آخر 10 مشاركات
جدران دافئة (2) .. سلسلة مشاعر صادقة (الكاتـب : كلبهار - )           »          كلوب العتمةأم قنديل الليل ؟! (الكاتـب : اسفة - )           »          صمت الحرائر -[حصرياً]قلوب شرقية(118) - للمبدعة::مروة العزاوي*مميزة*كاملة & الرابط* (الكاتـب : noor1984 - )           »          الصحوة ( الجزء الأول من مذكرات مصاص الدماء ) - كامل - (الكاتـب : Dalyia - )           »          715- رحلة غرام -عبير ميوزيك (أصلية) (الكاتـب : Just Faith - )           »          طلب مساعدة (الكاتـب : ام هدى وعدنان - )           »          روايتي الاولى.. اهرب منك اليك ! " مميزة " و " مكتملة " (الكاتـب : قيثارة عشتار - )           »          أنتَ جحيمي (82) للكاتبة المُبدعة: Just Faith *مميزة & مكتملة رابط معدل* (الكاتـب : Andalus - )           »          في قلب الشاعر (5) *مميزة و مكتملة* .. سلسلة للعشق فصول !! (الكاتـب : blue me - )           »          همسات حروف من ينبوع القلب الرقراق..(سجال أدبي)... (الكاتـب : فاطمة الزهراء أوقيتي - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > الروايات الطويلة المكتملة المنفردة ( وحي الأعضاء )

Like Tree247Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 08-06-22, 07:32 PM   #81

Booo7

? العضوٌ??? » 409773
?  التسِجيلٌ » Oct 2017
? مشَارَ?اتْي » 65
?  نُقآطِيْ » Booo7 is on a distinguished road
افتراضي


متى البارت مو المفروض اليوم
الكاديّ likes this.

Booo7 غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 09-06-22, 04:10 AM   #82

الكاديّ
 
الصورة الرمزية الكاديّ

? العضوٌ??? » 490082
?  التسِجيلٌ » Jul 2021
? مشَارَ?اتْي » 300
?  نُقآطِيْ » الكاديّ is on a distinguished road
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة booo7 مشاهدة المشاركة
تسلم الايادي على هالروايه
الله يسلم قلبك ✨

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة اماني راكان مشاهدة المشاركة
مبددعة وربي 😩♥
عجبتني كثره الشخصيات والاحداق
ياحبيبتي الله يسلم روحك، نورتيني 🥺✨

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة دوري.7 مشاهدة المشاركة
مسالخير ..
عندي احساس انه زيد هو اخو اسما اللي يدورون عليه 👀..
ويمكن الوصيه بتبين الحقيقه ..

بانتظار البارت القادم ..

صباح النور والسرور ✨
هممم إحساس جميل جدًا ، بإنتظار إصابته في البارتات القادمة 🙈

NON1995 likes this.

الكاديّ غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 09-06-22, 04:12 AM   #83

الكاديّ
 
الصورة الرمزية الكاديّ

? العضوٌ??? » 490082
?  التسِجيلٌ » Jul 2021
? مشَارَ?اتْي » 300
?  نُقآطِيْ » الكاديّ is on a distinguished road
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة booo7 مشاهدة المشاركة
متى البارت مو المفروض اليوم

البارت اليوم إن شاء الله ✨

NON1995 and م يحي like this.

الكاديّ غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 09-06-22, 10:09 PM   #84

الكاديّ
 
الصورة الرمزية الكاديّ

? العضوٌ??? » 490082
?  التسِجيلٌ » Jul 2021
? مشَارَ?اتْي » 300
?  نُقآطِيْ » الكاديّ is on a distinguished road
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم

*
*

لا تلهيـكم الرواية عن الصـلاة

*

الفصـل السابـع عشـر




-

كانت حالتـه تنبئ بشيء واحد , أنه في حالــة سكــرx
ورغم الحريق الناشب في معدته, والغثيان الذي يوحي بقرب فوران البركانx
إلا أن جزءً من عقله كان واعيًا, يشتم ويسبّ ويلعن مسببه الأول والآخرx
كان يردد صاعدًا لغرفتـه:x
الله يأخذك يا حسين , الله لا يوفقك يا حسين !x
ومن يكون حسين سوى رفيق دربه الأخاذ, xوقوته التي يفخر بهاx
أول صديق, وأول رفيق تجارب, وأول عدو .. من بعد الآنx
جاهد حتى لا يصدر صوتًا حين صعوده لغرفته, آملًا أن لا يكون والده استيقظ لصلاة الليلx
ولا أن يكونا أختيه مستيقظتين أمام السهر والأفلام والكثير من رقائق " الشيبس "x
فهذه عادة حنان وأميمة وقت إجازتهنx
صعد غرفته, أغلق الباب على نفسه, توجه مباشرة إلى دورة المياةx
فما عاد يطيق صبرًا على وجود هذا الإعصار في معدته الذي يشعر أنه اقتلع جدارها بالكامل x
وفي لحظة واحدة أفرغ ما بجوفه كله, منذ أن أصبح وحتى الآنx
وحين شعوره بالإرتياح رفع عيناه ينظر إلى ملامح وجهه .. ليُفجع بما رأهx
فجع حقًا من رؤية ملامح وجهه التي اختفت خلف اطنان من الذنوب, والحسرة والألمx
هذا الوجه, الذي كان محافظًا, مصليّا قائما .. نُهش بسكين الغدر حتى سالت الجروح من كل مكانx
عينيه المحمرة, شفتيه الباهتة, حاجبيه المترققة بالماء, شعر ذقنه الممتلئ هو الآخر بالماء, وجنتيه وكل ما حفر في وجههx
ما يراه الآن ليس حاتم, ولا يمت لحاتم بصلة, ما يراه الآن سوى مسخ شوهته معاني الثقة وجزيل العطاء لصداقة نبضت من بين جوارحهx
خرج من دورة المياة, أشغل التكييف البارد, وأستلقى على فراشه يلوذ بالدفء, يبحث عن النوم بعد السهدx
أغمض عيناه, وبالكاد أستيقظ بعد نصف ساعة مرتعشًا, مرتعشًا من شدة آلامه الجسدية .. والروحيّةx
قام من مكانه وهو يشعر بالدوار, والدوار أبسط ما يشعر به الآن من بوادر إنهيارx
ما زال تاثير السكر في جسده, لكن عقله بات واعيًا .. وما يتوق إليه أمرٌ واحدُ فقط .. الإنتقامx
جرته أقدامه إلى الإنتقام من رفيق عمره الذي كان يومًا أقرب إليه من قلبهx
الصديق الذي أعطاه ما دونه وأمامه, روحيًا وعقليًا !!x
الصديق الذي أدخله لقلبه, ومنزله .. وجعله خازن أسراره كلها .. كلها تماماًx
بقدر ما أعطى في هذه الصداقة , بقدر ما أخذ هو منهاx
كان يعلم منذ البداية أن صداقتهم ليست قائمة على الود والمحبة والألفه فقط, كان يتخللها بعض الأحيان القليل من المصالحx
ولو أنهم لم يخوضوا في وحل المصالح مرة, لما اعتادوا بعد ذلك عليهاx
قاد سيارته " الرياضية " أنذاك متوجهًا إليه . حيث آخر مرة جلسا فيها , وآخر مرة داس فيها على ما تبّقى من صداقتهمx
كان يهلوس ويهذي, يتوعد ويستحلف, يحترق ويترمدّ ..
ولن يجد سبيلًا لراحته إلا بإغماسه في نفس الطين الفاسد الذي أسقطه فيهx
لكن كل شيء اختفى في لمحة بصر, فقد السيطرة على سيّارته التي كان يقودها بسرعة عاليةx
ليصبح مصيره , دورات من الإنقلابات أدت لوقوعه أسفل التلة بمسافة عن الشارع تتجاوز الكيلو والنصفx
ويالمعجزة الرب, وعطاءه الجزل .. رحمه الله حين أخرجه من السيّارة المختفيةُ ملامحهاx
ليخرج منها , ثم يسقط على بعد خطوتين من السيّارةx
/x
\
/x
أفاق مرةً آخرى وسط سريرٍ وثير بدلًا من سرير الأرض الذي سقط فيها , ولا يعلم كم طال جلوسه تُوجعه الحجارة وحرارتها اللاهبة , أو ربما حرارته هوx
تبيّن صوت والده .. وزيد , رباه ماذا يفعلان هُنا ؟ بل وأين هو الآنx
أنساب صوت زيد الذي تشبع بقلقه إلى أذنه التي لم تخذله مثلما خذله القلب:x
عمي ما راضيين يدخلوه إلا لما يفحصوا له الدم عشان يشوفوا نسبة الكحول فيها, يحاولوا يعطوه مسكنات الحين عشان ما يحس بألم يدهx
حينها جاءه صوت والده مصدومًا مدهوشًا , وهو ما مزقّ قلب حاتم تمامًا :x
فحص كحول ؟ ياولد أنت مستوعب وش تقول ووش تهذي فيه .. عيالي ما طبتّهم السجارة عشان يطب حلقهم الخمر ! ما يسووهاx
وكم آلم قلبه وشطره نصفين ثقة والده به , وود وقتها أن يصرخ بأعلى صوته المكسور بـ " أني قد خُذلت يا أبي ..x
غُرر بـي يا أبي !x
أصبحت فريسةً سهلة , طمعه للنهش والإفتراس بعد أن كُنت شامخًا معتزًاx
خُدعت يا أبي .. تآكلتُ يا أبيx
آكلتني حرارة الصداقة , وحرارة الثقة الجازمةx
بُوغتت يا أبي !x
ابنك " القدوة " ما عاد نظيفًا , طاهرًاx
شوهته الذنوب يا أبي , لطخته المعاصي يا أبي x
فأنتشلني من كل هذا , خذ بحقي ! فلا صوتٌ لدي ولا وجهٌ لأطالب بحقيّ !"x
عاد صوت زيد لأذنه , ونبرته هو الآخرى مشبعة بالأسى :x
ما نقدر نسوي شيء عمي , آوامر الطبيب .. وخلها تنلّم بدون ما توصل الشرطة ويصير تحقيق لا له أول ولا له تاليx
ومع آخر كلماته إنهار سيف جالسًا على الكرسي بالخارج , وروحه تتآكل , تذوب وتذوي كمدًا وحسرةx
لا يصدق أن ابنه " الذي جاهد على غرس كل القيم والمبادئ بداخله " ليصبح نسخة أفضل من نسخة أبيه .. تقوده قدامه للحرامx
بل وتأتي عاقبة حرامه بجزاءٍ قاسٍ قاطع لا يقبل المساومة ولا الرحمةx
تحفّزت خلايا عقل حاتم , الذي كان الشيء الوحيد المستيقظّ . عاد له الخزي مما فعلx
هتف بهمهماتٍ لم تكد تصل إلى أذنيّ زيد ووالده , بل كان يشعر بصداها في داخلهx
حتى تعالى صوته منسابًا إلى اذنيهم بصورة صارخة , جارحة , مهانة ومتألمةx
يصرخ بشكل متكرر ويضرب رأسه على الوسادة, ويا للريبّ فلم يكن يتحرك شيءٌ في جسده إلا رأسهx
" حســين ,, الله ياخذك يا حسيــن .. آآآآخ الله لا يوفقـك .. يا عسى جهنم تأكلكx
يبـــاه .. يبــه تعــــال ! يبـه حسيــن يبــه "x
اقتربا منه زيد وسيف في جزعٍ وهلع , حالته أصبحت مرعبة , يصرخ مغمض العينينx
لا يشعر بألم يده المتهشمة والتي اخترق عظمها xاللحمx
ولا بالجروح التي تحيط به من كل جانب , ولا بوجهه الدامي .. من شق حاجبه وشق رقبته المتصل من أذنه وحتى بداية عظم ترقوتهx
كان فقط يصرخ بوجعه الروحي , كان قلبه يصرخ .. وقلبه يشتم ويكيل الدعوات .. قلبه المحروق هو ما كان يتحدث بصوتهx
لا عقله , لا صوته , لا عينيه .. كان قلبه فقطx
اقترب سيف بجزع بينما ركض زيد لينادي الطبيب بأقصى سرعته :x
بسم الله عليك يا حاتم , بسم الله عليكx
اخترقت صرخة حاتم قلب سيف حين قال بوجل ودموعه تسقط من عينه المغمضة :x
يبه خذ لــي حقي منه , يبه غدرني , جرنـي يبه بغفلتي !x
خوّان يبه –صرخ ببحته- خوّان يبه خانني وطعني في ظهريx
شُق قلب هذا الشيّخ , اقترب منه يشد قبضته على حديد السرير والغضب يرجف بجسده :x
من اللي وصلك لحالة ؟ من اللي طيّح ولدي الشهم في تراب الحرام ؟x
لم يكن يستمع لكلامه , كان يكرر كلامه كثيرًا قبل أن يسقط ويختفي عن العالم :x
يبه حسين ذبحني .. ذبحني حسييين يبهx
أغمض سيف عينيه بقوة , قوة تحبس خلفها الدموع التي تأبى الخروج عزةً وشموخx
وهو يتراجع للخلف حين قدم الطبيب الذي باغت حاتم بحقنه آخرى وهو يقول للممرضات :x
هاتي أقل جرعة من المخدر ما نقدر نحقنه بمخدر زيادة لا يتوقف قلبه بجرعة تخدير زايدةx
أنقبض قلب سيف .. صرخ في وجه الطبيب :x
وش تنتظروا ؟ ليش ما تدخلوه العمليات الحين .. عاجبكم شكله كذا ومنظر الدم من كل مكانx
امسك زيد بكتفي سيف , حين التفت الطبيب إليه بجدية :x
الجراح xالمناوب في الطريق .. وكان لازم نكتشف نسبة الكحول في دمه والنتيجة طلعت قبل شويx
ما زال حاتم يتخبط برأسه , الشيء القادر على تحريكه ولا غير .. ودموعه تسيل بإنهيار لاواعيx
يصرخ بكلمة واحدة .. أو بالآحرى باسم واحد بات يبغضه ويشعر بمدى ثقله على لسانهx
حتى دخل رويدًا رويدا في غيبوبة المخدر .. وما عاد يرى إلا وجه " حسين " في غيبوبتهx
/x
\
/x
جديّ حاتم و أعمامه , أبناء عمومته , والديه وأخواته , بنات عمومته ..جميعهم مصطفوّن أمام غرف العناية المركزة x
لا يُسمع إلا بكاء والدته وأخواته , حسيس جده وإستغفار جدته , دعوات أبناء عمومته القلبية , وثبات والده ..x
الذي أخبر عائلته أن حاتم تعرّض لحادث سير أليم أدى إلى دخوله في غيبوبة بالإضافة لوجود كسر مضاعف في يدهx
والحقيقة غير ذلك .. فحادثه خلفه سبب .. وسببه الكحول التي دمرّتهx
أما غيبوبته الغريبة .. فهي بحق غريبة .. ما زال كلام الطبيب يجوب في رأسه وهو يخبره أن كسوره تم تجبيرها وحروقه تمت مداواتها .. لكن الغيبوبة لا حل لهاx
دخل عقله في سُبات اللاوعي , مستقيظ وليس بمستيقظ .. يتحرك ولا يقدر على الحراكx
عيناه تأبى رؤية النور فانغمس في الظلام رغبةً منه " لمعاقبة نفسه ربما " يسمع بُكاء والدته , فيرفض تطمينها بنظرةx
يسمع همسات والده , فيرفض الرد عليها .. يسمع صوت القرآن قريبًا منه , فيغوص أكثر ويمتليء إصرارًا اكثر للتلطخ بالظلمة , ليجعل ذبذبات الآيات تطهر دمه وروحه !x
راضٍ , ورضاه حرم عليه الإستيقاظ ومواجهة الواقعx
أمرٌ غريّب حيّر الأطباء قبل سيف .. فها هو ينظر إليه من خلف النافذة الزجاجيةx
يحرك قدمه اليسرى , وترتعش يده السليمة .. يرى زوجته تُدهنه بـ"زيت مقريء عليه"x
تمرر يديها على رأسه ويده وقدميه .. وتختمها بدهن العود خلف أذنيه !! تتحدث معهx
تخاطبه بكلّ ود كأنه يسمعها .. وهو في الحقيقة يسمعهاx
تطلب منه أن يرحمها , أن يريح قلبها أن يعود إليها وإلى حضنها لكن .. دون جدوىx
شعر بتربيتة زيد على كتفه , وابتسامه صغيرة تعلو ثغره :x
بيصحى ياعمّ , هون عليكx
خرجت تنهيدته حارة حارقة , ولولا الزجاج لأذابته من شدة حرارتها :x
يرفض يا زيد , يحارب بإستماته عشان لا يشوف النور مرة ثانية .. يعاقب نفسه ولا يعاقبني وأمه, شوف كيف صايرة مجهدة و " متشفقة " على شوفته صحيح معافىx
زيد بطمأنه :x
حاتم ما يناسبه الظلام يا عمّ , حاتم بإنطلاقته وإندفاعه للحياة يشوف النور هو السبيل الوحيد للنجاة , يرفض طيّ روحه في الظلام لأن الظلام ما خُلق لهx
تنهد سيّف بمرارة , همس حرصا حتى لا يسمعه أحد :x
لقيت سويّد الوجه ؟x
همس زيد بذات همسه , بوعيد وتهديد :x
مسكّر تلفونه , رحت بيته سألت أهله عنه قالوا مسافر كم يوم وبيرجع , كلمّت بعض الأصدقاء في المطار والحدود ما تبيّنوا سيارته طالعةx
دورت في شقته ما لقيته بعد –وبتهديد أكبر- لكن كلمت الشباب يدوروا لي عليه x
وبس ألقاه بطلّع منه الاول والتالي وأسلمه للشرطة مرة ثانيةx
تسائل سيف , كيف يكون زيد واثقًا لهذه الدرجة من أن الشرطة ستقبض عليه , او بالأصح " بأي جرم ؟" فهم لا يملكون دليلا ضده لكن سيف xيريد " تصفية حساباته " شخصيًاx
لذلك لم يظن أنا ما سيسمعه , سيصدمه :x
شقته ياعمّ , محولها مركز مجون ودعارة , دخلتها بعد ما اقنعت الحارس إني جاي لهم , وما انصدمت لما دخلني بسلاسة لأني عرفت إن النذل يرشيه حتى تدخل " بضايعه "x
الشقة كانت في دمار , غراش الخمر في كل مكان ونصها إذا ما كلها مكسور ومدمر .. انصدمت وانصدم الحارس معي فقال لي
إنه سمع صوت إزعاج قوي بس ما فكّر حتى يسأل لأن تعود على الإزعاج من هالشقة بالذاتx
اجترع سيف ريقه بصعوبة :x
وش تتوقع ؟x
زيد بإستنتاج :x
إذا ما خاب ظني فإن حاتم ما كان يعرف هالجانب من حياة حسين , وعلى الأغلب إن كان بينهم مصالح بعيدة عن الصداقة .. فحاول حسين يستدرج حاتم لشقته حتى يوقعه في الفخx
فخ مصلحته .. وفخ فساده ! يعني يضرب عصفورين بحجرx
والواضح إن حاتم انصدم فيه .. وتضاربوا ويمكن كسروا كل شيء موجود في الشقة لأن كانت في قطرات دم في بعض الأماكنx
-وبهدوء مقهور- الزفت قدر على حاتم وخلاه يشرب ويشرب لين أسكره !x
أما على الحادث .. واحد من الشباب اللي راجعين من دواماتهم اتصل فيني وأنا بعز نومي وقال لي " ألحق ولد عمك , مسوي حادث وماظني يخرج منه حي " والحمدلله الحادث ما كان بعيد عن الديرة .. في الشارع العامx
كتم سيف قهره في صدره المشتعل على فلذة كبده وأول أبناءه وأعز الأحفاد , فمن يدري ما الذي عاناه حاتم خلال الساعات الماضيّةx
هتف بنبرة مقهورة خرجت مطعمه بالوعيد :x
جيبه يا زيد , جيبه لو هو في آخر الدنيا .. ولد أبوه أنا أعرف كيف أتعامل معه ! وبهدوءx
زيد بذات النبرة :x
اعتبره عندك ياعمّx
كلامهما كان يتجرعان المضاضة والعلقم من أجل المسجى أمامهم , وكلامها كانا يذخران له الكثير والكثير من الحُب والإحترامx
إن كان الأول خرج من صلبه وحبه له فطري , فإن الثاني خرج معه من صلب الحياة وما بجوارحه شيءٌ أعمق من الحُب بكثيرx
شيءٌ يسمى " تلاقي الروح " الروح التي لا تقبل التنديس والتنجيس .. تلاقت معه فاشتبكتا بأيدي القلب دون أن يُفلتا بعضمها البعضx
يُعزي نفسه أنه لم يكن يعلم كثيرًا عن هذا الـ حسين .. فأصدقاء حاتم معظمهم أصدقاءهx
لكنّ زيد بطبيعة تربيته تعلّم شُغل حدسه إتجاه الغرباء, ومنذ اللحظة الأولى لم يألف لحسينx
لكنّ ماعزز صداقة حاتم به أنهما يعملان في مكان واحد .. وقد كانا " سابقًا " يمتلكان مشروعًا مصغرًا خاضا فيه بعزيمة.. قبل أن تدنسه خُطى الحرامx
/x
\
ظلّ بعدها حاتم في العناية المركزة لأكثر من شهر , تخلل خلالها الكثير من العقبات لعائلته فقد كانو يفتقدونه ويتفقدون خطواته الصاخبة ومرحه الرائق في المنزلx
لم يكونوا يعلمون أن ما أدخل حاتم في غيبوبته , إلا ليخرج منها بأسوء , وأبشع , وأقسى مما عرفوه يومًاx
فاجأهم الطبيب بتعرضه لفقدان الذاكرة الجزئي الذي أسند إليه سبب الغيبوبة .. ولولا لطف الله ورحمته لفقد بعضٌ من بصره بسبب الضغط الهائل على أعصاب عينهx
خرج من المستشفى بسوادٍ مغلف بالقسوة , بعدما كان نورًا محاطٌ بهالة تخصّ حاتم وحدهx
خرج من رحم " الطيبة " ليقع في رحم " القسوة "x
خرج بروحه من جسده " الصامت " بعد أن كانت روحه " صاخبة " بالفرح والألوانx
خرج محمولًا بالخوف - وإن كان لم يدعيه - من المستشفى والسيارات .. والأصدقاءx
خرج وسط كلام الناس الذي تداولوه وأرجحوا تغيّره الجذري إلى أنه " مسكون "x
خرج حاتم , وماعاد بحاتم .. فاقدًا للذاكرة , فاقدًا للبريق .. فاقدًا للحياة"x
x
-x
-x
-x
فتح عينيه على قبلة دافئة وقعت على جبينه , قبلة لا تشبه إلا والدهx
الذي اشتمّ رائحته قبل حتى أن يفتح عينهx
التقط ابتسامته الحانية وسط إستغراب حاتم العميق من وجود والده الذي هتف :x
الحمدلله على سلامتك , خوفتنا عليك يا أبوكx
عقد حاجبيه بإستغراب شديد وألم أشد يشعر به في حلقه .. وقدمه .. ليتضح ماحصل له قبل ساعات , أو ربما أيام x
همس بخشونة صوته التي تحصل حين يستقيظ من نومه :x
يبه الله يهديك جاي عاني عشاني ليش , كل الموضوع إصابة بسيطة !x
ابتسم سيف بإرتباك , لا يعلم أيصارحه أم يفاجئه , لكنه حسم الأمر بمصارحته ليتلقى الصدمة مرةً واحدة :x
أي عنوة ؟ أنت في المستشفى العسكري وهذاك قريب مني !x
ازدادت عقدة حاجبيه , لتنفك العقدة رويدا رويدا ويشتعل سعير عينيه حينما علم أين هو ,x
يلتفت يمنةً ويسرةً ينظر لمكانه الذي تغيّر عند دخوله , لذا هتف بصوت أجش :x
المستشفى العسكري ؟ سويتوها ونقلتوني لين هنا يعني ...x
قاطعه والده ليقول بنبرة حازمة تخللها بعض اللين :x
اسمعني حاتم , تبسيطك لإصابتك ما ينفي حقيقة مدى قوتها , أنت رجلك منسحله سحل واجزاء واجده مبيّنه بسبب اللحم اللي أنشالx
مستغرب للحين كيف ماكنت حاس بالألم فيها , لكن هذا ما يمنع إنك ما عدت قادر تكمّل في مشروعكx
لأن مشروعك اللي سعيت عشانه سنين , خذلك من أول لقاء .. أرضى باللي كتبه ربكx
لأن هذا إختبار لك .. مهما سعيت في أحلامك ما راح تتحقق إلا بإرادة ربكx
سحل أسنانه بعصبية أحتلت ملامح وجهه ليصبح أكثر خشونة وأكثر سواد :x
كان تركتوا لي حق أقرر , ولا يبه للحين تعاملوني معاملة المجنون .. والمسكون ؟x
زمجر سيف بلهجته الغاضبة :x
حاتــم !!x
xزمجر هو الآخر بذات النبرة الغاضبة.. والمشتعلة جدًا جدًا :x
كنت قريب .. قريب بشعرة من تحقيق حلمي إللي سهرت ليالي أبنيه وأسعى له , كل اللي كنت أبغاه أشارك وأوقف كتف بكتف مع كبار المهندسين وأذكاهمx
وعشان إصابة بسيطة يا يبه تحرموني من ذا الحلم .. أنا قلتها وبقولها : لو انبترت رجلي .. راجع لحلمي راجعx
تنهد سيف , ليقول بجدية بالغة :x
ماتقدر , خلاص
عقد حاتم حاجبيه بشدة وقسوة بانت معه , ليُكمل سيف :x
كبير المهندسين وبعض المسؤولين أجمعوا على إقصاءك من مهمتك , لأنك تحتاج لراحة عشان ترجع رجلك مثل ما كانت , وأنت ما تنفعهم في هذه الحالةx
ابتسم بسخرية مريرة ,ما عاد يستغرب إندثارات أحلامه أبدًا , لكنه جاهد هذه المرة على الوقوف ضد العقبات حتى يُخبر قلبه أولًا قبل الجميع أنه قادر .. قادر فقطx
أكمل سيف عندما لمح المرارة بعينيه الحادتين :x
ترا رئيسك اتصل فيني وأثنى على حماسك ورغبتك في المشاركة , ووعدني إن سمحت الظروف إنك بترجع لهم ويكون لك دور مهمx
يكفي إحساسهم بالمسؤولية عن اللي صار لك بعد قلة الأمان في موقع العملx
أغمض حاتم عينيه , وتراجع برأسه للخلف متكئًا على الوسادة هامسًا بصرير روحي :x
لين تطيب نفسي وأزهد من ذي الدنيا , ماعاد شيء يبيني ولا أنا أبي شيءx
سيف بجديته البالغة :x
لا يا حاتم , لا .. من متى كان الإستسلام شعارك ؟ أنت اللي وقفت في وجه بلاءك واستقبلته بقلب راضي ومؤمن , مب قادر تصبر على هذه المصيبة وترجع توقف لها بشكل أقوى من قبل ؟x
-ربت على كتفه بحنان متعاظم-x
الحُلم كلمة مو محصورة في نطاق معين , نطاق عملك فقط .. ولا هي كلمة تقيّدك وتنسيّك ما وراك ودونك وما يكون بقائمتك غيرهاx
الأحلام ألوان وأشكال .. وصور مختلفة ! ممكن تكون متجسدة على هيئة صحة , أو رضى .. أو حضن عائلة .. وابتسامة طفل !x
فتح عينه حين وصل والده لهذه النطقة , ليُكمل سيف بهدوء باسم :x
الأحلام أبوابها واسعة , وطريقها فسيح .. ولعل الطريق يبدأ باليسير ثم يتفرّع ويتفرع لحتى يكبر وتكبر معاك جوانبهx
رمش عينيه الحادة بإنتظام أنفاسه بعد أن كان لاهثًا , وكلام والده لامس جزءُ محترق من قلبه .. وهو يفهم مقصدهx
يفهم مقصده تمامًا , ويطلب منه أن يبدأ باليسير .. بالتسامح مع نفسه , بتقبّل وضعه , بحب ذاته ! ثم ينطلق رويدا رويدا باحثًا عن الحُلم البريء بين بسمات عائلة , وضحكات طفلx
لتكون أولى خطواته هي زاده للخطوة الكُبرى ! نعم , كيف غفل عن هذا !x
كيف غفل عن أن قارب حياته الفارغ , يحتاح لملئه بالبنزين حتى يتحرك ! يحتاج أن يضغط على دواسته ببطء حتى يجد منطقة خصبة في منتصف بحر حياتهx
تابع والده كلامه بهمس هادي : x
لا تطمع , الطمع شين ! لكن أسعى .. لأن ( ايس للإنسان إلا ما سعىx)
وانتبه على هدف سعيّك .. كبير كان او صغير ! خلك راضي باللي راح تنالهx
أفاق حاتم من غيبوبة سحر كلمات والدته الذي أخذته لعالم نسيه تمامًا , عالم كان يملئه بالطموحات والأحلام وغيرها من الإنجازات ! ليتّذكر وضعهx
هتف بفحيح جاد جدًا :x
وأولى خطواتي هي إني أقص الإيد اللي أمسكتني من رقبتي طول هذه السنوات .. من حسين!
حسين وين يبه؟x

غامت عينا سيف للحظة , وهذا السؤال ما كان يخشاه ويؤده في قلب حاتم حين كان يسأله
لذلك شعر أنه قد حانت لحظة المصارحة , ولا يجد بدًّا من إخفاء الوضع مرة آخرى , لكنه بالوقت ذاته خائفٌ من تهور حاتم .. وهو حتى الآن لا يرى رغبته بالتغيير :x
وإن قلت لك وين هو .. وش اللي بتغيّره في حياتك ؟x
عقد حاجبيه لوهلة , وقد بدأ سؤال والده دعوة لإبتزازه أو تهديده تحت غطاء حنون لا يفقه منه حرفا
وما لبث أن اشتدت ملامحه ليقول :x
وش بظنّك بيتغير يبه ؟ التغيير اللي أبغاه ما راح يرجع
حتى لو تمنيّته .. الأمنية ما تتجاوز صدري
حتى لو سعيت له .. طريقي ما بيبسط كفه قدامي
حسين أخذ حاتم ، وأنا أبي أرد حاتم .. مب ذاكرته ، ولا صداقته ، ولا مواقفه ! أبي أرد اعتباره كحاتم
سيف بسؤال يحمل القليل من الذكاء ، والكثير من الرجاء :
السنين الماضية اللي مرت ، كنت قادر على إنك تدّور عليه وتلقاه خاصة مع توسع علاقاتك في العمل والمجتمع
وش ردّك ؟
ابتسم حاتم بسخرية مريرة أكل منها الدهر رغمًا عنه :
تصدق يبه لو قلت لك خايف ؟ ايه والله خايف .. خايف أدور عليه وألقاه واقف في النور بينما أنا توشحّت بالظلمة بطيب خاطر ، خايف ألقاه مكمّل طريقه وأنا تنغزني أشواك هالطريق
سيف بشبه دهشة :
حاتم يخاف ؟
احتد سواد عينيه أكثر وأكثر مما دعاه ليهتف بقسوة عارمة :
هذاك أول ، يمكن لو سألتني قبل شهرين كنت باقول لك ما زلت خايف من مواجهته ! لكن الحين أنا مستعد أخسر الكثير في سبيل ردّ ذاتي !
ساوره القلق من كلام ابنه وهذه النبرة القاسية لا تروق له كثيرًا ، لكن هتف بالكثير من الهدوء :
ماتقدر ترمي بالنِعم اللي قدامك في سبيل " رد ذاتك " ، وش فايدة الإنتقام لو ما حكمّت فيه العقل؟
حاتم بذات الابتسامة المريرة :
إنتقام وعقل ؟ غلطان في الحسابات يبه .. عمره الإنتقام ما سيّره عقل ، اللي يسيره عاطفة ، وشعور داخلي نابع من خبايا القلب ! وأنا عقلي ما باقي فيه إلا "البقايا" .. ما باقي لي إلا قلب يشتعل بنيرانه ، وينرمي فيه الحطب كل يوم
سيف بحدة لا تتناسب مع ملامحه التي ترتعد بخوفها :
عيل أنسى أقولك معلومة وحدة عنه دام هذا تفكيرك .. إذا ما فكرت في نفسك أنا أفكر فيك .. أنا أبوك
خرجت كلمة " أبوك " مشتعلة بغريزة أبوية لا يخطئها قلب حاتم الذي يدرك تمامًا شعوره في هذه اللحظة
يريد حقًا طمئنته ، يريد أن ينثر مشاعر الراحة على كتفه ويهبها لملامحه بدلًا من توشّح الرعب فيها ، الرعب الذي لا يليق بوجهه السمِح والطِيب
تنّهد الأخير بشبه إستنجاد مختبيء خلف خشونة ملامحه:
كم مرة سألتك عن حسين خلال هالسنوات يبه ؟ 7 مرات يمكن صح ؟! ما سألت نفسك ليش حاتم ما أصرّ علي أكثر ؟
-أكمل بنبرة أكثر حنو وسط صمت والده-
لأني خايف أفجعك فيني .. أنت انفجعت فيني يوم الحادث وخفت أعيد الحادث باختلاف الزمان ، والموقف
تنّهد سيف وهو يسبل أهدابه .. وسط الصمت الذي لاح بينهم لدقائق طويلة
أردف بعدها حاتم بخشونة صوته المرتبطة بحدته :
بس اليوم من حقي اقتصّ منه ! وأنت اللي علمتنّا رد الحقوق لا تحرمني من هالحق
أردف سيف بجملة حاول تبسيطها كثيرًا وبنَفس واحد كمن أراد التخلص من هذا الثقل :x
أنا خذيت حقك وخلصتx!
-أكلم حين رأى إندهاش حاتم , بل صدمته-x
ومن قبل سبع سنواتx
عض حاتم شفتيه بغضب هادر , غامت عينيه وما لبث سعيرها للإنخماد حتى عاود الإشتعال :x
وش سويت يبه ؟ ليش ما تركت لي حق عليه ؟x
سيف بذات البساطة :x
لأنك طلبت مني أخذ حقك منه , وأنا أخذته .. أوجعك جسديًا , أوجعته نفسيًاx
غربّك عن روحك , غربّته عن وطنهx
اجترع حاتم ريقه وهو لا يفهم و لا يفهم ما يجري أبدًا , ليستطرد والده:x
حسين كان اهم ماعليه سمعته وسمعة أبوه اللي لو عرف بمصايبه وداه وراء الشمس , أنت عارف منصب أبوه الحسّاس في الدولة ! فببساطة هددته مع الدلائل إنه لو ما ترك البلاد في أقرب وقت ليوصل موجز غني لأبوه عن بلاويه !x
فالجبان خاف , وهرب ! قال لأهله إن جاته فرصة عمل في أحد شركات النفط بدولة خليجية ومضطر يسافر يدور مستقبله !x
ومن يومك ما رجع ! خايف أنفذ تهديدي برغم إن تناسيته حتى .. –وبإبتسامة- ولكن زيد ما نساهx
اجترع حاتم ريقه بصعوبة ، والمشاعر المتضادة تختلط عليه لينتج عنها شعور .. غريب :
متى قلت لك خذ حقي ؟
تنهيدة حارقة خرجت منه ليقف قائلًا :
وقت الحادث ، وقت اللي شفت فيه دموعك لأول مرة ، وما كانت إلا دموع قهر .. وأنا يا أبوك ادفع عمري كله ولا أشوف هالقهر بعيونكم
-ابتسم بعدها بحنية أب-
زوجتك بتدخل تطمن عليك عشان نرجع ، كتبوا لك خروج بكرة وبنجي أنا وزيد نخرجك
همس حاتم بخفوت غاضب :x
يبه !x
ليقول سيف بحدة وهو يهمّ بالخروج للخارج :x
اص حاتم ! أنسى عُقدك الحين واعتبرها جاية تأدي واجب زيارة مريض

خرج والده لتدخل زينة بعد دقائق , وكأن ما دخل معها هالتها البراقّة التي تحيط بهاx
هالتها التي تجذبه شيئًا فشيئًا من سواده إلى بريقها ..
شعر بهدير قلبه خلف أضلاعه ، ويكذب لو قال أنها المرة الأولى التي يجرب فيها هذا الشعور " العذري "
دقات قلبه لأول مرة تطرق .. وتخونه !
تخونه ؟!
لا يعلم لما شعر بخيانة دقاته بينما خشونة ملامحه تشيء بغير ذلك
لكن منذ متى ينعكس اضطراب القلوب على الوجوه ؟
هو يصطبغ بكل رقّة على العيون .. ولمعة العيون
ألقى بنظراته نحو عينيها .. كانت مرهقة , لكنّ ذلك لم يخفى عنه جمالها
ورغمًا عنه ..
رغمًا عن أنف القسوة التي تراقصت في وجهه شعر بشعور قارس يدعى " الغيرة "
وفي باله يتسائل كم عينٍ رأت سحر عيناهاx
كم عينٍ تطمعت لبسمة شفاهها
كم عينٍ تسلطت على حمرة خديّها وسط سمرة وجنتيها
رغمًا عنه انقبض قلبه .. كما لم ينقبض من قبل!
وهو يرفض هذا الشعور جملةً وتفصيلا ، ليس لمعرفته الحديثة به ، ولكن لما رافقه من مرارة يرفضها لعدم رغبته بإضافة مرارة آخرى وسط مرارات فؤاده
تتقدم إليه , ويختنق بشعوره أكثر ! كان يسعى إليها جاهدًا قبل هذا اليومx
واليوم وجد مسعاه يتسارع بمجرد رؤيتها ورؤية ابتسامتها التي ألقتها الآن على وجهه :x
الحمدلله على السلامةx
وجد يده تمتد فالهواء لا شعوريًا ، وكأن ما يحركه الآن سوى قلبه لا عقله
لتستجيب هي بعفوية إلى كفّه المدودة . فهتف بغموض :x
الله يسلمش !x
اقتربت منه , ربتت على كتفه وما تراه الآن ليس حاتم " الرجل " .. بل حاتم " الطفل "x
طفلٌ كبير جل ما يريده الآن هو إهتمام طفولي مضاعف :x
مأجور , ومعوضx
تواسيه وتدعو له .. تواسيه في مصيبته وتدعو الله أن يعوضه خيرًا منها .. أوتدري أنها العوض ؟ لا تظن أنها تدري
لكن ، وياللعجب .. يريد بشدة أن تدري ، يريد أن يقولها الآن " أنكِ عوض الخسارة ، ما دام طعم العوض رائعًا هكذا "
كتم ما ودّ قوله ، تنّهد ثم همس :x
الله يآجرنا جميعًاx
كانت جملته رغم تلقائيتها تشير إليها أيضًا
فأرتجف كفها بين كفه ليضغط عليها أكثر , وأردف بابتسامة ناقصة :x
كيف نقلتوني بدون ما أحس ؟x
ابتسمت هي الآخرى بذات ابتسامته , وإن كان شحوبها يعود لقلة نومها :x
وأنت كيف صبرت على الألم بدون ما تحسّ ؟x
تنهد حاتم ، ينظر إلى التماع عيناها وودّ لو كان الآن خبيرًا في قراءة لغة العيون وأبجديتها
يفكّر بأي رد يجد طريقه إلى سؤالها ؟ هو شعر بالألم ، ذاك الألم الذي فتت غُرف قلبه قبل جلد ساقه
كان يشعر به .. لكن جزعه ، وخوفه ، ورائحة المُستشفى التي كان يشم " عفنها " جعله يُفقد قدراته الحسيّة والإدراكية فيما يدور حوله
وما كان يفكّر وقتها إلا بالخروج والعودة إلى موقع العمل
ليخبر نفسه قبل الناس بأن لا ألم يقف في طريقه
شعرت بتغيّر ملامح وجهه وبهتانه ، لتترك سؤالها مبعثرًا في الهواء كي لا تُبعثر آلامه
ولم تكن تدري أنها ستبعثرها بسبب سؤالها الآخر التي ألقته بإبتسامة خافتة :
تعرف إن في رقبتك لي حكاية ؟
رفع عينيه إلى عينيها الملتمعتين ، عاقدًا حاجبيه مستفسرًا عن " الحكاية " التي تقصدها ! لكنه تيّقن بقصدها
لتُردف زينة وسط صمت حاتم المريب :
لكن أبيك تحكيها لي بعد ما تتجاوز كل شيء ، ترويها لي ولا أشوف الألم ينهلّ من عيونك
ولا القسوة تفرد جناحيها على حواجبك ، ولا الشرود يستقي من تنهيدات رئتيك
أبيك تحكيها لي وأنت تبتسم ، وتنطلق في حكايتك بدون خجل من الماضي اللي يسحبك له
نظر إليها بلهفة المسير على وجنتيها ، بالرغبة في الإستقاء من عبق شفتيها
وهذا الكلام يجعل تلك القطعة في يسار صدره تتراقص أكثر
فتنشأ " حفلة " ليلية راقصة في صدره بأكمله
هتف بهدوء عميق لا ينذر بحفلة قلبه :
وأنتِ !
لا تعلم إن كان تقريرًا أم سؤالًا ، لكنّها علمت مقصده .. كأن يقول لها " وحدة بوحدة ، والبادي أقوى "
ليست بقوية ، تعترف في قرارة نفسها أنها ليست قوية كفاية لكي تغرق في الماضي بإرادتها وتسرده كحكاية تراجيدية لم تكن يومًا بطلتها الرئيسية
ما يُعيقها " الفقد " ، سواد الفقد يحيط بها من جوانبها فتغرق أكثر وأكثر ، ويُنبت الشوك أكثر وأكثر
ابتسمت مغيّرة الموضوع للمرة الثالثة :
الدكتور يقول رجلك يبي لها وقت طويل لين تتعافى ، وعمّي يقول ننزل بيته بدل لا نجلس في بيت الجبل لحـ...
قاطع كلامها نبرته الجادة وهو يرّص على كفها أكثر :
وأنتِ ؟
أسبلت أهدابها ثم همست :
وش فيني أنا ؟
ليقول بلهفة اتضحت بنبرة صوته :
بيجي اليوم اللي تسردي فيه حكايتش لي بدون ما ألمح لمحة " الغربة " في عيونش ؟
هدر قلبها بعنف ، غربة ؟!
قد أصاب حاتم قلبها الفذّ ، شعور الغربة هو ما أوصلها اليوم لطريق مسدود تبتغي فيه الإنتقام .. لكن لا تقدر
تبتغي فيه المسامحة .. لكنها تعجز
شعور الغربة الذي ولّده أبويها في صدرها هو من فتح أنابيب الخلل ليجعلها " منقوصة " في عين نفسها
وبعكس ما يجول في خاطرها هتفت :
أنا كتاب مفتوح للي عينه بصيرة ياولد عمي ، ما يعجز عن قراءتي إلا الشخص غير المثقف بمفاهيم الشعور المُر
قلبه الآن من شعر بعُنف نبضاته .. هو الأفهم والأعرف بالمشاعر المريرة .. تلك المشاعر التي رغم حلاوتها ما زلت تستطعم مرورتها ! هو من استشعرها وجرّبها و" لا يحسّ بالمجرب إلا المجرّب " لكن لماذا يعجز الآن عن فهم حُروف كتابها وقراءة صفحاته ببصيرة قوية ؟
ألانه عجز حتى الآن عن مدارات شُهب كوكبها واحتواء نجومه ؟
همس بعاطفة مشتعلة ، برجولة صاخبة ، بوعد لا يقبل التدنيس :
بيجي اليوم اللي اقرأ فيه كتابش بعيوني قبل لساني ، ووقتها يا " بنت عمي " مالش مفّر من هنا
قالها وهو يضع راحة كفها على صدره العريض ، لتشعر حينها بإنفجارات ولدّها شعور " لأول مرة تشعر به "
أكمل حاتم بجدية :
وقتها بكون أنا القارئ الوحيد لهذه الرواية ، بأكون أنا من يحطّ توقيع ملكيّته لها ، بأكون أنا أساس المبيعات ونسب الأرباح العاليّة ! وقتها تأكدي إنش حكمتي اللي ما أنحكم من قبل
شعور مرعب أحاط بها ..
" الحب " قطعًا لن تفكر في إهداءه هذه النعمة الفطرية التي جُبل عليها الإنسان
الحب بالذات في صفحة فهرسها ممحو بذنوب الماضي ، وما انمحى لا يُسترد يومًا
الألفة ؟ الإحترام ؟ الودّ ؟ إن كان ما يريده فله ذلك .. لأنها اعتادت على هذه المشاعر ، اعتادت عليها لتُصبح " روتينية " في حياتها
تنّهدت لتتراجع خطوة للخلف ، همست بهدوء :
لازم أطلع ، عمّي ينتظرني برا .. أشوفك بكرة على خير
كان سيسألها بحدة قاسيّة لأذنها " لما تهربين ؟ " لكن آثر السكوت على فتح الجروح ، فهو يوقن أن هذا السؤال لا يجيب أن يسأله لزينة .. بل بوالدة زينة
لذلك أردف بجدية :
لا تباتين بروحش ، نزلي بيت أبوي ونامي في غرفتي لين أرجع
هزّت رأسها بإيجاب وحمرة الخجل تتسلل لا إراديًا إلى وجهها
حمرة ما وجدت لها تفسيرًا ولا تأويلًا ، ولأول مرة .. أو ثاني مرة أو عاشرها ، تستصعب فهم نفسها ، فتتركها معلّقة هكذا


-
" هذا اللي بخير ؟ أنت شايف وجهك في المرآية قبل لا تجي عندي ؟ "
يقولها حاتم بصوت امتلئ بالدهشة والإستغراب من هيئة زيد المتعبة
ظهره الذي كان دوماً مستقيمًا ، تراه منعكفًا كأن الجبل المظلم الذي خلفهم الآن سقط على كتفيه
عينيه اللامعتين ببريق خالص لا يتقنه إلا هو ، أصبحتا باهتتين بشكل يُخيفه
ابتسامته الصاخبّة ما عاد يرى لها وجود على ثغر زيد المعلّق بها
ابتسم بذات الابتسامة الباهتة :
يا رجال بخير لا تنقل لي خوفك على الفاضي! مجرد ظروف
حاتم بذات الدهشة أردف:
على الفاضي ؟ على الفاضي يا زيد ؟!
-وبنبرة جادة جدًا-
من متى تخبّي علي ظروفك ؟ ظنّك عاجبني هالوضع اللي شايفك عليه .. وش فيك يا زيد ؟ وش قلب حالك ؟
أشاح بوجهه جانبًا ، ليردف بمرح ميّت :
لا تدخلني في غرفة تحقيق عشان تسحب من لساني اعترافات تدينني في المحكمة ، وأنت عارف قرار المحكمة مسبقًا
نهره حاتم وهذا المرح لا يورقه :
زيد ، أنا أخوك وصاحبك من عُمر ! لو تضحك أنا قادر إني استشّف هالحزن من صوتك
من متى زيد يتصنّع ؟
تنّهد زيد بيأس ، وشعوره بالضغط يتزايد حتى كاد قلبه ينفجر من هيجانه
ما عساه أن يقول له .. وهو يعلم أن ما سيناله هو التوبيخ
ربّت على ظهره بخفة ، جعلت من صدره يزفر المزيد من التنهيدات :
أرمي علي ثقلك !
ابتسم زيد بخفة مجهدة :
وأنت ناقص ؟
احتدت نظرة حاتم بنظرة يعرفها زيد جيدًا ليقول بعدها :
زيد !!
أسبل أهدابه ، نظر لقدميه بصمت مطبق ليُردف بصوتٍ متعب ومُهلك :
تعبان يا حاتم ، خوفي متعبنّي .. خايف أصحى وألقى بيتي خلى من أمي ، خايف أرجع البيت ألقى فراشها فاضي
تكررت إنذارات الدوام عليّ ، صرت أحضر جسد بدون روح ، إنتاجيتي قلّت والمدير يهددني في كل مرة يشوفني فيها ! وأنا والله تفكيري فيها من أخرج من البيت لين أرجع
أمي عدّت ثنتين .. بس الثالثة ثابتة ، ثابتة يا حاتم
هتف حاتم بنبرة خشنة جادة :
فال الله ولا فالك ، اسألك يا أخي أنت ما تؤمن بأقدار الله ؟
قاطعه زيد هاتفًا بنفس النبرة المتعبة :
أعرف وش بتقول ، أنا واحد ماعرفت الإيمان لولا الله ثم أمي .. علّمتني وش هو الإيمان بالله وغرزت هالشيء فيني من صغري عشان تهيأني لأسوء الاحتمالات
بس القلب يا حاتم ؟ هذا القلب كيف يهدأ ويرتاح باله ؟
زفرّ حاتم بهدوء ، وهمّ صديقه يشعله همًا .. أكمل زيد بذات الثرثرة :
أسب نفسي مليون مرة لأني تأخرت في زواجي .. بعذر إني ما أقدر على تكاليف الزواج ، نأيت عنه وحرمت أمي من شوفة عيالي .. وأنا والله صرت خايف ما أحقق لها أمنيتها
حاتم بهدوء عميق :
وش حادك على التفكير السلبي هذا ؟ خلّك منه
فكّر إن عندك ربّ كريم ورحيم .. فكّر إن رزقك مكتوب قبل لا تنولد ويجيك في وقته بلا زيادة ونقصان ، فكّر إنك منت أرحم عن ربك في أمك ! فكّر إن من أحبّه الله ابتلاه
فكّر في جوانب حياتك الإيجابية .. وأحمد ربك على الصغيرة قبل الكبيرة
مسح على وجهه بإرتياب .. ليقول بأسى تغّلف بقلقه :
آمنا بالله يا حاتم ، بس ماهو هذا الشيء وحده اللي مخوفني .. أمي من لما طلعت من المستشفى وهي ساكتة
ساكتة سكوت الموتى ، تتكلّم بكلمتين أحس فيها تطمني فيهم .. صارت تنام كثير .. أكثر من أول
عقد حاتم حاجبيه مردفًا بتساؤل :
وش قصدك ؟
هزّ كتفيه بيأس عميق ، ليُردف:
ماعرف ، زيارة بنت عمها مب مطمنتني .. وماقدر أوصل لها واكلمها ، أو تقدر تقول إني استحي أروح لها وأتهمها وتكون بريئة من تفكيري الغبي ، وأن أمي حصل لها شيء معاكس لحتى تطيح هالطيحة
ربّت حاتم على كتفه بموازرة تشبه تلك التي آزره فيها حينما كانوا مراهقين على أبواب الحياة :
هّون عليك ياخوي .. هذه أمك حولها خالتك ، وأمي والجارات كل يوم يطلّوا عليها ، غير إن ما باقي شيء على زواجك وبتطمن عليها ، بتلّقى اللي يرد لها الصوت وتآمن لها عند أمك
مسح زيد على وجهه وكأنه بهذه الحركة يمسح الهمّ عن ملامحه ليستبدلها بملامح آخرى تشابه تلك " الطبيعية " ، ليهتف بمرح لا يدعيّه هذه المرة :
على طاري الزواج ، تسمح لي أزور كريمتكم بكرة ؟
ابتسم حاتم بخفة لابتسامته التي رأها تتلألأ على ثغره ، متنهدًا
بتنهيدة لم يخرجها بل بقت حبيسة صدره :
لا تشاور في حلالك .. والبيت بيتك من أول وتالي
ابتسم زيد وهو يقوم ليصافحه بخفّة :
عيل باقوم وارجع لحلالك ، أخاف بنت العم تدعي عليّ الحين إني ساحبك تالي الليالي وأنت مكسح
وقف حاتم من جلسته على درج بيت الجبل الخارجي وهو يتعكّز بعكازه الذي سيلازمه هذا الشهر :
خاف من المكسّح لا تخاف من دعوة بنت العم !
ابتعد زيد وسط ضحكاته الهادئة وهو يلوح له بيداه ليركب سيّارته ويغادر بيت الجبل بعد أن أفضى جزءًا لا يتجزأ من الهم الذي يحمله بداخله
ليعاود حاتم الدخول إلى الداخل ، وبدل توجهه إلى الغرفة التي علم أنها لن تكون فيها .. اتّجه إلى الجهة المرتفعة من فناء البيت ، حيث كانت تجلس زينة على كرسي بلاستيكي أبيض ، تحتضن كتابًا ، وتنظر إلى السماء بإلتماع :
الجو حلو !
قالها وهو يجلس بجانبها ، ليُكمل وهو يؤشر على كتاب اللغة العربية المفتوح على إحدى القصائد :
جو شاعريّ
تنّهدت زينة بابتسامة ، عاودت النظر إلى القصيدة بعد أن سرحت في السماء وكلماتها تُسترجع بـ عقلها :
أتساءل كثير ، يا ترى وش حجم الخيبة اللي ولدّتها الغربة في نفس بدر شاكر السيّاب لحتى يُوصف أرق نعمة بهذه القسوة؟
اقترب وهو ينصت إليها بإرتقاب لما ستقوله ، لتُكمل :
ويا ترى أتساءل وش كان ردّ حبيبته على بيته الشِعري القاسي ؟
همس حاتم عن قُرب :
وش قال بدر شاكر السيّاب ؟
رفعت عيناها نحو السماء ، تنظر إلى النجوم اللامعة ببريق صاخب وسط صفاء السماء :
أتعلمين أي حزنٍ يبعث المطر .. وكيف تنشج المزاريب إذا أنهمر
وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع .. بلا إنتهاء كالدمٍ المُراق .. كالجياع
كالحُب كالأطفال كالموتى .. هو المطر !
-سكتت للحظة ، لتُكمل بصخب هدوءها-
وقت كنّا نسعد فيه بالمطر وكنّا نشوفه أعظم نعمة يمنحها إياها ربنا ، كان هو يشوفها حزن .. حزن مقرون بضياع حبيبته
وقت كنّا نلعب تحت المزاريب اللي "نضحك" تحتها ، هو كان يشوفها تنشج رثاءً لحبيبته المنهوبة
كان المطر لنا نعمة ، ولحبيبته نِقمة .. كان لنا منفذ ، وكان لحبيبته سجن
أخذت نفسًا عميقًا لتُكمل :
يا ترى كان يدري السيّاب إن بداخل كل واحد فينا ( عراق صغيرة ) ؟
كان يدري إن المزاريب تمرّ وترسي في ( دجلة عراقنا ) ؟
أو كان يدري إن بداخلنا ( هويّة عراقية ) خلتنا نحسّ بغربة قاسية بعيدًا عنها ؟
اليوم .. بدر ما يحكي عن العراق بس ! بدر يحكي عن كل الشعوب العربية المنهوبة .. يحكّي عن كل شخص عربي متغربّ عن بلاده
وحيدين .. ضايعين .. تنفرهم ريحة الدم ، تعصرهم قرصات الجوع ، تآكلهم نظرات اليتامى
واللي يحس فيهم ، بيحس " أي حزن يبعثه المطر "
كانت تتكلم بإسترسال وإسهاب ، ترتفع وتيرة انفعالاتها ثم تهدأ ، تغمض عينيها ثم تفتحهما
كان يدري أنها تتحدث عن نفسها ، لا عن بدر السيّاب فقط
تتحدث عن غُربتها المشابهة لغربته ، شوقها المجاري لشوقه ، عن ألمها وألم غدر الخائنين كما شابه ألم غدر بلاده به
اقترب منها قاصدًا ومندفعًا بعاطفته ، وما يسيّره إليها هذه المرة لهيبه الحارق الذي يشعل صدره ويستحثّه على القُرب
سأم من كونها شاطئًا تغوص أقدامه فيها بلا حدود ، يُريدها البحر بما فيه .. بهيجانه ، بعواصفه ، بعُمقه وبإبتلاعه للسواد
همس بخفوت شديد بجانبها :
تدرين وش قال السيّاب بعد ؟
التفتت إليه حين أفاقت من شرودها في القصيدة ، هالها القُرب الشديد وأنفها تكاد تلاصق أنفه
كانت ستبتعد لولا يده التي امتدت لعضدها مانعًا عنها ما فكّرت به ، همس وهو ينظر لعينيها اللامعتين ببريق صاخب
وصوته الرجولي يسري عبر ثغرها لا أذنيها:
عيناكِ حين تبسمان تورق الكورم ، وترقصُ الأضواء كالأقمار في نهر
-أكمل همسه بابتسامة ماكرة-
كان يدري السيّاب إن في عيونش ( جنّة عراقية ) لو شهد على نعيِمها رجع من غربته ملهوف ومشتاق ؟
ارتجف ثغرها بقوة ، شعر به حاتم تمامًا ، وابتسامته تزداد كأن السيّاب يؤكد له البيت الذي يليه " ودفءٌ الشتاء فيه وإرتعاشة الخريف "
دفءٌ أنفاسها وسط صقيع روحه ، وإرتعاشة شفتيها أمام خريف قلبه
وآه كم يليق بها هذا البيت تمامًا
لامس أنفه ، أنفها الحاد الشامخ .. وهو يقترب من ثُغرها أكثر فأكثر ، ليقول قبل أن يغرس " قبلته المستبيحة " في أرضٍ نُهبت خيراتها :
وتدرين إن " الموت والميلاد والظلام والضيّاء " اللي قالها .. اجتمعوا هنا يا زينة الأضداد ؟
قالها وهو يغرق بعد أن تجاوز شطآن روحه ، قالها وهو يسحبها معه إلى الغرق في غياهب البحر الذي كان يخشاه
وما كانت خشيّته منه إلا الغرق ، وها هو يغرق بدفء !
ابتعد عنها شِبرًا ، يبتسم لحمرتها التي اصطبغ بها وجهها والتي بات يعشقها وسط سُمرتها
ليقف من مكانه وهو يقول بغمزة عينه :
عرفي كيف تقلبي الموازين لصالحش .. يا أستاذة



-
يقف أمام " الشاة " على كرسي بلاستيكي صغير جدًا ، ينقل نظرة أسى مصطنعة بينها وبين الدلو الذي يحلم
كيف " يحلب الشاة " ويده مجبّرة ؟ ستهرب لا مُحاله منذ أول عصره !
استمرت نظراته العابسة تنظر إليها تارة وإلى الحظيرة بحيواناتها التي تنتظرها تارة آخرى ، ليسمع الصوت من خلفه يقول بجدية :
قوم خلني أحلبها ، الشغل ما بيخلّص لو جلست تتمقل فيها
وقف قايد بدهشة وهو ينظر إليها !
منذ خرج من السجن ، أو بالأصح منذ خرجت من المستشفى بعد تعافيها لم يلمح طرف عباءتها السوداء حتى
وها هو يراها تقف بالقرب من باب الحظيرة المفتوح على مصراعيه ورقبتها تحمل ذاك الحاجز الصغير :
كيف تسويها وأنتِ رقبتش كذا ؟ ما بتقدري
هتف بها بمزيج من الجدية .. والشفقة !
أجل لا ينكر شعوره بالشفقة ناحيتها وهو يراها بهذا المنظر لأول مرة ، و"برقعها" الذي تكاد تنام فيه لا تنزعه أبدًا
لكنه يلمح عينيها الصقريتين ، وشفتيها الحادتين رغم بُهتانهما
غضّ بصره وهو يستغفر ربه حين اقترب منه لتقول بذات الجدية :
أنا أعرف طريق يديني .. وخَر
ابتعد عن طريقها واضعًا الدلو بجانب " الشاة " الساكنة ، ليعطيها جانب وجهه :
الحمدلله على السلامة
قالها بخفوت عميق ، لتبتسم هي بابتسامة أشبه بساخرة :
على ايش ؟ على رجعتنا أنا وإياك للسجن نفسه بعد خطتك الغبية ؟
ابتسم ابتسامة كاملة صادقة حقيقية ، لم يضيق من نعتها هذه المرة ! بل قابلها بتلك الابتسامة " الماتعة " :
على الأقل مسجون برضاي ، المسكين اللي مسجون ويحاول ينبش حريّته وفي كل مرة يفشل
سكتت بعد كلامه دوّن رد ، أشعره لوهلة بالقلق ..
فهو صدقًا اعتاد على لسانها الطويل وردودها اللاذعة
وبعد صمتٍ ثقيل ، كان قايد ينقل نظراته إليها بين حين وآخرى ، لتهفت بهدوء :
سمعت بالثوّار ؟ الثّوار اللي ما ينتمون لا لفصيلة ولا لجبهة معينّة .. الثايرين بأنفسهم المناضلين ضد الاستعباد والاستعمار ؟ أنا أنتمي لهم ..
صمت قايد ، وهو يشعر أنا ما هو قادم بعد هذا الكلام هو الطوفان ، وصدق حدسه حين أكملت بنبرة خافتة ، حاقدة :
يمكن تشوفيني عديمة أخلاق ، دميمة اللسان ، حاقدة وكارهة وأتمنى أبشع العذاب للي من لحمي ودّمي
لكن هذا مجرد ثورة في وجه الاستعباد ، استعباد "وكيلي" ما شفت مثل جبروته
تقدم قايد بخطواته ، وقف أمامها على بُعد مسافة ، ليشعر بالصدمة من تكملتها:
سويلم قتل أبوي في مجلس بيتنا ، قدام الشيّخ الراضي عن سواته .. وقدام عيون بنته المصدومة
قتله " بالخطأ " وسجّل سبب الوفاة كحالة اختناق !
ضحكة قصيرة خرجت منها ، ساخرة متألمة :
دخل علينا العم وأبوه ثايرين على الصقر ، يا صقر كيف تترك بنتك تسافر للخارج وتكمّل دراستها ؟
يا صقر باكر بنتك بتفضحنا وسط الناس ، ياصقر بنتك بتنزّل رأسنا للأرض
تدري ليش ؟ لأن البنت عندهم حدودها تنتهي عند دراستها الثانوية .. لأن البنت تنهي دراستها
وتتزوج وتلقى مسؤوليتها " الصحيحة والسليمة " بنظرهم في إيطار الزواج والأولاد
ولأني بنت الصقر فأنا حاديت عن قاعدتهم ، ثرت في وجههم ، وقفّ أبوي قدام قناعاتهم .. حارب عشاني
عشان أكمل دراستي الجامعية اللي كملّتها بالدس ، عشان يتفاخر ببنته الدكتورة .. ولكنّ كل شيء حاربنا عشانه راح
لأن عمي ، أخو أبوي من دمه ولحمه .. خنق أخوه وسط مشادتهم
وجدّي .. بنفوذه قدّر يزور سبب الوفاة من اختناق بفعل فاعل .. لاختناق بسبب الربّو
-تنّهدت بعد سيل الاعترافات هذا لتُعود نبرة صوتها الحادة-
أنا مو مسكينة تدور على حريّة ما قدرت تحصلها يا ولد الأجواد ..
لو كنت مسكينة لكانوا الفلسطينين أشد الشعوب مسكنة ، وغباء !
أنا ثوريّة ، والثّوري ما تعيقه خطط فاشلة ، ولا احتلالات غاصبة تندد بالسلام
هزّ رأسه يمنة ويسرة وشعوره بالإشفاق يتجاوز الحد في فيضان صدره ، ما عاشته هذه المرأة أسوأ مما عاشه هو ربما
شاهدت أبيها يهوي أمامها ، حُرمت من أبسط حقوقها ، غُربت عن أهلها ! وما زالت صامدة في وجه رمال الصحراء
نفضت يديها لتقول ببسمة ساخرة :
وشوفة عينك ، الشيّخ ما كفته سواياه قام هجرّني قسرًا من بيتنا ونفاني في هالصحراء حتى ما ألقى منفذ لمستقبلي
أنهت كلامها لترفع عيناها نحوه ، التقت بعيناه الحادتين المختبئتين وراء صفٍ من رمشٍ كثيف يغزوهما
احتدت نظراتها أكثر وهي تعي النظرة في عينيه ، وما معناها .. ليتفاجأ قايد بها ترمي دلوًا خاليًا نحوه فيصيب كتفه ويسقط بجانبه :
شيل النظرة من عيونك لا أفقعها لك ، ما بعد تعرفني!
هتفت بها في حدة ، وقايد ينظر إليها بدهشته :
أعوذ بالله منش وش دراش باللي وراء النظرات
وقفت تحمل الدلو المملوء بالحليب ، لتقول بابتسامة مائلة :
يقولون عيون الصقر ما تخطي نظرات فريستها ..
تبّسم قايد عن هذا الخاطر وهو يقول بداخله " صدقتِ ..
عيناكِ الصقريتان لا تُخطئان الهدف
وثوريةٌ مثلك لا تتنازل عن الوصول للتغيير !
أشهدك وأشهدني .. أنكِ الصقريّة والثوريّة .. والحُرّة " :
جمّع البيض وحطّه على درج البيت ، ورمضانك كريم
تجمدت أقدامه على الرمل ، وتجمّد الدم في عُروقه وهو يسمع دعوتها الأخيرة التي كررها في نفسه كثيرًا
" رمضانك كريم
.. رمضانك كريم ؟"
أيٌ كرمٍ سيناله وهو بعيدٌ عن موطنه ، مغروسٌ في ليونة الرمل بعيدًا عن خشونة الجبال ؟
أي كرمٍ ذاك الذي يجعله يستقيظ على صلوات أمه ودعوات أبيه وقت السحور وقبل الإفطار
أي رمضان هذا الذي يشهده بعيدًا عن حضن عائلته
لا بد أنهم اليوم سيجتمعون في بيت الجبل
يفرشون " سفرة " بلاستيكية طويلة بعرض المنزل ، يجلسون أمامها وقد حوت سحورٌ فاخر يليق بأول يومٍ في رمضان
لابد أن منزل والده زُيّن بالقناديل والفوانيس على يد أمه وأخته .. ولا شكّ أن الفناء أصبح أكثر تألقًا
سهم انغرز في روحه ، وطعنة شوقٍ أليمة تحيله لقطعٍ صغيرة
أخذته قدماه نحو المكان الذي ينام به ، يستخرج هاتفه من أسفل القشَ
ينظر إلى التاريخ المدّون على 30/ شعبان .. وقد " هلّ هُلال رمضان "
يفتقدهم .. يفتقد وجوده بينهم .. يفتقد ضحكاته ونكاته التي يسكبها نحوهم
يفتقد أمه ، أبيه ، جديّه .. وهي !
أول رمضانٍ يمر دون أن يلتقيها في بيت الجبل ويقول لها بنبرته الدافئة " رمضان كريم بنت عمّي " وبداخله تصدح دعواته مرددة " يا عسى رمضانش الجاي في بيتي " !
شعر بالألم يعتصره مثلما يعتصر هاتفه الآن بيده ، سيُهاتف أهله لا مُحال لتهنئتهم
لكنّ هي .. كيف سيشعر بإكتمال رمضان دون تهنئتها ؟
قادته يداه لصندوق محادثتها ، كتب حروفه بأصابع مرتجفة . بكلمات غصّ بها قلبه وباح بها خاطره
وضع اصبعه على زر الإرسال ، ينظر للمرة الآخيرة إليها
" هلّ هلالك بسماك ، واكتمل قمري بصدري " العبارة التي كان يقولها دائمًا وهو يعنيها بكلمة " اكتمل قمري " حين تقف بجانبه يشاهدان الهلال من فناء بيت الجبل
وبلحظة .. كاد أن يُرسلها لتصل إليها هذه المرة محمولة بالشوق والإختناق ، بالوجد والسهد ، بالحُب والغدر
لتنزلق اصبعه نحو زر المسح ، ويحذف الرسالة وهو يتذكّر أن ما عاد يعرفهم كأبناء عم .. لا زينة ولا حاتم
رفع رأسه نحو صفاء السماء ، ينظر للهِلال الخجول والخافت ، ليهمس بابتسامة مذبوحة :
النّور اللي كان يورثه اكتمال قمرك يا قايد ما عاد هو بنور .. صار ظلام ! لك الله يا قلبي .



-
" زعلانة ؟ "
هتف بها زيد بابتسامة باهتة وهو ينحني ليُقبل رأس أميمة بما يشبه قبلات الاعتذار التي لا تعرف مخرجًا ولا مدخلا
فقط تجد طريقها وسط تخبّط واضح إزاء اللامعرفة!
وهو لا يعرف إن كانت حقًا ( زعلانة أو عتبانة ) ، لكنه يلمح العتاب المحشو في عينيها الواسعتين .. ويعرف تمامًا ما يدور بداخلهما وإن كان الرضى يسكن ملامحها
كان يرجو أن لا تكون الإجابة ( نعم ) فهو صدقًا .. لا يملك في قاموسه أي وسيلة للإعتذار أو حتى ( تطييب خاطر ) !
لذا زفرّ بإرتياح حين أردفت أميمة بابتسامة رقيقة لتحمل بين يديها باقة الورد التي أحضرها :
لا !
كلمة واحدة من حرفين لكنها سكبت مياة الراحة على صدره لتُطفي جحيم ما يشعر به .. لم يزورها منذ أن استأذن حاتم لزيارتها ، لم يجد الوقت الكافي لها
فقد كان ممزقًا محطمًا بين عمله ووالدته وتجهيزات جناحه في منزله
لذلك ابتسم هو الاخر بتبرير :
العمّال في البيت رايحين رادين ، ما بقى شيء على الموعد مع حوسة رمضان والدوام .. تعرفي يعني
هزّت رأسها هي الآخرى مانحةً إياه ابتسامة متفهمة جدًا ، لتُردف :
أعرف زيد ، مافي داعي .. كيف عمتي الحين إن شاء الله بخير ؟
تنّهد حين أتى ذكر والدته ، وإجابته تموت شيئا فشيئًا في داخله
بخير ؟ لا يدري !!
هو بذات نفسه لا يدري إن كانت بخير .. أو تدعّي الخير
بات سكونها وصمتها يرعبه ، يجعله يشعر بأشباح تحوم حولهم ، أشباح ذو رائحة كريهة تصبو في عقله حتى تجعله يستسلم لظنونه الغريبة
وهو بكل جهد يحاول التصدي لها ، ومجابهتها ، ومنعها من جرّه إلى المنحدر :
إن شاء الله إنها بخير
شعرت من نبرة صوته الجامدة بالقلق ، زيد اختلف تمامًا عن ذاك المنطلق ليلة عقد قِرانهم ، ليس شخصيّته فقط
بل حتى إندفاعه ، ونبرة صوته الحنونة ، وابتسامته الرائقة
هتفت بشيءٍ من التوجس والتردد :
زيد .. إذا تبغانا نأجل العرس عشان صحة عمتي ترا الموضوع من عندي عادي ، وأبوي اقترح عليك هالأمر بعد !!
تنّهد زيد ، جاهد على الابتسام في وجهها برقة :
ما أبي نأجله .. أنا لو عليّ خليته بأقرب موعد بس مافي موعد اقرب من بعد ثالث يوم عيد ! أنا أبغى أتطمن على أمي
ووجودش معها بيطمني أكثر .. لأن خالتي صعبة تجلس عندنا كل يوم
رفعت رأسها تنظر إلى عينيه التي اختفى منهما بريقهما حتى باتتا كقبرين باهتين لا يحملان سوى جسدٍ ميت وروحٍ مختنقة
ولأول مرة منذ عرفته تستجرئ وتقترب منه إلى هذا الحد ، حد الذي لاصق كتفها بكتفه لتُربت على يده الساكنة على فخذه وهي تقول بخجل اكتسحها رغم صلابة نبرتها :
إن شاء الله ماعليها خوف ، ربّك معها قبلنا كلنا .. وأنت مو مقصر معها أبد يازيد
همس بشرود وهو حتى الآن لم يعي قربها إلى هذا الحد :
خوفي إني أقصّر معها ، خوفي إن تنتهي حلول الأرض وما يبقى إلا حلول السماء .. والدُعاء
همست بحنان ، شعر أنه اخترق صدره بعد ان اخترقت رائحتها النفّاذة إلى قلبه حين شعر بإقترابها الهامس :
احنا من صغرنا نسمع عن زيد المراهق البار بأمه وأبوه ، عن زيد اللي شايل أمه بكفه والعالم بكفه بعد وفاة أبوه ، نسمع عن زيد الرجل الواصل بأمه رغم قربه الدائم منها .. زيد اللي عرفناه من صغرنا بهذه الصورة عمره ما رايح يقصّر بحق أمه
تدري ليش ؟ لأن من شبّ على شيء شاب عليه .. وأنت من صُغرك في نفس الصورة ، في نفس الإيطار ، وبنفس الألوان
فلا تخاف القصور يلحقك من سلامتها وصحتها ، خاف يلحقك من برها ووصلها
ابتسم بشيءٍ من الامتنان وهو يلتفت إليها بذات ابتسامته التي عهدتها منه .. نظر إلى قربها منه و-شبه- ميلانها على عضده ، ولمستها الحانية على ظهر يده :
من وين سمعتي عن هالرواية ؟
همس بها في خفوت شديد ، لتبتسم هي على استحياء وسط ضحكة صغيرة خرجت منها :
أبوي ، كان يضرب فيك الأمثال لحاتم وحامد !
ضحك هو الآخر بذات النبرة :
الله الله !
ابتسم أكثر حين لمح الاحمرار يزحف لوجنتيها ، واللمعة لعينيها .. هذه المرأة ساحرة حقًا !
لا !! ليست امرأة .. بل طفلة ، طفلة اختزلت سحر طفولتها في عينيها الواسعتين برموشهما الكثيفة ، ولا عجب أن يسقط فيهما شخصٍ ولا ينجو .. فالغرق فيهما مُتعة ! وأي مُتعة ؟
قبض على كفها الساكن على كفه ، التفتت نحوها وكفه الحرة تجوب وجنتها وسط صمتٍ ثقيل يلّفهما
حتى قطعه بنبرته "التي تخصّه وحده" ليُردف بحنو :
أحيانًا القدر يخلينا نستجيب لغفلاتنا ، لمحاربة مبادئنا حتى ما يكون هناك مجال للإستثناء
لكنّ أنتِ يا أميم ، أنتِ الإستثناء الصامد في قرارات حياتي !
هزّت جملته براكين جسدها حتى جعلت حممها تصهر وتذوب
لا شك أن هذه أفضل جُملة سمعتها
فأن يخصها هي بلقب كـ ( الإستثناء الصامد ) لأمرٌ جلل
حين تنظرين لشخصٍ ما بصورة عظيمة تجعله عظيمًا في عينك ،حين تنظرين إليه على أنه مختلف تمامًا عن مساوئ وحسنات الإنسان الإنساني
حين يُصبح هذا الشخص سبيل حلمك ويقظتك وجميع إنتقاءتك الخيّرة !
فقط حينها تدركين كم كان إنتظارهٌ حلوًا ، كم كان طريق الوصول إليه رغم صعوبته " سهلًا " !
ابتسمت وسط دموع عينيها التي أغلقتها خشية من فيضها العامر أمامه وإنهيارها المتماسك
شعرت بقبلته كرفرفة جناح الفراشة على جبينها لتفتح عينيها المبتسمة بعمق مشاعرها التي يعرفها قلبها ولم تعرف الطريق إلى لسانها حتى الآن
وهو الآخر لم يحتج لمعرفة ما يدور في خلجاتها فعيناها روت ما عجز لسانها عن قوله :
الصورة اللي رسمتيها لي قبل ، زيد المراهق اليتيم ، والرجل البار ..لا عُمرش تشيليها من عيونش ! شوفيني دايم كذا
خليني بنفس المكانة وبنفس القدر .. لا تتغيّر لا تتبدل لا تخفت ولا تبهت .. خلّي عيونش مساري
خليني أشوف زيد دايم على حقيقته في عيونش
رفّ قلبها لحديثه الحاني كمثل صوته الذي يشبهه ، تقسم لو كان للصوت قلبًا لأخذ وأمتلك قلبها
صوته " رغم رجولته " مشبّع بحنان غريب لا يعرف دربًا سواه !
هزّت رأسها بإيجاب ، ليبتسم زيد ابتسامة واسعة حملت قدرٍ كبير من الراحة
وقف وهو ما زال يحتضن يدها ؛ قبّلها ليقول بشبه إعتذار :
ماقدر أجلس وقت أطول ، بعد التروايح بيجوا عمّال جايبين أثاث الغرفة
-وبغمزة رائقة-
بنشوف ذوق المدام كيف .. الله يستر عليه
ابتسمت على استحياء وهي تتراجع للخلف ، لتترك يدها يده ودقّات قلبها تكاد تخرج من صدرها
ضحك هو على خجلها البادي ، اقترب مرة آخرى ليقبّل جبينها بقبلة لا تصدر إلا من " زيد " :
دعواتش ، وإذا بغيتي شيء اتصلي فيني .. تلفوني دايم مفتوح
خرج وعيناها توادعانه وتستودعانه وهي تدعو الله أن يخفف هذا الحمل الثقيل الذي يُرهق كاهله
وصل لمنزله في غضون دقيقتين فهو وعد خالته أنه لن يتأخر في لقيا أميمة ، وسيعود بأسرع ما أمكنه وسط تطميناته المستمرة على أختها
دلف إلى الداخل وعيناه تطوفان جناحه الصغير على يمين المنزل وابتسامة صغيرة ترتسم على شفاته
من كان يصدّق أن القدر سيجمع بينه وبين أميمة .. أنه رغم إعتزازه بنفسه واعتصامة "بقدر نفسه" لم يفكر قط فيها
ما إن دخل الصالة حتى سقطت عينيه بعينيّ والدته التي أدمعت فور دخوله وتبعتها بدموع ساقطة ونشيج خافت
الأمر الذي رسم الحزن على ملامح زيد بشكل واضح
لم يكن ما أبكاها هو خوفها هذه المرة ، بل رؤية زيد يدخل بهذا الشكل وكأن على ظهره طوب فوق طوب فوق طوب
حتى تشكّلت بناية عامرة بالأسى والهمّ والكهولة المبكّرة
أوجعها قلبها على ما جعلته يعيش .. فبكت
ولم تكن تملك إلا البُكاء على مصابه :
لا حول ولا قوة إلا بالله ، يا أختي ياحبيبي الرجال عريس يبغى زغروطة فرح ما يبغى دموع فرح
هتفت بها نعيمة أخت نِعمة التي باتت تجيء إليهم كل يوم من الصباح وحتى المساء بشيءٍ من المرح
ليقترب زيد من والدته وهو الآخر احتكر دموعه بعينه هامسًا في إذنها :
أدفع عمري فدا في سبيل هالدمعة ، خبريني يا أم زيد من شقّها من عينش وعينش ما عرفت إلا الفرح وسط كومة ابتلاءات عشناها ؟
صمتت دون رد ، وصمتّها أضاف طوبة آخرى إلى بناية همّه وخوفه عليها :
يمه والله العظيم لتقولين اللي مزعلش إني لأجيبه قدامش عشان يبرد خاطرش .. حلفت يا أم زيد فـ ريحينّي
كتمت نشيجها وابتعدت عن حضنه ،
جاهدت على رسم ابتسامة لكنها لم تقدر
قلبها يؤلمها .. يؤلمها بالمعنى الحرفي وليس المعنوي ، تشعر به مقبوض ومتصدع
كمن جاهد سنوات طويلة على ترمميه وتصدّي الأحزان والمآسي وعند أول مفترق طريق قاسي .. تصدّع
مسحت دموعها بباطن كفها ، لتُهمس بخفوت متشبع بالوصب:
يومك دخلت كأني شفت عبدالله داخل من عمره ، اشتقت لأبوك وأنا أمك .. اشتقت له
رسم ابتسامة صغيرة على وجهه وهو يقبّل جبينها :
كلنا لها يمه ، كلنا لها .. الله يتغمد روحه الجنة قولي آمين
همست بآمين خافتة وعيناها تجوبان ملامح وجهه شبة الشاحبة ، لتُردف بابتسامة مصطنعة:
بتتعشى ولا تصلّي التروايح أول ؟
نزع "كمتّه" من رأسه واستلقى على قدميها مغمضًا عينيه :
باتعشى فديتش ، بنشغل بعد الصلاة ما راح ألقى وقت لعشاي
وقفت نعيمة بابتسامتها الحانية :
ارتاح حبيبي ، بجيب لك عشاك الحين
مسحت على شعره الذي لم يرثه منها ولا من عبدالله ، وكلّ مافيه من طوله وجسمه وملامح وجهه لا تُشابه إلا زيد وحده
لا غير تلك " الشامة " التي تعلو حاجبه الأيمن ، أخذها من والده
ظلّت تنظر إليه من الأعلى وتمسح على شعره باستمرار حتى شعرت به يدخل في غيبوبة نوم قصيرة ، لولا صوت تمتماتها التي وصلت إلى أذنيه فابتسم على أثرها :
وش تسوين يمه ؟
أردفت ببساطة وهذه المرة تبتسم ابتسامة حقيقية :
أرقيك !
تناول يدها وقبّلها بعمق بذات ابتسامته دون رد ، وصوت همساته يتردد بداخل صدره حمّلت كل أنواع القلق والراحة ، الشوق والحسرة ، الشجن والسكينة
كل شعور يناطحه شعور آخر مضاد له يعدو في صدره الآن عَدوَ الحصان في سباق الحيّاة .. ولولا تلك الرغبة بالظفر لما استكان لبعض الوقت ولما ترك لمجرى الأيام حكمًا عليه
ولكنّها السكينة .. سكينة "عبدالله" التي يشعر به تحيط فيه الآن من كل جوانبه وتهديه إشارات العِتاب والرضى ..
فهتف هامسًا بصوت لم يصل لوالدته :
نام مرتاح يبه ، لآخر يوم بعمري .. أمي أمي !



-
" أنا عارفة هالسرحان يودي لطريق واحد ، ولا أقول لشخص واحد ؟"
اتسعت ابتسامة أميمة على هِتاف حنان بنبرته المرحة وهي تراها تنزع عباءتها وتضعها على طرف الكنبة التي تجلس عليها
فوقفت واحتضنتها بشدّة ، مردفة بضحكة قصيرة :
يالسكنيّة ، وأنتِ ما تجين إلا في التوقيت الخطأ ؟
أردفت حنان بغمزة عين وعيناه تحيدان نحو باقة الورد الرائعة بجانبها :
قصدش في التوقيت الصح ، أخيرًا روميو زارش من بعد الملكة ؟
في لحظة واحدة اختلفت ملامح أميمة البراقة إلى آخرى شاحبة وباهتة الأمر الذي لاحظته حنان مما استدعاه لسؤالها بقلق :
أميم وش فيش ؟ أنتِ من جد ماخذه في خاطرش عشانه ما زارش من بعد الملكة ؟
تنّهدت الآخرى بفتور ،
ويداها تلعبان بدبلتها الذهبيّة في اصبعها :
لا حنان من جدّش أزعل عشان هذا ، يمكن صح عتبت عليه في البداية بس أنا عاذرتنه .. ظروفه أقوى مني ومنه
مسحت على طول ظهرها بحنان يُذكرها بحنانه هو لتُردف بحذر :
تقدري تقولي لي وش اللي مضيّق خاطرش عيل ، أنا أختش !
رفعت عيناها كمن يستنجد بآخر قشّة ، كمن يهرع للإمساك بطرف الحبل حتى يصعد من غريق البئر الذي وقع فيه
ولا تدري أي بئر هو ؟ بالطبع ليست نادمة على إقدامها لهذه الخطوة ومشاركة زيد حياته
ولكن لا تدري لما "وياللاسف" بشكل عامر يخترقها كلام زينة وهي تقول لها بصريح العبارة ( الحُب ما يوكل عيش )! وهي حقًا بدأت تخاف من أن "حبها" الذي من طرفٍ واحد لا يكفي لتلقيمها لُقمات العيش الرغيد بصحبة زيد . بل يبدو أن هناك تنازلات كثيرة ستضطر للولوج إليها :
أحاتيه !
همست بها بخفوت ؛ بعيدًا جدًا عن الإجابة التي ودّت قولها .. فهي تعلم أن حنان ستعطيها نصيحة في الصميم وربما قد تؤلمها .. ولم يخب ظنها حين هتفت حنان بجدية ممزوج بحنانها :
ومن طلب منّش تحاتيه ؟ سمعيني أميم وحطّي كلامي ذا حلقة في إذنش
الرجال ما يبغى منش تحاتيه وتفكّري فيه ، الرجال يبغاش تسانديه وتطلعيه من دائرة همومه وأفكاره بالحلول .. لا تزيديه همّ فوق همه بتذمرش ومحاتاتش وتعبش على مأساته
خليه يعرف إنه أختار زوجة قوية ، وصديقة مُساندة ورفيقة عُمر له مثل الحصن
أنتِ ندمانة على اختيارش له ؟
اندهشت أميمة من مباغتة حنان بسؤالها الأخير ، لتردف بذات دهشتها :
لا طبعًا !
حينها ابتسمت حنان بابتسامتها الخاصّة ، المازجة بين جديّتها ومرحها :
زين ، أساسًا أنتِ ماعليش خوف .. أكثر وحدة من بيننا حقانيّة -وبهمس خافت شبه حزين- لولا خنقة حاتم وحامد عليكن ونفضة قلوبكن كل ما شفتنهم
-وبنبرة أسى مختلطة بالحزن- وكله بسببي
ربتت أميمة على ساقها بشيء من المؤاساة:
لا تفتحي دفاتر مسكرّة يا حنان .. حامد نسى اللي كان وهذا أنتو سمنة على عسل
تنّهدت الآخرى بأسى غامق :
وحاتم ؟ أبوي ردّني لحضنه .. حامد لمني لصدره ، وحاتم ؟
من جيت هنا ما شفته إلا مرة وحدة وهذه المرة كان ودّه يذبحني فيها لولا وجود أبوي !
اقتربت منها أميمة ، احتضنت كتفها بذراعها لتُهمس بعتاب مخفي :
لا تلوميه ، حاتم عاملنا مثل المذنبين وخلانا دايم في موضع المشتبهين ..وطول هذه السنين بين مد وجزر
لا هو اللي عاقبنا ، ولا هو اللي اعتقنا
ابتسمت حنان ابتسامة صغيرة :
بس فيه أمل ؟
تراجعت أميمة للخلف وهي تهتف بمرح :
أنا معلقة آمالي على زينة ، لو بنت عمش ما ذوبت الجليد اللي بداخله فما هي بنت مرشد اللي نعرفها
ضحكت حنان ووجهها المرح عاد لها لتهتف :
أما على بنت عمي فهي ذيبة من ظهر ذيب ، وظنّي إن حاتم القديم بيطلع من قبره على يد معجزة منها .. وقولي حنان ما قالت
-تلفتت حولها ثم أردفت بتساؤل مرح-
أمي وينها عندي لها بشارة وأبيها على يدها ؟
شهقت أميمة بعدم استيعاب وكادت سترد لولا حامدالذي نزل قافزًا من السلالم وهو ينادي بصوته العالي المحشو بالفرح والفرج وخلفه علياء الضاحكة على جنونه الغريب لشخصيتّه المجندة
وقف أمامهن وهو يتنفس بسرعة عالية وصوته يتعالى :
وين أمي وين أمي ؟
وقفت حنان هي الآخرى لتواجهه بذات مرحها :
وعليكم السلام والرحمة ، فديتك يا أخوي حتى أنا اشتقت لك
تجاهلها وهو يلحث بعينيه عن والدته علّه يجدها لتشاركه الفرحة التي خضّبت قلبه .
فكم عامٍ مرّ على روحه الجدباء وهو يرتجي الفرحة عامًا بعد عام ، يرتجي الصفح والغفران يومًا بعد يوم
يرتجي الأمل الضئيل الذي يسمع به في آخر النفق ، وها هو ذا الأمل شعشع من آخره لمّا وصل إليه بنفسه
رأى خروج والدته من إحدى الغرف ليتقدم نحوها بإندفاع وهو يقول بنبرة حملت الكثير من اللهفة :
يا " ستّ النساء " أبغى بشارتي !
ابتسمت أم حاتم وهذه الفرحة لا تُخطئها عيناها لتُردف :
فلوسي في البنك والذهب في الخزنة
تعالت الضحكات من وراءه مصدرها أميمة وحنان .. وعلياء المصطبغة بحمرتها الخجول :
يممماه ، وش شايفتني ؟
هتف بها بإمتعاض مصطنع وعيناه "تضحكان" يالله ما أنقى شعور ضحكات العينين بعد طول شجن :
عيوني لكم كلكم .. تكفيك عيوني ؟
قالتها أم حاتم وسعادة ابنها تسللت لقلبها كفايروس رقيق قالت له أهلًا ومرحبًا إن كان سينشر في أوردتها هذا الشعور
ليردف حامد بسعادة غامرة :
أبشرش بتصيري جدة بعد تسع شهور !
أدمعت عينا أم حاتم تلقائيًا من هذه "البشارة" التي لطالما انتظرتها طويلًا
فانتظار ابنها كان من انتظارها هي .. ورغبة زوجة ابنها من رغبتها هي !
تمنّت لهم ودعت لهم كما لم تتمنى وتدعي من قبلُ لأحد
فعزّ عليها حزنهم .. وعزّ عليها أساهم !
تمتمت بالحمد والشكر مرارًا وتكرارًا حتى شعرت به يحتضنها بقوة غامرة ، قوة أوشت برجفة بحامد الذي يغرق في بحر مشاعره الآن
تقدّمت منهم حنان لتحتضن كتف والدتها وبنبرتها المرحة المعتادة :
أولًا لعلمك يا أخوي ترا أمي جدة من زمان ، ماتقدر تسحب صك ملكيّة الأحفاد من أولادي لولدك اللي ما بعد جاء
نظر لها حامد ، مردفًا بذات مرحها الذي يُحب جدًا :
وثانيًا ؟
نقلت نظرها بينهم للحظات ، ثم أردفت بسعادة ومرح :
ثانيًا بنتقاسم صكّ إثبات الملكية بين وبينك ..
-وضعت يدها على بطنها بابتسامة خجلى-
أنا حامل !


انتـهى ❤

NON1995 likes this.

الكاديّ غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 11-06-22, 11:22 PM   #85

الكاديّ
 
الصورة الرمزية الكاديّ

? العضوٌ??? » 490082
?  التسِجيلٌ » Jul 2021
? مشَارَ?اتْي » 300
?  نُقآطِيْ » الكاديّ is on a distinguished road
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم

*
*

لا تلهيـكم الرواية عن الصـلاة

*

الفـصل الثامـن عشـر



شهقت أم حاتم وهي تشدد احتضانها لحنان ، إن كانت شعرت بالسعادة تغمرها من انتظار ابنها لطفله أخيرًا
فقلبها تلّون بالغبطة لحمل ابنتها .. همست في إذنها بصوتٍ متهدج لم يسمعه سواها :
الله أراد تجيبي 3 وأنتِ بعيدة عني .. واليوم الله يهديني هالفرحة وأنتِ في حضني ! ياربي لك الحمد والشكر
اختنقت حنان بدمعها وكلام والدتها يذكرها بذّنبها القديم ، ذنب هروبها برفقة عبدالمجيد وإنقاذ زواجها من الهدم
لكنّ نبرة صوت والدتها أنستها ما كان من ألم وما سيكون .. بل لن يكون هُناك سوى الأمل
بارك لها حامد بضحكاته المندهشة ليردف :
ما شاء الله عليش أنتِ وأبو سيف اخترتوا التوقيت الصح تمامًا ، مالي فكّة منش الظاهر لا أنتِ ولا أولادش
ضحكت هي الآخرى ، تدفّ كتفه بشبة دفاشة :
احنا دايم في التوقيت الصح ، واحذرني ولدك ينافس الشيوخ عيال عبدالمجيد .. ترا المنافسة من الحين بتصير فاشلة
تعالت الضحكات من حولها لتأمرهم والدتهم بالجلوس حتى يحتفلون بهذه المناسبة ، فتعذّرت حنان بعجلتها وإنتظار عبدالمجيد لها فهم سيعودون أخيرًا لشقتهم
قادها حامد للخارج ويده تحتضن كتفها ليُردف بجدية حانية :
المرة الجاية لا بغيتي تجي عندنا ترا بيتنا أوسع لش من قلوبنا
غرفتش موجودة ، وإن بغيتي نأثثها لش ولعيالش فما طلبتي شيء
ابتسمت بحنّو أخوي عميق :
الله يخليك لي فديتك ، حتى وإن جيت ما أظن إني بطوّل مثل هالمرة
عبدالمجيد استنزف إجازاته والعيال محبوسين هنا لهم فترة
-ثم التفتت له بمغزى-
بس بانتظر زيارتك لبيتنا المتواضع ، خلي بركتك تنوله
حافظ على جمود ملامحه لوهلة ، فعلاقته بعبدالمجيد ما زالت كما هي قبلًا .. يعجز عن مسامحته وخنجر غدره ما زال مغروسٌ في ظهره وينزف
لكنّ حنان علمت ما يجول في خاطره ، فلذلك أردفت بجدية :
أظن جاء الوقت عشان تصفّون اللي بينكم .. إذا كان لأختك خاطر عندك
التفت لها بجدية أكبر :
لا تحاولي تستخدمي ورقة غلاش عندي وتساوميني فيها ، أنا أفهم رغبتش في إصلاح اللي بيني وبين زوجش
بس مب الحين .. مب الحين يا حنان
اجترعت غصّة كادت تخرج من حلقها لتردف بعتب :
إذا مب الحين ، متى ؟
تنّهد حامد وهو يقف مواجهًا لها وكفّاه على كتفيها :
الأيام كفيلة بمداواة الجرح ، والجرح لابد يتحول بيوم لندبة
همست حنان بخفوت مؤلم :
تقصّ على نفسك بهالكلام يا حامد .. الندوب مهما اختفى ألمها ، فأثرها يبقى يذكّرنا باللي مضى !
رغبتك بس هي اللي قادرة تحوّل الندوب لذكرى .. إما سعيدة أو تعيسة
ربّت على كتفها بابتسامة ، منهيًا النقاش في هذا الموضوع :
أبو سيف وصل ، روحي له ولا تنسي توادعينا قبل لا تروحي
-قبّل جبينها ثم ابتعد بخطواتها-
وجيبي سعود السكنّي ، ما شفته من كم يوم !
تنّهدت حنان وهي تُتابع بذبول ظهره المنصرم
واختفائه خلف الباب ليتركها وحيدة وسط منزلهم ورغباتها تتصارع حولها
بين إنكسار زوجها وكرامتها المهدورة ، وبين جرح أخيها وشعوره بالغدر
خرجت لعبدالمجيد ثم ركبت سيّارته ، ردت على سلامه الشغوف بشرود لم يلتقطه !
هي وحدها المحطمة هُنا .. هي شاركت روحها ألمها واحتوته قبل أن ينقضّ عليها وينهشها كمدًا
لكنّها اليوم ما عادت قادرة على هذه الفجوة الكبيرة بين أعز اثنين على قلبها .. أصبحت تشعر بالوهن ! باتت مشاعرها تتصارع وتتقاتل وتتناحر في ما بينها
أيُحتم عليها أن تُجابه الأسى بكل قوتها ، وعند أول نقطة ضعف تنهار ؟
وقبل أن يتحرك خطوتين أوقفته حنان بيدها التي وضعتها على يده لتُردف بإختناق :
لحظة مجيد !!
التفت لها عبدالمجيد والقلق تسلق لأسوار قلبه من نبرة صوتها التي لم يستشعر سوى في سنواتها الأولى
لتُكمل وهي تنظر له بعينين ملؤها الدموع :
لو جاك رزق من الله ، وفي نفس الوقت سبب إنك تمحي القطاعة وتوصل خيوط الوصل يا ترى وش بتكون ردة فعلك ؟
فهم شطرها الأخير جيدًا ، وكبت جماح ضيقه وغضبه
فحنان في كل مرة تعود فيها من منزل والدها ما تنكفئ عن فتح هذه السيرة :
وش الطاري يا حنان ؟
قالها بنبرة محايدة رغم حنيّة ملامحه ، نبرة باتت تسمعها كثيرًا في الآونة الاخيرة
تناولت يده .. ووضعتها بكل رقة على بطنها وهي تهتف رغم ذلك بابتسامة مرتجفة :
ولدنا ما يستحق المخاطرة عشانه ؟ ما يستحق إنه يشوف أبوه وخاله على حُب ووفاق !
راح من عُمرنا 5 سنين يا مجيد ، لا تخلّي السنين الجاية مرتع آلامنا في أعمارنا وعيالنا .
تجمدت يده على بطنها وعيناه على عيناها الدامعتين ، لم يستوعب حتى الآن ما تقول أو ما تهذي فيه بالأصح
أكملت هي بإصرار عميق :
اللي بينكم ما بيتصلّح لو ما اتخذ واحد فيكم خطوة صغيرة لإصلاحه ، أما اثنينكم تشدّون الحبل من كل صوب بعنادكم فهذا ما ينفع !
همس والصدمة ما زالت تشلّ حركاته :
أنتِ حامل ؟
ابتسامة ابتسامة صغيرة شغوفة :
حامل من 4 شهور تصدّق ، أول حمل يمر عليّ ما تكشفني فيه قبل نفسي .. وأول حمل يمرّ علي بهالخفة
حسيّت فيني مجيد ؟ حسيت بروحي كيف لقت سلواها وانعكس أثره على جسمي ؟
-شدّت يده التي على يدها بقوة-
مجييد .. عطي نفسك فرصة ! التسامح والغفران عمره ما كان ضعف للرجولة
على العكس ، أنت بتكبر في عيني وفي عين أبوي ! وتكسر خجل حامد من إقدامك
سحب يده من يدها ، قبّلها بعمق وفرحته الآن لا توازيها فرحة
عاش هذه السنوات في تخبّط بين نعيمٍ دائم وجحيم منقطع
ساند حنان بكل خطواتها وقراراتها التي اتخذتها بقوة شخصيتها
فهو يعترف؛ لم يكن ليسقط في شبّاك هواها لو لم تكن بهذه الشخصيّة القوية المختلطة بمرحها
أهدته 3 نِعم .. وسنين بين مدٍ كان هو في جسرًا ، وبين جزر كانت هي له إنقاذًا
بارك لها بوافر الحُب في قلبه لها .. وتمتم بنبرة تنمّ عن سعادته متجاهلًا موضوعها التي تتحرقص إليه :
الحمدلله الحمدلله ، الله يطلعش بالسلامة أنتِ وهو !
شدّت على كفّه بتأثر ، ما بال هؤلاء الرجال يتجاهلون أهم موضوع تُريد أن تجد له حلًا
فآنًا حامد ، وآنةً أخرى عبدالمجيد :
جاوبني على أسئلتي ! لا تعلقني بين شدة أحبالكم تعبت أحاول أرخيها لكم ..
تحرك بسيارته وهو يصدّ عنها ويقول بجدية لا تقبل النقاش :
تنسيّنا الأيام يا أم سيف ، تنسيّنا وتداوينا
وكأنهم اتفقوا على إجابة واحدة مثلما اتفقوا على إصرارٍ واحد فكيف يا ترى ستستطيع إستمالة هاذان الجبلان دون أن تنحاز لواحدٍ دون الآخر
آثرت إستخدام آخر ورقة في ساحتها ، لعبة عاطفية لا تجيد سواها كإمراة :
بينك وبين حامد ، أنا ! إن طال عنادكم وتصدّع وصلكم فاثنينكم راح تخسروا وجه حنان اللي تقابلكم فيه
أنا مب مستعدة أخسر نفسي وولدي في معركة أطرافها مالهم رغبة في القِتال ومحاربة أهوائهم لمجرد فرض سيطرة
التفت لها بنبرة حادة تنمّ عن مدى صبره وحِلمه ليهتف بجدية ملامحه :
أنا و"نفسش" فاهمين المغزى من وراء كلامش يا أم سيف ، خاطرش عندي ما يتساوى بمال و بنين ولا أرخصه لو دوني ودونه روحي
لكن الأصول أصول ، وإن كان أخوش ضيّعها قبل سنين فأنا ما زلت محافظ عليها
كتمت وجعها في صدرها ، ما ظنّت يومًا أن عبدالمجيد الذي طالما حملها على أكف الراحة سيرفض أن يهديها لها بعد هذا العُمر ، واستنبطت مدى جرحِه .. وهي لا تلومه
بل لام الله من لامه ! قد ترى الأمور من منظورها تافهة بمجرد عودة مياه مجاريها بأخيها .. لكنّ عبدالمجيد يملك وجهة نظر آخرى
وهي بذلك لا تستطيع إلا الوقوف في الحياد ، والمقاتلة حتى الظفر



-
دوى صوت الجهاز على حوض مغسلة دورة المياة مرددًا صداه ، لتستند زينة بظهرها على الجدار وتجلس على الأرض بجسدٍ مُرتجف
سلبية !
نتيجة اختبار الحمل رقم عشرة ، أو خمسة عشر .. أو ربما مئة سلبية !
تمتمت بالحمد والشكر في داخلها ، وعجبًا لها .. فهي لا تتمنى الولد من حاتم في هذا الوقت بالذات
ليس قبل أن تستعيد نفسها وتنتشلها من ماضيها
ليس قبل أن يتداوى حاتم من ماضيه ويركله بقدمه
ليس قبل أن تحدد مشاعرها إتجاهه .. مشاعر مضببة ، مشوشة .. لا اسم لها ولا معنى
مسحت على وجهها بكفيّها ، وعيناها معلقتان على أرضية دورة المياة ، وفي داخلها تتساءل
لما لا تاخذ مانع حمل وترتاح من هذا التوتر والقلق الذي يعقب كل دورة شهرية لها ؟
وكأن الجواب يطرق رأسها بمطرقة حادة .. حاتم !
حاتم بتصرفاته ، بإندفاعه ، بعاطفته المشتعلة ، برغبته المصرّحة في طفل
نعم .. فأكثر من مرة قد صرَح لها عن رغبته في طفلٍ منها .. الرغبة التي كادت تقسم قلبها وظهرها شطرين
ربما يندفع حاتم أحيانًا بعاطفته ويغلبه شعور الأبوة فيدعو بالذريّة .. لكنّها تفكّر ألف مرة قبل الخطوة بعقلها
أجل عقلها الذي سهّل لها اختيار زواج حاتم " التقليدي " بدلًا من اختيار زواج قايد " عن حُب "
وقفت على حيلها هامسة بينها وبين نفسها :
كلٍ له أماني ، وكل شيء عندك بمقدار .. فيّارب عطني وإياه فرصة قبل النِعمة
وقفت بطولها ، حملت جهاز اختبار الحمل وآثرت برمية في نفاية آخرى غير تلك التي أمامها كي لا يراها وتفتح عليها باب السين والجيم
حملت نفسها إلى غرفتها المجاورة .. غرفة ذكرياتها
أغلقت الباب من خلفها وأشعلت المصباح اليتيم "مصباح النوم" القديم بلونه الأصفر المزعج
وراحت تجلس على الكنبة الوحيدة الموجودة هُناك .. أمامها صندوق الصور التي تتطلع إليه في كلّ مرة تعتزل فيها هذه الغرفة
سمعت طرقات خفيفة على الباب لتخرج منها تنهيدة قصيرة
رغم كل المشاعر المضطربة التي تخوض حربها برفقته
إلا أن هُناك امتنان صغير يجوب صدرها لإحترامه لهذه العزلة التي تقضيها .. فهو " مشكورًا " لا يدخل عليها إلا بإستئذان وبعد طرق الباب
أذنت له بالدخول ، ليدخل متعكّزًا بعكازه ونظراته تقع على نظراتها دون زحزحة
جلس بجانبها دون صوت ، محترمًا صمتها بعد إختراقه
لتشاركه هي الصمت حتى عدّت الكثير من الدقائق الطويلة
قطعه هو حين تناول ألبوم صور قديم ، يقلبّه بين يديه وراح ينظر إلى صوره
ابتسامة صغيرة نمت على ثغره ، الألبوم يعود لعمّه مرشد
بطولاته ، مغامراته ، جوائزه القيّمة التي حصل عليها من الطبيعة
انجازاته وافتخاره بأدوات الصيد التي صنعها بنفسه
كم كان عمّه صيّادًا ماهرًا ، ومغامرًا فذًّا ..
أماله بنظره نحوها في شعلة طويلة لا يفقها سواه ، ليُهمس :
تشبهيه واجد !
لتقول بلهجة مزردية وساخرة رغم حيادية النبرة :
المحبة تورث الشبه !
علم ما تعنيه تمامًا ، كيف لا وهو يشعر أنه أصبح مرآتها وجميع مكنوناتها :
الله يرحمه كان بشوش وفيه رجولة مسليّة ، رغم إنه أوسط أعمامي ولكن كان الأقرب لنا حنا يا عيال أخوانه
قالها لتلتفت نحوه بلهفة الجائع والعطشان لاقتناص ما يودّ .. وهي تُريد سماع سيرة والدها بغير لسانها
كأنه علم بما تبتغيه ، فاتكأ بظهره على الكنبة ، ناظرًا أمامه بابتسامة "نادرة":
كان يكرر لنا كثير ( الظفر عمره ما يطلع من اللحم ، والدم ما يصير ماي ) هو أول واحد فكّر يجمعنا أنا وعيال عمي في صف واحد
أول رحلة طلعناها معه وحنّا طلاب في الثانوية ..
أول قنص ، أول مسكة سلاح ، أول ضرمة نار
كان يقول لنا الرجال ما تربيّه المجالس ، الرجال تربيه الطبيعة
تربيه الجبال ، الصحراء ، رمل البحر وجوفه
كانت أول وآخر طلعة جمعتنا معه لأن قايد انصاب يومها
-ابتسم بشبه ضحكة-
طول طريق الرجعة كان يسفّل فينا رايح راد .. أنتو دلوعين ، أنتو عيّارين ، أنتو يبغالكم خيزران على ظهركم
والمسكين قايد ساكت وجع من الضربة ، وخوف من النقاش
لكن رغم ذلك كان أحنّ منا علينا
سكت قليلًا، قبل أن يسترسل في ذكرياته مع عمّه مرشد التي سقطت واحدةً تلو الآخرى
وتلك التي بجانبه غارقة حتى النخاع بوجع اشتياقها وعيناها مغرورقتان بالدموع المكبوتة :
كبرنا ، وكبرت أشغالنا .. توظفنا وما نسينا وسط حوسة التعب نتجمع كل نهاية أسبوع في السيّح ، نضرم النار مثل ما علّمنا
أحيان كثيرة نطبخ بنفسنا .. مثل ما هو علمّنا
وكبر هو ، إلا إن روحه ما كبرت ولا عرفت معنى الكهولة !
لاذ بالصمت مرة آخرى ؛ وكأن الجزء الآخر فُقد جراء ذاكرته المعطوبة
ما عاد يتذكّر الكثير ، خصّ أن بعد وفاة عمه بشهور قليلة تعرض هو لحادثه المسموم .. وهو شاكرٌ لذاكرته التي ما زالت محتفظة بتشوّش الموقف الآخير
حينها التفت لها عن قُرب ، رأى الدموع المتلألأة في عينيها كنجومٍ براقة وسط سماءٍ صافية
وأيقن أنه أسهب في سرد بعض الذكريات حتى أصبحت كالطعنة في قلبها
مسح أسفل عينها ملتقطًا الدموع قبل سقوطها هامسًا :
سيّرته الطيبة ما زالوا يتناقلوها مثل النار في الهشيم
-وبابتسامة أعمق-
وعنده "ولد صالح" ما زال يحيي ذكراه ويقدّسه ليومنا هذا
مثله ما يُبكى ويُرثى يا زينة .. مثل يوضع مثل النُصب للاقتداء فيه
أشاحت بوجهها وهي متلبسّة بصمتها ، احترامًا لوجودها في غرفة لا تتحدث فيها إلا الصور والبراويز و"أشرطة الكاسيت"
وضع الألبوم في حضنه ، قلّب الصفحات واحدة تلو الآخرى
جميعها كانت لمرشد وسط مغامراته ، إما لوحده أو بصحبة أصدقاءه المهوسيين بالصيد
أشرّ بإصبعه لشخص كان يقبع يمين مرشد ، ممسكين في أياديهم بـ" ضبّ " كغنيمة أسرّت قلوبهم ، هاتفًا بدهشة :
أوه ! أبو بدر الطيّار
نظرت له زينة بإستغراب لتُردف :
تعرفه ؟
ابتسم بشبه سخرية ممزوجة بمرح غريب عليه :
من جدش ما نعرف أبو بدر الطيّار اللي سوى عزيمة لمدة ثلاث أيام وراء بعض لما جاب ولده شهادة الطيران ؟
بس غريب ماله حسّ !
أردفت زينة ببساطة وهي تسحب الألبوم وتضعه في الصندوق برفقة أخوانه:
نقل من بيته من سنين ، ومحد ساكن فيه إلا أم عياله وبعض عياله بعد ما طلقها !
هزّ رأسه في أسى ، ثم ما لبث أن عاود الالتفات نحو زينة وعاودت نظراته " الغريبة " التي رمقها أول ما دخل
نظرت له الآخرى بتمعنّ ،
وهي تشعر أن اقتحامه " المؤدب " لعزلتها تكمن وراءه سرٌ ما ، وأن هذا النظرة "المسودّة" التي تعتري وجهه لا تُنبئ بخير :
تبي تقول شيء ؟
قالتها وهي ترمقه بجدية من عرف الجواب ، فلا مجال للّف والدوران ، ليُهتف هو بغموض :
ما اشتقتي لحسن ؟
تجمدت للحظات وارتجف قلبها بلهفة، لتقول بجمود وسط فوضى أحاسيسها:
وش الطاري ؟
هزّ كتفه بخفة مردفًا :
طرى على بالي ، من تزوجنا ما سمعتش تقولي إنش تبي تشوفه أو تزوريه حتى
لتردف زينة بذات الغموض :
بعض الأسئلة مثل الطُعم ، عارف إنك قريب من الموت لكنّك تسعى له
حاتم بجدية ملتفتًا نحوها :
موقفش غريب ، مثلش ما يخاف التجربة ويسعد بشرف المحاولة ولو كانت الجحيم بعينه .. بس كل ما يتعلّق الموضوع بأمش فأنتِ تصيري وحدة ثانية
وديعة ، مرتبكة .. ويمكن خايفة
تنافرت تلقائيًا أجسادهم كمن تنبأ بالخطر ، لتقول زينة بجمود:
وحدة مثلي ما تخاف من التجربة ، لأن ياما صفعتها نتايج التجارب اللي خاضت فيها بعزمها
نظر لها مليًا ليقول بتفكير :
وش سبب استسلامش ؟
وقفت من مكانها قائلة بنبرة ميتة :
العقوق !
أرمقها بنظرات مدهوشة للحظة من تفكيرها الذي بدا لها غريبًا ، لتُكمل هي بعد أن أولته ظهرها بذات النبرة الميتة والروح الجامدة :
ذكرياتها في الصندوق ، تذكرني بالعقوق
هتف بعدم إستيعاب :
الصندوق ؟
لتُهمس زينة بصوت منخفض بشدة ونبرتها تطفح من الوجع والأسى :
تحت غافة العزم دفنت الصندوق
بدا لها أنه لم يسمع ما قالت ، ولم يستشعر نبرتها الحارقة ، ولم يتنبأ بإنهيارها القادم ففجّر قنبلته التي جاء لإلقائها اليوم:
قابلت أمش !
التفتت له بحدة ، ناظرة له بدهشة أشبه بالصدمة ، اقتربت منه خطوات ضئيلة لتقف أمامه مباشرة هاتفة بنبرة محتنقة:
ليش ؟
لم يستغرب سؤالها للحظة ، بل سطّر لها الأعذار والاحتمالات الممكنة ، ليُردف ببساطة :
حق وواجب !
ونبرة ساخرة أردفت زينة :
حق ؟
عقد حاجبيه منتبهًا لنبرتها التي مالت للسخرية ، وعيناها الملتمعتان بقسوة فقال بثبات نبرته :
لي حق عليها ، أم زوجي وزوجة عمي !
زينة بذات النبرة القاسية الجامدة :
طليقة عمـك !
ازداد انعقاد حاجبيه أكثر فأكثر ، بدا له أنه لأول مرة يرى هذا الجانب من شخصيتها ، فتساءل :
مافكرتي تدوري على الحلقة المفقودة بدل لا أنتِ جالسة تدوري حولها ؟
زينة ونبرتها تزداد قسوة ، كقسوة من وُضع في التحقيق على جريمة لم يرتكبها أصلًا :
مثل ايش ؟ مثلًا إن زواج أمي وأبوي جاء بالإجبار ونتج عنه أنا وأخواني ، أو اعتمادها على أبوي لتربيتي أنا والحارث بظنّها إننا عيال مرشد مب عيالها ، أو مثلًا تباعدها وعصبيتها وضربها لنا في غياب أبوي وجدي ؟
أو ممكن تكون الحلقة المفقودة يا ولد عمي هي ورقة طلاقهم بعد ورقة زواجي أنا ؟ أو ...
قاطعها وهو يقترب منها بلهفة المستكشف ليقول ؛
أو الضغط الخارجي اللي كانت تتعرض له طيلة فترة زواجها من عمي
عقدت حاجبيها بقوة عند كلامه الأخير ، ليُكمل حاتم بذات اللهفة :
اللي لازم تعرفيه إن مافي أم تكره عيالها ، مافي أم تتخلى عن عيالها .. هذه فطرة الأمومة يا زينة ، فطرة ما تحيد عنها الأم إلا إذا تعرضت لشيء كان أقسى من استدامة هالفطرة
شدّت ظهرها واستقامت به لتقوم بنبرة جادة حادة :
أمي محرضة من خالي !
هزّ رأسه نافيًا ما تقول ، هو قابل والدتها قبل يومين ، صوّر لها عشرات الصور قبل اللقاء .. رغم أنهم كانو يعيشون بجانب بعض ويلتقي ربما فيها كل يوم وكل أسبوع ، لكن في كل مرة كانت ذابلة ، هامدة ، صامدة ، وراضية بإباءها الذي رأه عند اللقاء
لكن "مريم" التي لاقاها كانت صورة مختلفة تمامًا ، اندهشت من رؤيته ، بل انصعقت بشدة
احمّرت عيناها عندما رأته ، وتكاثفت الدموع فيها فور دخوله .. لا يستطيع نسيان إرتجاف نبرتها ، وهزة جسدها
لا ينسى تلك النظرة العجيبة التي شعر بها تستنجد به ، وترتجيه من أن ينتشلها من بئر النسيّان والتناسي
هي ليست أمراة محرضة من قِبل أخيها ، هي .. ، هتف بها بصوت شبة عالٍ إثر تفكيره :
هي مب محرضة ، هي مهددة !!
شحب وجهها في بادي الأمر ، اجترعت ريقها بقوة عارمة وكأن الستائر بدأت تنسدل لتتكشف من خلالها الحقيقة المتوارية من خلفها .. لتهتف :
وش قصدك ؟
اقترب منها حتى وقف أمامها ، أمسك كتفها بيده الحرة ليهتف بلهفة :
زينة عيوني ما تخطي نظرها .. أمش عاشت طول هالسنوات تحت ضغط فعلي دمّر أعصابها وأتلفها ، وهذا الضغط خلاها تفرّغ طاقته فيكم
الواضح لكم إنها تكرهكم ، وتكره أبوكم .. لهالسبب تخلّت عنكم وقت ما توفى عمي ووقت ما جاتها ورقة طلاقها
بس هي كانت تنقذ نفسها من سوط الضمير ، وعذاب البُعد
ومو بس كذا ، كانت تحاول تنقذكم ..
أكملت زينة كلامه وهي تنظر للفراغ هامسة بخفوت :
تنقذنا من بطش خالي
الآن تذكرت ، تذكرت حين زارتها منذ فترة طويلة عقب إعلان زواجها من حاتم .. حين قالت لها أنها تعلم بزواجها من حاتم وإلا لما طلقها مرشد ، تذكرت تمامًا لمّا انقلبت ملامحها من الدراية إلى الجهل و"تمسكنت" حين دخل عليهم خالها وابن خالها
تذكرت كلام والدها نقلًا عن والدتها لمّا قال ( والله ما ينول الذليل ولد أخوش ، ملكة وجوهرة مثل بنتي ) !
إصرار خالها على تزويجها من ابنه " الذليل " وهي في سن صغير لمدعاة للشك والتفكير .. هُناك أمرٌ ما ناقص
هُناك " حلقة مفقودة " مثلما حاتم يقول :
زينة فكري معي
علاقتش بأمش تعدّت كونها بسبب أبوش
العلاقة الحين بين عمي وخالش اللي هي سبب كل شيء
جلست على الكنبة شاعرة بأن قواها تخور وتضعف ، وصداع كثيف يتمركز في مقدمة رأسها من شدة الأفكار التي تدور وترتطم ببعضها البعض
فلتفكّر ، فلتفكر في أمر لم يكن ليخطر على بالها أبدًا :
أبوي يحترم خالي كثير ، ومن أطراف حديث سمعتها وأنا مراهقة إن خالي هو اللي عرض على أبوي زواجه من أمي ، وأبوي وافق من شدة احترامه له
ما كان خالي يكبر أبوي بسنوات كثيرة .. لكن كانت له هيبة تجبر الواحد على احترامه
الهيبة اللي تحولت لجبروت وطغيان بمرور السنين
-رفعت عينيها له لتُكمل بتفكير-
أذكر إن لما كان عمري 15 سنة أبوي بدأ يمنعنا من بيت خالي ، وكذا مرة اشتد النقاش بينه وبين أمي بسبب رفضها لأوامره .. على قولتها لأنه أخوها الوحيد واللي باقي لها من كل عايلتها
أبوي من يومها وهو متقّلب المزاج ، مادري إذا كنت تذكر ذيك الفترة أو لا .. لدرجة إننا فقدناه لمدة ثلاثة أيام
وبعد بحث طويل لقاه عمي سيف مخيّم في الرملة
هزّ رأسه إيجابًا لتذكره لهذا الحدث الذي " ويا للعجب " لم تنساه ذاكرته .. لأنه من شغِل ساعاته للبحث عن عمه برفقة والده
ويومها وجداه في الصحاري بوجه متجهم ، ومزاجٍ متقلب مثلما قالت للتّو .. وأنه لأول مرة يرى عمه " يدخّن "
وقتها تأكد أن الهم بلغ منه ما بلغ وإلا لما قادته قدماه لدربِ التهلكة
أكملت زينة كمن يكتب الأحداث ويسطر ترتيبها شفويًا :
فترت العلاقة بينهم ، وهذا الشيء أصلًا لاحظوه جدي وجدتي لأننا عايشين في بيت واحد وكل تحركاتنا على مرأى من عينهم
لين ...
صمتت فجأة بوجوم ، وغامت عيناها في بحرٍ غامقٍ أسود .. وكأن أحدًا ما حشر في رأسها مسمارًا بالمطرقة !
نظر لها حاتم بعقدة حاجبيه متسائلًا :
لين ايش ؟ وش صار بعدها ؟
اجترعت ريقها بصعوبة بالغة .. لتُكمل بخفوت واجم :
ليلة من الليالي كنت سهرانة أذاكر للاختبارات النهائية في الحوش ، سمعت فجأة صوت طالع من غرفتهم
ما اهتميت في البداية لان صرنا متعودين لكن اللي خلاني أقوم وأقرب وقتها من الغرفة شيء واحد
-نظر للتساؤل في عينيه لتُكمل-
بُكى أمي .. أول مرة أسمعها تبكي بهذا الشيء ، بالأصح أول مرة من جيت على هالدنيا أسمعها تبكي
صوتها كان يعور القلب .. وتأكدت إن اللي بينهم وصل لآخره وكنت خايفة ، خايفة كل شيء ينتهي بينهم وأتشتت
سمعت أبوي يقول لها " كتبت هالقسم من نصيبش والباقي وزعته على عيالي .. مالي وحلالي كله فداهم ، أتركهم وأنا ضامن صروف الزمان ما تنهشهم " عرفت إنه وزّع التركة علينا وإن أمي خذت أقلنا نصيب
قاطعها بشكل مندهش وهو يجلس بجانبها ليقول بنبرة مستغربة :
لحظة لحظة ..
ما سألتي نفسش ليش واحد حي يوزع التركة قبل لا يموت ؟
نظرت له بعدم إستيعاب ، لم تفهم مقصده مما قال ليُكمل هو بتوضيح :
زينة كان ممكن يكتب في وصيته إن التركة تتوزع بالشكل كذا وكذا ، لكن هو كتب لكم كل شيء قبل حتى لا يتوفى !
الصورة تقريبًا بدت تكمل ..
مسكت كفه بيدها لا إرادي من شدة ما تكالبت عليها الأفكار السوداء والقاسية على رأسها الآن ، وزاغت نظراتها نحو هذه الغرفة التي كانت ملجأ والدها قبل أن يكون ملجأها هي
الصورة بدت تكمل ، بل اكتملت في رأسها رويدًا رويدا
نفور والدتها منهم .. منع والدها من زيارة منزل الخال ، تزايد المشاكل بين أبويها .. توزيع التركة قبل وفاته ، إصرار خالها على زواجها من ابنه .. وفاة والدها .. زواجها من حاتم .. تزايد نفور والدتها
قطرةً فقطرةٍ .. فقطرة ، وكل هذه المواقف تتساقط على رأسها واحدةً تلو الآخرى !
شعرت بلمسة حاتم الحانية على ظهرها ونبرته الحنون باسمها ، لتقفز من مكانها كالملسوعة وهي تبحث في أدراج الدولاب عن ضالتها
وقف حاتم ينظر إلى ربكتها ورجفتها ، والأشبه بجنونها ! وهو مندهش من هيئتها :
زينة على وش تدوري ؟
هتفت بأنفاس لاهثة من بين تنقلاتها بين الأدراج :
الحلقة المفقودة ، الحلقة المفقودة اللي بترجع الصورة لمكانها ويتضحّ الظالم من المظلوم
اقترب منها متعكزًا على عكّازه محاولًا أن يوقفها عن هذا العبث والدمار الذي تُحدثه بالدولاب وأغراضه :
وقفي يا بنت الحلال واهدي ، خبريني على ويش تدوري أول ؟
التفتت له بسرعة طايرت معها خصلات شعرها والعرق يقطر من جبينها من شدة إنهماكها في البحث :
ملف ، ملف فيه أوراق كثيرة تخصني أنا وأخواني .. كانت في واحد من الأدراج ! بس لحظة .. لحظة
تجاوزته وهي تكمل بحثها في الصناديق الموجودة على الأرض التي كانت بعض محتوياتها ساقطة في الأرض !
حتى وقفت عند صندوق به شهاداتهم الدراسية ، وجميع الشهادات التقديرية التي حصلوا عليها هي والحارث طوال فترة دراستهم
لتتنّهد بإرتياح وهي تبحث بداخله عن غاية وحدة ، عن " حلقة مفقودة " ستُكمل اللغز لا محاله
وفي دقائق معدودة قفزت من مكانها فرحة بالغنيمة التي لاقتها .. اقترب منها حاتم وهو لا يفهم شيئًا بحق
تجاوزت أوراق كثيرة ، جميعها ملكيّات مكتوبة باسمها أو باسم الحارث الذي لا يستطيع التصّرف بها الآن لعدم بلوغه السن القانوني
ولكنّها وقفت عند ورقة واحدة .. ورقة هي ضآلتها ومبتغاها من هذه الذكريات المنهلّة ! كانت ورقة " كروكي أرض "
لتردف بجدية بالغة :
بكرة أول ما تشرق الشمس روح لوزارة الإسكان واسألهم عن هذه الأرض وخذ كل تفاصيلها كاملة
تناول الورقة منها وهو يقرأ المكتوب فيها بصورة سريعة ،
رفع عيناه لها قائلًا بإستغراب :
تاريخ تملّك الأرض قديم ، من 2005 ! وش ممكن يكون الغرض منها ؟
أنفاسها تتلاحق بصدرها ، عيناها تغيمان في السواد ، شفتيها ترتجف وتشحب .. همست بثبات كاذب :
بكرة الصبح بنعرف وش الغرض منها
رمى عكازه على الأرض صارخًا باسمها وهو يتلقاها قبل سقوطها بسبب إغماءها المستغرب ، ليحملها بساق واحدة دون الآخرى التي تؤلمه
مددها على الكنبة ، ربّت على خديها بصورة سريعة متوترة من شدة قلقه .. وحين فتحت عيناها بخفوت أردف بغضب بالغ :
أنتِ أكلتي شيء من بعد فطور التمر واللبن اللي خذتيه ؟
عدينا التراويح وبندخل نص الليل وأنتِ ما همّش وش اللي دخل بطنش ووش اللي ما دخل
رأسها على ساقيه ، وكفيّه على خديها .. تشعر ببرودة وفي ذات الوقت تشعر بدفء غريبٌ عليها
دعاها لعدم الوقوف رغم رفض حواسها لاقترابها منه بهذا الشكل ، دّست رأسها في حضنه هاتفة بعتاب :
لا تعصّب علي !
تنّهدت هو الآخر ، ورقّ قلبه لحركتها .. مسح على شعرها الذي يعشق لولباته اللامعة ليردف بحنو :
يابوي ما أعصب عليش من فراغ ، صحتش أهم ماعليش من أي شيء ثاني تافة
استندت بكفيها لتقوم على حيلها ، إلا أنه لم يسمح لها فجذبها من كتفيها وألصقها في حضنه
نظرت في عينيه والتعب اتخذّ مجراه لها :
أنت تقولي هالكلام ؟
تنّهد مرة آخرى وابتسامة صغيرة سرت لشفتيه كمن سمع مديحًا لا مثيل له :
ما تشبعي من هالسيرة أبد ، أنا ولا أنتِ .. الصحة أولى وأبدى من أحزاننا وهمومنا سمعتي ؟
استكانت في حضنه "برضاها" لأول مرة ، والنعاس زحف لعينيها بصورة رقيقة جعلتها تهتف بصوتٍ ثقيل :
بس تشرق الشمس يا حاتم ، بس تشرق الشمس بنسى همي وكل اللي وراه
شدّ على احتضانها ، وكأنه أراد إدخالها في صدره أكثر فأكثر ، كأنه لا يملّ منها ، لا يشبع من رائحتها ، لا يرتوي من عبقها
هذه المرأة كل يوم تأخذ منه جزءًا أكبر من الآخر ، تسيطر عليها سيطرة الدماغ على الجسد .. وما أجمله رضاه على هذه السيطّرة
همس بصوت خافت جدًا لم تسمعه لانغماسها في قيلولتها :
إن كان هذا بيقربّش لي أكثر ؛ فوالله ما تشرق الشمس إلا والبشرى عندش
-
-
-
في صباح اليوم التالي .. ها هو حاتم يجلس أمام إحدى موظفي وزارة الإسكان الذي يقوم بتفقّد " كروكي الأرض " :
الأرض باسم مرشد بن عزام آل عزم
قالها الموظف ليمدّ له حاتم ورقة آخرى من ضمنها :
هذا التوكيل سواه لبنته بحيث يتيح لها التصرف في الأرض بعد ما تبلغ الـ18 سنة
هزّ الموظف رأسه ليعاود النظر نحو جهاز الحاسوب ، وماهي الا دقائق حتى التفت بنظراته المتسعة بصدمتها إلى حاتم :
لك علاقة براعية التوكيل ؟
استغرب حاتم صدمته لوهلة ، لكنه هتف بثبات :
أهلي!
وقف الموظف من مكانه مستأذنًا ، ليعود بعد خطوات ومعه شخص يبدو أنه رئيس القسم ، صافحه مرحبًا بابتسامة :
ياهلا أخوي شرفتنا ، أنت تعرف إن وزارتنا والوزارة المالية تدور على مالك هذه الأرض من كم سنة؟
حافظ حاتم على ثباته منتظرًا توضيحٍ ما ، ليُكمل الرجل :
لنا فترة نتصل على الرقم الموجود في ملكية الأرض بس يعطينا مغلق
ابتسم حاتم بمجاملة :
عمي مرشد الله يرحمه متوفي له 7 سنين ، بس ليش تدوروا عليه ؟
نظر له الموظف وهتف بإندهاش :
ليش ندور عليه ؟ طال عمرك هذه الأرض معرقلة وحدة من أكبر المشاريع الحكومية ، ووزارة المالية تدور على راعيها عشان تشتريها من عنده .. تعرف بكم تُقدّر ؟
بـ7 مليون ريال عماني !
صُدم حاتم مما قاله الموظف ، وصُدم أكثر بالسعر المقدّر للأرض
وهاهي أخيرًا تتضح الصورة أمامه .. كاملة وحقيقية




-
طرق نافذة المطبخ الخارجي عدة دقات متتالية ، ليوليّها ظهره بعد ذلك حين انفتحت النافذة وتبيّنت له من خلفها ببرقعها الذي يبدو أكثر سترًا من الآخر :
جدش يقول هاتي صندوق الطماطم والباذنجان من داخل
قالها بهدوء ثابت دون النظر إليها ، أغلقت النافذة بعد إنتهاء كلامه ليشعر بقرقعة مفتاح الباب الذي بجانبه
فيفتح الباب وتتبيّن الجوهرة من خلفه لتقول بجدية :
وراك عند الباب !
دخل بخطوة واحدة والتفت وراء الباب ، ليحمل الصندوقين فوق بعضهما البعض وهمّ بالخروج
لكن قبل خروجه توقف على طرف الباب ملتفتًا إليها بثباته:
بخاطري سؤال
الجوهرة دون أن تنظر إليه هتفت بجدية :
تعلّم ما تسأل كل اللي خاطرك فيه ..
ليقول قايد بعناد :
إلا هالسؤال
التفتت إليه عاقدة حاجبيها ونظراتها الصقرية تجوب صفحة وجهه :
ليش يعني ؟
ابتسم ابتسامة صغيرة جدًا سرعان ما دمحها بجديته :
يمكن لأني أتحمل جزء من أسبابه !
صمتت في تساؤل ، ليسأل هو السؤال الذي يؤرقه حين ينظر إلى جبس رقبتها الصغير :
وش صار عليش حتى تتأذي بكل هذه الجروح والكسور ؟
نظرت له الجوهرة مطولًا ، لتقول بلا مراوغة على غير العادة :
نفذّت خطة بعض الناس ، ولما شفت جدي متغافلني عشانه ركضت من المستشفى لبرا
-وبسخرية-
وشاء ربي إن سيارة تصدمني وما ينقذني غير جدي ! شفت كيف الأقدار .. حاولت أهرب منه ، وجابني القدر له
أنزل قايد رأسه للأسفل ، ظلّ يحملق في الأرض بتفكير ، رافعًا رأسه بعد ثوانيٍ طويلة مبتسمًا ابتسامة واسعة :
اسمي قايد !
نظرت له بدهشة ، همهمت بعدم إستيعاب لمغزى كلامه وموقعه من الإعراب في ظل شماتتها .. ليُكمل :
اسمي قايد ، لا بعض الناس ولا الغبي !
وترا تجازيت بذنبش إن كان هذا بيريّح قلبش ، ماقصرَ عمش حطني في التوقيف كم ساعة وعاملني معاملة لاجئ غير شرعي وأنا مجرد من هويتي
قال ماعنده واستدار بجسده وهو ما زال محتفظًا بابتسامته التي لا يدري بأي معنى هي .. وفي ثانية كانت توقفه بصوتها المخملي الحاد :
لحظة .. ياقايد !
سمع اسمه من فاهها بنبرة مختلفة عمّا كان يسمعه دائمًا ، تلك النبرة الممتزجة بالفوقيّة والإباء .. والخجل ربمّا
التفت ينظر إليها بتساؤل دون أن ينبس ببنة شفه
الجوهرة بقوة جادة :
أولًا ما يبرد خاطري إذا تجازى شخص بذنبي ، صح أنت خططت .. بس أنا بدوري كنت راضية ، لذلك أتحمل جزء من اللي صار لك
وحدة بوحدة ، ما بيننا محاسبة يعني !
هزّ رأسه بإيجاب وهو ما زال قابعًا في صمته ، أكملت بذات النبرة وربما بجدية أكبر:
ثانيًا في شيء لازم تعرفه يخصّك أنت ، خذ الصناديق عند جدي ولما ترجع بتحصل جهاز على طرف الدريشة
اسمع اللي يخصك ، ورد الجهاز مكانه
قالت ماعندها لتقترب من الباب وتغلقه رغم أنه كان يقف على حافته ، غير مبالية بلمحة الاستنكار التي مرت على وجهه واستقرت
وضعت الجهاز على النافذة بعد إغلاقها وظلت تنظر له من خلفها شاكرة للإنعكاس الذي لا يظهر ما بالداخل
وبعد دقائق من الإنتظار ، عاد قايد !
حمل الجهاز بين يديه والذي تبيّن له أنه جهاز تسجيل صوتي ، ضغط على الزر المعنّي وظل يسمع ما يُقال
انساب صوت الشيخ وسويلم من خلفه يداهنه .. بل ويجادله فيه هو !
جاء حوارهم مبهمًا له في بادي الأمر ، حتى تبيّن من زجرة الشيخ الغاضبة لسويلم وهو يقول له :
ولدك مات بإرادة ربّك اقنع وسلم أمرك لله ، قايد ماله دخل
اندهش قايد من اعتراف الشيخ لابنه في هذا الوقت بالذات وانقبض قلبه حين جاءه الحوار متسلسلًا
-روح ولدي بين يدين قايد
-يدينه نظيفة من دم ولدك
-ليش تدافع عنه ؟ ليش تبريّه من تهمته اللي المفروض توديه لحبل المشنقة ؟ ليش يبه جبته لهنا ؟
-ما يهمك ، اللي يهمك براءته من موت ولدك وأسأل مطر إن كانك ما صرت تصدق أبوك
-مطر؟
-مطر اللي تبّلى على قايد !
-تبّلى على قايد ؟ يالله يارب .. يبه أنت وش تقول ؟
-لا تخليني أعيد وأزيد في كلامي ، اطلع من هالعزبة وخلي قايد لي
-إذا ما كنت جايبه عشان تثأر لحفيدك ، ليش جبته هنا؟
عجُب قايد من الصمت الطويل الذي مرّ ؛ ولم يقطعه سوى سؤال سؤيلم مرة آخرى بنبرة مصرّة :
-ليش يبه ؟ ليش جايبه .. لمن تبغى تثأر ، أنا شفت نظرة عيونك وقتها وحسيت بحرقتك بس ما كانت عشان ولدي صح
ما كانت عشانه ، عشان من ؟
-أختك !
-أختي ؟!! أختي الله يرحمها وش دخلها بقايد ؟
-لا تسوي نفسك غشيم وأنت تدري بالسالفة .. قوم وفكنّي من ملاغتك الفارغة
صمتٌ ألفّ بسويلم كما لفّ قايد الصامت في صدمته .. وهو حتى الآن لا يفهم شيئًا مما يسمع
ولعلّ سويلم وقتها أراحه من التفكير
فنبرته بعد كلام الشيّخ جاءت مندهشة ومصعوقة حين قال :
-سالفة عذاري وسعيّد الزفت ؟ تقولها صادق يا يبّه !!!! هذه السالفة اللي كشفتها أنا وضربتني يومها بسببها وهددتني لو تكلّمت بتذبحني ؟
-أنت فاهم ، ما يحتاج تسألني!
-مستحيل .. مستحيل ما أصدق
-من حقك ما تصدق ، محد عاش الأيام ذيك جنب عذاري غيري ، محد عرف همّها غييري .. وحسرة موتها ظلّت في قلبي وماهي بمنطفيه
-يعني الكلام كان صحيح ، اللي سمعته صحيح ! النذل كان طايح بغرام أختي وواعدها بالزواج بس تخلّى عنها .. أختي طاحت مريضة من غدره وماتت بسبب هروبه
-أحذرك مرة ثانية ان طلع هذا الكلام برا هالعزبة اعتبر نفسك ميّت !
-يعني ماقدرت تنتقم من سعيد طول هالسنوات وظّل الانتقام في صدرك ، ولما جات لك هالفرصة .. اتهمت قايد فيها!
-اقطع الكلام
-يبه افهمنييي !!
-اطلع من هالعزبة ولا ترجع ، ما أبغى أشوف وجهك لا بخير ولا بشر
راح سويلم يهتف وصوته يبتعد رويدًا رويدا عن منطقة التسجيل وهو يقول :
-ياويلي من الله ظلمته ، ياويلي من الله اسأت الظن فيه ! غفرانك يارب
أغلق قايد جهاز التسجيل وعاد وضعه على طرف النافذة ، وجهه متلّون بمختلف الألوان ، صدره يموج في تخبطات مشاعره ..
أسوء ما في الإنسانية أن يقدّم الآدمي تضحيته دون فائدة ، ودون من يستحقها
أسوء ما في ظلمة مشاعره أن يُغدر من أقرب ناس إليه .. وأن يرمي نفسه في مرمى الظلم لينتشل الآخرين من تخبّطهم
لا يصدق هذه القصة ، قصة والده وابنة الشيخ
فكيف تُصدق وكيف يمُكن أن تكون ؟
شعر بدوار شديد ، وشحوب وجهه خير دليل على ما سمعه ، لا يعلم ما الغاية من إسماعه هذا الكلام
وهو كان قد رضي بقدره هُنا ظنًا منه أنه ينقذ نفسه من حبل المشنقة وينقذ أهله من سيء السمعة
ولكنه لن يرضى بعد اليوم أن يُوضع موضع المغفّل ، ويُستغل هنا وهناك لأجل مقاصد شخصية ليروح هو ضحيتّها
الشمس في كبدٍ السماء ، ما زال النهار في منتصف
صيّامه وبعدها صدمته أثرا عليه فكاد يترنّح من هول ما سمع ..
توقف في منتصف العزبة
دفن قدمه في الرمال حتى كادت تغوص
رفع عيناه إلى قرص الشمس اللاهب الذي يرسل أشعته لدماغه
فيفور وتفور أعصابه أكثر ، لتغلي تلك الحرقة في صدره أكثر فأكثر
خُدع ، اُستغفل ، اُحتال ، ضُلل !
فأي نعت آخر يجب أن يُنعت به في ظل غباءه وتضحيته البالية ؟
شعر بالدموع في مصاف عينيه ، اغمضهما بقوة رافضًا ذلك
فتح عينيه ونسمة هواء حملت الرمال إليهن
رأى أمامه بشكّل مضبب .. سراب
سراب حرارة الشمس ، أم سرابٌ حقيقي ؟
عيناه مشوشتان ، يتقدم منه السراب شيئًا فشيئا .. لا يُبالي
بل ينتصب بظهره!
يقترب منه السراب ، يبدو حقيقيًا أكثر مما يجب !
يتكلم ! هل هُناك سرابٌ يتكلم ؟
صوتٌ لطالما تشعّب في خلايا صدره من حنيّته .. ينده له باسمه ، ثم يقول له بهدوء :
يا قايد ، يابو سعيد!
"أبو سعيد" ينعتها فيها والده أكثر من كل شخص .. هل والده أمامه أم صدمته صوّرت له قدوم والده ؟
لكنّ تلك الكف على كتفه افاقته من " أحلام يقظته " ، مما جعله ينتفض ويتراجع للخلف شبرًا كاملًا
وعيناه تجوبان وجه والده المبتسم ، وصوته الفرِح :
جيتك ولقيتك يا قايد ، لقيتك أخيرًا
أخذ نفسًا بطيئًا ، والده أمامه .. حتمًا لا يحلم ! ولكن مالذي يقصد به من " لقيتك أخيرًا "
سحبه سعيد ليغرسه في حضنه رغم فارق الطول الذي بينهما ، ورغم ذلك ظّلت يدا قايد مسبلتان بجانبه دون ردة فعل تُذكر
يمسح والده على ظهره فيهتف بنبرة مشتاقة :
اللهم لك الحمد شفتك بخير وعافية ، الحمدلله الحمدلله ما أذاني فييك !
تراجع قايد بجمود متصبّر ، نظر له بلا ملامح :
أخيرًا جيت يبه !
أقلقه جمود ملامحه ونبرته ، لكنه هتف بنبرة سعيدة :
جيتك يابو سعيد ، لقيتك بعد بحث طويل والشيّخ سمح لي أقابلك
ابتسم ابتسامة مذبوحة على آخراها :
حلو ، جميل .. يمديكم الحين تصفوّن اللي بينكم
وتخلوني أكمل حياتي اللي بختارها
ارتبك سعيد من كلامه ، وآلمه أنه لم يستقبله ذاك الاستقبال الذي كان يرجوه فهتف متسائلا :
وش فيك وأنا أبوك .. وش هو مسوي فيك شيخ الوكيل ؟
ما كفّاه حرق قلبي عليك بغيابك
تراجع قايد أكثر محتفظًا بذات الابتسامة :
تعرف يبه ، مافي أحد كثري هنا محروق قلبه ، مب على أحد
على نفسي بس ..
فغر سعيد فاهه ، نظر له بعدم فهم :
وش تقصد ؟
كتّف قايد يديه وسط صدره ، وحافظ على تلك الابتسامة الشبة ساخرة :
روح تفاهم معه يبّه وصفّوا اللي بينكم ، حرام ترا يوم من الأيام كان بينكم بنت بريئة .. مثل ما بينكم اليوم ولد مظلوم
صاح فيه والده بلا استيعاب :
جنيّت أنت ؟ وش هالخرابيط اللي تقولها
ضحك ضحكة قصييرة محمّلة بالألم والأسى والقسوة :
لا يبه ما جنيّت ، ما هو احنا جالسة نلعب لعبة ونحشر فيها أشخاص بريئين مالهم ذنب إلا ذنب الحُب
أتمنى تكون راضي الحين يابو قايد ، أتمنى وجع الغدر في قلبك خف
افرح يبه .. مستقبل ولدك ضاع ، خسر وظيفته
خسر احترامه و تقديره ، خسر عائلته ، خسر البنت اللي يحبها
في سبيل رضى أبوه
افرح يبه وارقص فرح أتمنى رضاك يشملني بعد هذا كله
دوت صفعة على خد قايد مصدرها سعيد ، وكلامه الساخر هذا يغرس في قلبه آلاف الأوجاع والحسرات والندام ، يذكره بما مضى ، يذكره بجبنه ، بهروبه ، بوعوده الزائفة ! يذكره بأن هذا الرجل حُتم عليه أن يؤخذ بذنبه هو !
يذكره بتلك التي تركها وراءه ، فماتت من شجنها .. وذاب هو في ذبول الحياة من شدة حسراته عليها
هُنا احتدت نظرة قايد دون أن تحرك فيه الصفعة ساكن ، وكأنها لا شيء ضمن صفعات قلبه التي تلقاها ، وبصوت عالي غاضب وهو يرى الشيّخ يقف خلف والده :
لعبتكم خلّصت يبه ، انتقامك خلّص يا شيخ
قتّال بنتك والغدار هذا هو قدامك .. تصافى أنت وإياه مع بعض
الغبي المغفّل اللي انقص عليه طلع برا حساباتكم من اليوم
قال ماعنده واستدار داخلًا إلى المكان الذي ينام فيه منذ أن جاء إلا هنا
جمع حاجياته ووضعها في حقيبة الظهر التي جاد بها الشيّخ عليه .. حمل هاتفه محفظته التي سرقها بغتة من جيب الشيخ بعد الحادث الذي تعرضا له هو والجوهرة
وخرج من المكان بخطوات ثابتة تدكّ بها الأرض من تحته دّكا
لم يضع عينه في عيني والده ، لم يأبى لرأي الشيخ أو حتى احتجاجه
وقبل أن يخرج أمسكه سعيد من كتفه قائلًا بتوسل :
اسمعني ياولد ، اسمعني وافهم مني أول .. أبوك يكلمك وتمشي عنه كذا !
أبعد قايد يد والده بهدوء يُحسد عليه ، وهتف دون أن ينظر إليه :
بتبرر ؟ لا تبرر يبه .. سكوتك وقت جووا عيال الوكيل يسحبوني مثل الحيوانات ما يتبرر لو بأسباب الدنيّا كلها
-نظر إلى الشيّخ نظرة حادة-
وقليل الشيمة اللي ينتقم من شخص مظلوم ، ما ينتأمن له على روح !
سعيد بجدية أكبر من جديته :
وين بتروح ؟ أنا جاي أرجعّك لبيتنا .. اليوم بترجع معي يا قايد وما للشيخ حساب إلا معي
ابتسم قايد ابتسامة مرتجفة ، ميتّة من شدة القهر الذي يتراعد في صدره :
تأخرت يبه ، لو جاي قبلها بكم ساعة بس .. كان ألقى اللي يغفر لك إعترافك
اسمح لي يبه ، وسامحني .. قايد ما ينقاد من اليوم ورايح
اقترب منه بخطوة صغيرة ، قبّل جبينه بقبلة مرتجفة حملت رغم الأسى حُب باقٍ في صدره !
نقل نظراته إلى نافذة المنزل الوحيد في هذه العزبة والذي لا يسكن فيه سواها ، أودعها بنظراته ودعى لها بالخلاص
ليحمل خطواته خارجًا من هذه العزبة .. إلى الأبد
وصراخ والده الموجوع من خلفه يتعالى بسؤاله :
وين بتروح ؟
شد على ذراع حقيبة ظهره بقوة كادت أن تعتصره وهو يهتف بجدية حادة :
عند اللي ينصرني .. سواء كنت ظالم ولا مظلوم
-
ظل ينظر إلى ظهره الراحل بنظرات حسرةٍ ولوعة ، خسر ابنه فعاد ليسترده ، لم يكن يعلم أنه قادم اليوم لكي يخسره مرة آخرى .. وربما هذه المرة خسارة لن تصلح ما أفسدته مشاكل الماضي المؤلم
شعر بالدموع تصعد لمصاف عينيه ، وقلبه يهتك صدره من قوة نبضاته الصادرة عن ألمٍ وجوى
التفت نحو الشيّخ الساكن وعلى ثغره ابتسامة ساخرة ، ليقول بنبرة تخللها وجع:
أحصد ما زرعته
تقدّم سعيد شبرًا ، وعيناه تطفحان بالحقد الذي لم تطفئه السنون ولم يطفئه الموت:
أحصد؟ وش زرعت أنا عشان أحصد
كل شيء أنتو زرعتوه فينا، أنت يا أبو عذاري
واليوم تجبرونا نحصد ثمرة أوجاعنا في عيالنا
هذا اللي سمحت لي أدخل عشانه؟ هذا اللي أنت ناوي عليه من تالي؟ تحرق قلبي بولدي مثل ما حرقت قلبك ببنتك
ما عطيتني فرصة أشرح له جيت سممت عقله بحكاية مغلوطة ؟
اتكأ الشيخ بكفيه على عصاه بذات النبرة:
يكون لعلمك ما خبرت ولدك عن حكايتك الخاي
ماهي موضع شرف لي عشان أقولها لولد عدوي
سعيد بقهر يأكل قلبه:
وكيف عرف؟
تنّهد الشيخ لوهلة بابتسامة ساخرة
خيبة أبوه على وجهه .. عرفته بالحكاية كامل
تقدم سعيد أكثر حتى ظل مواجهًا له بنظرة حادة ونظرة قوية:
تذكر يا شيخ يوم جيتك في مجلسك بعد سالفة الأرض؟
ظل ثابتًا في مكانه ينظر إليه من علو ليكمل سعيد:
يومها كلمت أخوي إني بأجي مع أهلي وعشيرتي عشان نخطب بنتك الوحيدة لي
شحب وجه الشيخ فجأة واهتز في مكانه مصدومًا مما يسمع:
كل شيء كان راح يرجع لمكانه الصحيح ، عذاري كانت بتكون حلالي والأرض كانت بترجع لبيت العزم لولا التزوير اللي زورتوه في ملكيتها
بس أنتو ! أنتو بأحقادكم سمحتوا للموت يحول بيننا وبينكم
جاوبني بالله عليك قطعة أرض اليوم خاربة بسبب قلة الاهتمام كانت تسوى روح بنتك؟
ارتجف جسده مقشعرًا ، لو كان بينه وبين بقاء ابنته وسلامتها روحه لما تردد لحظة واحدة في إهدائها إليه
شعر بقلبه ينزف نزفًا شديدًا حين هتف سعيد بقسوة:
لا تتباهى ويأخذك الغرور إنك انتقمت مني في ولدي لأنك قبلي انتقمت من بنتك عشان قطعة أرض تافهة
وإن كنت ناوي تعيشني في حسرتي فأنت عشت وبتموت بحسرتك على بنتك وثأرك اللي ما نفعها وهي تحت الأرض
اللي مثلك عايش في خيباته! فلا تظن إنك انتصرت
بصق ما في صدره كالسموم لتنغرس سكينتها في قلبه الكهل الذي أصابه الوهن والخور من شدة ما سمع
تهادى من طوله ناظرًا لظهر سعيد المنحني رغم ما رأه من قسوة وشموخ
ووحده الألم من ينخر عظمه كمرض مزمن لا علاج له
شعر بيدين تسندانه قبل سقوطه ، فالتفت ببط ينظر إليها
إلى جوهرته المعذبّة من قبله:
ذنبكم إنكم خذيتوا الأبناء بذنب الآباء ، بس ما فات وقت المغفرة يا جد !




-بعد أيام طويـلة-


"عيدش مبارك"
هتف بها بابتسامة رائقة وهو ينحني من أعلاه ليقبّل قمة رأسها واصابعه تأخذ طريقها لخصلات شعرها اللولبية اللامعّة
لترفع رأسها إليه وسط سرحانها بابتسامة صغيرة :
أيامك سعيدة !
همس بخفوت تستدعيه الغرفة :
ليش ما جهزتي للحين ، الساعة 5 ونص فجر بنتأخر على بيت جدي !
تنّهدت مستقيمة في جلستها بعد أن كانت تحتضن قدميها لصدرها :
بنزل بعدين ، بعد صلاة العيد .. أنت خذ سيارتك وألحق على الصلاة
عقد حاجبيه لوهلة فلم يكن هذا اتفاقهم بالأمس ، اتفقا على أن يذهبان لبيت الجد عزّام لتناول إفطار العيد معًا ثم للمخرج ( حيث تقام صلاة العيد وتُفتح الدكاكين للأطفال ) وبعدها يعودان مرة آخرى :
وش غيّر الخطة عن أمس ؟
وقفت مكانها لتجاريه في الوقوف هامسة بنبرة ذات مغزى :
غيرناها لما تقتضيه المصلحة العامة وبتكون كالتالي
بتجهّز وبمر على أميم ، عارف عرسها بعد يومين وعيدها ذا السنة في البيت حسب أوامر عمتّي.
بعدين باجيب البنات كلهم بسيّارتي ونلحقكم بيت جدي بعد الصلاة
نظر لها بنظرة من يحاول استنباط ما يجول في خاطرها ليُردف باستفسار مقصود :
وبعدين ؟
زينة بجدية وثقة :
بنزور أمي .. أنا وأنت
ابتسم ابتسامة واسعة وسرعان ما اندمح نصفها ليقول بغموض قاصد :
بسألش مرة ثانية ، وش غيّر الخطة عن أمس ؟ لأن أمش ما كانت من ضمن الخطة حتى أمس الليل !
زينة بذات النبرة الواثقة :
اضطرينا نخليها من ضمنها ، فيها شيء ؟
اقترب حاتم ليردف بنبرة حازمة :
وممكن تتكرمي علي وتخبريني وين رحتي أمس الليل لمّا استأذنتي مني برسالة وأنا في بيت أبوي ؟
صمتت لبرهة ، ترمقه بذات النبرة الواثقة والجادة فيما تقول وتفعله .. لتهتف بعدها بحزم وهي تتجاوزه لدورة المياة :
بتعرف بعدين !
مسك عضدها قبل أن تهرب " كعادتها " حين تعجز عن الكذب وعيناها في عينه ليقول من بين أسنانه:
ما حزرتي يا حبيبتي ، حركة الاستغفال هذه ما تمشي علي
وش غايتش من المكتبة لما رحتي لها أمس من وراي ؟
ارتجف جسدها بخفة ! لا من اكتشافه لمكان ذهابها ، بل من الكلمة التي قالها فخرجت بنبرة رغم حزمها وغضبها .. رقيقة !
رقيقة ؟ وأما أرق حروفها حينما خرجت من فاهه ، فيا تُرى أخرجت من صميم قلبه كذلك ؟
لم يكن حاتم واعيًا للكلمة التي يقولها لأول مرة لها ، فخرجت منه بعفوية تامة ممن اعتاد على قولها كثيرًا:
زينة تكلمي ، وش سويتي في المكتبة عشان تروحي بنفسش وما تطلبيها مني ؟
هزّها من يدها حتى شعرت بألم طفيف يطوف بها ، ثبتت على موقفها بصمود كاذب :
كلها كم ساعة وتعرف ، اترك كل شيء لوقته !
أبعد يده عن عضدها ، وقف مقابلًا لها هاتفًا بجدية أكبر:
واللي يقول ما بتخطي شبر ولا بتروحي مكان إلا لما أعرف وش وراش ؟
شعرت بالغضب يحول بينها وبين صمودها ، لتقوم من بين أسنانها :
حاتم ما هو وقت عناد ودقّ رؤوس ، بس نطلع بيت خالي راح تعرف وش سبب روحتي أمس للمكتبة
حاتم بغضب أسود من مماطلتها ، ورغبتها في إخفاء المزيد عنه :
وأنتِ لا تخليني اعاند أكثر وأدق رؤوس مشتهية دّق !
قاطعته زينة بغضب عميق :
نعم يا ولد عمي ؟
اقترب حتى أوشك على الإلتصاق منها ، مسك فكّها باصبعيه الاثنتين ، ينظر لعينيها التي يطفح منهم الغضب ولأنفاسها اللاهثة المشتعلة بغضبها ، همس :
ماهو بس ما راح تروحي بيت أمش ، ما راح حتى تنزلي بيت جدي .. فالأحسن لش من الحبسة هنا تقولي وش اللي مخبيته عني
شعرت بالغضب ، والضغف في آن واحد .. الغضب من تسلّطه الذي عاد بعد أندثر منذ أيامهم الأولى ، وبالضعف من تلك العضلة الراغبة في التمرد وطرق أبواب أُغلقت منذ زمن
فهي تعترف ، لا تقدر على مواجهة غضبه الأسود التي رأته جيدًا في إحدى " حالات جنونه " التي بدأ تتناقص شيئًا فشيئا
لكن من يدري ، ربما شيطان الألم والتمرد ما زال ينخر أنيابه بداخله .. وهذا الوجه هو ما يُقال عنه " الوجه الثاني "
لذلك أبعدت يده عن مجال فكها ، تراجعت خطوة للخلف وهي تفتح أول درج من تسريحة الزينة .. أخرجت ورقة ثم اقتربت منه لتصلقها في صدره قائلة بجدية موجعة :
في طريقة وأسلوب ألطف حتى تطلب مني شيء .. تعلّم عليها وبدل العناد والتنازل راح تلاقي الرضى
مسك الورقة وهو ينظر لعينيها ، يودّ لو يغوص في عينيها ويكتشف ما يدور في خلدهما .. يشعر بهما تتحدثان ألف مرة في الثانية ، يشعر بهما يثرثران بكلامٍ لا تفقهانه عينين كعينيه الصمّاء
تجاوز عينيها بصعوبة بالغة ، قرأ الورقة وما بها سريعًا والدهشة ثم السخريّة تنشأ على وجهه :
صك بيع الأرض المليونية باسم زينة بنت مرشد بن عزام آل عزم
-رفع الورقة وعيناه لها بذات الابتسامة-
وطبعًا مزوّرة ! بس ليش يا ترى ؟
أردفت بشموخ وإباء وهي تنزع منه الورقة :
الفطين ما يبي أحد يخبره ليش ، لأنه عارف الأسباب
كتّف يديه أمام صدره بنبرة جامدة :
بتستخدميها كورقة ضغط ، وبنفس الوقت كتهديد .. ويمكن لها مآرب أخرى
-اعتدل ينظر لها بجدية-
اتساءل صدقًا من الشخص اللي ناوية تنتقمي منه بهالحركة .. أمش ولا خالش ؟
احترقت بغضبها من سوء ظنه مرة ، ومرة من نبرته المستهزئة بما تريد فعله .. فهي تظن أن بهذه " الحركة " ستمنع عنها أذىً كثيرًا تعرضت / وستتعرض له !
تقدمت منه ، سحبت الورقة من يديه ورفعتها أمام وجهه مباشرة وبغضب هامس :
أنتقم من خالي ، لأن وحسب ما فهمت من آخر المستجدات فخالي زوّج أمي من أبوي طمعًا في فلوسه
اللي ما كانت من كثرها في ذاك الوقت ، بس لما شاف إنها تتزايد بمرور السنين وصار يدخّل الآلاف من إستثمارات ( بسيطة ) .. طمع فيه وفي فلوسه
وايش سوا يا ترى ؟ حرّض أمي على أبوي ... لااا لحظة ، لحظة
أقصد هدد أمي بنذالته وخلاها تؤمر أبوي إن يسجل لها كم xxxx باسمها حتى يستولي عليهن
-ابتسمت بإزدراء وجل-
تخيّل ايش صار ؟ اكتشف أبوي نوايا خالي ومساعي أمي عشان كذّا تنازل عن قسمه من مزرعة جدي وكتبه باسمها
بس الطمّاع والغدار ما وقف عن هالحد ، عرف بأمر الأرض اللي تبيها الحكومة بالملايين فسجّلها أبوي باسمي ! ولما يأس من أبوي حّول علي
سعى عشان يزوجني ولده الإمعة بظنّه إنه بهالطريقة راح يقدر يضمن مالكة الأرض ، والأرض
-تراجعت خطوة وابتسامتها المزدرءة تزداد-
لكن أبوي كان متفطّن له فعشان يقطع سعيّه .. زوجني لك
مسرحية رهيبة ماقدرت أحصل لها عنوان ، بس من ضحيتها ؟
أوبس عفوًا .. أقصد بطلتها ؟
أنا .
مسح وجهها بنظرات حنونة ، وضع يديه حول عضديها بمؤاخاة ليُهمس بخفوت :
زينة ، بهذه الحركة أنتِ ما راح تفرقي عنه بالنذالة .. هو هدد أمش طول هالسنوات وأنتِ بتستخدمي نفس أسلوبه .. مهما كان يظل خالش ، أخ أمش الوحيد ! معادلة غير أخلاقية ماهي من شيمش
أبعدت يديه عنها ، أعطته ظهرها لتُردف بنبرة قاسية :
ما خلّى فيها أخ وأم ، ما احترم حتى الدم والدم دومه يحن .. تشرّب الجشع والطمع حتى صار اللي صار عليه اليوم .. طاغية
العين بالعين ، والسن بالسن ، والجروح قِصاص ، مش كذا يا ولد عمي ؟
ألتّف نحوها ، احتضن وجهها بين كفيّه وهمس بنبرة فائضة الحنان ممتدة بالقوة :
أبغاش تكوني متأكدة إني واقف معش في كل الظروف ، لكن الأسلم نفكّر بطريقة ما تجرح أمش .. ما تقولي خايفة من عقوقها ؟ ماتعرفي يمكن أذيتها في أخوها تدخل من ضمن العقوق
أسهبت تنظر إليه مطولًا ، والعزم رغم ذلك يطفح من عينيها .. ربما لا يعلم حاتم أنها دائمًا ما تكون مصرّة على أي خطوة تقررها سواء كانت النتائج معها أم ضدها ، وربما يحسب صمتها الآن علامة الرضى .. لذا هتف وهو يقبّل أنفها بابتسامة :
أوعدش نطلع من مخرج الأقل أضرار .. لش ولأمش
بس الحين أنسي هالورقة واللي ناوية عليه
-تراجع للخلف وابتسامته تزيد-
أخرتيني عن صلاة العيد ، جهزي وبس تخلصي نزلي بيت جدّي
خرج هذه المرة بلا عكاز يتعكز عليه بعدما بدأت ساقه بالتماثل للشفاء رويدًا رويدا ، تنظر لظلّه الخارج من الغُرفة القابعة في الظلام إلا من إنارة بسيطة صاحبها إضاءة الفجر الزرقاء ، ينهشها التردد بين وبين ، لكنها هذه المرة أكثر عزمًا من أي مرةً آخرى
به أو بدونه هي قادرة على ردم أخطاء الماضي التي لاحقتها وإن لم تكن تحملّت جزءًا منها ..برفضه أو بدعمه تستطيع وضع نقاط حروف هذه المرحلة من حياتها
لتصبح المسيّرة ، والمسيطرة .. لا المخيّرة والمغلوب على أمرها



-
تلّقى الحارث صفعة محترمة على رأسه من يد قايد التي تفوقه حجمًا وقوة ، ليهتف قايد من بين أسنانه بغضب :
اثبت مكانك لا أقلع رأسك من مكانه !
مسك الحارث رأسه وهو يشعر بالدوار نتيجة الضربة القاضية التي أخلّت بتركيزه ولكن لم تخلّ بتوازن لسانه ، ليقول بنبرة مندهشة :
صدق بالله عليك رعيت مواشي وحلبت بقر وأطعمت الحيوانات ونمت بين الدجاج ؟
عضّ على لسانه بقوة ويداه تتحركان بصورة سريعة ومحترفة على رأس الحارث وهو يثّبت ( المَصْر ) عليه ، ينعي الساعة التي أخبر بها الحارث مغامراته الشيّقة في المنفى :
صدق صدق ! كم مرة أقولك إنه صدق !
فتح الحارث عيناه على وسعها ، فغر فاهه بإندهاش :
قايد بجلالة قدره صار راعي غنم؟ هذه لازم تسجّل من ضمن عجايب الدنيا السبع
قايد بسخرية وهو ينظر له من أعلاه :
اتضّح إن الإنسان يحن لأصله !
ابتسم الحارث بمراوغة خابثة :
وهذه بعد لازم تسجّل من ضمن إعترافات البيت الأبيض والبنتاغون .. حيوان ورجع لعايلته الحيوانة !
ضرب بقبضته على ظهر الحارث ، الغضب والرغبة بالضحك في آنٍ واحد ستجعلان هيبته موطئ أقدام لا شك
لذا تماسك وهو يلمح نظرات الحارث المتألمة :
رحمك ربي إنك شبرين وخايف من عقابه فيك ، انقلع من قدامي وروح مشّط هالشعرتين اللي في شنبك
اتسعت عينا الحارث بإندهاش مصطنع وهو يقول بدرامية :
له له له ، إلا هالموستاش يابيه مش حسمح لك تغلط عليه
هزّ رأسه بقلّة حيلة وابتسامة صغيرة تطفو على ثغره :
الله يآجر جدي وجدتي في مصيبتهم ، أنا أشهد إن العقل عقل صخلة
-وبنظرة ساخرة متعالية-
بس للأسف طولك ما يتعدى طولي ، ما بالك بطول النخلة
التفت له الحارث بقهر :
لعلمك يعني في نخيل قصار !
تنّهد قايد بتعب ، يرفع عيناه لساعة الحائط التي تشير إلى الساعة السادسة صباحًا ، صباح عيد .. وهو هُنا يريد النوم فقط
التفت إلى عبدالرحمن الواقف أمام دولابه يتعطّر :
أساعدك في شيء ؟ المصْر مضبوط ؟
نظر له عبدالرحمن بتأمل ، هُناك أمرٌ ما تغيّر في روح قايد المشتعلة بالحياة .. شيء ما خفت وبهت لونه وأصبح بلا قيمة ، لا يعلم ما هو لكن ربما تلك اللمحة المذبوحة وسط بؤبؤ عينيه ! هزّ رأسه بالنفي قائلًا بإستفسار:
ما بتروح معنا صلاة العيد ؟
ابتسم قايد ابتسامة صغيرة ساخرة ، تمدد على السرير في غرفة عبدالرحمن والحارث بمنزل جده ، التحف بالفِراش حتى غطّى جسده كاملًا إلا رأسه :
لا ، طلعوا وسكروا المصابيح وراكم خلوني أنام
وقف الحارث بجانب الباب مستأمنًا به لهروبه ، بنبرة ضاحكة :
أيّها المرتد الفاسق ، قمّ هلمّ بنا إلى صلاة العيد فهي شعيرة من شعائر الله ويجب عليك تعظيمها لما لها من أهمية في تقوى القلب ، يا ذا القلب الفاسد
اتكأ قايد بذراعه وأعصابه بدأت تتلف شيئًا فشيئا من هذا المراهق الذي يظن أنه مضحكًا ، رمى عليه مخدة أصابت وجهه مباشرة
ليردف قايد بغضب خرج معظمه مصطنعًا :
والله لو ما تطلع لأكفنك بكشختك وبدل لا تصلي العيد بيصلّوا عليك
مسك الحارث رأسه قبل أن تحتاس " كشخته " شاهقًا بقوة :
الله لا يوفق عدوينك يا الكاوبوي .. بشكيك لجدي بخليه يطردك شر طردة !
-التفت نحو الباب عازمًا مناداة جده ليصمت بعدها بثانية-
عمي سعيد هنا .. الله الله اكتملت اللعبة
قايد بحدة خرجت رغمًا عنه :
طلعوا وسكروا الباب وراكم .. بسرعة
ارتبك الحارث من نبرة صوته التي انقلبت فجأة ، دفعه عبدالرحمن خارجًا ليقول بهدوء :
ترا بعض السماجة بايخة .. لا تزودها
الحارث بقهر نظر إلى ظهره المقفي :
مالت عليك يالسكنّي ، صاير ينخاف منك ومن هدوءك
/
\
يقف سعيد كالمذنب أمام والده المتربّع في فناء منزله وبجانبه والدته .. وأمامهما قهوة العيد :
يبه ولدي .. حرام عليك
عزّام بحدة وغضب :
تحرم عليك العيشة ، ولدك توك تعرف إنه ولدك ! قلت لا يا سعيّد لا تجادلني واجد
شهقت عزيزة من دعوته لتردف بغضب هي الآخرى :
استغفر ربّك يا ريّال ، يعني واقف مع أحفادك ومسفّل بعيالكم .. ما هم واحد ؟
عزام دون أن ينظر إليها ، بل عيناه مسلطتان نحو سعيد الواقف أمامه بـ"كشخة عيد" ظاهرية ، فداخله ماعرف الفرح مذ عاد قايد إلى موطنه الأصلي .. لكن ليس لحضنه وحضن والدته التي لم يراها سوى مرة واحدة ، بل الى حضن وملجأ جده عزام .. إلى من " ينصره ، ظالمًا كان أم مظلومًا " :
هم واحد ، ويشهد علي ربّي .. لكن اللي يبيع ولده وهو ساكت خوفًا من شيبة لا راح ولا ردّ هو بني آدمي ، ما يستاهل يشوف ولده عليها ..
تنّهد سعيد بيأس من عناد والده :
باصبّح عليه وببارك له بالعيد بس يبه ! وش بسوي يعني بذبحه ؟
عزّام بابتسامة شبه ساخرة :
صح بتذبحه ؟ ماينفع الذبح في الميّت خلاص
أوجعه كلامه والده بل وأدمى قلبه وشطره لنصفين ، هتف برجاء مخلوط بعتاب :
يا تاج رأسي تعوذ من إبليس ، قايد محتمي فيك وأنت مكبّر رأسه علي ! على كذا كيف بتفاهم معاه
وقف الجد عزّام متكئًا بعصاه ، ينظر له بجدية خالصة :
مالك عندي رجاء ، الشور شور قايد إذا هو يبغى يشوفك ويسمع منك لو لا .. ودامه نهار عيد وهو ما طلع وراء عيّال عمه من هالغرفة فمعناه ما يبي لك شوف ولا يبي منك عذر
توكل يا سعيّد ! توكل
أحنى سعيد رأسه للأسفل ، يشعر بالألم يفتت عظامه .. كم يومٍ مرّا دون أن يستطيع ملاقاته فوالده يقف له بالمرصاد ، يتربّص دخوله وينتظر قدومه لكي ينقضّ عليه بكلامه ويجرح به قلبه وروحه جروحٍ لا تبرأ .. يشعر بالأسى لضعف موقفه ، فلو جاء للحق فإن الحق كله عند قايد
ابنه ، وبِكره ، وحامل اسمه .. المغدور من قِبله
ويبدو أن لا أمل .. حتى والناس في العيد يمرحون ، يتسامحون ، يدمحون زلاتِ بعضهم بعد أن خرج شهر الطُهر والبركة والضِياء
أعطاهم ظهره خارجًا من باب المنزل ، يتبعه الحارث وعبدالرحمن اللذان حضرا الموقف كاملًا دون تدّخل :
انتظركم في السيّارة
قالها بجمود تام ، وخلف جموده قلبٍ هشٍ نازف .. ولكن أين المهرب ، سيعود ! محال سيعود له قايد
التفتت عزيزة نحو عزام وهي تقول بِعتاب :
أجعته واجد يا عزّام ، أجعته واجد
تنّهد عزام وهو يعزّ عليه حزن ابنه ولكنّ لعلها كفّارة لحفيده الذي تركه يؤخذ دون أن يستخدم كامل سيطرته المطلقة :
داري يا عزيزة داري ، لكن خليه يعرف إن قايد وراه ظهر .. بدل لا يحس إنه روحه مرخوصة ودمّه مهدور !
خرج الجد ، لتتنّهد عزيزة بأسى على حال ابنها وحفيدها ، لو نظرت من الجهة التي ينظر لها الجد عزّام لعلمت أنها الصحيحة ، فالجدّ عزام لا يخطو خطوة دون حِكمة يرجوها من خلفه .. لكنّها ما تفعل بقلبها الصامد في قوته ، الرقيق في مشاعره :
حقّاني ولد العزم ، الله يطول بعمره
هتف بها قايد من خلف جدته عزيزة التي التفتت تنظر إليه بدهشة أعقبها عِتاب على كلامه :
قويّد
ابتسم قايد ، ادخل يديه في جيب البنطال القطني الذي يرتديه ، اقترب منها وجلس بجانبها ، ليضع رأسه على ساقيها وسط ابتسامة الجدة عزيزة :
ماقلت إلا الحق ، قولي إن صادق ؟
ابتسمت الجدة عزيزة بحنان فائض ، مسحت على شعره بهدوء :
هان عليك أبوك تخليّه يوقف قدام جدّك مثل الطلابة ؟
تنّهد قايد ، أغمض عينيه وهتف بأسى :
مثل ما هنت عليهم يا جدتي ، خلّي كل واحد ياخذ المقسوم بدل لا يلاحقه
ضربت جبهته بخفة يدها لتُردف بغضب طفيف :
هذا أبوك يا أسود الوجه !
مسك قايد جبهته :
آآآخ ، رأسي يا جدة بروحه يعورني .. شوي شوي عليه !
بعدين وإن كان أبوي .. كل شيء ممكن أتقبله في حياتي إلا الاستغفال ، وأنا مب بس استغفلوني ، أنا تلاعبوا فيني على مزاجهم
ابتسمت عزيزة بسخرية :
ونعم التربية !
قايد بإبتسامة فتح عينيه ينظر لها من الأسفل :
تربيتش طال عُمر هالوجه الزين
-تناول يدها ، قبّلها بعمق هامسًا-
لا تزعلي فديتش ، أعرف ما يهونوا عليش عيالش .. بس جدي ما يحكم إلا بالحق ولا وش تقولي ؟
هزّت رأسها بإيجاب وابتسامة هادئة تستقر على ثُغرها ، وهي تثق بقرار زوجها ومدى اهتمامه ، فإن كان يُريد تأديب ابنه-بعد هذا العُمر- محاسبًا إياه على غلطة قديمة .. فله ذلك :
أقول يالشيّخة
قالها قايد وهو سارحًا في الأفق ، لتبتسم جدته :
قول يالمربوش
اعتدل في تمدده وجلس بجانب جدته ، ليُردف بجدية بالغة :
أنتِ تعرفي عيال زوجة الوكيل كلهم ؟
عقدت حاجبيه بإمتعاض وقلق :
الله يكفينا شرّ السيرة ، اقطعها ياولدي وش لك بهم وبشرّهم
قاطعها قايد بذات الجدية :
ما هموني ياجدتي ، أنا أبغى أعرف عيالها كلهم .. تعرفينهم واحد واحد ؟
تنّهدت الجدة عزيزة ، صمتت لفترة شبة طويلة كانت كالدهر على قايد ، لتُردف :
زوجة الوكيل الله يذكرها بالخير من خِيرة الناس ، أنا وإياها كنّا صحبة من أول ما تزوجت جدك وجيت هِنا .. لولا أن الله بلاها برجال أعوذ بالله من قسوة قلبه !
ابتسم قايد ابتسامة صغيرة ، مقاطعًا إياها :
فكينا من زوجها اللي مسوي نفسه شيخ ، وخبريني عن عيالها
هزّت رأسها بإيجاب :
أعرفهم ، هم وأعمامك كانوا متربين مع بعض مثل أغلب عيال هالحارة .. بس أنت عن من تسأل بالضبط ؟
سرح قايد لبُرهة ، تردد في قول ما يودّ قوله وما يسعى إليه ، لكنّه طمس التردد وهتف بجدية :
صقر !
عقدت حاجبيها لوهلة ، ثم ابتسمت :
الصقر ، مثل ما تحب أمه تناديه .. نسخة أمه بكل شيء !
وش عليك منه ؟
تنّهد قايد :
يعني وش تعرفي عنه بالضبط ؟
الجدة عزيزة وهي تسرد القصة التي تعرفها :
اللي نعرفه إن الصقر الله يرحمه تزوّج أخت صديقه ، وهي ماهي من هالبلاد .. من الشرق
بدون شور أبوه اللي عارضه في البداية ، بس بعدها قنع
عاش طول عمره في بلاد أهل زوجته وما عاد شفناه ولا شفنا عياله لين جانا خبر وفاته رحمة الله عليه وغفرانه
سكت قايد مطولًا بعد الحكاية القصيرة التي سردتها جدته
وتفكيره يأخذه إليه ، إلى ذات العيون الصقريّة
ربما هذا واحد من الأسباب التي جعلت الكره يجد طريقه لقلبها .. ناحية عائلة والدها
لم يحتضنوا والدها كما يجب ، لم يفرحوا لولاداتهم ، لم يكرموا ذكرى والدها بل تفاخروا بحفيدتهم حبيسة
همس في غفلته :
الظاهر إن طريقي طويل !
التفتت له جدته عاقدة حاجبيها بإستغراب :
وش قلت ؟
فتح باب المنزل فجأة وتوافدت منه الفتيات واحدةً تلو الآخرى بجمالهن الآخاذ في يوم العيد ، وحواراتهن تتعالى كما تتعالى ضحكاتهن
فللعيد جمال ، يعرفه السعيد والتعيس ، المهموم والمُنشرح ! يكفي أنه يومٌ تتجدد فيه المحاسن وتُردم فيه الآثام
ولا يبقى في القلب إلا الرضى ، ثم الرضى
سقطت عينا قايد فجأة على زينة التي كانت أخراهن ، تجمد مكانه لتتجمد هي الآخرى .. كأن الزمن توقف فجأة
والتساؤلات تدور في فلكٍ لا يتوقف عن الدوران ، متى وكيف وماذا حصل ؟
اتضحّت اللهفة على عينا زينة ، قابلها قايد بجمود تام وهو يقف بعيدًا ليلوذ بالفرار
تاركًا حريّة التصرف للفتيات مع جدتّهن
سلّمت زينة على رأس جدتها ، باركت لها بالعيد ودعت لها بطولة العمر
اتخذّت طريقها نحو المنزل ، تلفتت حولها وهي لا تعلم عمّا تبحث بداخله .. بل تعلم
تبحث عنه ، عن قايد ! فتلك النظرة التي رأتها قلبت بكيانها ، وأصبحت تشعر أنها في أرضٍ جرداء ، لا رحمة فيها ولا حياة
تراءى لها صوته في المطبخ ، اتجّهت بخطوات سريعة نحوه ! رأت ظهره العريض يسدّ الباب ، همست بلهفة :
قايد !
التفت قايد نحوها بدهشة ، لا ينكر أنه انصدم من رؤيتها تتبعه بعد أن أرسل لها -متعمدًا- نظرة جامدة خالية من الحياة
عاود الالتفات نحو العاملة ليقول بحدة :
هيه أنتِ سوي "عُرسيّة" في صحن حق أنا وجيبيه غرفة ، بسرعة مافي سوي تأخير
خرج من المطبخ دون أن يُعير زينة أيّة إهتمام ومشى في طريقه إلى الغرفة التي يحبس فيها نفسه بعيدًا عن نظرات أهله وهمساتهم المقطوعة :
قايد لحظة !
أوقفته زينة بهتافها ، فوقف معطيًا ظهره إياها ، وقبضة يده تشتّد بجانبه .. حتى وصله همسها العاتِب :
وش هذا اللي تسويه فينا يا ولد عمي ؟
عضّ شفته بقوة حتى شعر بطعم الدم في فمه ، هتف بجمود بعد صمتٍ طويل :
وقفتنا غلط .
اقتربت منه لتترك فاصلًا قصيرًا بينهم ، وبغضب طفيف :
مافيها شيء وقفتنا ، قبل كم شهر وقبل سنين كنّا نوقف هالوقفة
ثبت في مكانه ، دون أن ينظر إليها .. فالنظر لعينيها نوعٌ من أنواع العذاب والإنهيار ، بسخرية :
قلتيها .. " قبل " ، يعني اليوم هذه الوقفة محسوبة علينا ، فـ حاسبي عليها
أغمضت عينيها بقوة ، تنّهدت ثم نظرت لظهره الشامخ بهمس :
احنا أول وأخير نظل عيال عمك يا قايد ، ماتقدر تتخلى عنّا لمجرد إن كلمة " قدر ونصيب " غلبتك وغلبتنا !
أنت غالي علي ، غالي يا قايد .. يوم من الأيام كنت لي سند وعزوة !
المواقف والأحداث ، وحتى الضرب اللي تلقيته عشاني ، كل هذا ما ينمحي ويموت
التفت نحوها بقوة أخافتها ، مردفًا بحدة وأنفاسه تتعالى :
أنسيها ، أنسي المواقف والأحداث والفزعات اللي فزعتها ، اعتبريها ولا شيء .. ما سويت اللي سويته عشان أتكبّر وأمنّ فيها عليش ! سويتها لأني ، لأنـي ...
قطع كلامه وأغمض عينيه بقوة ، وهو يستوعب أنه ما عاد له الحق لأن يقول هذا الكلمة .. ما عاد يملك المكانة والمنزلة حتى يقول لها بوافِر الحُب في قلبه أنه " يحبها " ، منذ اللحظة التي أُعلن فيها زواجهم .. سقطت جميع الحصون والمدافع ، ذبلت الحروف ومات الحبر .. وجفّت صُحف الحب :
روحي زينة ، شوفي طريقش وارسميه مثل ما تحبي ، خلي جروحي تبرأ بنفسها ! ومن هنا لذاك الوقت ما أبغى أشوفني بعيونش أكثر من مجرد ولد عم .. لا أكثر ولا أقل
قال ماعنده واستدار إلى الغرفة ليغلق بابها بقوة كادت تصم بآذان زينة التي تنظر إليه بحسرة ووجع ، تنّفس بصورة سريعة وقلبه ينبض بصورة قاسيّة .. حُتم عليه الألم ، لا شك في ذلك
لا يعلم كيف استطاع الثبات في أرض عينيها دون أن ينهار ويذوب في ظلامها .. اليوم الذي يُصبحا فيه مثل الغريبين ، قطعًا ما ظنّ أنه آتٍ
مسح على وجهه بصبر وطولٍ بال ، إن كانت حياته محفوفةٌ بالأوجاع التي لا تنتهي ، فليضع بها نقطة بيضاء ناصعة لعلّها تكون بداية طريق غفرانه
تناول هاتفه ، رن لرقمٍ معيّن ! وعند الاستجابة هتف بجدية :
هلا .. مداوم ؟ .. زين أبغاك تطلّع لي معلومات عن شخص ، مكان سكنه ، رقم واحد من عياله ، أيًّا كانت معلومة صغيرة ولا كبيرة عطيني إياها .. قدم لي هذا المعروف ونسكّر دفتر مصالحنا المتبادلة .. اليوووم ، سامعني ؟ اليوم أبغى المعلومات
أغلق المكالمة وعيناه تنظران للفراغ ، صمم على فعل ما يريده ، فليُكفّر عن أخطاء الماضي إن كان أصحابها عجزوا عن ذلك



-
تجلس بجانبهن جسدٍ بلا روح .. روحها غامت في سماوات الوجع والتوّجع ، لا تملك إلا الكلام لكيّ تسترد فيه روحها ، فالأفعال مثلما قال قايد باتت " محسوبة علينا "
تنّهدت بصبر ، تذكرت أنها لم ترى الحارث ولم تبارك العيد لعمّها سيف .. أخرجت هاتفها من حقيبتها وسقطت عيناها على الورقة المصفوفة بداخلها .. ورقة " صك بيع " الأرض المليونية
رنت للحارث الذي أجاب من الرنة الأولى :
هلا بالأخت العودة ، عيدش مبارك !
ابتسمت زينة بحنو إثر مرح الحارث المتشكّل على هيئة صوت :
قديمة .. غيّرها
الحارث بخبث باسم :
الله الله الله ، من صبّح فيها عليش قبلنا ؟ ماغيره ولد عمي الأعرج
زينة بذات الابتسامة أردفت :
الأعرج بعينك ، أنت متى تستحي على وجهك وتتكلّم عن عيال عمك بأسلوب زين ؟
الحارث بمرح وشراحة ضحك :
اخيييه جتنا قايد الثاني ، وخري بس .. مالت عليكم ما ينمزح معكم يا عيال العزم
اندمحت ابتسامتها عند ذِكره لقايد ، تجاوزت ذلك بسرعة لتهتف بجدية :
أنت وينك ؟
اعتدل الحارث في وقفته عند صوتها الجاد :
هنا واقف قدام بيت جدي مع الشباب نسولف
زينة بذات النبرة الجادة:
من في المجلس ؟
هتف الحارث بحذر واجم :
آخر مرة شايف عمّي سيف ، وبعض الشباب ! ما أعرف إذا طلعوا أو لا
تنّهدت بتنهيدة مكتومة ، وادعت الحارث وأغلقت الهاتف .. وكلّ أملها أن يكون حاتم هُنا
حملت نفسها واتّجهت إلى المجلس ، طرقت الباب بخفة وانتظرت خلفه .. إن فتح الباب أحد الشباب فهذا يعني أنهم مجتمعون هُنا جميعهم ، من بينهم حاتم .. وإن لا ، فيعني أنه لا أحد سوى أعمامها
طرقت مرة آخرى وانتظرت ، بعد ثوانٍ قصيرة فتحت الباب وأطلّت برأسها من خلفه
وجدت عمها سيف وحيدًا يجلس على الكراسي ، أمامه " فوالة العيد " بحضنه جريدة يقرأ فيها ، والتلفاز بصوته الصاخب على قناة عُمان الأولى التي تبث حلقة العيد
رفع رأسه ينظر إلى الطارق ، فابتسم :
تعالي عمّي !
ابتسم زينة بخفوت ، دلفت إلى الداخل ، قبّلت رأسه ويده ثم جلست بجانبه :
كل عام وأنت بخير عمي ، من العايدين والفايزين
ابتسم سيف ، أغلق الجريدة ووضعها بجانبه :
عساش سالمة وغانمة ، وش ذي الحلاوة كلها ؟ مانقدر عليها
ضحكت بخفة ، وقلبها يمتلئ بالحُب ! مهما جرى ومهما حصل .. لا يستطيع قلبها أن يحمل سوى الحُب والاحترام لهذا العم الرائع بجميع المقاييس
التفتت نحوها تنظر لخلوّ المجلس ، فهتفت بتساؤل :
وين الشباب ؟
ابتسم سيف :
تسألي عنهم كلهم ، ولا عن واحد ؟
-أكمل بضحكة حين رأى حُمرة وجهها ورفرفة رمشها-
حاتم شال أبوي يزور ويعايد على ربعه الشيوبة
ابتسمت زينة أكثر من سابقتها:
عمممي
هزّ كتفه وسط ضحكته هو الآخر ، ليُردف بإهتمام :
خاطرش في شيء عمي ؟
تنّهدت زينة لوهلة ، تلفتت حولها من جديد .. صحيحٌ أن حاتم منعها من فعل ما تُريد فعله ، وصحيحٌ أنها جاءت اليوم لتقنعه أمام والده حتى يرضّخ .. لكن ما هو بموجود هُنا
ولمعرفتها لـ عِناده ، وأنه سيرفض حتى لو طلب منه والده ، أرتأت أن تسلك بعض الطُرق الملتوية :
أبغى أزور أمي .. توديني ؟
قالتها وهي تنظر إلى ملامح الدهشة التي سرت إلى وجهه ، ولا تلومه على إندهاشه .. فهي منذ سنين لم تزر والدتها في صباح العيد
أكملت زينة بتبرير ، كمن قُبض عليه زورًا ويريد النجاة لا غير :
مشتاقة لحسن ، والحين فرصة دام ضيوفكم بيوصلوا على العصر !
سكت سيف مفكّرًا ، والكثير من الأفكار تروح وتجيء في باله
لكنه ابتسم أخيرًا ، فلن يُحمّل الموقف أكثر مما يحتمل :
زين عمي قومي تجهزي وأنا أنتظرش في السيارة


انتـهى ❤

Salma_3_, NON1995 and Msti like this.

الكاديّ غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 13-06-22, 10:03 PM   #86

الكاديّ
 
الصورة الرمزية الكاديّ

? العضوٌ??? » 490082
?  التسِجيلٌ » Jul 2021
? مشَارَ?اتْي » 300
?  نُقآطِيْ » الكاديّ is on a distinguished road
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم

*
*

لا تلهيـكم الرواية عن الصـلاة

*

الفصـل التاسـع عشـر




بعد دقائق ليست بطويلة كانت تجلس في صالة منزل خالها الفخمة ، تنظر حولها بينما " والدتها " تجلس أمامها تنظر إليها بنظرة الجائع العطِش ، تأتيها الخادمة بالقهوة وغيرها فتمتنع عنها :
غريبة !
صدرت هذه الكلمة بنبرتها " الغريبة " من والدتها ، فرفعت عيناها إليها وهي تنظر إليها كـ " غريبة " :
غريبة أول مرة تجيني صباح العيد !
ابتسم زينة ابتسامة صغيرة متصبّرة :
ما الغريب إلا الشيطان .. جاية أشوف حسن من زمان عنه
مريم بابتسامة سخرية ، همست :
ما قلت لش غريبة ، ظنيّت جاية لي وأثرش جاية لأخوش
تنّهدت زينة ، صدّت بوجهها بعيدًا عن تلك النظرة التي اعترت عينيها ، نظرة منكسرة ، متأسفة على حال والدتها :
وش جابش غير الحسن ؟
استغفرت في داخلها عشرًا ، هتفت بجدية :
أسلم على خالـي
اعتلت ملامح الإستغراب وجه مريم ، ما لبتث أن قالت بصمود :
خالش عنده ضيوف ، ما بيطلع من المجلس إلا بعد الغداء
زينة بإصرار عجيبٌ عليها :
بنتظره ، ما وراي شيء
عضّت مريم على شفتها بقوة ، شيءٌ ما يُنبئها بسوءٍ سيحدث لمجرد قدوم زينة بقدميها إلى الفخ .. تعلم أن أخيها لن يصمت هذه المرة ، سيُكلّل مساعيه بضربة قاضية لم تشهدها هي من قبل
بعد دقائق طويلة ، طالت جدًا في الصمت واللجوء إلى النظرات .. دلف من باب الصالة الرئيسي بقامته العريضة الأقرب للبدانة ، بـ"كشخته" المبالغة بها في الخنجر والبشت ، برائحة عطره " الغالية " التي قضت على شُعيراتها التنفسيّة
لتقف مريم ووقفت من خلفها زينة .. فتجمّدت قدماها وهي تشعر بإرتجافتهما
صبّرت نفسها بكلام قوي ظلّت تردده في داخلها . حين نظر إليها خالها بغطرسة :
زينة بنت مرشد مشرفة بيتنا .. عساش جاية تبشريني بطلاقتش ؟ لأن السالفة طالت ومصخت
أخذت نفسًا عميقًا ، قويًا وعازمًا ! وبنبرة صارمة :
عيدك مبارك يالخال !
لم تتحرك من مكانها ، لم تقبّل رأسه ولا كتفه ولا يداه ، فمثله طاغية لا يُقبّل أبدًا ولا يكن له الإحترام
جلس في صدر الصالة ، معتليًا عرشه في مملكته ، فقال بإستعلاء :
وش جابش ؟ منتي عارفة إن عيال العزم مب مرحّب فيهم ببيتي
جلست هي الآخرى لتقول بجدية :
على كذا الحسن من عيال العزم ، ليش مرحبّ فيه ببيتك ؟
هتف خالها بسخرية متعجرفة :
متصبّر فيه ، وش أسوي !
التفتت مريم نحو أخيها بنبرة عاتبة :
أخوي !
رفع كفه في وجهه يُصمتها ، ليقول لزينة بجدية حادة :
وش جابش لبيتي ؟
وضعت ساقًا فوق الاخرى ، أخذت نفسًا عميقًا ، أردفت بقوة :
تذكر قبل كم شهر لمّا جيت أبشرك بزواجي من ولد عمي ؟ جاية اليوم أبشرك .. عساها البشارة تعجبك
نظر لها الخال بنبرة قاسيّة ، مردفًا بذات القسوة :
ما زلت أنتظر السبب !
صمتت زينة صمتٌ طويل ، صبّته كله كنظرات متحديّة في وجه خالها ، تلفتت حولها لثواني سريعة ثم قالت بسخرية :
تصدّق يا خال ، أحيانًا أتساءل .. واحد كان عايش على وظيفة حكومية ، وفي بيت شعبي ، كيف يسكن الحين في تحفة فنيّة ؟
يا ترى بالنصب والخِداع ، أو بالتزوير والإحتيال ؟
نشف الدم من عروق مريم ؛ بهت وجهها وأصفرّت عيناها من هول ما سمعت ، مُحال لن تخرج زينة من بيت خالها حيّة تُرزق .. ارتجف داخلها خاصة عندما رأت النظرة السوداء في وجه أخيها
تعلم تلك النظرة جيدًا ، نظرة رأتها قديمًا ونالت منها الويلات
أكملت زينة بقوة جادة ، وبلا إكتراث :
الحين لو جينا للحق نص تجارتك اللي متفاخر فيها ماهي شريفة ، ولا تسأل كيف عرفت يالخال العزيز .. اللي يبحث ما يضيع
-ابتسمت بقسوة ساخرة-
حطيّت برجولك على أبوي ، غنيمة سمينة .. فيها وفيها اللي كنت تسعى له ، طبعًا الطامع اللي مثلك يسعى في جشعه ولا يتعب
ولما كشفت أمر الأرض ، وعرفت قيمتها الخيالية .. سعيت حتى تزوجني من ولدك ، ليش يا ترى ؟ لأن الأرض باسمي
ولأن بظنّك إن زواجي من ولدك راح يخليني أتنازل عنها
-وقفت وبيدها الورقة ، اقتربت منه بخطوات طويلة-
اعذرنا على سعيك الخايب ، الأرض انباعت يا خال وقيمتها في حسابي .. انتهت اللعبة وانتهى دور اللاعب الفائز والمسيطر على أرقاب الغير !
تناول الورقة من يدها بقوة ، قرأ ما بداخلها وكل شيء يوحي بصدقها .. ختم الوزارة ، توقيعها ، نسخة الشيك المرفقة معها ! لم يشك لحظة واحدة أن الورقة التي أمامه مزورة
كل ما أحرق أعمدة صبره وتفانيه تشتعل الآن أمامه ولا يرى سوى النار .. والإنتقام
كان قد علِم بأمر الأرض ، وبعض الاستثمارات التي يملكها مُرشد ، في بداية طريق التجارة الذي سلكه .. ولخبرته المحنّكة آنذاك تنبأ بمستقبلها ، على عكس خبرة مرشد القليلة التي دعته إلى شراءها هكذا فقط لكي يضمن مستقبل أطفاله ! وبعد سنوات ، بعد أن قدّر قيمتها .. طمع بها
سعى بكل جهده إلى شراءها بثمنٍ بخس من مُرشد ، لكن الأخير رفض رفضًا قاطعًا .. فرأيه حينها كان " شاريها لعيالي ، وعيالي حريّن فيها "
لا يدري كيف اكتشف مُرشد طمعه بها ، لكن بمجرد اكتشافه كتبها باسم زينة البالغة ذاك الوقت 16 عامًا ! ووضع توكيلًا لها حتى تستطيع التصرّف بها حين تبلغ السن القانوني
سواء بيعها ، أم الاستثمار فيها .. أم البناء عليها
جنّ جنونه حين علم ، فوّجه فوهة سلاحه نحو زينة .. كان مصرًًا عليها كما لو لم يصرّ على شيءٍ من قبل ، ليُفاجأ أن زينة خُطبت لابن عمها وهي في الـ17 من عمرها ، وهذا الذي عرفه قبل شهور فقط حين زارته زينة "مبشرةً" إياه على زواجها
مزق الورقة إلى أجزاء صغيرة بالكاد تُرى ، وأنفاسه تتعالى كثورٍ هائج يتوعد بالموت ! صرخ في وجهها بقوة أخافتها فعلًا :
أنتِ ، أنتِ ياللي ما تساوي أصغر قطعة في بيتي .. تتحديني
تراجعت زينة للخلف ، شادة على قبضة يدها :
لا تحسب إن مرُشد مات يعني ألعب يا فأر ، ترا بنت مُرشد لبوة مستعدة تنقضّ على فريستها
هتفت بها في جدية ، ارتجف صوتها على إثره .. صرخ الخال وهو يقترب منها عازمًا على تأديبها بما لا تقدر عليه :
تخسي يالنذلة ، لا مرشد ولا بنت مرشد يوقفني ، إن بغيت أوصل للشيء وصلته غصبًا عنش وعن اللي خلّفش
بتجيني الأرض ، بتجيني أنتِ تترجيني أعتقش من اللي بسويّه
زينة بحدة قاسيّة ، ونبرة أقسى :
بأحلامك!
جمدت مريم في مكانها ، واللحظة التي كانت خائفة منها ها هي قد حانت .. تحول أخيها لشيطان رجيم ، مستعدٌ أن يحرق كلّ ما أمامه .. فكيف بفتاة تتحداه
رفع يده للأعلى ليهوي بها على خدّها .. أغمضت زينة عينيها بقوة مستعدة لتلقي ضربته
لولا أن وقفت مريم حائلًا دونها ودون تلقيّها ، فتتلقفها هي .. وتسقط على الأرض مغشيًّا عليها ، وأنفها تنزف بقسوة





-
اليوم التالـي /
تتابع غليان الماء وعيناها تسرحان في الفقاعات التي تخرج منه ، أفكار ليست بقليلة تعوث في عقلها حطاما ، وتقتل ما تبّقى بها من خلايا صبرٍ وإبتغاء
سمعت حركة طفيفة بالقُرب من باب المطبخ ، وبصورة طبيعية حملت السكينة الكبيرة بيدها
العِزبة خاليةٌ من سواها ، فجدّها ذهب إلى طرف المدينة حتى يأتي باللحم للاحتفال بالعيد معها
رويدًا رويدا شعرت بالباب يُفتح ، فالتفتت بقوة وسرعة وهي تصرخ في وجه " الحرامي " بظنّها :
مكانك يا كلب !
توسعت عيناها بصدمة ، وتجمد الذي أمامها بدهشة من السكينة التي تحملها .. همست وسط ذهولها :
قايد ؟
رفع قايد كفه أمامها ، ينظر إلى السكين آنًا ، وآنة إلى عينيها من خلف "البرقع" :
قايد والله قايد .. نزلي السكين الله يهداش يالجوهرة
تجاوزت صدمتها بوجوده هُنا لتهتف بعصبية بالغة وهي ترفع السكين للأعلى :
ما شفت واحد مجنون مثلك ، يوم الله نجّاك من هالمعقل ليش راجع له برجولك؟
اطلع بسرعة ، اطلع جدي على وصول !
اعتدل في وقفته وعيناه باتتا على السكين ، هتف بجدية :
جدّش شفناه وهو طالع .. وأعرف وين رايح ، أنتِ نزلي السكين وخليني أخبرش الرسالة
عقدت حاجبيها لوهلة بإستغراب :
رسالة ؟
أخذ قايد نفسًا عميقًا ، ليُردف بهدوء أعمق :
" هيت غابجوت شوجعة "
تصلبّت في مكانها حين سمعت هذه الجملة باللهجة الجبّالية " لهجة أهل ظفار " التي تعلمّت بعض كلماتها في الصغر من باب الترفية
وعلمّها إياها شخصٌ آخر لطالما كانت تكنّ له الحُب والوئام
همست بحنين :
أخوي !
هزّ قايد رأسه بإيجاب وأردف بذات النبرة :
ايو .. أخوش ، قال لي وصلّ لها هذه الرسالة وهي راح تثق فيك مثل ما توثق فيني لأن " أنتِ بنت شجاعة " مثل ما قال في رسالته
هتفت بلهفة وضحت في عيناها ، لهفة أدمت قلبه :
وينه ؟
اقترب منها بخطوات بطيئة ، نزع السكين من يدها ووضعها على الطاولة بجانبه ، تجاوزها ليفتح باب المطبخ الخلفي
أشر باصبعه على تلّة رملية تجاوز العزبية بكمٍ من الأمتار :
عندش خمس دقايق تطلعي من العزبة وتتجاوزي ذيك التلة ، بتلقيي سيّارة جيب على الجانب الثاني .. أخوش ينتظرش فيها
التفتت الجوهرة نحوه ، شاخصة ببصرها ، غير مصدّقة لما تسمع
تتساءل فقط .. كيف عثر أخيها عليها ؟ فهم لا يعلمون أن الجد يملك عزبة في هذا المكان النائيء من الصحراء
ساورها الشك أن قايد يكذب عليها ، ويُمنيّها بالآمال الشائكة
فأردف بجدية بالغة رغم ارتجاف صوتها :
وش دراني إنك تعرف أخوي وما تكذب علي ؟
التفت لها قايد بابتسامة صغيرة ، ليقول :
كان متوقع إنش تكذبيني ، لكن قال لي وصل لها الرسالة ، لأنها رمز سري بينك وبينه ! صح ؟
الرسالة ؟ نعم الرسالة .. لا يعلم فيها إلا هو وهي بعد الله ، أتخذّاها عادة لهما ، وخاصة لها هي .. حينما كانت تُريد فِعل شيء في صغرها ، شيءٌ تخافه وتخشاه ! كان يشجعها بهذه الجملة ؛ حتى لا يفقه من حولهم معناها .. فيتنمرون عليها :
الجوهرة بسرعة .. ماعندنا وقت !
وقفت على حافة الباب وقلبها يخفق ، أخيها قادم ، أخيها ينتظرها على الجانب الآخر من كثبان الرمل .. أخيها أتى لإنتشالها من منفاها
تزايدت دقات قلبها إثر ارتفاع هرمون الأدرينالين وحماسها الآن في ذروته ، حماسها للإرتماء في حضن أخيها لا غير
قبل أن تخرج ، وتفرّ هاربة إلى الأبد من هذا المنفى التي عاشت فيه سنون قاسية .. التفت نحوه متسائلة :
ليش تساعدني ؟
صمت قايد لوهلة ، أسبل بعينيه وهو يجترع ريقه من تلك النظرة الغريبة في عينيها الصقريتين .. رفع رأسه نحوها ثم هتف بصدق :
لأنش تستاهلي تعيشي غير هالعيشة !
اجترعت ريقها هي الآخرى ، ونبرة صوته مختلفة عما سمعتها من قِبل ، هذا الرجل الذي لطالما نعتته " بالغبي " أصبح أشجع وأقوى منها ، وعرف كيف يخلصّها من الأسر :
ركضي يالجوهرة ، ركضي ولا تشوفي على وراء أبد .. ركضي وأنسي كل اللي عشتيه في هالعزبة وتذكّري وش اللي جايش وراء هالتلة
هزّت رأسها بإيجاب .. هتفت بنبرة صادقة حملت شُكرًا ملء السماء :
قايد
-أكملت حين رفع نظرات الملهوفة لها-
شكرًا لك ، معروفك برقبتي
ابتسم بهدوء ، هزّ رأسه بإيجاب ليُأشر لها بعينيه حتى تهرب ، فهربت
هربت هذه المرة قولًا وفعلًا ، هربت بغفلةٍ من جدها ، بيدٍ عون من قايد ، بلقاءٍ من أخيها .. هربت تاركة كل خوفها وحسرتها وآلامها وليالي شوقها الباردة ودمعها وصُراخها خلفها ! ركضت بأقصى سرعتها
ودموعها تلتصق بخدها ، والرمل يلتصق بخدها كُمساندة !
هو الآخر كان يتابع هروبها وتراكضها السريع إلى التلّة ، يشعر براحة عميقة ، براحة ما شعر مثلها قبلًا .. همٍ كالجبل إنزاح عن كاهله أخيرًا ، لطالمًا أعدّها " جوهرة " حرامٌ عليها أن تُوضع في صحراء خاليّة من البشر والتمدن .. من مثلها يجب أن يُوضع في أرقى المتاحف وأقدمها
همس وهو ينظر لوصولها إلى القمة :
جابنا الغدر ، وجمعتنا الصحراء .. وفرقتنا الحريّة
علّنا نلتقي من جديد ! علّنا
خرج بخطوات خفيفة من المطبخ إلى الخارج ، تجمّد في مكانه حين رأى السلاح الثقيل الموجه أمامه ، وما صدمه هو الشيّخ الذي يحمل
يستحيل ذلك .. كيف وصل وهو من وضع أحدٌ ما ليُراقبه .. تلفتت حوله يأمل أنها اختفت قبل أن يرأها الشيخ فيقتله هذه المرة لا مُحال :
تدور عليها ؟ هربت أبشرك !
أخذت قايد نفسًا ، اعتدل في وقفته رغم ارتباكه من رؤيته السلاح الموجه نحوه ، زمجر الشيخ بعصبية بالغة :
تذكرت هذه مني ، وتذكر ذنبّك !
انطلقت الرصاصة من فوهة السلاح ، وانطلقت معها صرخة حادة ، قاسية ، جافة ، متألمة مصحوبةٌ بالدم .. والثأر
-
-
جلس على قارعة الطريق ، بجانبه الرصيف ، من خلفه الرمل ، وأمامه على مد البصر شارع مرصوف خالٍ من المارة
يسيل الدم من يده ، وكفّه الآخرى محمّرة به !
يتغضن جبينه بين ثانية وآخرى من ألمه .. صابرًا محتسبًا ، ولا يملك غير هاتين الصفتين في موقفه الحالي
أغمض عينه بقوة حين هبّت نسمة هواء حملت الرمل .. كالملح
أذرته على جرحه ، على قلبه النازف ، على عينيه المحترقتين
انتبه على ظهور سيّارة يتطاير التُراب خلف عجلاتها من شدة سرعته ، حتى وقفت واستقرّت أمامه مباشرة
نزل منها رجل ، لم يتعرّف عليه إلا بالأمس .. حاد العينين ، كتلك الصقريّة تمامًا .. فارع الطول ، سمح الملامح ، رقيق المنطق ، شديد الحمية
ابتسم ابتسامة مجهدة حين جثى أمامه ، ينظر برعب إلى إصابته ليقول بطمأنة رغم ألمه :
ما تأخرت ، دمي موجود ما فقدته كله
هتف " ذياب " بلؤم ، ويده تنتقل بإحترافية في عضد قايد المصاب :
قوم قايد خليني أوديك المستشفى يعالجوا الإصابة .. مالي وجه من سوات جدّي !
قايد بكلمة حادة ، ينقل نظرة بين ذياب ، وبين الجوهرة الواقفة خلف أخيها بتصلّب :
لا !
عقد ذياب حاجبيه بإندهاش :
يدك تنزف !
تنّهد قايد ، ما زال على جلسته في رصيف الشارع :
بسيطة يابو صقر .. قرصة رصاصة ! وبعدين المستشفى بيسأل ويسائل وأنا مو مستعد أرمي جدك في السجن عشان جرح صغير
توسعت عينا ذياب ، ارتفع حاجباه بإندهاش :
بعد كل اللي صار ؟
ابتسم ابتسامة صغيرة ، دامت لثواني واختفت ، ذاكرًا كلام جده ذات مرة :
لو ما ترفّعت عن إساءة جدك بصير خسيس وأسعى للإنتقام من اللي يسوى واللي ما يسوى .. جدّك غلط بس أنا مستحيل أزيد الغلط فوق الغلط.
ابتسم ذياب لوهلة ، ربّت على كتفه بمودة ، كمن يعرف هذا الإنسان منذ سنين ولادته :
أصيل يا قايد ، خلني أجيب عدّة الإسعافات أعقّم جرحك دامك معنّد عن المستشفى
هزّ قايد رأسه ، وأقفى ذياب بظهره نحو السيّارة مجددًا .. رفع وجهه ينظر إلى الجوهرة الصامتة والجامدة في مكانها
زفرّ ثم ابتسم وهو يحتضن عضده المصاب :
قولي !
-أكمل حين جذب إنتباهها من شرودها أخيرًا-
قولي الكلام اللي تقوليه في عقلش . ولسانش عاجز عنه
تنّهدت بهمّ ، تشد عباءتها الفضفاضة حولها بثبات .. أردفت بنبرة غريبة :
جدي عرف؟
أشار لجرحه الدامي :
وثأر لهروبش !
تحولت نظراتها لنظرات متألمة مختلطة بحسرتها ، نظرات يعرفها قايد جيدًا .. مما دعاه لأن يهتف بحدة خرجت رغمًا عنه :
لا تفكري تعيدي لي كلامش المصفوف عن الامتنان وردّ الدين وحطي ذا الكلام حلقة في إذنش .. أنا ما ساعدتش عشان تكافئيني على هالمساعدة !
-صمت قليلًا ليكمل قبل عودة ذياب-
احتمي في أهلش ، في أخوش ذياب .. والتزمي القوة وعززي مواطنها .. وقتها لا جدش ولا حتى إبليس يقدر ينزعش من حضنهم
سكت بعد وقوف ذياب أمامه ، وأسبل أهدابه بعيدًا عن نظراتها الصقريَة التي تقهر قلبه المغدور .. وتجعله يسبر جرحِه العاجز عن معالجته
عُولجت عضده بمساعدة ذياب المحترف في ما يقوم لدرجة أنه لم يشعر بذاك الألم الذي شعر به عند مرور الرصاصة واحتكاكها في جلده
مدّ ذياب يده .. تناولها قايد الجالس على الأرض.. جذبه فوقف محاذيا له :
قدامك العافية ، يلا اركب غداك اليوم ببيتنا
قايد بجدية بالغة :
قدام تحلف عليّ ، وصلنّي لطرف الشارع العام ألقى تاكسي عشان يرجعني للديرة .. واعد جدّي أرجع بعد ما أخلص شغلتي
هتف ذياب بسرعة :
يا قايد !
مسك قايد رسغه بذات الجديّة :
والله ما تحلف عليّ واعتبر كرايمك واصلة ، وصلنّي والقادم خير
تنّهد ذياب بعدم رضا ، ولم يجد بدًّا من مجاراة قايد والإذعان لرغبته ..
أوصله - حسبما طلب - إلى بداية الشارع العام حيث ظهرت معالم التمدّن والحركة المرورية المنتعشة في صبيحة ثاني أيام العيد
التفت قايد إلى ذياب بابتسامة :
جزاك الله خير ، ماقصرت يالحبيب
صافحه ذياب بلهفة بدت واضحة على وجهه ، والجوهرة من خلفهم تراقب بصمت :
إلا أنت اللي جزاك الله خير يا قايد .. تأكد إني ما راح أنسى لك هاللي سويته لنا ، أنت ما رديّت لنا بنتنا بس
-التفتت للجوهرة بحب عميق ، ثم أعاد بنظراته لقايد-
أنت رديّت روح الصقر لبيته !
أسبلت أهدابها وقلبها الغضّ يتسارع في نبضاته ، وبين واحدة وآخرى هُناك نبضة غادرة لذاك المتألم التي تجلس خلفه
ابتسم قايد ، هتف برجولة فاخرة تُناسبه كرجل عزم :
ما تسري الديون بين الإخوان ، وأنا اليوم كسبت أخ عزيز ما مثله وشرواه أحد
ابتسم ذياب بسامحة :
ما عزيّت إلا اللي يعزّك ، روح يا قايد يا ولد العزم الله يجعل درب خضر
همس بآمين خافتة ، نزل من السيارة وأغلق بابها ونظراته لا إراديًا تتجه نحو الجالسة خلف مقعده
تنّهد بقلة حيلة ، رفع يده مجاريًا يد ذياب في سلامهم الذي يرجو أن لا يكون الآخير
فهو يشعر برباطٍ ما يشد وثاقه بيديهم ليُقربهم من بعضهم البعض أكثر فأكثر .
رغم أنه ليس من عادته أن يستأمن نفسه على شخص لا يعرفه ، خاصة وهو يأخذ حذره من بعد غدر المعتصم فيه .. لكن هناك أمرٌ زرع الراحة في صدره ، قول رباني قال له " سيماهم في وجوههم "
وعند هذه النقطة أوقف السيّارة قبل أن تتحرك بطرق نافذتها ليفتح ذياب النافذة بملامح يشوبها بعض الإستغراب
فهتف قايد مبادرًا بجدية :
باكر إن شاء الله عرس ولد عمي ، تشرفنّي بحضورك؟
سكوت من ذياب أعقب جملته ، ليهتف بعدها بحذر باسم :
ويا ترى عيال العزم بيقبلوا يدخل مجلسهم واحد من عيال الوكيل ؟
قايد بذات الجدية دون حتى أن يبتسم :
أنت ولد الصقر .. إن كانك تبي الصحيح ! لكن لو جينا على ما تقول؛ فـ ضيوفي أنا ، هم ضيوف جدّي
وجدي ما يهين ضيوفه مهما وصلت بينهم الأحقاد
قل تم يا بو صقر ؟
تنّهد ذياب وبعد هُنيهة رفع يده بتحيّة وسلام مودة هاتفًا بابتسامة :
تم يالنشمي ، ما عاش من يردّك





-
هبط ميزان النهار وانجلى آخر خطوطه ، تبدد من خلف الأفق ليل أسودٌ قاتم فتوشحت من خلفه الكثير من القلوب حِرصًا على مداراة أحزانهم
والتي لا يستطيع ليلٌ أسودٌ كهذا اختراقها واكتشافها ، إلا أن الحذر واجب لشحيح الشعور وبخيل الكلام
وقف أمام باب غرفتهم وقلبه يضغط عليه بشدة ، يأمره بالهرب تارة ، وتارة يأمره بالمواجهة فحسب
وهو ماعهد الهروب اسمًا في قاموسه ، بل المواجهة وحسم الأمور ثم صفّ الاوضاع في مصافها الصحيح هو ما يعرفه
فليس هو بطفلٍ غبي ، ولا مراهق فظ لا يستطيع مجابهة قلبه النابض لها وهو قبلها قد روّض أكبر من نبضاته
دخل الغرفة بجمود ملامحه دون أن يلتفت ، توجه مباشرةً نحو دورة المياة لينزع عنه تعب اليوم .. واليوم عيد ! فتمنّى أن يكون على الأقل سعيد
" بتلقى السعادة في أحلامك دام عندك زوجة تضرب برغباتك عرض الحائط وتحيك الخطط من وراك ثم تجهّز المبررات قبل أوانها "
المبررات ؟ هه .. ابتسم بسخرية عند نهاية كلامه الذي كرره في عقله ! فوالده منذ الأمس يمنعه من رؤية زينة ظنًا منه أنه سيوجعها فوق وجعها
وسيوبّخها فوق الحسرة والندم الذي يظهر عليها
زوجته المصونة منذ الأمس تحتمي سرًا بوالده ، وتختبي علنًا في غرفتهم التي هجرها !
نبهها سابقًا عن عواقب أفعالها الطائشة ، فرحم الله امرئ عرف قدر نفسه .. ولعلها رحمت نفسها قبل أن تسُاوي قوتها بجبروت خالها
ما استفادت من هذا كله إلا الحسرة في قلبها ، وفقدان والدتها لسمع إحدى أذنيها نتيجة الضربة القاضية التي تلقتها
خرج من دورة المياة بعد ثورة افكار عبثت به ما زاد ملامح وجهه الا جمودًا ، وما زاد عضلاته الصلبة إلا نفورا
وقف أمام التسريحة ينظر إلى جلوسها الساكن كسكون الموتى ، متكئة على ظهر السرير تحتضن بيدها وسادة
وتجمع ساقيها أسفلها .. ملتحفة بغطاء خفيف جدًا
والأهم من ذلك وهو الأمر الذي اجتذبه إليها .. اختفاء لمعان عينيها الحادة !
زفرّ بعنف ، فقد القدرة على الصمت ، رمى فرشاة الشعر التي أصدرت صوتًا عاليًا
ليلتفت إليها دون أن يتقدم منها قائلًا بعدها :
هذه نتيجة قراراتش ؟ تلتفي على نفسش وتعضي أصابع يدش ؟
على الأقل قومي وواجهي النتيجة التي سعيتي لها بكل ما فيش
ظلّت على سكونها ، لم ترفع عينيها له .. ولم تُهمس بكلمة واحدة حتى
استزفّه صمتها ، اقترب حتى لاصق طرف السرير ، وبغضب مكبوت :
لو أعدد لش الخسائر اللي اكثر من الارباح ، ما حصيتها
لكن اللي مثلش دخل حرب بكل عتاده لازم يكمّل فيها .. ولا يهرب منها
قومي وواجهي أمش اللي ترقد في المستشفى ، وواجهي خالش اللي تحديتيه بكلامش
زفرت زفرة قصيرة بالكاد ارتفع صدرها وهبط على إثرها ، رفعت عيناها المكللة بالبرود ، المختفي خلفها أطنان من الوجع والشجن :
ما سألتك عن شيء فلا تقترح لي حلول .. على قولتك أنا اللي دخلت الحرب .. وأنا أكمل فيها
حاتم بغضب عجز عن السيطرة عليه :
بس .. هذا اللي طلع معش ؟
ما حتى عاد يهمش الطوفة العبيطة اللي خليتيه وراش يدورش من ممر لممر ، ومن غرفة لثانية
الغبي المستغفل اللي احتميتي بأبوه بظنش إنه بيأذيش لمجرد إنش طلعتي عن شوره !
اشتدّت حدة عيناها ، عاد اللمعان لها أخيرًا بعد حفلة من الدموع اللاهبة أسقطت بريقها ، وقفت مقابلًا له وبحدة مبحوحة :
أنت الحين وش تبغى حاتم ؟ وش اللي تبغى توصل له بالذات
-أخذت نفسًا عميقًا فأكملت-
لعلمك .. أنا ما احتميت بعمّي ، عمي هو اللي ما سمح لك لأنه عارف بتوابع تفكيرك .. وأشوف إنه صادق الحين
اقترب منها حتى لاصق أقدامها ، مسكها من عضديها وهزّها بعنف ! هاتفًا بعصبية :
صادق بايش ؟ بايش بالذات صادق يا بنت عمي ، أنتِ ما عدتي تشوفي أبعد من أنفش .. ما عاد يهمش إلا رغباتش وكيف توصلي لها لو فيها هلاكش
شوفيني ، شوفيني زينة والتفتي عليّ .. شوفي بعيوني نظراتي
هذا عذاب واحد متوّعد فيش ، أو واحد ناوي يقلب ليلش أسود فوق سواده ؟
صرخت فيه بغضب ونبرتها تطفح من الوجع ، فآخر ما كان ينقصها هو ثورٌ هائج .. كهيجان غريب الأطوار ، ابن عمها وزوجها المزعوم :
أنا ما أفهم ، خلصني وقول اللي تبغاه وفكنّي من نصايحك اللي أنت أحوج فيها مني ، خلصنـي !
في لحظة واحدة انقلبت ملامح وجهه الجامدة والهائجة ، إلى أخرى خائفة مرتعبة .. ورجفة يديه كانت خير دليل على ساعات الخوف التي عاشها حين تلقى استدعاء والده للمستشفى ، فأول ما جاء في باله هي .. دون لفٍّ أو دوران
كان يعلم منذ اللحظة الأولى أنها ستُصبح كارثته العنيدة ، أنها رغم ملائكية هالتها ستكون شيطانة عتاده .. لم يكن يكفيها قلبه الغادر الذي خانه منذ أول نبضة لها ، ولا يكفيها مساعيه المجتهدة لإظهار حُبه بشتى الطرق الشرعيّة وغير الشرعيّة
لا يكفيها أنّ " شحيح الشعور " بقُربها جاهد أن يغتني ..
أوجعه احتماءها بالصمت ، ولوذها بالفرار نحو الغموض والتحفظّ
حاول جاهدًا أن يكفيها عناء اللقاء ، ومشقة الكلمات ! أن يتلقى هو الصدمة بدل أن يتلقاها جسدها الغض ، وجلدها الرقيق
وها هي ذي تضرب بكل مخاوفه عليها عرض الحائط وتصرّ على تنفيذ مخططاتها مهما بلغت خطورتها
بلحظة واحدة فقط كانت تقبع وسط صدره ، أنفها يكاد يلاصق كتفه وجسدها الغُر ملتّفٌ بين يديه
تتابعت زفراته المتألمة ، همس بنبرة تموج في الوجع :
واللي شيّخش في قلبي ، إني عشت اليوم في خوف ما عشته من قبل
ارتجفت بين يديه ، والصدمة تأكل من ملامحها وتقتنص من رعشتها ! لعلها واحدة من اعترافات حاتم غير المباشرة
لكنها حتمًا ، بل وقطعًا .. قوية التأثير من بينهم
لما يجيء في هذا الوقت حنونًا كمحاولة منه للإعتذار عمّا حصل لها ؟
تنّهد بلوعة قلب .. هذا أقصى ما يستطيع قوله ، منذ تعرضه لذاك الحادث المشؤوم وهو قليل التعبيّر ، يستصعب صفّ الكلمات التعبيرية بجانب بعضها البعض لتنتج منهن جملة تنمّ عن الحُب والإخاء !!
تحرّكت في حضنه بصورة ضائقة ، وهو يشعر بأنفاسها التي تضرب عُنقه وكتفه ! ومن صوت تنفسها علِم أنها على شفا حفرة من الإنهيار
جاءه همسها المخنوق وسط صدره :
بعّد ، اتركني !
رصّ على جسدها بقوة أكبر ، يعلم أنها ستبكي بعد أن " يتركها " لكنّ فلتبكي هُنا .. آن لها الآوان أن تبكي في حضنه فقط بدل أن تهرب لغرفة ذكرياتها وتهلّ مطر عينيها هُناك :
خليّش
قالها هامسًا ، بنبرة مترجيّة في أن تظلّ بحضنه أكبر وقتٍ ممكن ، بعيدًا عن نهارهم الخجول ، ولياليهم المشتعلة
بعيدًا عن كونهم ابنا عمّ ، وعن كونهم زوجان
فليبقيا في حضن بعضهم كـ زينة وحاتم .. كـ هُما فقط
قلبٌ بقلب ، صدرٌ بصدر .. نعيمٌ بجحيم !
ازدادت حركتها مع ازدياد احتقان عينيها ، ستبكي لا مُحالة ، فيستحيل أن تبكي أمامه ، ما فعلتها قبلًا ولن تفعلها الآن
صرخت بإختناق فعلي لا مفتعل :
خلينـي .. ابعد عني !
أبعدها عن حضنه بقسوة ، ويداه ما زالت تمسكان بعضديها السمراوين .. إحمرار وجهها خير دليل على المعركة التي تجاهد على عدم خسارتها
فهتف بجدية صارمة :
ما لدموعش الليلة مفرّ من حضني ، اسكيبها في صدري وصدري لك فدا ..
هروبش للظلام بأحزانش ما يناسبش يا زينة !
صمت وهو يلاحظ إنهيارها الأولي ، تهزّ رأسها يمنة ويسرة ، وينساب شعرها المجعدّ بنعومة مع حركات رأسها ، جسدها يرتجف ، وجهها شاحب وعيناها حمراء من حبسها للدموع
تزايد هذيانها ، وكلامها غير المفهوم .. الأمر الذي أقلق حاتم كثيرًا
هو يعلم جيدًا ما عاقبة الكبت .. فلا يكتفي بهوانٍ نفسي ، بل يُسقط الجسد حبيسًا في أسرة المستشفيات
ربّت على وجهها بحنيّة وُجدت لها :
وحدّي الله يا بنت عمي ، تعوذي من إبليس
نظرت له برعب فزدادت عقدة حاجبيه ، تيّقن أن شريط ذكرياتها يمرّ أمام عينيه متجسدًا فيه هو .. فتراه خالها مرة حين تُهمس بـ " خالي لا تأذيها "
وتراه والدها الميّت فتنظر له بلهفة وتُهمس " يبه ، آه يبه "
تزايدت أنّاتها وآهاتها ، وتنفّسها يضطرب أكثر فأكثر !
صرخ فيها حاتم وقلقه عليها تفاقم وبلغ الحد :
زينـة صحصحي ، خلّش معي !
ما تفعله هذا المجنونة سيودي بعقلها لا مُحال ، سيجعلها تجنّ وتشكّ وترى خيالاتِ لا وجود لها ، سيجعلها تظنّ سوءًا بناسٍ رحلوا إلى ديارٍ أخرى وما عاد لهم إلا الذكرى
كاد يفقد وعيه هو الآخر حين ابيّضت شفتاها وبدأ صدرها يُصدر أصواتًا تنمّ عن إختناقها
فما كان منه إلا أن يرفع كفه ، ويهوي بها على خدها الأسمر بقوة ، فحلّ الصمت
ما عاد يُسمع إلا لهيث أنفاسه ، وحشرجات صدرها المرمي على السرير
استفاق من دهشته على أثر بُكاءها أمامه -وأخيرًا-
ظن للحظة عندما يرى دموعها أنه سيرتاح ، سيشعر أنها إنسانٌ عُجنت مساماته من الشُعور ، وشُكلّت إنحناءاته من العاطفة .. لا إنسانٌ بجسدٍ صلب ، وقلب صخر !
ولكنّه لم يستطعم الراحة ، ولم يعرف معناها ودمعها يشقّ خديها كمجرى الوادي
أحاط جسدها كاملًا بيديه ، أعادها مجددًا لحضنه ، يشعر بتأنيب الضمير على الضغط الهائل الذي واجهها به
وبشكل لا إرادي ، يشرب من نفس الكأس الذي شربت منه هي
نبهها سابقًا عن التهور ، ونبهه والده هو كذلك
وكلامها وقعا ضحايا العِناد ، والفظاظة :
الله يهديش يا بنت عمّي ، الله يهديش
كأنه هتف بتعويذة قاهرة ، تعالى صوت صراخها المقهور وتعالى معه بُكاءها الدامي :
لا تقول بنت عمـي ! لأن عمّك جبان .. جبان يومه خلاني وسط دنيا تلعب بـي
-تأوهت وسط صراختها المستمرة-
تعبـت ، تعبـت منه ومن فراقـه ، تعبـت من موتـه اللي ارتاح هو فيـه وتعذبت أنا به
وينه مُرشد اللي طول حياته كان يرشدني ويدلني على الصح ، وينـه وأنا من بعده ما اتخذّت قرار صح ؟
مسح على ظهرها صعودًا ونزولًا ، ودقات قلبها الصارخة يشعر بها في أيمن صدره .. بل وبدأ يشعر بدموعها التي بللت صدره العاري وضرباتها القاسية على ظهره :
كلكم جبنـاء قهرتوني ، ولا واحد منكم شاف نظرة عيوني
محد منكـم فهمني ياللي تسمون نفسكم رجَال حياتي
جـدي ، عمـي ، أخوي ، ولد عمـي ، وزوجـي !
وينكم عن زينة المقهورة .. وينكم ؟
-صرخت وهي تبتعد عن حضنه بعصبية بالغة-
بعّد عني ، لا تمثّل لي الحب والمحبة ! أنتو ما تعرفون غير الدوس ولو على حساب مشاعركم
قهرتونـي ، قهرتوني .. كلكم يا سند ظهري وعمود حياتي قهرتوني
تراجعت للخلف ، شدّت شعرها بأناملها بصورة قاسية ثم عقدته خلف شعرها ، تنظر إلى الواقف أمامها بنظراتٍ غريبة ما عهدتها منه يومها
( أنا لست مُنجيْتك
أنا حطامُك
أنا ساحة حربِك
وميدانُك !
أنا لأيامٍ وساعاتٍ وشهور
خِلتُك نصيبًا مفروضا
خلتُك .. ذنبًا ، وإثمًا ،
وفُحشًا غير مغفورا
لا تقترب ، دعّ الليل الأسود
ينسدلْ .
دع ساريات السّحاب تُودع
الغَمام على قلبي
وترتحل .
دعنَي يا شحيِحَ الشعور
دعني أغيب وأختفي
وأذوب
أذوب في غُصن الشجر
في تُراب الغافة ، وجذعها
الكهِل .
حررني يا سُوط الضمير
لأُصبح نباتًا هشيمًا تذروه
رياح الحُرّ
لتبعثني بعدها
رائحة المطر .)
قرأ ما يجول في خاطرها ، قرأ رغبتها في البُعد ، في الرحيل ، في إعتزال الماضي والحاضر واللقاء مع المُستقبل .. وحدها من دونه !
فظهر الرفضُ على عينيه ، ما التقيا بعد .. ما تشبعا بعناقٍ أبدي ولا حديث أزلي .. ما أزهر قلبه الأسود بابتسامتها القاتلة ، ما جاءته غيمة ولا جاءها رذاذا ..
لأنه ما عهد ذلك .. ما عهد المطر ولا عهد البلل بعد !
( ما عهدتُ
سماء أرضي
تُمطر
ما ظننت البللْ
يدنو ويُعريّني
لا تضَعيني في ميدانِ
الحربِ .. فأخسر
لا تُجاهريني كمعصية
تُبتِ منها وعدلتي
نحيلُ المَلمح
.. عَبوس الثُغر
أنا حُزني رماديّ
أنا حُزني .. خطر
أنا نوعٌ من أنواع الشجر الأخضر
احتّله اليَبسُ فرمدّ .
لا تعقُدي شعركِ الأجعد
دعيني انسلّ بين خُصله
الأسود .
لا تمشي سريعًا .. بعيدًا
في مُنتصف الظهيرة
فأضرَمَ
لا تتركُي يدي
ما يدي سُوى من حديدٍ
ذابَ في صهر .
لوّحي لي .. واقتربي
عِيثي في أرض الدمار
.. دعيّ المطر
ينهمر وينهمر )
كان راضيًا بخرابها ، ولم ترضى هي .. كان مقتنعًا بأطلالها ، ولم تقنع هي .. كان قابلًا ببقاياها ، ولم تقبل هي
كان يُحاول ، ولأول مرة حين جرّب شعور المحاولة ، تبوء بالفشل !
همست بصورة مضطربة ، موجعة :
حللني !
حاتم بذات النبرة المضطربة ، همس ببحة :
أنتِ متضايقة وجالسة تطلعي حرّتش فيني ، وأنا مقدّر شعورش .. اللي واجهتيه مب شوية
صرخت في وجهه بغضب :
أنا مقهـورة !
-هدأت وتيرة صوتها لتقول بإضطراب-
تدري ليش ؟ لأني اكتشفت متأخر بأن البنت ما تسوى شيء بدون وجود أمها وأبوها .. وأنا من أول ما جيت على الدنيا قهرتهم بوجودي !
أبوي مات .. وأمي هجرتني ! ولمّا نويت ارجّع اللي فات وألمّ شملي من جديد .. تسببت بضرر دائم لأمي!
جزء من زينة مات قبل سنين ، واليوم جزءها الثاني صار أصم
وش ترتجي من البقايا ؟
اقترب منها غاضبًا ، يعجز عن دحر شيطان غضبه .. هزّها بقوة من كتفيها :
يوم جيتش ببقاياي ، لميتيني ! تظنين إني عاجز عن لمّ بقاياش ؟
همست بصوت ميت ، وجامد :
كنت أظنك قادر .. بس فاقد الشيء لا يعطيه
تصلّبت يده على عضديها .. فأكملت :
فقدت نفسك قبل سنين ، وفقدت أهلك وخواتك وأصحابك .. وقبل فترة فقدت حلم حياتك اللي سعيت له !
بس منت قادر تعطي الشعور اللي فقدته .. لأن كان الأولى به خواتك
أنت عاجز .
ضغط على شفته السفلية بقوة ، همس بنبرة جامدة :
وأنتِ قاسية !
هزّت رأسها بالنفي ، تمسح دموعها الساقطة :
حللني
زمجر بغضب من تكرارها للكلمة :
أحللش من ايش وأنت حلالش البيت والحضن ونظرة العين ؟
زينة بإصرار موجع :
مستغنية !
عضّ شفته بحنق :
وش اللي مستقوية فيه لهالدرجة ؟ احنا عزوتش .. أنا سندش وعزّش
تنشّجت عبراتها المحبوسة ، تبتسم عندها بسخرية :
لا تبني الآمال ، والله ما يبنيها إلا خايب الرجا
زينة اللي ترتجيها ما تقدر تحصل عليها .. زينة اللي تبغاها
دورها برا ، تحت الغافة .. لأن تحت غافة العزم تواجهنا بالجِراح
أولته ظهرها متجهة للباب ، فأوقفها بنبرة مقهورة :
وين رايحة ؟
دون أن تلتفت نحوه هتفت ببرود خلف اشتعاا غابات صدرها :
للمكان اللي ما احترمت هُدنته .. للي ألقى في من يستاهل أبكيه
أغمض عينيه بقوة ساخطة ، وهو يسمع دوي باب غرفتهم ثم باب الغرفة المجاورة .. غرفة ذكرياتها
شعر بضغطٍ حاد على رأسه ، صاحبه دوارٌ طفيف من جبروت هذه المرأة العتيدة
هي من ستقهره لا محالة ، هي من ستعجله يمشي بدرب الهلاك راجيًا حبّها وعطفها على قلبه
ارتدى ملابسه بصورة سريعة ، شعر برغبة مفاجئة -لحضن والدته- وياللعجب ، فقد استجاب لرغبته سريعًا
ولم يقهرها مثلما قهر رغباتٍ أخرى نبتت وماتت قبل قطفاها
خرج يقود سيارته إلى منزل والده ، وذاك الضغط الرهيب ما زال يضغط على رأسه .. لأول مرة يواجه هذا الإحساس
لأول مرة لا تؤلمه -يده- بألمها المزعوم ، بل يشتد الوجع الفعلي على -رأسه-
أوقف سيارته ، اخذ خطواته نحو المنزل فتفاجأ بأميمة تجلس على سلم المنزل ! التي تفاجأت به هي الآخرى ووقفت من شرودها وتطلعها لنجوم السماء
فغدًا زفافها .. وهذا ما أرّق نومها :
حاتم ؟
هتفت بها في مزيج من الدهشة والقلق وقليلٍ من الخوف ، ليقول هو بقلة صبر :
أمي وين ؟
أميمة بربكة من حالته الغريبة :
عند خوالي !
أغمض عينيه عاقدًا حاجبيه ، زفرّ بضيق :
لهالوقت ؟
أميمة بتبرير سريع أردفت :
عشان رايحة مع حاتم وعلياء اللي زايرين أهلها .. بيتأخروا شوي في الرجعة
فتح عينه ليقول بصوتٍ هادر مملوء بالغضب :
وأنتِ جالسة وحدش في بيت طول بعرض ولا أحد جاش من الصبح ؟
فتحت عيناها على وسعها والرهبة أخذت مجراها لصدرها فهي لا تُنكر أن هذا أول حديثٍ -طويل- يوجهه حاتم إلبها دون أن يرشقها بنظراتٍ مشككة :
لا والله لا ، العاملات موجودة وقبل شوية جات حنـ....
قطعت كلامها بصرخة هزت لها جدارن المنزل ورخام أرضيّته لمّا رأت تداعي حاتم من طوله ونزف أنفه
ليسقط على الأرض قبل أن تتلقفه أيدي أميمة
-
-
بعد دقائق دامت كالدهر بين جفنيّ حاتم ، وقلب أميمة الباكي والمنكّب عليه .. وإنتظار حنان القلق
فتح عينيه ببط وعقدة حاجبيه تتشكّل لا إراديًا وسط صفحة وجهه المكتومة .. ألمٌ يسري في مؤخرة رأسه يجهل مصدره
طنينٌ حاد يخترق طبلة أذنه مواصلًا مسيره نحو سندانه فقوقعته .. نقراتٌ قاسيّة تنخر جفنيه المثقلين ..
ليس هذا فقط ، بل يشعر بقدم الليّل وظلامه تعصر صدره الهشّ !
هذه الالام تذكره جميعها بالحادث الذي لقى مصيره فيه ..
دماء رأسه ، جرح أذنه فرقبته ، صرير الحديد واصتكاكه بالحجارة والصخور ، والضغط الهائل على صدره بسبب الكيس الهوائي
استفاق من يقظته على أنين بُكاء أميمة ، وهِتاف حنان الخائف :
حاتم تسمعني ؟
هو يسمعها .. لكنّ صوتها يدّك بمحتويات أذنه دكًا دكا ! فيرجو منها صامتًا .. أن تصمت
اجترعت حنان ريقها بقوة ، التفت نحو أميمة بتوبيخ مرتعب :
أميم وقفي صياح وقومي جيبي أدويته ، الماي والملح ما نفع معه
شعر بالقشعريرة التي تسري بجسده ، فخرج صوته مرتعشًا غريب النبرة :
لا !
فلتت شهقة من أميمة التي وضعت يدها خلف كتفيه رغبةً منها في تعديل تمدده على الأرض :
حاتم أنت بخير ؟
استوعب مكانه ، وحالته .. فشعر بغضبٍ طفيف من خيانة جسده له وسرعان ما تحوّل غضبه إلى خجل حين ارتمت أميمة بقوتها في حضنه وأسندته بيديها
انحرج من مكانه أكثر من إنحراج وقوعه أمام أختيه رغم كل شيء .. فهو لا يعلم منذ متى لم يحتضن واحدة منهن لصدره .. هُن أو والدتهن !
لطالما رافقه تأثير الحادث لسنواتٍ عديدة حتى تعايش مع " غرابة مشاعره العاديّة والطبيعية "
سمع هتاف حنان فالتفت إليها ينظر إلى عينيها التي تنظر إلى كل شيء إلا هو :
قومي أميم خليه يتنّفس
زفرّ بقوة ، زفرة أرعبت أميمة وأجفلت من حضنه ، لكنّها رغم ذلك هتفت بقلق باكٍ :
عورتّك ؟
هزّ رأسه نافيًا ليقول بنبرة هادئة :
ما عورتيني بس خليني أقوم !
وقفت أميمة سريعًا ، لتقف خلفها حنان بذات السرعة .. مسكت كل واحدة منهن ذراعًا من ذراعيه الاثنين ، لتأخذاه إلى أقرب مكان .. صالة النساء
جلس على الكنبة بتعب ، وضع كوعيه على فخذه وسرت يده اليمنى خلف رأسه .. ثم نظر إليها براحة ! مجرد جرح صغير لا يستدعي التدخَل الطبي
نظر إلى المحارم الممدودة من يد حنان ، واستداركها بنبرة مختنقة :
خذ شيل الدم اللي على وجهك على ما أجيب لك شيء تاكله
قالت ماعندها لتستدير خارجة من صالة النساء ولم تفته عيناها الممتلئتان بالدموع ، لكنّه آثر الصمت
على الجانب الآخر جثت أميمة أمامه ، ممسكة ركبتيه بيديها وهي تقول بنبرة متشنجة من البُكاء :
كيفك حاس بشيء ؟
هزّ رأسه نافيًا ، ثم عقد حاجبيه وقال بنبرة خرجت غليظة قِسرا :
يا بنت بسش صياح ذبحتي نفسش !
ابتسمت رغم ضيقه الواضح من بُكاءها وقالت بحنان مختلط بحزنها :
ما غيرك يستاهل تنهلّ الدموع على شانه .. حامي ظهري أنت ، كيف ما تبغاني أخاف على حامي ظهري
سرت القشعريرة من كلمتها الرقيقة التي لامست غُرفات قلبه القاسي عليّهن ، فهي رغم جديّته الدائمة وجفافه العاطفي معها وأختيها إلا أن بطريقة ما ترى "فعائله" حماية لظهرها
شعورٌ ما ترك أثره الغرّ في صدره .. شيءٌ ما أشبه بنور الاستقامة هزّ بأعماقه الأسود الذي أنار بعدها نورًا طفيفًا
اجترع ريقه خفيةً من عينيها المراقبتين ليُردف بهدوء :
جيبي لي ماي بارد من المطبخ
ظلّت تنظر له برمشات متتالية ليهتف بإصرار :
قومي !
وإصراره هذا ما كان إلا لرغبته في الاطمئنان على " المكسورة " الآخرى .. فهو لا يستطيع حتى الآن طرد نظراتها المتجاهلة نحوه حتى لا تشتكي الأعين وتلوذ الألسن بالفِرار
وقفت أميمة بعجلة ثم اتجهت للمطبخ بصورة سريعة ، أشعلت الإنارة وتفاجأت بإنارة فرن الطبخ المشتعلة على إستحياء ..
اقتربت منه لتتفاجأ بحنان على الأرض ، مستندة برأسها على زجاج الفرن و ... تبكي !
تبكي بنحيبٍ خافت ، تبكي كمن استيقظ على خبر وفاة وحضر عزاءً دون أن يدري من هو الراحل
اقتربت منها على عجل ، جلست بجانبها وهي تهتف بنبرة احتلتّها العبرة :
حنـاااان ، بسم الله عليش وش فيش ؟
تعالى نحيبها المتشنّج ، كمن شارف على الإنهيار ، كمن جاهد سنواتٍ طويلة لحماية ما وراء الحصون من الاستعمار والاحتلال .. ففشل فشلًا ذريعًا !
مسكت يدها بضعف ، هتفت بسببٍ غير السبب الذي تشعر به :
بطني يعوّرني
شهقت أميمة ، والقلق ينهشها من كل حدبٍ وصوب على أخوانها .. فلا تستطيع اقتسام قلبها ، ولا تستطيع اقتسام يد عونها
أكملت حنان بذات النبرة ، ولا ترى سوى وجه حاتم ونظراته الشرسة :
اتصلي بمجيد !
لا تدري لما أرادت الاحتماء به عن الوحش المسمّى بأخيها ، عن نظراته المرعبة ، وسلاطة لسانه المنفرة !
ربما لأنه ظلّ لسنواتٍ يسند ظهرها الذي تحمي بها حصونها
تجاوبت أميمة على طلب حنان بسرعة قصوى ، فتناولت الهاتف واتصلت بعبدالمجيد ، الذي ما إن استقبل الاتصال حتى فرّ من مكانه إلى مكانها في دقيقتين لا غير
/
\
كان يقفز بخطواته لا يمشي ، يطرق الأرض بقلقه وخوفه العارمين ، دخل إلى المنزل متجاهلًا حنثه قبل سنين بأن لا يدخله مالم تُسترد كرامته
لم يضع في عين أعتباره سوى حنان والجنين الذي بأحشائها ،
الجنين الذي أسمته بـ"بذرة الصُلح" فتمسّكت به بكلّ ما تملك
قطع الفناء الطويل ، بالكاد وقف على رأس سلمّ الصالة ليتفاجأ بالباب يفتح ويخرج منه حاتم بوجهه مكفهر ، غاضب وحانق
اقترب منه بخطواتٍ بطيئة حتى أوشك على ملاصقته ، همس بفحيحٍ غاضب :
كنّا ندري قبل سنين إنك مضيّع سلوم العرب ، بس ما توصل فيك المواصيل إنك تستعرض بها جهارًا جهارا
تعالى تنّفس عبدالمجيد من ركضِه ، ليهتف بجدية :
خلي حساباتنا بعدين ، وين حنان ؟
دفعه حاتم للخلف وهو يقول بعصبية بالغة :
وحنان نست الأول والتالي يوم إنها شردت معك ، ولا ما بتسمح لزوجها يدخل لبيت مافيه إلا بنيّات .. وآخر الليل
كبح جماح غضبه بصعوبة بالغة ، وهو يشعر أن حاتم مستقصد له الليّلة ، فما معنى الليلة بالذات من بين كل الليّالي التي التقيا فيها صدفةً أو تخطيطا :
زوجتـي .. تعبانة
شدد على كلمة " زوجتـي " فلم يعجبه كلامه السابق بحقّها حين قال " شردت معك " كمن ينثر رماد الذنب كله على ظهر حنان ويُبرأ هو من الإحتراق
زمجر حاتم بغضب بلغ عنانه :
زوجتك تتنظرها برا البيت ، وترنّ الجرس قبل لا تدخله !
شدّه عبدالمجيد من ياقة ثوبه بإمتعاض:
أنت الحين واقف تعطيني درس في الأخلاق وناسي لبّ المشكلة كلها ؟ حضرتك خليني التفت للأهم وأرجع لمصيبتك اللي مب ناوي تمررها الليلة
بصورة سريعة تلّقى عبدالمجيد لكمة على خده جعلته يتراجع للخلف ويتأوه بقوة ، شاعرًا بعظام خده المتألمة
وقبل أن يردّ اللكمة بلكمةٍ أقوى لهذا المستفز المتعجرف ، سمع صرخة حنان من خلف حاتم ورميها لحقيبة يدها حتى وقعت أسفل أقدامهم :
بـــس !
رفعا عينيهما لها ، لمحا الدموع الراقصة على خدها ، مسكة يدها على بطنها ، واستنادها على أميمة المرتدية عباءتها :
بسـك إهانات وبهتـان ، بسـك طغوة وجبروت !
اجترع حاتم ريقه .. وتلك النبرة التي صرخت بها قسمت قلبه لنصفين داميين
وقفت في النصف أمامهم ، من خلفها عبدالمجيد .. وأمامها حاتم :
البُعد ومرارة الغربة بعيد عنك أهون من إني ألمح نظرات الكره بعيونك لـي !
صمتٌ ألفّ بالاثنين ، وعينا حنان الدامعة تجوب صفحة وجهه بإرتعاش :
عرفت كيف تقتل النظرات ، وأنت باللحظة هذه قتلتني .. يا أخوي
ارتعش جسده إرتعاشة خفيفة ، ما ظنّ أنها انتبهت لتلك النظرة التي رمقها إياها فور استفاقته من إغماءته ، لأنها لم تكن إلا مجرد نظرة لحظية .. ولم يكن يقصدها أو يعنيها
سقوطه هكذا أعاد له كل الذكريّات السيئة التي لاقاها في حياته ، ومن ضمنها نقطة حنان السوداء !
ودّ لو أن يعتذر ، أن يقول " أنا آسف " ، أن ينقلها من القول للفعل ويزرعها في حضنه .. لكنّه لا يعرف كيف يُبادر !
بنبرة مرتعشة أكملت :
اللي مستحقر شخصه ، وتشوفه بفوقيّة .. وقّف معي وقفة أخو وسند وعضيد ما في حياتك كنت راح تقدر تعطيني إياها
جرحٌ آخر بصدره ينزف ، وما أعظم الجروح التي يتلقاها بصمتٍ بالغ :
اللي مستحقر أخلاقه ما عمره عايرني بسواتي مثل ما تعايرني أنت وتستحقرني مثله !
شد على قبضة يده حتى كادت تنغرس أصابعه بجلده ، وصل إلى مسامعه همس أميمة الراجف :
أنا متصلة فيه عشان حنان قالت لي ، كانت تعبانة وخافت على اللي بطنها
تصلّب مكانه لوهلة ، تجمّد دون حركة ، دون نَفس ، دون إدراك حسّي مما قالته .. حامل ! لم يستوعب من هذا كلّه إلا أن "أخته" حامل
عبدالمجيد بجدية أكمل :
وما كنت بدخل البيت بدون احم ولا دستور وأنا داري فيه بنات ، كنت أبغى انتظرها عند باب الصالة عشان أتلقفها
أغمض عينه بقوة وأحداث الليلة تسقط في رأسه سقوط الشُهب في الفضاء ، منذ بدايتها وحتى قُرب النهاية وهو يكاد يكون المخطئ الوحيد .. في كلامه / مشاعره / نظرات عينه
أولاهم ظهره بعيدًا عن نظراتهم المتمعنة ، مختارًا هذه المرة الهرب بدل المواجهة
كلا الخيارين أمامه اتسما بالجِرح العميق ، وكلا الرغبتين تلّقاهما بوافر الحسرة في قلبه .. فياللأسى عليه ، يا للأسى عليه.



-
اليـوم التالي | بعد غروب الشمس بساعة :
دخلت زينة إلى الغرفة الملحقة بقاعة الأعراس ، الأوسع والأفخم والخاصة بالعروس فقط .. العروس البائسة
التي قضت نصف ليلة أمسها في المستشفى ، وربعه في النوم والإرتياح ، وباقيه في الاستعداد النفسي للإنتقال من عش والدها لعشّ زوجها !
ابتسمت زينة ابتسامة تحفيزية؛ فوجه أميمة كان مصفّر رغم طنّ المكياج الموضوع فوقه لتقول بنبرة مرحة رغم ما يتخلجها من أسى :
يا تبارك الرحمن يا ما شاء الله على اللي كبروا وصاروا عرايس ،
أمس تلعبي بالعروسة وفستانها واليوم أنتِ العروسة ! هاه حبيبتي ناقصش شيء ؟
قالتها وهي تجلس بجانبها ، تمد يديها وتبعد كفيّ أميمة التي ظلت تدعكهن حتى احمرتّا ، لتُردف أميمة بقلق :
ليش محد جاني من وصلت ؟
ابتسمت زينة بذات الابتسامة :
وأنتِ ليش ما خليتي المصوّرة تصورش ؟ ترا ما يبقى معش إلا هالصور من بدّ شعور الليّلة .. فاستغليّها
تنّهدت أميمة ، هتفت بصوتٍ باكٍ :
لا أمي ولا حنان ، ولا حتى شُفت ضحى ! كلهم هنا ؟
رفعت الاخرى حاجبيها بدهشة :
وش هالأفكار أميم؟ هذا عرس بنتهم كيف ما يكونوا هنا
-مسحت على طرف ذقنها بخفّة-
أمش وخواتش واقفين في الاستقبال ، الضيوف بدووا يوصلوا
أردفت بذات التوتر الذيّ يلفها من كل جانب :
قولي لحنان تجلس في مكانها ، هي من أمس تعبانة وما طلعت من المستشفى إلا متأخر
صمتت أميمة من حركة زينة حين وضعت يدها على قمة رأسها الملموم بكلاسيكية أنيقة جدًا ، لتبدأ بقراءة المعوذات وآية الكُرسي لتُرقيها من شر حاسدٍ إذا نوى الحسد ! ختمت رقيتها بنفثة على رأسها لتُردف برقة :
يا بنت عمي الليّلة ليلتش اللي ما تتشابه بها الليّالي ، لا تفكري في شيء ثاني غير نفسش وغير طلّتش .. أختش بودائع الرحمن ، وأهلش هنا كلهم حولش !
تمعنت بها في إمعانٍ طويل ، وهي تستشّف من نبرة صوتها ما تخبئه تحت الرقة والمرح ! لا يُناسبها التواري ، مثلما يناسبها هذا الفستان الحرير الليلكي الذي ترتديه
في صورة متكاملة للسحِر الحلال ، والفتنة الرقيقة .. لتُردف بتساؤل :
أبوي أمس جاش ، وش قال لك ؟
صمتت زينة لوهلة ، ثم ابتسمت في خفوت :
أقولك يمين تروحي يسار ؟
أميمة بإصرار أكبر :
زينة ، لا تخبّي علي .. أنا بنت عمّش اللي فاهمتش ، وراء هالعيون كلام واجد وخايفة تقوليه لي لا تجرحي شعور ليلتي بالوجع ! هاتِ اللي بداخلش ، والله ما تطلعي خايبة ومهمومة في الوقت نفسه
/
\
/
"ليلـة أمس :
شعرت بذاك الذي رمى بثقله على أحضانها وظلّت تشتّم فيه رائحة والدها ثم والدتها ، تختزن في شُعيراتها طعم الطفولة وبراءة صفحاتها من الأحزان !
قبلّته مراتٍ عدة في جميع وجهه ، لتختم قبلتها في أنفه وتهتف بنبرة حانية :
حبيبي اللي مشتاقة له
التفت حوله بدهشة من المكان الذي يراه :
زين أنتِ عايشة هنا ؟
ابتسمت زينة ثم هزّت رأسها بإيجاب ليُردف بتساؤل طفولي :
ما تخافي الليل ؟
وكأنه رمى سهمه في منتصف صدرها . تخاف الليّل ، والله تخافه يا حسن ، وتخاف الذي يأتيها مندفعًا بعاطفته المشتعلة لأحضانها التي تستقبله طِيبًا مرة ، وغصبًا مرات
زينة بابتسامة جاهدت على إخراجها :
لا ، بس شفت هالجبل ؟ لما ينزل مطر حنا أول ناس نشوف فيه الوادي
نظر إلى الجبل الشامخ بإندهاش ، لتحمله بين أحضانها وهي تقف وتنظر إلى سيف الواقف أمامه
ابتسم سيف بهدوء :
ما رضى يجلس عند عمّاتش وقال يبيش ، حاتم موجود ؟
هزّت رأسها بالنفي ، حاتم بعد كلامها القاسي خرج حتى الآن ولم يعد
أكمل سيف :
خلينا نجلس هنا عشان نوضّح الأمور يا زينة
جلست زينة على الأرض وبحضنها الحسن ، ثم جلس سيف بجانبها ليقول بنظرة إشفاق لملامح زينة المجهدة :
يابنتي وكلّي أمرش لله ، ما يخيب ساعي الرجا لله .. أمش بإذن الله إنها بخير لكن في أمور ثانية عالقة ! ننتظر تأييدش عليها
عقدت حاجبيها بخفّة ، ليُكمل سيف :
حاتم مصرّ إنه يبلغ على خالش ، لأن الإصابة بفعل فاعل وهذا اللي استنتجه الطبيب ! بس طبعًا ما نقدّر نبلغ بدون رغبتش .. فالنهاية هذه أمش وهذاك خالش
زينة بنبرة حادة :
لا عمي
-صمتت لتُكمل وسط إندهاش سيف-
مثل ما قلت في النهاية هذا خالي ، سمعته من سمعة أمي .. ويعني سمعتنا أنا وأخواني ! حاتم يفكّر بجديّة لكنّ حنا مو محتاجين تفكير العقل حاليًا .. نحتاج نفكّر بقلوبنا ودمنّا وماي عيننا إذا الموضوع في أمي
هزّ سيف رأسه بإقتناع :
الشور شورش يا بنتي ، وأنا على العموم كلمّت الدكتور حتى يتستر على سالفة الإصابة ويمشّي الأمور على إنها حادث
تنّهدت زينة وقلبها يؤلمها على ما آلت إليه الأمور ، كانت تملك الفرصة للإنتقام من خالها شرّ إنتقام .. لكن في اللحظة الأخيرة يستيقظ ضميرها إتجاه والدتها ! ولعلها واحد من خطوات الإصلاح التي تسعى لشق طريقه نحو والدتها
أكمل سيف بهدوء :
أمش بتترّخص من المستشفى قريب ، مخلينها تحت المراقبة كم يوم عشان يشيّكوا وضع الأذن ويتأكدوا إذا فعلًا الضرر كبير أو لا ، لكن ...
-صمت وهو ينظر إلى الأرض الصلبة ثم هتف بتروّي-
لكن مو معقولة نرجعها لمصدر الضرر الأكبر من جديد .. أنا اقترح إنها ترجع هنا في بيت الجبل ! البيت في الأخير لش أنتِ وحاتم وحاتم مُحرمها
أسبلت بأهدابها لفترة طويلة من الزمن ، اقتراح عمّها أقرب للمستحيل بالنسبة لوالدتها
فقطعًا لن تعود لمنزلٍ لاقت به أنواع العذاب النفسي والتصبّر الوهمي للاشيء ، لن تعود إلى وكر الأشباح التي خلّفتها بإرادتها
ففكّرت بحلٍ سريع ، وياللروعة فها هو نور الحل يصبو بين عينيها
نظرت لعمّها لتقول بنبرة تخللها بعض الحماسة :
تذكر شقة أبوي اللي كنتو تستخدموها على أيامكم ؟
رفع حاجبه الأيمن بدهشة وقد استشَف رغبتها :
بس الشقة قديييمة يا زينة ، نتكلم عن شقة من بداية الألفينات موجودة
زينة بإصرار :
بس كانوا عيال عمي يستخدموها لما يرجعوا من دواماتهم متأخر والشقّة ظلت حيّة بوجودهم ، صحيح من توفى أبوي الله يرحمه ما راحوا لها بس تبقى نظيفة
مسح ذقنه بيده مرارًا وتكرارا ، ثم أمسى يفكّر ويقلب الأمر في رأسه ويقيس جميع جوانبه .. لا ينكر أن الشقة قديمة جدًا
فعمرها لا يقّل عن عشرين سنة
ولكنّها مثلما قالت ، فقد ظلّ أبناءه وأبناء أخيه يستخدمونها حتى قبيل وفاة مُرشد :
وقولتش بترتاح فيها ؟
هتفت زينة بخفوت وهي تنظر لنُعاس الحسن في أحضانها :
على الأقل شقة بعيدة عن ذكرياتها اللي عاشتها في هالبيت وبيت خالي ، شقّة تبدأ فيها حياة جديدة .. وذكريات جديدة
هزّ سيف رأسه مبتسمًا :
توكلنا على الله .. ما لش الا اللي يسرش أنتِ وأمش"
/
\
ربتت أميمة على كتف زينة بحنو باسم :
قرارش صح ، أمش تحتاج مكان نظيف وسليم .. بعيد عن أشباح تلاحقها بفؤوس الذكريّات !
ابتسمت زينة ، وقفت من مكانها وبنرتها المرحة عادت لها :
بنادي المصورة ، وبعدها بنص ساعة راح تنزفيَ خلش على استعداد تام ولا تنسي أذكارش



-
يقف خارج القاعة متهندمًا في الزي العُماني لعريس أصيل ، يمسك السيف المحفوظ في حامل الفضّة ، ويلّف بشته أسفل يده ، صورة كاملة تسرّ العين
عن يمينه حاتم المتكئ على مقدمة سيّارته ، وعن يساره قايد الذي ينظر للجهة الآخرى
هتف بجديّة حادة :
لين متى وهالقطاعة اللي بينكم ؟ جايين تآزروني كشكل بس وقلوبكم أبعد ما تكون عن المحبة يعني؟
تنّهد حاتم وهو ينظر إلى الأمام :
لا تنبش اللي تحت الرماد يا زيد ، لأن كلٍ عارف كيف يجمع هالرماد بزاوية وحدة
زيد بذات الجدية العارمة :
إذا كل واحد معطيني ظهره ، وكل واحد قلبه شايل هالرماد من اللي بيمسحه غير القُرب؟! أو إذا ماقربتكم الأفراح ، الأتراح بتقربكم ؟
زفرّ قايد وهو يكره أن يسمع هذا الكلام ، لكنّه بالفعل لا يستطيع النظر إلى وجه حاتم فكلما رأه لاح له سكين الغدر الذي ينهش ظهره .. كتم كلامه في نفسه ! فاليوم يوم زيد السعيّد ، وابنة عمه
ولا يُريد إفساد هذه الليّلة بمشاعرٍ جمّة تعلّم كيف يكبحها أخيرًا
شعر بذاك الطيف الصغير الذي يركض ويتعلّق في ساقيه ، ليُشرق وجه قايد بشكل سريع وينحني للصغير بابتسامة واسعة :
ياااا حي الله الشيخ حسن بن مُرشد ، هلا والله بمن أقبل علينا
نثر قبلاته على خديّه ليضحك الحسن حين شعر بدغدغة شُعيرات قايد عليهن ،
فإن الحسن يألف لروح قايد لعدد المرات التي رأه فيها ، ولأن رؤية قايد لديه ارتبطت برؤيته لزينة هتف بعد وهلة :
وين زين ؟
خفتت ابتسامة قايد فجأة ، ثم تدارك أمره وقال بهدوء باسم :
يمكن داخل ، عند العروس
جمع الحسن كفيه أسفل ذقنه ليقول بتفكير عميق صاحبه استنكار استنتجه عقله الطفولي :
زين عروس ؟
هُنا تغيّرت ابتسامة قايد لآخرى متهكمة وساخرة ، فقال بصوت خفيييف لم يصل لأذني أحد :
بعذرك ما قالوا لك إن أختك عروس ، مثل ما قالوا لي أنا وانحروا الروح
-شعر بطبطبة كفيه على خده ليُردف بنبرة مختلفة-
ها بابا ؟
همس الحسن بخجل طفولي :
جوعان !
ابتسم قايد ابتسامة تحولت لضحكة فيما بعد ، ليهتف بمرح مجاريًا إياه في حلاوته :
اخيييه عليهم أولاد الزط ما عطوك تاكل شيء ؟ تعال الشيّخ خلنا نروح عند الرجال وناكل ، عيش ولحم على كيف كيفك
تحرّك قايد وبحضنه الحسن ، تاركًا زيد وحاتم في دهشة من أسلوبه الذي تغيّر مئة وثمانين درجة عما يعرفونه فيه ، لم يعلموا أنه " واسع الخاطر " هكذا عند الأطفال
وبالأخص عند الحسن ، فهو ليس بأي طفل ، هو طفلٌ لم يتربّى تحت ظل شجرة العزم
همس زيد بابتسامة مستنكرة :
أنت شايف اللي أشوفه ؟
-التفت نحو حاتم الصامت ليقول بضحكة مكبوتة-
أنا اقترح عليك تغيّر ملامح وجهك أو ترجع لزمن الطفولة عشان يحن عليك
ابتسم حاتم بسخرية هامسًا :
وجهي ذا ويخبّ عليه بعد
صمت زيد في سكون طويل ، يستمع بصوتٍ واضح لأصوات الطرب الخارج من باب القاعة الموارب جزء منه !
ينتظر إشارة لكي يدخل إلى عروسه .. سمع تنهيدة حاتم الطويلة فالتفت له سريعًا :
افا يابو سيف ، كيف تسمح للآهات تشقّ صدرك وشريك السراء والضراء هنا ؟
لم يقابله إلا السكون ، فقال زيد بضيق :
تخبّي علي؟
رفع رأسه ينظر للسماء الصافية بنجومها البراقة ، ليُردف بهمس بطء يفهمه زيد جيدًا :
انتظرنا الغيم يسقينا وما سقانا الغيم يازيد .. كان عذر هالأرض إننا من طين
ولأننا في الحُب كلنا خاسر ، محدن فينا نجا
شعر زيد بالأسى على رفيق عُمره سيء الحظ ، الذي ظل يلاحقه منذ سنواتٍ طويلة .. فأن يصلّ لمرحله يصرّح فيها بحبه لـ"محبوبة" هي الحُب والحرب والعِتاد والشجر لأمرٌ جلل بالنسبة له
فأردف بإصرار قوي :
أورد من طينك ، العجين مننا وإلينا
التفت إليه يرمقه بابتسامة ونظرة متحسرة :
يومٍ أورد يباس عودنا ، صيّرتنا الأرض عجين
والعجين عاف " مايّه " .. ولا هنى !
ابتسامة صغيرة نمت على ثُغر زيد ، وهو يشعر أن هذا البحّار الذي كان يتباهى بخبرة ملاحته قد غرق في لُج العشق والغرام ، إلا أن ظلام البحر لم يروق له فظلّ يبحث عن نورٍ فلم يجد :
ليه الكبر ، ما قلتلك من قبل إنها لك ند .. وأنت منت قد الأنداد ؟
اعتدل في وقفته وهو يقول بتنّهيدة أكبر :
وأي ند يا أخوي ، وأي ند ؟
-وبهمس خافت-
ند يلوي الذراع ولا يبالي !
كاد زيد أن يتحدث ويتساءل عما قاله لولا أن تقدم إليه عبدالرحمن بابتسامة واسعة باتت ترافقه بعد تحسنّه كثيرًا وسط جلسات علاجه التي لاقت تقبّلا منه :
هاه يالعريس جاهز ؟
وضع زيد يده على كتفه عبدالرحمن ليقول بجدية :
أنت بخير ؟
عبدالرحمن بذات الابتسامة هزّ رأسه إيجابًا ليرفع زيد اصابع يده الخمسة في وجهه :
كم اصبع رافع الحين ؟
ضحك عبدالرحمن بخفّة ثم التفت نحو حاتم المبتسم بخفوت :
طع هذا مفكّر روحه خبير نفسي وناوي يختبر ، ما راح توقعني في الفخ استريييح
هتف زيد وهو يشعر بالسعادة التي تحيط عبدالرحمن ليُردف بذات المرح :
وجهّك منور بزيادة ، فرحني معك قبل لا أدخل عند عروستي واسحب على أمٍ جابتكم يا وجه المأسي
حك عبدالرحمن خده وصبغة خجل صعدت على صفحة وجهه ليقول بخفوت :
عندي مقابلة يوم الأحد مع وحدة من الشركات ، وأنت أول واحد أبشره
توسعت عينا زيد بفرحة عارمة ، لن يكذب ..
فهذا الخبر الأكثر إنتظارًا في حياته بعد أن عرِف عبدالرحمن جيدًا وما أسباب حالته !
سعُد من قلبه ، استراحت نفسه واطمأنت عليه
فالفراغ القاتل الذي كان يمرّ هو سبب نوبات ذهِانه ، ليس الفراغ فقط .. بس العزلة الممقوتة والوحدة هي ما جعلته يلجأ إلى صديقٍ خيالي صوّر له صور الصداقة الحقيقية !
يعلم أن حالة عبدالرحمن هي الأرحم من بين حالات كثيرة تُصاب بأمراض نفسية بسبب الفراغ ، فبعضهم يُصاب باكتئاب واكتئابه يودي به إلى هلاكه
احتضنه برجولة مفعمة بالأخوة والمحبة :
تو ما تباركت ذي الليّلة ياولد عمي ، تأكد إن مافي أسعد مني هاللحظة أبد
ابتسم عبدالرحمن بامتنان كبير لزيد الذي وقف معه في رحلة جنونه وعلاجه خطوة بخطوة ، فلولا دعمه المستمر وتحفيزه الدائم لما تغلّب على خيالات عقله أبدًا :
يالله يالله خلنا ندخل الشيخة تنتظرك
ابتسم زيد ، ثم ألقى ابتسامة لحاتم الذي هزّ رأسه بابتسامة مشابهة وهو يدعو له ، ولليتيمة من حضنه بالسعادة والفرح من كامل قلبه القاسي !
-
-
-
-
-
بعد إنتهاء الحفل ، وخروج جميع الضيوف وجميع الأهل والمهنئين .. خرجت زينة بخطوات حذرة بسبب طول حذائها وهي تحمل حسن النائم في حضنها !
بحثت بعينيها عن سيارة عمها فهي اتفقت معه مسبقًا أنها ستعود معه ، لكن ما إن رأته واقفًا بالقُرب من سيارته بطريقة حاتمية لا تُشابه غيره حتى زفرّت بخفة
تقدمت منه لتقف أمام بابها حيث يقف ، انحنى يحمل عنها الحسن لتقول بهمس :
لا خليه بحضني !
نظر لعينيه من خلف الطرحة التي ترتديها حتى تخفي زينتها عند مرورها على السيّارات ، ركبت فركب بجانبها وانطلقا في طريقهما إلى القرية ، وإلى بيت الجبل
بعد وهلة من الزمن همست زينة بنبرة محايدة :
بكرة تطلع أمي من المستشفى على شقتها
صمت ينتظر تكملة كلامها الذي أصبح يعرفه جيدًا ، وهو يحترق من أسفله لأعلى ، لتُكمل مثلما توقع :
وأنا مضطرة أجلس عندها أخدمها هالفترة ، حتى تقدم على عاملة
جملتها البسيطة اشعلت النار الصغيرة المشتعلة بداخله ، جملة من كلماتٍ عديدة عرفت كيف تجد طريقها إلى جنون عقله وصبره ، هتف بحُلم :
مستعد أوديش وأرجعش ، لكن بيات برا البيت لا وألف لا!
أخذت نفسًا عميقًا :
أمي تحتاجني !
كاد أن يقول " وأنا أحتاجك " لكن وبشكل غريب فإن إعلان مشاعره بات أكثر صعوبة من ذي قبل خاصة بعد إشهارها سيف الفراق بوجهه :
بنعطيها عاملة جدي ، بيت جدي ما يحتاج له عاملة وخولة هناك موجودة!
-وبنبرة ذات مغزى-
بس قولي إنش بتروحي لغرض ثاني
التفتت له بحدة ، تلمح صفحة خده وسط سكون الليل إلا من إنارات الشارع الصفراء التي تقطعها كل ثانية
وبهمس بسبب حسن النائم :
ولا حتى تفكّر بذاك التفكير ، إذا كنت تشوفه جزء منك فأنا ماعرف له لا طعم ولا لون
استغفر بصوتٍ خافت وهو يلفّ وجهه جانبًا لثواني ثم عاد ينظر للطريق بصوتٍ هامس :
زينة ما يحتاج تستفزيني بأكثر المواضيع اللي تثير في نفسي الاستفزاز ! اليوم بالذات حاولي تبعدي عن هالمنطقة
تأففت زينة بصوتٍ خافت ، تصريحه غير المباشر بتعبه مما حصل له بالأمس ( إنهيار أميمة ، وإغماء حنان ثم دخولها للمستشفى ، لوم عبدالمجيد وحامد ) فهي باتت تشعر لوهلة أنه رجلٌ حديدي لا يفقه من لغة المشاعر اسمًا ولا تعريفا
شعرت بيده التي تتحرك بين يديها لتقبض على كفّها بقوة ، ثم همس بنبرة ثقيلة :
اتفقنا على إننا نحاول يا زينة !
عضّت على شفتها بقوة حتى خيّل لها طعم الدم ، لتُردف بذات النبرة :
بنحاول إذا نفذّت لي شرطي ، وأنت ليومك تتهرّب منه !
ابتعدت يده لا تلقائيًا عن يدها ، كبح جماح غضبه من هذا الإصرار الشديد والمتواطئ عليه :
شاغلش موضوع علاجي أكثر من إنشغالش فيني كـ"حاتم" ! ولا مرة حاولتي تفكّري فيني لشخصي ؟
زينة بجدية بالغة :
ليش أنت حاولت تعطي نفسك فرصة حتى تبيّن مزايا شخصك الكريم ؟
حاتم بذات الجدية الكبيرة :
سكرّي على السالفة يا بنت عمي ولا تعطيها أكبر من حجمها ، آخر الأمر علاجي يخصنّي بنفسي ! وأنا أقرر متى أحتاج علاج أو لا
صمتت زينة والقهر يملأ قلبها ، تهديه الفُرص على طبقٍ من ذهب ، تهديه آمال الولوج إلى قلبها في كل ثانية لكنّ بعناده وغروره بنفسه يضيع هذه الفرص والآمال وينثرها مهب الرياح
وقفت السيّارة أمام بيت الجبل ليقول بنبرة صارمة لا تقبل النقاش :
بيات عند أمش ماشي ، باوديش بكرة عندها للمستشفى وأوصلكن للشقة وجلسي هناك لو لين آخر الليل
وجدول باقي الأيام ملحوق عليه .. ثم تأكدي إني بسعى حتى أوفر لأمش كل سُبل الراحة ، بدون ما يقصر عليها قاصر
وكردٍ على "أمره الصارم" أغلقت الباب بقوة ، ثم دخلت دون أن تنتظر دخوله قبلها



-
صبـاحـًا ، في منزل سيف .. تجلس عائلة سيف في المجلس برفقة الجد عزام والجدة عزيزة ! بإستثناء ضحى وحنان وأم حاتم المجهدات من سهرِ البارح
الجد عزام وهو يناول فنجانه لحامد :
بس يابوك شكّرت
-نظر إلى ابنه سيف بإستنكار-
وش رادك عن قهوة الضحى ما تشربها معانا أنا وأمك
تنّهد سيف وأفاق من شروده الحزين ليُردف :
عليكم بالعافية يبه ، فيني حرقان من قهوة أمس مالي خاطر فيها اليوم !
-التفت نحو حاتم ليقول بنبرة خافتة-
وين ضحى ما جتني ؟ وحنان راحت ولا للحين هِنا ؟
حاتم بهدوء مراعيًا لحزن والده على فراق ابنته:
ضحى نايمة من تعب أمس ، وحنان علمي علمك وينها !
أمال الجد عزّام فمه بإستياء ، ليُردف بما يحزن سيف :
اللي يزوّج بناته يفرح لهن ويباركهن بالدعوات ، لأن هذا حال الدنيا وحال نصيبها .. وش محزنّك لذي الدرجة ؟
زفرّ سيف ، مسح على وجهه بخفة :
راحت شطفة من فوادي يبه ، بنتي اللي راحت كانت الأبرّ والأرحم والأحن بأبوها !
الجد عزام أردف بهدوء :
بنتك انتقلت من بيتك معززة ومكرمة وراحت لبيت يورثها عيال وحياة .. وما بعد زواج البنت إلا المحبة الزايدة
هتفت الجدة عزيزة بلفحة حزن طفيفة :
فقد الضنى شين يا عزام ، وش فيك مقوّم على ولدك من الضحى ؟
الجد عزام بنبرة حانقة :
ما بي شيء عليه ، بس يصبر ويدعي ربي باللي يسرّ بنته ويسر قلبه
الجدة عزيزة بذات النبرة الحزينة :
هذاني أدعي لضناي ، وماعرفت طعم الصبر يومي اتقطع شوق وحسرة على شبابه الرايح
شعر الجد عزام بإنقباضة قلبه بسبب هذه السيرة التي ما أن تُفتح حتى تنتشر جزئيات الحزن واللوعة والأشواق في أرجاء الجو ، ليهتف عزام بشرود :
ما مليتي يا عزيزة ؟ ما سلى قلبش عن ذكره ؟
ولدش له 7 سنين غايب !
رفعت الجدة عزيزة طرف اصبعها تمسح الدمعة الهاربة بين تجاعيد وجهها :
ولدي ميّت يا عزام ، ولو هو غايب انتظرته الباقي من عمري لأن الغايب مصيره يرجع
تأوه الجد عزام بنبرة لم يشعر بها أحد ولم يسمعها أحد ، أكثر ما يؤلمه أنه الوحيد الذي رأى مُرشد للمرة الآخرى ولم يصله حينها إلا خبر وفاته دون جثّة ، فُصلى عليه صلاة الغائب وتُرك قبره خاليًا منه
رنّ جرس المنزل وسط الجو المشحون ، فوقف حاتم وخرج إلى الخارج
رأى رجلٌ بهيئة رثة ، وشعرٍ أجعد كثيف يصل لمنتصف رقبته ، لحية كثيفة اختبأ خلفها معظهم ملامح وجهه ، وملابسه يتضحّ عليها القِدم لاختفاء بعض ألوانها :
أقرب يا عمّ ! حيّاك الله
لم يعلم من هو لكنّه ككل الضيوف الذين يأتون لمنزل والده من كل مكان فقد رحبّ به :
حيّاك تفضل اعتبر البيت بيتك !
هتف الرجل بابتسامة صغيرة جدًا ، وهو يقول بنبرة مشتاقة :
هو صحيح البيت بيتي ولا غلا الراحلين بات بين ضلوعه؟
عقد حاتم حاجبيه بإستغراب من أمورٍ عدة ، نبرة صوته الغريبة ، جملته الأغرب .. هذا غير هيئتها الغريبة جدًا :
ما تسلّم على عمـك يا ولد أخـوي ؟
تراجع حاتم وشهقة صغيرة فلتت منه ، رفع يخلل يديه بين شعره والصدمة شُلت حركته لا لسانه
إن كان قبلًا يتذبذب بإيمانه في المعجزات ، فإنه اليوم وفي هذه اللحظة وضع في موضعه ليقطع شكّ إيمانه ويسلمّ أمره لها طوعًا وسِلما ، ليقول بملء فمه وملء قلبه " ما كان معجزًا أصبح ممكنًا " فلتشهد الأرض ، ولتشهد السماء .. وليشهد ربٌ كليهما بتأمينه
هتف حين استدرك الذي أمامه بنبرة مصعوقة / خائفة / مرعوبة :
عمـي مُرشـــد !!
ابتسم مرشد بابتسامة تبعها بضحكة صغيرة :
بشحمه ولحمه


انتـهى ❤

Salma_3_ and NON1995 like this.

الكاديّ غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 14-06-22, 01:01 PM   #87

الخلووود°`

? العضوٌ??? » 499965
?  التسِجيلٌ » Mar 2022
? مشَارَ?اتْي » 64
?  نُقآطِيْ » الخلووود°` is on a distinguished road
افتراضي

واخيرا وصلت معكم فالمركب الرواية روووعه سلمت اناملك يالكادي الشخصيات والحبكه وكل شي فالروايه متمكن ويجذب للقراءة اتوقع قايد راح يطيح فغراع عيون الصقر وراح يتزوجها ومتفائله خير فحياة زينة وحاتم وراح تتحسن حياتهم ويحبون بعض
منتظره لقاء مرشد بزينة ومتحمسه له راح يكون لقاء مبكي ومتعب للقلب أتوقع بأنتظارك يالكادي

الكاديّ likes this.

الخلووود°` غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 15-06-22, 01:18 AM   #88

الكاديّ
 
الصورة الرمزية الكاديّ

? العضوٌ??? » 490082
?  التسِجيلٌ » Jul 2021
? مشَارَ?اتْي » 300
?  نُقآطِيْ » الكاديّ is on a distinguished road
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة الخلووود°` مشاهدة المشاركة
واخيرا وصلت معكم فالمركب الرواية روووعه سلمت اناملك يالكادي الشخصيات والحبكه وكل شي فالروايه متمكن ويجذب للقراءة اتوقع قايد راح يطيح فغراع عيون الصقر وراح يتزوجها ومتفائله خير فحياة زينة وحاتم وراح تتحسن حياتهم ويحبون بعض
منتظره لقاء مرشد بزينة ومتحمسه له راح يكون لقاء مبكي ومتعب للقلب أتوقع بأنتظارك يالكادي


أهلًا أهلًا نورتِ المركب بذمة القبطان وقائد الرحلة ❤
الله يسلم قلبك وروحك اسعدتيني بوجودك


الكاديّ غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 15-06-22, 01:34 AM   #89

الكاديّ
 
الصورة الرمزية الكاديّ

? العضوٌ??? » 490082
?  التسِجيلٌ » Jul 2021
? مشَارَ?اتْي » 300
?  نُقآطِيْ » الكاديّ is on a distinguished road
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم

*
*

لا تلهيـكم الرواية عن الصـلاة

*

الفصـل العشـرون






-
يجلس على طرف السرير عاري الجذع ونظراته تنتقل على صفحة وجهها العاكسة من المرآة التي تجلس أمامها
تعدّل زينتها تارة . وتارة شعرها المفرود خلف ظهرها ، وتارة ثوبها التقليدي بألوانه الزاهية
ارتدى قميصه الأبيض الداخلي على عجل واتجه إليها ، وقف خلفها وابتسامة خفيفة نبتت على ثغرة
التي حين رأتها أميمة احمّر وجهها بخجل عميق ، فلا تستطيع احتمال هذه الابتسامة التي تحمل كل المشاعر المتضادة
ابتسامة أب ، ابتسامة صديق ، ابتسامة زوج ، ابتسامة طفل
وضع يده على كتفها وبهدوء :
مافي أحد بيجي قبل الساعة 10 صباح ريحي نفسش لو حابه
هزّت راسها بإيجاب ثم وفعت رأسها لساعة الحائط ، ما زالت الساعة الثامنة صباحًا ، مالذي ستفعله للساعتين القادمتين؟
وحين سقطت عينيها على وجهه المنعكس على المرآة ، تفجّرت شعيرتها الدموية بلونها الأحمر فانعكس على وجهها
تأمله المتمعن والمتباطئ فيها يجعلها تشعر بحرارة تصدع من كل مسام !
ليلة الأمس كانت هادئة جدًا ، لا تُشابه في هدوئها إلا زيد
تكلم طويلًا ليدرء عنها الخجل الذي رأه فيها ، تكرمت عليه بكلمة او اثنتين على اسئلته المباغتة
وحين طلب منها النوم بسبب التعب البادي على وجهها لم تكن تصدق فاندّست في فراشها متجاهلة نصائح والدتها وحنان والقليل من زينة
واليوم فجرًا حين أيقظها للصلاة راودها الحياء فكان من المفترض أن تضع المنبه في هاتفها وتوقظ نفسها لا أن يوقظها ومن ساعتها لم تعد للنوم رغم أن ما نامته منذ الأمس لا يتجاوز الاربع ساعات
تشاغلت عن نظراته بصناديق ذهبها الحمراء وهي تخرج قطعة تلو الآخرى لترتديها
فارتدت في أصابع يدها اليمين 4 خواتم ذهبية يختلف وزنها من حجمها ، وفي اليسرى ارتدت " كف يد " رقيق
ارتدت " المشوّك " في رسغ ، وما كادت تحمل " الغوايش " الاربع المتفرقة حتى قاطع عملها الذي كان يراقبه بشغف لينحني أمامها على ركبة واحدة
حمل " الغوايش " وألبسها إياها واحدة تلو الاخرى حتى قال بصوتٍ هادي:
عجبش الجناح ؟
دارت بعينيها حول الجناح ، غرفة نوم وغرفة آخرى ملحقة بدورتي مياة ، صالة صغيرة ومطبخ أصغر أقرب للتحضيري
صغير نوعًا ما لكن به دفء غريب يشعر به قلبها .. سكينة وراحة بألوانه الهادئة وأثاثه البسيط في تصميمه ! ذوقها تمامًا
فهي ترتاح في الأماكن التي لا تكون مملوءة بكثرة الأثاث ، ولا كثرة الأصباغ والديكورات .. تعجبها البساطة وترتاح بها أكثر
لذلك فلقد أحسن الاختيار فعلًا :
الحمدلله ، كل شيء جميل
قبّل كفها بعد أن أنهى عمله وقال بنبرة مقصودة :
مافيها من ذوقي شيء إلا المطبخ كان تبي الصدق ، أخوش هو اللي شار علي بالأثاث! ماعدا غرفة النوم من اختيارش طبعًا
ابتسم على نهاية جملته وابتسمت هي :
ايوه حامد كان معنا في تجديد غرفنا آخر مرة فكان عارف ذوقنا ايش
هي لم تخبره أن حرب البسوس قد قامت بينها وبين أختها ضحى! فـ كفتاتين يعيشان في النفس الغرفة جرى بينهم اختلاف - بل تضارب حاد - في الأذواق ، بعكسها هي البسيطة في رغبتها .. كانت ضحى صاخبة حتى في اختيار لون الصبغة .. ليتدخل حامد حينها رادعًا الحرب بإقناع ضحى بعد حوارٍ مطول بذوق أميمة الأنسب :
أقصد حاتم !
عقدت حاجبيها لوهلة ، ليُكمل زيد بابتسامة :
ذوق حاتم مب حامد .. هو اللي اختار الأثاث والأصباغ حسب معرفته بذوقش
حاتم !! ومعرفته بذوقها !! ماذا حصل في الدنيا بحق الله ؟
دعكت كفيها ببعضها هامسة بتوتر :
غريبة !
زيد بهدوء:
ما الغريب إلا الشيطان ، لو ناسية هذا أخوش من سنينٍ طويلة
أكملت عنه كلامه الذي علمت به :
والسبع السنين الماضية ما كان هو أخوي ! فكيف يعرف ذوقي
صمت لوهلة ، ثم رفع نظراته المتأنية نحوها :
بصوتش عِتب !
غمر وجهها الحزن لتُهمس بخفوت :
ولّى زمن العتاب
وقف زيد وهو الذي يعي معنى جملتها تمامًا ، انحنى مرة أخرى وقبّل طرف رأسها ، لا يستطيع مقاومة رائحتها التي تسحبه إليها ، وبذات الوقت لا يود ان يبدو كالمندفع
فاللمسات الرقيقة أولًا ، ثم يرى حلاً لخجلها القوي بعد ذلك
أردف ببساطة :
الليلة كلامش بيختلف وتتأكدي إن الظفر عمره ما يطلع من اللحم ، أنا بروح أشوف أمي وراجع ، ارتاحي
خرج من عندها متوجهًا لوالدته التي نامت ليلتها في غرفتها بدلًا من نومها في الصالة حيث اعتادت ! قاس لها الضغط وسط نومها العميق ولم تشعر به كالعادة
خرج بعد أن اطمأن عليها وأغلق الباب خلفه بخفة ، لكن سرعان ما خرج منه صوت مدهوش وهو يرى الكائن أمامه:
سكنهم مساكنهم ، من أنتِ ؟
عبست الآخرى ، فلم يخيفه منها الا شعرها المنكوش :
أنا ريناااااد
ضحك بخفة وخرج مسرعًا ، نبرتها انبأته باحتمالية بُكاءها من كلمته التي ألقاها بلا إرادة
توجه لمطبخ منزلهم المواجه لجناحه واتكأ على طرف الباب وهو يرى خالته تنتقل داخله كنحلة نشطة :
صباح الخير ..
التفتت شاهقة حين تراءى لها صوته وهتفت بإستنكار :
زيد ، وش طلعّك من غرفتك ؟
عبس زيد واعتدل في وقفته وبصوت أجش :
ليش لا يكون مطبقين علينا حظر تجول بدون ما أعرف ؟
رفعت بوجهه الملعقة الخشبية التي كانت تحرّك به فطور " المعاريس " :
مطبقين ولا ما مطبقين ما تطلع من غرفتك إلا لا سمعت رنة جرس هالبيت وبعدها بنطردك شر طردة ، وش لك مستعجل على رزقك ؟
أمال فمه بإمتعاض مصطنع :
آخرتها ناوية على طردتي يعني ؟ ياربي يسامحك يا خالتي كانك جرحتي قلب هاليتيّم !
أعطته ظهرها مردفًا بعجلة :
أدخل أدخل عند عروسك وش مطلعّك علينا وخلي هالقلب اللي ياكثر ما ينجرح
زيد بتضجر باسم :
جوعان !
خالته بنبرة متعمدة تخفي خلفها ضحكتها :
جوع الشوع ( الشوع نبتة صحراوية لا تُسمّد ورغم ذلك تنمو وتكبر والمثل كناية عن الشخص الذي مهما أكل فهو يبقى جائع )
شهق زيد بدرامية مستمتعًا بحواره معها :
خالتي أنتِ تحسديني ؟
التفتت له بنص عين قائلة :
على وش ياعيني ، على هالطول ولا على هالضعف ؟ لو إنك في العسكرية هججتهم منك واحد وراء الثاني
كبت ضحكته على تقريعها ليقول :
صحيح لأن الواحد لا كلمني لازم يشغب ( يرفع ) رأسه فوق
-هتف بحنق وهو يراها مشغولة بأكثر من شيء -
أنتِ مسوية فطور لقبيلة آل عزم وما جاورها من القبائل ولا شسالفة ؟ بعدين وين بناتش اللي ماليات البيت ؟
شهقت وهي تقترب منه بذعر حقيقي :
أنا طالبتك إنك تذكر ربك ، اذكر ربك على بناتي يا زيد
ضحك زيد يرفع يده مستسلما للأعلى:
ما شاء الله تبارك الله يارب يزيدهن ويبارك فيهن ويخليهن
-وبنبرة غاضبة-
بعدين بنتش الصغيرة وش بلاها ؟ يا خالتي ستريها لبسيّها الحجاب هذيك خطر على الأمة وقلوب الأمة .. خوفتني وهي طالعة بكشتّها
ضحكت خالته بخفوت وهي تقول :
الكشة والله بتلقاها في شعر بنتك ، بلا شماتة ياولد أختي بنتي توها أم حدعش سنة ، ويالله برا من غير مطرود برا
هزّ رأسه باسمًا على روح خالته المرحة التي لا تنطفي أبدًا مهما سرق منها الدهر من ضحكاتٍ وبسماتٍ وسعادات فهي تبقى هي لاتلونّها الظروف ولا تستعصيها المآسي
توجه إلى جناحه بعد أن ارسل رسالة لحاتم يؤكد عليه للمرة الخامسة حضوره لمنزله .. لإنهاء الخلاف القائم بينه وبين أخته




-
لم يصدق رؤيته أمامه ، وسؤال واحد يدور فيه خُلده .. كيف يحيا الميّت ؟ ما رأه أمامه ، وصدمته من هيئة عمه وملبسه جعله ينادي والده وجدّه بصوتٍ عال بلا دراية منه وإدراك
اقترب منه أخيرًا وهو يحتضنه بقوة ، حضنٌ عنه ، وحضنٌ عن جده وجدته ، وحضنٌ عن تلك المرابطة في بيت الجبل حيث ذكرياته.
همس بالقرب من إذنه غير واعٍ :
لا إله إلا الله محمد رسول الله ، يارب وأنت ربي
بادله مرشد ذات الحضن ، لم يكن مجرد حضن .. بل احتواء وطن استقبله أخيرًا من غربته وتشتته من بلدٍ لآخر
سمع صوت رجف قلبه له وهو يقول غاضبًا :
وش عندك يالمرتبش وش هالصوت اللي خلا الانسان والجماد يصحى ويقوم من مكانه ؟
كان صوت الجد عزام بغضبه ، من خلفه سيف وحامد المستغربان من نداء حاتم الغريب على طبعه .. ما إن وقفا على أرض الفناء حتى عقدا حاجبيهما بإستغراب من هيئة الواقف أمام حاتم
وسرعان ما تراجع حامد للخلف وهو يهتف بنبرة مصدومة ، ومدهوشة :
مستحيــل ! ما أصـدق
لكن أبى مُرشد إلا أن يجعله يصدق حين ابتسم ابتسامته الخاصة ، ابتسامة عُرف فيها مُرشد جيدًا منذ فتونته .. فصدّق
صدّق أن الذي أمامه عمّه الميت ، أخ أبيه ، وابن جده المحبب
ارتجفت عين سيف بعد صرخة حامد ، وقد وعى جيدًا من هو الواقف دون أن يحتاج لإشارة وتنبيه
فهذا أخيه ، الذي تشارك معه الدم والأرض والشباب ، فكيف ينساه ؟ كيف يسلو عنه ؟
كان استقبال أخيه وأبناء أخيه شيءٌ لم يحلم به ، لأنه مندهش ببساطة .. مندهش من دهشتهم ، وكثرة صدمتهم ، وطول صمتهم
نعم صمتهم ! لم ينبت أحدهم بحرفٍ واحد ، وكيف ينطق من عاش مسلمّا أمره لقدر الموت ليفاجئه الموت بقدر الحياة ؟
لم ينتبهوا لذاك الشيخ الكهل المتعكز على عكزاته . ينظر بتشوش للصورة المحفوفة أمامه فهو لم يكن يرتدي نظراته الطبيّة ونظره ليس بتلك الجودة لكِبر سنه
اقترب منه حاتم وهو يقول بنبرة من تشبّع فرحًا -رغم ما عاشه من كمد- :
اقرب ياجدي ، ولدك رجع .. رجع من الموت اللي سلمنّا أمرنا له
تحشرج صوته بصدره ، ولده ؟ أي أولاده ؟ أأكثرهم برًّا أم أكثرهم عقوقًا ؟ من ترك بذوره خلفه وهرب كالجُبناء ؟ أم من الذي صُلى عليه صلاة الغائب ؟ من منهم .. الجبان الشجاع ؟ أم الميتّ الحي ؟
اقترب مرشد بخطوات متأنية ، فآخر لقاء بوالده قبل هربه لا يشفع له بظنه .. وكلامه الحاد يتكرر في عقله وقلبه محدثًا شروخًا حاول علاجها على مدى الزمان .. توقف !
كيف يقترب ؟ لا يدري أي استقبال سيلاقيه .. خائف ! رغم المشاهد المتفائلة التي رسمها يظل خائف من لقاء من كسره بهربه
التفت نحو وجوههم التي يرتسم عليها الصدمة ، ووجه والده الشاحب .. اجترع ريقه ليقول بصوت مبحوح ، ليس بصوته المعهود :
أنتو ... ليش مصدومين ؟ أنا ... يعني أقصد أنا قلتلكم إني ... برجع
كان يتأني في كلامه ، ينطق حروف الكلمة ببطءٍ شديد ، وشعور مزعج يئن بصدره .. شعور يجعله يوقن أن ما خلف هذه الوجوه الطوفان !
عقد سيف الملتصق بأخيه حاجبيه ، سرعان ما انفكت عقدته وهو يقول بصوت حائن :
يا أخوي ، قبل سنينٍ مضت حنا صحينا على خبر فقدانك .. دورنا عليك في الجبال والوديان ، في الصحاري والبراري ، ما تركنا بقعة وحدة ما فتشنّا تحتها كانت تحت الشجرة ولا تحت الصخرة .. ويوم قربنا نيأس زفوا لنا خبر موتك
شحب وجه مرشد ولم ينتبه لشحوبه وسط تكاثف شعر وجهه سوى والده .. من النظرة المكشوفة !
وآه ما أوجع النظرة التي تكشف خلفها أوجاعٍ لا تهدأ :
بعد ما كنّا ندور عليك حيّ صرنا ندور عليك ميت ، نبي جسد نكفنه ونصلي عليه وندفنه بإحترام ، ويوم ما لقينا صلينا عليك صلاة الغائب وانترك القبر الفاضي بليّاك
وبعدك تسألنا ليش مصدومين ؟ ياقو قلوبنا لو كانت الصدمة أبخس تعابيرنا بفرحتنا فيك
تراجع سيف بغتة بعد أن بدأ مُرشد بهز رأسه يمينًا وشمالًا ، كذب ما يقوله كذب ! متيّقن أن سيف لا يفقه ما يقول .. يستحيل آن يكون ميتًا طوال هذه السنوات بالنسبة لأهله ، ماذا عن الرسائل ؟ الرسائل !!! :
الرسايل الرسايل .. الرسايل وينها ما وصلتكم ؟
رفع الجد عزام نظراته المتصلبّة وهو حتى الآن لم يبصق ما يجول في خاطره ، هتف حامد بقلق من حالة عمه :
عمي هدي بالك ، أي رسايل تقصد ؟
شدّ شعره الطويل وهو يئن ويتأوه بداخله ، ونظرات والده تحيط به من كل حدبٍ وصوب دون أن يترك مجال للرمشة
تراجع للخلف وهو يصرخ بقوة صدمته :
سبع سنين أرسلكم .. رسايل !! اسبوع باسبوعه .. أنا أنتوو
قال إنها توصلكم .. قال إنكم تنتظروني .. قال واجد واجد أشياء
ارتاعوا من نبرته التي بدأت تختلف وتيرتها ، بين فحيح هامس وصراخٍ غاضب .. يالله من هذا الرجل المريض عن ذاك الرجل المندفع للحياة ؟ لا يمت له بأي صلة عدا ملامح وجهه .. وإن كانت ملامح وجهه مختفية :
من تقصد ؟
خرجت من ثغر الجد عزام بثقل مخيف ، فانكبّ مرشد على يده يقبلها مرارًا وتكرارا بهلع :
يبه أنت من بدّهم كلهم ما تصدقه ، كيف تصدقه كيف تصدّق على ولدك الموت ؟ يبه كيف ما حسيت فيني وأنا أحتمي واعتزي فيك ؟ كيف ما حسيت بمُرشد يناديك بصوته وقصِيده ومناجاته وسط ليله في غربته ! كييييف يبه
سحب يده من يد ابنه التي يقبلها وبذات النبرة وسط قلق اخيه وابنيه :
من تقصد ؟
وقف والارتجاف يشعل جسده بالكامل فلا يترك له عقلًا ولا قلبا ليفكر بأحداهم .. ظلّ يكرر كلمة " كيف " حتى شعروا أنه على بُعد شعرة واحدة من الجنون
امسكوه حامد وحاتم ، وحاتم بصوته الجاد والقلق يهدئه :
عمي الله يرضى لي عليك هدّي .. هدّي ماهي زينة العصبية بذا الوقت
همس وعيناه تزيغان بارتياع .. الأمر يفوق استيعابه فلما لا يفهمونه ؟ الأمر كمن عاش وتغذّى على أملٍ واثق منه أشد الثقة ، وحين يكبر ليحقق هذا الأمل على أرض الواقع يتفاجأ بقسوته ووحشيته ، وعدمه !
هو كان متأملًا على لا شيء ، متيقنًا على لا شيء ، ينام ويصحى على لا شيء .. لا شيء فعلًا
سحب نفسه من يدي أبناء أخيه وفرّ خارجًا من المنزل ، وجهته ومقصده واحدة .. وغايته كذلك واحدة ( يا ذابح يا مذبوح )
صرخ سيف في أولاده:
الحقوا عمكم لا يذبح له أحد على هالركضة ، الحقوووا
صرخة والدهم جعلتهم يطلقون أقدام الريح مسابقين الريح ومسابقين مرشد الذي يركض بخفّة فظيعة
حتى توقف أمام أحد المنازل وشرع يطرق بابه الحديدي الأبيض بصورة مجنونة وهو ينادي شيءٍ واحد :
يابدر اطلع .. اطلـع لي
امسكوه أبناء أخيه غير مستوعبين ما يُريده عمهم من منزل طليقة بدر .. حاولوا منعه عن الاستمرار بالطرق وإخافة أصحاب المنزل الذي أغلبهم أطفال
لكن هيهات هيهات .. فـ رعب مُرشد الآن لا حد له ، رعبه من سقوطه بالأماني والتمنّي
فُتح الباب بصورة مفاجئة ، خرج منه شاب قد تجاوز السادسة عشر ، وقبل أن ينبس ببنة شفه بادره مرشد بصراخ :
أبوك وينه ؟ خله يطلع لي بسرعة وينه
تراجع الشاب للخلف برعب من هذا الهائج الذي كاد يهدم جدار المنزل
حاتم يمسك عمه من عضده :
عمي تعوذ من إبليس وش تبغى من بيت هالمساكين ، أبوهم مب موجود
التفت مرشد نحوه ودفع يده بقسوة :
أبغى أبوهم ، وأبوهم موجود ومتخبي
حامد بقلق من حالة عمه :
عمي والله العظيم العم بدر مب موجود بهالبيت من سنين
زفرّ مُرشد أنفاسه الحارقة ولم يصدق ، لم يصدق أحدًا منهم إلا إذا رأى بدر الصديق الصدوق أمامه عينه
خرجت في هذه اللحظة امرأة ملتفة بعبائتها العريضة لتقف بجانب ابنها الوجل والمرتعب من الموقف :
عسى ما شر ؟
التفت مرشد بقسوة وعجلة نحو المرأة التي لا يتضح سوى وجهها وقد جار عليه الزمن بتجاعيده :
ام عيسى ، أبو عيسى وينه أبيه بكلمة رأس !
تأملت الواقف أمامها لثواني طويلة قبل أن تصدر منها شهقة موجعة وهي تهمس بإرتياب :
أبو الحارث .. أنت أبو الحارث ماغيره ؟
هزّ رأسه بإيجاب لينهي صدمتها وهو يعاود قوله :
زوجش وينه ؟
اجترعت ريقها بصعوبة والكلام عن هذا الأمر يجرحها ما إذا كانت تقوله لشخص غريب .. لكنها كبحت ما تريد قوله لتقول لصلابة :
أبو عيسى ماله شوف من سبع سنين ، غرّته الدنيا والفلوس وتركنا أنا ونص عيالي وشال النص الباقي معه
ضحك بسخرية ضحكة قصيرة ومن جملة " غرّته الدنيا والفلوس " علم ما حصل دون أي تفاصيل
لو لم يكن يعلم بدر جيدًا لما صدّق فيه ما قالت عنه طليقته .. طمّاع ! الكلمة الوحيدة التي تصفه بإسهاب
هو عاشره من شبابه وقبل زواجه ، وعرف عن طمعه و أنانيته .. كان يحب دائمًا أن يكون في موضع المسيطر والقائد والأول في كل شيء
رغم أنهم أصحاب منذ عمر طويل وصداقتهم ممتدة لعروق الأرض لكنّ هذه الصفة لم يستطع التخلّص منها طوال حياته
وبالأخير لم يصبح طمّاع فقط .. بل غدّار !
ويا لقسوة غدر الأصدقاء
كان سيتحدث ، يسبّ ويشتم وينعته بأبشع الصفات لكن احترم هيبة لسانه أمام ابنه وحتى لا يجرحه
وحينها سمعوا صوت إنطلاق سيّارة خرجت من منزل سيف بصورة سريعة وصاح حينها حامد المرتعب حين رأى والده الذي يقودها بتهور :
أبوي !!
ومن سرعته المتهورة علموا أن أمرٌ جلل حدث ، فلحقوا به بسيارة حاتم ناسيين كل أمر آخر أرادوه





-
يجلس وسط المنزل أسفل فرشة عتيقة من فرش الجدة عزيزة .. وهاتفه بإذنه ترتفع وتيرة نبرته بمرح ثم تنخفض بغيض :
قلتلج برجع قريب .. اليوم والله اليوم .. بنت !! شايفتني ياهل قدامج .. إلا بتغدى بالبيت وش بتسوين لي ؟ .. الله ! الجوهرة تتنازل ؟ -وبنبرة غيض هامسة- أبووووج كبر الثور من بيخطفني ، الذيابة ما تنخطف .. سكري سكري لا اييج الحين بكف .. يالله يالله مع السلامة
أغلق هاتفه وهو يبتسم على أخته المجنونة ، لا تكبر أبدًا برفقته هو الأخ الأكبر لهم ، التفت برأسه حين سمع صوت قايد من خلفه يحمل صينية بها أكواب :
من هذا الذيب اللي ما ينخطف؟
اعتدل ذياب في جلسته وهو يضحك بحرج ، حضر بالأمس حفل زفاف ابن عم قايد الذي انتهى في وقت متأخر فأصر عليه قايد أن يبيت ليلته في منزل جده الخالي من الإناث ماعداه هو والحارث وعبدالرحمن :
محسوبك !
جلس بالقرب منه ، سكب له من شاي الحليب بابتسامة :
وأنا أشهد إنك ذيب ، بس وش لك تنخطف ؟
ضحك ذياب وهو يرتشف من الشاي بهدوء حذر :
أنت عارف إن هذه ديرة أعمامي ، أختي خايفة علي لا يخطفوني أنا بعد وما يردوني لهم
-وبابتسامة أعمق-
لو إن محد يعيف الجبال وصداها ، بس مالنا غنى عن الرملة وبحرها
ابتسم قايد وسرح فكره لأخته المعنيّة ؛ باتت تخاف أن يؤخذ أخيها إذن مثلما اختطفت هي - حسب ظنها - واختطف هو من بيت الوكيل :
ما هي سالفة عوف وغنى عن الأرض ، البشر قلوبهم ما تحمل ذرّة من صبر إذا الموضوع يتعلّق بالإنتماء الروحي
ووين ما لقيت إنتماءك الروحي ، لقيت سلواك ! أختك معها حق في الخوف عليك بعيدًا عن إنك ذيب ولا قطو
أعقب جملته بضحكة ليشاركه ذياب الضحك ، وبعد صمتٍ قليل هتف ذياب بحرج :
ضيّقت عليكم البيت واستقبلتني وأنت ما تعرفني ، خلني أرد الكرامة لك وشرّفني في بيتي يابو سعيد
حدق فيه قايد لثواني ، ثم عبس بمرح مصطنع :
أنت يالبدوي ما تترك عنك سوالف الكرم والسخاء .. تراني ماني يمّها خير شر
ضحك ذياب باستمتاع :
بسم الله عليك يالحضري ، بس ترا الكرم والسخاء على قولتك ما يفرق حضر كنّا ولا بدو .. الكرم من طِيب الأصل والرجولة
قال ما قاله لأنه رأى أمس كرم الضيافة في مجلس آل عزم وهذا إن دل ، فدلّ على صحة كلامه
رفع قايد حاجبه الأيمن بابتسامة :
بس شكلك ما تعرف إن جدتي بدويّة من أرض الشمال
جاراه ذياب برفعة حاجبه :
والله والنعم ، منهم لها ؟
قايد بابتسامة خافتة :
آل خاطر كانك تعرفهم !
اعتدل ذياب في جلسته وهو يقول بدهشة :
الله الله عز المعرفة ، الخواطر أنسابنا من بعيييد !
جاراه قايد في اعتداله وهو يقول بدهشة حقيقية:
لا عاد ، الخواطر وبيت الوكيل ؟ ما تركب يا شيخ
أشر ذياب سبابته بالنفي ليقول بضحكة مكبوتة على صدمة قايد :
أنسابنا من صوب أمي .. ماهو من صوب أبوي الله يرحمه
هزّ رأسه قايد بضحكة خافتة :
والله يا الدنيا صغيرة ، خل بكرة يشوفوا قايد وش بيسوي .. بتجي للعزم وبيت الوكيل صدمة ثلاثية الأبعاد لا وفلّ اتش دي
ذياب باستغراب :
وش تقول ؟
قايد رفع نفسه بصورة سريعة تزامن معه رفع يديه للأعلى متمغطًا :
أقولك وش رأيك أخذك بجولة في ديرتنا ؟ ترا ما راح تلقى مرشد أحسن مني
وقف ذياب ومشيا بجانب بعضهما البعض حتى وقفا بالخارج بجانب السيارات ، وبحرج باسم :
ما نقول لا لعروضك المغرية لكن لازم أرجع الديرة قبل العصر
نظر لساعة يده قبل أن يقول بغمزة :
عندك 4 ساعات عن العصر ، نتوكل ؟
ابتسم ذياب موافقًا على كلامه فمن ذا الذي يبخص رفقة قايد ولا يتمناها ، فهم من حديثهم المستمر باتو على وفاق وتفاهم ، رغم اختلاف لهجاتهم .. وإنتماءاتهم ، وربما مبادئهم ! فهم يشعرون أنهم أصحاب منذ زمنٍ طويل
لفت نظرهم السيارتين اللتين مرتا من أمامهما بسرعة فاقت السرعة القانونية واستطاع قايد إلتقاط نوعيهما ، فأحدهما لعمه سيف والآخرى لحاتم
بقلق عارم أردف :
خير اللهم خير ، على وين بذي السرعة
رفع هاتفه ليتصل على عمه سيف دون رد ، ثم حاتم وكذلك دون رد ليعلق آماله بحامد وهو يدعو الله أن يرد .. وأخيرًا فُتح الخط ليبادره قايد بقلق :
اخيرًا ، حامد من اللي بسيارة عمي وحاتم ؟
كاد حامد أن ينطق لولا إشارة حاتم وهمسه الخافت بـ " لا تعطيه العلم " ليقول بأقرب كذبة وجدها :
أنا وحاتم رايحين نجيب غداء اليوم !
لوهلة زفر قايد بإرتياح فدقات قلبه انبأته بالأسوء ، ليهتف بغضب :
ووش ذي السرعة أنت وإياه جالسين تتسابقوا ؟
-وبتهديد صريح-
تراكم في شارع داخلي والصغيرين طالعين داخلين من بيوت أهليهم ، انتبهوا وتركدّوا
حامد وهو يحاول تصريفه بتوافقه :
زين زين ياخي وش فيّك هبيت فيني ، يلا سكّر مع السلامة
أغلق قايد وهو يتنّهد براحة ! ليلتفت إلى ذياب وهو يقول بابتسامة :
يالله يالحبيب مشينا !








-
أمام إحدى غرف المُستشفى التي نقل على اثرها الجد عزام ، يجلسون مصطفين اربعتهم على الكراسي الحديدية
اثنين منهم تكسوهم الراحة ، والثالث منهم مشدود الأعصاب ، والآخير يشعر بتأنيب الضمير ووجع القلب
من سوء حظه في يوم عودته من الغربة القاتلة يسقط والده والسبب هو .. طوال السنين الفائتة كان لديه ما يقاتل من أجله
كان لديه عائلة ، أبناء ، وطن .. هواية ومهارة ينطلق بها للحياة
ما جعله يصبر على الظلم والقهر تلك النِعم المختبئة خلف ستار المحبّة ، ونوافذ الحياة
لا يريد التفكير أنه شؤم على من حوله ..
وأن جميع ما يُقدم عليه قد يؤثر عليهم ! لان التفكير بهذا قاتــل
شعر بتربيته على كتفه فالتفت لـ ابن اخيه ، وبِكر العائلة
ينظر إليه وهو يحدق به ويمعن النظر داخل عينيه كمن يختزل الكلام الكثير هُناك بلا قدرة على إخراجه
لذا هتف هامسًا :
وش فيك ؟
قال حاتم بمؤازرة في البداية ، هامسًا :
جدي بخير هوّن على نفسك ، مب أول مرة يتعرض لنوبة سكر وتمر على خير
مسح على شعره صعودًا ونزولًا ، وبذات الهمس الساكن :
خير وأنا عمك خير !
أمال رأسه نحوه ، مترددًا فيما يودّ قوله .. لا يدري إن كان الأمر صحيح أم لا ولكن حتى يضعه في الصورة وما يترتب عليها من قرارات وإجراءات حاسمة :
عمتي متنومة في هالمستشفى !
التفت له عاقدًا حاجبيه بإستغراب :
عمتك ؟
صمت لفترة قصيرة ليُردف بعدها :
عمتي مريم ، أم زينة
في ثواني معدودة كان يقف مرشد بكل حدة وهو يسحب حاتم من قماش ثوبه جهة عضده ليتجّه فيه إلى إحدى الزواية ، الطريقة التي أشعرت حاتم بالضيق لكنه احتفظ بهدوء ملامح وجهه فهو يعلم أن تصرفات غير طبيعية تنبع من عمه
مرشد بنبرة هامسة مرتعبة بعد أن لفت نظر الاثنين :
بعدك على العهد ؟
علم ما يعنيه بالعهد ، أي بعدك على حُرمتك لابنتي ، ليهتف بثقة :
ما ننكث العهد .. لو إنه جاء متأخر ، ومتأخر كثير
مرشد بذات النبرة القلقة :
كيفها ؟ .. أقصد وش فيها ... يعني زينة ..
شحب وجهه بصورة سريعة وهو يهمس باسم " زينة " وكلّ ما أخذ منه مأخذ أن زينة كان تعلم الحقيقة المزيفة كما يعلمها الباقي ، أي عاشت على قتات الماضي والذكرى وقد باتت تذكره كميّت ، لا كغائب :
بنتي تعرف إني ميّت ؟
لوهلة نسى مُصاب مريم ، فهي ختامًا طليقته وإن كان طلاقه إليها جاء كُرهًا وغصبا لكن ابنته أولى باستحواذ تفكيره
فهو يعلم مقدار تعلقها الشديد فيه منذ صغرها ، وحتى شبابها ، أعاد كلامه والرجفة تمتلكه :
بنتي عاشت على ذكراي ولا نستني مثل ما ينّسوا الأموات ؟
أردف حاتم بثقة جادة :
ولا عمرها سهت عن ذكراك .. من بدهم كلهم ياعمّي !
عضّ شفته بقوة شديد حتى استطعم طعم شفتّه الجافة ، وكلام حاتم يؤكد له أنها تألمت على موته المزيف كثيرًا .. كثيرًا جدًا :
ودّني لها !
نطقها بكل ما تملكه النبرة من تعب ، ليُردف حاتم بصدق :
من أول ما شفتك وأنا وديّ نطير لها لأن ماحد بيفرح كثرها ، بس ياعمّي أنا خايف عليها من الصدمة .. بنتك متعلقة فيك واجد وتعلّقها خلاها تنسى شكثر حولها ناس تحبّها وتحتويها .. عاشت على الذكرى متخليّة عن ورديّة واقعها
فخلينا نأجل المواجهة أفضـ...
قاطعه بكلمة لا تقبل الزيادة :
لا !
-فاستطرد بجدية حشرج لها صوته الباكي-
لا الحين ، الحين وديني لها .. خليني أشوف أثر غيابي وامحيه بوجودي ! ودني يا حاتم ولا رحت لها مشي
زفرّ حاتم ثم صدّ بوجهه ، يقلب الأمر في رأسه ويحاول دراسة ابعاده ، يفكّر فيها .. وبه !
فهذه سبع سنين ليسّت بالسهلة
بعد ثواني طال أمدها أردف أخيرًا بجدية بالغة :
باوديك لها من عيوني الثنتين ، لكن بالأول خلينا نغيّر من مظهرك .. أنا وأهلي ماعرفناك فما بالك هي
-ثم ابتسم محاولًا تلطيف الأجواء-
ما أنت سهل ، مسوي نيو لوك رهيب من ورانا .. شكلك ما حلقت من سنين
قالها بنبرة حملت بعض الدهشة لأن طول شعر مرشد قد تجاوز أذنه ، ولحيته رثّة كثّة ثقيلة وكثيفة ليست كما عهده عليها
اقترب حينها منهم حامد ليقول :
فيكم شيء ؟
مد حاتم يده على طول كتف مرشد ليقول بجدية باسمة :
دام تطمنا على جدي أنا باخذ عمي عشان نغيّر من ستايله هذا ونلتقي في بيتنا
-وبجدية أبلغ-
خلي جدي يرتاح ويتقبّل الوضع ثم انقلوا الخبر شوي شوي لجدتي وباقي العائلة .. الحين عندنا شيء مهم نسويه
هزّ حامد رأسه متنهدًا ولا يعلم ما الذي يدور في رأس الاثنين ، فمن عين حاتم تشّع الحماسة ؛ ومن عين مرشد يرى الظلام






-
اتصل بها ليلًا بعد عودتها من غداء صباحيّة أميمة ، يطلب منها أن تبقى مستيقظة حتى يعود فهو على حد قوله يملك مفاجأة لذيذة لها
ظلّت تطرق هاتفها بباطن كفها ، ومفاجأته " اللذيذة " تقلقها .. فهي تعلم ثقل عياره إن كان يقول أمرًا مبهمًا ولا تريد التفكير بأكثر مما تطلبه العادة
ترتدي فستان صيفي أسود اللون . كأنما عاد لعزاءاتها المتتالية على فقيد قلبها .. تترك شعرها خلفها ولولباته السوداء اللامعة مختفيّة هذه المرة
رنّ هاتفه برسالةٍ منه تخبرها أن تخرج من إحدى الغرفتين ، خاصتهم كانت أم خاصتّها
تأففت على تقريعه الدائم وهو يخبرها بملكيّة غرفة ذكرياتها ، وتخصيصه لغرفتهم الخاصة
خرجت وأغلقت الباب وراءها ، لتقف بشكل مفاجئ وحاد
كأن الأرض بدأت تموج من تحتها ، كأن دبيب النمل يقرع بخطواته في رأسها ، كأن الدم يصرخ وينتحب في مجراه
كأن الروح انسلت منها وانسحبت .. الروح التي كانت تعيش على فتاتها
تتنفس بصعوبة ، تتكلم بإختصار ، تضحك قليل وتبكي أكثر ، تحارب بصمتها ، وتجاهر بإعتراضها ، هي روح وحدة عاشتها برُبع ، حتى كاد ينتهي مخزونها ويفضى
والآن ؟ بعد مرور هذه السنوات كلها من الصمود ، والتحمل والمواجهة .. تختفي روحها تمامًا
لأن الذي تراه أمامها ضرب من الجنون .. المشهد المتمثل أمامها الآن ما هو بظنها إلا مسرحية هزلية تافهة لا تمت للواقع بصلة
لأنها تعلم أن الأموات لا يعودون للحياة ، الأموات نبكيهم حتى نلحقهم وتتلحف أجسادنا بالقرب من قبورهم
الأموات ندعو لهم بالرحمة ، وندعو لنا بالصبر والسلوان
الذي تراه أمامها شبح متمثّل في جسد مرشد
لأنه لمن المستحيل أن يكون مرشد بحد ذاته
لأنهم قالوا لها بالحرف الواحد ( مرشد مات ، مرشد ودّع بلا عودة )
اندفن بعيد عنها .. لا ليس ببعيد ! قريب جدًا
وهذا قبره هِنا على بعد كيلومترات بسيطة ! لكنّه قبر خالي
لا يحوي أي جسد ! جسده انرمى في بقعة لا تعلمها
لكن روحه فاضت وارتفعت لباريها
تنّفست بصعوبة بالغة .. كأنها عملية صعبة جدًا عليها
احتقنت عينيها بالدمع الغزير الذي ما كان له بد من الهطول
تبكي ؟ تبكي نعم .. تبكي مرشد ! بكته ميّت
وعادت تبكيه حيّ !
كيف تستقبله ؟ بأي طريقة ؟ هي لم تضع السيناريو للقاء الدنيوي .. هي رسمت كيف ستلتقيه في الجنة
كيف تمسك يده بيدها في عناق سرمدي لا يُبلى ولا يُفنى
ما حسبت حساب اللقاء على وجه الأرض ، ولا حسبت حساب هذا اليوم
تحشرجت أنفاسها ، نفسها صار يخرج من ثقب إبره
اكتساها البرود حتى اقشعر به جسمها .. ضغطها في هذه اللحظة شعرت فيه يرتفع حتى كاد يفتك بها
قبضت على يدها بقوة .. تحاول التوازن . وتواسي نفسها بأن هذا الوقت ليس وقت سقوط وإغماء
وبحركة تمامًا غير متوقعة منها ، فاجأت فيها الواقفين .. وبكل سكون ورُعب العالم لّفت بظهرها ومشت بخطوات مهزوزة حتى وصلت غُرفتها ! وأغلقت الباب وراءها بقوة
وصوت حاتم الغاضب يتراءى لها :
زيييينننة!
غضب من تصرفها ؟ فلـيغضب
أدهشت مرشد وأحرقت قلبه .. فلـيحترق
كل الذي تعلمه .. يجب أن تختلي بنفسها الآن
ترتب النصوص في عقلها وترسم مسار صحيح لنهاية القصّة
الصدمة ألجمتها ، شلّت أطرافها .. حتى حركة رموشها توقفت الأمر الذي ساعد دموعها على الفيضااان بغزارة ، ولأول مرة منذ ينين
رمت نفسها على السرير بكل ثقلها ، وكأنها ترتجيه أن يحمل الثقل والصدمة والعجز عنها
أغمضّت عيونها بسكون فظيع وهي تُهمس :
حلم .. أنا أحلم ! نامي يا زينة مالك إلا الأحلام
ولا صحيتي دّقي باب الواقعية واستقبلي القهر بصدر رحب
/
\
بالخارج .. كان مصدوم منها ! بل مصدوم من شكلها وتغيّرها الكبير
لا يقصد هيئتها .. شعرها أو عينيها أو حتى قوامها
الذي أصدمه أكثر من هذا ، هو الحزن المركون في ملامحها!
والشحوب الذي احتلّ جزء كبير منها .. تسلل بعضه لشفتيها
رحل هو .. أما هي فماتت وهي على قيد الحياة
وكأن القهر الذي عاشه لا يكفي .. عاد ليتزايد ويمتلئ به جوفه
قهره من أنه ترك ابنته بهذا الحال ، تؤدي دور الأم والأب والأخت
بعد ما عرف إن مريم تركتهم لما هو هرب ..
التفت لحاتم الذي يربّت على كتفه :
ياعمي اعذرها أرجوك
أنا الرجال وبغت تطلع روحي من شفتك رجعت للحياة
ما بالك ببنتك المتعلّقة فيك
اجترع ريقه ، وهو يولّي نظراته الخايفة لوجه حاتم ونطق بخوف :
يا حاتم أنا وش سويت في بنتي ؟ ذبحتها وهي اللي تستاهل الحياة
وش سويت فيها لما قتلت روحها؟
أحس بجسده يتهاوى ، تلّقاه حاتم وهو يجلسه على عتبة باب المجلس
يتنفس بصعوبة ، نفس الصعوبة التي واجهتها زينة قبل قليل بسببه
يفتح زر ثوبه الأبيض ، توشح بالبياض اليوم لأجل أن يفرح ما ظن أنه نثر التراب مرة عليه واغبر من شدة حزنه
همس وهو مندهش:
وش سويت أنا وش سويت ، عاقبت بنتي على فعايل أمها
عاقبتها وهي اللي كانت تستقبلني بجناحين طير
كسرتها ، كسرت الطير وحرمته من حريته
يا وجع قلبك يامرشد ، وش سويت في بنتك الوحيدة يا خسيس يا دنيء
قال حاتم بجدية
لو عرفت عذرك بتعذرك هون على نفسك عمي
التفت له ونظراته تحكي الكثير:
وهذه العلة وأنا عمك هذه العلة بكبرها ، وش هو عذري؟
ماعندي عذر عشان أتجمل به قدامها وأتركها تقتص منه
حوقل حاتم بهدوء ، لا يعرف كيف يواسيه لأنه ظل أيام وشهور وسنين وهو يحبس أساه في صدره ، وما حصل على غدق الكلام إلا من المجنونة قبل قليل
مسك عمه من عضده ، فتح باب المجلس وفتح وراءه أنواره
اتجه فيه لسرير جده الخالي حتى أجلسه
قال بهدوء:
ارتاح الليل ياعمي ومن أصبح أفلح
رفع رأسه بهدوء متألم له :
وبنتي؟
ابتسم حاتم يطمئنه يعرف كبر حجم منزلة زينة في قلب أبيها .. بل جميعهم يعرفون أنها المدللة الوحيدة:
بتجيك الصبح بأشواقها طايرة
-انحنى وقبل رأسه احترامًا-
ريح جفونك عمي، أتعبها السفر والسهاد ووالله ما يصير خاطرك إلا كل طيب وخير
خرج من المجلس بعد ما أغلق المصابيح وأغلق وراءه الباب بهدوء
وفجأه فترت ملامحه ، ذبلت وهزلت للحظة
يدري تمامًا أن صفح زينة عن أبيها مؤقت وماهي إلا أيام قليلة ويشتعل في صدرها أعراس له
توجه لغرفتهم وكل حواسه تدعيه حتى يلجأ لها
يحاسبها ، أو يعاتبها ، أو يؤدبها بقسوة كلامه ؛ لا يعلم
لكن كل الذي يفكر فيه الآن إن تلتقي عينيه في سواد عينيها
أن يستقي منها حتى التخمة والشبع
أن يستنشق ويختزل رائحتها بصدره ويقفل عليها بأقفالٍ لا تعد ولا تحصى
فتح الباب بخفة ، ويده تتسلل للقفل بعدما أقفلها حتى يحظى بخصوصية من المتطفلين أمثال الهواء والمطر وأشعة الشمس
رأف قلبه لحالها ، نائمة في منتصف السرير ودموعها شكلت بقعة سوداء مختلطة بكحلها
تنّبه أن الليلة كان قد طلب منها أن تستعد فهو دعاها إلى مكان خاص لم يزره مرة ، فاستحب أن يزوره برفقتها
ولكن صدمته بعمه لم تترك لديه عقلا ، أخذه واحضره حتى يبشر به وجه زينة
لكن ما ظن أن البشرى ستتحول لنعي وسلسلة طويلة من الصدمات المصحوبة بالبكاء
تنهد ثم نزع ثوبه وارتدى بيجامته واتجه لها وبكل خطوة تتقاقم الفكرة اللي زرعها في باله
توسط السرير وسحبها بخفة حتى لا يزعجها واختصها بحضنه
همس وهو يغمض عينه:
تعالي ، سدّي الخلل والفراغ
إن كانت الليلة ليلة شمل لمرشد فهي زاد الوداع بيني وبينش



انتـهى ❤
قربـنا من الختام ):

NON1995 likes this.

الكاديّ غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 17-06-22, 10:54 PM   #90

الخلووود°`

? العضوٌ??? » 499965
?  التسِجيلٌ » Mar 2022
? مشَارَ?اتْي » 64
?  نُقآطِيْ » الخلووود°` is on a distinguished road
افتراضي

يالله ماتوقعت ردة فعل زينة كذا 😭
ننتظرج متى ينزل البارت

NON1995 and الكاديّ like this.

الخلووود°` غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 03:56 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.