، اتجهت نحو منزلها وهي تشعر بأن رأسها قليلا وسينفجر من كثر التفكير فهي مشتته بالكامل ولا تعلم مالذي قد يساعدها في اتخاذ القرار فهي باتت تخشى أن لا تجد طعاما لها بعد أسبوعين ويجب عليها التصرف سريعا ، اتسعت عيناها برعب وكأن الموت سيأخذها انقطعت أنفاسها شاحبة الوجه وكأن الدماء سحبت منه حين تجبست عظامها وأطرافها وهي تقف أمام منزلها والذي كان بابه مفتوحا على اتساعه فهمست بضياع وعيناها تذرفان دموع الخوف والفزع :
- لا .. ميمي ..





نهاية الفصل , قراءة ممتعة لكم أحبتي ..
بقلم محبتكم : روح الوسن ..

روح الوسن .. 29-03-20 08:02 PM


.. الفصل العشرون ..

.
.

[ الحُلم الضائع ]

.
.

نظر حوله يتنقل بعينيه العسلية في وجوه المارة يتفحصهم وكأنه سيعلم من منهم سيكون له صلة قرابة بالطفلة التي تجلس بجانبه تكاد تلتصق به لقربها الشديد منه وكأنها خائفة من أن يذهب ويتركها وحيدة ، تلعق قطعة حلوى كبيرة بكل سعادة تنظر له تارة وتارة تنظر إلى جموع الناس أمامها ويبدو بأنها نسيت أمر والدتها بسبب تلك الحلوى التي كانت إحدى أحلامها الصغيرة ولم تستطع والدتها أن توفرها لها لضيق دخلهم المالي وقلته ، تنهد بخفة مغمضا عينيه فهاهو عاجز تماما عن التفكير في حل لتلك المصيبة التي لا تزال ملتصقة به لم يعرف مالذي يجب عليه فعله للبحث عن والدة الطفلة فكل ما استطاع فعله هو أن يمشي بين الناس وسط المدينة علها تتعرف على والدتها من بينهم أو ربما يحدث العكس وتجدها والدتها قبل أن يجدوها ولكن لا شيء من ذلك حدث فلقد سار لمدة طويلة وهي تتبعه متمسكة بمعطفه وبدون أي فائدة من سيرهم الطويل ذاك حتى مروا بجانب متجر للحلوى وخرجت عن صمتها ذاك ولأول مرة أثناء سيرهم الطويل قائلة بنبرة مترجية كادت أن تدمع عيناها مع خروج الكلمات من بين شفتيها الصغيرة تشير بأصبعها الصغير نحو المتجر :
- أريد حلوى أريد حلوى ..
وأكملت وهي ترفع نظراتها البريئة إليه عندما رمقها بطرف عينيه بكل برود وقالت وهي تمط حروف الكلمة كما شفتيها الصغيرتان برجاء طفولي :
- أرجووووك ..
فما كان له إلا أن يشتريها لها لتصمت فكم كره تلك النظرات البريئة من عينيها وهي ترمقه بها والرجاء الطفولي البحت في طلبها ، يكره كل التعابير تلك التي رسمتها على وجهها لأنها لا تعني له إلا الضعف الشديد والعجز وكم يكرهه من شعور ولم يرد إلا أن يسكتها وكم تمنى بأنها تعفيه من مهمة البحث عن والدتها عندما يشتريها لها ولكن أمله ذهب أدراج الرياح وهي تحضن ساقه بسعادة تلعق وتلعق وتلعق تلك الحلوى دون توقف ودون أن تترك ساقه متشبثة بها ولم تتركه إلا عندما جلس على جانب الطريق على احدي المقاعد الحجرية ولم يهنأ لها بال إلا عندما التصقت به ولا تعلم لماذا ارتاحت بقربه ومالذي جذبها له هكذا وكم استغرب هو أيضا عدم نفورها منه كالبقية وبتأكيد لأنها لا تعلم من يكون وإلا كانت أول من هرب منه وابتعد ، نظرت إليه بسعادة وقالت والحلوى ترفض أن تخرجها من داخل فمها فخرجت كلماتها بصعوبة :
- ما هو اسمك .. ؟!!
في حين لم يصدر عنه أي رد فعل على نفس هيئته السابقة مستندا بمرفقيه على ركبتيه يجمع كلتا يديه في قبضة واحدة ليست مشدودة يريح أنامله المتداخلة في بعضها البعض ، رفعت نظراتها المتوجسة لوجهه لتنظر لتلك العينين بلون العسل الصافي تنظر أمامها لكنها تجزم بأنه ينظر ولا يكاد يبصر ما حوله مفصول بشكل كامل عمن حوله حين كانت خصلات شعره البنية هي وحدها من كانت نسمات الهواء تداعبها فرفعت يدها الصغيرة إلى كتفه الذي لم تصل إليه لكنها أمسكت بمعطفه تهزه هزة خفيفة لكي ينتبه لها ونجحت بالفعل بسرقة نظراته الهادئة نحوها فابتسمت وأعادت سؤالها لكنها هذه المرة أخرجت الحلوى من فمها وقالت مبتسمة :
- ما هو اسمك .. ؟!!
تنقلت نظراته الصامتة والهادئة والتي وحدها كانت كفيلة ببث الأمان في قلبها الصغير في تقاسيم وجهها المبتسم وحار في أمرها الم تكن تبحث عن والدتها قبل قليل وخائفة وتبكي بنحيب ؟! لماذا تغيرت هكذا فجأة وكأن والدتها التي تجلس بجانبها وليس هو الشخص الغريب الذي لا تعرفه سابقا بل قابلته مصادفة ؟! هل يعقل بأن هذا تأثير الحلوى عليها !! لا ليس معقولا إذ لا بد من أنها ليست والدتها الحقيقية بل تناديها بذلك الاسم فقط ويجهل قصتها الحقيقية ، هذا ما استنتجه من خلال النظر إلى ملامحها الطفولية ودراسة حركاتها فكم ابهر الجميع بل بالأصح أرعب الجميع بتلك النظرات التي تميزه عن غيره فمجرد أن ينظر إلى عيني خصمه يدخل إلى أعماقه وبكل يسر ليخرج كل ما يجول بخاطره لذلك يفضل الآخرون الابتعاد عنه خشية على أنفسهم منه لأنه في نظرهم يبقى الملقب بالوحش القاتل والكثير غيرها من الألقاب الغير إنسانية ، طال صمته بطول تلك الأفكار التي تزاحمت في رأسه ليهمس لها بهدوء وباختصار شديد :
- وسام ..
لا يعلم ما الذي انطقه حينها فهو لا يجيب أسئلة البالغين والذين يعتلون مناصب كبيرة من ضباط وقادة ليجيب هذه الطفلة الصغيرة لكن بعد استنتاجه ذاك وان والدتها قد تكون ميتة كان له التأثير الأقوى في تحريك شفتيه وخروج صوته الذي يجزم بأنها لم تسمعه أو أنها كانت غير منتبهة له لان عيناها ارتفعت ببطء لما خلفه تنظر بعينين متسعة من الصدمة التي خالطت الكثير من الفرحة وهي تهمس ببحة بكاء :
- ماما ..

*****

امسك ذراعه بقوة بعد أن لحق خطواته السريعة بأعجوبة موقف له ليصرخ به قائلا :
- توقف يا حسام فأنا لم انهي حديثي معك ..
نفض يده بقوه وملامح الاستياء كلها تجمعت في وجهه وقال له بنفس الحدة والصراخ :
- لا حديث بيننا يا طارق فاتركني وشأني ..
واستدار مغادرا لتوقفه من جديد تلك الأنامل التي اشتدت على ذراعه بقوة ومديرا إياه لكي يصبح مقابلا له وجها لوجه وقال يتلقف أنفاسه :
- اهدأ يا حسام ودعنا نتحدث برويه لا تدمر كل شيء وتوليه ظهرك هاربا ..
قطب حاجبيه منزعجا وكم كره نفسه حينها فأي هدوء هذا الذي يطلبه منه فلا ذرة صبر توجد في خلاياه الآن بعد أن القوا عليه تلك القذائف المدمرة للأعصاب تحت مسمى قوانين العائلة المالكة أي قوانين وأي عائلة مالكة هو لا يريدهم ولا يريد قوانينهم وأوامرهم هو فقط يريد أن يبتعدوا عنه ويتركوه وشأنه هل هذا صعب ؟! أم أمر مستحيل ؟! ، زفر بكره ناظرا إلى تلك العينين العسلية المحدقة به وكما عرفه يحكم عقله ويضبط أعصابه دائما وقال من بين أسنانه :
- قلت لك لا حديث بيننا فاتركني وشأني ..
هز رأسه بقوة نافيا وقال بهدوء جاهد نفسه عليه :
- حسام تعقل وعد معي إلى القصر ولا تترك والدي هكذا فأنت كما تعلم بأنه يفضلك حتى علي أنا ابنه ..
صرخ وقال بغضب يلوح بيده الحرة في الهواء :
- وما شأني أنا فأنا لم اطلب منه بأن يفضلني عليك أنا فقط طلبت منكم بأن لا تتدخلوا في حياتي وتتركوني وشأني فأفهم ذلك لوالدك ..
فجذبه حينها طارق من ياقة بدلته السوداء بقوه وقال بحدة ينظر إلى عينيه المشتعلتان غضبا :
- والدي يكون عمك يا حسام فأنتبه لألفاظك فأنا لن اسمح لك بأهانته أمامي وفي حضوري ..
قال ببرود يرمقه بطرف عينيه وكأنه يستفزه ببروده ذاك :
- إذا اذهب له واتركني كي لا يغضب عليك ..
تنهد طارق بقلة حيلة فلا يعلم كيف يستوعب ويفهم هذا الرجل أمامه لكنه يعلم تماما بأن الصراخ والغضب لن يجدي نفعا معه والآن خصوصا وهو في حالة هيجانه لذلك حاول تنظيم أنفاسه الغاضبة ليعود إلى هدوئه عل حسام يستوعب الحديث فقال ناظرا إلى عينيه بهدوء وبنبرته العميقة المتزنة :
- حسام إذا كنت أنت ترفض تلك القوانين فارفضها بطرق أخرى غير الغضب والصراخ والتجريح والتقليل من شأن الآخرين وكأنهم لا يعنون لك شيء ..
ابتسم بسخرية وقال :
- نعم فانتم لم تعودوا تعنون لي شيئا..
ابعد يديه عن ياقته ونفض بدلته البيضاء المذهبة وقال بنفاذ صبر:
- وما الذي فعلناه لك !! نحن اهلك وعائلتك يا حسام إن كنت لا تعلم ..
نظر حينها حسام في الفراغ حوله وقال بكلمات متأنية لا يعلم كيف خرجت من حنجرته :
- منذ متى يا طارق واهلك وعائلتك كما تدعي يتحكمون في مصيرك وحياتك وأدق تفاصيلها !! الذي اعلمه أن العائلة يتساندون في كل شيء لا أن يقفون لبعض كحاجز عند كل شيء ..
هز طارق رأسه بخفة لا زال ينظر إلى عينيه التي أظهرتا وللمرة الأولى نظرة غير الاستصغار والسخرية بل شيء من الحزن وخيبة الأمل وقال بنفس هدوئه وبنبرته العميقة المتزنة التي لا تدل إلا على حكمة صاحبها وترويه في اتخاذ الأمور والذي يبدو بأن حسام رضخ له أخيرا ولم يذهب وينصرف ويتركه خلفه :
- لم تعطنا الفرصة يا حسام أنت لا تعترف بنا ولم تجلس معنا لنتحدث ونتفاهم معا بل غادرت لمدة طويلة وهجرت القصر كما هجرتنا ولك حق فيه كما لنا ، أنت يا حسام من لم تدعنا ننظر لبعضنا كعائلة بل انسحبت وفضلت فعل كل ما تريد خارج حدود عائلتك ..
صرخ الآخر وكأن مفعول ذلك الهدوء الذي ألقاه عليه طارق ذهب أدراج الرياح :
- أي فرصة هذه التي تريد أن أعطيها لكم أتريد أن تُفنى حياتي في إرضائكم وتنفيذ طلباتكم وأوامركم على أنها أمور مسلم بها وطريق يجب علينا أن تسير فيه ودون أي اعتراض أي اضطهاد للأحلام هذا ..!!
قال طارق موضحا له ورافضا لتلك الأفكار أن تسيطر على عقل حسام :
- لا يا حسام انظر حولك جيدا وستفهم الأمور بشكل جيد انظر إلى نفسك أنت تمارس مهنه الطب ولم يعارضك والدي عليها ولا احد نحن لا نقيدك وندمر حياتك كما تدعي ..
أشار إلى نفسه وقال بأسى :
- بلى يا طارق تريدون تدميرها ونهائيا تريدون مني أن أصبح الوريث للإمبراطور عامر وأنا امقت هذا الشيء جدا وتعلم جيدا بأنني لو أصبحت الوريث لتوقف عملي كطبيب فأنا لا املك عقلين ولا جسدين استطيع أن أسيطر على إمبراطورية كاملة وعلى مرضاهم أيضا في نفس الوقت أتضحك علي يا طارق أنا لست غبيا لكي لا افهم كل ذلك ..
تنهد طارق يحاول ألا يفلت صبره منه وقال بنبرته العميقة :
- والدي يريد لك الأفضل ولا يريد لحقك أن يضيع فأنت مهما رفضت ذلك فأنت ابن الإمبراطور عادل الوحيد والأحق مني بالورث والخلافة في نظر والدي وأنا يأتي دوري بعدك ..
ابتسم ساخرا وقال بمرارة :
- تعترف إذا يا طارق بأنني حتى مهنتي المفضلة لدي والتي عشقتها منذ كنت طفلا سأتركها لكي أصبح الوريث المبجل والمنتظر ، هذا وانتم تعلمون بأن كل حياتي قضيتها في العيادة بين المرضى كيف بحق الله تريد مني أن أصبح وريثا أتسخر مني ..!!
ابتسم بخفة يخفي الألم ويكبته في صدره فها هو حلمه الضائع الذي يطارده ويسعى جاهدا ليل نهار لتحقيقه يُقدم لغيره على طبق من ذهب وبدون أي جهد ولا مجهود والذي قتله أكثر وأكثر هو انه يرفضه ولا يريده ويبغضه اشد البغض ولا يقدر قيمته لكن يجب عليه هو نفسه أن يتقبل الأمر ويدوس على حلمه الذي استحل قلبه وكل ذرة في جسمه ومنذ صغره ويقف عند رغبة والده الذي لا يريد إلا حسام بجانبه وكأنه لا يراه ولا يرى سعيه المبذول لذلك ، والمؤلم أن والده يعلم تماما بأن حسام لا يريدهم جميعا ولا أي شيء منهم لا وفوق هذا يجب عليه أن يشرح ويوضح لحسام ما عجز هو عن فهمه لنفسه وهو انه هو الأحق بالورث في الخلافة بينما هو لا ، قال بهدوء ونبرة متفهمة بابتسامة صغيرة :
- هل هذا كل ما يؤرقك يا حسام في الأمر ؟! نحن حولك والوقت لا زال لدينا ويمكنك أن تتعلم كل شيء ..
انطلقت حينها ضحكة حسام وكانت آخر رد فعل توقعه من نفسه وقال :
- لا أبدا ، ما يؤرقني هو وجودكم حولي اقسم لك فابتعدوا عني كما سأبتعد عنكم ..
قطب طارق حاجبيه بغضب أيسخر منه حسام كل هذا الوقت وهو الذي ظن بأنه أخيرا سيصل إلى ما يريد حتى لو كرهته نفسه فما أعظمه من شعور بأن يفضل والدك ابن عمك عليك رغم انك تبذل قصارى جهدك لتثبت له نفسك لكن دون أي فائدة ترجى من ذلك السعي المبذول ، طال الصمت بينهما كما نظراتهما الصامتة كل منهما يحاول أن يوصل للآخر رأيه في الأمر ومدى رفضه بذلك فكان طارق أول من كسر ذلك الصمت المميت وقال :
- فلنعد يا حسام للقصر ونتفاهم بروية أرجوك ..
فاستدار حينها حسام يخلل أنامله في خصلات شعره الأسود ومبعدا إياه للوراء قائلا بسخرية :
- عد أنت لوحدك فأنا لن تعتب قدماي قصركم ذاك مجددا واخبره بأنني لا أريد أي شيء منكم أي شيء لا ورث ولا خلافة ولا حتى ابنته التي فرضتموها علي أيضا لأتزوجها فأنا أريد الزواج من أخرى أي لا شيء بيننا بعد الآن ..
وختم جملته تلك بضحكة صغيرة مستفزة أشعلت الذي يقف خلفه يقبض يديه بقوة مفرغا ذلك الغضب المكتوم فيهما يكاد جلد يديه أن يتمزق من شدة ضغطه عليهما وكم تمنى بأن يلكمه ويلقنه درسا لن ينساه فكل شيء كان عنده سيستحمله ويتغاضى عنه وإن كاذبا إلا موضوع شقيقته الذي أحس به مزق قلبه واستنزف كل طاقته العقلية والجسدية فيه ، لا ينكر بأنه صُدم أيضا عندما قالها والده بأن من عادات العائلة المالكة هي التزاوج فيما بينهم وانه الوريث الذي سيرث والده لذلك يجب عليه الزواج من شقيقته بحكم أنها ابنه عمه والفتاة الوحيدة في العائلة وبلغت سن الزواج وكم أحس بالألم الذي لا يمكن وصفه لا بحروف ولا كلمات ولا حتى جمل وحسام يرفض شقيقته بذلك الشكل البشع والذي هو متأكد منه بأنها تبكي الآن جرحها منه ورفضه القاسي على قلبها الصغير مع انه موقن بأن شقيقته لم تفكر يوما بحسام كزوج لها ولا تكن له أي مشاعر سوى تلك المشاعر التي تربطهم بالدم لكنه جرحها وأهانها ولم يكترث لمشاعرها التي دمرها كما دمر تلك القاعة خلفه ولم يكترث لأحد ، فصرخ قائلا لكي يسمعه الذي ابتعد عنه والألم يجتاح صدره :
- كل شيء يا حسام كل شيء سأسامحك عليه وأتغاضى عنه إلا جرحك لشقيقتي ، أنا أعدك بأنني لن أنساها لك ما حييت ..
وغادر بعدها مسرعا يشتعل غضبا بعد أن رفع حسام يده يلوح له ساخرا يريد أن يعود إلى القصر بأقصى سرعة لكي ينظر في الأمر ويحاول أن يجد طريقة سريعة وخطة محكمة بديلة لسد الخلل الذي أحدثه حسام قبل أن ينتشر خبر مشاكل عائلة الإمبراطور عامر في جميع الإمبراطوريات لأنه متأكد من أن الأمور ستسوء فوق ما قد يتصوره أي احد وتعم الفوضى من جديد والتي لن تتوقف مهما فعلوا لإيقافها والذي لا يعلمه بأن الجواسيس في القصر لم يتوانوا عن نقل الأخبار لسيدهم وكل ما دار ويدور حولهم فردا فردا والذي لو علموا هويته لشلتهم الصدمة لأنه آخر من كانوا يريدون أن يعلم بما يجري داخل القصر .








نهاية الفصل , قراءة ممتعة لكم أحبتي ..
بقلم محبتكم : روح الوسن ..

روح الوسن .. 29-03-20 08:04 PM

.. الفصل الواحد والعشرون ..

.
.

[ خطوة التحرر ]

.
.

استدار ببطء رافعا عيناه إلى الشخص الذي كان يقف خلفه ويحجب ضوء الشمس نسبيا عنه لعدم كبر ذلك الجسد فنظر إليها ببرود إذ أنها يبدو بأنها صغيرة على أن تكون والدة هذه الطفلة شعرها البني الحريري الذي لامس كتفيها يشبه تماما تلك الأحداق البنية الغامقة الممتلئة بالدموع في حين وقفت التي كانت ملاصقة له بسرعة لترتمي في حضن التي خانتها قواها وجلست على الأرض تضمها لصدرها بقوة وقد أعلنت دموعها تمردها فانطلقت تجري على خديها تسابق كل دمعة الأخرى تتنفس بصعوبة من بين شهقاتها المتتابعة وهي تقول بنبرة باكية :
- حمدا لله انك بخير يا صغيرتي حمدا لله لقد أقلقتني عليك كثيرا وكدت اجن لا محالة إن لم أجدك ..
فنهض حينها الذي لم يعد لوجوده أي قيمة حين تبينت له الأمور ووجدت تلك المرأة صغيرتها وانتهى دوره الذي لم يكن يعلم تماما ما هو وكيف يقوم به ، خطواته الساكنة الهادئة تتابعت بخفة يسجن يديه في جيبي معطفه لا زال ذلك الصداع يفتك برأسه لكنه يقاوم بشدة رافضا الاعتراف بالضعف وطلب العون .
- ع..عذرا سيدي ..
تلك الكلمات الهادئة التي اخترقت سمعه هي ما جعله يتوقف عن السير فالتفت لها برأسه فقط ليكون التقييم والتحديق من نصيب التي كانت تحمل الصغيرة بين ذراعيها وتنظران الاثنتان له في نفس الوقت ولم تتبين ملامحه قبل ذلك الوقت لسعادتها بأنها وجدت صغيرتها التي ظنت بأنه تم اختطافها ولن تراها مجددا ، تنظر إليه بنظرات ممتنة في حين لم تستطع أن تخفي التوتر من الظهور في تقاسيم وجهها الجميل تنظر إلى الوجه الشاحب والعينان العسلية الباهتة والتي فقدت بريقها خصلات شعره البني التي تمردت على جبينه زادته وسامه فلم تستطع أن تخفي نظرات الإعجاب والدهشة التي اعتلت ملامحها فإن قالت سابقا بأنها رأت شابا وسيما فهي حقا لم تعرف الوسامة يوما ولا تعلم إلى ماذا قد تصل إليه بعد هذا الرجل الذي يقف أمامها فهي لم ترى بوسامته سابقا وحارت في أمره وتساءلت في نفسها العينان العسلية والشعر البني دليل على انه احد أبناء الإمبراطورية الخضراء مثلها تماما لكن وسامته هذه والتي فاقت كل شيء لا تشبه إلا تلك الوسامة التي سمعت عنها بأنها ما يميز أبناء إمبراطورية البراكين فتجده مزيجا غريبا جمع وسامة الإمبراطوريتين ، أخفضت نظرها بخجل شديد عندما أدركت أنها أطالت النظر إلى وجهه وهو ليس من عادتها أبدا لكنه كان رغما عنها حقا ونسيت نفسها فقالت بتوتر وهي ترفع أناملها المرتجفة تدس خصلات شعرها خلف أذنها :
- ا..أنا .. ح..حقا أشكرك ع..على ...
وضاعت منها الكلمات وتصلبت نظراتها على عينيه بعدما رفعتها إليه عندما رفع يده بخفة في إشارة فهمت منها انه فهم ولا داعي لان تكمل كما انه لا داعي لشكره إذ انه لم يفعل شيئا يستحق كما يرى ، حينها استدار مكملا خطواته ذات النغمة الموسيقية الخافتة التي لا يجيدها سواه إذ أن الشك ينتابك اهو يطير أم يسير يا تُرى ؟؟ ، رفعت كتفيها بلا مبالاة لا تعلم ما هذا الأسلوب الجديد في رد الشكر لكن لا بأس المهم أنها وجدت تلك الطفلة المشاغبة والتي كادت أن تجن إن لم تجدها ، ابتسمت بخفة تنظر للتي تعلقت بعنقها واضعه خدها الصغير على كتفها ويبدو أن النوم قد سرقها إلى عالمه بعد أن شعرت بالأمان الحقيقي ، ابتسمت ببلاهة عندما وجدت نفسها أنها تسير خلف ذاك الوسيم وتخيلت للحظة بأنهم عائلة حقيقية ذاك الوسيم هو الزوج وهي الزوجة وهذه الصغيرة ابنتهم لم تستطع أن تتمالك نفسها فأفلتت منها ضحكة غلبتها على أفكارها الغبية تلك فمن المستحيل أن تعيد تجربة الزواج الفاشلة تلك كما أنها تيقنت بأنها لن يمكنها ذلك وأبدا بعد كل ما جرى لها سابقا ، غزا الضيق ملامحها عندما أخذت أفكارها مسار آخر وهو ماضيها الذي ألمها اشد الألم وتوقعت بأنها نسيته بالكامل لكنها الآن أدركت بأن الإنسان بالرغم من أن اسمه إنسان من النسيان إلا انه من المستحيل أن ينسى كل شيء في حياته خصوصا تلك الذكريات التي ألمتنا بشدة وعلمتنا الكثير بعدها ، شهقت بصدمة مفزوعة عندما كادت أن تصطدم بالجسد الطويل والذي رغم لبسه لمعطفه إلا أن عضلاته قد برزت من خلال ذلك القميص الرمادي الذي يرتديه والذي ظهر بوضوح لأنه يترك معطفه الأسود مفتوحا من الأمام لا تعلم كيف تقلصت المسافة بينهم بهذه السرعة وهي لم تدرك ذلك فهذا هو تأثير وبعض مساوئ التفكير بشرود أثناء السير انك عرضه للاصطدام في أي وقت وبأي شيء ، شدت ذراعيها بقوة كي لا تقع التي تحركت وخرجت منها انّه صغيرة دلالة على عدم ارتياحها أو أنها خشيت السقوط فقالت تهدئها وهي تتمايل بجسمها لكي تعود للنوم :
- أنا آسفة يا ميمي هيا عودي للنوم يا صغيرتي ..
وابتسمت بخفة عندما عادت لنومها الهادئ في حين انتبهت بأن ذلك الرجل لازال على نفس هيئته ولم يعاود السير فرفعت نظراتها التي ظهر الارتباك فيها بوضوح لتستقر على عينيه والذي كان بدوره ينظر ببرود للطفلة بين يديها قبل أن تنتقل إلى عينيها فخرجت منها شهقة مكتومة إذ أنها أحست فعلا بالرعب تملكها ولا تعلم لماذا فقالت بتوتر شديد :
- ا..أنا ا..آسفة منزلي م..من هذا الطريق ا..أيضا ..
وتنهدت بارتياح عندما استدار مكملا طريقه كم تشك بأن هذا الرجل غير قادر على الكلام فهو لم ينطق ولا بأي كلمة منذ رأته هزت رأسها بخفة تريد أن تتوقف عن التفكير في هذا الرجل فهي وأفكارها لم ترحمانه وماذا إن كان لا يتكلم وما شأنها وكأنها والدته أو أخته أو لا يكون أنها صدقت أفكارها السخيفة تلك ابتسمت ما أن تعلقت ميمي بعنقها أكثر وأخذت تمسح على شعرها بحنان تشكر الله في قرارة نفسها بأنها وجدتها سالمة ولم يصبها أي أذى .

*****

أغلق باب المنزل خلفه حينها غضن جبينه مستغربا من هذا الهدوء الذي سيطر على المنزل حتى انه ظن في البداية بأنهم خرجوا معا للتنزه وتركوه لوحده فابتسم ساخرا يبعثر خصلات شعره الأشقر بخفة في كل اتجاه يعلم بأنهم قد يفعلونها به ويذهبون دونه فهو يتغيب عن المنزل كثيرا وغالبا ما ينام في المعسكر إلا يومين في الأسبوع فهي أجمل الأيام بالنسبة له حيث يجد الراحة والسلام النفسي والروحي من جميع إزعاجات الضباط وتدريباتهم التي لا تنتهي كما مهامهم تلك لكنه يعلم جيدا بما أن تلك المدعوة رنا في المنزل فلا سلام ولا راحة ولا هدوء سيعم حياته ، هز رأسه بخفة مبتسما على شقيقته تلك فهو لا يتخيل كيف سيكون المنزل بدونها ، توجه مباشرة نحو المطبخ إذ انه يشم رائحة الطعام اللذيذ الذي لا يتقنه سوى تلك السيدة الرائعة والتي يعتبرونها والدتهم وهي وزوجها لا يمدون بأي صلة لهم سوى أنهم انتشلوهم من الشارع والفقر ثلاث أشقاء يتامى فقدوا والدتهم ووالدهم الحقيقيان واعتنوا بهم أفضل حتى من اعتناء الآباء بأبنائهم الحقيقيين ولم يحرموهم من أي شيء بل قدموا لهم الكثير ولا زالوا يفعلون ، مد رأسه ينظر إلى الداخل فرأى والدته المقابلة له تمسح دموعها مبتسمة فقطب مستغربا إذ انه يرى شخصا ما يعطيه ظهره جهل هويته في بادئ الأمر لكنه سرعان ما فتح فمه بدهشة وعيناه انفتحتا على وسعها من صدمته التي لم يتوقعها أبدا في حين التفت له الذي كان يعطيه ظهره وابتسم ابتسامة حزينة منكسرة كادت أن تقتله وتقضي عليه فما أسوأه من منظر ومن شعور وإحساس وأنت ترى شقيقك الذي ضحى بحياته كلها في سبيل سعادتك وراحتك تراه حزينا منكسرا وأنت تأخذ دور المتفرج والمشاهد ولا تقدم له أي مساعدة وتعجز عن مد يد العون له ، تحركت قدماه بخطوات واسعة نحوه ولم يلتفت أو يرد على التي قالت له بنبرة لم تتخلص من اثر البكاء عليها :
- أهلا بعودتك يا بُني ..
وضع يده على كتف رافع ممسكا بها ولفه بقوة لكي يصبح مواجها له وضمه .. ضمه بقوة إلى صدره هذا كان كل ما استطاع فعله حينها ليعبر عن كل تلك السعادة التي اجتاحت صدره برؤيته مجددا وبينهم ولم يستطع التحكم في تلك الدمعة التي سقطت من إحدى عينيه حين بادله رافع الحضن بضمه ، كان عناقا طويلا صامتا رجوليا واخويا يحكي الكثير والكثير في طياته عن مشاعر الامتنان والمحبة والأخوة دمعت لذلك المشهد عينا رنا ووالدتها وهم يرون اجتماع الشقيقان من جديد وتحركت حينها تلك القطعة منهم تضمهم كلاهما وقد بكت بنحيب هذه المرة من فرط المشاعر التي عصفت بقلبها ، ابتعد رامي يخفض رأسه يمسح تلك الدمعة التي تمردت على خده في موقف هو نفسه استغرب منه في حين جلس رافع مستندا على ركبته لازالت تلك الطفلة متعلقة بحضنه والتي خانتها قواها فجلست على الأرض ترفض أن تبتعد عنه خشية أن يعود لمنفاه وعزلته من جديد ، قبل رأسها يمسح على شعرها بخفة وقال يهمس في أذنها :
- هيا يا رنا توقفي عن البكاء ولو من اجلي فأنا لا زلت حيا ماذا تفعلي لو مت أريدك أن تكوني قوية يا شقيقتنا الجميلة والوحيدة ..
فابتعدت عن تمسح دموعها التي ترفض أن تنصاع لها وتتوقف فرافع بالنسبة لها هي خصوصا كان الأب والأم اللذان فقدتهما ووجدتهما فيه فنهضت وارتمت في حضن رامي وقالت له ببحة :
- أهلا بعودتك يا رامي ..
فابتسم لها وهو ينحني لها مقبلا رأسها وقال :
- الحمد لله انك لا زلتي تعرفينني ولم تنكريني بعد أن خرج لك رافع يا مشاغبة ..
فضحكت من بين شهقاتها ولكمت صدره بقبضتها وقالت :
- لا أبدا كيف لي أن أنكر شقيقي الرائع لوجود شقيقي الرائع الأكبر ..
فابتعدت عنه تنظر إلى والدتها التي لم ينتبه احد لها في حين فضلت أن تبتعد عنهم قليلا لتعطيهم حريتهم المطلقة وتجلس على طاولة الطعام تنظر إليهم بسعادة لا يمكن وصفها فهي من اعتنت بهم وهم لا يزالون أطفال ولم تراهم يوما إلا كأبناء لها ، قالت بمكر وهي تنظر لما حولها قبل أن تستقر نظراتها على والدتها :
- أنا لن أنكرك إلا إذا لم تغسل الأواني عني لهذين اليومين وتعفيني منها وتريحني من الأعمال التي تلقيها علي والدتك ..
فانطلقت ضحكاتهم المتفاوتة على هذه الطفلة المدللة في حين كانت نظرات الضيق من نصيب والدتها التي نظر إليها بتوعد فرفعت كتفيها مبتسمة بمعنى أن هذه الحقيقة ولا ذنب لي فنهضت والدتها وقالت وهي ترتب الأطباق على الطاولة :
- بسرعة يا رنا تعالي وساعديني قبل أن يأتي والدك وكفاك تذمرا ..
مطت شفتيها بعبوس طفولي وتوجهت نحوها تتمتم ببعض الكلمات الغير مفهومه في حين اقترب رامي من رافع الذي فضل الفراغ حوله لينظر إليه بشرود حزين يستند بظهره على الجدار خلفه وضع يده على كتفه وهمس له في أذنه مبتسما :
- كم أنا سعيد لأجلك يا شقيقي ..
رفع رافع نظراته الحزينة والتي يشوبها الألم الدفين إلى رامي شقيقة الذي يصغره بعام واحد واللذان أخذا من ملامح بعضهما الكثير فالثلاث أشقاء لهم نفس لون الشعر الأشقر والعيون العشبية وذلك يرجع لانتمائهم إلى إمبراطورية الصخور والتي امتاز أبنائها بالشعر الأشقر بدرجاته والعيون من بين اللون الأخضر والأزرق في حين يوجد حالات شاذة لاختلاط الأنساب والتزاوج فيما بينهم في السنوات العشر الأخيرة فظهر ذلك بسبب التداخل فيما بينهم ، تنقلت نظراته بين عيني رامي مع كل هذا التشابه بينهم إلا أن الاختلاف بينهم شاسع وكبير جدا فكم يغبط شقيقه وشقيقته على روحهم المرحة والتي يتخطون بها الكثير من الصعاب وهم يعبرون عن كل ما يزعجهم وما يعجبهم بكل ارياحيه عكسه هو شخصية هادئة وحانية وصبور جدا يسعى جاهدا لإسعاد من حوله ولو كان على حسابه يكبت مشاعره في صدره ولا يبديها لهم وعندما أراد أن يتحرر وعبر عن مشاعره أخيرا دون قيود لينطلق دون توقف صفعته الحياة بكل قوة لكي يرجع للمؤخرة ولسخرية الآخرين وبغضهم له لا ليست الحياة من صفعته في الحقيقية بل تلك الزوجة الحبيبة التي ارتبط بها لثلاث سنوات عاشها معها يغدقها بحبه وحنانه عاملها كما تعامل الأميرات لا ترغب نفسها في شيء إلا وحفر الأرض بأصابعه ليجلب لها ما تشتهيه وتريده قبل أن تطلبه حتى لتكافئه على كل ذلك الحب بالخيانة التي طعنت رجولته وكبريائه بها ودون أي رحمة ، ارتفعت زاوية فمه في ابتسامة صغيرة طغى عليها الألم والخيبة أكثر من أي شيء حين استدار ينوي الخروج فلا شيء يساعده على المضي قدما فيما نوى فعله وهو مصر عليه فكم آلمته نظراتهم السعيدة بخروجه رغم أنهم لم يقصدوا بذلك إيذائه أبدا إلا انه فسرها على أنهم لا يعلمون بمدى وقع ما حدث على قلبه فهم بذلك يريدون منه فقط أن ينسى ويتجاوز تلك الأزمة والانتكاسة التي أصابته وكأن شيئا لم يكن ولا يعلمون بأن هذا صعب جدا وهو يعيش هنا بينهم لا زال يلمح نظرات الشفقة في أعينهم السعيدة يعلم تماما بأنها تصورات وتخيلات يصورها عقله المتعب ليس إلا لكنه لا يستطيع مهما حاول وكم يخاف من الفشل أيضا فيما يريد فعله كخطوة أولى ليتحرر من ماضيه لكن على طريقته هو ليس هم وكم يخشى هذه الخطوة التي يعتبرها خطوة التحرر ، أوقفته تلك الأنامل التي التفت حول معصمه تضغط عليه بقوة وكأنه يخبره بأن لا يتراجع ولا يستمر في سجن نفسه في غرفته فهذا ما كان ساعيا لفعله ولم تتوقف تلك الأنامل بإيقاف حركته فقط بل سحبه خلفه متوجهان نحو طاولة الطعام ليسحب له احد الكراسي ويجلسه مرغما في حين جلس هو بجواره فابتسم رافع لحركة رامي إذ انه فهم منها بأن لا يتراجع وبأنه بجانبه دائما ومهما حدث .








نهاية الفصل , قراءة ممتعة لكم أحبتي ..
بقلم محبتكم : روح الوسن ..

روح الوسن .. 30-03-20 04:11 PM

.. الفصل الثاني والعشرون ..

.
.

[ ضجيج الهدوء ]

.
.

أكملا طريقهما تسير خلفه بصمت مطبق تحمل ميمي بين ذراعيها نائمة بسلام على كتفها يجتازان تجمعات الناس تباعا إلى أن قل عددهم يسيران في طريق واحد والذي يفترض بأن يسلك كل واحد منهما طريقه لكنه انتهى بهما المطاف هكذا خارجان من وسط المدينة وإزعاجها وكم أسعده الابتعاد عنهم وذلك ظهر بتلك التنهيدة الخفيفة التي أطلقها وكأنه تخلص من احد همومه التي لا حصر لها ، سارا مجتازان بيوتا كثيرة وكم استغرب سيرها خلفه وعدم توقفها عند أحد المنازل إذ أنه لم يعد حولهم سوى الأشجار تتوزع عن يمينهم وشمالهم فانتابه الشك للحظة بأنها تكذب عليه حين ظهر الطريق المعبد أمامهم والمخصص لسير العربات والذي ينوي أن يجتازه يقصد مكانا معينا هناك فظهر لهم المنزل الصغير الذي يقع بجانب الطريق في مكان متطرف لوحدة وبعيدا عن جميع المنازل فقالت هالة التي تسير خلفه بهمس سمعه بوضوح:
- ميمي هيا يا صغيرتي استيقظي ها قد وصلنا لمنزلنا ..
أكمل سيره غير آبه بما حوله يحاول إلا يفقد السيطرة على جسده فينهار في أي لحظة عندما استوقفه صوتها من خلفه قائلة له بعد أن أخذت نفسا عميقا مشجعة نفسها على الحديث :
- كم كنت أود أن أقدم لك شيئا يا سيدي لأعبر عن شكري الجزيل لك لان....
وبترت جملتها عندما نظر لها ثم نظر حوله وكأنه يبحث عن شيء أو سمع شيء يريد التأكد من مصدره وكم بدا شاحبا ومرهقا جدا لكنه يبدو بأنه يكابر على ألمه ليس إلا فقالت مندفعة تخرج الحروف من حنجرتها بسرعة كي لا تقطع جملتها أيضا عندما ينظر إليها وهي مغمضة العينين :
- فاسمح لي يا سيدي بأن أقدم لك العصير على الأقل لتشربه في منزلي ..
واجتازته مسرعة ولم تنتظر رده الذي تتوقعه منه وبأنه سيرفض ذلك لتتجبس عظامها وتخرج تلك الشهقة المصدومة والمفزوعة بقوة حتى كادت تتحول لصرخة لعلوها في حين صرخت ميمي تبكي عندما أنزلتها هالة على الأرض لخور قواها فتقدم وسام مقطبا باستغراب يتنقل بنظراته بينهم ووثب راكضا نحو المنزل حين جمع البيانات وفسرها وحللها في عقله في أجزاء من الثانية فها هي تلك الأصوات والتمتمات التي سمعها واستنكرها في البداية علم أين مصدرها الحقيقي ، دخل من الباب والذي وجد بابه مفتوحا بل مكسورا وعلم فورا بأنه تم مهاجمته وسرقته ولا يستغرب ذلك فهو المنزل الوحيد القريب من الطريق المعبد والبعيد عن أنظار الناس ، دخله وهو يخرج سيفاه متوسطا الحجم كان يثبت غمديهما على استقامة فخذيه في أربطة جلدية التفت حول فخذيه لا تعيق حركته أبدا تتحرك معه بتناغم شديد ولا ينتبه أي شخص بأنه مسلح إذ أن المعطف الطويل كان يغطيها ويخبأها عن الأنظار وكم يتمنى بأنهم لازالوا بالداخل ليلقنهم درسا لن ينسوه وتحققت تلك الرغبة سريعا عندما توجه نحو اليسار ودخل الغرفة التي خرجت منها أصوات علم سريعا بأنهم ثلاثة ، استند على الجدار بجانب حافة الباب ينظم أنفاسه المتعبة وأرعى سمعه لهم منصتا قبل أن يقوم بأي حركة متهورة يدرس كل خطوة سيقدم عليها وهكذا عُرف يتأنى ويسترخي ويهجم هجوما شرسا لا ينجو احد منه ، لم يكن طبعه سابقا لكنه تعلمها منذ تلك الحادثة قبل عشر سنين ، وما هي إلا ثوان حتى ضرب باب الغرفة الشبه مفتوح سلفا بقدمه بقوة أجفلت الثلاث لصوص الذين في الداخل والتفت أنظارهم المرعوبة نحوه ، تنقلت نظراته الصقرية بينهم ولم يفته الرعب الذي تملكهم ، ثلاث رجال يحمل شخصان منهم فقط خنجرين امتلأت أجسادهم الضخمة بالعضلات حينها ابتسم بسخرية الذي قرأ في نظراتهم المرعوبة مدى ضعفهم وخوفهم فهم ليسوا إلا مجموعة حمقى يتفاخرون بتلك الكتل العضلية المتكدسة في أذرعهم وأرجلهم ودون جدوى وبلا فائدة منها سوى ترويع الآمنين وترهيبهم ليعثوا في الأرض فسادا ليس إلا وهذا كان واضحا من عبثهم في الغرفة التي غطت القطع القماشية الملونة والممزقة الأرضية الخشبية وانتثرت حبات اللؤلؤ في أرجائها خيوط وأزرة وكريستالات وشرائط هنا وهناك مبعثرة وكأنهم تعمدوا الفوضى لإثارة الرعب في قلوب ساكني المنزل ليس فقط للبحث عن المال وبعض المجوهرات الثمينة التي لم يكن لها وجود سابقا ليكون الآن وهالة تكاد لا تجد ما تنفقه لشراء لقمه عيشها وتنفقه عليها وعلى ميمي ، مرت اللحظات بطيئة وهم يحدقون به برعب إلى أن استفاقوا من صدمتهم من تواجده أمامهم وتحركوا مجتمعين ثلاثتهم في مساحة واحدة مشكلين شكل مثلث ، يقف اثنان منهم خلف الذي كان يربط رباط اسود حول رأسه الذي لم تنبت فيه ولا شعره واحدة وبدا انه هو زعيمهم ليقف أمامهم ويشهر سيفه الذي كان يخبئه في غمد خلف ظهره بينما الآخران كانوا يحملون خناجر في أيديهم وقد اخذوا وضعية الهجوم سريعا في حين ابتسم وسام ابتسامة باردة واخفض يديه ممسكا سيفيه بقوة عندما قال زعيمهم بتهديد :
- من تكون يا هذا أنا أحذرك من الاقتراب والعبث معنا ..
جال وسام بنظراته الباهتة في الأرجاء يتأكد فقط بأنهم لم يسرقوا شيئا مما أشعل الذي يقف أمامه لتجاهله لهم فصرخ بحدة :
- افلت سيفاك واستسلم كي لا نلحق الأذى بك أنا أحذرك يا هذا ..
تنهد وسام بضيق إذ انه يكره الصراخ وادعاء القوة اشد البغض وهو يراهما اجتمعا في هذا الشخص أمامه فتحركت شفتيه قائلا ببرود صقيعي واختصار شديد :
- مزعج ..
فصرخ ذاك قائلا :
- ماذا قلت يا أبله اعد فأنا لم أسمعك جيدا ..
وفاجأهم بأن رفع يديه الممسكة بالسيفين خلف ظهره وأطلقهما بسرعة خاطفه اجفلتهم راميا سيفاه نحوهم لتستقر مثبته لمن يقفون جانبه حيث انغرس كل سيف في قميصهما جهة الكتف لتعيق حركتهما بالكامل ، تقدم بخطوات ذات نبرة موسيقية خافتة بعد أن ادخل يديه في جيبي معطفه وعيناه لم ترمشان مستقرتان على أعين زعيمهم والذي يبدو لا زال تحت تأثير الصدمة ينظر إليه برعب من حركته تلك التي كانت آخر رد فعل قد يتوقعها منه في حين اقترب منه الذي كان يسير ببطء ووقف أمامه لا يفصله عنه إلا خطوة واحدة فأخرج يده اليمنى ليجذب زعيمهم من ياقة قميصه بقوة مقربا وجهه منه وقال وسام بجمود ادخل الرعب في قلب الذي يقف أمامه :
- اغرب أنت والأحمقان سريعا قبل أن أقطعكم لأشلاء ..
فاتسعت عينيه رعبا فقد قرأ في عينيه الجدية كما البرود المميت والحقد الدفين ولا يشك أبدا بأن يفعلها ويقطعهم لأشلاء كما زعم لكنه أراد أن ينقذ نفسه من الموقف المخزي الذي وُضِع فيه فحرك يده الممسكه بالسيف بقوة في محاولة فاشلة لمهاجمته بها لكن وسام قفز بخفة متراجعا للخلف ليتجنب هجمته المباغتة فضحك الرجل الأصلع بخوف تملكه وقال ساخرا :
- ماذا بك أيها الشجاع هيا نازلني ولنرى من سيفوز منا وأنت لا تحمل سيفك حتى ..
ابتسم وسام وهو يرمق صديقيه اللذان لا يزالان يحاولان أن ينزعا السيف الذي ثبتهما في الجدار خلفهما بدون أي جدوى وكأن السيفان اللذان أطلقهما وسام أصبحا جزئا من الجدار فعاد بنظراته الباردة يرمق الذي صرخ بقوة محاولا الهجوم على وسام لكن وسام تفادا هجمته من جديد فأخذ يشتم صارخا وهو يعيد هجماته الفاشلة الواحدة تلو الأخرى ودون أن تصيب وسام الذي كان يتحرك بخفة ليتجنبه وعندما أصاب وسام الملل وشعر بضعف الذي أمامه قرر أن يهاجم ليوقف هذه المهزلة لكن الألم والصداع القوي داهمه فجأة من جديد فاستند على الجدار خلفه بجانب حافة الباب بتعب شديد يغمض عينيه بقوة واخذ يضرب برأسه بخفة على الجدار فقد يخف هذا الألم القوي ولم يستطع أن يفتح عينيه حينها فكشر عن أنيابه ضاحكا الذي اعتقد في نفسه بأن وسام استسلم له وأنقذ عليه مهاجما ليصل إلى مسامع وسام الصراخ الأنثوي من خارج الغرفة والذي لم يكن إلا لهالة :
- إحذرررررر ..
فتح وسام عينه اليسرى بوهن ينظر بطرف عينه إلى الذي تقدم نحوه ورأسه لازال يرفعه قليلا مستندا به على الجدار خلفه ليرفع قدمه اليمنى وفي حركة مباغته وبسرعة خاطفة ركل يد الذي كان ينوي مهاجمته والتي كان يمسك بها سيفه يرفعها عاليا ليسقط السيف من يده مصدرا رنينا متناغما حين جثا على ركبتيه يمسك يده بقوة وفي صرخة واحدة قد ملأت الأرجاء من شدة الألم الذي شعر به فقد كان متأكدا بأن يده قد كسرت من قوة الركلة التي تلقاها على حين غفلة منه في حين ابتعد وسام عن الجدار خلفه وتحرك بخفة ليصل إلى اللذان التصقا بالجدار خلفهما ينظران إليه برعب فمد يديه نحوهما واستل السيفان بسهوله ليعيدهما إلى داخل الغمدين بحركة واحدة سريعة فقال هامسا بأمر وعيناه تتنقل بينهما :
- هيا اغربا بعيدا ولا تنسيا اخذ ذاك الصعلوك معكما ، وإياكم من العودة هنا إياكم ..
فركضا بسرعة وجذبا ذراعي الذي وقف بصعوبة وغادرا في لمح البصر بخطى متعثرة ترتعد رعبا ، أطلق وسام آآهه متعبة لا تعبر إلا عن إرهاقه الشديد وتوجه نحو النافذة التي كانت في نفس الغرف ابعد ستائرها الحمراء والمطرزة بخيوط ذهبية واستند بذراعيه يتأمل الزهور الملونة خارجا بشرود وتعب والتي يبدو بأن هالة من زرعهم في هذا المكان خارجا لتتاح الفرصة لمن يقف أمام النافذة بتأملها ، سمع الخطوات المتعثرة والتي لم تكن إلا لهالة المذعورة والمتوترة وقالت والأسف يلف كل كلمة تتفوه بها شفتها الكرزية تضم يديها لصدرها :
- ا..أنا آسفة حقا يا سيدي لقد تسببت لك بالأذى ..
فأكملت قائلة بنبرة ممتنة شاكرة تنظر لقفاه :
- اقسم أني لا اعلم كيف أشكرك يا سيدي على مساعدتك لي فاللصوص لن يعودوا بعد اليوم لمضايقتي فلقد لقنتهم خير درس ..
التفت لها وسام وسار بخطوات هادئة مجتازا لها ليهمس ببرود :
- لم افعل شيئا ..
استدارت بجسدها معه فهي حقا لم تتوقع انه بتلك القوة والمهارة ولم تصدق أذنيها بأنها سمعت صوته ذو النبرة الهادئة والباردة فلقد تأكدت الآن بأن ظنونها حول خرسه كانت خاطئة ، ظنت انه سيخرج عندما اجتازها لكنه توقف وقال لها بنبرته الباردة التي تميزه عن غيره :
- انظري ما الذي فقدته بسببهم ..
لتنبهها تلك الكلمات على النظر حولها واستدراك ما قد جرى في منزلها وبالأخص هذه الغرفة وقد تكدست في عينيها البنية الواسعة الدموع وهي ترى كل تلك الفوضى والتي لم تنتبه لها إلا الآن ، الأقمشة ممزقة والخيوط وجميع ملحقات الزينة مبعثرة في كل مكان فسقطت دموعها على الأرض تحكي لما حولها عن موت أحلامها وهي لا تزال في مهدها وتمزق كل حبال آمالها التي تنسجها بصبرها وتفاؤلها بالأيام القادمة فها هو الشيء الوحيد الذي بقيت متمسكة به لكي ينقضها من الفقر والجوع تدمر نهائيا ولن تجد ما قد تدخره ولا ما تعمله لينقذها مما هي فيه ، تخسر وتخسر ولا تعلم متى تتوقف خساراتها المتتالية التي لم تعد تظن وتعتقد بأنها ستصمد أكثر من هذا الذي صبرته هه وما الذي قد يحدث أسوأ مما قد حدث لها !! ، جثت على ركبتيها تبكي بصمت لا زالت متمسكة بقوتها رغم انكسارها والألم الذي تشعر به يمزق أوردة قلبها عندها تقدمت نحوها تلك الخطوات الصغيرة والتي ارتمت في حضنها فورا لم تكن إلا ميمي التي تركتها خارجا خوفا عليها من اللصوص تبكي معها تشاركها دموعها بدموع أخرى عاجزة عن دفع الأذى عن والدتها فهن شهدن معا أكثر المواقف ألما وأكثرها حزنا ، بقيت على حالتها تلك تحضن ميمي بقوة وتبكي بصمت ولم تنتبه للذي خرج من الغرفة ومن المنزل بأكمله تاركا إياها تفرغ كل ما في قلبها لوحدها ، لا يعلم حتى متى سيشهد انهيارات من حوله ولا يعلم متى سيتوقف الماضي عن مهاجمته في كل وقت وحين فلم يذكره الموقف الذي حدث قبل قليل إلا بماضيه الأليم وبكونه لص محترف سابقا علم تماما ما الذي كان يحدث ويسببونه لمن سرقوهم ونهبوا أموالهم وممتلكاتهم وهاجموهم سابقا بلا ذنب غير أنهم أبرياء ، صحيح انه كان في جماعته ومع قراصنة الموت بالتحديد لم يكونوا يقتلون أحدا وكان هذا شرط فارس الذي أصر عليه وهدد الضابط طلال حينها بصريح العبارة بأنه إذا لم يوافق على هذا الشرط فلا مهام تنفذ ولا شروط بينهم تعقد إلا انه شعر بفضاعة ما كانوا يفعلون بغيرهم ، طال الوقت الذي غابه عن منزل هالة ثم عاد وأصلح قفل الباب الخارجي بقفل حديدي جديد يشعر بالألم يتملكه لذلك أراد إصلاح ما يستطيع حتى لو لم يكن مخطئا في شيء إلا أن ضميره لا زال يؤنبه ، بينما من تركها لوحدها لم تعد تعي ما حولها لأي شيء إذ أنها فقدت ارتباطها بمن حولها مدة من الزمن لم تكن قليلة أبدا فالشمس شارفت على المغيب ، أخرجها من عالمها الموحش الذي تعيشه لوحدها فقط فيه ومن أفكارها المتعبة حد الإنهاك تلك النبرة ذات النغمة المميزة التي جعلتها تلتفت نحو الذي كان يقف عند الباب يسند كتفه على حافته بصدمة فكانت نظراتها له كمن كان في غيبوبة واستفاق فجأة منها ليعود إلى واقعه بحلوه ومره فقال وسام :
- هل فقدتي شيئا مهما ..؟!!
لم تصدق عيناها ولا أذنيها بأنه لا زال هنا ظنته ذهب وغادر لا بل هي نسيت أمره تماما وبأنه كان هنا ، نظرت حولها بضياع وتشتت ولم تعرف ما الذي تجيبه فالفوضى تعم المكان ويصعب عليها تحديد ومعرفة ما الذي فقدته أبعدت ميمي التي تغط في نوم عميق لا تزال رموشها مبللة بالدموع عن حضنها وكم تغبطها على هذا النوم الذي يسرقها في المواقف الصعبة لتتجنب المشاكل كلها ، نهضت متوجهة نحو الرفوف وأدراج خشبية مصفوفة فوق بعض المركونة في احد أركان الغرفة وأخذت تفتحها بالتتابع فاغلب أشيائها الثمينة تضعهم فيها أما الدولاب الخشبي الذي يبدو بأنه تم مهاجمته سابقا لم تكن تضع فيه إلا الأقمشة والزينات التي تستخدمها للخياطة والتنسيق فأخذت تتمتم بخوف بمحتويات الأدراج التي تفتحها وتقول :
- الدرج الأول جميع أوراق ملكية المنزل موجودة ..
فتحت الدرج الذي يليه وقالت وهي تقلب فيه :
- وصايا ميمي وجميع أوراق هويتها ..
وفتحت الثالث وهي ترفع خصلات شعرها البني بأناملها مخللة إياه بتوتر شديد وقالت :
- الضمادات والقطع القماشية ..
واتبعته بالدرج الذي يليه قائلة :
- المقص والمعقمات كلها موجودة ..
تنهدت بارتياح وأكملت فتح الأدراج التي تليها واكتشفت بأن كل محتوياتها كاملة وحتى المبلغ المالي القليل الذي كانت تخبئه بين الأغراض وجدته كاملا وما إن انتهت من تفتيشهم كلهم حتى استندت بجبينها عليها شاكرة في قرارة نفسها بأنه لم يتم مهاجمة هذه الأدراج وإلا كانت في ورطة حقيقية ومشكلة كبيرة لا تعلم كيف ستخرج منها صحيح بأنها فقدت اغلب ما كانت تجمعه من أقمشة وغيرها لأجل تجارتها البائسة التي لم تستمر فيها ولم تدخل ذلك التحدي الكبير إلى الآن وفشلت عند أول خطوة لها إلا أنها شاكره بأن وسام أوقفهم عند حدهم قبل أن يدمروا كل شيء فلو أنهم سرقوا أوراق ملكية المنزل لفقدت حتى المأوى الذي يؤويها هي وميمي ، لم تستطع أن تمنع دموعها التي عبرت على خديها لتسقط على الأرض مباشرة تعبر عن حالها وعن وحدتها وضعفها فهاهي لم تستطع ردع المتربصين بها لوحدها لأنها تظل فتاة مهما بلغ بها العمر الذي تظن بأنه بلغ بها من الكبر عتيا وهي في الحقيقة لم يتجاوز عمرها الثالثة والعشرون حتى ظنا منها بأن هموم الحياة وصعابها أدارت عجلة الزمن سريعا لتهرم هي فقط من بين الجميع ، رفعت رأسها ومسحت دموعها وتنهدت بعمق وهي ترفع شعرها للأعلى في حين استدارت لتقع عينيها على الشخص الذي وللمرة الثانية نسيت أمره تماما والذي كان يحدق بها بصمت مبهم مما جعلها ترتبك فوق توترها السابق منه وهي لا تعلم ما سر تلك النظرة الباهتة في عينيه العسلية فعلمت حينها عندما طال الصمت بينهما بأنه ينتظر جوابا على سؤاله السابق لها والذي نسيته تماما وتوقعت بأن يتقدم نحوها ويضربها بقوة لأنها تجاهلته أو يطلق شتائم يجرحها بها لكنه لم يفعل أي شيء من ذلك ضاربا بظنونها السوداوية عرض الحائط وهو يقول بهدوء :
- هل فقدتي شيئا لكي اجلب لك بديلا عنه أم ماذا .. ؟!!
امتلأت عيناها بالدموع مجددا وهزت رأسها بقوة نفيا وخانتها الكلمات فلو بقيت تشكره إلى أن تشرق شمس صباح اليوم التالي ما وفته حقه فهو الوحيد الذي وقف بجانبها في أزمتها هذه وهو لا يعرفها وكم تمنت أن ظهر لها هذا الشخص منذ زمن بعيد ليردع كل من ظلمها وأساء إليها فهمست ببحة :
- أشكرك سيدي أنا حقا أشكرك ..
قالتها بكل صدق من أعماق قلبها فهو على الأقل لم يضربها ويسبها ويتجاهلها ويخرج نفسه من الموقف بحجه انه لا يعرفها ولا شأن له بها وهذا ما عرفته عن الرجال الذين قابلتهم في حياتها فظنتهم كلهم بنفس الطباع السيئة ، شهقت برعب عندما رأت وسام يمسك رأسه بيديه بقوة وهو ينزل على الأرض ببطء ليستند على ركبته تتخلل أنامله الطويلة خصلات شعره وكم بدا لها متعبا فتقدمت نحوه بخطوات سريعة إلى أن جلست أمامه تنظر إليه بخوف وقلق فقالت متسائلة بتوتر شديد :
- سيدي ما الذي تشعر به ؟! أأنت بخير ؟! أرجوك اجبني ..
فنهض وسام يتحامل على وجعه بكبرياء شامخ لا يعرف الذل والهزيمة وبخطوات كسولة توجه نحو الخارج لكن التي وقفت معه أمسكت بمعطفه جهة ذراعه موقفه له وقالت بتصميم :
- سيدي أنت لست على ما يرام أرجوك أبقى قليلا هنا لترتاح ..
لم يكن يريد أن يرتاح ولا أن يجلس هو فقط يريد أن يبتعد عن الكل يبتعد ويغلق على نفسه فهكذا سيكون بالتأكيد أفضل لكن قوته خانته هذه المرة فانصاع مجبرا وهو يغير اتجاه سير خطواته الكسولة إلى إحدى الأرائك الموجودة خارج تلك الغرفة في صالة المنزل فرمى بثقله كله عليها ورجع للخلف يسند رأسه على حافتها مغمض العينين ، وجهه ازداد شحوبا وحبات من العرق تجمعت على جبينه مما جعل خصلات شعره تلتصق بجبينه دليل واضح على سوء حالته الصحية التي لم ولن يهتم بها مطلقا ، اقتربت هالة منه وقالت بتوجس :
- ما الذي تشعر به يا سيدي ؟! ما الذي تريدني أن افعله لأجلك ؟!
لم يتحرك ولم يحرك أي ساكن غير تلك الشفتين التي خرجت الكلمات من بينها بنبرة هامسة حاول أن تكون لبقه قدر الإمكان :
- عصير من فضلك ..
فما هي إلا لحظات قليلة حتى كان العصير وصحن جمعت فيه ما وجدته في مطبخها الصغير أمامه على الطاولة التي تتوسط تلك الصالة وعلمت بأنه يحتاج لمصدر للطاقة فيبدو بأنه فقدها بالكامل ، امتدت أنامله ليلتقط كأس العصير رافعا إياه إلى شفتيه بصمت وافرغ كل ما في الكأس دفعة واحدة في معدته الخالية لأكثر من يومين على نظرات هالة التي جمعت مشاعر عدة في تقاسيم وجهها الجميل من قلق وارتباك ودهشة فلا تعلم ما الذي قد تفعله لأجله لو انه فقد وعيه وخر على الأرض مغشيا عليه فمن مجرد النظر إلى وجهه الشاحب تكاد تجزم بأنه سيموت الآن ليس سيفقد وعيه فقط لكنه وككل مرة منذ قابلته اليوم يفاجئها بردة فعله الغير متوقعه وهو ينهض أمامها منتصبا شامخا وكأنه ليس المتعب الشاحب قبل قليل يديه في جيوب معطفه كعادته يمشي بخفة ينظر أمامه ولم يلتفت لأي شيء حوله إلى أن وصل لباب المنزل الذي للتو انتبهت بأنه قد أُصلِح ولابد من انه هو من أصلحه ولا تعلم متى وكيف ، تبعته نظراتها وهو يدير مقبض الباب فاتحا إياه ليقول ببرود :
- شكرا على العصير ..
وفقط هكذا ظهر فجأة واختفى فجأة بكل خفة وهدوء وكأنه نسمة هواء عليلة في ليلة شتاء باردة ومع ذلك فقد احدث ضجيجا وصخبا في هدوئه وبرودته التي تشبه صقيع الثلج مزيج غريب من الصفات المتناقضة لم يستطع احد مزجها معا سواه فكيف يكون للهدوء ضجيج وللبرودة صخب ساخن إن لم يكن صاحبها وسام والذي يكاد يتقن كل شيء بغض النظر عن الشيء الوحيد والكبير الذي يفتقده ويجهله والذي سيسبب له إرباكا كبيرا في حياته مستقبلا دون علمه .








نهاية الفصل , قراءة ممتعة لكم أحبتي ..
بقلم محبتكم : روح الوسن ..


روح الوسن .. 06-04-20 01:40 PM


.. الفصل الثالث والعشرون ..
.
.

[ ما بينَ نجمٍ وقمر ]
.
.

تحت سماء الإمبراطورية الخضراء والتي انتثرت حبات اللؤلؤ في سمائها تضيء العالم بأكمله رغم صغر حجمها تساند القمر جنبا لجنب لتسطع في الليالي الحالكة ، نرسم أحلامنا ما بين نجم وقمر، في تلك المساحة الواسعة التي تسع كل ما قد نريده ونرغب به ، رفع رأسه يتأمل الجمال الكوني فوقه والكفيل بسحر أعين الجميع حينها برقت عيناه ببريق خفيف جعلت من تلك المقلتين العسليتين وكأنها تضيء كما النجوم في السماء لا يعلم كم مر من الوقت عليه يستمتع بالهدوء والسكينة وهو جالس في مكانه حيث يحب أن يجلس بجانب الحفرة الكبيرة والواسعة التي تحوطها الصخور بأحجامها المختلفة فتحاصر المياه بداخلها لتصنع سداً منيعاً يحتجز ما ينحدر نحوها من سيول الأمطار وقد عرفت باسم (بركة الحكمة) والتي لم تجف يوما تتجدد المياه بداخلها كل شهر مع نزول الأمطار الغزيرة ، تعكس مياهها ضوء القمر فيها لتتكون أجمل صورة قد تراها عينيك ، تحوط البركة من جميع الجهات مساحات شاسعة مغطاة بالعشب الأخضر حيث امتدت على أطرافها من جميع الجهات الأشجار العالية والكبيرة لتعزل ذلك المكان عن أنظار الناس ، بركة الحكمة كما يطلق عليها سر من أسرار الإمبراطورية الخضراء والتي يجهلها الكثير ويعلمها القلة فقط منهم ، رجع للخلف يستند بظهره على الشجرة الكبيرة تلعب نسمات الليل العليلة بخصلات شعره البني وياقة معطفه الكبيرة ، ابتسم بخفوت عندما صهل حصانه (برق) المنتصب واقفا بجانبه وكأنه ظله وحارسه الشخصي ، جلده الناعم ذو اللون البني المحروق والذي يكاد يقارب السواد بشعره الأسود الناعم تتمايل خصلاته الطويلة مع ميلانه لرأسه يحركه في الهواء بخفة يمد عنقه المتسق مع جسده يمينا وشمالا بكبرياء شامخ ، أذناه طويلتان حساستان لجميع الأصوات منتصبتان لا تدلان إلا على أنه لا يزال يحتفظ بكامل عنفوانه وقوته ونشاطه في حين قوائمه الأمامية ذات عضلات قوية يتصل بها كتفان مائلان إلى الأمام قليلا يتصل بهما العضد الطويل شديد العضلات الذي يعطيه دفعة من السرعة ، حصان يشبهه في كثير من الصفات وأكثر من يفهمه ويشعر به هادئ وقوي مثله ، نهض من جلوسه وأخذت أنامله الطويلة تمسح على وجه برق تارة وتارة تلعب تلك الأنامل بخصلات الشعر الحريرية وبرق خاضع له بالكامل وكم يعشق هذه اللحظات التي يبقاها بجوار فارسه ، دائما يتركه وسام هنا يأكل من الأعشاب ويشرب من مياه البركة وإذا هم بالعودة لمنزله امتطاه وعادا معا وفي الصباح يمتطيه ويتركه هنا ويكمل سيرا على الأقدام إلى المعسكر ، ضربه بخفة بيده قبل أن يقفز على ظهره بحركة واحدة سريعة ليستقر على ظهر برق فهمس في أذنه بنبرته الموسيقية الهادئة :
- لننطلق يا برق ..
وما هي إلا لحظات وأصبحا يسابقان الريح مجتازان وسط المدينة تتطاير خصلات شعورهم بسبب سرعة برق والتي تكاد تصل لسرعه البرق ، بعد مسافة لا بأس بها سحب وسام لجام برق للخلف ليخفف برق من سرعته والذي استجاب له سريعا ، ثبت نظره حيث البعيد مركزا في مكان معين وسرعان ما ضرب برق برجله بخفه ليتحرك نحو الأمام فشد لجامه يمينا ليغير من وجهتهم نظراته لا زالت مثبته فهمس قائلا بنبرة شابها القلق :
- العيادة ..!!
واتبعها بصرخته قائلا :
- نحو العيادة يا برق بسرعة ..
فانطلق برق قاطعا الطريق المعبد الهادئ إذ أن اغلب ساكني الإمبراطورية يغطون في نوم عميق ، بعد دقائق وقف أمام العيادة والتي استغرب ضوء الشموع التي لا زالت تضيء بالداخل لينعكس نورها خارج النافذة إذ لا بد من وجود شخصا بداخلها وغالبا ما تغلق العيادة أبوابها قبل منتصف الليل لذلك لا بد من وجود خطب ما والوقت الآن تجاوز ما بعد منتصف الليل ، قفز من على ظهر برق وتقدم نحو الباب دفعه بيده فوجده مغلقا غضن جبينه مستغربا فدار حول العيادة إلى أن وقف أمام النافذة والتي ينبعث منها ضوء الشموع مد يده نحوها وسحبها برفق يسارا ليجدها مفتوحة وبقفزة واحدة مدروسة كان داخل العيادة تنقلت نظراته في أرجاء الغرفة الواسعة لتستقر عيناه على التي تضم ركبتيها لصدرها تسند رأسها جانبا على ذراع الأريكة ويبدو أن النوم غلبها ، تقدم نحوها ببطء ولا يعلم لماذا هي لا تزال في العيادة حتى هذا الوقت المتأخر ولم تعد إلى منزلها ، وقف أمامها ومد أنامله نحوها ليرفع خصلات شعرها الأشقر عن وجهها والتي تغطي اغلب ملامحها ليتأكد إن كانت نائمة أو متعبة أو شيء آخر قد حل بها ففتحت عيناها الزرقاء الواسعة تنظر إليه فانتفضت برعب وسرعان ما عادت تغمضها بقوة بعد أن شهقت برعب كادت روحها أن تخرج مع شهقتها المذعورة أبعد وسام يده سريعا وأعادها إلى جيب معطفه وقال بهدوء وكأنه لا يلحظ رعبها الشديد وانتفاضة أطرافها :
- مايا لماذا لا تزالين في العيادة .. ؟!!
فتحت عيناها عندما سمعت اسمها فهي من خوفها لم تنتبه حتى لهويته كل ما جال بخاطرها بأن أحد دخل العيادة وسيؤذيها ، رمشت عدة مرات والرعب يتملك كل خلية في جسمها وانفلتت أنفاسها المضطربة عن السيطرة فكانت كالغريق الذي أخرجوه من مياه البحر ، تنهدت والخوف لا زال مسيطرا عليها وهي ترفع يدها لصدرها تحس بأن قلبها سيخرج من مكانه لا محالة ، تنظر لتلك العينين العسليتين الهادئتين يقف أمامها بهدوء وكأن شيئا لم يحدث محتفظا بهدوئه واتزانه ، فقالت بصعوبة من بين أنفاسها المتلاحقة :
- وسام هذا أنت لقد أخفتني ، أخفتني حقا يا وسام ..
بقي على صمته وكأنه ينتظر أن تتجاوز خوفها لوحدها ينظر إلى ارتجاف أناملها وهي تمتد لتمررها خلال خصلات شعرها الأشقر والذي تناثر بعشوائية بسبب نومها الذي لا تعلم كيف نامت على تلك الطريقة ، شتت نظرها عندما وقعت عيناها على عيني وسام الذي كان بدوره ينظر لها منتظرا جوابها وقالت بارتباك :
- كم الساعة الآن .. ؟!!
تجاهل سؤالها وأعاد قائلا بهدوء بنبرة متزنة :
- لماذا لا تزالين هنا يا مايا .. ؟!!
نظرت إليه وقالت بقليل من التردد :
- اااه .. ا..أبي قال لي أن .. أن انتظره لنعود معا إلى المنزل ..
رفع نظراته ببطء لتعانق الفراغ يسترجع أمرا ما نعم فالضابط جميل منذ الظهيرة وهو متغيب عن المعسكر وأيضا ... تذكر شيئا للتو فقال بقليل من الغيض :
- وحسام ..؟!!
قالت مغضنه جبينها بتفكير عابس :
- لا أعلم أين هو كل ما قاله لي أنه سيتغيب فترة الصباح ثم يأتي لكن لا أثر له حتى الآن ..
هز رأسه بتفهم إذ أنه لا بد من وجود خطب ما في الأمر وبالتأكيد يتعلق الأمر بشيء في أمن الإمبراطورية وإلا ما كان سيتغيب الضابط جميل ولا يختفي حسام فجأة وهو والعيادة كالجسد والروح لا ينفصلان عن بعضهما أبدا إلا عند الموت ، قال بنبرته الموسيقية الباردة وهو يتوجه نحو الباب :
- سأوصلك بنفسي إلى منزلك لن تبقي هنا أكثر ..
أرادت أن تعترض وترفض أرادت أن تقول أي شيء لكن وسام ونظراته شديدة البرودة هذه وتلك الهالة المخيفة حوله تمنعها من الاعتراض وتجبرها على الانصياع إذا لماذا هي خائفة منه كل هذا الخوف فوسام تعرفه منذ زمن طويل ويعرف والدها ووالدتها أيضا إذا لا خوف معه لكن قلبها لم يطمئن لذلك أبدا فهو ليس على ما يرام اليوم كما يبدو ، نهضت مستسلمة للأمر الواقع تتبع الذي خرج قبلها بهدوء إلى أن خرجت من العيادة فقال وهو يمسح بيده على عنق برق :
- أغلقي العيادة جيدا ..
التفتت بسرعة إذ أنها كانت ستنسى الباب مفتوح من شدة ارتباكها ، أحكمت إغلاقه وبقيت واقفة لا تعلم ما الذي تقوله فأرادت أن تشكره وأن تعتذر منه في نفس الوقت فقالت :
- أنا حقا أشكرك يا وسام لكن لا داعي بأن تتعب نف...
رمقها ببرود وقال متجاهلا كلامها :
- هيا اصعدي على ظهر برق ..
بلعت ريقها من الخوف الذي أصاب قلبها فوسام يبدو لها شاحبا جدا ونبرته تكاد تتحول لثلج من شدة برودتها إذ أنها لأول مرة تسمعه يلقي عليها الأوامر المتتابعة ، اقتربت من برق تفرك يديها بارتباك واضح في حين نظر إليها برق بنظرة أرعبتها وهو يزفر الهواء بقوة ولم تستطع كتم الشهقة الصغيرة التي خرجت منها فنظر إليها وسام الذي ابتعد قليلا ليعطيها حريتها في ركوبه والتي فسر تلك الشهقة التي صدرت منها على أنها لا تعرف كيف تمتطي برق إذ أنها يبدو بأنها لم تركب حصانا من قبل وقد صدق ظنه بعدم معرفتها بكيفية امتطائه فهي معتادة على ركوب العربات فقط كونها ابنه الضابط جميل الذي لديه ما يقارب الثلاث عربات الخاصة بهم مجهزة بأحصنة وسائقين ، اقترب منها بخطواته الخافتة التي لا يسمع لها صوت وقال بنبرة شابها الخجل والتردد رغم لا مبالاته وبروده ونظراته الهادئة لم تفارق برق :
- يمكنني مساعدتك على ركوبه ..
فعضت حينها مايا شفتيها بقوة بقليل من الندم على موافقتها لمرافقته وعدم اعتراضها وكثير من الخجل والحياء منه فماذا سيظنها الآن معتوهة أم غبية أم مدللة حد أنها لا تعتمد على نفسها في شيء ودائما ما تحتاج المساعدة من الغير كما كانت صغيرة ، فقالت منقذة نفسها من الحرج وهي تقترب منهما إلى أن وصلت بالقرب من برق ووسام يبعد عنها مسافة خطوتين فقط فقالت وهي تشتت نظراتها كي لا يقرأ فيهما مدى ارتباكها وخوفها والأهم كذبها :
- لا بالطبع فأنا يمكنني أن ....
وبترت جملتها بصرخة دهشة وصدمة لم تعرف كيف خرجت منها وهي تحدق بدهشة وخدان متوردان من شدة الخجل الذي تشعر به عندما امسك وسام بخصرها ورفعها بكل خفة لتستقر أخيرا على ظهر برق بحركة واحدة سريعة ومدروسة ولا تعلم كيف تقلصت المسافة بينهما بسرعة لم تلحظها وكما عهدت وسام ينفذ كل ما يقول دون اعتراض ، لم يحتاج الأمر لأن يمسك وسام بلجام برق لكي يسير خلفه بل رفعه إليها لتمسكه بيديها المرتعشة لكي لا تفقد توازنها وتقع فهي كانت جالسة على ظهره كما جلوسها على الكرسي ، تقدم وسام بعد أن رمقها سريعا قبل أن يعود بنظره إلى الطريق وقال بهدوء :
- مستعدة ..؟!!
حركت رأسها إيجابا بقوة كأنه يراها في حين تيبست الحروف والكلمات في حنجرتها فسار وسام وتبعه برق يسيران في تناغم تام في صمت مطبق سيطر عليهم طيلة رحلتهم لا يُسمع إلا أصوات الليل التي أثارت الرعب في قلب مايا وظهر ذلك جليا في أنفاسها المضطربة وبعثت الأمان والسكينة في قلب وسام وزاد ذلك الهدوء في نفسه صوت مداعبة الريح لأوراق الشجر حولهم.

*****

يجلس على صخرة كبيرة مرتفعة عن مستوى سطح الأرض يسند مرفقيه على ركبتيه ينظر للأسفل حيث كومة الحطب وأعواد الأخشاب المشتعلة تضيء ما حولها في بقعة مشعه وسط تلك الظلمة الحالكة شديدة السواد ، خصلات شعره الأسود تتراقص مع نسمات الهواء بسبب انحناءته تلك وجلسته بتلك الطريقة وليس لقوة تلك النسمات الليلية الهادئة ، ينعكس في عينيه السوداء الباهتة حمرة اللهب المتراقصة مع نسمات الهواء لا يُسمع إلا صوت طقطقة النار واضطراب أنفاسه التي أبت والرضوخ له تعلن للجميع عن مدى الكره والحقد الدفين في قلبه ، تنهد بعمق عندما نظر للسكين الصغيرة التي تلعب بها أنامله منذ مدة دون توقف تتنقل بينها بخفة وسرعة وفي حركة أصبحت كعادة له ولا يشعر بنفسه عندما يفعلها ، حركة كان وسام من علمها له أو بالأحرى سرقها منه وهو يتأمله ويراقبه خلسة ، دائما ما يفعلها وسام إذا ما كانت يديه سجينه جيبيه فتعلمها منه بمجرد النظر له ولا ينكر بأنه كان يحاول دائما عندما ينفرد بنفسه لكي يفعلها بكل تلك الخفة والمهارة كوسام وكم جرح أصابعه يومها مما جعل وسام يدرك ما الذي كان يحاول فعله واكتشف سره الذي كان الشيء الوحيد الذي لم يخبر وسام وفارس به فأخبره حينها وسام بسره الصغير لفعل تلك الحركة وكيف يمررها بين أنامله بإتقان كما يفعلها هو فأصبحت حركة لا تفارقه أبدا التصقت به كما أشياء كثيرة وطباع تعلمها منه وكم كرهها هي ونفسه الآن لأنه لم يتخلص منها بعد ، هز رأسه بقوة طاردا تلك الذكرى يريد نسيانها مهما كلفه الأمر فوسام مات .. مات كما فارس ولكن موتته كانت أقسى عليه من موتت فارس ففارس كان مخلصا لهم إلى آخر يوم في حياته أما وسام فماتت مشاعره ولم يتبقى سوا صورته التي لا تزال متجسدة في هيئة أشبه بكونها بشري ، صر على أسنانه بقوة يكتم غيضه ورفع يده اليسرى التي تمسك بالسكين رافعا ذراعه للأعلى ليرمي بالسكين بعيدا ، يجب عليه فعلها عل ذكرى وسام الرائعة التي في ذهنه تنقشع وتذوب في هذه الظلمة وتموت كما مات هو ، دفع يده بقوة للأمام ولكنها توقفت فجأة ممدودة ومتصلبة في الهواء أمامه فشحب وجهه عندما لم يسمع صوت ارتطام السكين بالأحجار تحته فأغمض عينيه بقوة ثم فتحها بصدمة عندما فتح يده أمام وجهه وعلم أن السكين الصغيرة لا تزال فيها وهذا يعني شيئا واحدا أنه لم يستطع حتى رميها وكم كان هذا قاسيا على قلبه ، حاول رميها والتخلص منها ثانيتا ولم تجدي نفعا اتبعها بالثالثة لكن يده تتصلب فجأة وأنامله تزداد شدا على السكين وكأنها ترفض الانصياع لأوامره فعلم أنه لن يستطيع مهما حاول ، رفع كفيه بعد أن وضع السكين بالرفق على الأرض جانبه فاستجابت حينها تلك الأنامل وأخفى بها وجهه وبكى .. بكى لأنه لم يستطع حتى التخلص من قطعة المعدن البالية والتي كانت تخص وسام فكيف بالماضي المرير الذي شكل أجمل لحظات حياته لا يستطيع مهما حاول لقد تعلق في السكين التي كان ينوي رميها قبل قليل لأنها كانت لوسام لقد أعطاه إياها وشعر حينها بأنه ملك الأرض وما عليها من سعادته لم يستطع رمي سكين وسام فماذا عليه أن يفعل الآن وهو من عاهد نفسه على قتل وسام وتدرب ليل نهار لأجل ذلك الحلم الذي كرس حياته على تحقيقه وهو يقترب من ذلك الحلم رويدا رويدا ، ابعد يديه ومسح دموعه التي غلبته وصرخ بأعلى صوته :
- سحقا لك يا وساااااام ، سأقتلك سأقتلك بيداي علّي أتخلص منك ومن ذكراك أيها الخائن ..
التفت سريعا عندما سمع تلك الخطوات الهزيلة والكسولة من خلفه ليجد أنه لم يكن إلا بهاء صديقه الوحيد بعدما اعتزل الكل وتجنبهم ، من تعرف عليه وأصبحا صديقين مقربين من بعضهما بعدما هجره وسام وغادر إمبراطورية البراكين ، الشاب النزق اللعوب غريب الأطوار بخصلات شعره السوداء الطويلة التي تكاد تصل إلى مرفقيه يربط جزئه الأمامي برباط رافعا إياه عن مرمى نظره ، وقف بجانب سيف وأخذ يمد ذراعيه يتمايل بجسده طاردا للكسل وعلى شفتيه ترتسم ابتسامته الكسولة ، قال وهو يحرك يديه في الهواء حوله :
- ما الذي جرى لك يا سيفي ، أحوالك لا تعجبني ..
قال سيف بهدوء يتأمل النار أمامه وتمايل ألسنتها مع نسمات الهواء :
- اقترب الوقت يا بهاء ، اقتربت مواجهتي ..
ابتسم بكسل وجلس بجانبه وقال بنزق :
- إذا يجب أن تكون سعيدا بهذا ..
التفت سيف بوجهه ناحيته وقال ينظر إلى عينيه :
- الإمبراطورية الخضراء ما الذي تعنيه لك يا بهاء ..؟!!
غضن جبينه وكأنه يفكر مبتسما ولا تبدو عليه علامات الجد في كلامه أبدا وقال بعد تفكير قصير :
- اممم لا شيء ..
ابتسم سيف ولمعت عيناه بحقد وقال بكره :
- أتعلم إنها تعني لي الموت البطيء اكرهها واكره كل من فيها ..
رفع بهاء كتفيه بلا مبالاة وكأن الأمر لا يعنيه فقال سيف بعد صمت :
- ما الذي تريد فعله إن انتقلنا هناك .. ؟!!
ابتسم ساخرا وقال وهو يدور بعينيه مفكرا :
- أريد أن أتسلى ، فقط للتسلية والمرح لا شيء مهم بجانب المهام طبعا ..
عاد بنظره نحو النار مبتسما بشرود وقال بخفوت :
- كيف سندخل الإمبراطورية الخضراء ، ما هي الخطة ..؟!!
اخرج بهاء حينها غليونان فضيان من جيبه وقال وهو يمد احدهما لسيف والذي التقطه بسرعة :
- سندخل مع الضابط مهند إلى معسكر البلدة كفريق واحد نقوم ببعض المهام لديهم وفقط هكذا ..
هز رأسه بتفهم يعلم عن شروط معسكرهم السخيف ذاك وهو أن يكون ضابط واحد يشرف على جنديين فقط من حيث تدريباتهم إلى المهام الموكلة لهم ، شفط شفطة قوية من ذلك الغليون الذي جهزه له بهاء مسبقا وقال بسخرية ونظره على النار ينفث الدخان من فمه دفعة واحدة يخرج كل ما في صدره من كره مع خروج الدخان من فمه :
- انتظرني إذا يا وسام ، فقط انتظرني ..
مد حينها بهاء ذراعه اليمنى محوطا بها كتفي سيف الذي رمقه مبتسما وقال بخبث كسول لا يتقنه أحد سواه وهو يحرك رأسه بلا مبالاة لتتطاير تلك الخصلات السوداء حوله :
- ما هذا يا سيف !! لقد شوقتني لرؤية وسامك هذا ..
حرك الغليون في يده وقال بمرارة ونظره على ما يفعل :
- لا يغرك فيه شيء فهو مخادع وكاذب وخائن ..
في حين همس بهاء مبتسما بمكر نزق تلمع عيناه بالخبث في أذن سيف بعد إن قرب وجهه منه :
- لا تنسى بأننا مخادعين وكاذبين وماكرين أكثر منه ..
لحظة صمت قصيرة بعدها هز سيف رأسه بخفة نافيا وقال بهدوء حزين :
- لا .. لسنا مثله ، لسنا مثله أبدا ..
تنهد الآخر بقلة حيلة إذ أن سيف لا يزال كما يبدو عالق في ماضيه يهذي دائما بذاك الوسام وبكرهه الشديد له وأنه سينتقم منه وكرس حياته كلها لأجل ذلك السبب الذي يظن بأنه ليس بالأمر المهم بل سخيف إلى حد ما فالمهم هو أن يعبث ويستمتع ويتسكع في الأرجاء يسعى لأجل إرضاء نفسه وإشباع غروره الذكوري العابث ليس للانتقام من الآخرين وهذا كان سبب انضمامه للإمبراطور جاسم فهو ضمن ذلك له هو ينفذ المهام في مقابل المتعة التي يقدمها له على طبق من ذهب ، حرك جزئه العلوي بحركة ساخرة متململا في جلسته وقال بنصف ابتسامه بنبرته الخبيثة التي لا تدل إلا على انحطاط أخلاقه :
- لا تنسى فنحن نريد أن نستمتع فلقد سمعت بأن الإمبراطورية الخضراء مثيرة جدا وبكل المقاييس ..
رمقه سيف بابتسامة صغيرة إذ أنه لا يفكر بالاستمتاع والعبث حاليا كما يفكر الآخر فهدفه واحد وهو الانتقام من وسام فقط ، فقال وهو يرمق الذي اسند رأسه على كتفه يشفط من السم الذي بيده باستمتاع :
- أريد الانتقام أولا يا بهاء ..
ابتسم بخفة ورفع نظراته إلى وجه سيف القريب منه وقال دون اكتراث بعد أن أماء برأسه إيجابا مازال يستند برأسه على كتف سيف :
- انتقم منه كما شئت يا عزيزي ..








نهاية الفصل , قراءة ممتعة لكم أحبتي ..
بقلم محبتكم : روح الوسن ..


روح الوسن .. 06-04-20 01:43 PM

.. الفصل الرابع والعشرون ..
.
.

[ أزمة مؤقتة ]
.
.

تنهد باستسلام وهو ينظر إلى شتى أنواع الأطعمة أمامه بمختلف الأشكال والألوان كما الأحجام ، منها الفاكهة الطازجة للسلطات الخضراء والملونة بجانب اللحوم وأطباق الأرز والمعكرونة والكثير الكثير غيرها والتي أصرت عليه السيدة هند بأن ينتظر ويتناول الطعام معهم هذا غير الحفاوة والترحيب وحسن الاستقبال الذي تلقاه منها وهي تغدقه بحبها وحنانها وعبارات الترحيب والشوق والحب الذي لم يفهمها كلها ولم يتوقف لسانها عن نطقها وفمها عن التفوه بها وكأنه ابنها الوحيد عاد من السفر للتو أو أنه نجا من موت محدق في حرب ساحقة ، فاكتفى بابتسامة صغيرة أهداها إياها لتزيده وسامة على وسامته مع كلمات شكر بسيطة نطقتها شفتيه التي تفضل الصمت دائما ، قالت السيدة هند تنظر إليه بحب بمقلتيها الزرقاء :
- ما هذا المساء الرائع وأنا أراك يا بني لماذا لا تزورنا كما في السابق ..؟!!
نظر إليها ببرود ولم يعرف حقيقة بماذا يرد عليها فقالت تنظر إليه بتوجس :
- هل زوجي جميل يزعجكم ويتعبكم بتدريباته في المعسكر .. ؟!!
إماءه بسيطة منه تدل على عدم صحة كلامها اتبعتها تنهيدتها المستاءة وقالت :
- جميل لا يتغير يعشق التدريبات بجنون حتى أنه كاد يجبرني عليها بحجة أنني قد احتاجها ..
ضحكت ضحكة صغيرة ترفع أناملها تغطي بها شفتيها ثم أكملت قائلة ترمي خصلات شعرها الأشقر خلف ظهرها :
- يا ويلي تخيل ذلك يا بني وأنا امسك بالسيف وأقاتل أقسم أنها لا تليق بي ..
ابتسم حينها وسام ابتسامة صغيرة لهذه السيدة العظيمة فهي والضابط جميل و مايا كان يعرفهم وهو لا يزال في إمبراطورية البراكين ومع الضابط طلال ضمن جماعة قراصنة الموت والتي يقودهم فارس ، الذكرى القديمة والوحيدة التي انتقلت معه من ماضيه المؤلم إلى حاضره الغريب .. والأغرب من ذلك بأنهم انتقلوا معه مباشرة بعد أن وطئت قدماه أرض الإمبراطورية الخضراء هربا وكم استغرب ذلك وشك في كونه أمرا مدبر لكن الضابط جميل أكد له أنها مجرد مصادفة بحته وأنه تم استدعاءه من قبل القائد رائد بطلب منه بأن يكون أحد الضباط الذين يدربون الجنود في معسكر البلدة والذي فتحه الإمبراطور عامر حديثا وأصر على أن يأخذه معه لذلك المعسكر ومن يومها وهو جندي مخلص له إذ أنه سانده في أشد لحظات عمره قسوة عليه ولم يتركه وحيدا ، أما عائلة رامي بأكملها كانوا أول عائلة ترحب به بينهم بعد انتقاله للإمبراطورية الخضراء وبعد تلك الحادثة المنكوبة التي حلت به ورغم تحفظه الشديد في عدم الاختلاط بهم إلا أنه وجد رامي ابنهم الأوسط شريكا له في معسكر البلدة ليتشاركا التدريبات والمهام معا بقيادة الضابط جميل ..
نهضت حينها السيدة هند بعد أن اعتذرت من وسام بأدب شديد وأنها قليلا وتعود فتمتمت بغيض وهي تتوجه لإحدى الغرف في ذلك القصر الضخم والفخم بجميع المقاييس :
- يا الهي ما الذي تفعله مايا !! أكل هذا الوقت استحمام وتبديل ثياب فقط ..
توجهت نحو الباب الذي قصدته على نظرات وسام التي تبعتها بهدوء وصمت وطرقت الباب طرقتين قبل أن تدخل وتغلقه خلفها جالت بنظراتها بسرعة في تلك الغرفة الواسعة والتي دمجت اللونين الوردي الفاتح مع الذهبي في جميع أثاثها وجدرانها التي زينتها أوراق الحائط والشمعدانات الذهبية تحمل شموعا مضيئة عليها والكثير من اللوح الفنية غالية الثمن لتستقر نظراتها على السرير الواسع بملاءته الوردية والمنقوش بالزخارف الذهبية تتوسطه تلك الشقراء الفاتنة والتي غطت خصلات شعرها كتفيها تضم ركبتيها إلى صدرها بفستانها الحريري بلون عيناها الزرقاء والذي انساب على جسدها بكل عنفوان ، توجهت السيدة هند نحوها وقالت بقلق وتوجس :
- مايا حبيبتي نحن ننتظرك على طاولة الطعام وأنتِ جالسة هنا ماذا بك هل تشكين ألما .. ؟!!
هزت رأسها بخفه وقالت تتجنب النظر لها :
- أمي لماذا تصرين على أن أكون معكم !! تناولوا الطعام بدوني ..
شهقت الأخرى بصدمة لم تخفيها وجلست على طرف السرير ترمقها بقلق لم تستطع السيطرة على ظهوره في ملامحها الجميلة رغم كبر سنها وقالت وهي تمد يدها لتلامس خد مايا تنظر إلى عيناها الزرقاء الواسعة :
- لماذا يا عزيزتي ما الذي جرى لك هل أنتِ متعبة .. ؟!!
هزت مايا رأسها نفيا ولم تتحدث فقالت السيدة هند بعتاب :
- إذا ما الذي يجري؟! ما بك لا تقلقيني عليك يا ابنتي ..
تمتمت ببرود :
- لا شيء أمي ..
نظرت إليها بشك وقالت وهي تقف مستعدة للانصراف :
- إذا لا تجعلي وسام ينتظر أكثر فهو ضيف عندنا ومن واجبنا إكرام الضيف ..
غادرت وتركتها تتخبط بين مشاعرها المتضاربة ما بين شد ورد تخرج أم لا .. تواجه أو لا ، لا تريد مقابلة وسام بعد المواقف المحرجة معه وكلها كانت ستتناساها فهي قطعا لا تستطيع نسيانها لكن أخر موقف لها معه وعند وصولهم لمنزلها لا حتى مجرد التفكير فيه يشعرها بكمية كبيرة من الغباء والخجل سحقا لها ما كان عليها أن تتهور وتدعي معرفتها بكيفية النزول من على ظهر الحصان فلقد انتهى بها المطاف بين ذراعي وسام تتكئ على صدره بيديها لأنها تعثرت في نزولها ولا تعلم كيف إذ أن قدمها يبدو بأنها علقت في فستانها ، هزت رأسها بخفة تطرد كل تلك الذكرى التي لم يتعدى حدوثها بضع ساعات ونهضت للتوجه للمرآة الكبيرة المعلقة على خزانة الثياب والمزينة بنقوش ذهبية بارزة ، نظرت لنفسها فيها رتبت فستانها ومسحت على شعرها ترتب خُصَلة الطويلة وأخيرا ضربت خداها بخفة فهي لازالت تشعر بالخجل يقفز على خداها ليصبغهما بلون وردي ، أخذت نفسا عميقا وبعد بضع خطوات متتابعة كانت تقف أمامهم في غرفة الطعام تضم يديها قبل أن ترتفع أناملها لتدس خصلات شعرها خلف أذنها حين قالت بهمس :
- اعتذر على تأخري ..
رفعت رأسها لهم وعادت خطوة صغيرة للخلف عندما علمت بأن الأربع عيون تنظر إليها عينا والدتها المحبة وعينا وسام ترمقها بهدوء عجيب ، أخفضت نظرها سريعا وتوجهت نحو أقرب كرسي خشبي بقرب والدتها سحبته وجلست ليبدأ الكل بتناول الأطباق المتنوعة من الطعام .

*****

انقلبت على الجهة اليسرى ثم عادت وانقلبت على الجهة اليمنى وسرعان ما اخفت وجهها بين طيات وسائدها البيضاء والمحشوة بالقطن الطبيعي والريش تخفي دموعها الصامتة فيها ، تتقلب في فراشها الناعم ولم يزرها النوم منذ ساعات وهي تتقلب تطارده كما تطارد السراب ولا تجده وكيف تنام وعائلتها كل فرد فيها لا يعلم عن الآخر شيئا !! كيف وكل واحد منهم غاضب من الآخر والأسباب مجهولة !! ماذا بهم تشتتوا هكذا وبسرعة !! من يريد أن يسرق فرحة قلبها الصغير بعائلتها الصغيرة التي تعني لها كل شيء جميل في هذه الحياة !! ، أبعدت اللحاف عنها بقوة وجلست ترتب شعرها الذهبي لا تستطيع أن ترتاح وتنام قبل أن تتأكد من أن الأمور تسير على ما يرام ، نهضت بخطوات خافته تعلم بأنها بفعلها هذا تخالف أوامر والدتها لكنها لا تستطيع فقلبها لم يرضخ لها ، فتحت باب غرفتها ببطء وأخرجت رأسها من خلاله تراقب الرواق الطويل والمظلم نسبيا إلا من ضوء بعض الشموع المعلقة في جدرانه ، فتحت الباب أكثر وخرجت راكضة كي لا يوقفها أحد ما ولم تتوقف عن الركض إلا عندما وقفت أمام أحد الأبواب الكبيرة والذي غطاه الطلاء الذهبي والنقوش البارزة ، دفعت الباب بخفة مصدرا صريرا خافتا ليلتفت لها فورا من كان يحبس نفسه هناك منذ ساعات يقف أمام رفوف خشبية امتلأت بالكتب يمسك بين يديه كتاب أسود كبير يرتدي بدله بيضاء لا تناسب سواه عدا المعطف الذي وضعه على طرف الكرسي والذي يبدو بأنه كان يجلس عليه ، امتلأت عيناها الواسعة بالدموع لرؤيتها للشخص الذي لم تكن تريد إلا أن تراه هو فقط خصوصا هذا الوقت وفي هذه الظروف الصعبة وتحت التقلبات التي حلت بهم فهو الذي ستجد كل الإجابات عنده ومتأكدة بأنه لن يخفي عنها أي شيء بينما كان الأخر يرمقها بقليل من الاستغراب إذ أن الوقت متأخر ما الذي يجعلها مستيقظة إلى الآن ؟! ولماذا هي هنا ؟! انقبض قلبه بضيق عندما انتقلت نظراته من ملامحها إلى ارتعاشه أطرافها وجسدها وعلم تماما بأنها كانت في سريرها من فستان النوم الأبيض الحريري الذي وصل إلى نصف ساقها بأكمامه الطويلة فلا تظهر إلا تلك الأنامل البيضاء من تحته ، عاد بنظره إلى عيناها الغارقة في بحر الدموع فابتسم لها ابتسامة دافئة محبه لا يهديها لأحد سواها ، هذه الطفلة لن تكبر أبدا ومهما مرت بهم السنين ، فمد يده نحوها أن اقبلي وتعالي فما كان منها إلا أن تلبي النداء في عجل فركضت نحوه لترتمي في حضنه تبكي بحرقة ، ضمها بقوة يمسح بيده على شعرها الحريري بعد أن رمى الكتاب على الطاولة الخشبية الكبيرة التي كانت تتوسط المكتبة الخاصة به مكانه المفضل والذي دائما ما يجد نفسه بين جدرانها ورفوفها المصفوفة والممتلئة بالكتب ، قبّل رأسها وقال بنبرته العميقة ذات النبرة المخملية :
- ما يبكي شقيقتي الغالية يا ترى .. ؟!!
حركت رأسها نفيا وهي لازالت تخفي وجهها ودموعها في صدره فلم يعد للكلمات أي معنى قد يفيد ويصف ما تشعر به وهي متشبثة بأحد مصادر أمانها وسعادتها فهذا ما كانت تريده وتريده فقط إلى آخر يوم في حياتها ، تركها تبكي طويلا حيث اختارت أن تفرغ كل ما تكبته في نفسها يمسح على شعرها بخفة إلى أن خف بكائها سوى من شهقات صغيرة متتابعة فأبعدها عنه بخفة ماسحا دموعها من على وجنتيها المحمران من كثر البكاء بظهر أنامله ، قال بهدوء ناظرا لعينيها :
- ماذا بك يا زهرة تكلمي ..
شهقت شهقة صغيرة وقالت بعد أن أنزلت رأسها مبتسمة ابتسامة حزينة كسيرة كروحها :
- لقد قلقت عليك ..
ابتسم ابتسامته الدافئة يرمقها بحنان وقال بضجر مصطنع يمازحها بعد أن وضع يديه وسط جسده :
- نعم نعم لا تكوني والدتي وأنا لا أعلم !! ثم أين ذهبت لتقلقي علي ؟؟ بحق الله يا زهرة لا تكون والدتي أصابتك بعدوى قلقها المستمر ..
رفعت رأسها تنظر إليه وقالت بنفس ابتسامتها الحزينة تميل برأسها قليلا :
- هذا لأننا نحبك يا شقيقي ..
- بربك زهرتي لقد أصبحت رجلا إلى متى ستنظرون إلي كطفل ..؟!!
قالها مندفعا يلوح بيده في الهواء ولم يظهر في نبرته تلك أي علامات على المزاح فيبدو بأن كل ما يحتاجه الآن هو أن يعبر ويبوح عما يخالج صدره مما قد أثقله وكم خشي هذه اللحظة التي سينفجر فيها غضبه وحنقه من الجميع وكره نفسه أكثر كونه يفجره في القطعة من قلبه التي تقف أمامه والتي لا علاقة لها في كل ما حدث له ، هو حقا لا يريد ذلك لكنها أكثر من يفهمه ويقدره ويشعر به لكنها الآن تحتاج إلى من يستمع إليها لا أن تسمع من أحد تحتاج إلى من يحتويها لا أن تحتوي أحد وكم شعر بالتشتت في أفكاره حينها ، فقالت تنظر إلى عينيه بصدق يخرج من أعماقها ليمتزج مع كلماتها الهادئة :
- بل أروع وأقوى وأذكى رجل أنت يا طارق لكن هذا لا يمنعنا بأن نقلق عليك ..
أشاح بوجهه يزفر الهواء بقوة فهي كمن سكب عليه الماء البارد ليتوقف كل ذلك الانفعال ففي الأيام الأخيرة أصبح يفقد أعصابه سريعا وهو الذي عرف بحكمته في التصرف لا بتهوره وطيشه فقال بعد لحظات :
- ها أنا أمامك بخير هيا يا طفلتنا المشاغبة لسريرك فورا ..
فابتسمت بمشاغبة وهزت رأسها نفيا بخفة وكأنها تثبت له أنها لازالت طفلة وأنها تتحداه بأنها ستفعل ما يعجبها وتريده ولن ترجع إلى غرفتها لوحدها فعلم مغزاها سريعا ولم يحتج الأمر لتفكير فهما روح واحدة ، وضع يديه وسط جسده يرمقها بضيق بنصف عينه هذه المحتالة تريد كما في السابق أن يجلس بجانبها إلى أن تنام ، فابتسمت له ابتسامة تحولت لضحكة صغيرة رقيقة تشبهها تماما في كل شيء وهي ترى كيف اختلطت ملامحه ببعضها بعبوس زاده وسامه ، هي تريد حقا كما كانا في السابق ولا يهمها إن كبرا في العمر فهو شقيقها وتوأمها أيضا فلتعانده قليلا لتحصل على بعض حنانه وعطفه وحبه الذي لم يبخل بها يوما بإعطائها إياها بل يعطيها بسخاء دون توقف ، ارتخت كتفاه باستسلام وهو يمر بجانبها مجتازا لها قاصدا المغادرة فقال بنبرته المخملية التي تخللها الضيق :
- تحلمي يا زهرة تنامي وتحلمي بأن اقرأ لك قصة لكي تنامي كما في السابق ..
تبعته مبتسمة بحب فكم تحب شقيقها بجنون ولا تعتقد بأن يأخذ مكانه أي شخص في هذا العالم وتحت أي مسمى كان ، شاب ملامحها الفاتنة الحزن عندما تذكرت بأن والدها يريد تزويجها من ابن عمها حسام هل يريدون إبعادها وبأي ثمن عنهم ؟! هل هي عبء على عاتق والدها لدرجة أن يزوجها بمن يكرههم كره جما ؟! وبالتأكيد هي ليست مستثناه من كرهه الجنوني اتجاههم ، أخذتهم خطواتهم حيث غرفتها فوقف طارق بجانب الباب لتدخل أولا احتراما لها ولخصوصياتها التي لم تمانع يوما بأن يطلع عليها كلها ودون قيود وشروط وكم يحرجه ذلك وفي نفس الوقت لا يريد جرحها ، دفعت الباب بخفة لازالت تختار مقلتيها الأرض عن كل شيء حولها حتى الذي كانت سعيدة جدا بأن لبى نداءها الذي لم تنطقه شفتيها وقدم معها بنفسه تاركا كل شيء خلفه لأجلها ، توجهت نحو سريرها لتجلس على طرفه تشد أناملها على فستانها الحريري فغضن مستغربا الذي لم تفارقها نظراته فتقدم نحوها وسحب كرسي طاولة التزيين ليجلس عليه وقال بهدوء ناظرا إلى ملامحها التي يخفيها شعرها الذهبي بسبب انحناء رأسها :
- ماذا بك يا زهرة ؟! كم مرة سأسألك نفس السؤال وتتجاهلينه ..؟!
لتسقط أول دمعة من عينها لتستقر في حجرها فتنهد طارق بعمق فيبدو بأنه علم لما هي متضايقة لأنه نفس السبب الذي هو متضايق لأجله بل يعتبر أحد همومه التي تشغله ، نهض وجلس بجانبها وحوط كتفيها بذراعه فقالت له بعبرة :
- لماذا يا طارق يريد أبي تزويجي هل أنا عبء عليه ولماذا يسجن نفسه في غرفته ولا يقبل رؤية أي أحد منذ ذلك الاجتماع البائس حتى أنني أردت أن أفهم منه الأمر لكنه لم يعطيني فرصة اخبرني وأرحني يا شقيقي أرجوك ..
ارتفع نظره ليعانق الفراغ إذ أنه يعلم جيدا تفكير والده والمسؤوليات الكثيرة على عاتقه يريد تأمين الإمبراطورية وردع المتربصين بها ولم يجد غير هذه الطريقة بأن يعلن رسميا عن نائب له ويزوجه ابنته فهو سيحقق انجاز عظيم بفعله لذلك لكنه يخطئ .. يخطئ كثيرا بفعلته فهو امّن مستقبل ابن شقيقه الذي يكرههم وابنته التي لازالت تطلب حنانهم وقربهم والإمبراطورية الخضراء بأكملها من الضياع بينما لم يذكره في شيء متناسيا إياه ولم يفكر به مطلقا ويذكر جيدا موقفه كالمتفرج الأحمق و المشاهد المستمع لقراراته في ذلك الاجتماع العائلي ولم يذكر حتى اسمه وكأنه ليس ابنه الذي دائما ما يقف بجانبه ويسانده ، قال بعمق بنبرته المخملية لازالت يده تمسح على كتف زهرة :
- أهذا كل ما يقلقك ؟! لا تخافي يا شقيقتي لن يتم أي أمر ما لم تكوني موافقة عليه برغبتك ..
همست ببكاء :
- ووالدي ماذا به لماذا أشعر بشيء خطير يحوم حوله ويرفض أن يصارحنا به وكأننا لسنا عائلته ..
قبل رأسها بخفة وقال لها بنبرة مطمئنة :
- هناك أمور كثيرة يا زهرة تجري في الإمبراطورية بأكملها في الخفاء ووالدي يبدو بأنه خائف من أن تحدث توقعاته لذلك يجب علي أن أتصرف سريعا وسريعا جدا ..
نظرت إلى عينيه بنظرات ملئها الرعب وقالت بارتجاف خائف :
- ما الذي تقصده يا طارق أنت تخيفني ..
هز رأسه بخفة نفيا وكم بدا مشتتا وتائها فانقبضت تلك الأنامل البيضاء على قميصه جهة صدره ترجوه بأن يرحمها ويتحدث فقال بعد صمت :
- لا تشغلي تفكيرك فأنا لم ولن أقدم على أمر متهور وطائش ولن اسمح بأن يلحق الأذى أي شخص من عائلتنا أو من الإمبراطورية الخضراء جميعا ..
ولم يدل تفكيره هذا إلا على رجاحة عقله وحكمته في التصرف اللذان لطالما عرفا به ، الأمير الهادئ وصاحب الانفعالات المتزنة وذو النظرة الثاقبة وسريع الملاحظة لكن شقيقته كانت لها نظرة أخرى وبأنها ستفقده أيضا كما عائلتها ولن تبقى إلا لحسام فهي خطيبته حسب قوانين العائلة الحاكمة فتساقطت دمعاتها تحكي عجزها عن حماية المقربين لها ولملمه شتات قلوبهم ودفع الأذى والمتربصين بهم بعيدا ، قال طارق بعد أن استقام واعتدل في وقفته :
- توقفي عن البكاء يا زهرة وكما قلت لك سابقا أنا لن أتهور بأي شيء وسنتخذ الإجراءات اللازمة قبل وقوع الكارثة ووالدي سأتحدث معه بنفسي عن أمور كثيرة لذلك لا تقلقي فهي أزمة مؤقتة وستزول وتنقشع للأبد ..
أماءت برأسها إيجابا وأهدته ابتسامة كسيره فهي إن صدقت أحد فلن تصدق إلا والديها وشقيقها فبادلها ابتسامة دافئة وقال متوجها نحو الباب :
- تصبحين على خير يا شقيقتي واتركي كل شيء للغد ولا تفكري كثيرا وكما أقول لك دائما بأن لا تخافي وأنا بجانبك زهرتي ..
راقبته نظراتها المحبة إلى أن اختفى من أمامها ، كم تتمنى أن تهدي شقيقها سعادة الدنيا كلها وتجمعها له وتخبئها داخل صدره فهو يعرف تماما ما الذي يدخل السرور لقلبها ويعرف كيف يرسم ابتسامتها ويمسح دمعتها فهمست بحب ودموعها أبت أن تجف :
- أحبك يا شقيقي ووجودك بقربي أنت ووالدّي هو مطلبي ومرادي في هذه الدنيا بأكملها ..





نهاية الفصل , قراءة ممتعة لكم أحبتي ..
بقلم محبتكم : روح الوسن ..

روح الوسن .. 13-04-20 10:06 PM

.. الفصل الخامس والعشرون ..

.
.

[ خيبة أمل ]

.
.

أغلق الباب خلفه بهدوء شديد بعد أن رمق تلك النائمة تغط في نوم عميق وبعد أن أفرغت كل ما في قلبها من كلام وكل ما في عيونها من دموع وأخيرا استسلمت للنوم بعد أن مزقت قلبه ببكائها ونحيبها ذاك ولم تكن تردد إلا بأنها لا تريد لعائلتها أن تفترق لأي سبب كان ، تنهد بألم فهو يجب عليه أن يتحرك وأول محطاته في هذا القصر الكبير هي مكتب والده حيث سجن نفسه فيه منذ انقضاء الاجتماع العائلي والكارثي ذاك ، سار بخطواته الثابتة والواثقة في الرواق الطويل ونزل العتبات المتراصة والمتقاربة من بعضها البعض لتسلك خطاك دون جهد وتعب لتصميمها الراقي جدا ولم يلبث إلا وقد وقف أمام المكتب المقصود ، طرق الباب طرقتين ولم يأتيه أي رد فقبض أصابعه بتوتر شديد إذ أن القلق راوده فأعاد الطرق من جديد فسمع همهمة تسمح له بالدخول حينها تنهد بارتياح ، أدار مقبض الباب وفتحه بهدوء كهدوء ملامحه رغم الضجيج الذي بداخله ، تعلقت عيناه بالجالس خلف مكتبه منغمس في عمله ما بين ورق ومجلدات يمسك بها بين أنامله ، تقدم طارق حتى أصبح واقفا منتصبا أمام المكتب الكبير ، تنحنح قليلا وقال باتزان بنبرته المخملية بأدب يلف كلماته :
- أتأذن لي يا سيدي بأن أحادثك قليلا واستقطع جزءا من وقتك ..
إماءة بسيطة هي ما صدر عنه وقال ببرود وعيناه تبحثان عن شيء ما في كومه الورق :
- اجلس يا طارق ..
تنهد بضيق إذ أن والده لم يرفع حتى بصره ليطالعه ولا يعلم لماذا دائما ما يغمض عينيه عما يفعل من أجله وأجل الإمبراطورية جمعاء ولا يقدر له أي صنيع ، جلس على الأريكة العتيقة وحلت فترة من الصمت كان قد تأمل طارق فيها بأن يتوقف والده عن عمله ويترك كل شيء لأجله ولأجل الاستماع له لكنه خيب ظنه في ذلك وهو يمسك أحد الظروف الورقية التي أخرجها من درج المكتب الكبير ووضعها أمامه وأخذ يخط عليها بالحبر الأزرق الخاص به بصفته الإمبراطور عامر وأكمل وكأنه غير موجود ، لقد استغرب طارق في بداية الأمر بأن والده أذن له بالدخول وصور له عقله بأنه يحتاجه بجانبه كما كان دائما يقترح عليه بعض الأفكار في بعض الأمور ويساعده في عمله ويقدم إليه الاستشارات التي يحتاجها والتي لم يخيب ظنه أبدا فيها بل انتشله من مآزق كثيرة كاد أن يوقع فيها لكن لاشيء من ذلك قد حدث ، فأدخل طارق أكبر كمية هواء إلى رئته يستجدي بذلك الهدوء كي لا يفقد صوابه وينطق لسانه بما قد يسبب في ندمه طيلة عمره فمهما كان فهذا والده يجب عليه احترامه وتقديره ومساندته وقت يحتاج المساندة أو لا يحتاجها فلا أحد يملك القدرة على تغيير والديه أو اختيارهم ، قال بهدوء ينظر إلى الذي لم يرفع نظره إليه حتى الآن :
- لقد أعدنا ترتيب الحرس كما أمرت سيدي وعممنا الأوامر الجديدة بينهم كما تم تبديل قائد الحرس السابق بآخر من الجيش العسكري ..
تردد في قوله كثيرا وظهر ذلك جليا في ملامحه عندما قال بهدوء حذر :
- لكني يا أبي لا أظن أن تلك فكرة صائبة بأن نستبدل قائد الحرس بقائد من الجيش العسكري ..
وشعر حينها عامر بارتباك طارق الذي راوده فلقد ناداه أولا بسيدي وعندما أبدى رأيه قال والدي لكنه لم يعر ذلك أي اهتمام وأكمل عمله بصمت ، فحاول طارق مرة أخرى بأن يبدي رأيه في الموضوع ويتحاور مع والده ويناقشه دون أن ينتهي الحوار الذي لم يكن إلا هو يحادث نفسه بالصمت المطبق وقال بنبرة شبه مترجيه :
- أرجوك يا أبي أنا لم أقصد بأني لا أثق في قراراتك لكني أعتق...
- للضرورة أحكام ويجب علي أن أُؤَمِّن القصر بما فيه الكفاية ..
قاطعة بحدة ظهرت في نبرته منهيا أي مجال للحديث في الموضوع فعم الصمت بينهما مجددا وكأنهما ليس والد يجلس مع ولده فلا زال والده يبني الحواجز المنيعة بينهم دون أي اكتراث وبدون أي سبب ، أرخى طارق كتفيه باستياء ويأس وظهرت على شفتيه ابتسامة ميتة يحدق في الفراغ بشرود حزين لا يعلم ما الذي يجب عليه فعله لكي يستمع إليه والده لمرة واحدة على الأقل فهو لم يرتاح مطلقا لتلك الفكرة التي أمرهم بتنفيذها، كيف لقائد جيش أن يحرس القصر ؟! فلو حصل أي انقلاب عسكري سيكونون أول الضحايا هو وعائلته فهم على شفى خطر سحيق وشيك الوقوع وهم يرون التزعزعات التي تحصل في الخفاء وكأنهم ينون إعادة الفوضى كما حدث سابقا ، أردف طارق مكملا بنبرة هادئة لازال نظرة معلق في اللاشيء :
- وعيّنا قائدين جديدين في الجيش ومازال البحث مستمرا على القائدين السابقين اللذان اختفيا فجأة ورجالنا منتشرون في الإمبراطورية بأكملها متخفين بين العامة يبحثون عن أي خيط قد يوصلنا لهم ..
صمت للحظة ولم يتلقى أي رد فعل من والده فأكمل قائلا :
- سير التجارة يسير على ما يرام بين الثلاث إمبراطوريات أما إمبراطورية الجليد فلم يرضى الإمبراطور أدهم بتبادل البضائع بينهم وبين أي من الإمبراطوريات حتى نحن بعد حادثة اغتيال أحد تجارهم على حدود إمبراطورية الصخور والتي حدثت قبل ثلاثة أعوام ولازالت ملابسات تلك الجريمة مجهولة إذ أن الإمبراطور صخر أمر بإغلاقها لأسباب مجهولة ..
صمت لبرهة يتنفس بعمق وقال وقد تغير مرمى نظره إلى والده المشغول تماما بما يفعل :
- أرى ألا نتغافل عن تلك الجريمة التي حلت بتاجرهم الوحيد الذي خرج من عندهم يتاجر ببعض الحلي غالية الثمن فلماذا لم يكن لديه قافلة ولم يكن لديه أي خادم أو حارس أو حتى فارس فمن من التجار يخرج لوحده ويتاجر بنفسه دون مساعدة أي شخص وهو يخرج من بلدته لبلده أخرى لأول مرة ؟! أرى أن هنالك تلاعب وخدعة في الأمر وكيف للإمبراطور صخر بأن يدعي بأنه أحد جنوده من قتله بعد أن أنكر ذلك أولا ..؟!
اعتدل طارق في جلسته فالأمر يستحق الانتباه ووالده لا يوليه أي اهتمام فقال بنبرة متزنة لكن الضيق أخذ مأخذه منها في الظهور :
- أبي هنالك سر خلفهم أنا متأكد ولأول مرة يحدث حدث يرج الإمبراطوريات الأربع كلها ويزلزلها ولا يتدخل الإمبراطور جاسم وهو الذي يحشر أنفه في كل صغيرة وكبيرة تخصه أو لا تخصه ألا ترى أن في الموضوع شك وريبة وا....
وقطع كلامه مجفلا بصدمة عندما دوى صوت تلك الضربة القوية من يد عامر الذي ضرب مكتبه بقوة أسقطت بعض الأوراق من عليها وهو يرفع نظره به لأول مرة منذ دخوله فقال صارخا به فكما يبدو بأنه كان يجاهد نفسه على أن يضبط أعصابه طيلة المدة السابقة وها قد انفجر كالبركان مدمرا كل شيء حوله وأوله ذلك القلب الذي ينبض بحبه لوالده وخوفه الشديد عليه :
- أصمت .. توقف عن الادعاءات الباطلة والوساوس ، من يسمع كلامك هذا لا يصدق بأنك ابني ، ابن الإمبراطور عامر ما الذي حل بعقلك هل يعقل أنها الغيرة من حسام وبأنني اخترته ليكون نائبا لي وأنت بعده !! لا يجوز أن ترمي بظنونك السيئة على الآخرين يجب أن تتوقف عن التفكير في كل شيء وبدقة فسوف تصاب بالجنون بالتأكيد وأنت تحاول أن تجد تفسيرا لكل شيء وها أنا أراك قد قاربت تلك الحالة وبشدة ..
توقف يتلقف أنفاسه وكأنه كان يركض لأميال وأميال فهذا هو الغضب المكبوت عندما يخرج دفعة واحدة مدمرا كل شيء وبدا أنه كان يريد أن يكمل لكنه تدارك نفسه وهو يخفض رأسه ويخلل أنامل كلتا يديه في شعره يشده بقوة وكأنه يريد أن يقتلعه من جذوره ، حينها نهض طارق بهدوء وانحنى بكل احترام وقال بهمس هادئ ومتزن :
- اعتذر على إزعاجك سيدي ، اسمح لي بالانصراف ..
وغادر بصمت يجر خطواته ، أحس حينها بأن ساقيه تحولتا إلى صخرتين كبيرتين لثقلهما ، شعور الخيبة يتملك كيانه بأكمله خيبة أمل لم يشعر بها طيلة حياته استوطنت روحه المنكسرة ، أقال والده بأنه مجنون !! وبأنه يغار من حسام لأنه فضله عليه !! هل شعر بالخزي والعار كونه ابنه ولأنه يفكر بشكل مختلف ومن منظور آخر !! هل يستحق ذلك لأنه كان خائفا على والده ومنصبه وإمبراطوريته !! هل يستحق ذلك فعلا !! ، خطى خطواته التائهة وشعر بأن القصر كبر حجمه وازداد ظلمة رغم كل تلك الشموع التي تكاد تضيء الدنيا لكثرتها ، ارتفعت يده لياقته وأخذ يفك أزرار قميصه بأنامل مرتجفة يشعر بالاختناق فهو يكاد يموت ، تنقلت عيناه في جميع الأرجاء وأحس بأنه ضائع لا وجهة محددة له يتنفس بصعوبة ولا يعلم هل فقد القصر الأوكسجين أم أنه بدا يفقد الحياة !! ولم يحس بأن الحياة دبت عروقه وإن شيئا يسيرا إلا عندما وجد نفسه وسط الحديقة الخارجية للقصر ، أسرع الخطى متوجها نحو إسطبل الخيول وتوجه عنوة نحو خيله الذي يشبه في لونه لون الرماد الصافي بشعره الأسود الحريري ، أخرجه وامتطاه سريعا وانطلق لا يريد إلا أن يبتعد .. يبتعد عن القصر متناسيا المخاطر التي قد تحل به وهو يتنقل في الإمبراطورية لوحده دون حراسة وهو ابن الإمبراطور عامر ، لكن العقل قد يتوقف عن العمل في بعض الأحيان لقوة الصدمة التي تلقاها ومن يمكنه أن يلومه على ذلك بعد كل ما حدث ، ابتعد وابتعد وابتعد وسار طويلا حيث لا وجهة محددة بسرعة خاطفة يكاد يطير خيله من سرعته ، يلفح وجهه نسيم الليل البارد مبددا كل الاختناق الذي شعر به وحابسا لتلك المياه المالحة التي بدأت في التجمع في عينيه ، لا يعلم أهو من فعل الهواء القوي الذي يسير عكسه يضرب وجهه بقوة !! أم بسبب ضربه أخرى أصابت قلبه وبقوة أكبر !! ، توقف بعد سير طويل جدا ووجد نفسه حيث ملاذه منذ سنوات ، أمانه واطمئنانه الذي وجده في هذا المكان بالتحديد ، نزل من على ظهر خيله وتقدم يسير بهدوء وجلس أمام تلك المياه الصافية التي عكست ضوء القمر فيها ، مد يديه وغمرهما في البركة وأخرجهما حاملا بعضا من مياهها ورماها سريعا على وجهه وكرر فعلته تلك مرة واثنتين وثلاث فكم أنعشته هذه المياه مياه بركة الحكمة التي لطالما عشقها وعشق اسمها وكل ما يخصها ، استند على إحدى الأشجار خلفه وقطرات صغيرة تنزلق من خصلات شعره التي تشبعت بالمياه لجبينه تمر بوجنته لتنتهي عند ضقنه وتسقط بعدها حامله جزءا من همه معها ، أغمض عينيه يستمتع بالهدوء وأصوات الطبيعة حوله حيث لا ضجيج ولا صراعات نفسية لا يوجد إلا الهدوء والسلام الداخلي وسرعان ما أخذه النوم وكم كان شاكرا له لأنه سرقه من واقعه لحيث عالم الأحلام الذي لا يعرف إلا السلام والسعادة .

*****

أغلقت الباب خلفها بهدوء وقال الذي اتخذ الشرفة مسكنا وملاذا له :
- هل نامت ..؟!!
أماءت برأسها ترمقه بحب وقالت وهي تقترب منه :
- أجل يا بني لقد نامت أخيرا ..
سحبت الكرسي المقابل له وقالت بضحكة رقيقة كرقة قلبها :
- لا تعلم أي نومه نامتها فهي لا زالت تكمل لعبها تصارع الوسائد واللحاف على السرير ..
ابتسم ابتسامة صغيرة وعاد بنظره إلى الشرفة المطلة على الحديقة الخارجية لمنزلهم ولم يلبث إلا وقد عادت عيناه ترمق التي قالت بحنان وسعادة :
- لقد أسعدتها يا رافع باللعب معها وأسعدتني أيضا برؤيتكم معا ..
انزل بصره لتعانق عيناه الأرض ولم ينطق بكلمة فهو لم يكن يريد ذلك إلا لأجل أن ينتظر والده والذي لم يأتي إلى الآن والفجر كاد أن يطلع فهو لازال عازما على ما قد قرره سابقا لكنه ينتظر والده على أحر من الجمر ، قال بهدوء بنبرة عميقة يتجنب النظر لها :
- لماذا تأخر والدي يا أمي ..؟!!
تنهدت الأخرى بحسرة وقالت :
- لا أعلم يا بني وكم اشغلني فأنا قلقة عليه جدا فليست من عادته أن يتأخر كل هذا الوقت ..
لحظة صمت طويلة حلت بينهما لم تشأ السيدة بثينة على أن تقاطعه وتزعجه بل اكتفت بتأمل ملامحه التي اشتاقت لها كل تلك الشهور الماضية التي كانت عليها أقسى مما قد يتصور رغم أنها أرادت أن تحكي وتحمي وتحكي له الكثير والكثير فلقد اشتاقت له ولكل تفاصيله فهو الوحيد الذي يصغي لها بانتباه شديد ويشعرها دائما بقربه منها ، يحب أن يطلع على كل ما تحب صنعه ويشاركها فيها في أوقات فراغه ، لم يمل يوما من سماع قصصها وحكاياتها التي تعيدها على مسامعه مرارا وتكرارا بل يبدو متحمسا أكثر كلما أعادتها ، شاب رائع بكل المقاييس هادئ وحنون ومحب لا يفتأ إلا ويساعد من حوله يقدمهم على رغباته وطموحاته ويسعى جاهدا لإسعادهم ، تنهدت بعمق تشعر بحسرة وندامة شديدة فهاهي تنظر إليه وتجلس معه وكأنها لا تعرفه شخص آخر ليس ذلك الذي عرفته منذ كان صبيا صغيرا ، منعزل ومنطوي يحاول تجنب الكل ونظرة الحزن والانكسار لم تفارق عينيه العشبية حتى وهو يبتسم ويضحك معهم ، كم كرهت زوجته السابقة والتي كانت السبب الأول والأخير لما هو فيه الآن تمنت حينها بأنها منعته من الزواج لكن أي والده كانت ستسعد بقرار ابنها بالزواج بالرغم من كونه ليس ابنها إلا أنها كادت تعانق السماء لسعادتها بهكذا خبر ويا ليته لم يتزوج لكن الليت لا تقدم ولا تؤخر وما حدث حدث ليس لأي كائن حي القدرة على إرجاع ما ضاع ومات وتدمر في الماضي ، حينها رفع رافع أنامله ومررها في خصلات شعره الأشقر والتفت ينظر نحو الأريكة وللمستلقي عليها بعشوائية يغط في نوم عميق لا يُسمع إلا صوت شخيره ، فابتسم بفتور ونظر إلى والدته التي لم تمل بعد من النظر إليه وتأمل ملامحه وكم يقدر هذه الإنسانة العظيمة التي لم تتغير نحوه كما تغير كل من عرفهم بسبب مصيبة حلت به لم يكن له أي يد فيها وكم تساءل في نفسه لو كانت والدته الحقيقية على قيد الحياة هل كانت ستعامله كما تعامله التي تجلس أمامه الآن أم لا ؟! ، فقال ناظرا إلى عينيها البنية بنبرة شامتة يشير بإصبعه على المستلقي خلفه :
- يبدو بأن الضابط جميل لم يقصر في تدريب ابنك المدلل ..
أفلتت منها ضحكة وهي ترمق رامي النائم على الأريكة يبتسم تارة ويتمتم بكلمات غير مفهومه تارة ويتحرك بعشوائية وقالت :
- هذا ما يستحقه دعه يتعلم الحياة الصعبة ويعتاد عليها ولا يعتاد على حياة الرفاهية والدلع ..
ابتسم لها ودفع الكرسي للخلف ونهض بهدوء عندما أحس بأن رافع السابق قد يعود في أي لحظة وسيضعف كما في السابق فقرر أن يعود لسجنه الذي تحرر منه لأقل من يوم إلى حين عودة والده ، صحيح أنه لم يرغب بالعودة إلى غرفته قبل أن يحصل على مراده لكن هكذا حكمت الظروف ، وقبل أن يغادر توقف بسبب تلك الأنامل التي التفت حول معصمه تمنعه من المغادرة وقالت صاحبتها بعينين تلمع من حبس الدموع داخلها :
- إلى أين يا رافع أبقى معي قليلا فأنا لم أشبع منك بعد بني ..
هز رأسه بخفة نافيا فهو يرى كمية النوم والنعاس والإرهاق والتعب في عينيها وإن ادعت غير ذلك ، اقترب منها بعد أن حرر معصمه من قبضتها وأمسك برأسها وقبله قبلة طويلة وقال هامسا :
- يجب أن تنامي يا أمي لا تجبري نفسك على البقاء أكثر لأجلي ..
سقطت أول دمعه من عينيها وهي ترفع رأسها تنظر إليه فوقها وقالت بابتسامة حزينة :
- من قال لك أني أجبر نفسي على البقاء فنفسي اشتاقت لك أيضا يا رافع ..
فأطلق حينها آآهه عميقة مرهقة ومتعبة مثقلة بهمومها فلو تعلم والدته ما الذي يريد فعله لما قالت ذلك ، لا يريد جرحها ولا يريد التراجع عما قرر ومصر على أن يفعل ، وعندما لم يجد الكلمات المناسبة ليقولها وأي كلمات بحق الله قد تسعفه في هذا الوقت وهذا الموقف قد تشفع له تصرفاته !! ، جلس عند قدميها وأمسك بكفيها وأخذ يقبلهم واحدة واحدة ثم أعادهم لحجرها ونظر لعينيها الدامعة وقال بابتسامة حزينة :
- لا أريدك أن تبكي يا أمي أرجوك فلا أحد يستحق ..
ابتلع غصة شعر بها تحرق جوفه وقال بمرارة :
- حتى أنا يا أمي لا استحق دموعك ، لا استحق أي شيء ..
مسحت دموعها بأناملها وقالت ببكاء :
- لا يا بني لا تقل ذلك مجددا أرجوك ..
هز رأسه بخفة إيجابا ليس إلا رغبة منه بأن يداريها عل دموعها تتوقف وإن قليلا فهو منذ أن خرج لهم ظهر اليوم وهي لم تتوقف عن ذرفها لأجله ، نهض بهدوء وقال بهمس كسير يتجنب النظر لعينيها الدامعة :
- سامحيني يا أمي سامحيني ..
وغادر بخطوات واسعة رغم الانكسار الذي أصاب قلبه وخيبة الأمل ليس من اليوم ولا الأمس بل منذ شهور طويلة فأوقفته مرة أخرى قائلة برجاء :
- لا تعود لحبس نفس يا رافع وإن من أجلي بني ..
استدار بوجهه فقط لها وأهداها ابتسامة رغم بهوتها إلا أنها كانت صادقة نابعة من قلبه وقال لها بحنان :
- لا تقلقي يا أمي المهم أن ترتاحي وتنامي الآن ..
ثم استدار نحو الذي كان يحضن إحدى وسائد الأريكة ولا يسمع إلا صوت شخيره ، رمقه بابتسامة دافئة فرامي رفض أن ينام في غرفته من فرط سعادته برؤيته يخرج لهم من جديد ويجالسهم وكأنه خشي أن ذهب ونام في غرفته أن يستيقظ صباحا ولا يراه وهذا ما كان عازما عليه لكن لا أحد يعرف نواياه ويبدو تأخر والده سيمنعه ويعطله قليلا لكن لا بأس فهو عازم ولن يرده أي أحد كائنا من كان ولا حتى أي شيء .









نهاية الفصل , قراءة ممتعة لكم أحبتي ..
بقلم محبتكم : روح الوسن ..

روح الوسن .. 13-04-20 10:11 PM


.. الفصل السادس والعشرون ..

.
.

[ بريق الحياة ]

.
.

ربت بخفة على ظهر برق الذي أطلق صهيله ذو نغمته المتزنة والصافية والتي يكاد يميزها عن غيرها ولو كان بين مئة حصان بسبب الرنة المميزة له بعد أن نزل من على ظهره وأكملا سيرا على الأقدام حينها رفع عينيه العسليتين التي برقت ببريق الحياة الذي نادرا ما يظهر والشيء الوحيد الذي يدل على أنه لا زال بشريا يحس ويشعر كغيره إلى جهة الشرق ليرى الضوء الخفيف الذي بدأ يتسلل إلى السماء السوداء ببطء ليشع شعاع خفيف يظهر على هيئة حزم ضوئية تخترق الغيوم التي تلبدت بها السماء لتعلن عن حلول وقت الفجر وبداية يوم جديد ، ابتسم بخفة لا يعلم كيف قضى تلك الساعات الأربع كلها في منزل الضابط جميل وبين أسرته التي لم تمانع أبدا ببقائه بينهم بل وأصروا على أن يشاركهم جلستهم العائلية حتى شاي الأعشاب اللذيذ الذي لا تعده إلا السيدة هند وبالرغم من تغيب الضابط جميل عن منزله كل تلك الساعات التي تأكد حينها بأن هناك خطب ما وخطر كبير محدق لا يعلمه ، لم يشعروه ولا للحظة بأنه شخص غريب عنهم بل عاملوه كأحد أفراد العائلة ، يتساءل في نفسه كثيرا عن السبب وهو بطبيعته ليس بالشخص الاجتماعي ولا الودود والمرح الذي يحبه الناس ويطلبون قربه حتى حديثه والكلمات التي نطقها لسانه وهو بينهم تكاد تعد على الأصابع لقلتها لكن السيدة هند وبطيبة قلبها لم تتضجر منه أبدا وكأنها تعلم عن ماضيه كله وعن شخصيته التي صقلوها له ولم يختارها هو بنفسه بل وجد نفسه مجبرا على تلك الشخصية القاسية والباردة واللا مبالية بحكم البيئة والظروف التي عاش فيها ، كما يريدونه بالضبط آله للحرب فقط لا تحس ولا تشعر ولا تتذمر من المهام والتدريبات وليس له أي أحقيه في الاختيار مسير ومجبر على كل شيء ، يفكر بعقله الذي بالكاد تركوه له وهم كادوا أن يصيبونه بالجنون مرارا وتكرارا ولم يتركوا لقلبه أي فرصة بالحياة بل قتلوه وغدروه من أعوام وأعوام حين جعلوه يشهد مقتل والدته وهو ابن الثلاث أعوام لا حول له ولا قوة وأمام عينيه بكل بشاعة وفظاعة وقسوة وجبروت ليغرسوا في قلبه ألما لا أحد يستطيع نزعه انغرس هناك في قلبه الصغير بجانب الحقد والكره للجميع ، يغلف نفسه بالجمود وينطوي بنفسه عن الآخرين هكذا أرادوه وهكذا كان لم يتغير إلا مدة بسيطة وسرعان ما حسدوه عليها وهي الفترة التي اجتاح فارس حياته فغيرها له وإن كان تغيير غير ملحوظ لكنه نجح في ذلك وببراعة لكنهم كالعادة يقفون له بالمرصاد دائما لذلك سرقوه منه وبطريقة بشعة خالية من الرحمة كالعادة ليعود بعدها لنقطة البداية حيث لا يوجد إلا الصفر الذي لا يدل على شيء سوى كونه لا شيء ، تنهد بتعب من هذا الماضي الذي يطارده في كل وقت وحين حتى في اللحظات البخيلة التي يشعر فيها بالسعادة تداهمه بقوة لتنسيه إياها وكأنه خلق ليتعذب بها فقط ، مرر أنامله في خصلات شعره يخفف من الألم الذي داهم رأسه قبل أن يتوقف بصدمة هو وبرق في نفس اللحظة وكأنهما متفقان على ذلك مسبقا ، غضن جبينه باستغراب إذ أنه يسمع صوتا ما ، نعم هو أشبه بنفس أحدهم أي أن أحدهم هنا ، غريب من يكون يا ترى !! بل وكأنهم شخصين أو لا ليس كذلك ، أسرع في خطواته وبرق يتبعه في حركات متناغمة ، هذا زفير حصان بكل تأكيد والدليل الحوافر المطبوعة على الرمال يراها بوضوح وهي ليست لبرق فهو يميز حوافر خيله عن غيرها ، ابعد وريقات الشجر التي تحوط بركة الحكمة من بعيد بكل خفة بكلتا يديه وسرق نظرة خاطفة حادة بعينيه الصقرية حول المكان بأكمله متفحصا إياه لتستقر أخيرا على المستند على إحدى الأشجار ويبدو أنه لا يعي شيئا حوله والنوم قد سرقه من عالمه ليهمس الآخر بصدمة اتسعت عيناه معها بذهول :
- طارق ..!!!

*****

يقف أمام الصورة المعلقة والتي تكاد تغطي الجدار بأكمله لكبر حجمها بكل شموخ وكبرياء حاد ، يمسك بيديه المغطاة بقماش أسود من الجلد الطبيعي في قفازات لم تصنع وتحاك لأحد غيره عصا سوداء اللون برأس دائري مصنوع من الذهب نقشت بنقوش غريبة متداخلة في بعضها البعض لتعطي معنا للقوة الملتفة بالغطرسة ، يزين أصابعه بحلقات فضية مرصعة بالأحجار الكريمة الملونة ، بمعطف أسود مصنوع من الفرو الطبيعي يضعه على كتفيه العريضان ويغطي جسمه الضخم والمليء بالعضلات ليلامس الأرض من خلفه وينساب على ظهره بكل عنفوان ، يبتسم بكل تهكم لتلك الصورة المعلقة أمامه ، صورته هو فقط رسمها له أشهر رسام عُرف في الإمبراطورية بكل دقة وحرفية موضحا كل تفصيل من تفاصيله وعكس فيها البذخ والغطرسة والكبرياء ، رسمها بدقة ولم ينسى النظرة الحادة القاتلة والمتكبرة والمتعالية التي تميزه عن غيره ، رسم أعجبه جدا وأعجب بالرسام الماهر ، كيف له أن يرسم كل تلك التفاصيل ؟! وكل ذلك الشر وحب السيطرة والاستيلاء الذي يجري في عروقه ؟! هل هو الإبداع ؟! أم المهارة التي اجتمعت في ذلك الرسام البسيط في كل شيء ؟! أي نظرة يملكها ؟! وأي تصور هذا الذي يصوره له عقله ليطابق الحقيقة كل هذا التطابق ؟! بقدر الفخر والإعجاب برسمة الرسام التي رسمها له وبنفسه هو الذي ظهرت شخصيته حتى في صورته مهيبة تخيف كل من رآها وليس إعجاب بمهارة الرسام بقدر ما شعر بالغيرة والحقد بأن هنالك من ينافسه في القوة والسيطرة حتى وإن كانت صورته ، مريض بحب الاستيلاء والسيطرة مغرور بنفسه حد الكبرياء اللامعقول فكيف لشخص يغار حتى من انعكاس صورته على الورق ؟! ، هو في عين نفسه كل شيء ومن هم دونه .. دونه بكل بساطة ، أي باختصار هو كل شيء وهم لا شيء ، فلذلك فقط أنهى حياة الرسام بيديه بعد أن صفق له بحرارة على صنيعه .. لا بل هو كان يصفق لنفسه وبكونه عظيما حتى وهو حبيس أيطار مصنوع من الذهب ، يكره أن يحلله شخص ويقف في وجهه وذاك الرسام أبدع في وصف صفاته حتى المخفية عن الجميع فقتله بكل دم بارد لأنه هو المسيطر والمتحكم وصاحب القرار وليس لأي شخص حق في محاسبته ، علت ضحكته الخشنة والمخيفة أرجاء الغرفة وحرك رأسه مبتسما بفخر وتهكم شديد تحركت معها خصلات شعره شديد السواد الملامس لكتفيه والذي يثبت أنه أحد أبناء إمبراطورية البراكين حتى وإن كبر في السن إذ أنه زعيمهم كلهم فهو الإمبراطور جاسم والذي يجب أن يهابه الجميع كونه الأقوى والبقاء للأقوى فقط ، رفع عصاه الممسك بها بين قبضتيه القويتان وضرب بها الأرض بقوة ضربتين متتاليتين لتصدر صوتا عميقا امتلأ في الأرجاء التي سيطر عليها الصمت والهدوء ليتبع ذلك الصوت صوت طرقات خفيفة على الباب في نداء لا يعرفه إلا ذراعه اليمنى ، قال بصوته ذو النغمة الجهورية :
- ادخل يا مهند ..
صرير الباب الذي أظهر بعدها الجسم الضخم والملامح الحادة ينحني بكل احترام لسيده وكأنه يراه فقال جاسم بعمق :
- ماذا حدث معك ..؟!!
قال مهند باحترام شديد رغم نبرته العالية والخشنة :
- رفض سيدي الانصياع لنا ..
قال بحدة ولازال يعطيه ظهره تتنقل عيناه السوداء كليلة مظلمة في تفاصيل الصورة أمامه :
- حتى بعد إعطائه الهدايا والأموال والجواري ..
قال بقليل من الارتباك :
- رفضها كلها ..
قال مباشرة ونبرته تزداد حدة أكثر وأكثر :
- والدعم الذي سندعمه إياه والمكانة التي سنعطيها له والرشاوى والأموال والقطع الذهبية وكل شيء يريده ذلك المعتوه هل رفضها كلها ..؟!!
ابتلع ريقه بتوتر وقال :
- نعم سيدي وقال أنه لا يريد أي شيء منها ..
افلت شتيمة قاسية من بين شفتيه وقال بهمس حاقد :
- السافل ماذا يريد إذا ..؟!!
قال مهند وهو لازال منحني احتراما :
- أراد أن يعرف السبب الحقيقي لضمنا لهم ..
التفت حينها جاسم وقال بحدة ينظر إليه بعينين اشتعلتا غضبا :
- هل أخبرته ..؟!!
هز رأسه بقوة نفيا وقال :
- اقسم لك سيدي أنني لم اخبره مما جعله يحاول بشتى الطرق معرفه السر ..
تنهد الآخر وقال ببرود :
- إياك أن تخبره ..
ثم قال بأمر بعد لحظة صمت كان يرتب قراراته في عقله :
- سننطلق إلى الحدود الجنوبية الآن وقبل أن تشرق شمس الصباح ..
وعندما أراد أن ينصرف مهند بعد أن همس بالموافقة والانصياع المطلق لأوامره استوقفه الذي سار نحو مكتبه يسير بكبرياء إلى أن استقر على كرسيه الضخم كضخامته وقال :
- أين سيف وبهاء .. ؟!!
قال مهند مباشرة :
- سيف قضى ليلته كاملة عند تلك الصخرة الكبيرة بين الجبال المهجورة والموحشة ..
فانطلقت ضحكة جاسم التي صدحت في الأرجاء وقال بنبرة شفقة ويأس :
- ذلك الأبله المعتوه لازال يعتكف تلك الحجارة والصخور ويظن أنني أغفل عن مكانه وكل تحركاته..
نظر في الفراغ وكأنه يتذكر شيئا ما وقال :
- مكان تجمعهم سابقا إذا ..
هز رأسه بقلة حيلة وأكمل قائلا بسخرية لاذعة :
- لا أعلم أي سحر ألقاه فارس في قلبه ليتعلق به هكذا !! معتوه وغبي يرفض حاضره ليطارد ماضيه الذي لن يعود أبدا ، كم هو سخيف ذلك الفتى لكن لا بأس فهو ممن تدرب على يد فارس ووسام أقوى ثنائي عرفتهم الإمبراطورية تبا لهم جميعا تبا..
صمت لبرهة فهو يكره أن يضم الفشله والحمقى له ويكره أن يعترف بمهارة فارس ووسام القتالية فهو مغرور بنفسه ويمقت كل من ينافسه في القوة لكن سيف له ميزات سيستفيد منها لاحقا لذلك لا بأس سيصبر عليه قليلا ثم يتخلص منهم جميعا ودفعة واحدة أما وسام فهو لازال يخبئ له المفاجآت التي ستنهيه كما أنهى حياة فارس من قبله ، فعلت ضحكته التهكمية متوعدا كل من يقف في طريقه بالموت السحيق ، ثم قال ببرود بعد أن هدأت نوبة الضحك الساخر والمتعالي على الجميع :
- وبهاء ..؟!!
رد عليه مهند واختار الأرض لينظر إليها خجلا مما سيقول :
- يتسكع كعادته في الأرجاء وسعيد بما أعطيته سيدي من مال ..
قال ببرود متهكم وهو يستقيم ويعدل من معطفه على كتفيه :
- ذلك المنحل السخيف سنبعدهما عنا وننطلق أنا وأنت فقط فالأمر يحتاج إلى جدية وليس لعب أطفال ..
أماء برأسه احتراما وتنحى جانبا ليمر من أمامه جاسم بكل كبرياء وثقة وتكبر وتبعه وكأنه ظله يتبعه أينما كان وما هي إلا ثوان حتى كانوا داخل عربة كبيرة وفخمة مجهزة بالكامل تتبعهم عربات الحراس ، انطلقوا متوجهين نحو الحدود الجنوبية والتي تقع بين إمبراطورية البراكين والإمبراطورية الخضراء قاصدان قصر السيد رأفت الرجل الذي بلغ السبعين عاما ، عجوز غريب في مبادئه وأفكاره ، لا تعنيه الأموال ولا النفوذ والسلطة ، يحتفظ بآرائه لنفسه ، له قناعات خاصة وصعب المراس ، وصلوا حيث وجهتهم التي لم تبعد عنهم سوى بضع ساعات وتوجهت عرباتهم الأربع عنوة نحو القصر ، وبعد الاستقبال الذي تلقوه من السيد رأفت رغم عدم معرفته بقدومهم في الصباح الباكر إلا أنه عرف عنه الكرم وحسن الضيافة لذلك استقبلهم أفضل استقبال ونزل لهم بنفسه بحلته البهية يضع رداء أحمر على كتفيه شعره ذو الخصل الرمادية التي تدل على كبر سنه وحكمته تزين شفتيه ابتسامة هادئة ، قال عندما أصبحا مقابلين لبعضهم البعض لا تفصلهم إلا عدة درجات متراصة مفروشة ببساط أحمر مذهب :
- أهلا أهلا بالإمبراطور جاسم لهو لشرف كبير بأن تزورنا بنفسك سيدي ..
ابتسم ابتسامة أجبر نفسه عليها إذ أنه يتمنى فقط لو يقتل هذا العجوز الخرف الذي يقف أمامه فهو سبب تواجده هنا وبنفسه عله يقتنع بأخذ الأموال ويكف عن العناد لكن لا بأس سيقضي عليه بعد أن يحصل على مراده وهو أن ينضم لهم وتصبح الحدود بأكملها له .. له لوحده فقط إذ أنه يستفيد من خيراتها ورجالها يضمهم في جيشه ليكون أقوى جيش عرفه التاريخ ، قال ببرود ونظراته الحادة مسلطة على عيني الآخر :
- سيد رأفت يبدو بأن بيننا كلام يجب أن نتناقش فيه ..
فعلت ضحكة السيد رأفت وقال بابتسامة :
- مهلك مهلك يا سيدي فأنت ضيف عندي ولك علي حسن الضيافة ..
حينها همس جاسم بشتيمة وهو يتقدم نحوه يسير بثقة مجتاز صفي الحرس المنتصب عن يمينه وشماله وكأنهم جبال شامخات يسير خلفه مهند يضع يده اليمنى على مقبض سيفه استعدادا للدفاع عن سيده في حال الهجوم عليهم بغتة ، ولم تدل حركته تلك إلا أنه رجل حروب دائما ما يكون على أهبة الاستعداد ، مد السيد رأفت يده مصافحا لجاسم الذي نظر إليه من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه في نظرة متعالية ورغم منزلة السيد رأفت إلا أن جاسم لا يراه شيئا إلا كذبابة مزعجة عليه أن يتخلص منها سريعا ، ارتفعت زاوية شفتي جاسم في ابتسامة ساخرة تهكمية ومد يده ليتصافحا ، لم يحتاج الأمر إلى ذكاء ودهاء خارق ليشعر السيد رأفت بغرور جاسم وكبريائه اللا محدود ، بل عرفه منذ أن وقعت عينيه في عيني جاسم الحادتين وكأنها صخرتين سوداء ، سحب جاسم يده سريعا بعد أن شد قبضته على تلك اليد المتهالكة لكبر سنه ودلفا معا لداخل القصر .
استقبال كبير وكرم وحسن ضيافة وكل ما لذ وطاب قُدم إليهم على وجبة الفطور التي تم إعدادها خصيصا له ، فواكههم وخضرواتهم الطازجة التي اشتهرت تلك المناطق بزراعتها وأشهى الأطباق أعدت بكل إتقان لتناسب جميع الأذواق ، ولم يقتصر كرم السيد رأفت للإمبراطور جاسم فقط بل كل الحرس الذين قدموا معه ، استقبلهم أحسن استقبال مما أثار غضب جاسم وهو يراه يحسن إلى كل شخص من حرسه الذين لم يفكر هو في النظر حتى لوجوههم استصغارا واستكبارا ، كيف له ذلك هل يريد استمالتهم نحوه ؟! هل يفكر هذا العجوز بخبث مثله ؟! لا هذا مستحيل فالسيد رأفت لم يُعرف عنه طيلة السنوات الماضية إلا بأنه رجل مسالم لم يتدخل يوما في أي موضوع يخص الإمبراطوريات الأربع بل اكتفى بالاهتمام بأمور منطقته وغض بصره عمن سواها ، وعندما فقد جاسم كل ذرة صبر لديه قال بصوته الجهوري بكل جدية ينظر للذي لازال يشرب من عصير الفاكهة باستمتاع وكأنه يجلس مع عائلته :
- سيد رأفت أنا إمبراطور لإمبراطورية البراكين كما تعلم ولا وقت لدي لأضيعه بالطعام وأمور أخرى لا تعنيني لذلك سنتحدث فيما جئت لأجله ..
أماء برأسه إيجابا ووضع كأس العصير مبعدا إياه لازالت ابتسامته الهادئة تزين شفتيه ، وعندما اعتدل السيد رأفت في جلسته رفع يده اليمنى يفرد ثلاث أصابع ويضم الأخرى وقال بهدوء بنبرة متزنة وابتسامة على شفتيه لينعكس صدقه في كلماته وحكمته في التصرف قائلا :
- الصدق والتضحية والوفاء هذا كل ما أريده منك أيها الإمبراطور جاسم ..
فعلت الصدمة وجه جاسم بالكامل ، أيرفض الأموال والكنوز والمنزلة العالية لأجل هذه السخافات حقا ؟! هل يعاني هذا العجوز من مشكلة في دماغه أم أنه لا يعرف من يكون الإمبراطور جاسم ؟! ، قال جاسم بعد صمت وبنبرة حذرة رغم الضيق التي تخللها :
- ما الذي تقصده يا سيد رأفت ..؟!!
أماء برأسه إيجابا بخفة وقال بهدوء :
- كما فهمت سيدي ثلاث شروط ..
فزم شفتيه بحنق يكاد أن ينقض عليه ويقتله ليرتاح من لعب الأعصاب هذا لكنه تمالك نفسه عند آخر لحظة وقال بحدة :
- لم افهم شيئا هل يمكنك أن توضح ذلك لي من فضلك .. !!
وكم كره حينها نفسه لأنه ينزلها لذاك المستوى ويدعي عدم الفهم لكنه يراوغ هذا كل ما يريده أن يكسب المزيد من الوقت مع هذا العجوز الخرف ويحاول سحبه واستدراجه لكي يتراجع عما يريد ويسعى له ، قال السيد رأفت موضحا :
- الشرط الأول أن تكون صادقا معي وتخبرني سبب رغبتك بأن ننظم للإمبراطورية البراكين ..
صمت لبرهة وأتبع قائلا :
- الشرط الثاني أن تضحي لأجلنا بشي نحن نطلبه منك ..
قطب جاسم حاجبيه بغضب فلم يفهم هذه النقطة جيدا إذ أنها تحمل الكثير في طياتها فقال بتساؤل حذر بنبرته الخشنة :
- أضحي لأجلكم !! أضحي بماذا ..؟!!
فابتسم حينها السيد رأفت وكأنه مستمتع باللعب بأعصاب جاسم الذي يرى بوضوح مدى انفلات أعصابه منه شيئا فشيئا وقال وكأن شيئا لا يعنيه :
- نريد أن نرى إلى أي مدى ستضحي لأجلنا لأني حينها سأسلمك كل الحدود الجنوبية وليس الأرض فقط بل والأرواح التي فيها ويجب علي أن أضمن بأن أرضي وقومي لن يضيعوا ولن يهانوا ولن يتأذوا إذا ما سلمتهم إليك أو لا اتفاق بيننا ..
رفع جاسم رأسه بكبرياء وقال بثقة يشبك أنامله الطويلة :
- اطلب ما شئت فأنا قادر على تنفيذ كل ما تريده ولترى إلى أي مدا أضحي به لأجلكم ..
كان واثقا بأنه سيلبي رغبات هذا العجوز ويستطيع خداعه بسهوله لكنه كان مخطئ ، فهز الأخر رأسه متنهدا بقلة حيلة إذ أن الإمبراطور جاسم وكما عُرف عنه حاد الذكاء وذو نظرة ثاقبة إلا أنه لم يفهم ما الذي يريده منه بالضبط ولم يفهم كلماته ، فقال حينها يثبت نظراته في عيني جاسم :
- ليست بهذه السهولة سيدي فأنا كما تعلم أملك نخبة من الرجال وسلطة خفية واستطيع بذلك معرفة أشياء لا أحد يعلمها غيري ..
قال جاسم بثقة :
- قل وسنرى إذا ..
قال مباشرة وراميا بكلامه كسهام أصابت الآخر في مقتل :
- تطلق سراح الأسرى لديك جميعهم والذين أصبحوا في قبضتك لعشر سنوات ..
فألجمته الصدمة وشحب وجهه وكأنه مفارق للحياة لا محالة وظهرت الدهشة في تقاسيمه الخشنة والحادة ، أصحيح ما سمعه ؟! هل يريد منه أن يطلق الأسرى والذين اتخذهم كجيش له دربهم أحسن تدريب وبمهارات عالية وأخفاهم عن الجميع سرا لكي ينفذ ما يريده ؟! لا مهلا كيف عرف هذا العجوز بأمر الأسرى ؟! ولماذا اختار هذا الشرط كتضحية ؟! إذا هو يعلم تماما نقطة ضعفه والشيء الذي يستحيل عليه أن ينفذه بحجة التضحية كما يدعي لكن ما الذي يجب عليه فعله الآن ، فقال رأفت قاطعا حبل أفكاره المتشابكة والمشوشة :
- هذا الشرط الثاني أما الشرط الثالث فنريد الوفاء ، الوفاء لنا فقط ولا يهمني المال ولا غيرها ولا يهم شعبي وقومي أيضا لأن ذلك لا ينقصنا فنطلبه ..
فانتصب جاسم واقفا ينظر إليه بحدة وقال من بين أسنانه :
- وإن رفضت إطلاق سراح الأسرى .. ؟!!
فأهداه ابتسامة وقال بتأني ليصل مقصده إليه بكل وضوح :
- تذهب في حال سبيلك فأنت تملك إمبراطورية كاملة والحدود الجنوبية لا تساوي ربعها في الحجم ولا اتفاق بيننا كما قلت سابقا ..
صرخ بحدة يشد قبضتيه بقوة :
- ما هذا يا سيد أنت تسخر مني وتستهزئ بي وكل هذا جزاء لي لأني أريد أن أضمكم إلى أراضيَّ تحت رقابتي وفي عهدتي تجازيني بهذا يا من عرفت بحكمتك وحبك لقومك .. ؟!!
نهض الأخر حينها ويبدو بأن الكلام لا ينفع مع هذا الرجل ولا شيء يأتي إلا بالأوامر لديه حتى وإن لم يرضى الطرف الآخر بذلك ، فقال بصراحة نطقها قلبه قبل شفتيه :
- أنت تعلم بأن ما تفعله يعد مخالفة من المخالفات العامة أليس كذلك يا سيدي ..
وشدد الحروف على أخر ما لفضه لسانه ليؤكد له ما قال قبلها ولا ينسى نفسه ويضن أنه هو المتفضل عليهم بفعلته ، فاتسعت عيني جاسم السوداء وقال بنفاذ صبر :
- أنا أتيتك بالسلم ولم أتيك بالحرب لتدعي أنني ارتكب مخالفة يا سيد ..
فعاد رأفت للجلوس بكل ارياحيه وقال بهدوء يعاكس انفعال الذي لا يزال واقفا أمامه :
- اجلس إذا يا سيدي وفكر مليا بما قلت فأنا لا أريد غير الثلاث شروط التي قلتها ..
فجلس جاسم يكتم غيضه يحاول ألا ينقض عليه ويقتله ويقطعه بأسنانه ليلقنه أخر درس في حياته هذا المعتوه ، قال بعد صمت دام للحظات :
- وما الذي ستستفيد منه إن أطلقت سراح الأسرى .. ؟!!
قال ببرود :
- هذا لا يعنيك يا سيدي وأنا مصر عليه ولن أغير رأيي مهما حدث ولا تنسى الشرط الأول والأخير أيضا فأنا أريدهم ثلاثتهم ..
نظر إليه بعينين برقتا بلهيب الغضب الذي يسري في شرايينه ولم يعد يعلم ما الذي يتوجب عليه فعله هل ينصرف ويترك هذا العجوز الخرف ؟! أم يرضخ له ولشروطه المستحيلة بالنسبة له ؟! لا وألف لا هو لا يرضخ لأي كان ومهما حدث فهو الإمبراطور جاسم والذي سيصبح في يوم ما إمبراطور على الجميع ويحكمهم كلهم وهذا يراه أصبح أقرب إليه أقرب بكثير فلذلك على هذا العجوز أن يغير أفكاره السخيفة ويرضى بالمال وإلا قتله ويعلم تماما كيف يدبر له من يقتله ويتخلص منه لكن ومع معرفته بالأسرى أصبح مترددا وتراوده الظنون بأن له جواسيس منتشرون بين رجاله ولا يستبعد ذلك أبدا لذلك عليه أن يحرص ألا يكشف جميع أوراقه لرجاله ويحذر منهم أكثر ، فانتصب واقفا ينظر إلى السيد رأفت من طرف عينيه باستحقار شديد نطقت به عينيه الحادة ، يجب عليه أن يتعلم هذا العجوز مع من يتعامل فهو ليس ضابط أو قائد عادي بل هو إمبراطور وأعلى منه منزلة إن لم يكن يعلم فلا تغره منطقته الصغيرة هذه بأنه أفضل منه وأقوى فلا قوي سواه لذلك انصرف دون أن ينطق بأي كلمة أخرى يرفع رأسه عاليا يمشي بثقة عمياء وغرور أشبع كل تفاصيله وكأنه خرج بما يريد وليس صفر اليدين ، فتنهد الآخر بارتياح فهو يعرف مع من يتعامل وكم أسعده أن غادر دون إحداث أي ضجة ويعلم تماما بأنه يجبر نفسه ليس إلا وذلك حسب القوانين الصارمة التي اجتمعت عليها الإمبراطوريات الأربع وتعاهدوا على ألا يخل أحد بها وإلا سيتلقى العقاب القانوني به ودون أي رحمة ، تمنى حينها بأن جاسم يرضخ له ويتغير لكن التكبر والغرور أعمياه فلا أمل يرجى منه بأن يتغير ويحسن إلى من هم حوله والدليل القاطع كانت تلك النظرات المستفزة التي رماه بها وكأنه أصغر أولاده وليس شيخا كبيرا يكاد يبلغ سن والده لو كان على قيد الحياة ، التفت للجندي الذي بجانبه وقال :
- ودعوهم بالشكل المشرف لنا وراقبوهم إلى أن يخرجوا من حدودنا ..
انحنى له احتراما وقال من فوره :
- حاضر سيدي ..










نهاية الفصل , قراءة ممتعة لكم أحبتي ..
بقلم محبتكم : روح الوسن ..

روح الوسن .. 16-04-20 01:58 AM


.. الفصل السابع والعشرون ..

.
.

[ فوق الأعالي ]

.
.

تقدم نحوه يسير بخطوات غير مسموعة وكأنه نسمة هواء إلى أن جلس أمامه يستند على ركبته على الأرض ، مد يده نحو كتفه وهزه بخفة قائلا بملامح باردة وبنبرته ذات النغمة المميزة :
- طارق ..
لتنفتح تلك الجفون المرهقة من التعب والسهر كاشفة عن الأحداق البنية المرهقة والتي شاب بياضها حمرة لتستقر على عيني وسام وملامحه الباردة واللا مبالية كالعادة فارتسمت على محياة ابتسامة صغيرة وهو يعيد إغلاق عينيه بهدوء وقال بنبرة كم ظهر فيها الألم جليا :
- هذا أنت يا وسام يالا المصادفة كم مر من الزمن .. !!
رمقه وسام ببرود وقال بتهكم شديد وسخرية لاذعة :
- هل فقدت عقلك أيضا يا طارق !! يكفيني رامي الذي يهذي فوق رأسي طيلة النهار ..
أفلتت من شفتي طارق ضحكة لم يستطع كتمانها وقال وهو يعتدل في جلوسه :
- هذه طبيعة رامي لن يتغير ذلك المشاكس ..
فاستقام وسام وسار نحو بركة الحكمة والمكان السري لهما فقط ومنذ سنوات عدة ، دنى منها واغترف غرفة بيده وغسل بها وجهه مبددا الإرهاق الذي يشعر به فهو لم ينال أي قسط من الراحة طيلة اليومين السابقين ولا يبدو ذلك سيحدث قريبا فالمهام العالقة كثيرة يجب عليه أن ينهيها سريعا ، قال وسام ببرود بعد أن استدار ناظرا إلى طارق الذي استند على الشجرة خلفه وأخذ يتأمل السماء بشرود حزين :
- ما الذي تفعله يا طارق هنا هل من خطب .. ؟!!
ولا مجيب وكأن طارق انفصل عمن حوله تماما فاقترب الآخر منه وجلس أمامه متربعا وقال بهدوء :
- طارق ..
عاد طارق بنظره إلى وجهه وسام الشاحب وملامحه المرهقة رغم مكابرته على ألمه وتعبه فتح فمه ليقول شيئا لكن سرعان ما تراجع عما كان سيفعل فأطلق آآهه مليئة بشتى أنواع الألم وقال بهدوء بنبرة متعبة :
- ما هي أخبارك وكيف هي الأوضاع معك في المعسكر ..؟!!
فأنزل حينها وسام رأسه وعيناه لازالتا مثبتتين على عيني طارق في حركة يفعلها عندما يريد اختراق عيني الذي أمامه ليكشف كل دواخله ويفهم كل ما يخفيه عنه ، فأشاح طارق بوجهه الجهة الأخرى سريعا فهو يعلم تماما مع من يجلس وكيف سيستنتج الأمر ويفهمه بسرعة كبيرة فقال بحنق وهو على نفس حالته تلك يشيح بوجهه بعيدا :
- لا تنظر إلي هكذا يا وسام ..
ولم يلبث طويلا إلا وقد قال وسام بنبرته الموسيقية الباردة والذي يبدو بأنه نجح في اختراق أعماقه في أجزاء الثانية تلك :
- ما الذي جرى لعائلتك يا طارق .. ؟!!
نظر إليه بسرعة حين علت الدهشة ملامحه من استنتاجه الذي أصابه بكل دقة لكنه أعاد وأشاح بوجهه وقال مغيرا مجرى الحديث :
- اخبرني ما الذي جرى للقائدين اللذان قمت بمراقبتهما ولتلك المهمة السرية ..
فتنقلت نظرات وسام الباردة على جميع تفاصيل طارق وهيئته في الجلوس والذي كان يسند ظهره على الشجرة خلفه ينصب إحدى ركبتيه أمامه ويريح مرفقه عليه والأخرى يجلس عليها لا زال يشيح بوجهه عنه فضحك ساخرا من وضعه الذي يظن بأنه لا يعلم ما الذي يفكر فيه الآن وبالتأكيد عائلته ووالده بالأخص وتوأمته تلك فلا يوجد شيء قد يقلب مزاج الذي أمامه ويشتته ويفقده صوابه وحكمته في التصرف إلا عائلته التي تعني له كل شيء في الحياة ، قال بهمس ساخر تزين شفتيه ابتسامة تهكمية عندما وضع راحة يده جانب وجهه يستند بمرفقه على فخذه ينظر إلى ما يظهر من وجهه طارق الذي يشيح بأغلبه :
- سحقا لك يا طارق أي عقل هذا الذي تملكه .. !!
فنظر إليه طارق مستغربا هل يعقل بأن خطته فشلت !! وأن تقديره للأمور فشل وللمرة الأولى !! ، قال وسام ببروده الصقيعي مقاطعا لأفكاره المشتتة ينظر بتركيز إلى عينيه التي تاهت في الأفكار ينظر إليه بضياع وعلم حينها بأنه يعاني من فقدان الثقة بنفسه فعيناه نطقت بذلك قبل أن تنطقها شفتيه :
- لم أقابل كل حياتي بشخص مثلك يملك كل تلك الأبعاد في دماغه ..
ولم تزده تلك الكلمات إلا حيرة وضياع هل يعقل بأنه نجح في مهمته وعرف سرهم !! أم أنه يملك خيالا واسعا وهو ليس إلا بالمجنون كثير الشك فيمن حوله وعقله يصور له خلاف ذلك !! ، قال بهمس متسائل بعد أن وجد صوته أخيرا وببحة لا يعلم كيف خرجت مع كلماته :
- ما الذي جرى ..؟!!
هذا كل ما استطاع قوله وسؤاله وكم يخشى من الإجابة وأن تكون عكس ما تمنى وأراد خصوصا أن وسام تجاهله وكأنه لم يسمعه يسند كلتا يديه خلف ظهره وكأنه مستمتع بتعذيبه بسبب تلك الابتسامة الساخرة التي تزين شفتيه ولم يفهم ما الذي يريد فعله بداخله بالضبط بتلك النظرات الباردة ، أيريد أن يكمل إتلاف ما اُتلف من أعصابه !! أم يختبر صبره ويعلمه درسا في الهدوء واللامبالاة كعادته !! أم يضربه بالضربة القاضية التي تنهي حياته ويقر بأنه فاشل أيضا !! فقال بحدة بعد أن فار دمه غضبا وهو الذي نادرا ما يفقد أعصابه يلوح بيده في الهواء :
- وسام تحدث ولا تبقى صامتا قل أي شيء .. أي شيء وإن فشلت خطتي الفاشلة من أساسها فأنا لا يعنيني ذلك في أي شيء ..
وانتبه لنفسه وما قال بعد أن فات الأوان فهذا هو وسام يجيد اللعب بالأعصاب ويجعلك تتحدث بما لا تريد التحدث عنه ودون أن ينطق بكلمة وهو كما يبدو مستمتع وجدا بالإصغاء ، فاخفض رأسه تتخلل أنامله خصلات شعره الذهبي يمررها خلالها مرارا وتكرارا ليهدأ قليلا فلا زال تأثير كلمات والده تضرب أرجاء قلبه ودماغه دون رحمة وكم بات يصدقه بأنه مجرد ابن فاشل ، حينها شعر بالكف الباردة وكأنها لجثه ميتة حين وضعت على كتفه ولم تكن إلا لوسام الذي قال بهدوء تخلل نبرته الموسيقية :
- كم أنت عبقري يا طارق فخطتك نجحت نجاح باهر وعلمت أين هما القائدين اللذان اختفيا وعلمت أمورا لم أكن اعلمها وظنونك وشكوكك كانت صحيحة كلها وفي محلها ..
رفع رأسه حينها ينظر بضياع للذي أهداه ابتسامة دافئة صادقة رغم صغرها وقصرها إلا أنها كانت كفيلة بإشعال شعلة أمل داخل قلبه المظلم والمحطم ولم يعد يعلم حينها هل يبكي أم يضحك فرحا لسماعه لما نطقت به شفتي وسام التي نادرا ما تنطق بشيء ولا يعلم حقا لماذا يبدو له وسام اليوم متغيرا وإن كان بنسبة قليلة ، لقد أيقظ الأمل في كيانه المهتز وأعاد إليه ثقته التي هُزت بعنف ولم يقوى حينها على الكلام فشعوره حينها لا يمكن وصفه واحترم وسام ذلك الصمت الذي بالتأكيد تبع عاصفة مدمرة قد عصفت به ، قال طارق محطما الصمت بينهما وبدون تصديق وكأنه لم يسمع جيدا :
- حقا يا وسام علمت أين هما و....
وانقطعت كلماته لتكمل عينيه الحديث بدلا عنه وهو يتنقل ببصره بين عيني وسام فأماء وسام رأسه إيجابا فقد وصله المقصود والتقطت عيناه تلك الإشارات التي أطلقتها عينيه وقال بهدوء مبددا كل شكوكه :
- أتصدق ذلك يا طارق !! ، لقد صدقت ظنونك ودخلا إمبراطورية البراكين وكما كنت تتوقع بأنهما لن يدخلاها معا فالأول دخل مباشرة إليها أما الآخر فقد دخل إمبراطورية الصخور ومن هناك دخل إلى إمبراطورية البراكين وكأن شخصا ما ساعدهم على ذلك ومخططين له جيدا من قبل ..
فابتسم وسام ساخرا وقال بلا مبالاة :
- الإمبراطور جاسم خلف ذلك بكل تأكيد ..
أفاق طارق من شروده عند هذه الكلمة وقال بشرود :
- الإمبراطور جاسم ..
ونظر إلى وسام وأراد أن يتأكد من آخر شيء كاد يقتله بصمت ففتح فمه لكنه أغلقه بسرعة ودهشة عندما قال له وسام يرمقه بنظرة إن لم يكن متوهما فقد كانت نظرة إعجاب وقال بابتسامته الساخرة التي دائما ما تزين شفتيه :
- عبقري منذ قابلتك .. وأنت يوم بعد يوم تثبت لي ذلك أكثر ..
رفع وسام رأسه عاليا لتعانق عينيه السماء وقال بهدوء وبنبرته المميزة والتي تجعلك تصغي له رغما عنك لوجود تلك النغمة العجيبة فيها :
- هناك يا طارق .. هناك في الأعالي مكانك الحقيقي ..تذكر ما قلته جيدا ..
فزحفت الابتسامة الصادقة إلى قلبه قبل محياة لا يعلم لماذا لكن كلمات وسام رغم برودتها إلا أنها كانت كل ما يحتاج سماعه هذا الوقت ، وليست المرة الأولى التي يسقط فيها ويوقفه وسام ، يحار في أمر هذا الرجل فبالرغم من الظروف الغريبة التي جمعتهم وشخصيته الباردة واللا مبالية والتي كثيرا ما يفضل الاحتفاظ بأفكاره ومخططاته له إلا أنه شخص رائع لمن يعرفه عن قرب بغض النظر عن كل الغموض الذي يلف شخصيته وماضيه المجهول فهو إلى اللحظة الحالية لا يعرف قصته وسبب تواجده الحقيقي في الإمبراطورية الخضراء وهو من إمبراطورية البراكين وهذا الذي قالها له بصريح العبارة بعد التقائهم في هذا المكان بالضبط والذي لا يعلم أي واحد منهم عن الآخر أو ابن من يكون إذ أن وسام بادر بإخباره بنسبه وأنه ابن كريم أحد أبناء إمبراطورية البراكين ولم يتطرق إلى قصة والده وبأنه يعتبر أحد الخونة في إمبراطوريته بل اكتفى بأن حذره من الاقتراب منه وتكوين صداقه معه بسبب معتقداته التي التصقت به منذ صغره بأنه خطر على كل من يقترب منه إلا أن طارق رفض جميع معتقداته وتحذيره وأكد له بأن لا أحد سيعلم عن صداقتهم وستكون سطحية ليس إلا لأنهم تشاركوا سر بركة الحكمة التي لا يعلمها سواهما وتعاهدا على ألا يخبروا أحدا عنها إلا لمن يثقون به كما يثقون في أنفسهم ، ويوم بعد يوم اكتشف وسام مدى رجاحة عقل طارق وعبقريته وذكائه واستشف طارق من صمت وسام ومهاراته القتالية العالية والتي شاهده أكثر من مرة يتدرب في هذا المكان على التصويب والكثير من مهارات استخدام السيف وبعض الفنون القتالية الجسدية على أنه يعتبر أحد الأبطال والفرسان الحقيقيين الأوفياء والذي قل تواجدهم في الفترة الأخيرة إذ أنه يتنكر في لباس جندي وهو في الحقيقة بطل لا يهاب شيئا ، لا ينكر طارق بأنه صُدم في بداية الأمر من كون وسام من إمبراطورية البراكين والذين عُرفوا بمكرهم وخداعهم وحبهم للسيطرة فأخذ الشك نصيبه من قلبه حينها فلقد ظن بأن وسام من الإمبراطورية الخضراء لأنه بشعر بني وعينين عسلية ، صحيح أن شعره البني الذي يراه من بعيد يضن أنه أسود لكثافته وغمق لونه إلا أنه أخذ من ملامحهم الكثير بغض النظر عن الوسامة التي فاقتهم بكثير ، فتقصى عنه قليلا ليعلم بعدها أنه أحد جنود معسكر البلدة وهذا السبب منطقي لتواجده بينهم وهو ليس منهم إذ أنه يشعر بأن خلفه الشيء الكثير لكنه لم يبحث خلفه بل اكتفى بالصداقة الحقيقية التي جمعتهم فلم يكن وسام يعلم بأنه ابن الإمبراطور عامر إلا من وقت ليس بالكثير ، وكم يتعجب من نفسه بأن وثق به كل تلك الثقة التي جعلته يطلعه حتى على أفكاره الخاصة وبعض المشاكل الحساسة التي تحدث معه في القصر ولم يرى وسام إلا خير صديق وخير سند وخير مصغي لمشكلاته كما أفكاره ومخططاته ، يشعر بشيء تجاهه غير الصداقة يشعر بأنهم يتشاركون نفس الدماء وليس الأفكار فقط والمواقف الكثيرة التي حدثت بينهم تشهد ، لكن ذلك مستحيل فكل واحد منهم من إمبراطورية تبعد كل البعد عن الأخرى ولا يعلم ما سر هذا الشعور ، فتنهد طارق براحة وكأن جبلا كبيرا كان يحمله على كتفيه أزيح عنه ثقله وقال مبتسما بصدق :
- كم أنا ممتن لك يا وسام ..
نعم كم هو ممتن وشاكر له فهو على الأقل لم يصرخ به غاضبا أو يشككه في قدراته العقلية ويرميه بالكلمات المنقصة لقدراته وقيمته ، نهض وسام بخفة ينفض معطفه الأسود وقال ببروده الصقيعي وكأن شيئا لا يعنيه في كل ما حدث :
- هيا للقصر فورا يا طارق فيبدو بأنك خرجت ولا أحد يعلم بأمرك ..
لتعلوا الدهشة تقاسيم وجهه طارق ولا يعلم كيف لوسام أن يعرف كل تلك الأشياء هل هو مجرد تخمين يصيبه بدقة كل مره ؟! أم هل يجيد هذا الرجل الثلجي قراءة الأفكار واختراق الدواخل ؟! وكم بات يشك في ذلك ، هز رأسه بخفة مبتسما على أفكاره ونهض وقال بضيق مصطنع بعد أن عادت إليه حيويته وثقته بنفسه كما ابتسامته :
- نعم أشكرك على حسن استقبالي لذلك سأذهب من حيث أتيت ..
رمقه وسام بنظرته الباردة وتلك الابتسامة الساخرة التي تزين شفتيه وأشار له برأسه وكأنه يشير لشيء ما خلفه ، فالتفت طارق بسرعة خلفه لتسقط نظراته على خيله وعلم حينها بأن وسام يقصد غادر بسرعة ولا تنسى أخذ خيلك معك ، فرمقه طارق بضيق حقيقي هذه المرة فوسام لا يتخلى عن تصرفاته التي تثير الغضب في النفس وقال له بعد أن استدار يسير نحو خيله بخطوات غاضبة :
- وسام هذا المكان لك حق فيه كما لي أنا أيضا لا تنسى ذلك وتتصرف وكأنه منزلك ..
فجاءه الرد السريع والساخر بذات النبرة الموسيقية الباردة :
- إذا ليس من واجباتي أن أحسن استقبالك فهذا ليس منزلي كما قلت ..
فأكمل خطواته وهو ينفث الهواء من صدره كالإعصار الحارق وحاول جاهدا بأن يتجاهله ولا يرد عليه فوسام يبدو له في أحسن حالات مزاجه البارد المتقلب ووجده أمامه وكأنه ينقصه لعب بأعصابه التالفة أساسا ، فاتسعت ابتسامة وسام الساخرة واخرج السكين الصغيرة من جيب معطفه وأخذت أنامله تلعب بها بخفة وسرعة بينما يده الأخرى سجينه جيبه ، تبعه يسير خلفه بخطواته الغير مسموعة وقال بنبرة ساخرة يرمقه بتسلية :
- ما الذي جرى للأمير الحكيم يا ترى هل فقد حكمته في التصرف وبدا بفقد أعصابه ..؟!!
استدار طارق بسرعة رامقا إياه بقوة بعينان امتلأتا غضبا ما الذي يحاول الوصول إليه وسام الآن ؟! هل بعد أن خفف عنه أوجاعه يزيدها له بالضعف ؟! أم يستخف ويتسلى به ليس إلا ؟! ، فقال طارق من بين أسنانه يشد قبضتيه بقوة :
- وسام ما الذي تريد الوصول إليه بالضبط ..؟!!
فتلاشت من على وجه وسام تلك الابتسامة الساخرة وسيطر الجمود على ملامحه الوسيمة وقال ببرود وعيناه مثبتتان على عيني طارق الغاضبة والذي يتلقف أنفاسه التي أفلتت منه :
- هناك شيء ما يجب عليك رميه هنا ثم تذهب في حال سبيلك هذا الذي أريده منك فقط ..
فتنقلت عينا طارق التائهة في قسمات وجه وسام وكم بدا مشتتا وضائع فقال بهدوء :
- ما الذي تقصده يا وسام ..!!
قال مباشرة :
- الذي فهمته يا طارق يجب عليك أن ترمي غضبك وانفعالك هنا وتذهب وأنت كأنت أمير الحكمة والرزانة التي عُرفت بها وليس من تتحكم فيه مشاعره ويخلط الأمور كلها معا وينفعل سريعا ..
واستدار متوجها حيث البركة تاركا صدى كلماته تصدح في صدر الذي تركه خلفه يتخبط في متاهات مغلقة يحارب لوحده ليخرج منتصرا لوحده هذا ما أراده منه وسام أن يعي لنفسه ولا يترك أي مجال للآخرين بكسره وثنيه وتغيير مبادئه وطباعه فهكذا هم البشر لا يتوقفون ويبتعدون عنا تاركينا في حال سبيلنا إلا أن انحنينا لهم وداسوا على رؤوسنا ليعتلوا القمة ويتركونا خلف ظهورهم إن لم يكن تحت أقدامهم ، جلس وسام عند البركة بهدوء يراقب ما أخفاه الظلام عن أعينهم فيها من أعشاب ملونة تتراقص في المياه واسماك صغيرة تتحرك في مجموعات بكل عنفوان وحرية تأسر الناظر إليها وتبعث السكون إليه ، وبعد لحظات ودقائق لم تكن بالقصيرة سمع خطوات طارق متوجهة نحوه ، جلس بجانبه بكل هدوء ولم ينطق أي منهم بأي كلمة فالذي قاله وسام لطارق وصل مضمونه بالكامل إليه فيجب عليه الآن أن يهدأ ويعود إلى طبيعته السابقة ولا يسارع في المغادرة فبالتأكيد أنه سيقابل والده هناك ما أن يعود إلى القصر ويسمعه من التوبيخ ما قد يسمعه ويرى الدموع في عيني والدته وأيضا زهرة لتتخبط مشاعره من جديد ويعود إلى نقطة البداية صفر اليدين ومشوش التفكير ، يحتاج إلى الهدوء لتهدأ كل خلية عصبية في جهازه العصبي ويعود للتفكير بروية والتخطيط السليم ، طال صمتهما كما طالت أفكارهما المختلفة فكل واحد منهم يفكر في مشكلة فوسام يفكر في كلام القائد رائد وما قد قاله عن الفوضى والتخريب وعودة ماضيه الأسود الذي لم تتركه ذكراه المؤلمة حتى الآن تطارده أينما كان ، أما طارق فكان يفكر في مشاكله العائلية والأوامر التي ألقاها عليهم والده كالقنابل لتفككهم وكأنه ينقصهم تفكك وضعف في العلاقة بينهم ، لم يستغرب طارق صمت وسام القاتل إذ أنه اليوم بالذات سمع صوته كما لم قد يسمعه سابقا لطول الحديث بينهما والذي عرفه لسنين لا ينطق إلا بكلمات معدودة ، حتى أنه كان يستدير بوجهه بين حين وآخر ليتأكد من أن وسام لازال يجلس بجانبه ، فلا يصدر عن هذا الشخص أي أصوات وكأنك تجلس بجانب جدار إن لم يكن جثة لا صوت أنفاس ولا تنهيدات عفوية تخرج من صدره على تلك الأفكار التي بالتأكيد كل شخص يحتفظ بها لنفسه ولا أي شيء ، قطع طارق ذلك الصمت ينظر إلى جانب وجهه وسام الذي يقابله قائلا بابتسامة ماكرة وبنبرته المخملية ومبددا تلك الهالة الباردة التي سيطرت على الجو :
- لا بد وأن رامي سعيد للغاية بيومي العطلة ..
وختمها بضحكة غلبته في حين رمقه وسام ببرود بنصف عينه قبل أن يعود على وضعيته السابقة متجاهلا إياه إذ أنه فهم مقصده وهو أنه لا يجيد فن التحدث مع الغير بعكس رامي ذو الشخصية المرحة والذي لا يتوقف عن الحديث في كل شيء فبالتأكيد هو سعيد بأنه تخلص منه ، هز طارق رأسه بخفة مبتسما على حال وسام فما الذي توقعه منه ؟! هذه هي عادته البرود والتجاهل والهدوء بل كان يجب عليه أن يستغرب منه قبل لحظات وهو يمدحه ويشجعه ويعلمه دروسا في التعامل مع الغير واحباطاتهم على غير العادة يكتفي ببعض الكلمات فقط ، نهض طارق بهدوء فلقد تعلم من وسام الكثير اليوم وأعاد له ثقته المسلوبة بنفسه وحكمته وترويه في كل شيء ، وقبل أن يغادر توقف مصدوما من همس وسام الجاد عندما قال :
- سأذهب إلى الحدود الجنوبية يا طارق ..








نهاية الفصل , قراءة ممتعة لكم أحبتي ..
بقلم محبتكم : روح الوسن ..

روح الوسن .. 18-04-20 04:02 PM


.. الفصل الثامن والعشرون ..

.
.

[ تحدي المستحيل ]

.
.

نظر إليه بعينين متسعة من الدهشة وتعالت أنفاسه المضطربة ووسام على حالته لم يلتفت إليه يهيم بنظره في مياه بركة الحكمة وكأنه يستمد هدوئه وصموده منها فقال طارق بهمس مصدوم :
- الحدود الجنوبية لماذا .. ؟!!
فاستقام حينها وسام منتصبا واقفا أمامه فما سيقوله يحتاج إلى أن يكون هكذا في كامل استعداده وكأنه يخبره بأنه لن يتراجع ولن يثنيه أي شيء عما قال وسيقول ، قال ببرود ينظر إليه بتركيز :
- يجب أن أتفاوض مع زعيمهم لينضموا إلى الإمبراطور عامر ..
اتسعت عيني طارق بصدمة أشد من سابقتها ، ما الذي يقوله له وسام أهو يعي خطورة الأمر أم يظنها سهلة هكذا يستطيع هو لوحده فعلها وبكل بساطة ، هز رأسه غير مصدق وقال بتساؤل :
- ولماذا ينضمون إلى أبي وهي المنطقة الموجودة بين إمبراطورية البراكين والإمبراطورية الخضراء ومنفصلين تماما عن جميع الإمبراطوريات في كل شيء .. ؟!!
فتنهد وسام بعمق رافعا أنامله يفرك بها جبينه وعيناه مبددا الإرهاق والتعب الشديد الذي يشعر به وقال بهدوء :
- إنها الفوضى يا طارق سوف تعود إن لم نتحرك الآن فكما يبدو بأن الإمبراطور جاسم يسعى خلفها لأسباب مجهولة ويريد ضمها له بطرق ملتوية ..
رفع طارق يديه إلى رأسه يضغط عليه بشدة ما هذه المصائب التي يلقيها عليه وسام الواحدة تلو الأخرى ألا يكفيه مشاكله الخاصة ليزيد عليها هذه أيضا ؟!، فقال بغير تصديق :
- أي فوضى ولماذا يسعى خلفها الإمبراطور جاسم وكيف علمت بذلك يا وسام ..؟!!
حينها نظر إلى عينيه ببرود وقال بسخرية :
- الحدود الجنوبية يبدو بأنها تحوي سرا ما والإمبراطور جاسم قد عرفه لذلك يسعى خلفها ويجب أن نضمها إلى الإمبراطورية الخضراء لنتفادى المصائب والأخطار ولكي يبتعد عنها الإمبراطور جاسم رغما عنه عندما تكون في حمى الإمبراطور عامر ..
هذا الذي فهمه من القائد رائد واستنتجه من خوفه الشديد وارتباكه ، فلأجله فقط سيضحي بكل شيء وإن كان سيدفع حياته ثمنا لذلك فهو آخر شيء قد يتمسك بالحياة لكونه فيها فهو والده الذي لا يعلم كيف خرج له بعد كل هذه السنين والذي لم يسرقوه منه بعد وبالتأكيد لأنه زور هويته بهوية أخرى فهو في نظر أبناء إمبراطوريته خائن ، قال طارق مجددا وبضيق ولا يوجد أي علامة من علامات الرضا والهدوء في ملامحه :
- لكنك يا وسام من إمبراطورية البراكين وتريد ضمها إلى الإمبراطورية الخضراء ، هذه ستعد خيانة لإمبراطوريتك حتى لو كُنا في سلم وكونك جندي من جنود معسكر البلدة هذا لا يشفع لك أبدا فعلتك هذا مستحيل فلتنسى الأمر برمته ..
فلم يتلقى من وسام أي رد وملامحه الباردة تدل على أنه قرر وانتهى ولا رجوع في ذلك أبدا ومهما كان ، فقال في محاولة أخرى ليثنيه عن قراره المتهور الذي قد يفقده حياته :
- كما أن زعيمهم السيد رأفت غريب أطوار والتفاوض معه عبثا هذا ما عُرف عنه حاد الذكاء وشرس يصيبك في مقتل بشروطه التي يشترطها فهو غالبا لا يحب الحروب وسفك الدماء وله رجال منتشرون في جميع الإمبراطوريات لا أحد يعلمهم أقوياء وكلهم ذوي كفاءة عالية لا أحد يقدر عليهم ..
ولم يتلقى أي رد أيضا وكأنه يقف أمام جدار ليس إلا أو صخرة من هذه الصخور المنتشرة حولهم ، زفر الهواء من صدره كالنيران المشتعلة وعلم حينها أن الصراخ والحدة لا تجدي نفعا أبدا ومع أي شخص لاسيما وسام وقال بهدوء يحاول للمرة الثالثة بأن يقنعه بالتراجع فهو يعلم تماما ما عقوبة ما يريد أن يقدم على فعله غير الخيانة التي ستحتسب عليه هي أنه اخترق القوانين العامة وعقوبتها قد يكون السجن خصوصا كونه أحد الجنود وليس من عامة الناس أي أن العقاب أشد :
- دعنا نفكر بروية يا وسام ونجد خطة محكمة لنقوم بتنفيذها أعدك بأنني سأسعى جاهدا في ذلك وسنضمها لنا في أقرب وقت ..
هز رأسه بخفة نافيا وقال ببرود :
- ليس هنالك وقت للتفكير والتخطيط يجب أن أغادر سريعا وخلال اليومين هاذين ..
فأخذ طارق يجوب المكان ذهابا وإيابا في توتر شديد لم يشعر به سابقا يحاول بأن يجد مخرج .. خطة .. فكرة .. حل .. أي شيء قد ينفع فما فهمه من وسام بأن احدهم اخبره أو علم هو بطريقته الخاصة بتحركات الإمبراطور جاسم الغير قانونية وأن عليه أن يوقفه لكن مهلا ماذا لو قابل وسام الإمبراطور جاسم بالتأكيد أن الأمر لن يمر بسلام وهو أكثر من عرف عنه أنه يكره أن يخرج أبناء إمبراطوريته لأي من الإمبراطوريات حتى تجارهم فهو متحفظ جدا ولا يريد لهم بأن يختلطوا بأي أحد أي أن المسألة أكثر تعقيدا مما قد يتوقع ، هو لا يشك أبدا بصدق وسام وصحة معلوماته فكم كان يخبره بمعلومات غريبة مجهولة المصدر لكنها حقيقية ورآها بعينه لذلك لم يتطرق لسؤاله عمن اخبره أو كيف علم ، قال طارق بتوتر بعد أن توقف وتنهد بضيق :
- والآن ما الذي سنفعله .. ؟!!
فعاد وسام للجلوس ناصبا ركبته أمامه يريح مرفقه عليها وقال ببروده القاتل وكأنه كان يلقي مزحة ليس إلا :
- ما الذي سنفعله !! الذي قلته لك قبل قليل أم نسيت لأذكرك ..؟!!
فرمقه طارق بقوة أهذا وقت السخرية الآن ؟! تنفس بعمق مهدأ لنفسه وقال بهدوء حاول استجماعه بصعوبة :
- وسام فكر في الأمر جيدا أرجوك فهذه ليست لعبة أطفال لتضمن نجاحك وليست ساحة قتال وحرب لتضمن أيضا فوزك وانتصارك فيها هذه خطط مرسومة وتحركات مدروسة خلفها عقول مدبرة قد لا تفكر في أي شيء إلا مصالحها الشخصية ..
فتنهد حينها وسام بحدة إذ أن الخوض في الحديث أكثر أصبح مهلكة له ولأعصابه وكم شعر بالندم بإخباره لطارق بما سيقدم عليه فهو يفكر ويخطط ويعمل لوحدة دائما لكن الآن وفي ظروف قاسية وصعبة كهذه يجب عليه أن يطلعه على مخططاته ، فقال بنبرة هادئة بعد أن استقام مواجها له :
- طارق أنا أخبرتك فقط لتعلم ما الذي يجري في الخفاء وتأخذ الحذر والحيطة فأنا لا أثق بشخص غيرك في إعادة السلام بيننا مجددا إن اندلعت الحرب وعمت الفوضى من جديد فلا أحد يستطيع فعلها حينها أحد سواك ..
هز طارق رأسه نفيا بضياع ويشعر بكم هائل من المسؤولية وُضعت على عاتقيه ، كم هو شاكر وممتن لوسام بأن وثق به لتلك الدرجة بأنه هو من يستطيع إعادة السلام بين الإمبراطوريات إن حدث أي شيء لكنه يشعر بالخوف نعم خوف يتملكه ولا يعلم ما الذي يخيفه في الموضوع بالضبط فكل شيء حوله أصبح يخيفه ، فشعر حينها طارق بكف لامست كتفه فنظر إلى وسام الذي ربت على كتفه بخفة ناظرا إلى عينيه وقال بهمس :
- لا تفكر كثيرا ولا تقلق يا طارق فأنا معك سأسعى جاهدا لكي لا تعود الحرب من جديد وهذه أول خطوة سأقدم عليها أنا بأن أتوجه إلى الحدود الجنوبية وأتفاوض معهم وأنت عليك بالباقي فإمكانياتك ومؤهلاتك أكثر وأقوى من إمكانياتي ومؤهلاتي ..
فلم يشعر طارق بنفسه إلى وهو يعانق وسام بقوة وكم كان عناقا صادقا اخويا مبني على ثقة وتضحية من الطرفين ، فعلم طارق حينها أن في الحياة مواقف صعبة يجب على الشخص أن يتحلى بالصبر والقوة والشجاعة ليقدم عليها بكل شجاعة واندفاع ولا يقف خائفا من المجهول مشوشا وتائها متفرجا لمن حوله لا يتقدم خطوة ويساعد غيره ولا هو يعود إلى الخلف ويترك المجال لغيره بل يقف في المنتصف كالأبله إلى أن يخسر ويفقد كل شيء حوله وأمام عينيه ولا ينفعه الندم حينها ، أبعده وسام عنه بخفة فهو ليس معتاد على هذه المشاعر الأخوية المحبة أبدا ، وقال وعينيه تتنقل في السماء فوقهم :
- لقد تأخر الوقت عليك العودة إلى القصر قبل أن يعلموا بغيابك ..
هز طارق رأسه إيجابا ولم ينطق بكلمة فتوجه نحو حصانه امتطاه في صمت وغادر بهدوء لكنه سرعان ما التفت خلفه بدهشة ليجد وسام يمتطي حصانه أيضا يسير خلفه فقال وسام وكأنه توقع ما الذي سيقوله :
- لن أتركك وحدك تذهب إلى القصر ودماغك لازال مشوشا ..
فابتسم له طارق رغم أنه أحس بأن وسام يسخر منه فهو ليس طفلا يحتاج من يرافقه إلى منزله لكن لا بأس فهو قد لا يراه مجددا بما أن الأوضاع في تدهور ، انقبض صدره لمجرد الفكرة فلا يتخيل بأنه سيفقد وسام والذي كان له نعم السند والأخ فهو لا يعتبره سوى صديقه الوحيد وأخاه الأكبر منه الذي يلجأ إليه وقت ضعفه وانكساره ليعيد ترميمه من جديد ، شد قبضتيه بقوة على لجام خيله المزركش ويشعر بكم هائل من الاختناق واحتباس دموع العجز في عينية وكم حسد حينها شقيقته زهرة عندما تعبر عن كل ما في قلبها بدموعها فيا ليت الرجال لهم نفس قدرة النساء في البكاء بدون حدود ولا قيود عله يخفف ما يشعرون به ويحملونه في صدورهم ، صهل برق بقوة بسبب ضرب وسام له مما جعل طارق يلتفت إليه مجددا باستغراب لكن ليس خلفه بل أصبح حينها أمامه بسبب انطلاق حصانه فقال وسام بنبرته الساخرة التهكمية يرفع صوته لكي يسمعه من أصبح خلفه :
- هل تسير على سلحفاة وأنا لا أعلم .. ؟!!
فزم شفتيه بعبوس فوسام لا يترك له الوقت ليحزن قليلا ولا ليفرح أيضا بل يقطع عليه مشاعره بسخريته الدائمة منه ، لكز حصانه هو الأخر لينطلق به حصانه سهم كالسهم يطير في الهواء وقال بتحدي :
- لن يسبق برقك سهمي ..
واتبعها بضحكة عالية حماسيه عندما انطلق الحصانان يسابقان الريح يشقان الطرقات مسرعين وكم تبدد حزن طارق وخوفه على وسام لمرح وحماس بينما فضل وسام كبت كل ما يشعر به داخله ولا يسبب في حزن احدهم وتعاسته كما كان يوصيه فارس دائما ..
وصلا في وقت قياسي إلى حدود القصر وفضل وسام بأن يتوقف بين الأشجار خلف القصر ليضمن دخول الذي لم تبتعد عسليتيه عنه بسلام ولازال يرمقه بسخرية ، قال طارق بضيق من تلك النظرات الساخرة بعد أن نزل من على ظهر حصانه سهم :
- لقد فزت بمحض مصادفة يا وسام فلا تغتر بنفسك كثيرا ..
فضحك وسام بخفة ضحكة قصيرة عندما صهل برق يرفع قوائمه الأمامية ليهز رأسه بكبرياء تطايرت معه خصلاته السوداء في الهواء وكأنه يثبت له أنها مهارة وليست مصادفة كما قال ، منظر جعل التي ظهرت من خلف أحد الأشجار تحدق بهما بصمت فقد اكتملت الصورة الأسطورية للفارس وفرسه ، فوسام أخذ من الوسامة الشيء الكثير رغم برودة ملامحه وتجهمها دائما فما بالك لو ابتسم أو ضحك !! فقال طارق بغيض ينفض بدلته بضجر :
- مغرور أنت وحصانك ..
حينها رفع وسام نظراته بالتي لم تفارقه نظراتها سريعا والتي أحس بها منذ أتت وكانت على نفس حالتها ساكنة وصامتة هذه ليست المرة الأولى التي تقابله لكنها نادرا ما تراه وكم هي معجبة بشخصيته القوية والصلبة والتي تعاكسها تماما ، فقطب طارق حاجبيه منزعجا إذ أنه كان يعطيها ظهره ولم ينتبه لوجودها وقال :
- وسام أنا أحدثك ما بك يا رجل هل كل هذا غرور بفوزك علي ..
وعندها سمع طارق الصوت الأنثوي الرقيق من خلفه قائلا بنبرة باكية :
- طارق ..
فالتفت بسرعة ليعلم حينها فيما كان ينظر إليه وسام وقال باستغراب :
- زهرة لما أنتِ هنا .. ؟!!
فركضت نحوه لترتمي في حضنه باكية وقالت بتقطع بسبب بكائها :
- لقد قلقت عليك يا شقيقي أين ذهبت ولماذا لم تخبرني ..؟!!
فمسح على شعرها بخفة وقال يهمس في أذنها :
- أنا بخير يا زهرة وها أنا ذا أقف أمامك لا داعي لكل هذا القلق ..
فابتعدت عنه مجبرة لنفسها إذ أنها تذكرت وجود وسام خلف شقيقها مباشرة فأخذت تمسح دموعها بإحراج وقال لها طارق بعتاب :
- لا أريد أن تأتين إلى هنا لوحدك يا زهرة مرة أخرى فالمكان خال ولا يوجد إلا بعض الحرس وأنا أخاف عليك منهم ..
أومأت برأسها إيجابا وقالت بهمسها الباكي :
- وأنت لا تذهب هكذا دون أن تخبرني وإلا لن استمع لك ولأوامرك أيضا ..
فابتسم لتوأمته وشقيقته الوحيدة للطفلة المشاغبة التي لن تكبر مهما بلغت بهما السنين فقال بابتسامة ماكرة :
- أيتها الطفلة أنا رجل متى ستفهمين ذلك ..!!
هزت رأسها بقوة لتتطاير معها خصلاتها الذهبية حولها لتزيدها جمالا ورقة وتكّون للناظر لها الصورة الحية للزهرة الجميلة الفاتنة وهي ترتدي فستانا ورديا منساب على جسدها بكل عنفوان لا يناسب سواها تناغم لونه مع خداها المتوردان من البكاء وقالت برقة بالغة :
- عندما تفهم بأنك جزء مني اقلق عليك دائما عندما تغيب عنا ..
فطوقها بذراعيه وقبل رأسها وقال لها مبتسما :
- حسنا حسنا فهمت يا زهرتنا الصغيرة ..
فأفلتت منها ضحكة رقيقة وهادئة لا تعلم ما الذي ستفعله إن فقدت شقيقها فهي بالتأكيد ستفقد روحها حينها ، التفت طارق سريعا خلفه عندما سمع خطوات برق مبتعدة ونسي تماما وجود وسام معهم كل ذلك الوقت فابعد زهرة عنه وقال بهدوء :
- زهرة اسبقيني للقصر قليلا واتبعك ..
لكنها هزت رأسها نفيا فهي لم تصدق بأن رأته أمامها لتطمئن عليه لتذهب الآن وتتركه خلفها أي جنون هذا ، فتنهد بقلة حيلة من عنادها وأسرع الخطى نحو وسام الذي ابتعد عنهم وقال صارخا باسمه ليتوقف :
- وسااام انتظر ..
فتوقف وسام ينظر إليه ببرود تحته وقال طارق بقليل من الخجل يتلقف أنفاسه بعد أن وصل عنده :
- أنا آسف لم اقصد ما...
قاطعة وسام بهزة خفيفة من رأسه أن لا بأس فقال طارق بعد أن نظر إلى عيني وسام بجدية :
- احذر يا وسام من السيد رأفت ومن الحدود الجنوبية بأكملها ..
أماء برأسه إيجابا دون أن ينطق بكلمة فقال طارق بهمس حزين :
- اعتني بنفسك أرجوك ولا تتهور كثيرا فإن وجدت الأمر صعب للغاية لا تكمل فقط انسحب وسنرسم خطة أنا وأنت سويا لننالها بذكاء ..
قال وسام ببرود بعد صمت :
- أشكرك ..
وعندما هم بالمغادرة ساحبا لجام برق ليتحرك استوقفه مجددا قائلا :
- لا أريد أن أخسرك يا وسام فتريث قبل كل خطوة تخطوها أرجوك ولا تضغط على نفسك لأجلنا وتخسر الكثير بسببنا ..
قالها والألم يلف كيانه فما سيفعله وسام لأجلهم سيعد قفزة كبيرة لهم هم الإمبراطورية الخضراء وخصوصا عائلة الإمبراطور عامر وسيخسره الكثير فأول شيء سيكون خائن في نظر أبناء إمبراطوريته وسيكون منبوذا أكثر مما هو منبوذ عليه الآن ناهيك عن إذا فشل ولم ينجح فذلك بالتأكيد سيرميه في الهاوية ودون رحمة سيخسر كل شيء وأولهم حياته وهو يضحي بها للغير دون اكتراث ، كم يشعر بالخزي من موقفه هذا وهو الأمير ابن الإمبراطور عامر يقف كالمتفرج بينما الجندي البسيط ابن الإمبراطورية المجاورة لهم هو من ينقذه وينقذ والده كما كل أبناء شعبه وزد على ذلك سيوسع لهم أراضيهم ويزيد من مناصريهم وأتباعهم ليكونون قوة لا تهزم إذا نجح وانضمت الحدود الجنوبية لهم فلطالما عرفوا بكفاءة أبناءهم وقوة جيشهم ووفرة العتاد والسلاح عندهم أي أنهم صفقة لا تفوت وفرصة لا تعوض ، حينها ابتسم وسام واستشعر طارق مدى الحزن العميق في تلك الابتسامة الباهتة والملامح الشاحبة والذابلة مما جعل صدره ينقبض وبقوة وقال بنبرة هادئة لفها الحزن والألم ولأول مرة يسمع طارق هذه النبرة الموسيقية المتألمة التي تعزف لحن الألم والأسى بشتى أنواعه من وسام حين قال :
- لن أخسر أكثر مما خسرته في حياتي يا طارق ثق بذلك ..
فقط وغادر بعد أن همس بالوداع مخلفا دمارا وحطاما خلفه وتساؤلات لا حصر لها ، ما معنى الذي تفوه به وسام هل فقد الشيء الكثير في حياته وهذا لا يعد شيئا مقارنه بها ؟! وهل وصل به الأمر لهذه الدرجة بأن يرمي بنفسه للتهلكة دون اكتراث لأنه بظنه لن يفقد شيء ويخسره لأنه خسر كل شيء سابقا ؟! ، جلس على الأرض مستندا على ركبتيه يضم رأسه بين يديه يشعر برأسه قليلا وسينفجر من التفكير الكثير ، لماذا لا يصل لحل يرضي الجميع ويساعدهم ويخرجهم مما هم فيه ؟! لماذا يعجز عن فعل أي شيء الآن ؟! لماذا سمح لوسام بالمغادرة ونسبة نجاحه أقل بكثير من نسبة فشله ؟! بالرغم من تأكده بأنه سيتحدى الجميع وسيفعل المستحيل لأجل أن يخرج منتصرا في معركته إلا أنه سيشعر بتأنيب الضمير إذا لحقه أذى ، لكن هل سيضحي بصديقه الوحيد بهذه الحجة الضعيفة ولأجل الإمبراطورية ووالده الذي لن يعترف بمواهبه وقدراته في التخطيط ويقدرها مهما فعل ليقدر ما فعله صديقه لأجلهم !! ، ابعد يديه عن رأسه عندما التفت ذراعي زهرة حوله تبكي بصمت لحال شقيقها الذي لا تعلم ما الذي يجري معه اليوم وهو لا يبدو لها على طبيعته أبدا تشعر به يعاني ويتألم ولكن لا يتحدث وكم يؤلمها ذلك أكثر ، فتنهد تنهيدة مليئة بالألم وقال بهمس :
- كم أشعر بأنني عاجز يا زهرة عاجز عن فعل أي شيء ..
فزادتها كلماته المتألمة بكاء ولم تعلم بماذا ترد عليه وما هي الكلمات المناسبة لتقولها له فاكتفت بالبكاء ، نهض ونهضت معه وقال عندما حوط كتفيها بذراعه :
- هيا يا زهرة توقفي عن البكاء أرجوك ودعينا ندخل إلى القصر ونترك كل شيء في وقته ولا نستبق الأمور ..
فسارا معا متوجهان للقصر وتوقف طارق قليلا والتفت حيث مكان وسام الخالي الذي كان فيه وقال بهمس متألم :
- أنا أثق بك يا بطل فعد سالما لنا أرجوك ..







نهاية الفصل , قراءة ممتعة لكم أحبتي ..
بقلم محبتكم : روح الوسن ..


روح الوسن .. 20-04-20 09:57 PM

.. الفصل التاسع والعشرون ..

.
.

[ العهد ]

.
.

في غرفة مغلقة بإحكام قد غطت جدرانها أقمشة رمادية رسمت عليها رسومات ونقوش امتزجت باللونين الفضي والكحلي في تصميم غريب وكأنه يحفظ الخصوصية وتوفير السرية التامة ، لا تتسلله ولا حتى أشعة الشمس فحتى النافذة الزجاجية الكبيرة المتصلة بشرفة كبيرة غطت ستائرها كل الضوء المنبعث من أشعة الشمس التي بدأت تصعد وتظهر للعنان في السماء ، تتوسط الغرفة طاولة كبيرة مغطاة بالجلد الأسود ويقع أعلى الطاولة ثريا كريستالية مليئة بالشموع لتسقط ضوئها على الورقة الكبيرة الموضوعة على الطاولة والتي رسمت فيها الإمبراطوريات الأربع بألوان مختلفة ليسهل التعرف على كل جزء منها ، قال الذي كان يمسك بعصا خشبية يشير بها على الخريطة يقف أمام الشخصين الآخرين :
- يجب علينا تعزيز مناطق الحدود بالحراسة والدعم للأسر ..
وأشار لمناطق صغيرة أخرى على الرسم وقال :
- في هذه المناطق الصغيرة المنفصلة عن الجميع بدأت الفوضى تعم بسبب قلة المؤن وبدأ الناس فيها بالثورات على الإمبراطوريات يطالبون بحقوقهم ..
بعدها اخذ يحرك العصا الخشبية يمررها على الخريطة مصدرة صوتا مزعجا إلى أن توقفت عيناه كما العصا على الحدود الجنوبية وصمت وملامحه تصلبت بشكل مفاجئ فقال جميل بضيق :
- سحقا لهم كل هذا يجري في الخفاء ..
فرد عليه مروان بنبرته الحازمة التي لم تخلو من القلق والحنق :
- لا ولا يريدون أن يعلنوها بصريح العبارة بل يستمرون في تناقل الأسلحة بالخفاء أيضا ، بصراحة لقد صُدمت من أفعال بعض القادة كيف يجرؤن على ذلك ..!!
ضحك جميل ساخرا وقال :
- يريدون الحروب من جديد وهم أكثر من عانى منها سحقا لعقولهم المريضة أكل هذا لأجل المال والسلطة .. !!
حرك مروان رأسه لا زال وقع تلك الأخبار والمعلومات السرية التي ألقاها عليهم رائد يفتك برأسه ولا زال غير مصدق ما سمع ، قال بهمس :
- يستعينون بالتجار لأجل نقل كل ما يحتاجونه بينهم من عتاد وغيرها يا لا وقاحتهم ..
قال جميل ينظر في عيني مروان البنية كما لون شعره والتي تثبت كونه ابن من أبناء الإمبراطورية الخضراء ولكن لظروف اضطرتهم ثلاثتهم قاموا بتزوير هوياتهم الحقيقية وهو الآن يعتبر من أكبر التجار وابن إمبراطورية الصخور :
- كن حذرا يا مروان فأنت تتعامل مع التجار طيلة الوقت لا تنخدع بتجارتهم وتروج لها وفي النهاية يظهر بأنها مجموعة سيوف وأسهم تساعد في الخراب والدمار ..
أماء برأسه إيجابا وارتسمت على ملامحه الحزن وقال بنبرة متألمة تنطق مرارة :
- لا تقلق عليّ يا جميل من هذه الناحية فأولئك الأوغاد لم يقصروا مع من اعتبره ابني وقاموا بتشويه سمعته بطريقة ملتوية لا تخطر على البال حتى ، ليكسروني قبل أن يكسروه ..
أطلق شتيمة قاسية وهو يشد قبضتيه والألم يعتصر قلبه حين تذكر ملامح ابنه رافع والذي دخل عالم التجارة بكل ثقة ومرح وإصرار لينشهر اسمه في السوق في بضع شهور فقط ، وكم أسعده ذلك فهو شعور لا يمكن وصفه عندما ترى أبنائك أو من تعتبرهم في منزله أبنائك يخطون خطاك ويتبعون طريقتك ويحبون ما تحب ، وما أشده من شعور عندما ترى ابنك مكسورا مسلوب القدرة والثقة ومغدور من أعز شخص عليه ، ربت جميل على كتف مروان يواسيه فجميل ومروان ورائد أصدقاء منذ سنوات كثيرة ولم تفرقهم مفارقات الحياة وصعابها التي بعثرتهم بل ظلوا أصدقاء أوفياء لبعضهم حتى بلغوا ثلاثتهم الأربعين من العمر وهم يفنون كل قواتهم وشبابهم لأجل نشر الأمن والسلام بين الإمبراطوريات كلها ، قال جميل بابتسامة حزينة يشعر بمدى الحزن والألم الذي يلف كيان مروان :
- كيف هم أبنائك وكيف هو حال زوجتك ..؟!!
فضحك جميل على نفسه وأكمل قائلا :
- كان يفترض بي سؤالك هذا السؤال منذ تقابلنا وليس الآن ونحن سنودع بعضنا البعض ..
ورمق بمكر الطرف الثالث والساكن سكونا مرعبا وكأنه اختفى وتلاشى وقال ساخرا :
- أرجوك اعذرني يا مروان فهذا كله بفضل الذي استدعانا استدعاء سري مستعجل ولم يتوقف عن قراءة خطاباته المرعبة وخططه المستقبلية المجهولة فأفقدنا حتى عقولنا ..
فنظر مروان إلى رائد المقصود بسخرية جميل لكنه جامد مكانه لم يتأثر ولم يرفع حتى نظراته بهم ، هائم نظره في الخريطة تحته ومركزا عينيه السوداء التي سيطر عليها وجوم كئيب في منطقة معينه ولم يغيرها ، ابتسم مروان شاكرا لجميل وقال :
- لا تقلق لا تقلق يا صديقي معذور دون أن تبرر فأنا اعلم الناس بهذه الحالة البائسة وهم كلهم بخير ..
فتبادلا ضحكة مبددين الهم والأرق الذي سيطر عليهم ورفعوا أعينهم بالذي لم يشاركهم في شيء وكم بدا شاردا متألما فقال مروان بهدوء :
- رائد لا تشغل تفكيرك كثيرا فنحن بجانبك ..
وقال جميل يثبت صحة كلام مروان :
- ولن نتخلى عن الإمبراطوريات جميعها وسننقذها من الدمار والفوضى كما فعلناها سابقا مع الإمبراطور عادل هذا ما تعاهدنا عليه سابقا وسنظل نبذل قصارى جهدنا لحماية ذاك العهد ..
حينها رفع رائد رأسه ونظراته بهم وارتسمت على شفتيه ابتسامة باهتة وقال بهمس مكسور بعد صمت دام للحظات سيطر عليهم :
- يريدون قتلي مرتين ..
فعلت الدهشة ملامح من يقفون أمامه ولم يفهموا ما الذي يقصده بأنهم يريدون قتله ، ومن هم !! وهل هو مهدد فعلا من قبل أحدهم !! ، ألجمتهم الدهشة والصدمة فرائد شخص كتوم لا يتكلم إلا بخطط وأوامر ونصائح ولم يشكي لهم يوما هما لكنه وعلى ما يبدو تحمل أكثر مما قد يستوعبه قلبه فباح لهم ، قال مروان بتساؤل بعد أن أفاق من صدمته :
- من هم يا رائد ..؟!!
واتبع جميل بقوله :
- ولماذا يريدون قتلك هل كشفوا هويتك الحقيقية .. ؟!!
انزل رائد بصره وقال وهو ينظر إلى الخريطة وبالتحديد الحدود الجنوبية :
- من هنا بدأت الفوضى قبل أكثر من عشرون عاما ومن هنا يريد جاسم بدأها من جديد ..
رفع نظره بهم بعد أن طال صمتهم ويعلم تماما بأنهم تاهوا في متاهات التفكير والتساؤلات وقال بعد ضحكة صغيرة ساخرة :
- الإمبراطور جاسم يسعى خلف الحدود الجنوبية ويبدو بأنه علم بالسر ..
فلم يستطيعوا حينها منع شهقات الصدمة والاستنكار التي خرجت من حناجرهم فأخر ما كانوا يتوقعوه هو معرفة الإمبراطور جاسم بالسر المخبأ في الحدود الجنوبية فأكمل رائد يسرد لهم آلامه دون رحمة :
- يريد قتلي بالبطيء بأن يضم الحدود الجنوبية بأكملها له ، وكم بت أخشى بأنه بدأ يشك بهويتي الحقيقية ويريد أن يراقب تصرفاتي وردود أفعالي بعد أن أعلم بالخبر، يعلم ما الذي تعنيه لي الحدود الجنوبية فهي الأرض التي ولدت وتربيت وترعرعت فيها وأكملت باقي حياتي بعد زواجي فيها أنا وزوجتي التي أعادت لي حب الحياة في قلبي بعد أن كدت افقدها وأنجبنا ابننا فلذة كبدي في أرضها لذلك خبأت السر فيها ولم أعتقد للحظة بأنه قد يعلم بالسر ..
فتقدم منه جميل وعانقه يخفف الألم الذي يعتصر قلبه يربت على ظهره بقوة يريده أن يتماسك أكثر فلا يخفى عليه نبرة الألم والانكسار والحزن في نبرته ، فتنهد رائد بألم وسحبه جميل معه ليجلس على الأريكة وناوله كوب ماء ليهدأ ، جلس مروان مقابل لهم وقال بعد تفكير :
- وماذا سنفعل الآن ؟! يبدو بأن وجهتنا ستتغير إلى الحدود الجنوبية ..
أماء رائد نافيا وقال بهمس :
- لقد كلفت وسام بهذه المهمة ..
فعلت الدهشة وجوههم مجددا ويبدو بأن هذا اليوم يوم تلقي الصدمات وارتسام الدهشة على وجوههم وقال جميل باستنكار :
- وسااام ..!!
قال رائد مباشرة :
- نعم وسام فهو لازال يعتبر ابن كريم من إمبراطورية البراكين وسيستطيع فعلها بالتأكيد ..
فقال جميل والفكرة لم ترقه :
- لكنه ....
وصمت قليلا وقال بهمس متردد وكأنه يخشى أن يسمعه أحد :
- لكنه ابنك يا رائد لا تلقي به إلى التهلكة فالحدود الجنوبية لا أحد يعرف أسرارها وغموضها فهي منعزلة تماما عن الجميع منذ غادرتَها للعيش هنا ..
ابتسم رائد عندما قال جميل ابنك وكأن سمعه لم يلتقط إلا هذه الكلمة التي حرم منها وحرموه من ابنه ومن سماع كلمة أبي من فمه وصنعوا منه أله للحرب والقتال فقط خالي من المشاعر والإنسانية أيضا ، ولا يلومه أبدا بل يلوم نفسه والظروف التي سيرتهم على هذا الطريق المفترق ليحكم عليه بالابتعاد وعدم السؤال ويكتفي بالمراقبة من بعيد وفي الخفاء فقط ، قال مروان وهو يضع يده على ذقنه مفكرا :
- وكيف سيفعل ذلك ..!!
قال رائد بهدوء ينظر إلى يديه المتشابكة أناملها الطويلة ببعضها البعض :
- لقد طلبت منه التفاوض مع زعيمهم ..
قال مباشرة :
- تلك مخاطرة ومغامرة ماذا لو فشل ..؟!!
ولم تنطق شفتيه بأي كلمة فهذا أكثر شيء يخاف حدوثه ووسام أمله الوحيد بأن ينجح بالتفاوض وينضمون إلى الإمبراطورية الخضراء ليضمن ابتعاد الإمبراطور جاسم عنها وبذلك سيحمي السر الدفين بين طيات أراضيهم ، وعندما لم يرد رائد على تساؤلاتهم علموا مدى وقع الأمر على قلبه وأنه ليس بالأمر السهل وأنه لم يلجأ لوسام ابنه إلا أنها قد أقفلت الأبواب كلها في وجهه ولم يبقى له غير هذه الطريقة التي كم باتوا يخشونها ، نهض جميل وسار بخطى واهنة يريد أن يبتعد قليلا لربما يجد فكرة أفضل فعودة وسام هناك تعني الكثير من المخاطر التي ستلحق به فهو يعلم بكل ماضيه والذي قاساه سابقا وكيف كاد يجن ويفقد صوابه بعد موت فارس ودخل في حالة من الهستيريا المرعبة لكنهم انقضوه في آخر لحظة وجلبوه إلى الإمبراطورية الخضراء دون علمه بخطة ذكية ليلتحق بمعسكر البلدة والذي كان بالأساس فكرة رائد ليكون ابنه بقربه ، فتح الستارة قليلا لتتسلل أشعة الشمس مبدده كل ذلك الجو المتوتر فقال باندهاش لم يستطع إخفائه :
- يا إلهي إنه الصباح .. !!
فقال رائد بهدوء :
- أعتذر على تأخيركم كل هذا الوقت لكنه كان يتوجب علي إخباركم بكل المستجدات التي تصلني يمكنكم الذهاب الآن ..
نهض مروان وربت بخفة على كتف رائد وقال بابتسامة :
- لا داعي للاعتذار وشكرا لك على كل شيء ..
ثم صمت لحظة وأكمل قائلا بعد أن اعتدل في وقفته :
- ولا تقلق بشأن وسام فإن حدث له أي أمر سوف نكون أنا وجميل بجانبه ولن نتخلى عنه أنا أعدك فنحن نعتبره كابن لنا ..
فتنقلت نظرات رائد بين مروان الذي يقف أمامه وجميل الذي يقف خلفه قرب النافذة ليهز الآخر رأسه إيجابا مؤكدا ما قال فارتسمت على شفتيه ابتسامة صادقة وهدأ أخيرا ، قال بامتنان :
- أشكركم ، أشكركم حقا يا رفاق ..
فودعهم بعدها بعد أن تأكد أنه لم يلحظ أحد دخولهم لمنزله وغادرا بأمان ، عاد لمكتبه وأعاد كل شيء كما كان قبل قدومهم يشعر بوحشة تسكن قلبه لم يحس بها سابقا رغم أنه كان يعيش لوحده ولسنوات طوال لكنه كما لو أنه بات متيقنا بفقده لابنه وسر ابتسامته في غربته التي تنهش روحه ، ذهب إلى غرفته وفتح خزانته واخرج له ملابس مريحة كل ما يريده الآن هو حمام دافئ وأن ينام بسلام وكم هو شاكر بأن اليوم عطلة فهو قائد لإحدى الفرق في جيش الإمبراطورية الخضراء، دخل الحمام وأطفأ كل النيران التي اشتعلت بصدره بالمياه فهذا هو تأثير المياه عندما تضرب برذاذها كل جسمك لتستعيد بعدها نشاطك وحيويتك ، انتهى من حمامه بعد ما يقارب النصف ساعة يعلم بأنه وقت طويل جدا للاستحمام لكنه كان يرتجي الهدوء به ، لبس ثيابه وأخذ يجفف شعره الأسود بالمنشفة ورماها على سريره بإهمال وكان ينوي أن يذهب ليعد لنفسه كوب قهوة لمزيد من الاسترخاء والهدوء والسكينة والراحة فرأسه لا زال يشعر بأنه يؤلمه ، خرج من غرفته ومر بباب مكتبه ليتوجه مباشرة نحو المطبخ لكن عظامه تصلبت ولا يعلم لماذا لكن قلبه نبض بانفعال شديد استدار برأسه فقط لينظر داخل مكتبه والذي غلبه الظلام فشعر بحركة أحدهم رغم خفوتها إلا أنه سمعها ، دقق النظر ليتراءى إليه طيف أسود لشخص طويل وعريض ، تنفس بعمق مهدئا نفسه فلا مجال للهروب الآن بل لا بد من المواجهة وكم يستغرب من الذي استطاع دخول منزله المؤَمن بكل وسائل الأمان فلا يمكن لأحد اختراقه ، تنقلت نظراته المتوجسة في تلك الهيئة التي لا تدل إلا على أنه رجل محارب ، اتسعت عيناه بصدمة من الذي كان يعتقد بأنه آخر شخص سيقابله فقال الذي اقترب منه بنبرة متهكمة اتضحت له ابتسامته الساخرة التي تزين شفتيه :
- حتى متى كنت ستستمر في حمامك هذا .. !!
وخرج له لتسقط أضواء الشموع عليه كاشفة عن ملامحه الوسيمة فقال رائد بعد أن وجد صوته والصدمة والدهشة علت ملامحه :
- وسام .. !!
وصمت وكأنه غير مصدق أنه يراه أمامه ولا يزال تحت تأثير الصدمة فقال وسام بهمس وقد لمعت عينيه العسلية :
- مرحبا أبي ..
وكسرت هذه الكلمات أو بالأصح كلمة أبي من فم ابنه كل تلك الصدمة بالرغم من برودها إلا أنها كانت كافيه لإشعاله ، تقدم نحوه دون حتى أن يسأل كيف دخل مع كل تلك الحراسة ؟! وما الذي يريده في الصباح الباكر ؟! ولماذا هو هنا فهو خطر عليه ؟! كل ما كان يريده هو رؤيته وكأن ذكراه اليوم نبشت كل أوجاعه ، سحبه إليه وضمه بقوة إلى صدره وكم بدا سعيدا ومتألما جدا في نفس اللحظة عندما ضم جسد وسام البارد والأشبه بكونه جسد جثه قد فاضت روحه منه ، فقبل رائد رأس وسام ولم ينتظرها منه فوسام لم يعتد على هذه الأمور من احترام وتقدير للوالد ولا يلومه أبدا بل هو شاكر كونه رآه والآن أمامه ، أبعده عن حضنه وحوط بكفيه وجه وسام يتلمسه بأنامله والذي بالرغم من وسامته شاحب جدا وهالات سوداء بسيطة ظهرت أسفل عينيه وكم ألمه قلبه فلقد علم بأن ابنه يعاني من الضغوط حتى أنه يبدو لم ينام ليومان أو أكثر ناهيك عن الأكل القليل ، تأمل عيناه العسلية وشعره البني ووجهه الوسيم وتذكر حينها زوجته عنان وأم وسام ، لقد أخذ الكثير منها فهو تزوج من الإمبراطورية الخضراء المتميزون بالعيون والشعر البني لكن وسام أخذ عينا والدته العسلي والقريب للاصفرار بلمعتها الغريبة وكم شابهت ملامحه ملامحها الفاتنة ، سيطر الحزن عليه وعاد ليقبل ابنه وكأنه طفل صغير وليس شاب يبلغ من العمر الثامنة والعشرين ، فهذا كل ما يريده بأن يخبئ وسام في صدره ويبقيه بقربه ويهرب من هذا العالم بأكمله ويترك الإمبراطوريات لتحترق ، فما أسوأه من شعور عندما تضحي بأغلى ما تملك لأجل الآخرين والمصلحة العامة ولكي لا يعيش أحد ما عاشه هو من ألم وحزن وتفكك ، بينما كان وسام هادئ وبارد وهو يرى كل ذاك الحب والشوق في عيني والده الحقيقي ومن بقي له في هذه الحياة البائسة ولا يفهمه أو بالأحرى لم يعتد على هذه المواقف والمشاعر الجياشة ، هو فقط يشعر بعض الأحيان بأن هناك جزء في صدره ينبض ويؤلمه ذاك النبض إذ أنه لا يعلم لماذا يفعل ذلك !! ، سحبه رائد لداخل المكتب وأجلسه على الأريكة ووسام منصاع له بالكامل وقال بنبرة متلهفة :
- سأعد لك القهوة يا بني واتي حالا ..
لكن وسام هز رأسه بخفة نافيا وقال بهمسه ذو النغمة الموسيقية الخافتة :
- ليس لدي وقت وقد أؤذيك بمجيئي المفاجئ لك ..
وصمت لحظة ثم أكمل :
- فقط أنا أردت أن أخبرك بأني ذاهب إلى الحدود الجنوبية اليوم ..
تنهد الأخر بألم ومسح وجهه بكفيه وجلس بجانبه ، قال بحزن :
- أرجوك اعذرني يا بني فأنا فاشل ، والد فاشل وبجدارة ..
نظر له وسام باستنكار وقال بنفس نبرته الهادئة :
- لا تقل ذلك يا أبي ..
فأسند رائد رأسه بيديه ينظر للأرض وقال بنبرة متألمة وشعور الخيبة يقتله :
- أنا أعلم تماما بأني ألقيك في النار بيدي وأنت نور عيني التي أبصر بهما يا وسام ..
بلع ريقه مع غصة أحرقت جوفه وقال :
- لكنني عاجز عن فعل شيء وخائف من أن تكتشف هويتي حينها سأعرضك للخطر أضعاف فإذا علموا بأني كريم ابن إمبراطورية البراكين الخائن في نظرهم سيقتلونني وبالتالي يقتلون كل عائلتي ونسلي وأنا لم يتبقى لي في هذه الحياة سواك ..
رفع رأسه وحدق في عيني وسام الهادئة هدوء أشبه بالموت وقال :
- لذلك فكرت وفكرت ولم أجد طريقة إلا هذه فلربما يكون ضررها عليك أقل أما بالنسبة لي فالأمور تساوت عندي وليقتلوني لا داعي المهم أنهم لا يحرموني منك يا قرة عيني والدك ..
فابتسم وسام لوالده ومد يده لكتفه وقال بابتسامة ساخرة ونبرة شديدة التهكم :
- لا تقلق يا أبي فلن يصعب علي التفاوض مع زعيمهم وأعدك أن ابذل كل جهدي لأحصل عليها لترضى فقط ..
فسحبه مجددا لحضنه وقال بانكسار يهمس في أذنه :
- كم أنا فخور بك يا بني كم أنا فخور كونك ابني دونا عن الجميع ..
فابتسم وسام ابتسامة ساحرة لكنها بخيلة كابتساماته السابقة ما لبثت إلا قليل واختفت ، وكم شعر بالسعادة تسكن كيانه من هذه الكلمات الصادقة التي اخترقت كل خلية فيه وقال بهمس :
- لن أخيب ظنك بي إذا ولو كلف الأمر حياتي ..
فأبعده عنه وقال ويديه لازالتا تمسكان بكتفي وسام وبنبرة جدية :
- لا يا وسام أرجوك لا تجازف وتخاطر بحياتك فإن تعقدت الأمور فقط انسحب أنا أريدك ، أريد سلامتك وإلا سوف الحق بك لنموت معا ..
فتنهد وسام بهدوء وشرد ذهنه ينظر في الفراغ كم يكره كلمة موت فهي لا زالت تؤثر عليه بشدة ، فاستغل رائد الوقت ونهض سريعا وما هي إلا لحظات وكان يضع كوبين من القهوة على الطاولة أمامهم تتصاعد منهما الأبخرة ، ووسام يريح ظهره على الأريكة هائم نظره في البعيد شاحب الوجه ومتجهم للغاية ، نظر إليه رائد بحسرة كم يتمنى أن يكون أبا صالحا يساعد ابنه لتجاوز الصعاب لا إقحامه فيها ، كان يتمنى أن يفهمه بمجرد النظر إلى عينيه لكنه قد يفهم جيش كامل ولا يفهم ابنه فسحقا لظروف أجبرتهم أن يكونا كغريبين ، تنهد رائد بعمق شعور الخسارة يقتله وسرعان ما تبدد شعوره إلى الصدمة التي كاد أن يفقد عقله ويتوقف قلبه بسببها عندما همس له وسام ببرود ظهر فيه نبرة توتر زاد تلك النغمة الموسيقية بحة غريبة وهو يتجنب النظر إليه :
- أبي أود خطبة مايا فما رأيك ..
كانت أول مرة له في حياته يطلب فيها رأي أحد في أمر يود القيام به بل فكر فيه مسبقا وخطط ولم يبقى إلا التنفيذ لكنه بشكل ما أراد أن يسعد والده الذي حرموه منه ، لم يستطع رائد حينها من السيطرة على دموع الفرح التي هربت من عينيه السوداء الحالكة تعلن للجميع مدى سعادته وفرحته بسماع ما سمع ، فابنه يجلس أمامه ويحادثه هذه سعادة بحد ذاتها ناهيك عن أنه يأخذ رأيه في موضوع يخصه لوحده وما أجمله من موضوع وهو الزواج والاستقرار ، هزت السعادة أركان قلبه المهجور فابنه وسام لا يزال يمتلك من الإنسانية التي جردوه منها رغما عنه ما يجعله يفكر بالارتباط والاستقرار والتفكير في بناء أسرة وعائلة دافئة ، فضمه مجددا بقوة وتنهد بعمق تنهيدة خرجت من عمق روحه حملت كل معاني الفرح والسعادة وقال له بحب :
- ما أسعدني بك يا بني وما أسعدني بسماع هكذا خبر ..
فابتسم وسام بابتسامة خرجت صادقة ونقية وقال بسخرية :
- هل أسعدك بأنني فكرت في ذلك أم فيمن اخترتها والتي تكون ابنه صديقك المفضل ..
فابتعد عنه وصوت ضحكته العميقة التي نسي كيف يضحك مثلها رن صداها في الأرجاء فهو لا ينكر بأنه سعد جدا بسماع اسم مايا والتي تكون ابنه صديقه جميل لكنه الآن في ورطة حقيقية فحتى مروان كان يأمل بأن يزوج وسام من رنا رغم صغر سنها فهي في السابعة عشر من العمر والتي رباها منذ كانت رضيعة ولا يعتبرها إلا كابنته المدللة ، اعتدل رائد في جلسته وكتم ضحكته بصعوبة وقال مبتسما :
- لا أنكر ذلك حقا فأنا سعيد بالخبرين ..
ثم أكمل رائد بحماس :
- إذا يا بني متى ستتحدث مع عائلتها ..
اخفض وسام بصره ثم نظر إلى والده ببرود وقال :
- ليس الآن يا أبي ، إذا انتهيت من مشكلة الحدود الجنوبية الشائكة سأحاول معرفة رأيها شخصيا بي وليس ضغط والديها عليها ..
هز رائد رأسه متفهما إذ أن رأيها بابنه وكونها سترتبط به هو الأهم ولقد فاته التفكير في ذلك حقا ، لكن البسمة سرعان ما عادت لترتسم على شفتيه وقال وهو يستقيم :
- من سيرفضك ونساء الإمبراطورية كلهم يريدونك ..
ابتسامة ساخرة كانت رد وسام فغمز له رائد وقال بمكر :
- أعرف تحركاتك وأعرف أيضا النساء اللواتي يرمين بأنفسهن لينلن إعجابك ..
فضحك ضحكة صغيرة وأكمل بتردد :
- حتى جنى اعرفها ..
فرمقه وسام بسرعة ولا ينكر بأنه صدم من سماعه لما قال والده ، قطب حاجبيه بغضب وكتف يديه لصدره وقال بحنق :
- تلك الغبية ..
فانطلقت ضحكة رائد وانصرف إلى غرفته مغادرا بعد أن قال له :
- انتظر قليلا وسأعود ..
فتنهد وسام بقوة فذكر تلك الجنى يصيبه بالجنون كيف لها أن تفعل ذلك وهي تعلم بأن رامي يريدها له وخطبها من والدتها !! سحقا لها ولأفكارها الغبية ، دخل رائد يحمل شيئا في يده وقال بضحكة :
- لو كنت أعلم بأنك تكره ذكرها كل هذا الكره لما نطقت حتى اسمها ..
فأشاح وسام وجهه بعيدا عنه وقال ببرود :
- رامي يريد خطبتها وهي تعلم لكنها تفتعل المشاكل الحمقاء تلك البلهاء الغبية ..
جلس رائد بجانبه وابتسم قائلا :
- هكذا إذا تريد اللعب بأعصابه ليس إلا ..
حينها امسك رائد كف وسام الذي نظر إليه بهدوء وقال بهدوء محب حزين وهو يدس شيئا في يده :
- كم سعدت يا وسام بسماع خبر جميل كالذي قلته لي وأقسم بأن الأرض لا تسع فرحتي بك أتمنى لك التوفيق يا بني وأن تسعد كغيرك وتستقر ولا تبقى وحيدا طيلة حياتك فأنت تستحق الأفضل ..
نظر وسام إلى يده والشيء الذي أعطاه والده له ليجدها حلقة معدنية مصنوعة من الفضة اللامعة وفيها نقوش سوداء زادتها جمالا في تنسيق مبهر ، قال رائد مبتسما بحزن وهو ينظر في الفراغ وكأنه يسترجع ذكريات جميلة :
- هذا خاتم زواجي بوالدتك اذكر يومها ذهبت أنا وهي إلى الصائغ ليصيغ لها أجمل خاتم زواج فاخترناه سويا فأصرت بعدها على أن تختار لي هي خاتمي وكيف سيكون شكله وألا أتدخل فتركتها تفعل ما تشاء فأنا لم يكن يهمني شكله بقدر ما كان يهمني أن يكون دليلا ملموسا لارتباطي بها فهي كانت مصدر سعادتي وقوتي وإلهامي في هذه الحياة ..
تنهد بعمق من تلك الذكرى بينما اكتفى وسام بالإصغاء وملامحه زادت شحوبا وبرودا مخيفا ، يتذكرها نعم يتذكر والدته يتذكر ضحكاتها ونصائحها يتذكر وجهها المبتسم المشرق كما يتذكر وجهها الشاحب الملطخ بالدماء فهو الوحيد الذي نال شرف رؤيتها تموت أمامه ليموت بعدها ألف مرة ، لحظة صمت سيطرت على الجو وهالة من البرود والحزن سيطرت عليهم فقال رائد مقاطعا لذلك الجو المشحون بشحنات الماضي السلبية :
- لذلك يا بني أنا أعطيك إياه ومتأكد بأن والدتك كانت ستسعد بهذا الخبر مثلي ..
نهض وسام بخفة ودسه في جيبه وقال بهدوء :
- أشكرك يا أبي ..
نهض رائد وقال بحزن :
- هل ستغادر الآن ..؟!!
أماء رأسه إيجابا وقال بهمس :
- لا أريد أذيتك يا أبي ، وسنلتقي قريبا ..
فضمه بقوة إلى صدره وكأنه طفل صغير وقال مودعا له :
- إذا انتبه على نفسك يا بني وكن حذرا دائما ..
ابتعد وسام عنه بخفة وقال مختصرا بهدوء :
- لا تقلق ، إلى اللقاء ..
وغادر سريعا كنسمة خفية كما أتى تاركا الذي خلفه يتنهد بعمق ، عاد إلى غرفته ليرتمي على فراشه بكل ثقله فمشاعر كثرة عصفت به اليوم وكل ما يريده الآن أن ينام وينام وينام ويهرب بعيدا عن كل شيء .









نهاية الفصل , قراءة ممتعة لكم أحبتي ..
بقلم محبتكم : روح الوسن ..



روح الوسن .. 22-04-20 05:20 PM

.. الفصل الثلاثون ..

.
.

[ رباط الماضي الخانق ]

.
.

طرقات متتالية وخافتة بعض الشيء على بابا غرفتها اتبعها صوت الخادمة قائلة باحترام :
- سيدتي حان وقت الفطور ..
هي ما جعلتها تستيقظ وتعتدل في جلستها ، رفعت خصلات شعرها الأشقر ونظرت إلى الطرف الآخر من السرير الكبير الفارغ وتنهدت بقلة حيلة فجميل لم يعد حتى الآن وكم ارقها ذلك حتى في نومها ، فليست من عادته التغيب كل هذا الوقت واليوم عطلة كم تتمنى بأن تمر على خير ، نهضت وأخذت لها فستانا رماديا ثقيل بعض الشيء فللصباح نسمات باردة ، استحمت سريعا وبدلت ثيابها وجلست تسرح شعرها وفكرها شارد تماما ، طرقات أخرى من الخادمة جعلتها تقطع أفكارها وتخرج ، توجهت نحو المطبخ لتشرف على ترتيب سفرة الطعام وتضع لمساتها عليها في حين قالت خادمة أخرى ترتدي زي الخدم :
- سيدتي يبدو بأن السيد عاد للتو ..
فانطلقت مسرعة نحو باب منزلهم الداخلي وفتحته بقوة دون أي تردد مما جعل من كان يمد يده ناحية الباب ينوي طرقه توقف فجأة والدهشة ارتسمت على ملامحه التي أرهقها السهر والتعب ، قالت ببحة والدموع تتجمع في عينيها :
- لماذا تأخرت يا جميل لقد أقلقتني عليك ..
فابتسم لها وسار نحوها وقد ضم كتفيها بذراعه يحثها على الدخول وقال بمرح يرمقها بمكر :
- أين صباح الخير يا عزيزي لقد اشتق لك استجواب هكذا من البداية ..
فلكزته بمرفقها بخجل وقالت بضحكة تمسح دموعها :
- أصمت لا أحد يسمعك أيها العجوز ..
فانطلقت ضحكته تملأ المكان بأكمله فكم يعشق أسرته ومنزله وكم هو سعيد بأن كانت زوجته هند أول من استقبله فلم يكن ينقص يومه المليء بالبؤس إلا رؤية وجهها الحسن لينسى كل شيء ، قبل رأسها وقال وهما يجتازان الصالة الكبيرة :
- أشعر بالجوع الشديد يا عزيزتي وعظامي أحس بها ستتكسر وأشعر بالإعياء فأنا لم أنم مطلقا ..
ابتعدت عنه سريعا وقالت :
- إذا اسبقني للغرفة وأذهب وأستحم ولن تخرج إلا وكل شيء جاهز ..
ابتسم لها بحب وغادر سريعا بينما توجهت هي لصالة الطعام وتفقدت كل شيء أنه في مكانه الصحيح وخرجت مسرعة وعندما قابلت إحدى الخادمات قالت لها :
- أيقضي مايا من فضلك ..
أماءت الخادمة رأسها إيجابا وانصرفت بينما توجهت هي لغرفتها وجهزت ثيابا لجميل على الكرسي في حين انفتح باب الحمام وخرج منه جميل يلف منشفته حول خصره وأخرى يضعها على رقبته وعندما رآها ابتسم وقال لها :
- كيف هي مايا ..
قالت مبتسمة تمد له ثيابه :
- بخير ..
واتبعت قائلة :
- ما الذي جرى يا جميل فهي ليست من عادتك التأخر كل هذا الوقت هل من خطب ..؟!
جلس على طرف الكرسي متنهدا بتعب وقال وهو يفرك كتفيه :
- آآه يا هند الأوضاع غير مستقرة حاليا وعلينا تكثيف جهودنا ..
وضعت يدها على فمها وكتمت شهقتها بصعوبة ، جلست بجانبه وقالت بخوف :
- ما الذي تعنيه يا جميل أنت تخيفني ..
تنهد مرة أخرى وقال بشرود :
- لا تقلقي يا عزيزتي لا تقلقي فأنا ورائد ومروان نكثف جهودنا ونسعى جاهدين لإيقاف أي مشكلة قبل أن تتفاقم وتكبر ولا نسمح للوضع بأن يتأزم فالأمور كلها الآن تحت السيطرة نوعا ما ..
وشرد فكره في الحدود الجنوبية وذهاب وسام إليها وكم يخشى عواقب ما قرره رائد ووافق هو ومروان عليه ، قالت هند بابتسامة وهي تمسح على ذراع جميل بلطف :
- إذا بما أن الأمور تحت السيطرة فلا خوف ولا قلق ..
أماء برأسه إيجابا ونهضت قائلة :
- هيا ارتدي ثيابك ولنتناول فطورنا معا ..
ابتسم بمكر وقال يرمقها بخبث :
- ألن تساعديني فعظامي تؤلمني ..
فرمقته بحدة وخرجت مسرعة بعد أن همست له بحنق غاضب يزيدها جمالا :
- عجوز وقح ..
فلحقتها ضحكته الجهورية إلى أن وصلت إلى صالة الطعام بخطا غاضبة وخجلة في حين نهضت التي كانت ترتدي معطف التمريض وتوجهت نحوها ، عانقتها وقبلت رأسها وقالت بابتسامة :
- صباح الخير أمي ماذا بك غاضبة هكذا في هذا الصباح هل من مكروه ..!!
فابتسمت هند وهي تسحب كرسيها لتجلس عليه قائلة ببرود :
- والدك عاد ..
فشهقت مايا بسعادة وقالت :
- حقا أمي عاد أبي ما الذي جرى له ليتأخر عنا كل هذا الوقت ..
فاتاها صوته من خلفها قائلا :
- صباح الخير حبيبتي مايا ..
فاستدارت ونظرت له بعينين محبه وارتمت في حضنه وقالت بطيبة تملأ قلبها :
- صباح النور يا أبي أخيرا تذكرت أن لك منزلا لتعود إليه ..
فتشاركت العائلة ضحكة متفاوتة قي درجاتها وابتعدت عنه قليلا ونظرت إليه بعينيها التي تشبه في لونها السماء الصافية ، كم تشبه والدتها وكم أخذت الكثير من حسنها ، قالت له بعد أن قربت حاجبيها الرقيقان بضيق :
- أبي أنت وعدتني بالأمس أن تصطحبني من العيادة وصرفت كل سائقي العربات لماذا جعلتني انتظر طويلا وماذا كنت تفعل أنا غاضبه منك ..
وكأنما تذكر للتو بأنه أمرها بأن تنتظره ولا تخرج مع سائق العربة المخصص لها ونسي تماما أمرها وكله بفضل تلك الأخبار البائسة التي شلت حتى تفكيرهم ، قال بعد أن استفاق من صدمته :
- أنا حقا آسف لقد نسيت الأمر بالكامل ..
فكتفت يديها بضيق وقالت بحنق تكلم والدتها :
- أمي انظري إلى أبي قال نسيني بالكامل ..
فابتسمت لها وقالت بلطف :
- لم ينساك يا حبيبتي هو انشغل قليلا ..
فأشاحت بوجهها غاضبة وسارت إلى أن وصلت إلى مقعدها سحبت كرسيها وجلست تتجنب النظر إليهما بضيق ، كيف ينسى أمرها وهي لوحدها هناك حتى حسام لم يكن معها وكيف تبتسم والدتها وتقول أنه انشغل قليلا ماذا كانت ستفعل إن لم يأتي وسام ويصطحبها !! بالتأكيد كانت سوف تبيت هناك لا طعام ولا شراب ، وكم هي شاكره لوسام الآن ، ورغبة شديدة في البكاء راودتها تتمنى لو تراه فقط لتشكره مرارا وتكرارا لأنه لم ينساها ويتخلى عنها ويتركها لوحدها بين جدران العيادة المظلمة رغم أضواء الشموع ، اقترب جميل منها وقبل رأسها وقال لها وهو يجلس على الكرسي بجوارها :
- سامحيني حبيبتي أعدك لن يتكرر ..
فأخفضت رأسها تنظر للأطباق أمامها وتمردت دمعة من عينيها لكن لم يلاحظها أحد حين قالت هند مبتسمة :
- أتعلم من زارنا بالأمس ..؟!!
نظر لها مستغربا وقال :
- من ..؟!!
قالت مايا بضيق :
- وسام ..
نقل نظره إليها يستغرب كل هذا الغضب والعداء من صغيرته لكن سرعان ما تردد الاسم في رأسه وقال باستنكار :
- من .. وسام ..!!!
قالت مايا ومقاطعة لوالدتها التي كانت تريد أن تتحدث تنظر إلى عيني والدها :
- انظر يا أبي كيف أصبحت عبئا على الآخرين ، لو أنك تركتني أعود في عربتي مع السائق ماذا كان فيها ..
هز رأسه فهو لم يستوعب شيئا وما دخل هذا في ذاك وما الذي احضر وسام إلى هنا ، هل يعقل أنه أراد أن يسأل عنه لأنه لم يحظر إلى المعسكر في فترة ما بعد الظهيرة يا ترى أم ماذا !! ، قاطعت تساؤلاته هند التي قالت بابتسامة :
- نعم وسام ، لقد احضر مايا من العيادة في وقت متأخر من الليل وكم كنا شاكرين له صنيعه ..
فتنهد حينها وقد ربط كل شيء في دماغه لكن السؤال الحقيقي هو كيف علم وسام بأنه منع سائقي العربة من اصطحابها خصوصا بالأمس لأنه شك في احدهم وأراد أن ينظر في أمرهم لكنه انشغل مع رائد ومروان ونسي بالكامل ، وكيف علم بأنها لا تزال في العيادة ؟! هل يعقل بأنه يراقبها ؟! لا هذا مستحيل فهو يعرف وسام لكن ماذا لو كان حقيقيا ، هز رأسه قاطعا كل تلك التساؤلات المهم أن مايا بخير وأصبح الآن يدين لوسام بالشكر ، سحب مايا من ذراعها لتستقر في حضنه وقال بحنان :
- آسف يا صغيرتي أنا حقا آسف أنا الملام الوحيد واستحق أن تغضبي مني ..
هزت رأسها نفيا فقبل رأسها وقال مبتسما :
- أعدك اليوم بأن أوصلك هناك وأعود بك هل يرضيك هذا ..؟!!
ولم يصدر منها أي رد فعل فقال بمكر :
- وسأشتري لك المثلجات أثناء ذهابنا وعودتنا هااه ما رأيك الآن ..!!
أماءت رأسها إيجابا وهي لا تزال تخبئ وجهها في صدره العريض فضحك ينظر إلى هند التي كانت تبتسم لهما وقال :
- هيا إذا نتناول فطورنا ثم نذهب ..

*****

أغلق الباب خلفه بهدوء وجالت عيناه الخضراء في الأرجاء ليقابله الصمت والهدوء ، تنهد بعمق فالوضع لا يحتمل ، يجب عليه الخروج من هذا المكان وبأسرع وقت ، سار بخطواته الهادئة مجتازا الرواق طويل ، وصل إلى الصالة الكبيرة ليقابله الصمت أيضا ، توجه نحو الشرفة فتحها بهدوء لتدخل الأصوات المزعجة والضحكات المتفاوتة في علوها من الخارج مع أشعة الشمس المشرقة ، تقدم وأستند بمرفقيه على السور المصنوع من الخشب يراقب سبب تلك الأصوات ومصدرها ليرى رامي مبللا بالكامل بالمياه يلحق برنا يمسك دلو ماء في يده تخرج المياه منه بسبب ركضه ويهددها بأنه سيسكبه فوقها ويريها إن أمسك بها وهي تضحك بمشاكسة وتركض بسرعة وخفة وكأنها فراشة تتنقل من زهرة لأخرى بفستانها الأصفر القصير ، ابتسم لشقاوة شقيقيه اللذان لا يكبران أبدا يلهوان كالأطفال في الحديقة ويبدو بأنهم كانوا يسقون بعض ما يزرعونه هناك ، لكن انتهى بهم المطاف يتقاذفون الماء فوق بعضهم ، سحب نفسه سريعا وأغلق باب الشرفة لا يريدهم أن يروه فهم بالتأكيد سيصرون عليه بأن يشاركهم وهو حقا لا يريد فهو يرى نفسه لا يستحق حتى أن يمرح ويخرج وكأنه شخص عادي ، جلس على إحدى الأرائك وأسند مرفقيه على ركبتيه ينظر إلى الأرض وتلك النظرة الحزينة المكسورة لم تغادرها بعد ، فسمع صوت خطوات مسرعة ويبدو متوجهة نحو المطبخ لكن تلك الخطوات توقفت فجأة وقالت صاحبتها :
- رافع ..!!
رفع رأسه ونظر إلى عينيها اللتان تنطقان فرحا وسعادة برؤيته مجددا وكأنها كانت متأكدة أنها لن تراه بعد الأمس ، فنهض رافع متوجها نحوها ، أمسك رأسها وقبله وقال بهدوء:
- صباح الخير يا أمي ..
فمدت كفها لتلامس خده وقالت بحنان :
- صباحي ويومي كله سيكون مليء بالخير برؤيتي لك بني ..
ابتسم لها ثم تردد كثيرا فيما يريد سؤالها عنه لكنه عزم أمره وقال يتجنب النظر لعينيها :
- هل عاد والدي ..؟!!
أماءت برأسها إيجابا وقالت :
- نعم يا بني لقد عاد للتو وهو في مكتبه الآن سأعد لكم الفطور لنفطر سويا فهو يبدوا بأنه لم ينام البارحة ..
وتوجهت نحو المطبخ وهي تنادي رنا بصوت عالي لكن لا مجيب فتنهدت بقلة حيلة وقالت :
- تلك المدللة أين هي ..
والتفتت لرافع الذي ينظر في الفراغ بوجوم كئيب وقالت له بتوجس من تلك الملامح التي ارتسمت على وجهه :
- بني هل أنت بخير ..؟!!
نظر لها سريعا وكأنه نسي نفسه وقال بارتباك :
- ن..نعم يا أمي بخير ..
فابتسمت له وقالت :
- إذا هل لك أن تنادي لي رنا أريدها لتساعدني تلك المشاغبة ..
أماء برأسه وهو لم يعد يعي ما حوله ولم يدري حقا ما الذي قالته له فقط كل ما أراده أن ينصرف بسرعة ليقابل والده ، فغادرت بثينة للمطبخ سريعا وهذه أول مرة تطلب من غيره أمرا في وجوده ولا يبادر هو بمساعدتها بل تركها ، فتنهدت بحسرة وكم تخشى من سؤاله المستمر عن والده لا بد من أنه يخفي أمرا وكم تخشى هذا الأمر ، في حين توجه رافع سريعا نحو مكتب والده فهو لم يصدق بأنه عاد ، طرق الباب ثلاثا فسمع صوت والده يأذن له بالدخول ، فتح الباب ودخل وسرعان ما أغلق الباب خلفه كي لا يراه أحد وهو هنا ، رفع مروان رأسه وفي يديه كومة من الورق وبعض الملفات كان يريد مراجعتها سريعا تخص أسماء بعض التجار ونوع بضائعهم فالخراب كله بدأ بالتجار فيجب عليه من اليوم أن يتأكد من كل شيء ويدرسه قبل المضي فيه ..
كاد يوقع الأوراق من بين يديه عندما رأى الذي دخل والذي لم يكن إلا ابنه رافع ، رافع !! الذي سجن نفسه لشهور طويلة داخل غرفته !! يقف أمامه هل يعقل ذلك أم أن دماغه مشوش بالكامل ولم يعد يميز بين رامي ورافع !! ، هز رأسه غير مصدق وقال باستغراب :
- رافع ..!!
كم أصبح يكر ويمقت اسمه بالفعل ، ما بال الجميع معه ، ولماذا كل من رآه ناداه باسمه باستغراب ليتأكد هل هو واقع أم خيال !! وكأنه كان ميتا وبعث لهم فجأة ، زفر الهواء بقوة مهدأ لنفسه فلا وقت لديه لكل هذا فما يريده يجب عليه أن يبدأ بسرده بسرعة فقال باستعجال :
- أهلا بعودتك يا والدي ..
فهو لازال يحتفظ بأسلوب اللباقة في الحديث مهما حدث ، فلم يتكلم فيما يريده يجبر نفسه فقط ، قال مروان والدهشة لا زالت مرتسمة على ملامحه وبابتسامه :
- تعال يا بني تعال ..
أقترب منه رافع في حين وضع مروان الأوراق على مكتبه وعانقه يربت على ظهره وقال بهمس :
- كيف حالك يا رافع .. ؟!!
ابتعد عنه رافع ونظر للأسفل وقال بهمس مكسور :
- لن أكون بخير إلا إن وافقت على ما سأقوله يا والدي ..
نظر إليه مروان باستغراب وقال بهدوء حذر :
- ما الذي تقصده يا بني .. ؟!!
رفع رافع نظره بوالده لتلتقي عينيه الخضراء بعيني مروان البنية والذي رباهم منذ كانوا صغارا ولا يعتبرونه إلا كوالدهم وقال بحزم استجمعه :
- أريد العودة إلى إمبراطورية الصخور ..
فاتسعت عيني مروان بصدمة مما سمع وقال :
- ماذا تعود لإمبراطورية الصخور ولماذا ..؟!!
قال مباشرة :
- هذه رغبتي يا والدي فلا مكان لي هنا بعد اليوم ..
صرخ مروان وقال بحدة لم يعهدها هو في نفسه لكن كل ما سمعه اليوم وجرى معه استنزف كل ذرة صبر لديه :
- ما هذا الهراء هذا منزلي ومنزلك كما إخوتك هذا هو مكانك ولك كل الحق فيه ..
قال رافع وعيناه تنطق حزنا عميقا :
- لا يا والدي فلا مكان لي هنا لذلك أريد أن أغادر المنزل أرجوك ..
لوح بيده في الهواء وقال بضيق :
- وإلى أين تريد أن تذهب هااه اخبرني ..؟!!
قال رافع بهدوء :
- سأنتقل للعيش في إمبراطورية الصخور وسأتكفل بكل النفقات بما لدي من مال ..
زفر الهواء بقوة يخرجه وكأنه إعصار من صدره وقال :
- لن تفترق عن إخوتك وستبقى بيننا فهذا منزلك كما أخبرتك سابقا وأنا لست عاجز عن نفقاتكم وكل ما تريدونه فأنتم أبنائي اللذين لم أنجبهم حتى لو ناطحتم السبعين من العمر ..
هز رافع رأسه نافيا وقال :
- سأبدأ حياتي من جديد يا والدي أرجوك دعني أذهب وأحقق ما أريد ..
قال مروان مباشرة ولازالت نبرة الضيق تسيطر عليه :
- نعم هذا هو كلام الرجال هذا ما أريده أن تبدأ من جديد وتترك الماضي في الماضي ..
هز رأسه بخفة وقال بانكسار :
- سأبدؤها لكن ليس من هنا فهذا المكان لا انتمي إليه ..
رفع مروان رأسه عاليا مخللا أنامله في شعره يكاد يقتلعه من جذوره ، ما الذي يجب عليه فعله الآن فرافع يبدو مصرا على تركهم وهذا ما لن يسمح به أبدا ، قال بنبرة حاول جاهدا أن تكون هادئة :
- ستبدؤها من هنا إذا ما الفرق ، وأنت بين عائلتك أفضل ..
قال رافع بجمود حازم فهو سبق وفكر وقرر :
- قررت وانتهى يا والدي لكنني كنت أريد أن أعلمك بالأمر فأنا لن أنسى فضلك علي أبدا ويجب أن أبتعد كي لا تلتصق سمعتي السيئة بك أيضا وتخسر كل شيء ..
ابتسم بسخرية وقال :
- هكذا إذا تريد أن تبتعد عني بحجة السمعة ..
قال نافيا وبشدة :
- لم أقصد ما فهمته يا والدي فأنا أريد حمايتك مني ومن فشلي ولا أريد مجازاتك بما فعلته لي بأن أسيء لك يكفي الأموال التي أعطيتني إياها لأتاجر بها خسرتها كلها ولم أعد أستطيع حتى النظر في عينيك ..
ابتلع ريقه مع غصة أحرقت قلبه وقال بمرارة وعيناه برقت بدموع القهر :
- وثقت بي وخذلتك ، ساعدتني ووقفت بجانبي وجازيتك بالخذلان ، اخبرني بحق الله ما الذي أفعله بنفسي ، فأنا فاشل وفشلت ولن أجلب لكم إلا الفشل ، لذلك سأبتعد وأعيد ما دمرته الحياة بي وإن كنت كفؤا عدت وأعدت إليك كل ما فقدته بسببي وأكثر ، ولو كان بيدي أن أهديك عمري لأهديتك إياه عله يخفف عني قليلا ما أشعر به وأرد لك جميلك الذي لن أوفيه حقه طيلة حياتي ..
وتكسر صوته العميق كما تحطم قلبه وقال بألم :
- أرجوك يا والدي اتركني أذهب وأبتعد فلا شيء يساعدني هنا لا شيء ..
فأحس حينها مروان بصداع داهمه كاد يفتك بحياته ، يا شعور الخسارة ويا حسرة القلب، ما أشدها تلك الكلمات التي ألقاها عليه رافع دون رحمة هل كان كل هذا في قلبه !! سحقا لمن كان السبب سحقا ، نظر إليه بهدوء وهو يتلقف أنفاسه وقال ناظرا لعينيه بعتاب أبوي :
- ليس هذا كلام ابن لوالده يا رافع ، فأنا لم أعطيك المال بنية أن ترجعه لي ، ولم أربيك حتى أصبحت شابا لتجازيني على ذلك وترد الدين بالمال ، لم يكن المال يوما ضمن حساباتي ، لم أكن أريد إلا أن أُربي رجالا ينهضون سريعا بعد كل سقوط ، أقوياء لا يكسرهم شيء بل يكسرون هم كل شيء إذا وقف في طريق حلمهم ومستقبلهم ، لا تعنيني الأموال أبدا بل انتم يا من اعتبرتكم أبنائي تعنون لي ووجودكم قربي هذا كل ما أريده ..
هدأت تلك الكلمات الهادئة المليئة بالحنان الأبوي قلب رافع الذي نبض بشدة وانفعل لكنه قال في محاولة لا تبدو الأخيرة أبدا :
- أرجوك يا والدي دعني أغادر فلم أعد أطيق شيئا ..
قال مروان مباشرة:
- حتى نحن أهلك وعائلتك ..
هز رأسه نافيا وصمت فقال مروان ظنا منه بأنه استسلم وانصاع :
- إذا لن تغادر وافعل كل ما تريده إن أردت التجارة أو أردت شيئا غيرها فكل شيء مسموح لك ..
- لا أريد شيئا غير الابتعاد ..
قالها مباشرة وبهمس كسير فاشتعل غضب مروان وقال بحدة :
- راافع قلت افعل ما يحلو لك وأنا سأساعدك إن أردت وأنت لا تزال مصر على الذهاب ..
قال بإصرار ينظر لعينيه برجاء :
- نعم مصر وبقوة فدعني أرجوك ..
فصرخ به وقال :
- رافع ما الذي غيرك هكذا فأنت لم تكن تعارضني في أمر ما ..
صمت للحظة ثم أكمل بضيق يلوح بيده في الهواء ويكاد ينفجر غضبا :
- كله يسبب تلك الليلى سحقا لها من فتاة لقد غيرتك بالكامل ..
شحب وجهه واتسعت عيناه فذكر ذلك الاسم كفيل بإثارة كل خلية عصبية في جسده فقال رافع بحدة:
- ليست السبب فليلى ماض وانتهى بالنسبة لي ..
ضحك مروان بسخرية وقال :
- كاذب وهي السبب الرئيسي في رغبتك بالمغادرة ..
طرقات متتالية على الباب ، وصوت والدته ينادي ، وماض مرير موجع قلب والده صفحاته ، وضيقة ملأت صدره بالكامل ، وشعور بالاختناق قاتل ، وسواد أطبق على بصره ، هي ما جعلته ينسحب بسرعة ويغادر الغرفة مجتازا لوالدته القلقة ومجتازا لرامي ورنا اللذان دخلا للتو للمنزل ، ولم يشعر بنفسه إلا وهو يغلق الباب على نفسه ، فماضيه لا زال يخنقه ويطارده أينما كان ، وأهلا بالوحدة والسجن الذي تملأه الضيقة والخيبة والألم من جديد .






نهاية الفصل , قراءة ممتعة لكم أحبتي ..
بقلم محبتكم : روح الوسن ..

روح الوسن .. 29-04-20 08:42 AM

.. الفصل الواحد والثلاثون ..

.
.

[ شغف الماضي والحاضر ]

.
.

- مييييمييييي ..
صرخت بصوتها منادية لتخرج لها تلك الطفلة الصغيرة والتي تكاد تبلغ الخامسة من العمر من الحمام مسرعة تحاول ارتداء معطفها الأزرق الصغير لكن لا جدوى ، اقتربت منها هالة مبتسمة وقالت :
- ما هذا الاستحمام لقد تأخرنا ..
قالت وهي لا تزال تحاول أن تدخل يدها اليسرى والعالقة في كم المعطف :
- آسفة ماما ..
ابتسمت بحب لميمي وجلست أمامها وقالت :
- يا قلب ماما هيا دعيني أساعدك في ارتداء معطفك ..
ألبسته لها ونفضت فستانها الأصفر والذي تجاوز طوله ركبتيها بقليل ، نهضت وأمسكت بيدها وقالت :
- نتناول فطورنا ثم نخرج سويا فأنا عاهدت نفسي ألا أتركك مجددا في المنزل لوحدك ..
ابتسمت ميمي ابتسامة واسعة وقالت :
- حااااضر ..
دلفا إلى المطبخ الصغير وكانت قد أعدّت بيضتان وبعض الخبز والعصير فهذا كل ما تملكه حاليا وإن استمر الوضع معها هكذا سوف ينفد من عندهم حتى الماء ، تنهدت بأسى على حالها وأخذتها الأفكار بعيدا وبدأت التساؤلات المتشائمة تتقاذف في ذهنها ، ماذا لو نفد الطعام من عندهم ما الذي يمكنها فعله ؟! فميمي ومتطلباتها كطفلة تحتاج الاهتمام ماذا لو لم تستطع توفير كل ما تريده ؟! ما الذي ستفعله الآن في حياتها وكيف تعتمد على نفسها فهي كلما أرادت النهوض لوحدها وقعت بقوة وكم ألمتها تلك الضربات العنيفة التي تلقتها عندما تقع أرضا ، وماذا لو لم تستطع إيجاد ذلك التاجر الصغير الذي علقت آخر آمالها فيه ؟! هل ستستسلم وتنسحب ؟! لكن كيف تنسحب وميمي أمانة في عنقها يجب عليها أن ترعاها وتربيها جيدا فهي وصية شقيقتها الوحيدة
، لا لا يجب عليها الاستسلام الآن يجب أن تكثف جهودها في البحث عنه نعم فهو أملها الوحيد الذي قد ينتشلها مما هي فيه ومن الفقر الذي أصبح كابوسا مرعبا يطاردها ، تنقلت نظراتها في حركات ميمي وتقاسيم وجهها البريء وهي تأكل بشهية مفتوحة وكأن الطعام الذي أمامها طعام ملوك ، ابتسمت بخفة على تصرفاتها الطفولية وحالميتها الوردية الواسعة فهي لا تأكل البيض والخبز إلا بالملعقة والشوكة تظن نفسها ابنة أحد العائلات الغنية ، مدّت هالة يدها لتمسك يد ميمي الصغيرة وقالت لها مبتسمة :
- أيتها الأميرة الجميلة يجب عليكِ أن تمسكي بيدكِ اليمنى الشوكة أما اليد اليسرى السكين وليس الملعقة هيا هيا افعليها فأنتِ تستطيعين ..
فابتسمت بسعادة وأخذت تحاول جاهدة أن تمسك الشوكة والسكين بالطريقة الصحيحة وانتهى بها المطاف بفوضى عارمة مما جعل هالة في ضحك مستمر عليها إلى أن استسلمت ميمي وأكلت بيدها الصغيرة والممتلئة والدمعة تكاد تفارق عينيها في أي لحظة ، قرصت هالة خدها وقالت :
- هل ما زلتي جائعة ..؟!!
هزّت رأسها نفيا وقالت وهي تمضغ الخبز :
- ماما أنتِ لم تأكلي بعد هيا تناولي فطوركِ كي تصبحين أميرة جميلة وتتزوجين بالأمير الوسيم ..
فانفجرت هالة ضحكا على تفكيرها البسيط والمضحك وقالت بضحكة وهي تمسح الدموع التي غلبتها :
- إذا كان في القصة زواج فلن أتناول طعامي أبدا فأنا لا أريد الزواج أريد أن أبقى أنا وأنتِ وفقط ..
قالت ميمي بفضول أطفال :
- لكنكِ قلتي لي سابقا بأنكِ كنتِ متزوجة أين هو زوجك الآن هل ذهب للعمل أم ذهب حيث أمي وأبي ..؟!!
نظرت إليها بحزن وتنهدت بعمق ، قالت وهي تجمع الأطباق وبنبرة ساخرة :
- لا أعلم أين هو كل ما أعلمه بأنه يعيش حياته في سعادة بعيدا عني ..
قالت ميمي بتساؤل :
- ماذا هل أصبح أميرا وتركك ..
تنهدت هالة بعمق من هذا الحديث وقالت بأمر :
- ميمي لا وقت لدي لهذه الأسئلة فلدينا اليوم الكثير لننجزه هيا بسرعة اغسلي يديك واتبعيني ..
فنهضت منصاعة لها لا تريد إغضابها في حين أخذت هالة تغسل الصحون بغضب فذكر ذلك الزوج السابق يثير غضبها ولا تعلم هل هي غاضبة منه حقا أم غاضبة من نفسها أم من الأوضاع التي جمعتهم وفارقت بينهم ، تنهدت بعمق وغسلت وجهها بالمياه فهذا ليس وقت الحزن والنكد يجب عليها أن تكون في قمة نشاطها لتبحث لها عن عمل فهي من اليوم وصاعدا ستعمل في أي عمل لتجني المال ، كم اشتاقت لتلك الأيام التي كانت تخيط وتصمم وجموع السيدات يتوافدن إليها يطلبن منها أن تخيط لهن ثيابهن ، كانت تكاد تكون مشهورة على مستوى منطقتها ولكن وبعد موت شقيقتها كانت مرغمة على الزواج بحكم أن لا عائلة لها فتزوجت صديق لزوج شقيقتها وبعد زواجها تدمر كل شيء فالمدعو زوجها نهاها عن العمل ولم يكن لها أي خيار للرفض ، لقد استغل ضعفها بقوة ، وانتقلت معه مرغمة حيث عائلته ومنزله الكبير الواسع بحديقته الضخمة لكنها لم تكن تشعر بالسعادة مطلقا معه ، ولم تلبث إلا ثلاث سنوات ثم رماها في بيت والدها مطلقة وولى هاربا تاركا إياها لألسن الناس الأشد حدة من سيوف الحرب ، وبعدها بقليل تولت رعاية ميمي وهي ابنة العام الواحد فقط لتتحمل بعدها مسؤوليتها كاملة وتخوض أصعب تجربة لها في حياتها وهي كلام الناس وجرح مشاعرها والاعتناء بطفلة والنفقة والاعتماد على النفس في جني المال ، ضربت خديها بخفة لتطرد كل تلك الذكريات السوداء التي داهمتها في حين دخلت ميمي مبتسمة وقالت :
- أنا مستعدة ماما ..
ابتسمت لها وأمسكت بيدها وغادرتا المنزل سويا ، بحثت هالة كثيرا هنا وهناك عن عمل يمكنها القيام به لوقت طويل ولم يحالفها الحظ مما جعلها تصاب بالإحباط ، سارت تمسك ميمي بيدها وفي نيتها العودة للمنزل فميمي يبدو أنها تعبت وتريد النوم ، تنظر إلى خطواتها بشرود وتفكر بعمق هي حقا تحب أن تخيط الثياب وتصمم فساتين للسيدات وللفتيات بأشكال جميلة ورائعة وجذابة فهي تملك حسّا فنّيا لا مثيل له والسنين التي كانت تخيط فيها تشهد ، فخياطة الثياب وتصميمها وتنسيقها شغفها الماضي والحاضر الذي تعلّقت به منذ صغرها ، قطع أفكارها تلك
صوت صهيل حصان ذو رنة مميزة آتٍ من خلفها ، فانتفضت مجفلة بخوف وسحبت ميمي لتبتعد عن الطريق الذي للتو انتبهت بأنها كانت تسير عليه ، رفعت نظرها وإذا به حصان بلون القهوة الغامقة بشعر أسود حريري طويل تطايرت تلك الخصلات بسبب وقوفه السريع ويبدو أنه كاد يدهسها لولا سحب من كان يمتطيه للجام في آخر لحظة ، أطلقت آآآهه حملت معنى فرحة النجاة من الموت فهي كادت أن تموت لا محالة ، نظرت لميمي بجانبها لتتأكد أنها سليمة ولم تصاب بأي خدش وإذا بها تحدق في الحصان بدهشة سرعان ما تحولت لابتسامة واسعة في حين حررت يدها الصغيرة من قبضة هالة لتنطلق منادية بسعادة :
- وسااااام ..
فتبعتها بنظراتها المستغربة وقالت بصدمة بعد أن وقعت عيناها على صاحب الحصان والذي لا زال يمتطيه :
- أنت ..!!!
تنقلت نظرات وسام بينهما ببرود في حين أمسكت ميمي رجله تضمها بسعادة وتنظر إليه فوقها وهي تردد اسمه ، غضن جبينه مستنكرا تصرفها وقال بضيق :
- ابتعدي ..
ابتعدت منصاعة بسعادة وأخذت تلوح له ، نزل وسام بخفة وبقفزة واحدة ينظر لميمي التي مدت يدها نحوه لتصافحه ثم رفع نظراته بهالة المصدومة بالكامل ، مد يده مصافحا لميمي ، فتقدمت هالة منهم بخطوات خجلة وقالت بتوتر :
- مرحبا سيدي ، أنا حقا آسفة لأنني وقفت في طريقك
أنا حقا كنت شاردة ..
نظر إليهم ببرود وكم يتعجب لرؤيتهم مجددا فكم تبدو الحياة قصيرة والعالم بأكمله صغير ، همس ببرود :
- لا داعي ..
قالت ميمي بسعادة :
- ماما ماما هذا وسام دعيه يزورنا في المنزل أرجوكِ ..
قالت هالة بتهديد هامس :
- ميمي عيب عليك ما هذا الأسلوب قولي سيد وسـ...
وتنحنحت قليا فكادت أن تقول اسمه الذي للتو عرفته فشعرت بالخجل الشديد منه وظهر ذلك جليا في احمرار وجنتيها ، قال وسام ببرود ينظر إلى هالة :
- هل من مشكلة ..؟!!
كم تستغرب تصرفات هذا الرجل معها فتارة يبدو لطيفا جدا وتارة تراه مرعبا ومخيفا ، قالت بارتباك :
- لا .. لا شيء سيدي اطمئن كل شيء على ما يرام أشكرك على كل شيء ..
وسحبت ميمي معها مسرعة تشعر بالخوف تملكها من نظراته الباهتة والباردة ، توقفت فجأة وقد خطرت ببالها فكرة ، استدارت ببطء فإذا بوسام يمتطي حصانه ، قالت بتوتر :
- أ..أممم س..سيدي هل لي بسؤال من فضلك ..؟!!
أماء وسام برأسه إيجابا فقالت تتجنب النظر إلى عينيه التي تشعرها بالخوف :
- هل تعرف طريقا يوصلني للمدعو بالتاجر الصغير ..
ونظرت إلى عينيه وقالت برجاء :
- أرجوك ..
فابتسم متهكما يعلم بأنها تقصد شقيق رامي رافع والذي ذاع صيته في التجارة في فترة وجيزة ، قال ببرود :
- ما الذي تريدينه منه بالضبط ..
فاتسعت عيناها بدهشة فرده هذا يدل على أنه يعرفه كما أنه ليس كجميع من سألتهم يتجنبونها ويتجنبون الرد عليها ومنهم من نعته بالألفاظ السيئة والبذيئة ، قالت وعيناها البنية برقت ببريق السعادة تضم يديها أمام فمها :
- أرجوك سيدي هل تعرفه ؟! أنا كنت أبحث عنه منذ مدة طويلة فهو من أفضل التجار الذين كنت أتعامل معهم وكم أتمنى بأن أتعامل معه أيضا فمتجري الصغير تدمر وأريد إعادة إحيائه بأجود الأقمشة والتي لا يبيعها إلا هو ..
لم تغب الابتسامة المتهكمة من على شفتيه فهاهو وجد أخيرا شخص يقدر رافع وتجارته الرائعة ، قال وكأنه يتأكد من صدق كلامها :
- هل تعلمين ما الذي انتشر عنه ..؟!!
قالت بعبوس طفولي :
- نعم سمعت لكني لا أصدق بأنه تاجر غشاش يختلس أموال الناس ظلما فأنا سبق وجربت بضائعه وكانت من أجود البضائع وأحسنها ..
قال وهو يضرب برق برجله بخفة لكي يسير :
- إذا سأجلب لك بعض من بضائعه ..
وانطلق بعدها برق ليختفيا عن مرمى نظرها ، رمشت مرارا وتكرارا تحاول استيعاب ما جرى ولم تفهم حقا ما الذي كان يقصده ، هل يعني ذلك بأنه هو نفسه المدعو بالتاجر الصغير وسيجلب لها بعضا من بضائعه ؟! أم هو على معرفة بالتاجر الصغير ؟! هزت رأسها بعدم فهم فهذا السيد المدعو وسام غريب أطوار حقا وتستغرب من مساعدته لها دائما ، رفعت كتفيها بلا مبالاة فالمهم هو أنها أخيرا ستعود لحبها الحقيقي وشغفها وهو الخياطة وستفتح منزلها من جديد ليستقبل الزبائن لكن عليها أن تنتظر تلك البضائع التي سيحظرها لها وسام ، تنفست بعمق والسعادة تتسلل إلى أعماقها ، صرخت بفرح :
- نعم هكذا هي الحياة يوما لك ويوما عليك وعساه أن يأتي يومي قريبا ..
ضحكت بسعادة وحملت ميمي من فرط سعادتها وأخذت تلف وتدور بها متجاهله كل تلك النظرات المستغربة التي ترمقها باستغراب ، وعادتا إلى المنزل وسعادتها لا توصف ، كم تتمنى أن تُقبل رأس وسام شكرا له على ما يفعله لأجلها فهو دائما يخرج لها من العدم وهي في أشد حالاتها بؤسا ليؤنسها ويساعدها .

*****

بعد دخولهما القصر وجدا في استقبالهما والدتهم التي انطلقت نحوهما لتعانقهما معا بحب ، قالت بنبرة شديدة القلق :
- أين اختفيت يا بني وأين ذهبتي يا صغيرتي تتركانني هكذا اقلق عليكما ..
ابتسم طارق لوالدته الوحيدة التي تقلق بشأنهما وتعاملهما كما لو أنهما لازالا طفلان صغيران من حيث اهتمامها بهما والقلق عليهما في حين ارتمت زهرة في حضنها وقالت برقة :
- هذا بفضل ابنك يا أمي فهو إن غاب غبت أنا معه ..
فضحك طارق وقال يمازح والدته ويرمق زهرة بمكر يرفع يديه بجانب وجهه :
- إذا يا أمي أنا بريء منها إذا اختفت أو لحقها أي مكروه فأنا رجل أخرج وأدخل وأعتمد على نفسي ..
ضحكت السيدة ميادة وقطبت زهرة حاجبيها وهمست بغضب :
- انظري يا أمي هذا جزائي أني أحبه ..
قبلت ميادة رأسها ومدت يدها لتمسح بها على ذراع طارق بحنية وقالت :
- لا حُرمت منكما ..
ثم اتبعت قائلة :
- هيا فلتبدلا ثيابكما لأننا سنفطر سويا ..
فتوجهت إلى إحدى الغرف الكبيرة والمنتشرة هناك في حين غادر طارق قاصدا غرفته وبعد أن قطع الرواق الطويل مشيا توقف وقال يدعي الحنق في نبرته العميقة:
- إذا هل ستدخلين معي حتى في غرفتي ..!!
فضحكت برقة تمسك فمها بأناملها البيضاء الطويلة وقالت بنبرة رقيقة كرقتها تكتم ضحكتها :
- من اليوم وصاعدا يجب علي أن أتأكد من كل خطواتك ولا أتركك لوحدك يا كبير فأنا أخاف أن تضيع كما ضعت البارحة مني..
ضرب جبهته وقال بأسى بعد أن استدار ليقابلها :
- إذا أنا مراقب ولا مجال للتصرف كالبالغين يا صغيرة ..
ابتسمت وقالت بمشاكسة :
- افهمها كما يحلو لك ..
هز رأسه بقلة حيلة وقال مبتسما :
- هيا هيا بدّلي ثيابكِ فأنا لن أطير وأهرب منك لا تخافي
يا مراقبتي ..
لكنها هزّت رأسها نفيا وقالت تنظر إليه بتشكيك مبتسمة :
- يجب أن أتأكد من فضلك سمو الأمير طارق ..
فاقترب منها ومد أنامله نحو وجهها وقرص خدها بخفة وقال :
- ما أروعك يا شقية ..
فابتسمت بحب له وتبعته إلى أن تأكدت من أنه دخل غرفته وتنهدت حينها براحة ، فلا حياة لها إن ابتعد عنها فهو جزء من روحها انشطرت في جسد آخر إن غاب غابت معه سعادتها ..
اجتمعت العائلة على طاولة الطعام الكبيرة ولم يتبقى إلا شخص واحد لم يحضر حتى الآن وعندما أرادت السيدة ميادة النهوض لتنظر ما به إذا به يدخل من الباب الكبير الذي فتح على مصراعيه ، تنقلت نظراتهم جميعا نحوه فإذا به مُكّفَهر الوجه عابس وملامحه لا تبشر بالخير ، بادرت السيدة ميادة بابتسامة نابعة من أعماقها وقالت تنظر للذي جلس بجانبها ولم يلقي عليهم حتى التحية :
- صباح الخير يا عامر أراك متعبا اليوم هل تشكو من شيء ..؟!!
نظر لها ولعينيها المحبة زوجته التي لطالما صبرت عليه وعلى تقلب مزاجه المستمر ولم تشكو يوما أو تتذمر فهو يعرفها جيدا كل ما يعنيها بأن يكونوا معا دائما مثلها مثل ابنته التي أخذت رقة قلب والدتها تحزن لحزنهم وتسعد لسعادتهم ولا يعنيها أن تسعد لوحدها أبدا ، نقل نظره إلى زهرة التي كانت مبتسمة توزع نظراتها بهم ، مرة ترمق طارق الذي يجلس بجانبها وكأنها تتأكد من وجوده بجانبها ، ومرة ترمق والديها بسعادة مفرطة ، وتذكّر كم ظلمها في قراراته التي ألقاها عليهم كقوانين للعائلة الحاكمة بأن فرضها على حسام بالإكراه ، في حين يجلس طارق بكل هدوء واحترام بجانبها ومقابل لوالده تماما ولا يظهر على وجهه أي تعبير يتجنب النظر في كل منهم حوله ، مر سريعا في ذهنه الحوار والمشادة الكلامية التي حدثت البارحة معه فتنهد بعمق ، عاد بنظره للتي لا تزال تنتظر جوابه تنظر إليه بحب وقلق وتوجس فقال لها ببرود :
- صباح النور ، لا .. لا أشكو من شيء أشكرك ..
تنهدت براحة وأخذت تدعوا له بالصحة والعافية كما تفعل دائما ويبدو أنها صدّقت كلامه ، بدأوا بتناول فطورهم بصمت سيطر عليهم وفقدوا المرح والمزاح الذي كانوا دائما ما يفتعلونه وهم يتناولون طعامهم معا فمرة يتحدثون عن مشكلة مرت بهم ومرة يمدحون ويثنون على صنف من الأصناف أمامهم أو شخص ما ومرة يخططون لما سيفعلونه في الوقت المخصص لهم كعائلة أما الآن فلا تسمع إلا أصوات الجوامد كالملاعق والشوك والكؤوس الزجاجية عند اصطدامها بالطاولة الخشبية تتحدث معا لتكسر السكون ، قطع الصمت المسيطر عليهم عامر عندما قال بجمود ينظر لطبقه أمامه :
- طارق وافني في المكتب بعد الفطور ..
فارتسمت الدهشة على ملامح طارق ينظر إليه ، ما الذي قد يريده منه والده ؟! وهو الذي أصبح دائما ما يعتمد على نفسه سواء في التخطيط أو التنفيذ وهو أصبح مهمّشا لا دور له ، هل يعقل بأنه علم بخروجه البارحة من القصر ؟! وهل عرف علاقته يا ترى بوسام ؟! وسيطلب الابتعاد عنه ، قال بعد صمت وباحترام شديد لم يخلو من التوجس :
- حاضر ..
نهض عامر وتبعه طارق في عجل ولا يعلم لماذا لكنه كان يجهّز نفسه لسماع مصيبة ما أو خبر مفجع ولم يخب ظنه أبدا حين قال والده بعد أن دلفا إلى المكتب واستوى جالسا على مكتبه :
- لقد طلبت باستدعاء أباطرة الإمبراطوريات كلهم ..
فألجمته الصدمة مما سمع ولم يترك له والده أي مجال لتلقي الصدمة والخروج منها فأتبع قائلا :
- لكن إمبراطور إمبراطورية الجليد ، الإمبراطور أدهم لم يوافق ويلبي النداء لذلك الإمبراطور جاسم والإمبراطور صخر سيصلان إلى إمبراطوريتنا وإلى القصر قريبا فعليك بالتجهيز لاستقبالهم ..
قال طارق بتساؤل والصدمة والدهشة مرسومة في ملامحه :
- لكن لماذا استدعيتهم هل هناك خطب ما ..؟!!
نظر إليه بحدة وكأن سؤاله لم يرق له وقال بجمود :
- يجب أن نتعاون ونتكاتف نحن الثلاث إمبراطوريات إن استثنينا إمبراطورية الجليد لكي نجد حلا لكل المشاكل الشائكة ونتفادى جميع المخاطر ..
قال طارق بعدم تصديق :
- لكن يا أبي.....
وقطع كلامه عندما قال عامر بحدة :
- لقد قلت لك بأنني استدعيتهم وانتهى الأمر فكن مستعدا لاستقبالهم ..
تنفس طارق بعمق ليعيد الهدوء إلى نفسه ولا يفقد السيطرة على أعصابه فوالده لازال يهمّشه في كل شيء في حياته ويبعده أكثر في كل مرة عنه ، قال عامر بجمود :
- وعلى حسام أن يكون هنا أيضا فهو من سيخلفني ورغما عنه ..
ها قد عدنا لنقطة البداية وإلى الألم الدفين وهاهو حسام يخرج له من العدم في كل مرة ويفضلونه عليه ، قال طارق بنبرته المخملية الهادئة ينظر مباشرة في عيني والده :
- لقد تحدثت معه سيدي وبذلت جهدي كله في إقناعه لكنه أصرّ على عدم الموافقة حتى أنه قال بصريح العبارة بأنه لا يريد شيئا وأنّ قدماه لن تعتب باب القصر مجددا ومهما كلفه الأمر ..
فصرخ حينها عامر به قائلا :
- ما الذي يفكر به ذلك الأحمق ، من إذا سيخلفني إن كان لا يريد وهو ابن شقيقي الوحيد عادل والأحق من الكل في تولي هذا المنصب ، كيف سأخرج للأباطرة عندما يأتون سحقا سحقا ..
أغمض طارق عينيه بألم فهاهو والده لا يراه أبدا أمامه ، يشك بعض الأحيان أو بالأصح كل الأحيان أنه شخص غير مرئي ولا يراه أبدا ، ويشك أيضا بأن والده لا يعتبره إلا متنفسا لغضبه كلما غضب من أحدهم صرخ به يفرغ كل غضبه منهم به ، فتح حينها طارق عينيه وأول ما جال في خاطرة كان وسام فابتسم بخفة فحتى لو لم يكن وسام بقربه جسديا فهو بقربه معنويا وحسيا أيضا ، قال طارق ببرود مميت لم يعهده في نفسه :
- لا داعي لكل هذا الانفعال يا سيدي فالإمبراطور جاسم لم يتخذ من يخلفه إلى الآن أما الإمبراطور صخر فأبنه الوحيد اختفى منذ سنوات ولا أحد يعلم إن كان ميتا أو حيا لذلك كلكم سواء ..
وانحنى سريعا له باحترام شديد ولم يترك له الفرصة بالصراخ به والتعليق على كلامه حين قال باحترام شديد قبل أن يغادر بخطوات ثابتة سريعة :
- سيكون كل شيء جاهز كما طلبت وإن أردت أي شيء فأنا في الخدمة سيدي ..
وفقط هكذا يجب عليه أن يعامل والده باحترام شديد وألا يرفض له طلبا أبدا ومهما كان ، ويحاول قدر الإمكان تجنب المشاكل بشتى الطرق كي لا تكبر الفجوة بينهما فهي كبيرة بما فيه الكفاية ، أما عن قرارات والده فيجب عليه الآن الذهاب لمكتبه الخاص ودراسة كل إبعادها ومخاطرها عليهم ويحاول بأن يضع الفرضيات ويرسم الخطط ويشتغل من اليوم وصاعدا لوحده ومع نفسه فذلك أفضل بكثير من وضعه الحالي ولا ييأس أبدا ويظن بأنه ابن فاشل فهناك من يقدره ويقدر مهاراته العقلية في التفكير والتحليل والتخطيط ، وكم هو شاكر وممتن الآن لوسام الذي أعاد ثقته بنفسه من جديد .









نهاية الفصل , قراءة ممتعة لكم أحبتي ..
بقلم محبتكم : روح الوسن ..

روح الوسن .. 29-04-20 08:45 AM


.. الفصل الثاني والثلاثون ..

.
.

[ من بقايا الماضي ]
.
.

عاصفة هوجاء حلّت بهم في الصباح الباكر وبعد دخولهما معا هي ورامي بعد أن اسقيا الأعشاب الخضراء وما تزرعه هي من زهور تحبها ، لم تفهم شيئا مما يجري إلا أن هناك مصيبة أخرى قد حلت بهم ، بقيت مكانها مندهشة بينما الذي كان يقف بجانبها هبَّ مسرعا لمكتب والدهم ليرى سبب كل ذلك الصراخ ، تنقلت نظراتها المتوجسة بين والدتها القلقة التي أسرعت الخطى نحو المكتب أيضا و الرواق الطويل الذي قطعه رافع في سرعة البرق ، وعلمت بأن الموضوع يخص رافع الذي لم يصدّقوا أنفسهم وهو يخرج لهم من جديد ليشاركهم على الأقل وجبات الطعام وبعض الأحاديث المتفرقة ، تنهدت بعجز فهي لم تقوى على الحراك ، لا هي تبعت رامي ووالدتها ولا هي ذهبت حيث رافع ، سمعت صراخ والدها يتعالى مجددا ولم تلتقط أذناها من ذلك الصراخ إلا كلمة رافع .. ومغادرة .. وليلى ، ففتحت عيناها على اتساعها بصدمة من ذكر ذلك الاسم مجددا ، الاسم الذي يخص زوجة رافع سابقا وطليقته حاليا ، اسم لطالما كرهته فمن بعدها تغير شقيقها وأصبح شخصا بالكاد تعرفه ، وكأنها دخلت حياته تلك الليلى لتسلبها منه وتغادر بكل دم بارد ، فوضى عارمة هزت أركان شقيقها من كل النواحي ، كانت ثلاث سنوات ارتبط بها وكانت لا تسعها الفرحة برؤية شقيقها سعيدا ومستقر ليعود إليهم بعد تلك السنوات شخص ميت جسد لا روح فيه ، سلبته كل أمواله في حين غفلة منه وليتها توقفت هنا بل شوهت له سمعته في السوق وغشّت كل بضائعه ليصدم من كبار التجار وبعض من اللذين يدعون كونهم الأمن في الإمبراطورية بإمساكه وجره حيث أكبر أحد الحكماء ليقيموا عليه العقوبة التي يفرضها عليه ، لولا تدخل والدهم في الأمر في آخر لحظة لما نجا من السجن لا محالة ، وبالرغم من معرفتها بكل تلك الأمور إلا أنَّ ما خفي أعظم فطبيعة شقيقها رافع كتوم ولا يعبّر بما يشعر به غالبا لكنها متأكدة من أنه حدث الكثير بينهما لدرجة انتهى به الأمر أن طلقها وتركها تذهب في حال سبيلها وهي التي سعى كل جهده ليحصل عليها فقط وكان مستعد بأن يعطيها أيام من عمره لو طلبت ذلك .. تنقلت نظراتها المتوجسة إلى والدتها التي خرجت من عند والدها ودموعها تسبق خطواتها متوجهة نحو الرواق والذي يضم غرفة رافع في أخرها ، بينما تكفل رامي بتهدئة والدهم والذي بشكل ما يبدو بأنه نجح ، بينما والدتها عادت تجر خطاها متوجهة إلى المطبخ تمسح دموعها والتي كان الفشل الذريع في محاولة التفاهم مع رافع وإخراجه من سجنه الذي يبدو بأنه لن يتركه مجددا من نصيبها ، دخلت المطبخ وبدأت تسمع أصوات الصحون تصطدم في بعضها البعض وعلمت بأن والدتها ترتعش أطرافها من بكائها ، كم تمنت بأن تقوم بمساعدتها وتطبطب على جرحها قليلا وتحاول أن تواسيها وتؤنسها بروحها المرحة التي عُرفت بها إلا أن التصلب المفاجئ الذي أصاب كل مفاصلها لم يسمح لها بذلك ، ففتحت الباب الذي لم يبعد عنها إلا مسافة بضع خطوات ، لتجد نفسها خارج المنزل الممتلئ بالشحنات السالبة وهالة سوداء حزينة وكئيبة سيطرت عليه ، خارت قواها وافترشت الأرض مستلقية على العشب والحزن قد نال منها ، تساقطت خصلات شعرها الأشقر حولها معلنة استسلامها ، قالت بخفوت والدموع أبت أن تنزلق على وجنتيها بل تكدست في عينيها وتجمدت لتبرق تلك العينان العشبية ببريق الحزن والعجز :
- كم أتمنى أن تحصل معجزة لتغير ما حل بنا منذ الصباح ..
ولم تكمل جملتها إلا وظل أسود حجب أشعة الشمس المتسللة من بين خصلاتها التي غطت وجهها وعيناها لتفتحهما بسرعة والخوف دبَّ في قلبها دفعة واحدة ، لتجلس بسرعة تنظر برعب لمن أصبح واقفا أمامها مباشرة والسبب في حجب ضوء الشمس عنها ، لم تكن ملامحه ظاهرة لها في بداية الأمر لكن قلبها نبض بشدة ليحثها على الوقوف بسرعة مبتعدة عنه ، فقفزت لتنتصب واقفة أمامه حينها اتسعت عيناها بصدمة لم تخفيها أبدا ، نطق ذلك الذي كان وجوده هنا أشبه بمعجزة هبطت من السماء وكأن أمنيتها تحققت ، فقال بهمس بارد حاول أن يكون مهذبا قدر الإمكان رغم نظرات اللامبالاة التي كان يرمقها بها :
- آسف إن أخفتك ..
وكأنها تحولت إلى أحد الجمادات المنتشرة حولها حتى تنفسها توقف فجأة من الصدمة الممزوجة بالدهشة ، نقل نظراته خلفها وقال ببرود أشد بعد أن طال صمتها وتحديقها المصدوم به :
- هل رامي موجود ..؟!!
ولا أي رد مما جعل عيني وسام تعود لترمقها ببرود ، ابتلعت ريقها من نظراته التي أصابتها في مقتل وقالت بنبرة هامسة لم تعرفها في صوتها سابقا ترفع رأسها لتنظر إلى وجهه فهي بالكاد يبلغ طولها نصفه :
- أ..أجل ..موجود ..
ولم تتحرك بل أخذت أناملها ترتفع لتبعد الخصلات المتمردة على وجنتيها وجبهتها وكأنها تريد التأكد من الذي يقف أمامها حقيقة هو أم وهم ، تنهد بخفة منها ولا يعلم ماذا بها ولماذا تحولت إلى جماد فجأة ، قال ببروده المعتاد ولا مبالاته ينظر خلفها حيث باب المنزل :
- إذا هل تنادينه لي أم ادخل ..؟!!
وكانت هذه الكلمات الشيء الذي ذكّرها بمدى غبائها وبلاهتها ، واقفة تطيل النظر فيه وكأنها لم ترى بشريا من قبل ، بل هو صحيح فهي لم ترى أحدا بكل تلك الوسامة المشبعة بها تفاصيله وكل تقاسيم وجهه من قبل ، احمرت وجنتيها خجلا وركضت مسرعة لتدخل إلى المنزل تعظ شفتيها بإحراج شديد من تصرفها الأحمق معه ، توجهت مباشرة نحو مكتب والدها ولم تجد إلا رامي يجلس على الأريكة ينظر إلى الأسفل ، ولم تتمكن من رؤية ملامحه بسبب انحنائه ، قالت بتوتر تتلقف أنفاسها التي أفلتت منها :
- رامي رامي ..
ألتفت إليها مغضنا جبينه باستغراب وقال :
- ماذا يا رنا ماذا بك ..؟!!
قالت كلماتها بسرعة تنظر إلى خارج المكتب :
- صديقك يريدك في الخارج بسرعة بسرعة ..
نهض متوجها نحوها وقال بتساؤل :
- من تقصدين ..؟!!
قالت مباشرة :
- وسام ..
قال بدهشة ارتسمت على تقاسيم وجهه :
- وسام ..!!!
ركض مسرعا مجتازا لها فوجود وسام هنا يعني أمرا خطيرا قد حدث أو هذا الذي صوره له عقله المضطرب من أثر ما حدث قبل قليل ، خرج من الباب ليرى وسام يعطيه ظهره مستندا على السور الحديدي الذي يحف المنزل من جميع الجهات ، تقدم نحوه بخطى مترددة في حين التفت وسام نحوه بكل برود وقال قاطعا أي مجال للتساؤل والاستفسار والتبرير لرامي بسبب وجوده هنا لأن ذلك ظهر جليا على ملامحه المتوترة فقال ببروده المعتاد :
- آسف على إزعاجك في الصباح لكني أردت أن أتحدث مع رافع إن أمكن..
تنهد حينها رامي مرة واثنتين وثلاث بدرجات متفاوتة فالأولى كانت تنهيدة راحة لأنه ولوهلة ظن بأن مكروها حصل لوسام والتنهيدة الثانية كانت متضجرة من طبع وسام البارد والمتعجرف فحتى أساليب اللباقة من الترحيب لم يعطه فرصة لقولها أما الثالثة فكانت تنهيدة ملؤها الأسى و الحزن على الحال الذي هم فيه الآن والذي لا يعلمه والسبب الأساسي هو ذلك الرافع الذي يريد محادثته ، قال بضيق بعد أن كتف ذراعيه وأشاح بوجهه :
- رافع يسجن نفسه في غرفته كعادته فاذهب من حيث أتيت إن كان هذا ما جاء بك ..
تنقلت نظرات وسام الباردة في ملامح رامي والتي يشيح اغلبها عنه وقرأ مدى الغضب فيها فقال ببرود :
- اخبره أنه أمر ضروري ..
نظر رامي إليه بحدة وقال بنفاذ صبر يلوح بيده في الهواء :
- ذلك الرافع الأحمق والأبله لا ينصت إلا لكلام نفسه ولوساوسه السوداء ضعيف ومهزوز ومنكسر لم يعد يعيش على هذه الأرض إلا جسده البالي فقلي بحق الله كيف أقنعه بأنه أمر ضروري وهو لم يعد يعرف الصواب من الخطأ ليعرف الضروري من غيره ..
وصمت يتلقف أنفاسه الغاضبة وأخذ يمرر أنامله في خصلات شعره الأشقر يكاد يجن بعد الذي سمعه من والده وأن رافع يفكر جدّيا بالرحيل وعدم العودة إليهم ليفني ما تبقى له من عمر وحيدا ، قال وسام بلا مبالاة وكأنه لا يهمه أي مما قاله له رامي ولا لانفعاله الذي يدل على كبته لمشاعره المحترقة داخله :
- أخبره بأنني أنا شخصيا أريده بسرعة فلدي الكثير لأقوم به ..
زفر رامي الهواء كالإعصار ينفثه بقوة فوسام المتعجرف المتحجر عديم الإحساس يريد أن يفقده ما تبقى لديه من عقل وصبر ببروده المميت هذا وأسلوبه النزق في إلقاء الأوامر ، نفض قميصه الذي كان يرتديه واستدار ليدخل إلى الداخل لكنه توقف فجأة ونظر إلى وسام الذي كان بدوره ينظر إليه ببرود بسبب توقفه المفاجئ ، قال رامي بعد تردد :
- وسام إن وافق رافع وخرج لك فأقنعه بالعدول عن فكرته المجنونة التي هو مصر عليها أرجوك فهو لن يرفض لك طلبا..
وغادر سريعا تاركا وسام الذي يفترض بأنه تشتت مما قد قاله له رامي لكنه لم يعر ذلك أي اهتمام فهو قادم لأجل شيء واحد وفي نيته أن يفعله مهما كلفه الأمر وهو عودة رافع إلى التجارة عشقه السابق وشغفه ولكن ليس بطريقة عائلته التي يراها لا تجدي نفعا أبدا بل على طريقته الخاصة فهو يعد رافع كصديق له مثله مثل رامي وطارق ويجب عليه مساعدته في أزمته الحالية ، انتظر عدة دقائق لم تكن بالقليلة أبدا وظن بأن رامي فشل في مهمته ، وإذا برافع يخرج له من باب المنزل ، مظلم الوجه وشاحب البشرة يسير بخطى واهنة وكأن هموم الدنيا كلها اجتمعت عليه دفعه واحدة مطأطأ الرأس لا يكاد يرى إلا خطواته الواهنة وكم بدا بأنه يجبر نفسه على الخروج فوسام لم يزرهم من مده طويلة وأن يأتي بنفسه ليراه وحده شيء لم يستطع تجاهله فهو لا زال يملك من رافع القديم الكثير من الأخلاق الفاضلة ، وقف أمامه وقال بهمس أجبر نفسه عليه وهو يمد يده ليصافحه :
- أهلا بك يا وسام ..
صافحه وسام ولم يرد عليه فقال رافع بعد أن سحب يده وبنبرة مرتعشة :
- تفضل بالدخول ولا....
قاطعة وسام بإطلاقه صوت يدل على عدم الموافقة فقال رافع بثبات رغم نبرة الانكسار فيها وبعد أن طال الصمت بينهما وهو يخشى النظر إلى عيني وسام :
- إن كنت هنا لتقنعني بأن أتراجع عن قـ....
قطع جملته بدهشة اعتلت ملامحه عندما ارتفعت يد وسام لتستقر على كتفه ، قال وسام ببرود ينظر إلى عينيه مباشرة :
- لا يعنيني أي شيء مما قد قررته وتريد فعله ولست هنا لما يصوره لك دماغك فأنا لم أفهم مما قلت شيئا من الأساس ..
حينها تنقلت عيني رافع الخضراء الصافية كلون العشب والخضرة حولهم في تقاسيم وجه وسام ، فإذا لم يكن وسام هنا لأجل طلب من والده أو رامي له بأن يقنعه بأن لا يترك المنزل والإمبراطورية بأكملها فلماذا هو هنا ؟! وما الذي يريده منه بالضبط ؟! فبالتأكيد أنها ليست مجرد زيارة وسؤال عن الحال فوسام لم يفعلها سابقا ليفعلها الآن ، قال وسام بعد أن سحب يده وأعاد سجنها في جيب معطفه :
- أتذكر بأنه لا يزال لديك بعضا من بضائعك السابقة ، صحيح ..!!
اتسعت عيني رافع بصدمة وأماء برأسه إيجابا ولم يفهم ما الذي يحاول وسام الوصول إليه ، ابتسم متهكما وقال ببرود :
- إذا هل تمانع إذا اشتريتها منك وأعطيتني إياها ..
ثم رمقه بمكر وقال ساخرا :
- إلا إذا كنت تريد أن تحتفظ بتلك البقايا البالية بالطبع ..
هز رأسه نافيا والصدمة قد ألجمته ولم يعرف ما سبب طلب وسام هذا وما الذي قد يريده منها بالضبط ولما هذا الأسلوب المتهكم ، غادر سريعا بعد أن قال له وسام بنفس البرود والابتسامة الساخرة :
- إذا سوف تتحرر من خناقها لك أخيرا ..
وما هي إلا دقائق وكانت عربة مجهزة بالكامل بكل ما تبقى من بضائعه السابقة والتي اختارها بنفسه وبأغلى الأسعار وأجود الخامات، قال رافع وابتسامة صغيرة ارتسمت على محياه وقد شع وجهه وكأن الحياة قد عادت له :
- لا اعلم ما الذي يتوجب علي قوله لك يا وسام فلقد خلصتني من أكبر مسببات تعاستي وخيبتي من نفسي ..
قال وسام :
- إذا سأدفع لك ثمنها فيما بعد أم لك رأي أخر ..
وأي رأي يملك فهو أخيرا تخلص من بقايا الماضي المرعب والكئيب بالنسبة له فما تبقى له من تجارته السابقة كان وكأنه جبل ضخم يقبع داخل صدره وبعد أن اشتراها وسام منه شعر بلذة التحرر من الماضي وأنه يستطيع فعلها ويعيد كتابه قصة حياته من جديد ولوحده ودون تدخل أيا كان ، قال مندفعا :
- خذها فأنا لا أريد المال أساسا..
نظر إليه وسام ببرود وقال بكل بساطة :
- إذا لا اتفاق بيننا ..
علت الدهشة ملامح رافع مرة أخرى فكم يجيد وسام ذلك وكم يجيد اللعب بالأعصاب ، ونسي لوهلة بأن ذلك يعد إهانة له بأنه يعطيه شيء ولا يأخذ أي مقابل عليه فوسام ومهما كانت طباعه متعجرفة بعض الشيء وخالية من الإنسانية إلا أنه يبقى رجل وله كبرياء شامخ ينافس فيه شموخ الجبال ، قال مبررا لنفسه :
- لا لم أقصد ذلك أنا حقا آسف لكن ادفع لي ثمنها متى شئت وكيفما شئت ..
ابتسم وسام واستدار يرفع يده ملوحا له ومودعا إياه وقال قبل أن يختفي عن أنظاره وبابتسامة متهكمة ونبرة لم يفهم معناها :
- سأعيدها لك بطريقة تعجبك ، أنا أعدك ..
لم يفهم كلماته ولا تصرفاته الغريبة فهذا وسام من المستحيل أن يفهمه أي شخص مهما كان قريبا منه وليس متأكدا مما فعله هل هو صحيح أم أنه تسرع قليلا لكنه متأكد من أنه لم يغادر سجنه عبثا وأن وسام سيساعده على الخروج ويقف معه في تحقيق رغبته وليس كما ظن سابقا بأنه سيقف مع عائلته وضده ، ولكن كما يبدو بأنها مسألة وقت ليس إلا .

*****

ابتسمت بخفة وهي تضيف ملعقة صغيرة من السكر إلى كوب قهوتها لتمزجهما معا كما امتزجت ضحكتها الرقيقة بسعادتها ، تجلس أمام النافذة مكانها المفضل والمطلة على العشب الأخضر والأشجار الكثيفة ، أكثر شيء ميّز الإمبراطورية الخضراء هي وفرة العشب وكثرته حولهم مع وجود كل تلك الأشجار الضخام والتي تزين الإمبراطورية بأكملها ، منظر يبث في النفس الراحة والطمأنينة ، ارتشفت القليل من القهوة وتذكرت شكل والدها وهو يجلس أمامها في العربة بعد أن أصرَّ على أن يرافقها إلى العيادة ، يغمض عين ويفتح الأخرى ، وفمه لم يُغلق طيلة الطريق في تثاؤب مستمر وكم بدا مرهقا ومتعب ، ضحكت وقالت بمشاكسة :
- تستحق هذا يا أبي لكي لا تتركني لوحدي في العيادة مرة أخرى..
وأكملت ضحكاتها الخافتة تجلس بهدوء تراقب الخضرة والطبيعة من نافذتها ، لتداهمها ذكرى أخرى وهي وجود وسام بالأمس معهم وكيف أصر على مساعدتهم حتى في نقل الأطباق للمطبخ ولو لم يكن هنالك خادمات لكانت متأكدة من أنه سيقوم بغسل الصحون معهم ، رجل يعتمد على نفسه في كل شيء كما يعرف كل شيء ، ويتحلى بكثير من الصفات الرائعة كما وسامته التي فاقت المعقول ، لا يتذمر لا يشتكي لا يأمر وينهى وليس بالمغرور المتكبر أبدا الذي يفرض قوته ورجولته المزعومة على من هم أضعف منه ، ولو أبعدنا هالة البرود والهدوء الذي يصل بعض الأحيان لصمت الأموات والنظرة القاتلة لكان رجالا تتمناه كل أنثى على وجه هذه الأرض ، تذكرت كيف أصر على أن تخلد للنوم لكي تستيقظ باكرا بنشاط وعندما رفضت ذلك بحجة أنها لا تشعر بالنعاس أبدا وأصرت على أن تؤنس والدتها ولا تتركها لوحدها نهض وادعى أنه لديه أعمال يجب أن ينهيها ، وسام لم يتغير أبدا بالرغم كل البرود والغموض الذي يغلف نفسه به إلا أنه يبقى وسام الفتى الذي عرفته من سنين طويلة ، طيب القلب محب للخير لا يترك أحدا يحتاج مساعدة ولا يساعده ..
نظرت بسرعة نحو الباب إذ أنها سمعت حركة وتبدو لشخص ما لتجده حسام يقف مكتفا ذراعيه يستند بكتفه على حافة الباب ويبدو بأنه كان يراقبها من وقت ، قالت بدهشة :
- حسام ..!!
ابتسم نصف ابتسامة ودخل بخطى ثابتة ، سحب الكرسي الآخر والمقابل لها وقال بسخرية يرمقها بنظراته :
- نعم حسام أم نسيتني ..!!
ضحكت بخفوت وقالت ببراءة تصدر من أعماق قلبها الأبيض :
- كلها يوم غبت عن العيادة فكيف أنساك ..!!
فاتسعت ابتسامته من كلماتها وجمد عند أعتاب ضحكتها يتأملها بصمت ، ارتبكت مايا من تلك النظرة التي لم تفهمها وقالت بقليل من الارتباك :
- أممم صحيح نسيت أن أقول أهلا بعودتك ..
ولم تتلقى أي رد منه وكأنه انفصل عن العالم أجمع ، كل شيء ساكن فيه حتى نظراته التي لم يبعدها عنها ، نهضت ولا تعلم لما نهضت لكن ارتباكها فاق المعقول مما جعل حسام ينتبه لنفسه ويتدارك غبائه فقد أطلق العنان لعيناه لتكسر الحدود وهذا كله من تأثير الاجتماع الكارثي ، فأول ما رآها تبتسم وتضحك تحتسي من كوب قهوتها تذكر فورا إجبار عمه بتزويجه من ابنته زهرة باعتبارها خطيبته حسب نظام العائلة ، والتي يكاد لا يطيق رؤيتها في أي أرض بالرغم من أنها لم تفعل له شيء ولم تكن بينهم أي مواقف لكنه وبحكم كرهه لعائلته كرها جما كرهها معهم بدون سبب فكونها واحدة منهم يعتبر بالنسبة له أقوى سبب يبرر له كرهه الشديد لها ، وكم خشي حينها بأنه سيفقد قمره التي تجلس أمامه الآن ويفقد سعادته المتكونة في أمرين فقط الطب ومايا ، قال بعد أن أشاح بوجهه جهة النافذة يكبح نفسه من التمرد أكثر :
- هلا حضرتي لي القهوة من فضلك ..
نظرت إليه بدهشة ، هل يعقل بأنه كان مترددا من طلبه البسيط هذا ولم يعرف كيف يطلبه منها !! أم أنه خشي أن ترفض مثلا !! ، تفكيرها البسيط وبراءتها المفرطة هي ما جعلتها تفكر هكذا وتعتقد بشيء لا وجود له في الأصل فحتى الأعمى كان سيقرأ في نظراته كميه هائلة من الحب لها والإعجاب بها ، ابتسمت ابتسامة جميلة كجمال روحها وقالت :
- بالطبع سأحضّرها لك الآن وحالا ..
غادرت مسرعة وعادت نظراته لتتبعها ، حضّرت كوب قهوة له سريعا وعادت ، وضعت الكوب أمامه فوق الطاولة الدائرية التي تفصل بينهما وقالت تنظر إليه :
- ما أخبار عائلتك ولماذا غبت طيلة البارحة ظننتك ستعود باكرا ..
اتكأ بمرفقه على الطاولة وقال ينظر إليها بمكر :
- ماذا هل اشتقتِ لي ..
اتسعت عيناها بدهشة ورمشت عدة مرّات فعقلها لم يستوعب الإجابة هذه فضحك عاليا على ملامحها المندهشة والفاتنة وقال :
- امزح امزح ..
مرر أنامله في شعره الأسود وقال ببرود :
- سؤالك الأول لن أجيب عليه أما الثاني فبسبب السؤال الأول طبعا ..
أماءت رأسها إيجابا فهي تعلم بأن حسام لن يجيب فهو يبغض عائلته جدا بالرغم من كونه في الأصل أمير وعمه الإمبراطور عامر إلا أنه يبدو بأنه ليس من النوع الذي يحب التفاخر بالأنساب والأحساب ويستخدمهما لقضاء حوائجه ، قالت بابتسامة مبددة الحالة الكئيبة التي سيطرت على حسام من ذكرها لعائلته :
- إذا دعنا نراجع بعض ملفات مرضانا وندرسها من جديد فيجب علينا طلب الأدوية المناسبة لهم قبل نفادها فلدينا اليوم الكثير من الأعمال لننجزها ..
ابتسم بدوره لها وقال يحتسي قهوته بتلذذ :
- نعم هذا الذي أريده الآن حقا ، تعديل المزاج ..
ورمقها بمكر وهو ينطق أخر جملته لكنه وكالعادة لم يتلقى منها إلا ابتسامة لطيفة تهديها للكل وكم يبغض ذلك فهي ستكون له ورغما عن الجميع ورغما عنها هي أيضا إن رفضت ذلك .














نهاية الفصل , قراءة ممتعة لكم أحبتي ..
بقلم محبتكم : روح الوسن ..




الساعة الآن 04:35 AM

Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.