آخر 10 مشاركات
52 - خداع المرايا - أجاثا كريستي (الكاتـب : فرح - )           »          ليالي صقيلية (119)Notti siciliane ج4من س عائلة ريتشي:بقلمي [مميزة] كاملة و الرابط (الكاتـب : أميرة الحب - )           »          غمد السحاب *مكتملة* (الكاتـب : Aurora - )           »          لك بكل الحب (5) "رواية شرقية" بقلم: athenadelta *مميزة* ((كاملة)) (الكاتـب : athenadelta - )           »          287 - كذبة العاشق - كاتي ويليامز (الكاتـب : عنووود - )           »          284 - أنت الثمن - هيلين بيانش _ حلوة قوى قوى (الكاتـب : سماالياقوت - )           »          275 - قصر النار - إيما دارسي (الكاتـب : عنووود - )           »          269 - قطار النسيان - آن ميثر (الكاتـب : عنووود - )           »          263 - بيني وبينك - لوسي غوردون (الكاتـب : PEPOO - )           »          التقينـا فأشــرق الفـــؤاد *سلسلة إشراقة الفؤاد* مميزة ومكتملة * (الكاتـب : سما صافية - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء

مشاهدة نتائج الإستطلاع: ما هو تقييمك لمستوى الرواية ؟
جيد جداً 85 88.54%
جيد 11 11.46%
سيء 0 0%
المصوتون: 96. أنت لم تصوت في هذا الإستطلاع

Like Tree9699Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 25-10-21, 04:28 PM   #61

نوارة البيت

? العضوٌ??? » 478893
?  التسِجيلٌ » Oct 2020
? مشَارَ?اتْي » 2,845
?  نُقآطِيْ » نوارة البيت is on a distinguished road
افتراضي


بسم الله الرحمن الرحيم
shezo likes this.

نوارة البيت غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-10-21, 04:28 PM   #62

نوارة البيت

? العضوٌ??? » 478893
?  التسِجيلٌ » Oct 2020
? مشَارَ?اتْي » 2,845
?  نُقآطِيْ » نوارة البيت is on a distinguished road
افتراضي

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .
shezo likes this.

نوارة البيت غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-10-21, 04:30 PM   #63

نوارة البيت

? العضوٌ??? » 478893
?  التسِجيلٌ » Oct 2020
? مشَارَ?اتْي » 2,845
?  نُقآطِيْ » نوارة البيت is on a distinguished road
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ألحان الربيع مشاهدة المشاركة
الفصل الرابع (( العقد الذهبي ))





"لااا...انتظــري"

دفعتُ يدها بقوة قبل أن تصل فمها صارخاً بندم ...لتسقط ساندويشة الهمبرجر ارضاً....ثم سحبتها من كتفيها ادثرها بأحضاني ...أضغط على جسدها الضئيل ...أحاول حمايتها من غدر الزمان ...من القهر والخذلان ...من شياطين الانسان ...يا ألله ماذا كنتُ فاعلاً؟!...منذ متى أجد أدنى الحلول؟!...كيف أصبحت هكذا ؟!....ليخسأ هذا الجوع البغيض الذي أراد اذلالنا ...!!! ....سنقهره ...سنقاوم ولن نسقط أمامه...سنصبر وسننول جزاء صبرنا بإذن الله......كنت جاثيا على ركبتيّ أمامها ...ادفن رأسها في صدري وأواري وجهي بين كتفها البريء وشعرها الطاهر...أبكي قلة حيلتي...أبكي مرارة عيشتي...أبكي خجلاً منها ومن قبلها نفسي!!...بكيتُ كما لم أبكِ سابقاً...

" سامحيني يا أختي...سامحيني...لا أعرف كيف سمحت لنفسي بفعل ذلك؟!"

كنتُ أهمس متوسلاً...لكنها كانت أقوى مني ....رَفعتْ رأسها عن صدري...مدتْ يُسراها تمسح دموعها وسبقتها يُمناها تمسح دموعي...تحدّق بي بشهد عينيها المحتقنة بمائها العذب هامسة بأصالتها :

" لا تبكِ يا هادي أرجوك....لا أحب أن أراك حزيناً....بل أنت سامحني لأني ضغطت عليك....أعدك سأصبر حتى نعود الى المخيم.."



أنظر لها بِتيه...شارداً بجريمتي...آسفاً لفعلتي النكراء....رسمتْ ابتسامة نقية ترائي نقاء روحها ...تدفعني بها لنمضي في سبيلنا وندفن ما حدث في هذه البقعة دون العودة لها....

حملتها على كتفيّ وسرتُ بها قاصداً البحر ...حيث يتواجد على ساحله الكثير من السيّاح آملين بنفاذ مخزوننا من أغراض لهذا اليوم....

بينما كنا نخطو خطواتنا على مهل أميل بها تارة يمنة وتارة يسرة ..أحاول بيع بضائعي....اقترب رجلاً منّا كان برفقة زوجته للسياحة...يبدو عليه الكرم والشهامة...تبسّم لنا هامساً:

" من أين أنتم؟"



رفعتُ حاجبي بتوجس من سؤاله الغريب ,مجيباً:

" نحن لاجئون"



"أعرف....لكن من أي بلد؟"



" ما يهم ذلك ان بتنا بلا وطن ؟!...ما نفع هويتنا ان لم تحمنا من اللجوء؟؟"

تابعت كلامي وهو مصغياً دون مقاطعة:

"هل ستعيدني الى بيتي اذا علمت بذلك؟!.....اعذرني يا عمّ....فبلدي الوحيد هو حضن أمي...ضحكة اختي...رائحة اخي وحنان خالتي"



ختمتُ كلامي مولّياً له ظهري لأتابع سيري ..فصاح بنا:

" توقفواا...رجاءً"



التفتّ برأسي الى الخلف...فتقدم بخطواته نحونا ليقابلنا قائلاً:

"أنا أسف يا بني لم أقصد ازعاجك...لكني أكتب عن معاناة اللاجئين.."

صمت برهةً وتابع:

" إنسَ الموضوع......أريد أن اشتري منكم"



بدأ يفتش بين الأغراض يوزع ابتساماته الصادقة وبعد أن وقع اختياره على بضع أشياء وأخرج محفظته ليدفع الثمن , قرعت طبول النصر من معركة الجوع في معدة أختي...قطب حاجبيه كأنه يريد التركيز للتأكد مما سمع...احتقنت دماء وجهي وكذلك اختي حرجاً...فقال لنا :

" أرجو الّا تردوني......أريد اعطائكم بعض المال عن روح أبي رحمه الله لتشتروا شيئاً تأكلوه "



أجبتُ بإباء شامخاً برأسي ...ناصباً ظهري:

" رحمه الله...تصدّق بذلك لغيرنا"



تحولت ملامحه للجد وقال:

" يبدو على شقيقتك الجوع...أنا لا اعلم لِمَ تعاند!!....انا احتاج حسنات لأبي ولست انت من تحتاج.....لربما في يومٍ تقف موقفي وتفهمني في حينها "



شعرتُ بالارتياح في صدري من لباقة وصدق كلامه ...اعتذرت منه على أسلوبي الفظّ وقلت:

" انا موافق...لكن بشرط"



" ما هو؟"



" لا تعطنا المال , بل اشتري لأختي ساندويشة شاورما"

قلت بحزم مشيراً لمطعم الشاورما على يميني...



اومأ برضى متبسماً ودلف الى المطعم......بعد دقائق عاد يحمل بيده كيساً فيه عدة لفائف من الشاورما وعصائر...فقلت:

" هذا كثير!!..انا طلبت واحدة "



أجاب بثقة متواضعاً يفتح الكيس يشير لما بداخله:

" انا أُطعمُ عن روح أبي ولا أقبل بواحدة....لذلك هذه لأختك وهذه لك..والباقي لأمك وخالتك وأخيك "



اتسعت عيناي متعجباً وقلت:

" كيف عرفت؟!"



غمزني مبتسما مجيباً على الفور:

" حضن امك , ضحكة اختك , رائحة اخيك وحنان خالتك...الا يكفي لمعرفة عددكم"



تبسمت لنباهته وشهامته وقلت بامتنان:

" لكن اخي رضيع لا يأكل الشاورما"



وقبل ان ينطق بكلمة هتفت (دنيا):

"اذاً لسلمى"



ضحك الرجل وقال:

" اذاً لتكن من نصيب سلمى"



وولانا ظهره مدبراً باتجاه زوجته... فهتفت بصوت مرتفع:

" شكرا يا عمي ورحم الله أباك "



أدار وجهه متبسماً ورفع يده يلوّح بها هاتفاً:

" صحة وعافية....وداعاً"

~~~~~~~~~~~~~~~~

لم يتوانَ السيد (ماجد) عن متابعة ما وُكّل به.....فمنذ أن كلّم السيد (سليم الأسمر) وهو يضع برنامجاً يمشي وفقاً له....كانت وجهته الأولى قبل أسبوع , المخيم الموجود قرب المدينة التي يقطن فيها وعاد مثلما ذهب خالي الوفاض دون أن يجد حرفا يقترب لأسمائنا ....وبدأ يخطط من جديد ليرسم وجهاته الأخرى!!

~~~~~~~~~~~~~~~~

تقف خلفها أمام طاولة الزينة لتسرّح لها شلالها الأسود الذي يصل الى منتصف ظهرها الصغير ...هامسة بحنان :

" لقد ازداد طولاً شعرك ...متى سنقصّ أطرافه ؟!"



عبست بدلال تكتّف ذراعيها تزمّ شفتيها دون ان تنطق بكلمة.....رأت انعكاس وجهها بالمرآه فتبسمت لها وهي تضم شعرها بقبضتيها قائلة:

" حسناً حسناً لا تعبسي أعلم أنك تريدين أن يصل الى تحت ظهرك كوالدتك رحمها الله "



فَرَدَت ملامح وجهها وقالت بدلال تدّعي انزعاجها :

" خالتي سهيلة بما أنكِ تعلمين هذا لمَ تصرّين على اغضابي ؟!"



ضحكت وأجابت :

" لقد شُلت يدي من طوله وكثافته بسم الله ما شاء الله ...كنت أجرب حظي ان غيرتِ رايك .....يجب ان اجد حلاً فمعظم اكسسواراتك ومشابكك الخاصة بالشعر اما تنكسر او لا تطوق لجمعه كاملاً"



" لكني أحبه منسدل على ظهري لأبدو مثل سالي في كرتوني المفضل "



" ما رأيك لأقص لك غرّة تصل حافة حاجبيك ؟؟...ستكونين مذهلة ...فهي تناسب شعرك ووجهك الجميل "



" رائع ...لأُحدِث بعض التغيير في مظهري في حفل اليوم ...كي أبهرَ زميلاتي وزملائي والمدرّسين خاصتي ..."



كان اليوم هو الواحد والعشرون من آذار الخاص في يوم الأم....الأم هي أم في كل يوم وكل ثانية ...لا ان نختصّها بيومٍ واحدٍ, نظهر اهتمامنا ونغدق عليها بالهدايا وعبارات الغزل الفارغة من غير تطبيق ..ثم في اليوم التالي ننسى كل هذا ونعود لحياتنا لا نعلم هل هي بحاجة لنا ؟! هل تشعر بالوحدة من دوننا ولا تجد من يؤنسها ؟! ...فبرّها واجب علينا في حياتها ومماتها لا بيوم خاص ابتدعه الآخرون... ....أما تلك الحفلات بالمظاهر الكاذبة هي لم تكن سوى فتح جروح لم تندمل أساساً لأيتام فقدوا نبع الحنان بتدابير القدر فيأتوا هؤلاء ليضغطوا على موضع الإصابة غير مكترثين لحالهم ليزدادوا آلاماً على آلامهم......

من يوم ِانتسابها للمدرسة لم تشارك بتاتاً بأي حفل يخص الأم ....كان والدها يحاول حمايتها بإخفائها عن الأنظار في هذا التاريخ حرصاً على مشاعرها بدلاً من المواجهة وتشجيعها لتتقبل نصيبها والايمان بالقضاء والقدر.....لكن السيدة (فاتن) وبمساعدة المربية (سهيلة) قررتا أن تكونا القوة الدافعة لها لتخرجاها من ضعفها ....كانت خالتها في الخفية تواصل طبيب نفسي ليرشدها كيف تتصرف معها ....وأخيرا مع التشجيع نجحت بإقناعها بالمشاركة لأول مرة لهذا اليوم في حفل المدرسة الخاص بالأم لترافقها هي والسيدة (سهيلة) لحضوره سوياً كما ترافق الأفعى (سوزي) ابنها (كرم).....وكذلك والدها تقبّلَ مشاركتها في النهاية بعد رؤيته حماسها....

" يا للروعة انها مذهلة "

هتفت بدلال معجبة بمظهرها الجديد في الغرّة التي تنسدل برقة تغطي جبينها لتصل حواف حاجبيها بإتقان...فالسيدة (سهيلة) معتادة على تسريح الشعر لبنات أشقائها وأصبحت ذات خبرة في هذا المجال....

" هيا يا أميرة حان الآن دور ارتداء الفستان "

هتفت خالتها (فاتن) وهي تدخل الغرفة تحمل الفستان بعد أن قامت بِكَيّه الخادمة.....

×

×

×

تتوسط خالتها والمربية في المقعد الخلفي للسيارة ومن خلف المقود السائق وجانبه حارسها الشخصي الذي الصقه والدها بها عند خروجها لأماكن عامة او تكتظ بالناس...فهكذا الظالم لا يأمن ولو كان في عقر بيته .....

وهم في طريقهم الى قاعة المدرسة .....كانت ملامحها حزينة...بالعادة تثرثر في سفرها حتى لو لم يكن الا السائق لوحده....اما الان ساكنة , صامتة.....ليس لأنها ذاهبة لاحتفال خاص بالأم ...انما تشعر بالقلق خوفاً من الّا يأتي لمشاركتها يومها الخاص مثلما وعدها....

ترجلن من السيارة ودخلن بوابة القاعة الكبيرة..... الحارس كانت مهمته الانتظار على المدخل ...كانت تنتسب لمدرسة خاصة فيها وسائل الرفاهية والفخامة بدعم من رجال الأعمال وعلى رأسهم ( عاصي رضا), ويحاوط المدرسة أمن خاص لحماية أبناء الأغنياء والطبقة الراقية...لكن(عاصي) لا يثق بهم فقط ,لذلك يرسل أفضل حرّاسه معها أينما ذهبت.....جلست كل واحدة منهن على مقعدها بعشوائية. ..فرغم نظام هذه المدرسة الا انه بهذا اليوم لا يفرّقوا الطلاب عن أهاليهم ليخلقوا جواً من الألفة الاسرية ....بعد ان امتلأت القاعة بالحضور ....صعدت المسرح عريفة الاحتفال فتاة بالصف السادس لتحيّي الضيوف ومن ثم تستدعي مديرة المدرسة لإلقاء كلمتها وبعدها تقديم البرنامج تباعاً حسب ما نظمته المدرسة .....مضت ساعة ونصف أمضتها (ألمى) بوجهٍ مستدير الى الخلف ...تراقب الحركة الساكنة عند الباب علّها تلمح طيف والدها ...لم تنصت لأي شيء مما قُدّم ...كان تحدّيها لتثبت لوالدها انها قوية ولن تتأثر ولا داعي للخوف عليها لدرجة خنقها بحمايته لها....كانت الفقرة المعروضة الآن القاء قصيدة من طالب يصغرها سنة انتبهت لها صدفةً....نهضت من مكانها فسألتها خالتها بفضول :

" أين تذهبين صغيرتي ؟"



" سأعود بعد قليل ..سأرى بنات صفي "



تبسمت لها بحنان وقالت :

" حسناً لا تتأخري "



بعد انصرافها استدارت السيدة (فاتن) للسيدة (سهيلة) هامسة بضيق :

" كانت في قمة السعادة تنتظر هذا اليوم ....لكن لا يهنأ له عيش من غير أن يفسد عليها مزاجها ....ما هو الشيء الأهم من فرحة ابنته لا اعلم....من يراه يظن انه على حافة الإفلاس وفي هذه الساعة سينقذ ثروته !!"



ردّت السيدة ( سهيلة) بهدوء مع ان داخلها تشتعل غيظاً ...فهو سيدها لا تستطيع ذمه والسيدة ( فاتن) تبقى سيدتها مهما كانت علاقتها بها قريبة وقوية:

" أتمنى أن يأتي حتى لو لحق بآخر الاحتفال فقط... ليسجل حضور على الأقل في نظر ابنته "



" لن يأ.."

قطعت جملتها بعد أن وصلها الصوت العذب.....



[[....أنتِ الأمان

أنتِ الحنان...

كانت المفاجأة التي خبأتها (ألمى) عن عائلتها ......لقد قررت المشاركة بإحدى الفقرات لتري والدها قوتها ولتكون هدية لمن تعبتا عليها ....اختارت خصيصا اغنية (أنت الأمان الخاصة بالأم من المسلسل الكرتوني دروب ريمي ) لتنشدها بصوتها العذب الموسيقي ...لم يكن داعي لأي آلة عزف...فصوتها لوحده بعذوبته هو كسمفونية هادئة تعزف وقت الغروب على شط بحرٍ ساكن دون أي نفسٍ لبشر مع نسمات لطيفة تداعب الأجواء.....كانت تحلّق على المسرح بفستانها الوردي المصنوع من الساتان اللامع بتنورة نافشة تصل الأرض وقسمه العلوي يغطيه قطعة بيضاء من الدانتيل تصل أكمامه الطويلة ليتجانس مع الخلفية الوردية.....شعرها منسدل على جانبيها وغرّتها تحف حاجبيها ليندمج سوادها مع رموش عينيها ..يزيّن رأسها اكليل من الورد يتناسق مع لون لباسها.... بدت مثل أميرة هاربة من احد الأساطير برُقيّها وسحر جمالها .....

غردّت بكلمتين وتوقفت تنظر الى الباب ..تحاول تأخير فقرتها ربما يأتي ويسمعها ...هي تعلم كم يحب صوتها ويتغزل به...بعد ثلاث دقائق اقتربت مربيتها في المدرسة ,تشجعها على الاستمرار لا تفقه شيئاً من الصراع الناشب داخلها...

تنحنحت وانتصبت في وقفتها تمسك مكبر الصوت المنصوب امامها بأنامل يمينها الرقيقة وأسدلت أهدابها لتطوف في عالمها الذي سترسمه في عقلها رغماً عن الجميع لتخلق الحياة التي تتمناها....

ساد القاعة هدوء بعد ان حدث بعض الضجيج لتوقفها عن الغناء قبل قليل...فمنهم من كان مندهشاَ ومنهم من كان شامتاً تعددت النوايا والضجة واحدة....لكن بطلب من المربية اختفى هذا احتراما لها.....أُطفئت الأنوار القوية وبقيت الخافتة بين الحضور...وعلى المسرح ضوء أصفر يُسلّط كالشمس على تلك الزهرة الوردية لتزهر بحضورها وصوتها ....



[[...أنتِ الأمان

أنتِ الحنان

من تحت قدميك لنا الجنان

عندما تضحكين

تضحك الحياة

تزهر الآمال في طريقنا

نحس بالأمان

أمي أمي أمـــي

نبض قلبي

نبع الحنــان

...........

..........

أنتِ الأمان

أنتِ الحنان

من تحت قدميك لنا الجنان

من عطائك تخجلي

أبداً لم تتململي

يا شمعة دربي

يا بلسم الزمــان

أمي أمي أمــي

نبض قلبي

نبع الحنـــــــــــان...]]



ختمت أغنيتها تترك المسرح......تمسك فستانها ......ترفعه لتجري نحو الباب بلهفةٍ بعد أن رأت والدها يقف معتزاً بها... مبتسماً برضا ومن خلفه ترى وجه أمها يشع في نوره محبةً وحناناً وعيناها تلمع اشتياقاً لمهجة قلبها ...كانت تجري بخفة لترتمي بأحضانه الذي لم يكن سوى سراب من الحلم الذي رسمته بمخيلتها. !!!!!

عادت تنكس رأسها ...أما من في القاعة كانوا ما زالوا تحت تأثير صوتها الشجي العذب ....حتى ان معظم الأمهات لم يتمالكن انفسهن عن البكاء من كلمات الأغنية المدمجة بصوتها الرنان بالإضافة عطفاً على تلك يتيمة الأم....كانت السيدة (فاتن) منهارة تبكي لدرجة خرج صوتها بنحيب ....تبكي متأثرة من الأغنية ...وعلى حال صغيرتها وعلى تذكّرها شقيقتها (كريمة) صاحبة القلب الطيب ونبع الحنان...السيدة (سهيلة) تبكي بصمت وتحاول التخفيف عنها وهي تربت على ظهرها بعد ان دفنت وجهها على كتفها... رفعت رأسها بعد ان وصلتها رائحة صغيرتها مع صوتها الهامس الحزين :

" هيا خالتي ..انتهى الاحتفال"

مسحت دموعها تخفي الآمها كي لا تزيد ناراً على نار العيون المشتعلة امامها خيبةً وقهراً وهمست متنحنحة تحاول إعادة صوتها وهي تمسك ذراعيها وتضمها لصدرها تقبل جبينها من فوق غرتها:

" أبدعتِ صغيرتي... لم أنَل في حياتي مفاجأة كهذه ....أنا فخورة بكِ حد السماء .... "

تبعتها السيدة(سهيلة) بوصلة مديح واعتزاز وعناق ثم عدنَ ادراجهن الى المركبة في الخارج....

~~~~~~~~~~~~~

دارت الأيام بنا......وفي ليلة كنتُ افترش الأرض بالخلاء قرب المخيم...أتأمل بريق النجوم...أحلق بنظري في السماء...أفكر كيف نتقدم ؟!.....لقد سئمت من عملي كبائع متجول , تتفطّر قدماي لأجني قروش قليلة لا تكفي لقوت يومنا....

يا الله ساعدنا....

أريد إكمال دراستي ...لقد توقفتْ نهاية الفصل الأول من سنتي الأولى بالثانوية , عندما هاجرنا الى هنا....أخشى ضياع مستقبلي!!....وأختي؟!...يجب أن تدرس فهي بالمرحلة الابتدائية, ألمرحلة الأساسية بالتعليم......يا الله ارشدني....

في صباح اليوم التالي ....قررت أن اعتذر عن عملي وشرحت لأمي وخالتي أسبابي...تفهّمتا ذلك ولم تضغطا عليّ.....

أخذت أتمشى في أرجاء المخيم...اداعب من أواجه من أطفال مرةً...أقذف الحصى بحذائي الممزق مرةً أخرى....إنه الفراغ والملل!!....وبينما انا أجول بين الخِيَم...لفت انتباهي رجل في العقد الخامس...يجلس أرضا ومن حوله أولاد بمختلف الأحجام والأعمار من كلا الجنسين....هذا المشهد ذكّرني بمسلسلات كنت اشاهدها للزمن الجميل عندما كان التعليم على طريقة الكُتّاب....اقتربت منهم أبلّ شوقي من الدراسة التي طالما تفوقتُ بها....فكم أشتاق لرائحة كتبي , قرطاسيتي ولأصوات المعلمين وهم يشرحون لنا بتفاني وإخلاص.....

تقدّم احد الطلاب للأستاذ مستفسراً عن سؤال ما , صعُب عليه حلّه....لكن لسوء حظه كان تمريناً معقداً بالرياضيات وهو اختصاصه لغة عربية وتاريخ!! ويَعلم شيئاً يسيراً عن الرياضيات.....حمحمَ محاولاً التملّص من الإجابة قائلاً بصوت مرتفع:

" يا مؤيد نحن الآن في حصة التاريخ....سنجيب لاحقاً على سؤالك"

واكمل في شرحه ليحيدَ عن الموضوع!!

دقائق قليلة وأعلن عن انتهاء الدرس....



" أستاذ.. أستاذ ...ألآن أجبني"

هتف (مؤيد)...



" أنا مشغول....أعطني الدفتر وسأجيبك لاحقاً:

قالها بارتباك ينظر لساعة يده ومن ثم مدّها ليأخذ الدفتر منه....



" من فضلك يا أستاذ حسني ..لا استطيع الانتظار...فأنت تعلم أننا ندرس الرياضيات باجتهاد ذاتي لنقدّم لامتحاناتنا الصيفية وفصل كامل يعتمد على هذا النمط من الأسئلة!!"

قالها (مؤيد) برجاء....



" قلت لك أنا مشغول وسأجيبك لاحقاً"

قالها بصلابة , يتحاشى النظر اليه...



" سهّل الله عملك يا أستاذ "

لحقتُ به على الفور هاتفاً بها....



التفت نحوي ,,,يحمل كتبه بين ذراعه وإبطه ...عدّل نظارته الطبية الدائرية الكبيرة...رمقني بنظرات تساؤل دون ان ينبس ببنت شفة....فأردفت بكلامي:

"أعتذر عن تدخلي ولكني سمعت حواركما من غير قصد!!...هل تسمح لي بالإجابة عن السؤال؟!"



أمال زاوية فمه بابتسامة ساخرة وقال:

" يا ولدي هذا سؤال صعبٌ لمستوى جامعي...لا أعلم من أين أتى به وهو ما زال في منتصف الاعدادية!!"

صمت لثواني قليلة ينظر إليّ يتفحصني من الأسفل للأعلى ثم أضاف:

" وأنت توحي بأنك طالب ثانوي!!"



تبسمت مثبتاً بصري عليه في ثقة وقلت :

" اذا فعلتها ما جزائي؟؟"



أجاب ضاحكاً:

" سأعيّنك مساعداً لي....وربما مدرّساً للرياضيات حتى جيل اعدادي الى أن نحصل على معلم مختص بشكل رسمي , فنحن نفتقر لمدرّسي هذا الموضوع في المخيم"



مددتُ يدي مصافحاً له وقلت بتحدي:

" اتفقنا"



قبل مصافحتي وقال واثقاً بانهزامي وبشيء من السخرية:

" طبعاً طبعاً...لكن ايّاك أن تيأس او تحبط اذا فشلت...فالمستقبل ما زال امامك ويكفيك شرف المحاولة"



أخذت الدفتر من (مؤيد) وجلستُ جانباً على حجر من الطين المعد للبناء....الأستاذ ينظر لي منتظراً....وقبل مرور خمس دقائق , نهضت من مكاني متجهاً صوْبه...فتنحنح وخلع نظارته يضعها في جيب قميصه قائلاً:

" لم تستطع حل السؤال أليس كذلك؟"



دنوتُ منه أكثر رافعاً الدفتر أمام عينيه.... تفاجأ من رؤيته ارقام واشارات تملأ الورقة....شهق متسائلاً وهو يسحب نظارته مجدداً ليرتديها:

" متى استطعت تعبئة هذه الصفحة؟!...غير معقول!!..ما هذه السرعة؟"

استقام بوقفته يدفع وسط نظارته بسبابته لتثبت على انفه بعد انزلاقها مردفاً بجدية:

" على كل حال أريد التأكد من اجابتك!!...سأتصل بصديق لي مدرس للرياضيات في الوطن..."

وضع قبضته أمام فمه يسعل وأكمل:

" عفواً.....انتظرني عصراً في هذا المكان"

وراح كل منا في سبيله......

×

×

×

قُبيْل آذان العصر بدقائق كنت جالساً على كرسي خشبي أمام خيمتنا ,فأقبل نحوي شاباً مهرولاً , في عجلة من أمره متسائلاً:

" هل هذه خيمة هادي ؟"



" وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته"



ردّ محرجاً:

" آه أنا آسف ...السلام عليكم.......لا تؤاخذني...أنا في عجلةٍ من أمري!!...شيخنا وإمامنا أصيب بوعكة صحيّة مفاجئة ولا يستطيع إقامة الصلاة بنا"



"عافاه الله"



قلت أنا... فأردف الشاب:

"لنا جارة تدعى أم سلمى أرشدتني لهذه الخيمة بعد أن اخبرتني بوجود شاب يدعى هادي يستطيع أن يسدّ مكانه لأنه حافظ لكتاب الله مع اتقان تجويده ,لينشلنا من المأزق, فالناس يتوافدون للمصلّى"



"لقد وصلت يا أخي بإذن الله...أنا هادي هيا نذهب"



رمقني بنظرات استغراب ربما لصغر سني!!...ثم توجهنا الى المصلى معاً....



" نعمَ التربية ونعمَ الرجولة"

"ليسلم البطن الذي حملك"

" جعل الله اولادي مثلك"

"بوركت ونفع الله بك الأمة"

عبارات أطلقها المصلون لي فور انتهائنا من الصلاة.....

الكلمة الطيبة لها أثر على النفس....لا تبخلوا بها ولا تبالغوا منها....فخير الأمور اوسطها..

شعرتُ بنشوةٍ داخلية دفعتني الى الأمام ولكني حيّيتهم بتواضع شاكراً ثناءهم ثم توجهتُ حيث اتفقنا انا والأستاذ....

وصلت المكان قبله ...التفتّ خلفي بعد سماعي خطوات تتبعها أنفاس لاهثة تقترب نحوي بحماس:

" ما شاء الله...ما هذا يا ولدي؟!...أخلاق , تدّين , وفوقها ذكاء!!؟؟...حماك الله ورعاك"



كانت اطراءات من الأستاذ هتف بها ...شكرته بخجل متواضعاً وسألت:

" هل اجابتي صحيحة؟"



ضحك بفخر وقال:

" صحيحة؟! ....بل صحيحة ومميزة ومنطقية حتى قال لي صديقي ماذا تنتظر؟! اجعله مدرّس للرياضيات في المخيم ولو كان صغيراً في السن...إجابته توحي لعقل جامعي وأكبر فهذا سؤال معقد !!"



قفزتُ فرحاً وكأنني نلت شهادة التخرج من الجامعة ...عانقت الأستاذ ممتناً له واتفقنا على موعد اللقاء المقبل لأبدأ عملي الجديد.....التزمتُ مؤقتاً بالإمامة ريثما يشفى شيخنا ولكني جعلت ذلك خالصاً لوجه الله عن روح أبي ولم أقبل قرشاً واحداً.....

بدأت أعطي الدروس للطلاب دون الإعدادي بالرياضيات.... أضفنا لاحقاً حصص جانبية باللغة الإنجليزية لمعرفتي الجيدة بها.... صرتُ أربح من عملي هذا قروش لا بأس بها بفضل الله عن طريق جمعيات أدخلتني اولاً لاختبارين شاملين لهذين الموضوعين.....أول معاش رمزي قبضته ,اشترينا به أحذية ولباس لكل منا من السوق الشعبي....

أرشدني الأستاذ حفظه الله لكيفية الحصول على كتب للمرحلة الثانوية لأدرس بنفسي باجتهاد ذاتي للتقدم للامتحانات.....كان بين الحين والآخر يأتي مدرسون متطوعون عن طريق الجمعية ليقيّمونا كطلاب ,يساعدونا بما صعب علينا ويدخلوننا الامتحانات بشكل رسمي....حاولت التوفيق بين عملي ودراستي قدر المستطاع....الحقنا شقيقتي وصديقتها لمجموعة من أبناء جيلهما , تقوم بتدريسهم معلمة نازحة معنا....

أسابيع أخرى عشناها في مخيمنا ولا جديد....

في بادئ الأمر منذ مجيئنا هنا كنتُ أقضي ليلتي على فراشي...أقارن حياتي السابقة بالحاضرة....أتحسّر عليها....أشتاق لها....لم أشعر بِنِعَم الله علينا الّا من بعد افتقادي تلك الحياة....

ألم يكن يكفي استيقاظي من فراشي الدافئ بعدما ردّ الله اليّ روحي نعمة كبيرة يجب ان احمد الله عليها؟؟ ألم يكن وجودي بين أهلي وأصدقائي جميعنا بخير... نعمة تستحق الثناء؟؟؟ ألم يكن امتلاكنا ما لذّ وطاب من الطعام وحصولنا على أغلى اللباس فضلٌ عظيم وكرم من الله يجب ان نسجد شاكرين له؟؟

{{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لَا تُحْصُوهَآ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}}

الحمد لله دائماً وأبداً...

ها أنا من جديد أنعَم بعطايا الله.....فرزقنا السلامة انا وعائلتي...رزقنا الصحبة الصالحة... رزقنا عملاً نعتاش منه والكثير....لا نهاية لعطاء الكريم....

×

×

×

الجو شديد الحرارة.... أتصببُ عرقاً ....يبدو ان حزيران هذه السنة من بدايته يخبرنا بلهيبه القادم ..يحمل الأجواء الصحراوية الجافة....عدتُ الى خيمتي بعد ان كنت أراجع دروسي بعيدا عنها في الوادي القريب هروباً من بكاء (شادي) وقفزات (دنيا) البهلوانية....كنت أحيانا أطلب منهم الخروج ليتسنّى لي الدراسة...يجب ان يتحملوني فالامتحانات على الأبواب في نهاية هذا الشهر ويستحيل عليّ التركيز مع أي حركة أو صوت....لكن مع هذه الدرجات الحارقة لا يمكنني طردهم وكان عليّ إيجاد مكان أدبر أموري به....

دخلتُ الخيمة وكان الوقت بعد العصر...والشمس ترسم ظلاً خارجها لتجتمع أمي وخالتي و(ام سلمى) وجارتنا في المخيم الخالة (فاطمة) لاحتساء القهوة كعادتهن....

كنت اتسطح على فراشي الأرضي لأجدد طاقة قبل عودتي للدراسة.....وصدى صوتهن يرن في الداخل...فأخبرتهن جارتنا باقتراب موعد ما...

لم ألقِ له بالاً.....

~~~~~~~~~~~~~~~~

حجز في فندق لأسبوع كامل في المدينة الساحلية بعد أن تبقى له أكبر مخيمان يتواجدان بها......قرر البدء بإحداهما وهو الواقع بين البحروالجبل....

" آه يا إلهي ..أخيراً وصلت"

تنهد السيد(ماجد) هامساً بخفوت.....

ترجل من مركبته فانغرس حذاءه بالوحل الذي يفيح منه رائحة كريهة....دنا أكثر من المخيم المكتظ....جالَ سابقاً بين المخيمات ورأى ما رأى....لكن هذا كان أسوأها وضعاً على الاطلاق....حالته مزرية بشكل لا يحتمل...فهو بلا حدود...ارضه غير مستوية....في الشتاء مياه الامطار التي تنحدر من الجبال باتجاه البحر... تمرّ منه تغرقه....تجرف معها الأخضر واليابس بما فيها خيمهم ويبقى تأثيرها للصيف......هذه المدينة الى الان لم تنشئ خطوطاً للمجاري خاصة بالمخيم.....فمن يقطنه معظمهم هاجر بالتهريب من غير تصاريح واستقروا به بعد وصولهم تلك البلاد....كانت المدينة تحتاج لميزانية مرتفعة جدا للعمل به ...وبما انه ليس بمنطقة حيوية بسبب تضاريسه الصعبة تجاهلوه لصب مالهم للمناطق ذات الأولوية......

أين أنتم يا عرب ؟؟ أين انتم يا مسلمين ؟؟ أين أصحاب المال والنفوذ؟!

تعالوا انظروا كيف يعيش أبناء أمّتكم....

تهدرون المال على التفاهات والحفلات الماجنة وهنا أرواح تفتقر لأدنى أنواع المعيشة!!

أناس رحلوا من بيوتهم الآمنة , النظيفة , مجبرون ....أناس تحولت مساكنهم الى ردم...هربوا من سيئ لأسوأ !! تفرّقوا عن احبابهم....فقدوا لذة لمة العائلة في رمضان والأعياد والمناسبات....نزحوا الى الشتات لعلّهم يجدون حياة خالية من صوت الرصاص.....جاؤوا يلتمسون الأمان...

ليتهم مكثوا فوق مخلّفات بيوتهم النظيفة ولم تلامس أجسادهم البريئة الطاهرة تلك القاذورات التي تحمل اوبئة لا علاج لها....

بعد ان سبح السيد (ماجد) في هذه المشاهد التي تحمل الفقر , البؤس والذل ....عاد بهمومٍ أكبر دون أن يجد طرف خيط يوصله الينا.....

~~~~~~~~~~~~~~~~

يرتدي نظارته الطبية.....يجلس بأريحية في مكتبه على كرسيه الهزاز المصنوع من خشب البلوط الذي يحتل الزاوية القريبة من النافذة الزجاجية المطلة على حديقة القصر, وخيوط شمس بعد العصر تتسلل منها لتضيء صفحات الجريدة التي يقلّبها بين يديه....يتنقل من خبر لآخر ....بين الأخبار السياسية وأوضاع بلاده الأم وبين الأخبار الاقتصادية والبورصا....رفع رأسه ملتفتاً نحو الباب حيث طرقات متطفلة تزعج خلوته.....

" ادخل.."



دلفت السيدة (فاتن) قائلة:

" عمت مساءً.....جئت لأذكرك بموعد زيارتي"

تنحنحت وأضافت:

"أرجو تجهيز المركبات وإعطائي بطاقة المصرف الخاصة بشقيقتي رحمها الله "



رفع يده يمسك طرف النظارة بسبابته وابهامه ....يخفضها قليلا ...يحدّج بها بنظرات تشوبها السخرية...ثم أعاد نظره للصحيفة قائلا بهدوء ساخر:

" أما زلتِ تريدين الاستمرار؟"



" بالطبع...لا يوقفني الا موتي"



" لا أعلم ماذا تجنينَ من ذلك غير العودة بأحذية ملوثة"



كتفت ذراعيها على صدرها ...تنتصب بوقفتها هاتفه بتهكّم:

" لا أعتقد أنك ستفهم هذا يوماً....يكفيني السير على درب كريمة التي عاشت عليه أجمل ثلاث سنوات من عمرها"

اقتربت أكثر نحوه ...تحرر يديها ...تومئ بإحداها ..مردفه باستنكار:

" أتستكثر عليها هذا بعد وفاتها ؟؟"



اغلق جريدته ...خلع نظارته يمسكها بقبضته ملوحا بها بلا مبالاة هاتفاً:

" لو كانت بيننا لوضعت ثروتي تحت قدميها...لكن هذا طريق لا يسمن ولا يغني من جوع"



" أنت تعلم أن الكلام بهذا الموضوع يصل دائما لطريق مسدود دون الإتيان بأي نتيجة....فلتبقَ على معتقداتك ونحن على معتقداتنا"



رسم بسمة جانبية على زاوية فمه ونهض يتجه لخزانة مكتبه ليخرج من الخزنة بطاقة الاعتماد الخاصة بالمرحومة زوجته.....لم ييأس ابدا من محاولة تنحيتها عن مشروعها الذي أكملت به بعد اختها والى الان لم ينجح بردعها.....مد يده نحوها يناولها إياها قائلاً:

"خذي ...عسى أن تعقلي يوما ما وتتركي هذه التفاهات"



أعادت له الابتسامة بتصنع....ابتلعت ريقها ثم جازفت هامسة بتردد :

" أتسمح لألمى بمرافقتي ؟؟"



تبدلت ملامح وجهه كمن صعق بالكهرباء ...طرق بكفيّ يديه على طاولة مكتبه....زفر أنفاسه المصعوقة ...زمجر قائلا:

" هل جننتِ؟؟!!"

انسحب من خلف المكتب يسحب غليونه معه ...اتجه الى الاريكة الطويلة ...جلس يرفع كتفيه بِخيلاء ..يضع ساقا فوق الاخر...أشعل ما بيده وقال بتعجرف :

"أتريدين من ابنة عاصي رضا أن تسير على القاذورات لتمرض ؟؟...هل تظنين أن أسمح لعينيها الجميلتان أن ترى المناظر المقرفة ؟؟ او لأنفها الصغير أن يشتم الروائح النتنة؟!...بالطبع مستحيـــل "

نهض من مكانه يقترب منها منفعلاً....يرفع سبابته أمام وجهها هاتفاً بحزم :

"انا لا شأن لي بكِ...أما ابنتي ايّاك ثم ايّاك غسل دماغها بمعتقداتكم اللعينة "



أدارا وجهيهما بنفس اللحظة الى الباب الذي فُتح على مصراعيه بعد ان دفعته حانقة بسبب تراكم الغصات في صدرها و تبكي بعد سماعها رفض أبيها لذهابها معها..وصرخت قائلة:

" أنتَ لا تحبني...لمَ لا تسمح لي؟...يكفي انك دائما مشغول ....لا تصطحبني الى أي مكان!! ذكرى وفاة أمي لم تهتم بها ....حفلتي المدرسية لم تحضر لها....دائماً تسجنني في البيت "

اختنقت بحلقها أخر كلمتين وانهارت بركبتيها على الأرض تغطي عينيها بيديها وتبكي بصوت مرتفع.....انفطر قلبه لمنظرها...اقترب منها يجلس القرفصاء ...يمد يديه ليزيح كفيها عن وجهها هامسا بحنان:

" لأني احبك يا اميرتي لا اريد لك الذهاب الى تلك الأماكن "

زمَّل رأسها بصدره ..يرمق الواقفة بغيظ ...يتهمها بأنها السبب بهذا وهو لا يدري أن الصغيرة بدأت تكبر وتحاول فرض رأيها بشيء من التمرد وكيف بشيء يخص والدتها؟؟!!



" ارجوك ابي...ان كنت تحبني فعلا, اسمح لي بالذهاب لمكان كانت امي تحبه "



حاول اقناعها وردعها وحتى اغرائها بأماكن أخرى تحبها لكنها صممت على طلبها...فاستسلم بالنهاية مجبراً , خائفاً من عدم تنفيذ وعوده الأخرى ....تنهد بعمق....وقال آمراً:

"حسناً...لكن بمرافقة الحرّاس فقط"



انفرجت أساريرها وقفزت الى حضنه ..تحاوط عنقه وتقبّله من خديه بلهفة جنونية بريئة , ثم هتفت مبتهجة :

" أنت أحسن أب...أحبك...أحبك "

~~~~~~~~~~~~~~~~~~

" اوف...ما هذا الضجيج؟؟"

تقلبتُ في فراشي ...أحاول دفن رأسي تحت المخدة ...لأطرد الأصوات المزعجة التي تخترق اذنيّ...ألا يكفي حر الطقس الذي ينغص عليّ نومتي!!.....تململت كثيرا دون جدوى....تأففت ورفعت جسدي جالساً على الأرض ملقياً المخدة باستياء!!....نهضت من مكاني بشعري الأشعث من اثر النوم وملابسي الفوضوية ...ازحت باب الخيمة القماشي لأطلّ برأسي للخارج افتح عين واغمض الأخرى من اشعة شمس الصباح...ابحث عن مصدر الازعاج.....وقع نظري على أمي التي تفترش الأرض ..تحيكُ شيئا ما....همست لها متثائباً بنعاس:

" صباح الخير... "



استدارت برأسها للخلف صوبي مبتسمة ...ترد بحماس :

" صباح النور حبيبي "



" ما هذه الجلبة يا أماه؟؟ أجاء العيد ؟؟"



اطلقت ضحكات حنونة وأشارت لي لأجلس بجانبها لتشرح سبب البلبلة وحملة التنظيفات المفاجئة......

كانت تضع (شادي) في سلة خاصة له...حصلنا عليها من أحد المتبرعين ...بدأ يشدو ببكائه ...فقالت:

" احمله ريثما انتهي "



قلت متسائلاً:

" اين خالتي ودنيا ؟"



اجابت وهي تمسح بكُمّها عرق جبينها من حرارة الجو :

" ذهبتا الى خيمة ام سلمى "



" هيا أيها الرجل الصغير لندخل نلعب معاً"

همست مداعباً اخي وانا احمله بين يدي ارفعه للأعلى وأهزّه ....



" يــع, ماذا فعلت ؟"

قلت مشمئزاً بعد أن استفرغ بقايا حليبه على جبيني ...من الجيد انه لم يلقها بفمي!!



ضحكت امي وقالت :

" لم هززته ؟..قبل قليل تناول زجاجة الحليب "



اجبتها بلا مبالاة وانا اعيده لها لأمسح جبيني :

" لم اظن انه مثل المشروب الغازي, سيفور بعد خضه !!"



وليتها ظهري لأعود للداخل فهتفت:

" اين تذهب؟... وشادي؟"



رفعتُ يدي رافضا هاتفاً:

" اريد ان ادرس ..سأستغل غياب المشاغبة "

×
×
×

في اليوم التالي...المخيم يرتدي أبهى حلة....نظيف...مرتب ...ومزيّن ببالونات من كافة الاحجام والألوان.....يعطي أجواء العيد ....حركة كبيرة...ضحكات أطفال...ثرثرات نسائية .....كنتُ في خيمتي فهي اليوم فارغة لانشغال عائلتي بمناسبتهم هذه....وكعادتي بالأيام الأخيرة , الدراسة تأخذ اكبر حيّز من وقتي ... ولا اكترث لشيء آخر.....لأنه معي أسبوع فقط لتهلّ علينا الاختبارات الصيفية...

وسط المخيم بالقرب من المصلّى يتجمع معظم سكانه....ينتظرون ببهجة وسرور ....من يراهم يعتقد أن تأشيرات العودة للوطن جاءت...ومن بين المحتفلين ..أمي , خالتي , الخالة (ام سلمى) وكذلك جارتنا (فاطمة)....

" هل ستعجبها حياكتي وتصميماتي للإكسسوارات ؟؟"

سألت أمي بارتباك....



" بالتأكيد...لا تقلقي إنها جميلة حقاً ..سلمت يداك"

أجابت( فاطمة)....وتبعتها خالتي(مريم) تقول :

"نأمل ان يعجبها ما صنعنا انا وام سلمى من معجنات "



" بالطبع ستعجبها ..إنها متواضعة وطيبة ...انتظرن وشاهدن بأنفسكن "

أردفت( فاطمه) تحاول طمأنتهن.....فهتفت (ام سلمى) بسخرية :

" اوه تنتسب لعائلة راقية وتكون متواضعة !!...لا اصدق"



هزت رأسها ضاحكة من سخريتها وقالت مؤكدة :

" بل صدقي..."

~~~~~~~~~~~~~

تقف أمام مرآتها ....تعدّل حجابها الوردي الذي يعكس بشاشة وجهها ببشرته السمراء بعد أن تأنقت مرتدية قميصاً أبيضاً كبياض قلبها مع تنورة طويله تماثل حجابها...حملت حقيبتها الصغيرة البيضاء ....وقبل أن تمد يدها لمقبض الباب ...فاجأتها (ألمى) تدفعه بحماس هاتفة :

" صباح الخير خالتي ...أنا مستعدة"



" أهلاً بالأميرة الجميلة...صباح الفل والياسمين"

ردت عليها ثم انحنت تقبل وجنتها ...وأضافت :

" اخبريني ما هو شعورك حبيبتي ؟!"



" أتسألين عن شعوري؟! أنا متحمسة جداً..."

قالت تطبق كفيها على بعضهما امام صدرها , تغمض عينيها باسترخاء وأكملت حالمة:

"لا أصدق أني سأذهب أخيراً الى أكثر مكان كانت تحبه أمي"

مدت يدها تزيح خصلات عن وجه صغيرتها متبسمّة بحنان ثم نزلتا سوياً للإفطار وبعدها للتوجه الى المركبات....

~~~~~~~~~~~~~

يبدو أن هناك شخصاً أخراً لا يريد تفويت احتفالهم هذا باليوم السعيد كما يزعمون...انه (شادي)...هل هذا وقته ؟!..لا اعلم لم استيقظ ...أيظن انني متفرغاً له ؟؟

" أرجوك يا عزيزي نَم .....لن يعتب احداً عليك "

حملته أربّت على ظهره بلطف علّه ينام...لكنه مصممًا على الاحتفال....

" لم تمضي نصف ساعة على طعامك ...غير معقول انك تريد المزيد!! "

زاد ببكائه....تمشيتُ به بأرجاء الخيمة ...اعتقد أنه يتألم من تراكم الغازات في بطنه !!....يا صبر ....متى سينتهي هذا اليوم؟!..لأرى ماذا سنجني منه ؟!

عدتُ الى فراشي...تربعتُ صانعا سريراً مجوّفاً بساقاي ...وضعت المخدة في حضني ومن ثم الصغير فوقها على بطنه وبدأت اهز رجليّ لربما يرتاح قليلاً.....

من حسن حظي , انه أكرمني بسكوته لأبحر في دروسي...فمراقبتي لوالدتي بطرق اسكاته أتتني بنتيجة.......بعد لحظات همست متنهدا :

" آه الحمد لله لقد نام اخيراً"

لو لم يفعلها لأرسلته لأمي لتهتم به...دراستي أولى من احتفالهم!!

دقّت الساعة تعلن انها الحادية عشر ظهراً....وصل صرير عجلات المركبات الفخمة الى مخيمنا السعيد.....لا بد انها شرّفتنا سيدة هذا اليوم ..

لم يغلبني فضولي وعدت بتركيزي مجدداً اعارك صفحات كتابي......

كان موكباً كبيراً من المركبات السوداء اصطفت خلف بعضها تباعاً في أطراف المخيم.....تجمّد سكانه في مكانهم بعد رؤيتهم رجالاً يترجلون منها بخفة رغم ضخامة أبدانهم ...يرتدون بدلات سوداء ونظارات شمسية....يقفون بثقة مرفوعين الهامة وبانتظام بكامل الأناقة...أسلحتهم في ظهورهم على أُهبة الاستعداد....التفتت خالتي (مريم) مذهولة للجارة (فاطمة) متسائلة :

" ما الأمر؟..أشعر انني في فيلم للعصابات ...أهذا هو التواضع الذي أمْطَرتنا به ؟!"



أجابت مترددة دون أن تزيح نظرها عن المشهد أمامها :

" انتظري!!....معقول أن...لا لا مستحيل!"



تعجبت امي من ردها فقالت:

" ما هو المعقول والمستحيل ؟؟"



همست بخفوت مجيبة:

"أظن أن شخصاً مهماً بصحبتهم!!...لأن السيدة تأتي منذ سنوات من دون حرس"



هتفت ( ام سلمى ) بتعجب :

" مثل من ؟!....لا تقولي لي رئيس الدولة "



" السيدة الصغيرة مثلاً!!"

أجابت على الفور...ثم أكملت نافية :

"لكني على يقين أن السيد الوزير لن يسمح بذلك....فهي لم تأتي بتاتاً في السابق حتى مع والدتها!!"



نزلت السيدة(فاتن)...وتبعتها سيدة خمسينية تبدو أنها احدى العاملات وذات شأن عندهم.....

حاولت (أم سلمى) كبت ضحكتها بكف يدها وهمست بسخرية:

" هل هذه السيدة الصغيرة؟"



ردت فاطمة وحدقتيها ما زالتا تراقبان أبطال الفيلم أمامهن:

" لا...هذه المربية خاصتهم...تدعى السيدة سهيلة...كانت تأتي سابقا مع السيدة كريمة رحمها الله"



لحظات وتدّلت قدمان صغيرتان تنتعلان حذاءً احمراً لامعاً....نزلت بحذر حتى لامست الأرض من تحتها...ترتدي فستاناً من الأحمر القاني بأكتاف عريضة ...يتوسطه حزاماً جلدياً اسودا ً.....تنورته كلوش تصل الى تحت ركبتيها بقليل وتزينها دوائر صغيرة سوداء....تضع مشبكاً بنفس اللون فوق أذنها اليمنى لتبعد عن وجهها جزء من شعرها المنسدل....سارت بحذر تلتفت يمنة ويسرة....ترمق من حولها بنظرات اندهاش....

تلك من أضجّت مخيمنا ومن فيه بحرّاسها وكأنها سمو الملكة.....ربما جاءت من كوكب اخر ولا علم لنا!!؟؟

جلست السيدة (فاتن) في المكان المُعد لها في وسط الساحة....حيث يفرشون الأرض بقطعة من الحصير وفوقها طاولة تغطى بشرشف من الساتان باللون السكري وفوقه مزهرية زجاجيه شفافة بها باقة ملوّنه من زهر التوليب...والبالونات موزعة في كل زاوية....كانت على جانبيها المربية وسمو الملكة الصغيرة....بدأ الناس بالتهافت بحرارة وحماس ..ليس فقط من اجل مناسبتهم المنتظرة...انما اليوم له رونق خاص...فابنة سيدتهم الكريمة (كريمة) تكرّمت عليهم بزيارة ليس لها سابقة....دفعهم الفضول ليتجمعوا في هذه البقعة بعد ان انتشر الخبر كالنار بالهشيم ...فمن كان له دور ومن لم يكن ...ترك كل شيء وجاء ليرى ابنة وزير بلادهم السابق الذي عُرف عنه بحرصه الدائم لإخفائها عن عامة الناس ... !!....كان هذا يرحب بالصغيرة وهذا يصافح الكبيرة.....بدأوا بعدها بعرض وتقديم ما صنعوا من منتوجات ...فعلى مدار سنوات أسست السيدة (كريمة) من مالها الخاص جمعية أطلقت عليها اسم (جبر الخواطر) هدفها مساعدة المحتاجين...ولم تجد أولى بالاهتمام, من أبناء وطنها النازحين...كانت دائما تخصص السادس من حزيران وهو يوم ميلادها ...لزيارة المخيم الأقرب لمسكنها...تقضي يوماً كاملاً به...تشجعهم على صنع أغراض مما تجود به سواعدهم لتسوّقه لهم ليربحوا بعض القروش ....بالإضافة لذلك تقوم بجلب هدايا للأطفال وتفقد من يحتاج لعلاج او دواء لتتكفل به عن طريق جمعيتها...ومن بعد وفاتها خطت على خطاها شقيقتها ليكون مشروعها هذا صدقة جارية عن روحها....

" ما شاء الله على هذا الجمال .."

همست بصوت منبهر جارتنا الخالة ( فاطمة) وأضافت توجه كلامها للسيدة (فاتن) :

" نسخة مصغرة عن السيدة كريمة رحمها الله"



اومأت لها شاكرة لطفها ...تقدمت بعدها أمي صاحبة اليد الذهبية بالحياكة وشك الخرز لتريها ابداعاتها .... ولحقتها خالتي و(ام سلمى) البارعتان بصنع المعجنات والمأكولات....

بينما ضيفة الشرف السيدة (فاتن) منشغلة بالعروض امامها , كانت أمي تراقب ابنة شقيقتها , تحدّق بها , لا ادري ان كان شعور الأمومة او عطفاً على اليتيمة , فهكذا هي نبض الحياة ,دائما تفيض بالمشاعر الجياشة من حنانها ....ولربما كان سبباً اخراً!!

انتبهت الى نظرات الجالسة ,المعلّقة بتلك الزاوية على يمينها حيث تلهو( دنيا و سلمى)...كانت نظرات بين الضجر والملل فمسائل الكبار لا تهمها!!..وبين الحسرة والألم لحرمانها من اللعب كيف تشاء ومع من تشاء ؟!

تقدمت ..تنحني قليلا بظهرها ليصلها صوتها بين ضجيج الناس وطلبت بلطف :

" هل تسمحين للسيدة الصغيرة بمرافقتي للعب مع ابنتي ؟!"



التفتت السيدة (فاتن) الى يمينها تستشف الإجابة من نظرات (ألمى) فقرأت بها الرجاء بالموافقة....أعادت عينيها مرة أخرى لأمي وقالت برقة :

" نعم لا يوجد مشكلة...لكن أرجو ان لا تبتعد كثيراً"



أخذت امي بيدها تتوجه حيث تتواجد الصغيرتان...لحقها على الفور احد الحراس الذي زجرته السيدة (فاتن) تمنعه عن ذلك فهي لا ترى ان هناك حاجة وهي في مكان آمن بين قلوب طيبة لا تحمل أي ضغينة....قدّمتها لهما بعد ان وصلت ....اوصتهما عليها وتركتهن ليلعبن بحريّة ...

" هيا لنغير اللعبة إذاً بعد ان اصبحنا ثلاثة "

هتفت (سلمى) بحماس...



شرعنَ باللعب وكأنهن صديقات منذ زمن....لكن ما لفت انتباه (دنيا)هو اهتمام ضيفتهما ( ألمى) بنظافتها....فكانت بين الفينة والأخرى...تقف تنفض فستانها ليزول عنه ما علق به من غبار...ثم تنحني تمسح حذائها بيدها بعد ان أطفأ تراب المخيم لمعانه....فقالت لها:

" هل هنالك شيء يضايقك؟؟"



ردت بملامح عابسة :

" ملابسي تتسخ...سيغضب أبي مني!!"



" لمَ؟!..ألا تملكين غيرها ؟!"

سألت (سلمى)ببراءة...



" بلى ..لكنه يخشى عليّ من كل شيء"

صمتت قليلاً وأردفت :

" هل يمكننا اللعب في غرفة احداكما ؟!"



حدّجتا الصغيرتان ببعضهما باندهاش من سؤالها لتقطع هذه النظرات (دنيا) هاتفة باستنكار :

" أي غرفة؟؟...أتظنين أنك بأحد أحياء الأغنياء ؟!.."

فردت يداها على اتساعهما تحرك رأسها في كل الاتجاهات وأكملت :

" هنا المخيمات...انظري جيداً الى بيوتنا....عائلة كاملة تعيش في خيمة!!"



رفعت (ألمى) رأسها تطوف في بصرها حيث اشارت لها ثم أخفضته تنظر لقدميها بخجل...استدارت وخطت خطواتها لتعود الى خالتها ظناً انهما غضبتا منها ولا تريدان الاستمرار باللعب معها بعد سؤالها...

" ألمــى ..توقفي..أين تذهبين ؟"

صاحت (دنيا) ولحقتها ( سلمى):

" الا تريدين اللعب معنا ؟!"



انفرجت تقاسيم وجهها وركضت نحوهما هاتفة :

" بلى بلى ..ظننت أنكما انزعجتما من سؤالي "



قالت (دنيا) بعقلها الذي متى تريد تجعله ناضجًا ..تتحكم به حسب مواقفها وما يخدم مصالحها:

" لا ذنب لكِ..لا تهتمي....هيا تعالي معنا لتتعرفي على مخيمنا ونريك اين نسكن "

أخذنَ يتجولن ثلاثتهن بين الخِيَم...يتبادلن الاحاديث البريئة ..فقالت (دنيا):

" في بيتنا في الوطن أملكُ غرفة جميلة , واسعة , مليئة بالالعاب...أنا اشتاق لها كثيراً"

صمتت برهةً تكبت دموع عينيها بعد شعورها بالحنين..تنهدت بعمق ثم استرسلت بكلامها ترسم ابتسامة صادقة...تضع يدها الصغيرة على كتفِ(سلمى):

" أما الان يكفيني وجودها بجانبي ...ربما سآخذها الى غرفتي في يومٍ ما "



" أنتما محظوظتان بصداقتكما... انا لا صديقة لي"



لمحت (دنيا) لمعة الحزن في عينيها فهمست لتطيب خاطرها:

" نحن الان صديقاتك "



كنتُ جالساً في خيمتي...بالي مشغول ...انه سؤال معقد جداً لم اصادف مثله!!...لكني انا ضد الانسحاب فإما انا او هو ....سأستغل هذا الهدوء وأفككه حتى احصل على اجابتي...

بينما انا في خضم هدوئي هذا.....وصلني صوتها :

" هااادي ...لقد جئنا "

لم اهتم لمناداتها ..انا اخوض معركتي الفكرية وأكره مقاطعتي ...هتفت مرةً أخرى:

" هاادي نحن هنا"

لم يتحرك بي شيئاً ..جلّ اهتمامي اصبّه بالمأزق الذي بين يديّ....احتقن وجهها ...هتفت بنبرة اكثر حدة وهي تسحب الكتاب مني بخفة:

" هاااادي"



" دنيااا...أعيدي لي الكتاب حالاً وإلّا قسمًا...."



رفعت رأسي حانقاً...صارخاً بها لأردعها بعد ان اضنت أعصابي ...بُتِرت آخر كلمة....

اختفى صوتي ...عيناي أطلقت صاروخاً مشتعلاً ليصطدم بالسماء وأيّ سماء ؟!

تسمّرت في مكاني ...صمتٌ رهيبٌ عمّ المكان....نظراتي مبهمة....لو أنني في الجنة لعلمت انها حورية !!.....لكني أعي انني ما زلت على الأرض....هل هذه دمية متحركة ؟!!

عينان واسعتان أسرتا السماء الزرقاء في يومٍ ربيعيٍّ لا تخدشه الغيوم....شعرٌ منسدلٌ أشبه بذيلِ حصانٍ اسودٍ أصيل...يتموج بلمعانه كليلةٍ طفت على سطح الماء....بشرة بيضاء نقية مثل الثلوج على قمم الجبال لم يدنسها بشر ولا حجر....تبارك الله احسن الخالقين....

كانت شقيقتي تلوح بيديها أمامي, دون جدوى لأني ما زلت أحلق في هذه السماء ....



" هادي ...هادي ....أين ذهبت؟ "



نفضتُ رأسي عائداً الى الأرض...تنحنحت وقلت :

" نعم دنيا انا هنا......مممم....من هذه الصغيرة ؟!"



ردت (سلمى):

" انها صديقتنا الجديدة ألمى "



" هل هي من مخيمنا ؟!"

سألت باستنكار وأنا انظر الى نظافة وأناقة ثيابها...



" لا انا أتيت مع خالتي فاتن "



يا الهي ما هذا الصوت وهذه الرقة؟!!...لم أسمع نغمات صوتية ناعمة لهذه الدرجة من قبل ...فشقيقتي تتحفنا دائما بصراخها المزعج وحتى عند قراءتها القرآن ما زالت لا تسيطر عليه لتفرض هيمنتها .....

تبسّمتُ مُرحِّباً بها وقلت :

" تفضلي الى الداخل لتلعبوا سوياً...سآخذ استراحة من مذاكرتي "



لم أرِد أن احرج اختي امام ضيفتها فقررت ترك الدراسة لأفتح المجال لهن للعب براحة وحرية.....

جلستُ متكئاً بمرفقي على وسادة بجانب الصغير النائم....اراقبهن بصمت...كانت تسألهن عن أشياء كثيرة أشعرتني انها من عالم آخر.....بعد مرور عدة دقائق , حملتُ كتابي مجدداً عسى الله ان يفتح عليّ ويلهمني الإجابة....كانت مولية ظهرها لي...ضاق صدري من تعقيده , تأففتُ فاستدارت تنظر بفضول....اقتربت ببطء ببراءتها...جلست جانبي ...تدسّ وجهها بكتابي...تحجب الرؤيا من امامي...تحملق بالصفحات....اخترقت أنفي رائحة شعرها الأناناسي....رفعتْ وجهها ...كادت تصطدم بوجهي ..عدتُ بظهري للوراء لأضع مسافة بيننا...كانت تسأل عن فحوى الكتاب بهمسات عذبة تصهر القلب برقتها...وأنا أسايرها ..اجيبها بصبر أتكبده... فتلك العينان بهما سحر خاص ...من ينظر لهما لا يستطيع النظر لشيء آخر وانا اريد ان اركّز!!...تنحنحت وقلت :

" هيا يا ألمى عودي الى اللعب...هذه مادة للمرحلة الثانوية....ستدرسينها لاحقاً"



حاولتُ إقصائها بلطف ... لكن المشاغبة (دنيا) قفزت نحوي تمسك يدي تشدّها لأنهض هاتفة :

" تعال العب معنا "

وتبعتها حليفتها (سلمى) تفعل بالمثل...

كانت تنظر مبتسمه لنا.....نهضت مجبراً وبدأت الاعبهن العاباً شعبية مختلفة....وبالطبع كله جديد بالنسبة لها لا تفقه منه شيئاً لكنها انسجمت وتعالت ضحكاتها التي تعكس بهجة روحها....لا انكر انني ايضاً شعرت بالسعادة لرؤيتي لهن في هذا الحال...

" هادي هيا لنتنافس في القران ولتحكم بيننا "

اقترحت (دنيا) هذا التحدّي...كنت دائما اعطيها بعض الآيات من *جزء عم* لتكمل... او انقص كلمه لاختبر حفظها....وانضمت لنا صديقتها في الآونة الأخيرة لتحفظ معها..!!...بدأنا بالتحدي..اما ضيفتنا اكتفت بالصمت...سألتها بهدوء :

" ألن تشاركينا؟!"



توهجت وجنتاها حرجاً...اخفضت عيناها تنظر لأناملها في حضنها وهمست بخجل :

" أنا لا أحفظ غير سورة الفاتحة "



يبدو أن أهلها لا يعلموها القران....مشغولون بالدنيا الفانية.....

" ممم ...ما رأيك لأعلمك أنا ما تيسر من قصار السور ؟! "



عزمتُ على تعليمها ولو آية لأكسب الأجر ...كان شيخي رحمه الله يحثنا على نشر القران ويذكرنا بـ *خيركم من تعلم القرآن وعلمه*.......تهللت اساريرها من اقتراحي وكأنها كانت بضيق وجاء الفرج لأنها كانت كالأطرش في الزفة لا تفهم ما يدور حولها...



" عَلِّمها سورة النصر لينصرنا الله ونعود للوطن"

هتفت (دنيا) تعطي قرارها....



كنا في حلقات القرآن نحفظ عن طريق التلقين في البداية في سنٍ صغير وبمساعدة ايماءات دلالية لكلمات الآية....كانت هذه احدى الأساليب الناجعة للأطفال....لذلك لقنتها السورة كما تعلمت .....انها ذكية لدرجة اتقانها لها بوقت قصير بالإضافة للإرادة التي تصنع المستحيل....اما في بيتهم لم تحفظ سوى الفاتحة وسببها لتوهبها لامها....حاولت خالتها جاهدة تلقينها ما تيسر من السور القصيرة لكن محاولاتها باءت بالفشل لأنها لم تجد المفتاح الذي يفتح قفل عقلها...

بعد أن أتمت قراءتها امامي لوحدها...نظرتُ الى احدى زوايا خيمتنا ..حيث نضع رف من الخشب على الأرض وجانبه صندوق نرتب كتبنا واغراضنا ..كان على الرف حجران ملونان ..احداهما كتب عليه اسمي والأخر اسم اختي...لقد لونتهما بنفسي فتلك من احدى هواياتي النقش والرسم على الحجارة .....فكرتُ لو كان معي متسعًا من الوقت لصنعت لها واحدا كجائزة تشجيعية لحفظها....لكن يبدو ان لا نصيب لها اليوم .....وقع نظري على مقلمتي ...تناولتها أخرجت قلماً رصاصيا جديداً ...وقلت :

" سأحفر اسمك عليه ليكون جائزتك لليوم ...."

صمتّ ثواني وأضفت بتردد :

" ما رأيك ان تأتي مجدداً في العطلة الصيفية لنكمل حفظ ؟؟..."

أشرت للحجرين أمامنا وأكملت :

"سأحضّر لكِ مثلهما المرة المقبلة باسمك.."



برقت عيناها فرحاً وهمست بامتنان :

" رائع ....كم هما جميلان!!....سأخبر خالتي لتقنع أبي"

مدت يدها تسحب القلم من يدي....نظرت اليه وقالت :

" أكتب مع إسمي ,أسمائكم .."



" لا يمكنني ...لا يتسع لذلك!!.....ممكن فقط أحرف أسمائنا "



اومأت برأسها هامسة بخفوت :

" حسناً ..أفضل من لا شيء "



بعد أن انهيت عملي بالنقش على القلم بدقائق...وصلنا صوت احد الأولاد من زملاء (دنيا وسلمى) ينادي عليهما بعد ان بعثته امي ...خرجتا له فقال :

" كنتُ ابحث عنكما لتعيدا السيدة الصغيرة للسيدة فاتن "



نادت (سلمى) على ضيفتنا ..فتبعتهما للخارج ..جثوت أمامها لأوازي طولها ...مددتُ يدي مبتسماً مصافحاً لها...فلمست شيئاً من الخشونة على ظهر يدها...رفعتُ احدى حاجباي متسائلاً وانا ما زلت متمسكًا بها :

" ما هذا ألمى ؟! "



" أرني ماذا يوجد ؟"

اقتربت (سلمى) هاتفة....وتبعتها (دنيا) بفضولها....



سحبت كفها من يدي...تشد على قبضة يدها ...تعيدها للوراء.... تغرز اظافرها بباطنها ...وتجمعت الغيوم في سماء عينيها لتسمح بقطرتين بالنزول.....رفعت يدها الأخرى الممسكة بالقلم , لتمسحها ...تنهدت وقالت بصوت مخنوق :

" إنـ .....إنه حادث قديم "



شتمتُ نفسي في سري نادما...ما كان عليّ التدخل بما لا يعنيني!!..منذ متى أصبحت فضوليا ؟!...ام اصابتني العدوى من شقيقتي؟؟!!....يبدو أنني قلّبتُ عليها المواجع....تعاطفتُ معها وكذلك الصغيرتان...حاولتُ تدارك الموقف قبل ان تفتحا تحقيقًا معها لمعرفة السبب , فأنا اكثر من يفهم عقولهما وخاصةً الفضولية (دنيا)...تبسمت هامساً بلطف :

" سررنا بمعرفتك يا ألمى ....هيا في امان الله اذهبي مع دنيا وسلمى الى خالتك....ولا تنسي العودة لنتابع حفظكِ.....نتمنى أن نراكِ مجدداً "



شقت ثغرها بسمة تليق ببراءتها لتضيف نوراً فوق نورها...لوّحت بيدها الرقيقة مودّعة...اولتني ظهرها تتوسط الصغيرتان لتذهب في سبيلها....

خطوات قليلة بحجم اقدامهن الصغيرة تلاها صوت انفجار بالونات الزينة من مجموعة أطفال يلهون بالقرب منا.....لتصاب (ألمى) بالذعر ....كانت كمن مسّها الشيطان.....تتخبط مكانها .....تغلق اذنيها بأناملها ....تحني رأسها لصدرها تارةً .....وترفعه تارةً... تلتفت يمنة ويسرة......تبحث عن مكان لتختبئ.....ثبتت بحدقتيها اللتانِ أصبحتا برؤيا ضبابية نحوي ...بدأت تجري من غير ادراك لتلتمس الآمان....فما كان مني إلّا أن أجثو أمامها...أتكئ بإحدى ركبتيّ على الأرض وناصب الأخرى...فاتحاً ذراعيّ لتخترق أحضاني ...حوطتها بهما وهي تدفن وجهها في صدري ..تتشبث بقميصي بقبضتيها من الخلف... رجفات متتالية تسيطر على جسدها النحيل...تعاقبت أنفاسها ....تستصرخ بشهقاتها الطمأنينة...عصرتها بين ضلوعي لأمدها بالسكينة وهمست بحنوٍ:

" لا تخافي ألمى...إنه مجرد بالون!!....لمَ كل هذا الذعر انا لا افهم ؟!"

مع سماعها كلماتي ازدادت تعلقاً وعلا صوت بكائها ...رفعتُ يمناي أمسد على شعرها الليليّ...قربت شفتاي لأذنها وبدأت أرتل بها ما تيسر من الآيات بصوت خفيض ...دقائق وهدأت أنفاسها تبعها فتور اعصابها ...

لحظات ونحن على هذه الوضعية ولم نبتعد إلّا....

~~~~~~~~~~~~~~~

شدّ انتباه السيد(ماجد) وجود مركبات بكامل الفخامة عند دخوله المخيم الثاني ...وقف يتأملها بفضول!!....بينما هو شاردٌ بها , مرّ من امامه أحد الباعة فطلب منه ان يرشده الى مسؤول المخيم ....

" مخيمكم نظيف ومرتب....ليس كالبقية "

وجّهَ كلماته للذي يسير بجانبه وهما في طريقهما لخيمة المسؤول....



اطلق البائع ضحكات خفيفة وقال :

" يكون في كامل نظافته في هذا اليوم بالتحديد من كل سنة "



" لمَ هذا اليوم بالذات؟ "

سأل بتعجب خصوصا بعد أن رأى اصطفاف تلك المركبات بشكل مشبوه....



" كانت زوجة الوزير السابق عاصي رضا تخصص هذا اليوم لزيارة المخيم لمساعدة اللاجئين ...وبعد وفاتها استمرت شقيقتها بذلك "

كاد يبتلع لسانه....وقع الاسم في اذنيه كصبّ الرصاص داخلهما....لم يفكر ولو واحد بالمئة انه سيسمع بهذا وهو يجول بين المخيمات خاصةً...ازدرد ريقه وتنحنح يعيد صفاء صوته وهتف :

" ماذا؟!....اذاً تلك المركبات الفخمة لهم !!"



أجاب البائع :

" نعم ...ولكن اليوم بالذات كان مميزًا !! "



رفع حاجبه متسائلا :

" مميزًا؟!...لماذا؟! "



" لأن السيدة الصغيرة ابنة عاصي رضا هذه المرة الأولى التي تزورنا بها "

هتف بافتخار وكأن البركات هلّت عليهم بزيارتها .....



ضاع السيد(ماجد) في أفكاره...لا يصدق !!..الهذه الدرجة الدنيا صغيرة وضاقت بهم ليجده في هذا القرب!!....هو يعلم انه يقطن هنا وتحديداً بهذه المدينة الساحلية....لكنه على يقين ان من سابع المستحيلات ان يذكر اسمه بهذه الأماكن البسيطة الذي يشعر بالخزيّ منها من غروره وأنانيته....

" تفضل أيها السيد..لقد وصلنا"

همس بها البائع مشيرا لخيمة المسؤول الرسمي عن ما يخص المخيم وساكنيه....

~~~~~~~~~~~~~~~~~

" ابتعد يا فتى !!....لا تلمسها....سأكسر يداك ان كررتها "



حررتها من بين يداي مبتعداً عنها بعد صرخات أحد حراسها ...استقمتُ في وقفتي...قطبتُ حاجباي وقلت بجفاء :

" ما شانك يا هذا ؟ "



اندفع نحوي بغلّ وأزاح بهمجيّة من كانت تقف في طريقه ...اوقعها لترتطم بقضيب حديديّ من أعمدة الخيمة...

الى هنا جنّ جنوني ....شقيقتي ,مدللتي, دنيانا ..يدفعها هذا الهمجيّ أمامي من غير رحمة !!!

فما كان مني الا ان استلّ الكرسي الخشبيّ عن يساري بحركة واحدة ضاربا به رأسه بقوة صارخاً :

" إياك أيها اللعين أن تلمس أحداً يخصني "



دوت الصرخات من حولنا...أناس تجمعوا في المكان بعد الجلبة التي احدثناها......(سلمى) تبكي مذعورة وتحاول مساعدة (دنيا) على النهوض...(ألمى) ترتجف تبحث عن مُنْجِد....

عدتُ لاهثاً لشقيقتي...صدري يهبط ويرتفع انفعالاً....حوطت وجنتيها بكفيّ...رفعت رأسها أتفقدها بلهفة وخوفأ عليها...همست لها بارتباك :

" هل انت بخير حبيبتي؟؟ "

أومأت براسها بـ نعم ....أكملتُ غير مطمئن وانا أتحسس بلين الخدش الذي أصاب جبينها :

" هل يؤلمك؟"

حركت رأسها تجيب بـ لا وعيناها محتقنة بالدموع...ادرتُ وجهي الى يميني للجالسة بجانبنا تشهق خوفاً...سحبتها لأضمها مع اختي في حضني وهمست لها :

" لا تخافي سلمى انها بخير..."



في هذه اللحظة كان بعض رجال المخيم مشغولون بمساعدة ذلك الحقير...أما ضيفتنا الصغيرة مسكت بيدها مربيتها التي لحقت بالحارس ...تسحبها...لتعودان ادراجهما ...لكنها بدأت تقاوم باكية تحاول العودة لنا صارخة:

" اريد ان أطمئن على صديقتي دنيا..اتركيني .."



انتصبتُ بجسدي ...سرتُ خطوات قليلة نحوها وهي تبتعد رغماً عنها...توقفت مكاني بعد ان لمحت شيئاً يلمع , مُلقى على التراب....التقطته ومسحتُ ما علق به من غبار...هرولتُ بخطواتي هاتفاً:

" ألمــــــى...انتظري...ألمـــ ــى"



ولم أشعر الا بضربات تنهال على جسمي ..توقعني أرضاً وسط صرخات حاقدة :

" أيها القذر...كيف تتجرأ وتنادي سيدتك من غير احترام لا وبل تسمح لقذارتك ان تلمسها ؟؟!!"



ومن بين هذه الأصوات وصلني صوتها العذب تصرخ بهم من بعيد باكية...مكبّلة بيد مربيتها :

" اتركوه...اتركوه يا وحوش "



ثم نبض الحياة , أمي...تندفع...تحاول ابعادهم :

" اتركوا ابني يا أوغاد"



لا حياة لمن تنادي ..صُمَّت آذانهم ليستمتعوا بعملهم وينالوا رضى سيدهم......وفجأة توقفوا بعد آخر صوت نهرهم بحزم :

" توقفـــــــوا"

كانت هذه أوامر السيدة(فاتن) بعد أن أرسلتها المربية الى المكان لتفض الشجار المحتدم ....جمعت رجالها وانسحبت على الفور مُحرجة من افعالهم...لم

يكن الظرف يسمح لها بالاعتذار من والدتي هذه الساعة لأنها كانت كاللبؤة الهائجة على أشبالها لا يمكن الاقتراب منها ولا تُحاكى ....

~~~~~~~~~~~

" هل آذاك ذاك الفتى؟"

سألتها خالتها وهم يخرجون بمركباتهم من حدود المخيم....

كانت عابسة ...عاقدة حاجبيها بين الغضب والألم...تكتّف ذراعيها تنظر للأمام ...تخاصم من معها.....لم ترد بكلمة....فتابعت خالتها :

" اذاً آذاكِ.."



حررت يداها ...تستدير بجسدها ليسارها وعيناها دامعتان وأجابت بضيق:

" لا بل كان لطيفاً معي...أنا احببتهم...انهم أناس طيبون "

رفعت يدها التي بها القلم واردفت :

" حتى انظري...لقد علمني سورة النصر ولأني حفظتها أعطاني إياه وحفر اسمي عليه "

صمتت تبتلع ريقها...ضمت كفيّها الى حضنها تحتضن القلم...أسبلت جفنيها بقهر وهمست بصوت حزين :

" هل هذا جزاؤه ؟؟...لم بعث أبي هؤلاء الوحوش معنا ؟؟"

أسندت ظهرها لمقعد السيارة...شردت بالشارع من الزجاج الأمامي...تحبس دموعها واكملت هامسة تشعر بالغبطة :

" تمنيت ان أكون مثل دنيا وسلمى...لماذا لا أصدقاء لي ولا أخ يحبني ويخاف عليّ كما فعل هادي من اجل شقيقته؟؟"

التفتت نحو خالتها وتابعت بهمسها الحزين :

" لم تري خالتي كيف ضرب الحارس ووبخّه لأنه لمس اخته....لم تري لهفته وخوفه عليها !!.....هل كثير عليّ ليكون لي أحد يفعل هذا من اجلي ؟؟"



قاطعتها المربية تواسيها بحنية :

" والدك يفعل الكثير من اجلك ...."



لاذت بالصمت شاردة بعقلها ...هي لا تريد الأفعال التي ترتبط بالمال والهدايا...لا تريد ان يضع حارسا لحمايتها وهو اولى ان يكون بجانبها ويحميها بأبوته....اضافت السيدة ( سهيلة) تحاول تخفيف حنقها :

" أيضا كرم يعتبر اخوك...انتما الان لا تتفقان ..لكن غدا ستصبحان مقربان فعلا..."



صرخت رافضة مشمئزة :

" هو ليس أخي....لا احبه ولا يحبني.....انا اريد اخًا يحبني ويرعاني...اجده في أي وقت "



رفعت يمناها تحيط كتفيها.. تشدها لها بحنان ...متألمة من أجلها...هامسة :

" ليعوضك الله خير ويحبب خلقه فيكِ يا ابنة اختي الغالية "

~~~~~~~~~~~~~~

" أنا السبب !! لمَ اشفقتُ عليها ؟!..ما شأني بها "

كانت امي تجلس بجانبي تتكئ بمرفقها على ركبتها المنتصبة وتركن جبينها بكفها...تبكي...تؤنب نفسها ...بعد أن سحبتني الى فراشي بمساعدة خالتي والخالة ( ام سلمى) لأني كنت منهكاً من اثر الضرب بالكاد استطيع الحراك....



هتفت خالتي بصرامة :

" أيها السيد!! كيف تسمح لنفسك بالدخول هنا ومن انت ؟؟!!"



التفتنا جميعا للرجل الذي دخل خيمتنا من غير استئذان بوجهٍ مكفهر...يحدّق بي...يصكّ على اسنانه ....

" آه انا اسف ...عذراً منكم....لم أتحكم بردود فعلي بعد معرفتي بما أصاب ابن السيد محيي الدين "



" السيد محيي الدين؟؟!!"

سألت امي بتعجب بعد ان أوقفت بكائها, تتأمل الواقف بيننا فور سماعها اسم حبيبها.....اردفت خالتي بعدها:

" من انت ؟..ماذا تريد منا ؟ وما مدى معرفتك بالقائد محيي الدين "



زفر السيد أنفاسه ...رسم ابتسامة وأجاب بلطف رجولي :

" انا ماجد جئت من طرف صديقي سليم الأسمر"



استأذن منا للجلوس ليسرد حكايته....اقترب صوبي يتفحصني بنظراته وبدأ بقصّ ما حدث معه بداية من المرفأ حتى وصوله اليوم الينا......

بعد حديث طويل وطمأنته لنا عن اقربائنا في الوطن ...طلب منا تجهيز امتعتنا لننتقل الى الشقة في اليوم التالي....وانصرف في سبيله....

~~~~~~~~~~~~~~~~

" لن تصدق لعبة القدر "

اتصل بالسيد(سليم) فور خروجه من المخيم ليخبره عن عثوره علينا بسلام....



رد بفضول :

" اخبرني بالتفصيل ماذا حصل "

بعد ان أخبره بكل الاحداث ..نهايةً بمشكلتي....ثار غاضباً... متمنياً لوكان الوغد(عاصي رضا) بين يديه لينهي له حياته....وهتف باستهجان :

" الوغد .. الجبان...الى متى ظلمه سيستمر...هل ضاقت به الأرض ليصلهم حتى بالمخيمات النائية؟!"



" على العكس علاقته بالمخيم ستخدم خطتنا بشكل أفضل "



قالها السيد(ماجد) بثقة ليتبعه الاخر بصوته الجهوري:

" لا اعلم بما تفكر ...لكني اثق بدماغك "

ثم اكمل :

" متى سينتقلون الى شقتهم ؟؟"



تنحنح وأجاب بتردد :

" هنا المشكلة!!....في البداية رفضوا الانتقال الى أي مكان اخر بعد ان اعتادوا على سكان المخيم وكوّنوا صداقات وبصراحة انا استغليت الوضع ولم أصمم على ذلك وأيضاً هادي كان حانقاً وقال انه لن يخرج منه الّا لبيته في الوطن مدّعياً انهم ليسوا بقطط ليقضوا حياتهم بالتنقل هنا وهناك....حتى انه قال انه يريد العودة بأقرب وقت حتى لو اخذه جنود الدولة "



" يبدو انه يحمل أيضا عناد والده رحمه الله....وأنت لمَ لم تصمم؟!....حاول مرة أخرى .... لا بد ان تجد طريقة لإقناعهم "



تنحنح وقال:

"لن أحاول ولن أقنعهم"

ثم اكمل :

" اعتقد ان مكوثهم هناك هو خير "



رد على الفور باستنكار:

" ماذا تهذي ؟؟ كيف يكون خير لأناس اعتادوا على الرفاهية "



" الهدف الذي تسمو اليه , افضل تطبيق حيّ له هو عيش هادي هذه الحياة ليتعلم مواجهة الصعاب...هكذا سيُنْتَج لنا رجلا لو وضعته في صحراء بين الأسود لن يهابهم وسيخرج منتصراً....ثم ان وجودهم هناك بمثابة حماية لهم...لا احد سيفكر يوماً ان عائلة محيي الدين الشامي , تقطن بالمخيمات.....وكذلك علاقة شقيقة زوجة عاصي رضا بسكان المخيم ربما سيسهل علينا الكثير من الأشياء , خصوصاً اني سمعت تربطها علاقة جيده بنسائه"



ضحك السيد(سليم) مُعلّقاً:

" يا لك من ماكر..."

ثم أضاف بتوجس :

"ربما انك محق.....لكن أنت تعي ما هي حياة المخيمات لذا لا أرتاح لهذا "



" وأنت تعلم أيضاً انه لوقت مؤقت ولن يضرهم شيء...سيأتي ذلك اليوم بلمح البصر ان شاء الله ....فقط القليل من الصبر!!"



."أنا اثق بكَ واعتمد عليك بالاهتمام بهم ...وبتوجيه هادي الى الطريق التي رسمناها.."

~~~~~~~~~~~~~~~~~

" تفضل قهوتك "

دخلت تتغندر بفحيحها ...تحمل فنجانين من القهوة لتشرب مع زوجها....هذا الاهتمام المفاجئ جاء بعد عودة ضيوف المخيم الى قصر العنكبوت ...لقد رأت تجهم الوجوه وملابس الصغيرة مبعثرة , متسخة فشعرت بوجود خطب ما ...وبينما كانت السيدة(فاتن) والمربية تتناقشان بما جرى هناك , لم تمنع فضولها وقلة اصلها باستراق السمع وكانت كمن نالت جائزة من غير جهد ....لذلك نزلت الى مكتبه تبثُ سمومها.....



" شكرا..رغم اني لم اطلبها لكنها جاءت بوقتها "

رد عليها (عاصي)...

كان يحتاج لاستراحة بعد انكباب طويل بين ملفاته ....



" صحه وعافية....اردت احتساء القهوة ولا ارغب بشربها وحدي"



اسند ظهره الى كرسيه يتمطى قائلا:

" إذا سآخذ استراحة وأكمل لاحقاً "



حملت فنجانها تضع ساقا فوق الاخر وهمست بفحيحها :

" هل اخبرك السيد رائد السيد أنه سيبعث ابنه صلاح الى كندا لإكمال دراسته بمدرسة داخلية ؟؟"



حدّج بها بفضول وقال:

" نعم اخبرني...الى اين ستصلين؟"



عدّلت جلستها ..رشفت رشفة من فنجانها ثم قالت بهدوء:

" راقت لي الفكرة بعد تحدثي مع اسراء وفكرت ان ابعث كرم ليلتزم بدروسه فهناك تعليم صارم...ما قولك؟"



أجاب ساخراً:

" اعتقد انه قرار سليم ليصبح رجلا له فائدة "



هاجت غضبا في الداخل لكنها حاولت السيطرة على ملامحها وقالت :

" وألمى؟؟!"



جلس بتأهّب رافعاً احد حاجبيه سائلا بتعجب :

" ما بها ألمى وما شأنها بالموضوع ؟"



اردفت بفحيحها :

" لم لا تبعثها معهما ؟؟...هذه فرصة لها لتقوي شخصيتها وأيضا.."



صمتت بخبث.. فسال بفضول :

" وأيضا ماذا؟"



" أيضا لتبعدها عن أجواء البسطاء وتعلقها بهم...ارى وجودها هنا سيجعلها تتأثر من نمط خالتها وتسير على دربها في مخالطة عامة الشعب...."

تنهدت واكملت ترضي غروره :

" فهذه بالنهاية ابنة عاصي رضا رجل الاعمال المعروف والوزير السابق.."



هتف بصوت أجش :

" ماذا تقصدين من كل هذا ؟"



" لقد عادت غاضبة وملابسها متسخة...اظن انه حدث معها امرا ما "



" ماذاا؟؟"

صرخ ناهضاً..دافعاً كرسيه بعنف ...قاصداً غرفة السيدة (فاتن)....فتح الباب من غير استئذان والدخان يخرج من اذنيه ...عروقه على وشك الانفجار وقال بصوت جهوري :

" الان اخبريني ماذا جرى بالمخيم اللعين؟؟...ما بها ألمى؟؟"



اجابت السيدة(فاتن) بهدوء :

" على مهلك...لا داعي لتلك الجلبة والعصبية...رجالك هم المذنبون...كادوا ان يقتلوا فتى قام بحماية ابنتك "



رد(عاصي) بغضب :

" من هذا القذر الذي يحمي ابنتي ؟؟...انا ادفع ملايين للحراس لحمايتها وتقولي لي متشرد يحماها....يا لك من ساذجة...لا بد ان له نوايا أخرى .."



تجهّم وجهها واجابت بجدية :

" ماذا تهذي ؟...ابنتك جاءتها الحالة بعد انفجار بالونات فاندفعت نحوه تحتمي به...انت اكثر من يعلم بوجود تلك العقدة وعدم السيطرة على ردود افعالها "



رد بحنق مشمئزاً:

" انت سمحتِ لتلك القاذورات بلمس اميرتي ...لو كنتِ برفقتها لما احتاجت لتعانق الاوغاد...لكن الذنب ذنبي على موافقتي لذهابها من البداية.."

كان بالنسبة له ان كل فقير او مشرد من أبناء وطنه هو وباء او مرض يجب استئصاله....يعتبرهم عالة على الدولة والمجتمع ويقنع نفسه انهم السبب بتأخر الدولة وفقرها...

استقام بوقفته رافعا ذقنه بتعجرف وهتف بنبرة حادة :

" سأمسح هذا المخيم عن وجه الأرض وكل من سمح لنفسه بالاقتراب من ابنتي"



" ارجوك ابي لا تفعل لهم شيئاً ان كنت تحبني وتحب امي...ارجوك...اعدك لن اذهب هناك مرةً أخرى"

همست برجاء متوسلة والدها بعد ان كانت تقف خلف الباب تراقب نقاشهما ....



حاول كبح غضبه ..تنهد واستدار نحوها يجثو ليعانقها ولما وقع نظره عليها ..هالَهُ مظهرها فهمس لها بحنان :

" هيا عزيزتي...اذهبي للاستحمام والقي ملابسك هذه في القمامة...سأشتري لكِ غيرها"

ثم قبّلها من جبينها وعاد الى مكتبه....

×
×
×
بعد مرور يومان اتخذ قراره النهائي ليضع حداً لكل هذه الفوضى في حياة ابنته...أجرى اتصالاً مع صديق له يستفسر عن بعض الأشياء ...فور انتهائه قام باستدعاء السيدة(فاتن) الى مكتبه ليخبرها بقراراته....

~~~~~~~~~~~~

مع رفضنا لطلب السيد(ماجد) الا اننا شعرنا ببعض الطمأنينة لوجود شخص نعتمد عليه وخاصةً بما يتعلق بأخبار بلادنا وأقاربنا هناك...

خلال هذين اليومين اشتدّ عليّ الألم بذراعي ...اجبرني السيد(ماجد) بعد زيارته لنا في المرة التالية ورؤيته حالتي , للذهاب الى طبيب يكشف عني.....اعطاني دهون للكدمات في انحاء جسمي ...ودواءً مسكنًا للآلام ثم قام بوضع جبيرة لذراعي لاكتشافه كسر عند مفصل المرفق الذي احدث اعوجاجاً صغيرًا في عظمته ليرافقني مدى الحياة....

×
×
×

كنا نجلس داخل الخيمة بعد ثلاثة أيام من الحادثة...نحتسي كأس شاي ...فوجئنا بقدوم السيدة(فاتن) ووجهها يبدو عليه الإرهاق , ممتقعًا , شاحبًا ....جاءت تسأل عن احوالي وتعتذر لأمي وخالتي عن التصرف الهمجي للحراس....دنت مني لكني صددتها بعزة نفس وخرجت اتجول في ارجاء المخيم....كنتُ حانقاً ..لا اريد ان أرى هذه الوجوه التي آذتني ....

أُحرجتْ امي من تصرفي واعتذرت لها قائلة :

" ارجو ان تتفهميه... هو شاب عزيز النفس...تربى على الشجاعة وعدم الذل ...ضرب رجالكم له امام الناس أشعره بالإهانة وترك أثرًا في نفسه ولا يسامح بسهولة.."



شقت ثغرها ابتسامة رغم وجود الحزن في عينيها وهمست :

" هو محق في تصرفه....وسيفهم يوماً ما انني لست مثلهم "



أنهت جملتها شاردة ...تقاسيم وجهها بائسة...انتبهت خالتي للمعة الحزن في عينيها وقالت :

" أراك مهمومة سيدة فاتن...هل هنالك ما يزعجك؟؟..."

عدلت جلستها متنحنحة واردفت :

" بالطبع ان كنتِ تودين اخبارنا..."



لامست بهما الطيبة والوقار ..ارتاح قلبها لهما بعد شعورها بالطمأنينة بينهما...همست بحزن :

" ألمى...تشغل تفكيري .."



" ما بها ؟ هل حصل لها شيء؟"



سألت خالتي...فردت على الفور :

" والدها سيبعثها الى كندا لتستقر هناك حتى تنهي الجامعة.....انا اقلق عليها وسأشتاق لها....لم تفترق عني يوماً"



سألت امي بتعجب:

" كيف يستطيع ابعادها عنه كل هذه المدة ؟"



اجابت بصوت مخنوق :

" هو يفعل كل شيء لأجلها.....يريد ان تنخرط بالمجتمع الراقي فقط وتدرس بأكبر المدارس والجامعات"



ردت امي بازدراء:

" وهل المجتمع هنا لا يعجبه وليس من مقامه؟"



شعرت انها تفوهت بكلمات جارحة...فأجابت محرجة :

" عذرا منكم .. لم اقصد...لكن هذا تفكيره العقيم وليس بيدي أي شيء"



همست خالتي بلطف :

" لا تهتمي فنحن لا يؤثر فينا عقول كهذه "



وضعت يدها فوق يد خالتي مبتسمة بامتنان وقالت :

" شكرا لاستماعكم لي وآسفة على ازعاجكم"



" اطمئني سيدة فاتن ... لا بد انها ستاتي كثيرا لزيارتك....وبيتنا مفتوح لك متى شئتِ.."

هتفت امي مرحّبة بها ..ضحكت واكملت بمرح لترطب الأجواء :

" اقصد خيمتنا المتواضعة "



" خيمة بسيطة بين عائلتك وتنعمين بهداة البال , خير من قصر فارغ من أنفاس الأحباب"



مكثت السيدة(فاتن) نحو ساعتين في ضيافتنا ثم انصرفت الى بيتها...

×
×
×

عدتُ الى خيمتي بعد ان تأكدت من رحيلها ....صنعت لي امي كأسا اخرا من الشاي الذي تركته دون ان اكمله ...جلست جانبي تربّت على كف يدي ..تطلب مني التصرف بشكل لائق مع السيدة( فاتن) لأن لا ذنب لها وعلى العكس هي من اوقفتهم عن فعلتهم....

انضمت خالتي لنا بعد ان انهت بعض اعمالها....تبادلنا الاحاديث فجاءت جارتنا السيدة( فاطمة) لزيارتنا....انه يوم استقبال الزوار!!..لا اعلم من سيأتي بعدها!؟؟

لم ابرح مكاني مع انه ليس من عادتي البقاء في جلساتهن النسائية هذه....سألت السيدة(فاطمة)بفضول:

" لقد رأيت السيدة فاتن!!..هل أتت للاطمئنان على هادي؟"



" نعم...وكانت حزينة بسبب قرار السيد عاصي رضا "

ردت امي عليها ثم أكملت تقصّ لها الحكاية....



" آه مسكينة السيدة فاتن...فهي لم تترك ابنة شقيقتها منذ الحادث المشؤوم "

علّقت الجارة (فاطمه) بتعاطف....



لا ادري ماذا اصابني من ذكر ابنة شقيقتها....فنطقت متسائلاً:

" حادث مشؤوم!!..ايّ حادث؟"



اجابت:

" نعم منذ خمس سنوات عندما توفت السيدة كريمة والدة ألمى "



" حقاً اخبرينا كيف توفت وكيف كانت"

تساءلت خالتي بفضول...



شردت برهةً تتذكرها ...تنهدت وقالت :

" رحمها الله كانت مثال للإنسانية والكرم...تحب فعل الخير..ساعدتنا كثيرا "



احتقنت عينيها بالدموع ..فالإحسان لا ينسى حتى الممات....ثم اردفت:

" شتان ما بينها وبين زوجها!!...هي كل الخير والتواضع...وهو متكبر , اناني, قاسي"



" كيف إذاً كان يسمح لها بمساعدة المحتاجين وزيارة المخيم؟"



سألت خالتي...لتجيبها :

" كان يحبّها ويكره رؤيتها حزينة....حاول ابعادها بالحسنى لكنها اصرّت على ذلك.."

صمتت ثم تابعت :

" هكذا اخبرتنا السيدة فاتن"



" كيف ماتت؟؟ "

سالت بعد ان انتصر عليّ الفضول ...



اخفضت عينيها بألم تنظر ليديها ...لا تنسى ذلك اليوم عندما وصلهم الخبر وزلزل المخيم بمن فيه ,ثم اجابت بصوت حزين :

" في أحد الأيام كانت تطعم صغيرتها بمطبخ القصر ...نشب حريق مفاجئ سببه تماس كهربائي لم تنتبه له في البداية لان المطبخ واسع ...ولأنه مصمم كاملٌ من الاخشاب و حتى حيطانه ...اشتدت الهبة النيران تلتهم كل شيء وكأن احدهم سكب البنزين ...همت بالخروج تحمل صغيرتها ....فسقط لوحا خشبيا من السقف يحجب الطريق ويغلق فتحة الباب...بدأ الخدم يتهافتون يحاولون اخماد النيران من خارج الباب بما لديهم من أدوات ولكن دون جدوى ....بدأت تسعل ..تشعر بالاختناق ....لمحت ضوء النهار وسط الدخان من نافذه جانبيه فاندفعت نحوها بحرارة....اصطدمت بطاولة المطبخ ...فالرؤية أصبحت ضعيفة من كثافة الدخان الذي يغطي المكان...تجاهد للصمود من اجل صغيرتها...كانت تبكي وانفاسها بدأت تنقطع ... ....وصلها صوت المربية سهيلة...وهي تشجعها على محاولة الخروج من تلك النافذة....وطفلتها تبكي ..تصرخ ..بين يديها بعد ان لمست يدها قطعة مشتعلة من غير قصد....استجمعت قواها صارخة تنادي على السيدة سهيلة لتلقي لها ألمى ونجحت بجهد....كانت النافذة صغيرة بالكاد اتسعت للطفلة ....احتضنتها سهيلة وبدأت تهرول بخطوات سريعة نحو الحديقة...وما هي الا لحظات لينفجر بالون الغاز من حرارة النيران ....لتسقط السيدة كريمة جثة هامدة في هذا القصر العريق .."



" يا الله رحمتك.."

شهقت امي ..تضع يدها على فمها ..اغرورقت عيناها بالدموع ..اما خالتي همست بحزن وشفقة :

" انا لله وانا اليه راجعون...مسكينة ألمى"



انقبض قلبي ألماً مما سمعت...تنحنحت وسالت بصوت ثابت :

" هل الآثار التي على يد ألمى هي حروق من هذا الحادث؟؟"



" نعم...خرجت من الحادثة باقل الخسائر...حروق في ظهر كف يدها...اما سهيلة عند انفجار البالون , غطتها بجسدها تحميها ...لتتلقى عنها الشظايا الحارقة بظهرها...."



قالت امي بعد استنتاجها :

" اذا لهذا يعتبر السيدة سهيلة من العائلة ولا يتكبر عليها ...فهي فعلت الكثير لابنته."



" نعم هي الوحيدة بين الخدم لها معاملة خاصة..."

وجهّت نظرها نحوي واكملت:

" وبسبب هذه الحادثة أصبحت أصوات الانفجارات عقدة لديها مهما كانت صغيرة"



"يا لها من مسكينة تلك الألمى ..لم أتوقع ان واحدة بجمالها واناقتها وغناها الفاحش ان تكون عاشت مآسي!!...ظننت انها مدللة وتعيش بسعادة..." قلت في سرّي ثم نفضت راسي وهمست بجدية قاطبا حاجباي :

" لكن بالنهاية لها اب وبيت يأويها ....لم تتشرد مثلنا....نحن أيضا عشنا انفجارات اصعب من هذه ...يلقونها علينا متعمّدين....ولم نفعل مثلها...."

صمتّ برهةً وتابعت بحنق:

" هذا دلال زائد.."

لا اعلم لمَ نطقت بهذا!! أو ان قهري من وضعي ويدي المكسورة بسببها..!!



ردت السيدة(فاطمة) تدافع عنها :

" لا تقسَ عليها يا هادي ...لا تظن من مظهرها الخارجي انها تعيش في ترف....فيكفيها فقدان والدتها بصورة اليمة....وتعيش مع زوجة اب حقودة....ومع قيود شديدة من والدها لدرجة خنقها....انها طفلة هشة , رقيقة, طيبة كوالدتها وخالتها "



اجبت بضيق:

" لن اقابلها ثانية لأقسو عليها...هي ستكون في كندا تتابع تعليمها العالي ...وانا هنا بالمخيم بيدٍ مكسورة أصيبت بشبه عاهة مستديمة "

~~~~~~~~~~~~~

في بيت (عاصي رضا) ..كانت الافعى زوجته هي الأسعد لنجاحها بإقناع زوجها بإرسال ابنته الى كندا برفقة (كرم و صلاح)....أخبرها والدها بقراره بمساعدة خالتها والمربية.....نزل عليها الخبر كالصاعقة....فهي لم تفترق قط عن خالتها وبيتها..!!..عصفت..غضبت...بكت...ا ضربت عن الطعام...حطمت العابها....لكن في النهاية حكم القوّي على الضعيف....لا اعتراض على أوامر السيد( عاصي)...

×
×
×
اسبوعان وحان موعد السفر...(ألمى ) ما زالت حانقة على والدها...لا تريد ان تكلمه...قررت مخاصمته...تعاتب خالتها بنظرات صامته لأنها لم تستطع منع سفرها....كانت السيدة(سهيلة) هي من سترافقهما في رحلتهما لتعتني بهما ريثما يعتادا على الحياة هناك وبعد الاطمئنان على مربيتهما الجديدة في الغربة...

[المسافرون الكرام الى رحلة كندا....الرجاء التوجه الى البوابة رقم 712..]

انها لحظة التوجه الى الطائرة...عانقت فاتن ابنة اختها بشدة...تعتصرها...لم تمسك دموعها...توصيها بالاعتناء بنفسها وان تسامحها على ضعفها وقلة حيلتها...ووعدتها بزيارتها كلما سنحت لها الفرصة......

قبّلتها (ألمى) من خدّها ودموع عينيها تجري على وجنتيها كوادٍ يخترق الثلوج...ثم نطقت بكلمات اخرجتها بصوتٍ متحشرج:

" منذ ايام أضعت العقد الذي اعطيتني إياه ."



تجمدت مكانها مصدومة...فهذا العقد الذي كانت تخبئه لها حتى تكبر ولكنها اعطتها إياه في النهاية لتراضيها يوم تركها للبيت بعد شجارها مع (سوزي)...

كان هذا العقد من الذهب الخالص...بسلسلة سميكة ...يتوسطه مجسم على شكل قلب...يفتح لثلاثة اقسام...في كل قسم وضعت به صورة...لألمى , خالتها , ووالدتها ....لقد قامت السيدة (كريمة) بتصميمه لتلبسها إياه في عيد ميلادها...لكن كان للقدر رأيًا آخرًا......



" ان وجدته سأبعثه لكِ في البريد "

اعادت صوتها بثبات لكي لا تؤنب الصغيرة نفسها واعطتها بعض الامل....



اقترب والدها ليودعها...كانت ترمقه بنظرات لومٍ ممزوجة بالاحتياج الشديد...أحنى جسده امامها ...وضع يده على شعرها يمسده بحنان وهمس لها :

" سامحيني يا ابنتي....هذا لصالحك "

ثم قبّلها من جبينها ودفنها بأحضانه يبلّ شوقه اليها قبل ان تغادر....وكذلك زوجة ابيها ودّعتها بتمثيل متقن بعد ان ودّعت ابنها (كرم)...

وقفوا جميعاً مكانهم يراقبون المغادرين...حتى اختفوا عن الأنظار لاستقبال حياة جديدة......

**********( انتهى الفصل الرابع ) **********




اتمنى لكم قراءة ممتعة

لا اله الا الله محمد رسول الله

شكرا على جهودك

shezo likes this.

نوارة البيت غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-10-21, 04:31 PM   #64

نوارة البيت

? العضوٌ??? » 478893
?  التسِجيلٌ » Oct 2020
? مشَارَ?اتْي » 2,845
?  نُقآطِيْ » نوارة البيت is on a distinguished road
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة shezo مشاهدة المشاركة
مرحبا.صباح الخير غاليتي
"لا وطن...لا هوية" بكلمات محدودة أستطعتي أن تصفي حال اللاجئ الذى لم يبق من وطنه سوي ما يتنسمه فيما بقي من أهله وأحيانا لا يبقي وقتها يعاني فقدان الوجود الي جانب فقدان الهوية
ما أجمل عزة نفس هادى وشقيقته رغم الجوع والألم وما أجمل البشر حين يسخرهم الله برحمته للهفة الضعيف فالله لا ينسي عباده
وهناك أيضا لاجئين يقطنون بالقصور يبحثون عن وطن لهم باقتقادهم الحنان والإهتمام والافتقاد لوجود الأم رمز الحنان الذى صغتيه ببراعة في اغنية ألمي باحتفال المدرسة.. أو الاب الذى لا يبالي.
وهناك من الامهات الكثيرات اللاتي بالنسبة لأبنائهن راعية منزل لا يذكرونها إلا تلبية لطلباتهم وتظل وحيدة حتي وهي بينهم
هكذا الدنيا لا تعطي من بهوى مناه ..بل كثيرا تمنح من لا يستحق وتحرم من في أشد الحاجة ويزداد بؤس الضعفاء وتزدادقسوة الطغاة و الطامعين
ما شاء الله عليكي ترسمين ملامح الحياة بالمخيم والمشاعر التي تنتاب الجميع بمنتهي الحساس والصدق
هادى علي صغر سنه متميز الخلق حامدا لله علي الرغم مما يعانيه يفكر في اكمال تعليمه هو وشقيقته وييسر الله له السبيل بمعاونة ساكني المخيم.
أشرتي حبيبتي لنقطة هامة جدا يفتقر كلنا لها وهي حمد النعم فالكل باعتياد ما يلقاه من فضل وكرم االه من صحة ورزق وسكن واهل لا يشعر بها .
بل أحيانا يتململ من كثرة النعمة فلا يؤدى زكاة صحته بالعمل باتقان او طعامه بمنح بعضه للمحتاجين في حين تزخر صناديق القمامة بما نرميه من بواقي طعامنا بل التأفف احيانا من تكرار صنف الطعام أو عدم تعددها.
هكذا الإنسان لا يشعر بالنعمة وقيمتها الا بفقدانها فالشخص لا يعرف انه كان بعافية إلا عند ا لمرضاو الجوع
رزقنا الله نعمة الحمد علي الحمد والقناعة فالرضا لمن يرضي
"جبر الخواطر"ربما تكون ابتسامة ..تربيتة علي الراس..نظرة حانية..تقديم يد العون بما نستطيع فيها الكثير والكثير مما يؤجر الله المرء عليه هو جبرا للخواطر
فكما قال رسولنا الكريم"تبسمك في وجه أخيك صدقة"
ليتنا نعود للقيم والمثل الجميلة حينما كان الناس لبعضهم علي قدر ظروفهم لا ينام احدا جائعا أو حزينا بينما الآن لا يعرف المرء أسماء جيرانه الذى يقطنون معه
تغيرت الدنيا كثيرا ويبقي حبل الله ممدودا لمن يعتصم به.
حتي قاطني المخيم بكل مظاهر الاهمال وضعف الامكانيات يتكاتف اهله مع بعضهم قدر الامكان ويرسل الله الغيث في زيارة بعض أصحاب القلوب الرحيمة والتي لو فعل الكل مثل السيدة كريمة والدة ألميx مع انتشار ما لم نكن نسمع عنه من قبل بما يسمي باللاجئين لكان حالهم افضل ولتحولت تلك المخيمات لمكان آدمي الي أن يقضي الله بامره ويعود الغائب لوطنه أو يشتد عوده فيستطيع الاستمرار بالحياة ورعاية من بقي من أهله.
ألمي في زيارتها للمخيم مع خالتها رأت عالما آخر لم تشهده من قبل وعلي الرغم من التباين الشديد في نمط الحياة الا انها تألف وتسعد مع دنيا وسلمي وتحفظ سورة من القرآن لم ينجح قصرها في أن يجعلها تحفظها وتحفر حرف اسمها كما حفرت صورتها بروح هادى
وربي أبدعتي في هذا المشهد حد أن ادمعت عيناي من تصور كيف يستطيع الانسان بعد ان كان يحيا آمنا ينام بسريره يحفه أمان اهله ووطنه يحيا بهذا الشكل يبتغي الامان واى وسيلة للمساعدة وكأنه ليس بإنسان او انه ودع إنسانيته التي كرمه الله به يوم فقد الوطن
اعتقد ان المي لن تنسي من رأتهم بالمخيم وأعتبرتهم أصدقائها حتي بعد نزعها منهمx اساءة الحراس لدنيا ودفاع هادى عنها.
"الفرج قريب"ما اتمناه الآن وانا ارى هذا العالم بعيني من صدق تصويرك له أن يجدهم السيد ماجد وأن يعين الله الباقين علي ما هم فبه الي ان يجدون مخرجا
حمدا لله أخيرا وجدهم الرجل بعد طول بحث لأشهر ...ولكن ما هذا ؟
لم ينتقلوا بعد أولا لرفض هادى ..ثانية لاقتناع سليم ببقائهم لفترة لخدمة اغراضهم الوطنية وليشب هادى علي القوة ومبادئ والده السيد محي الدين
كنت اتمني أن يرحلوا فورا ولكن لكل حادث حديث
"لجوء الرفاهية"زيارة ألمي للمخيم انتهت باصابة دائمة لهادى بيده كما الجرح بيد المي اثرا شاهدا علي وفاة والدتها وهي تزود عنها بروحها وليس لها الان إلا التهجير الراقي لكندا لابعادها عن الغوغاء.
لا ادرى كيف لمن كان وزيرا حتي لو كان فاسدا أن بتعامل مع الناس بهذا المنطق والمفروض انه بخدمتهم ولكنه كما كان فاسد النفس طامعا بالمنافع يظل كما هو بل اسوأ وهو خارخ منصبه يعتقد أن الجميع يناصبه العداء والحقد..هذه هى شياطين الانس
التي لا ترق لقلب ابنته وهي تتوسله البقاء
فهل سيقدر لها ثانية رؤية هادى وإخوته ام هو من سيحرص علي رؤيتها لبعيد لها سلسالها الذى فقدته كما فقدت حنان خالتها في غربة بلاد باردة اضافة لما عانته من غربة في قصر والدها.
سلمت يداكي حبيبتي علي هذا الابداع والرقي في السرد واللغة والاحداث الحية والمعاني الانسانية التي تتخلل عملك الادبى الرائع والذى لا تتخلله ثغرة تستأهل النقد او لفت النظر
دمتي بكل الخير والسعادة واثابك الله عنا خيرا بكل كلمة ومعني تنير بداخلنا قيما واخلاقا جميلة وتذكيرا بنعم المولى علينا
بانتظارك وبانتظار رائعتك وشدوك بأحلي الحان الربيع
ملكة التحليلات شيزو

shezo likes this.

نوارة البيت غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-10-21, 06:12 PM   #65

ألحان الربيع
 
الصورة الرمزية ألحان الربيع

? العضوٌ??? » 492532
?  التسِجيلٌ » Sep 2021
? مشَارَ?اتْي » 2,297
? الًجنِس »
?  نُقآطِيْ » ألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond repute
افتراضي

اهلا نوارة البيت ...نورتِ الرواية

الشكر لك على مرورك ..

shezo likes this.

ألحان الربيع متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 27-10-21, 08:43 PM   #66

shezo

نجم روايتي

 
الصورة الرمزية shezo

? العضوٌ??? » 373461
?  التسِجيلٌ » May 2016
? مشَارَ?اتْي » 10,558
?  نُقآطِيْ » shezo has a reputation beyond reputeshezo has a reputation beyond reputeshezo has a reputation beyond reputeshezo has a reputation beyond reputeshezo has a reputation beyond reputeshezo has a reputation beyond reputeshezo has a reputation beyond reputeshezo has a reputation beyond reputeshezo has a reputation beyond reputeshezo has a reputation beyond reputeshezo has a reputation beyond repute
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة نوارة البيت مشاهدة المشاركة
ملكة التحليلات شيزو
مرحبا مساء الخير حبيبة قلبي
ملكة الذوق انت نوارة
صدقا سعيدة جدا بتواجدك معنا
وبادعو لك بالتوفيق في حياتك ودراستك
والشكر لكاتبتنا الجميلة مجمعة الصحبة الطيبة
وكل قارئات الرواية الفاضلات بارك الله فيهم اجمعين
أدام الله المودة والمحبة


shezo متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 28-10-21, 11:21 AM   #67

ألحان الربيع
 
الصورة الرمزية ألحان الربيع

? العضوٌ??? » 492532
?  التسِجيلٌ » Sep 2021
? مشَارَ?اتْي » 2,297
? الًجنِس »
?  نُقآطِيْ » ألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond repute
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة shezo مشاهدة المشاركة
مرحبا مساء الخير حبيبة قلبي
ملكة الذوق انت نوارة
صدقا سعيدة جدا بتواجدك معنا
وبادعو لك بالتوفيق في حياتك ودراستك
والشكر لكاتبتنا الجميلة مجمعة الصحبة الطيبة
وكل قارئات الرواية الفاضلات بارك الله فيهم اجمعين
أدام الله المودة والمحبة
الي الشرف انه تزيّن روايتي قارئة مثلك تمتلك روح حلوة , رقيقة وراقية ...وجودك كنز لكل كاتبة تقع عيناك على روايتها ...ما شاء الله عنك ...الله يسعدك ويعطيكِ على قد ما كلماتك بتلامس القلب ...دمتِ ذخرا لنا ايتها الجميلة



shezo likes this.

ألحان الربيع متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 30-10-21, 12:04 AM   #68

ألحان الربيع
 
الصورة الرمزية ألحان الربيع

? العضوٌ??? » 492532
?  التسِجيلٌ » Sep 2021
? مشَارَ?اتْي » 2,297
? الًجنِس »
?  نُقآطِيْ » ألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond repute
افتراضي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


الفصل الخامس طويل نوعا ما ...لذا سأقوم بتنزيله على يومين ....بعد قليل القسم الأول وغدا القسم الثاني ان شاء الله(سأحاول خلال النهار ).....اعذروني وأتمنى أن ينال اعجابكم


ألحان الربيع متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 30-10-21, 12:39 AM   #69

ألحان الربيع
 
الصورة الرمزية ألحان الربيع

? العضوٌ??? » 492532
?  التسِجيلٌ » Sep 2021
? مشَارَ?اتْي » 2,297
? الًجنِس »
?  نُقآطِيْ » ألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الخامس ج1 ((يامن إبراهيم الهاشمي))



" انا لا أعلم كيف تتحملين العيش مع ذلك الخائن تحت سقفٍ واحد؟؟"

سألت السيدة (ايمان) بامتعاض صديقتها التي زارتها بعد أيام من رحيل ابنة شقيقتها الى كندا....فهي الآن منزعجة , تختنق , ولا ترغب بالبقاء في قصر العنكبوت لتقابل قاطنيه ,وزهرة فؤادها ليست موجودة....

" تحملتُ من أجل ألمى فقط كل تلك المدة وها هو أبعدها في النهاية عني !!....كم اشتاق لصغيرتي!!....كانت هي الأوكسجين في ذلك القصر اللعين , اما الآن اختنق من دونها "

ردت عليها بضيقٍ شديدٍ يظهر على ملامح وجهها الذي اختفت بشاشته مع اختفاء (ألمى)...

" وكيف تقضين وقتك الآن ؟ فأنت تعلمين لم استطع الاطمئنان عليك الفترة السابقة بسبب سفري "
قالت السيدة (ايمان) بقلق على حال صديقتها التي تعلم عنها كم هي مرتبطة بابنة اختها وتعلم انها الان تمر بفراغ كبير ....


" أقضيه في غرفتي بين قراءة القران وذكرياتي مع الصور .....اتسوّق قليلا ثم اعود الى ذلك القبر المسمّى بقصر "

انهت اجابتها لتسارع الأخرى باقتراحها تحاول اقناعها بهدوء :

" ما رأيك بالانتقال لشقتي لنسكن سوياً ؟ّ! ..لا حاجة لبقائك هناك حالياً!"

" لا ..انا انتظر الوقت المناسب , وانت تفهمين ما اقصد !!"

ردت رافضة , واثقة باختيارها....فتابعت صديقتها بتحقيقها كالعادة :

" ما هي خطواتك القادمة اذاً ؟"

شردت السيدة(فاتن) قليلاً قبل ان تجيب بحيرةٍ:

" لم افكر بعد!!...اترك كل شيء للزمن فهو كفيل بأخذ حقي "

صمتت... ثم أضافت :

" لكن ما انا متأكدة منه انه عليّ زيارة المخيم الذي بتّ اشعر بالراحة والسكينة به عندما أكون بين هؤلاء الناس البسطاء , أبناء بلادي الذين يعيدوني بكرمهم واخلاقهم وأصالتهم الى عبق الماضي وحياتي في الوطن.."

تحمست السيدة(ايمان) وقالت :

" متى سنزوره سوياً ؟! ..لديّ مقال جديد وربما زيارتي له ستساعدني بإيصال الفكرة التي اريدها بشكل واقعي اكثر.."

نظرت لها صامتة, فتلك هي صديقتها التي لا تفوّت شيئا دون ان تستغله في عملها ....ليس طمعاً ونيل نقاط وترقيات ...انما هكذا هي الصحفية الثائرة , الغيورة على وضع بلادها الأم وأبناء شعبها ... تبسمت وهمست مجيبة:

" حسناً.....سأخبرك عند ذهابي "

~~~~~~~~~~~~~~~~
بفضل الله لقد اجتزتُ امتحاناتي بيدٍ مكسورة وحصلت على علامات مرتفعة.....كانت تمر الأيام في المخيم بنفس الوتيرة... , اتابع عملي وأحضّر لدراستي للسنة المقبلة خلال العطلة الصيفية ...والسيد (ماجد) يزورنا من حين لآخر وحتى جلب لنا هاتفاً ليتواصل معنا ولنتواصل مع اقربائنا في الوطن للاطمئنان عليهم...اما السيدة(فاتن) وصديقتها الصحفية(ايمان) أصبحت زيارتهما للمخيم بشكل اسبوعي بعد أن أنشأتا علاقة مع أمي وخالتي و(ام سلمى)...
أزلتُ الجبيرة بعد شهر من وضعها ....توالت الأيام ومرّ ما يقارب الشهران...
في احدى الليالي الحارة , أصبتُ بالأرق!! الحشرات تزعجني ولا نسمة هواء تكرّمت علينا بزيارة .... الا يكفي اننا ننام داخل خيمة , حالنا كحال خضروات مزروعة في دفيئة !؟..تململتُ مكاني ....عدلتُ جلستي ...تأملتُ النائمين , أشعر بالغبطة اتجاههم ...يا الله هل الناموس التصق بي أنا فقط ليفض مضجعي وحرارة الجو لازمتني !؟...نظرتُ للمشاغبة التي تشخر وتفتح فمها كالقتيلة , تنام تفرد أطرافها الأربعة , تريحهما لتستمر بقفزاتها في اليوم التالي ...وضعتُ يدي على فمي اكبت ضحكتي , انها لا تشعر بشيء من شدة التعب وكأن احداً يجبرها على حركاتها البهلوانية وثرثرتها التي لا تنتهي ...دنوت منها بهدوء وعدّلت مخدتها ...اقتربت للذي كان يتململ مكانه يبتسم ببراءة وهو مغمض العينين...يبدو انه يشاهد حلماً جميلاً ...انه محظوظ أكبر طموحاته رشفات من الحليب!! ...انحنيت أقبّل جبينه واستنشق رائحته التي أعشقها ...فللرُضع رائحة تميزهم عن باقي البشر!!
انتصبتُ واقفاً ...خارجاً لأتمشى في الخلاء , أُسامر النجوم وأكلّم القمر... كانت الساعة الثانية بعد منتصف الليل....بعد ان زفرت انفاسي السلبية وابدلتها بالإيجابية , عدتُ أدراجي الى خيمتي واخرجتُ من صندوقي الصغير الأمانة..!!
لا أعلم لمَ ما زلت محتفظاً بها رغم مرور ثلاثة اشهر ؟!...كان بإمكاني إعطائها للسيدة (فاتن)..لكني احتكرتها لنفسي الى ان اعيدها بيدي لصاحبتها اذا شاء الله لنا اللقاء....
في كل ليلة بعد خلود عائلتي للنوم أُخرجها..... أصبح هذا روتيني الجديد...امسكها بيدي أتأملها من الخارج...يغلي الدم في عروقي لأنها تعيدني لضربات الحراس لي...أشد بقبضتي عليها وانا استشعر مكان الألم...أصكّ على اسناني وتبرز عروقي...أنظر الى ذراعي وأحبس الدموع في عينيّ.....وفجأة يختفي كل هذا بعد أن افتحها محدقاً في سماء عينيها اللتين تحلّقان بي إلى عالمٍ جميلٍ , هادئٍ كسحابة في الربيع , لطيفٍ مثل نسمة الصباح , دافئٍ كحضن الأم , عذبٍ كقطعة حلوى ....عالم صافي خالي من المتاعب.....
ما هو هذا الشعور ؟! ...لم أجربه من قبل....لكنه لذيذ بنكهة الأناناس , بريء , نقي لا يتخلله أي شائبة , كصحيفة لمولود جديد!!.....العالم يدّعي الانتقال من بلدٍ الى آخر لجوء!!..وأنا ايقنت ان النظر لعينيها الزرقاوين , النجلاءين هو اللجوء !!......وأخيراً غفلتُ ....وأنا لاجئ في سمائها....

" هادي...هادي ...الله يرضى عليك...استيقظ يا بنيّ "

همسات نبض الحياة لتيقظني لصلاة الفجر.....

نهضت اشعر بالدوار من قلة النوم ...قررت الصلاة في خيمتنا ...لم أقوَ على الوصول للمصلّى ...كان قد عاد منذ شهر الشيخ للإمامة بعد أن تعافى .....لا اعرف كيف انهيت صلاتي وارتميت على فراشي كالمخبول ...ثم اتسعت عيناي بعد ان تذكرت أنني لم أعِد الأمانة , العقد الذهبي ذا القلب الى مكانه !!...فزَزْتُ من مكاني مرتبكاً وبدأت بالتفتيش عنه ...قلبت فراشي ..رفعت وسادتي...يا الله انا متأكد أني نمت وهو بيدي!!....اين اختفى؟...بينما انا منهمكاً في بحثي جاثياً على ركبتيّ , رأيته يتأرجح أمامي...رفعتُ نظري وإذ به بيد أمي!!..هممتُ لإلتقاطه فأخفته خلف ظهرها ...قلت وأنا اداري خجلي :

" اوه امي انني ابحث عنه !!"

سألتني بتعجب , فهي رأته في عنقها يوم زيارتها لمخيمنا :

" ماذا يفعل عقد ابنة عاصي بحوزتك ؟"

أجبتها بهدوء :

" لقد وقع منها في ذلك اليوم واحتفظت به لأعيده لها "

قالت بجدية:

" دعني اعطيه لخالتها ولا شأن لك بهذا "

قلت بحزم :

" أنا وجدته وأنا اعيده لصاحبته فقط...اذا أراد الله "

ردت مستنكرة :

" أين ستراها بنيّ؟؟...رسم لها والدها طريقاً طويلاً ولا اظن انها ستأتي الى هنا مرةً أخرى "

قلت مصمماً على أخذه:

" ربما تأتي!!...وان لم تفعلها سأفكر حينها كيف أتصرف به "

أخذته منها بصعوبة...خبأته مكانه واستودعته الله.....

×
×
×

أسابيع أخرى تحسب من أعمارنا ولا تغيير او اضافات....أقبل علينا الخريف يحمل شذى التراب بعد هطول اول قطرات المطر عليه....رائحة لا ابدّلها حتى بأفخم عطور باريس!!...تنعشني , تشعرني بالخفة كأني ولدتُ من جديد من غير هموم.....هذه فرصة لا أفوتها ابداً , فتوجهتُ الى الوادي القريب من المخيم لأجمع أريج الخريف في أنفاسي ......كنتُ سابحاً في عالمي , هائماً في هذا العبير فوصلني صوت يناديني ولم يكن إلّا السيد(ماجد) بعد ان ارشدته امي الى مكاني....
تصافحنا , تبادلنا التحيات وتجولنا معاً....شعرتُ ان بداخله كلاماً لا يعلم كيف يبدأ به, فقلت فاتحاً المجال:

" تفضل سيد ماجد..قل ما عندك "

ارتسمت بسمة تظهر ثناياه البيضاء وسط سمرة بشرته وقال :

" انت كما قال عنك اخي سليم ...نسخة عن والدك رحمه الله "

سالت بتعجب :

" كيف؟..ماذا تقصد؟"

أجاب:

" اخذت شكله , شجاعته , عزة نفسه وزد على ذلك فراستك ونباهتك ...حفظك الله لأهلك ولوطنك "

قلت بسخرية:

" وطني؟؟...اين وطني؟؟"

ضربني بخفة أعلى ظهري معتزاً هاتفاً :

" وطنك ينتظرك أيها البطل"

صمت برهةً وتابع:

" جئتُ لأخبرك بوصية والدك عنك لعمك سليم "

توقفت مكاني مندهشاً وقلت :

" وصية والدي؟؟...ماهي؟؟"

يا الله كم اشتاق لكلماته , توجيهاته لي , صوته الحنون , لمساته الدافئة ...هل ابي اختصني بوصية؟؟...حبيبي أبا هادي ..تكفيني الان وصيّة بلا روح تعود اليك لأشعر بك بيننا....

" وصّاه للاهتمام بك , ان يدعمك , يوجهك للسير على خطاه بالنضال والكفاح والثورة من اجل الوطن ..."

رفعتُ نظري للسماء مبتسماً , عائداً لأمنياتي ...ثم تنحنحت مجمداً تقاسيم وجهي محدقا به :

" لطالما تمنيتُ أن امشي على نهج والدي وكنتُ مستعداً لذلك.."

ابتلعت غصة في حلقي واردفت:

" لكن كُتب لنا طريقاً اخراً لا نعلم نهايته "

قال بجدية قاطبا حاجبيه:

" أي طريق اخر يا هادي ؟...ماذا تقول ؟"

أجبت بقنوط :

"انت ترى الحال الذي وصلنا اليه , ماذا كنا وكيف أصبحنا !!...نحن في ارض غير ارضنا وسماء غير سمائنا ...كيف سنكافح وأميال كثيرة تفصلنا عن وطننا ؟"

تبسّم في ثقة وربّت على كتفي بقوةٍ قائلاً:

" لا عليك...كل شيء مخطط له , حتى قبل وفاة والدك ولكن بتعديل بسيط وهو الأهم لتواجدكم هنا...لذلك عندما تتم الثامنة عشر ستبدأ بالتدريب العسكري لتتقدم وتصبح لاحقاً قائداً للثورة كما كان والدك "

كوّر قبضته امام فمه يسعل ليستجمع صوته الذي كاد يهرب...تردد قليلا ثم أضاف :

" ستبدأ اول خطاك من هذا المكان لتنتقم من بائعي الوطن.... وقتلة والدك "


" ماذا تقول؟!...أبي مات شهيداً بمواجهات الحرب , مثله مثل أي جندي او ثائر !"


" مات مقتولاً غدراً ولا علاقة لأرض المعركة"

اتسعت عيناي على آخرها...تعرّق جبيني...ارتجفت أوصالي.....تعثرت أنفاسي... ألقاها لتصل كسهام تخترق فؤادي...... لقد أصابني في مقتل...
حاولت أن استجمع بقايا روحي ....نفثت لهيباً من احشائي وقلت بصوت غاضب:

" هل هم موجودون في هذه البلد؟؟"


أجاب بصوت ثابت :

"نعم وسننتظر الوقت المناسب لضرب الهدف.....المهم ان تتحلّى في الصبر وتتبع تعليماتنا"

سألت بتشكك ودمائي تغلي:

" الهذا السبب نزحنا الى هذه البلدة تحديداً؟؟"


قال:

" بالطبع...هكذا سيكون اسهل علينا "

تنهد وأضاف:

" اريد منك انهاء ثانويتك بتفوق ليتسنّى لك الالتحاق بأكبر جامعة لإدارة الأعمال في هذه البلد.."


قلت رافضاً باستياء:

" لم جامعة إدارة الاعمال؟...لا احبها ...اريد دراسة الهندسة!!"


" لأن الهدف الرئيسي هو رجل أعمال مخضرم , وهكذا تدخل بينهم بسهولة !!...ولا يحصل ذلك الّا بلفت انتباههم بنجاحاتك وتفوقك لينجذبوا اليك"


شردت قليلاً ثم سألت بنبرة احتقار :

" اذاً أخبرني من هم اولئك الاوغاد؟!"


أجاب ببرود:

" لا استطيع اخبارك بأي معلومة عنهم قبل اتمامك الثامنة عشر عاماً اذا أراد الله.....اما الان عليك ان تكون حكيماً , متحكماً في ردود افعالك من غير تهوّر مهما واجهت من إساءة..."

صمت وأشار بعينيه الى ذراعي واردف:

" انت رأيت نتيجة انفعالاتك أين اوصلتك....التريث احد أسباب النجاح للوصول الى هدفنا من غير زلة......اريدك أيضا الانتباه لطعامك , صحتك ...الابتعاد عمّا يؤذي جسدك وابدأ بممارسة الرياضة من جديد...."

تبسم وأضاف:

" اخبرني السيد سليم عن الكؤوس التي حزتها في مجالات مختلفة من الرياضة مثل السباحة , ركوب الخيل وغيرها..."


لقد اعادني الى أحب الأوقات عندي في حياتي الماضية....اخذني الحنين الى هناك فقلت مبتسماً بنشوة :

" كنت ارغب ايضاً بدخول نادي الرماية بأنواعها ... وبحكم سني رفضوني...لكن لا يهم ففي النهاية ابي رحمه الله علمني ذلك "

×
×
×

تلاحقت الأيام لتكتب لنا سنة وشهور من بعد الهجرة....دراستي على قدمٍ وساق ...وعملي كمدرس لمن تحت جيلي ما زال على حاله ....قمتُ بإنشاء جمعية صغيرة بمساعدة السيد ( ماجد) وبدعم مادي من السيد ( سليم الأسمر ) لإعمار المخيم رويداً رويداً......رممنا عن طريقها خط المجاري , فتحنا خطاً للمياه يستعمل بأوقات معينة , اقتنينا غرفة حديدية مجهزة بتكييف ومعدات طبية مع ممرضة وطبيب بنصف وظيفة لتكون بمثابة عيادة عاجلة لسكان المخيم ....الفضل من بعد الله يعود للسيد (سليم)....
قُبيْل شهر حزيران , زارتنا السيدة (فاتن) لتعتذر عن موعدها لهذه السنة بسبب اضطرارها للسفر لزيارة ابنة شقيقتها في كندا ...

~~~~~~~~~~~~~~~~

" لا اصدق لا اصدق ...هذه أجمل مفاجأة "

هتفت بها ( ألمى) مندفعة لحضن التي تنتظرها جالسة على احدى الارائك , بعد عودتها من مدرستها...لم تخبرها السيدة(فاتن) بزيارتها وارادت مفاجأتها والاستمتاع بفرحتها صوتاً وصورة لتعيد الحياة لقلبها.....
أجلستها في حضنها وكأنها ما زالت ابنة سنتان ..تحاوط خصرها .....تمسد على شعرها وتقربه لأنفها , تستنشق رائحتها التي اشتاقتها ...مسكت يدها اليمنى ..نظرت لآثار الحرق...قربتها لشفتيها تقبّلها وهمست لها بحنان :

" كيف حالك صغيرتي؟ وكيف تسير امورك ؟ "

استدارت تعانق عنقها ..زمت شفتيها بدلال وهمست مجيبة :

" طبعا اشتاق لكم ولغرفتي ولخالتي سهيلة ....لكني بدأت اعتاد على هنا ...لولا وجود صلاح لضجرت ....يهتم بي كثيرا ...نحل الواجبات معاً واغلب المرات نتناول طعامنا سويا....يا الهي , افكر لو كنا لوحدنا انا وكرم ماذا كان سيحصل ..؟"

نهضت من حضنها ...انحنت تخرج دفترا من حقيبتها وقالت بحماس :

" انظري خالتي ماذا كتبت لي المعلمة ....دائماً تملأ دفاتري بعبارات تعزيز وتطلب من زملائي ان يقتدوا بي "

تبسمت لها ورفعت كفها تتحسس وجنتها البيضاء وقالت بفخر :

" انت تستحقين هذا واكثر , أنا اثق بتفوقك عزيزتي "

بعد تناول الغداء سوياً ....جلستا في غرفة المعيشة ....فقالت السيدة(فاتن):

" الن تقومي بحل واجباتك ؟"

كانت تجلس على الاريكة تحني ساقاً تحتها وتلوح بالآخر ...تمسك بضع خصلات تلفها على سبابتها بدلال وقالت بثقة:

" سأذهب الى مكتبتي بعد قليل لأحلها ...اريد ان اجلس معك قبل ان تدخلي لترتاحي "


" احضريها الى هنا"

ردت بثقة اكبر :

" لا خالتي سأحلها على مكتبتي لا استطيع فعلها هنا "

قالت ترفع احد حاجبيها باستغراب :

" منذ متى ؟؟....طوال عمرك تتركين مكتبتك وتستلقين حتى على الأرض لتقومي بحلها , ماذا تغير ؟"

عدلت جلستها وهتفت بشموخ :

" منذ ان اتيت الى هنا ...هكذا يعلمونا لنليق بمكانتنا ومجتمعنا الراقي وان لا نتشبه بعامة الشعب الفوضويين ....لكل شيء قوانين وحدود ويجب الانضباط بها...."

كانت قد فرحت السيدة (فاتن) لو كان هذا النظام نابع من ارادتها ...لكنها بدت مستاءة لأنه بدأ ينجح بغرس مبادئه العنصرية كما أراد , المكونة من غرور وتكبّر على الاخرين ...

في المساء اجتمعتا مجدداً على مائدة العشاء ....تنحنحت (ألمى) وهي تلعب بشوكتها داخل طبقها المفضل المعكرونة الإيطالية ,دون ان تنظر لخالتها وهمست بتردد :

" خالتي..."


" نعم حبيبتي..."


" ما هي اخبار المخيم ومن فيه ؟"


تبسمت وردت :

" بخير ..كل شيء كما تركتيه ..."


" وهادي؟؟...هل يتذكرني ؟! "

اجابت بهدوء :

" هو بأفضل حال يستمر في حياته ....ما بك مهتمة ؟"

توهجت وجنتيها باللون الوردي واجابت :

" اشعر انني اشتاق لهم ....صحيح انه كان يوماً واحداً لكنه اغناني عن شهور من الوحدة.....لم أرَ بطيبتهم ولطافتهم ...حياتهم جميلة..."


" أتحسدينهم صغيرتي على حياتهم وهم متشردون في خيم وانت تنعمين بكافة وسائل الراحة ؟؟"


" أنفاسهم دافئة ...تعطي السكينة...تنبض بالحياة....اما انا جدران بيتي باردة , كئيبة بلا روح .."


" لا تفكري كثيراً صغيرتي ...انسي الماضي والتفتي الى حياتك.."

زفرت أنفاسها...رفعت رأسها محدقة بها وقالت :

" خالتي الم تجدي عقدي الذهبي ؟؟....اكاد اجن لا اعلم اين اضعته ؟"

ردت بحزن :

" لا صغيرتي...ليعوضك الله بغيره...يبدو ان لا نصيب لك به "

×
×
×

كانت تستلقي على الأريكة تتوسد فخد خالتها التي تداعب شعرها وتشاهدان فيلماً أجنبياً ....انتبهت ان الساعة أوشكت على التاسعة ...عدلت جلستها ..نفضت رأسها تبعد الخصلات العالقة على وجهها ...دنت تقبّل وجنة خالتها وقالت:

" حان وقت النوم خالتي ...تصبحين على خير "

أعادت لها القبلة مبتسمة هامسة بحنان :

" وأنت من أهل الخير صغيرتي "

دخلت غرفتها ...خلعت خفيها ثم جلست على السرير ..مدت يدها تشعل المصباح الكهربائي الثابت على المنضدة بجانبه وفتحت الدرج تخرج قلم الرصاص برقة الذي لم تستعمله حفاظاً عليه.....استلقت وهي تتأمله مبتسمة وكأنه قطة لطيفة ...اطفأت النور واحتضنته بقرب صدرها حتى نامت ...لقد أصبح هذا احدى شعائرها قبل النوم من يوم زيارتها للمخيم..!!

~~~~~~~~~~~~~~

دقات قلبي تتسارع وكأنها في سباق !! لا أعلم ان كانت بسبب الذكرى المؤلمة مع الحراس ام لسبب آخر !!...لم استطع التحديد ......
انها سنة أخرى مرت علينا على أرض الشتات ...أصبحت في السابعة عشر وأربعة شهور ....المخيم يضج في التحضيرات السنوية لاستقبال سيدة هذا اليوم , السادس من حزيران.....كانت امي خارج الخيمة تجمعُ منتوجاتها , ترتبها في صندوق وأخي الشقي (شادي ) الذي بدأ يتحفنا بإبداعاته في فن التخريب والمشاكسة , ها هو يمارس هواياته ويبعثر لها الأغراض...دنوت منهما , قبلت راسها وحملت الصغير على اكتافي هامساً بتفاؤل :

" صباح الخير يا أجمل ام "

ردت بابتسامتها التي لا تفارق محيّاها :

" صباح السعادة عزيزي هادي.....ما سر استيقاظك باكراً؟؟"

اكتفيت راداً بابتسامة ثم قلت :

" امي!....هل ستأتي السيدة فاتن وحدها ؟!"

سألت بمكر:

" منذ متى تهتم بالسيدة فاتن وزياراتها ؟!"

أجبت منفعلاً كاشفاً دواخلي :

" لا اهتم بها ولا بغيرها , اريد فقط إعادة الأمانة التي اثقلتني "

غمزتني ضاحكة وقالت ساخرة :

" مممم.....الأمانة اذاً!!"

تلون وجهي بالحمرة رغماً عني ...تركتها عائداً الى الداخل اشتم نفسي " أيها الغبي لمَ تفضح نفسك ؟!"
هل بالفعل انا مثقل من الأمانة وهي التي تحملني فوق السحاب في سمائها أم انني كنتُ اريد التأكد من عدم قدومها لتكون حجّة لاحتفاظي بها مجدداً بعد ان اعتدت عليها وأصبحت احد طقوسي قبل النوم ..؟!!

~~~~~~~~~~~~~

تتأفف ..تنظر لساعة يدها...لقد تأخرت السيدة (سهيلة)....كانت تنتظرها للاهتمام بـ(ألمى) التي جاءت قبل يومين لأول مرة بعد سنتين من سفرها .....
دلفت الى غرفة خالتها , تحوم حولها كالفراشة فوق ازهار الربيع بخفتها وجمالها , ولما رأتها تستعد للخروج من مظهر لباسها, سألت بحماس :

" الى اين سنذهب خالتي؟"

أدارت وجهها نحوها مبتسمة وهي تضبط حجابها الرماديّ , تثبته بمشابك خاصة وهمست برقة :

" انا سأذهب ...انت ستبقين برفقة خالتك سهيلة "

بدلت ملامحها للاستياء بعد ان انطفأ حماسها وقالت بصوت حزين تصطنعه متعمدة لتلعب بمشاعرها :

" هل اهون عليكِ وأنا مسجونة بين الجدران ....أبي وزوجته وكرم سافروا بالأمس...ماذا سافعل وحدي مع خالتي سهيلة؟!...سأشعر بالملل"

ردت بعدم اهتمام لما قالت لأنها تحفظ حركاتها :

" هيا معي لنتناول الفطار من غير دلال"

بينما هما منسجمتان بالمائدة الملوكية مما تشتهي الأنفس ...رن هاتف السيدة(فاتن) وكان اتصال من السيدة(سهيلة) لتعتذر عن قدومها للقصر بسبب مرضها المفاجئ....
أغلقت الهاتف تتنهد شاردة في حيرة...تمتمت تنظر لصغيرتها :

" يا الله.. ماذا سأفعل بك ألمى؟...لن تأتي سهيلة "

أعاد وجهها نضارته بسبب حماسها هاتفة :

" خذيني معك أينما تذهبين!"

حدّقت بها بصمت لثواني...نهضت بهدوء هامسة :

" سأجري اتصالاً وأعود حالاً.."
بعد دقائق عادت الى غرفة الطعام تطلب منها مضطرة :

" هيا اصعدي وبدّلي ملابسك قبل ان نتأخر عن المخيم "


" ماذاا؟؟! المخيم ؟؟!...وأبي؟؟"

تساءلت مصدومة, كالبلهاء لا تعلم هل تضحك فرحاً ام تقلق خوفاً من ردة فعل والدها.....فأجابتها على الفور بجدية:

" أنا مضطرة لاصطحابك ووافق والدك على مضض لأنه لا يملك الوقت ليناقشني...لكن كعادته شرطه بمرافقة الحراس!!"

قفزت تهتف من غير وعي , دون ان تخجل :

" هيـــه هيـــه ...أنا متشوقة لرؤية هادي .."

خبُتَ حماسها وتمتمت قائلة :

" لو كنت أعلم لحاولت حفظ احدى السور لأفاجئه "

قالت لها خالتها بحزم :

" لا صغيرتي....لا نريد مشاكل!!...ابقي بجانبي فقط...انت الآن كبرتِ وأصبحت بالعاشرة واكثر وهو فتى غريبٌ عنكِ"

نكست رأسها للأسفل مستاءة , هامسة بنبرة حزينة جريئة :

" لمَ خالتي؟!...تمنيتُ ان يكون أخي او صديقي...لم أرتح لأحدٍ كما شعرت بجواره وبين أحضانه....به شيءٌ مميز , مختلف عن الجميع "

ردت عليها بإصرار آمرة :

" يكفي ...هذا عيب ألمى...انسي الماضي واستمعي لكلامي.....هيا بدلي ملابسك لننطلق "

~~~~~~~~~~~~~

كانوا جميعهم متأكدين ان تلك السنة هي المرة الأولى والأخيرة التي تأتي بها السيدة الصغيرة الى المخيم ...أما انا قدماي أخذاني الى هذا المكان.....شعرت اني مُسيّر دون معرفة السبب ...راودتني تساؤلات كثيرة...هل يا ترى ستأتي مجدداً؟؟ هل تغيرت ؟؟ هل تبدلت السماء في عينيها من النهار الى الليل ؟؟ هل تذكرنا ام كنا كغبار عابر في طريقها؟؟....في البداية كنتُ أحسبها كشقيقتي او كـ(سلمى)...لكني كل يوم اكتشف أنني أغرق في سحر عينيها ...لا نوايا خبيثة او مشبوهة ...حاشى لله...انما بهما سر يزيد من وجيب قلبي !! والى الآن لم استطع أن احدد مكانتها عندي..!!...

انتهت حملة التحقيقات في عقلي عند سماعي أبواب المركبات تطرق.....

السيدة (فاتن) تترجل من سيارتها بكامل اناقتها وبشاشة وجهها!!...تبعتاها قدمان صغيرتان , تنتعلان حذاءً ناصع البياض , وما ان وطأتا الأرض لتظهر (ألمى) بطلتها البهية وعينيها السماوية...ترتدي فستاناً من الحرير مرآة لسماءيها , وعلى خصرها النحيل شريط ابيض ...شعرها ازداد طولاً وغرتها تحفّ حاجبيها كما هي ...وبدا لي جليّاً ان ساقيها ازدادا طولا ايضا بضع سنتمترات ....

أفواه فاغرة ....عيون جاحظة ...هي الحالة التي انتابت سكان المخيم بعد رؤيتهم تلك السيدة الصغيرة.....
(دنيا وسلمى ) قفزتا فرحاً فما زالتا تذكرانها حتى بعد عامين على لقائهما ....أسرعتا نحوها لاستقبالها بعفوية وبراءة ولحقت بهما (سلوى) شقيقة (سلمى) التي أصبحت في السنة الثالثة من العمر....كنتُ أقف ممسكاً بالعقد الذهبي ,اراقب الاحداث عن قرب لكني احجب نفسي عنهم.....ملامح وجهها كانت اكثر براءة وتواضع , أما الآن تقف بعنفوان ,ترفع ذقنها بعلياء ولم تهتم للواتي وقفن امامها...كانت تنصب أنامل قدميها لترتفع اكثر ....تبحث عن شيء ابعد منها.....
اقتربت منها الصغيرة (سلوى) لتلمس فستانها الناعم.....فهكذا الفتيات بمختلف الأعمار....الفساتين , الاكسسوارات , زينة الوجه هي اكثر ما تجذب انظارهن....مسكت الفستان ببراءتها تتحسسه , ومن غير قصد وطئت قدمها الملطخة بأوساخ المخيم حذاء ابنة الوزير وعلِقَ ما علق به...وبدون سابق انذار وبكل غرور وقسوة دفعتها الى الخلف لتسقط...ثم زفرت بتأفف واشمئزاز شاتمة بلغتها الجديدة :

" idiot"(حمقاء)

" insect"(حشرة)

" ماذا فعلتِ يا هذه؟...هيا نظفيه فوراً "

يبدو ان هذا التعليم العالي الذي تدرسه في الغرب!!...

لسماعي بما تفوهت بحماقة ...اتقدت النيران في عروقي ...تحولت من هادئ الى ثائر....تبدلت نظراتي لها في الحال من اشتياق ولهفة الى احتقار ونفور..
وضعتُ العقد في جيبي ومشيتُ مسرعاً في خطواتي ممسكاً بالصغيرة قبل ان تنحني أمام سمو الملكة المغرورة ...رفعتْ رأسها عند ظهوري شامخاً امامها ...توسعت حدقتيها بهجةً وكأنها وجدت ضالتها وما كانت تبحث عنه قبل قليل...همست بخجل تتغنّج :

" هااادي ..كنتُ ابحثُ عنك...أنا لم أنساك "

ثم مدت يدها لتصافحني ....لكني تَرَكتُها معلّقة في حبال الهواء بعد ان أوليتها ظهري ساحباً الصغيرات معي دون أن أعيرها أي اهتمام لأشعرها بدناءة فعلتها ....

هل ظنت أني سأسمح لها بإهانة صغيراتي تلك المدللة المغرورة؟؟!!

اختفت ثلوج وجهها مع تحولها لجبل بركاني مشتعل بالحمرة ...جزّت اسنانها بكيد وشدت قبضتيها حتى كادت تتقطع اوتارها ....ضربت قدمها بالأرض وعادت أدراجها مُحرجة تتمنى ان تنشق الأرض وتبتلعها لتنتظر خالتها في السيارة حتى تنتهي من لقائها....
رافقتني الصغيرات الى طرف الساحة بالقرب من مركبات ضيوف المخيم.....جلستُ على حافة جدار وأجلست (سلوى) في حضني أطبطب عليها بحنان...اعطيتها هاتفي لتلعب به حتى تهدأ .....اوصيتهن بعدم الذل والخضوع لأي شخص مهما كان , فكلنا سواسية ولا فرق لعربيّ على أعجميّ الا بالتقوى....
وعدتهن بشراء فساتين جميلة لهن على العيد القريب....ثم اصطحبتهن للبقالة القريبة في جانب المخيم .....
كانت ( ألمى) تراقبنا وتنظر لنا ومُقلَتيها محتقنه بالدموع من خلف الزجاج الأسود لسيارتها ...الغيرة تنهش أحشائها بسبب اهتمامي بهن وتجاهلي لها....
انتهى لقاء السيدة(فاتن) وانصرفت بقافلتها دون أن أعيد الأمانة (العقد الذهبي) لصاحبتها, سمو الملكة...نكايةً بها !!

~~~~~~~~~~~~~~~

بعد دخولها القصر , ارتمت على الأريكة القريبة , تحدّق بالسقف , محبطة , حزينة ..لم تتخيل ان يكون اللقاء الذي توقعت ان تعود منه محلّقة بالسماء هو نفسه الذي أرداها الى قعر الأرض , حتى انها لم يؤنبها ضميرها على فعلتها المهينة وأظن انها ممتنة من تصرفها فهي تطبّق ما يعلمونها إياه من عنصرية وتفرقة بين الطبقات ...

" لمَ عاملني هكذا ولم يهتم بي ؟"

سألت خالتها الواقفة جانبها وهي تضع يدها على ياقة فستانها تعبث بها بتوتر دون ان تبعد نظرها عن السقف....

ردت عليها باستياء من تصرفاتها :

" أنسيتِ تصرفك ألمى ؟...منذ متى تعاملين الناس بعنجهية وغرور ؟! أم ان والدك نجح بزرع مبادئه في شخصيتك كما يرغب.....ثم هذا ما كان يجب حدوثه , فأنا حذرتك من الابتعاد عني او الاقتراب من أي شخص كان"

عدلت جلستها , تبعد غرتها عن جبينها بغلّ وقالت:

" لم أفعل شيئاً خاطئاً ....ومادام الأمر كذلك سأستمر كما يريد أبي ففي كل الحالات لا خيارات لديّ وسأعيش منبوذة ....أو محرومة مما انا ارغب به واتمناه...."

انتصبت بوقفتها وعيناها تقدح شرراً وهتفت بحقد طفولي :

" بدأت اكره تلك الفتيات اللواتي يحظيْنَ برفقة ذلك الهادي ...لِمَ ليكن لهن وحدهن ؟!"

تنهدت خالتها تهز رأسها رافضة كلماتها وهمست بضيق:

" هداكِ الله يا صغيرتي"

ثم تركتها قاصدة غرفتها.....

جلست (ألمى) على طرف الأريكة تنظر للفراغ أمامها تفكر وبعد لحظات نهضت متجهة الى حاسوبها في غرفتها لمحادثة(صلاح) الذي باتَ صديقها المقرب منذ سفرهم الى كندا , فهي تثق به وتشكي له همومها وتخبره بكل شيء متعلق بها....لقد اصبح ملاذها في غربتها , يستمع لها بكل حب من غير ملل ويهتم بها بإخلاص....

×
×
×

مكثت في قصر والدها اسبوعين فقط , رغم انها في إجازة لمدة شهرين ....لقد طلبت من والدها العودة الى كندا حيث هناك زملائها واصدقائها بعد ان شعرت انها سجينة القصر لا تفعل شيئاً يحمّسها للبقاء هنا....

~~~~~~~~~~~~~~~

أشرقت شمس يوم جديد بعد سنه مضت , أتممتُ بها من العمر ثمانية عشر عاماً.....أنهيت خلالها ثانويتي بتفوق وبدأت الاستعداد للجامعة.....
كنتُ جالساً على كرسي خارج الخيمة أعبث بهاتفي بعد ان انهيت محادثتي مع صديقي (سامي) الذي حصلتُ على رقمه في الآونة الأخيرة......فجأة وصلتني رسالة من السيد(ماجد) يطلب مني الالتقاء به بسرية عند الوادي القريب....
استأذنت والدتي مدّعياً التجول لشعوري بالضجر.....بعد ان وصلت حيث كان ينتظرني وتبادلنا التحيات....أخرج من سيارته صندوقا خشبياً صغيراً ومدّه نحوي قائلاً:

" تفضل هذه الأمانة....لقد حان وقت استلامها "


حدّقت بالصندوق ثم أعدت نظري اليه بتساؤل :

" ما هذا ؟"

جلس على صخرة طرف الوادي وبدأ يسرد لي حكايته ...كان قد استلمه من السيد(سليم الأسمر) بعد أسبوع من استشهاد والدي بعد التقائهم في الغرفة السرية في مرآب شركته والتي شهدت التقاء الثوار الأبطال لتخطيط عملياتهم الكبيرة والصغيرة ضد الخونة والأعداء على مرّ السنين.....

" هذا يخصّ والدك رحمه الله....وضع به وصيته لك ومذكرة تحتوي على أسماء الخونة برموز مشفرة حرصاً ان وقعت بيد احد عن طريق الخطأ وكذلك السيد سليم وضع بالصندوق مفتاح الغرفة السرية وخارطة برموز ايضا ترشدك لجميع المخابئ السرية للأسلحة وغيرها ..."

رمقته بنظرات فارغة مما سمعت فضحك وقال محركاً سبابته مازحاً بوَعيد:

" لا تنكر معرفتك بفك الرموز...لقد اخبرني ان والدك علّمك كل هذا وانك بعبقريتك ستستطيع حلها دون أي مجهود "

نهض من مكانه ينفض اثار الغبار عن بنطاله وقال :

" الان الصندوق في امانتك....حافظ عليه كعائلتك ولا تخبر أحداً حتى امك بما دار بيننا"

أخرج ورقة من جيبه وأردف :

" خذ هذه.. ورقة القبول لجامعة (...) الرائدة في تعليم إدارة الأعمال بأعلى مستوى"

اخذتها شاكرا اهتمامه وسألت:

" متى سأبدأ؟"


" في بداية أيار بإذن الله بالمجموعة الصيفية...سيكون فصلاً تمهيدياً....دعني اذهب الان لأرتب بعض الأمور..."

سار خطوتين ..توقف صافعاً جبينه واستدار نحوي قائلاً:

" اه تذكرت...في شهر آب ستذهب الى الحدود للمعسكر الخاص بنا لتتمرن مع جيش الثوار وايّاك ان تحدّث احداً بهذا.....وسيكون هذا نظامك على مدار اربع سنوات حتى تنهي جامعتك....سأخبرك لاحقاً بحجّة غيابك "

احتضنتُ الصندوق بعد انصرافه وشرعت في تقبيله واشتمامه لابتلع نفحات من رائحة الغالي....

بعد عودتي لخيمتي خبأت الصندوق فأقبلت امي نحوي تسالني :

" ماذا كان يريد السيد ماجد ؟..لقد رأيت سيارته على طرف المخيم "

ابتلعت ارتباكي من سؤالها لأني لم اعتد على إخفاء شيء عنها واجبت :

" لقد جلب لي ورقة القبول للجامعة "

تزيّن وجهي بتباشير الانشراح وتابعت :

" آه اماه ..انها ليست أي جامعة , انها جامعة(...) من اشهر جامعات إدارة الاعمال التي يرتادها وينتسب لها أناس مهمون ومن ارقى المجتمعات من شتّى بقاع الأرض"

اتسعت عيناها متفاجئة وقالت :

" إدارة الاعمال؟!......لطالما كان حلمك الهندسة !!"

أجبتها متهرباً من نظراتها :

" هذا المجال ناجح اكثر وقررت ان أكون مثل والدي رحمه الله.."

تلألأت دموع الفرح في مقلتيها وضمتني الى صدرها وهمست بحنوٍ:

" وفقك الله بني وسدد خطاك...انت كذلك مهم بل الأهم بينهم....لا تصغّر من شأنك...لا تنسَ انك ابن القائد محيي الدين الشامي مهما اختلف عليك الزمان والمكان.."

حوطت وجنتيها بيديّ وقبّلت جبينها قائلاً بصوت واثق :

" لا تخافي يا امي , مهما كبرت ومهما تبدّل حالي وحتى اذا وصلت الى قمم الجبال او لامست الشمس , سيبقى اسم والدي وساماً على صدري ينبض به قلبي ويجري به دمي..."

استلقيت على فراشي الأرضي بعد ان تركتني امي ... أخرجت ورقة القبول لأتفحصها وأقرأ تفاصيلها.....ثم جحظت عيناي مصدوماً بالمكتوب عليها .....

~~~~~~~~~~~~

" اخبريني حالاً ماذا قال ؟..كنتُ اودّ رؤية وجهه بعد قراءة مقالي "

كانت تجلس ترتدي منامتها ....تتربع على اريكتها في شقتها ..تضحك .....تسأل صديقتها التي زارتها بعد ان نشرت مقالاً ساخراً بأسماء مستعارة لرجال اعمال وشخصيات سياسية تقصدها ومن ضمنهم(عاصي رضا) .....لقد قررت السيدة(فاتن) زيارتها لتخبرها بردة فعله وبما يجول في فكرها....

أطلقت ضحكات تمسك بطنها على ما كتب بالمقال....تحني جسدها ..ترفع سبابتها امام السيدة(ايمان) بتهديد ساخرة :

" انت تلعبين بالنار فاحذري.....لن يصمت"

هزت رأسها تنفض شعرها القصير واخرجت الربطة من معصمها تجمعه للأعلى بعد ان شعرت بالحرارة تحرقها من شدة الضحك وقالت :

" لا اظن انه غبي لهذه الدرجة ...فان هاجمني سيكشف نفسه ويثبت صحة اقوالي "

أسندت ظهرها لظهر الأريكة ...رفعت قدميها تريحهما على الطاولة أمامها ...فهكذا عندما تكون في بيت صديقتها تأخذ راحتها اكثر من المكان الذي تسكن فيه وقالت ضاحكة:

" صحيح...لقد سمعته يهاتف المحامي الخاص به وطلب منه الّا يفعل شيئاً حيال الموضوع ويتجاهله..."

وضعت كفها امام فمها تسعل من الضحك وأضافت:

" لكنه يحترق من الداخل ووجهه يصدر الوان قوس الرحمن....لم يهنأ بطعامه ويلقي كل ما يعرقل طريقه....والافعى زوجته تتحايده خوفاً على نفسها "

بعد فقرة القهقهات....حضّرت السيدة (ايمان) كأسين من الشاي مع كعك صنعته بيدها فهي ماهرة بذلك خلافاً لضيفتها...جلست بهدوء وسألت بجدية :

" وانت ماذا ستفعلين ومتى ستتحركين؟؟"

سرحت بالفراغ للحظات تجمع افكارها وقالت ما أتى في بالها منذ أيام:

" أفكر بالاعتماد على الثوار في مسألتي....آن الأوان لنتصرف ونتقدم "

سألتها بتعجب:

" الثوار؟ كيف؟؟"

ردت بهدوء حائرة :

" خلال زياراتي المتعددة للمخيم , كنت التقي هناك برجل يدعى ماجد وعلمتُ لاحقا بطرقي الخاصة انه من الثوار!!...لكن ما يحيرني هو اهتمامه الشديد بعائلة ام هادي دون وجود صلة قرابة "

ضحكت السيدة (ايمان ) بمكر وقالت:

" ربما يهتم بالسيدة مريم "


" أبداً...يعاملهم بأخوة واحترام ...انه رجلٌ متزوجٌ ولديه ولدين وملتزماً في دينه "

أكملت ضاحكة:

" الشرع حلل أربعة "

اجابت بجدية:

" لا صدقيني....اعتقد يخفي شيئاً او يحمل رسالة...هو رجل جدي وصارم وعندما ترينه تعتقدين انه يحمل جبالاً من المسؤوليات والهموم..."

قالت السيدة(ايمان):

" ممم....لمَ اذاً لا تواجهيه وتسألينه مباشرةً او حتى تستفسري عنه من عائشة ومريم "

اجابت:

" هو رجل ذكي ..لمَ سيثق بي بسهولة؟...يجب ان يكون معي سند قوي اعتمد عليه ليثق بي....وكذلك عائشة ومريم اراهما متكتمتين عن ماضيهما "

هتفت السيدة(ايمان):

" صورة لوالدك!!"

تبسمت السيدة(فاتن)بارتياح وقالت :

" نعم لقد أصبتِ...اشكرك..."

مدت يدها تضعها على يد صديقتها تنظر لها بامتنان وأكملت:

" لولاكِ لما خطر في بالي هذا الشيء"

~~~~~~~~~~~~

(يامن إبراهيم الهاشمي)
لمن هذا الاسم ؟؟...تساءلت مستغرباً!!...يبدو ان السيد(ماجد) سلّمني ورقة ليست لي عن طريق الخطأ...تمتمت بهدوء محدثاً نفسي " آه سيد ماجد , لقد جلبت لي ورقة تابعة لشخص آخر...ستضطر للعودة هنا مجدداً"
رفعت هاتفي اتصل به وبعد السلام قال :

" خيرٌ ان شاء الله أيها الهادي ؟؟َ!!"

قلت:

" لقد اعطيتني ورقة لشخص اخر "

ضحك بمكر وقال:

" لا ..هذه لك ...فقط ابدلنا الاسم وتاريخ الميلاد "

قلت بضيق ونبرة حادة:

" لا اقبل بذلك ولن اتخلى عن اسمي واسم والدي"

" اهدأ يا هادي...هذا جزء من الخطة ....لا تستطيع التنقل والانخراط بمجتمعهم باسم والدك الحقيقي ...فهو اشهر من نار على علم وهكذا سيكشف كل شيء "

قلت مستنكراً:

" ووالدتي ؟؟ ماذا سأقول لها ؟؟"

أجاب:

" سأشرح لها هذا بطريقتي لا تقلق!! المهم ان لا تذكر شيئاً من اتفاقنا حتى نقرر ذلك"

قلت على مضض:

" حسنا...كما تريد"

انهيتُ المكالمة محدقا بالورقة من جديد بعد ان خمد حماسي بتغيير اسمي....

×
×
×

حلّ الليل علينا والهدوء سيد الموقف في المخيم....انهم أناس يشقون بالنهار...يجاهدون للحصول على لقيمات للعيش بعزة وكرامة....امهات تعاني من صعوبة التربية في هذه الأوضاع والتأقلم مع هكذا مستوى معيشة تفتقر الى ادنى مقومات الحياة العصرية...كأن الزمن تقدم مع الجميع لينعموا بوسائل الراحة , اما نحن توقف بنا وحتى اعادنا للخلف يمنع عنا أي تطور....!!
في خيمتنا الجميع نيام الّا انا جافاني!! كنت انتظر الوقت المناسب لفتح الصندوق ورؤية ما بداخله بكل لهفةٍ وشوق....
فتحته وسلّطت كاشف هاتفي على ورقة اخرجتها منه وإذ بها وصية والدي....

[[ بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...
ابني الغالي هادي, عندما تقرأ هذه الوصية اكون بإذن الله بين يديه...
اوصيك عزيزي بتقوى الله والالتزام بتعاليم ديننا الحنيف مهما زينت لك الدنيا من الشهوات والفتن ..ثم اوصيك بالحفاظ على عائلتنا لأنك رجل البيت من بعدي....
أنا اعلم انها مسؤولية كبيرة وثقيلة على عاتقك , لكني على ثقة أنك آهِلاً لها , فأنا ربيت فيك الشجاعة, النخوة , الصبر وتحمل الصعاب...
أما بعد....
الوطن ثم الوطن.....أنت تعلم نضالي وكفاحي من اجله لنظهر الحق فيه.....فتأتي أجيال وتذهب أخرى وشياطين الانس بيننا وعلينا محاربتها بالجهاد وإظهار الحق ونصرة المظلوم كما نحارب شياطين الجن بالقران والعبادات....
لذا اطلب منك اكمال طريقي باتّباع السيد (سليم الأسمر) اذا اكرمه الله بطول العمر ...ليرشدك الى هدفنا وهو الخائن الأكبر (عاصي رضا) بائع الوطن وشرفائه , مهما بلغ بك الحال ولو اضطررت لوضع يدك بيده.....سأترك لك مع وصيتي مذكرتي التي بها أسماء داعميه برموز مشفرة....
وأخيراً اسأل الله لك الخير وان يسدد خطاك ويوفقك لما يحبه ويرضاه....
احبكم ودمتم في رعاية الله....
(محيي الدين الشامي).......]]

قرأتها وانا غارق في دموعي...لم اتمالك نفسي ...كنت استشعر نبرة صوته في كل كلمة وحرف...أراه شامخاً أمامي مرفوع الهامة , يرتدي لباس الثوّار وعهده(البندقية) على كتفه ...بدأت قراءتها بلهفة حتى كاد يتوقف قلبي عن خفقانه عندما وصلت الى ذلك الاسم الدخيل الذي شوّهَ كل المعاني الجميلة...اسم زلزل كياني ....توقفت جميع حواسي وعدت للتدقيق بحروفه...اقرأ من جديد علّني مخطئ!! لكن تأبى الحروف ان تتبدل وبقيت كما هي تدمغ بـِاسم (عاصي رضا) وصدى تأثيرها يبعثر أفكاري....يارب....هل الدنيا صغيرة بالفعل ليكون والد مَن لجأت لسمائها محلّقاً ومَن غيرت نغمات قلبي هو اكبر خائن للوطن.....هذا ولم اكن أعلم بعد ما بانتظاري!!

أشرت لاسم السيد(ماجد) على الهاتف لاتصل به...اني اختنق واحترق... اشعر انني أتدلّى فوق فوهة بركان....اغلقته واعدته مجددا لجانبي فالوقت متأخر وسأنتظر للصباح بنفاذ صبري....

×
×
×

انقضى الليل حاملاً أسراره وأتى النهار يوزع أنواره.....أصبحنا واصبح الملك لله...
يوم جديد في مخيمنا الجميل....أصوات الباعة تصدح...ضحكات الصغار تنتشر في ارجائه تحمل معها آمالهم ليومهم هذا....
أما انا انظر الى عــقارب الساعة التي التصقت مكانها من غير حراك....اتأفف منزعجاً ...اريد ان اتصل والوقت مازال باكراً....كانت امي تحاول ايقاظ شقيقتي :

" هيا يا دنيا ستتأخرين عن دروسك "

تمتمت(دنيا)بكسل :

" اتركيني امي قليلا ارجوك....فقط خمس دقائق "

سحبت الغطاء عنها حانقة ,تقول لخالتي :

" لقد سئمت من هذه الكسولة...تستنزف طاقتي من بداية اليوم ..لا ادري ماذا سأفعل بها ؟"

قالت خالتي بمكر :

" ليتولّى هادي ايقاظها "

قفزت (دنيا) بفزع متوسلة وكأنها ليست هي من كانت مغمى عليها قبل قليل :
" لا خالتي ارجوك...انت ايقظيني...امي.....شادي.....خالت? ? فاطمة....حتى عمي فتحي البقال....اي شخص ترغبين ولو من الشارع...الّا هادي "

ضحكت خالتي وامي تحدّق بها بدهشة متسائلة :

" ماذا يجري هنا ؟؟ انا لا افهم شيئاً"

اجابت خالتي وهي تلقط أنفاسها من شدة الضحك :

" الأسبوع الماضي عندما ذهبتِ باكراً لام سلمى..ارهقتني بإيقاظها وطلبت من هادي مساعدتي...فذهب الى الخارج ...احضر صرصوراً ووضعه على مخدتها وقال لها بهدوء ان تنظر لجانبها ففزعت وجهزت نفسها في لحظات..."

ضحكتا معاً والمشاغبة تنظر اليهما بغيظ ثم تركتنا تجهّز نفسها....
طلبت مني امي مرافقتها لمركز البلد لشراء أغراض تحتاجها وملابس جديدة لي مناسبة للجامعة من المال الذي إذخرته من اعمالها اليدوية.....
استأذنتها بتأجيل المشوار لبعد الظهيرة حتى انتهي من لقائي بالسيد(ماجد)..

~~~~~~~~~~~~~

" ما علاقة عاصي رضا بوالدي ؟"

سألت الجالس امامي في مقهى توجهنا له لنتكلم براحة بعيدا عن المخيم....

أجابني بهدوء :

" سأخبرك بكل ما حدث حتى استشهاد والدك....بشرط ان تتمالك نفسك ولا تثير شوشرة هنا ولا ان تتهور حتى لا تُؤثر على سير مخططنا"

توهّج وجهي رهبةً مما سأسمعه وقلت مجبراً:

" سأحاول ....لا اعدك"

قال ببرود:

" اذاً لا داعي لإخبارك"

زفرت انفاسي المتقدة ...نهضت من مكاني قاصداً الحمام لأُطفئ بالماء البارد الجمرات المشتعلة في احشائي ولهيبها يصل للخارج ...عدت مجدداً أحاول السيطرة على اعصابي ...

" اعدك....هيا اخبرني"

رشف رشفة من فنجانه القهوة...اسند ظهره للخلف وحدثني بهدوء :

"ذاك المدعو عاصي... من سنوات بعيدة.. ادخله مدير عمله عالم الثوار بسبب شجاعته وذكائه...التقى بوالدك وكوّنا كتيبة كبيرة تحت اشرافهما....بعد مدة قصيرة بدأ يظهر عليه الغنى مع ان عمله بسيط....ولم يعد يلتزم بالكتيبة مثلما كان متحمساً في البداية....مما جعل والدك يضعه بدائرة الاشتباه...راقبه بحذر ليكتشف انه يقبض مبالغ كبيرة مقابل تسريب معلومات عن الثوار ومخططاتهم......بدأت العداوة بينهما ولم يستطع احد الوصول اليه مباشرة لأنه كان تحت حماية الدولة...لا اعلم ان كان متزوجاً حينها ام لا , لكنه بفترة قصيرة اصبح وزير الخارجية.....والدك كان عنيداً ولم يستسلم واراد معرفة المزيد من الحقائق عنه....فاكتشف خلال بحثه بطرقه الخاصة انه قام بصفقات كبيرة خارجية ضد الثوار والدولة والوطن ولم يعد ينتمي لأيّ منها بعد ان وعده الطرف الآخر بتعيينه بمنصب اكبر مما يطمح فيه , على شرط الانتقال الى دولة أخرى حتى تهدأ أوضاع البلاد....استقال من منصبه ودخل عالم رجال الاعمال وهو ينتظر المنصب الكبير...وما لم يكن بالحسبان تهديد والدك له بكشف أوراقه امام كبار الدولة عندما يحصل على ادلة موثقة.....أعماه الجشع وأكله الرعب وقرر القضاء على والدك لأنه الوحيد الذي وقف امامه...هدده وحاول اغتياله مرات عديدة ولم ينجح....حتى جاء ذلك اليوم .....بعد ان أصيب زياد صديق والدك , ترك المجموعة وحمله ليعالجه في اقرب مستوصف ميداني....انهكه التعب وفقد صديقه وهما في طريقهما ...واذ بقناص محترف يتربص له متخفيّا بلباس الثوار ..ضربه ليصيب قلبه , ثم اقترب منه يخبره ان نهايته كانت على يد سيده عاصي رضا ....تركه ينزف واختفى....
مرّ عليه شاب وهو طباخ الثوار, صدفةً....الشاب الذي جاءكم بسلاحه ومصحفه....كان في أنفاسه الأخيرة واخبره والدك بصعوبة بأن عاصي من فعلها وطلب منه اعلام السيد سليم الأسمر بأي طريقة وايصال اغراضه لكم....ثم نطق الشهادتين وخرجت روحه الى بارئها.."

انقطعت انفاسي من هول ما سمعت ....شعرت بالصداع...ضغطت على صدغيّ بيديّ ...بدأت افقد توازني...لا بد اني داخل كابوس...ما هذا الذي يقوله؟!....كادت عروقي تنفجر ...عيناي تخرج من مكانهما ....هو يتكلم وصورة ابي الجريح تظهر امامي ...يستنجد ....من يكون الكلب الحقير الذي تقاوى على اسدٍ منهك؟....هذا في كفة واسم ذلك الوغد النجس في كفة أخرى....آااه لو كان بين يديّ هذه اللحظة...لتفننت في قتله....طرقت الطاولة امامي في قبضتي واوداجي منتفخة...واخرجت من بين اسناني بنبرة حاقدة:

" الوغد..اللعين....سأجعله يتمنى الموت ولا يجده "

وضع يده على يدي التي لا اتحكم بارتجافها من شدة غيظي وقال:

" كل شيء في اوانه يا هادي..سيأتي ذلك اليوم باذن الله وسننتقم منه اشد انتقام!!...ربما أسوأ من الموت.."

انتظرنا ساعة أخرى حتى اهدأ وترتخي اعصابي قبل العودة للمخيم...غيّر السيد (ماجد) مجرى الحديث هاتفاً:

" كيف هي استعداداتك للجامعة؟"

اجبت بصوت محبط :

" كنت متحمساً لولا ما اخبرتني به للتو.."

قال:

" إنسَ يا هادي انا اخبرتك لتتقدم لا للعودة الى الصفر.."

قلت بضيق ناظرا لساعة هاتفي:

" يجب ان اعود للمخيم....امي بانتظاري للذهاب لشراء ملابس تناسب الجامعة"

تبسم ..ربت على كتفي وقال بصوت هادئ:

" كل شيء جاهز وبانتظار انتقالك الى بيتك الجديد"

سالت بتعجب من غير رغبة:

" بيتي الجديد؟ والمخيم؟؟"

أجاب بنبرة جادّة:

" ستترك الماضي وراءك....سيبقى هادي في المخيم وتبدأ حياة جديدة باسم يامن إبراهيم الهاشمي للانتقام وبعدها العودة للوطن باسمك الحقيقي قائداً للثورة اذا أراد الله ذلك"

قلت :

"اين سيكون بيتي؟؟ وما وضع عائلتي ؟؟"

قال:

" عائلتك ستبقى مكانها وسنهتم بهم اكثر من السابق...لا تشغل بالك وفكر فقط بالمهمة...اما بيتك الجديد سأصطحبك عصراً لتتعرف عليه.."

قلت باستياء:

" لكن....لا استطيع ان أعيش في بيت مريح واهلي بالمخيم!!"

أجاب مبتسماً:

" لا تقلق ..لفترة مؤقته فقط وبعدها ننقلهم لمكان مريح وآمن"

×
×
×

عدت الى المخيم لأرافق امي للتسوق واخبرتها ان ملابسي جاهزة من السيد(ماجد)....

~~~~~~~~~~~~

مواجهة السيد (ماجد) كان جلّ ما يشغل تفكيرها.....
أخرجت من درج خزانتها البوم الصور الخاص بعائلتها.....انتقت صورتين لوالدها وهو في اول شبابه وأخرى في سن الستين....وضعتهما في حقيبتها وخرجت مع سائقها تقصد المخيم....التقت بخالتي (مريم) وطلبت منها رقمه بحجّة احتياجها لمساعدته بشؤون اللاجئين......

بعد عودتها الى القصر...دخلت غرفتها ودقّت رقمه متحدثة بخفوت:

" مرحبا سيد ماجد ..انا فاتن صديقة السيدة عائشة والسيدة مريم.."

ردّ باستغراب:

" اهلا....هل من خدمة؟"

اجابت بصراحة دون مقدمات:

" اود الالتقاء بك لأمر هام...ان كنت متفرغاً"

"خيرٌ ان شاء الله...ما هو هذا الامر يا ترى"...شرد قليلا محدثا نفسه قبل ان يجيب:

" لا مشكلة...اين ومتى؟"

قالت براحة بعد ان خافت من صدّه لها :

" غداً , العاشرة صباحاً في مقهى الشروق مركز البلد.."

قال باقتضاب:

" حسناً سأكون بانتظارك"

~~~~~~~~~~~~

كان فكره مشوشاً...راودته الكثير من التساؤلات....رفع هاتفه يطلب صديقه علّه يوسع من افاق توقعاته...وبعد التحيات قال بصوت مندهش:

" لو تعلم من هاتفتني!"

اجابه السيد(سليم) متهكماً:

" الملكة اليزابيث؟!"

قال بجدية:

" فاتن شقيقة زوجة عاصي رضا "

سأل باعتراض.. مصدوماً:

"مــــن؟؟....ماذا تريد ؟"

أجاب بتيه :

" لا علم لي...ارادت الالتقاء لأمر هام"

هتف محذراً:

" احذر...ربما شكّوا في شيء....اياك الوقوع في مصيدتهم!!"

قال بثقة:

" بالطبع ...ماذا تظنني؟!....سأذهب ان شاء الله وأرى بكل حذر"

~~~~~~~~~~~~

" هل سأسكن في بيت لوحدي ؟"

سألت سؤالي وانا اتكئ على نافذة سيارته في طريقنا الى ذاك البيت..فأجاب مازحاً:

" لم؟ هل تخاف من الوحدة ؟"

عدلت جلستي ونظرت اليه قائلا بحيرة :

" لم اقصد ذلك....لكني اشعر بالضياع وغير مرتاح بافتراقي عن اهلي "

قال بلطف :

" اخبرتك الّا تفكر بعائلتك واطمئن....وسترى عند وصولنا ان كنت لوحدك او لا "

اعدت رأسي الى النافذة شارداً بمستقبلي المجهول وما ينتظرني في حياتي....

" أخيراً وصلنا..."

استقمت بجلستي بعد كلماته ...أحرك رأسي بجميع الاتجاهات...استغرقت الطريق حوالي نصف ساعة من المخيم الى البيت الجديد...نزلت من السيارة ببطء اتأمل بانبهار الذي اراه امامي...همست مندهشاً:

" ما شاء الله ....ماهذا القصر؟؟ وما هذه الحديقة؟؟ انه يشبه القصور في عالم الخيال!!"
وقفتُ منتصباً متسائلاً بجدية:

" لمَ أتينا الى هنا وأين البيت الذي سأسكن فيه ؟!"

ارتسمت ابتسامة لطيفة على وجهه وقال :

" اتبعني الى الداخل وستعرف كل شيء "

ولجنا الى جوف القصر العريق...تصميماته منتهى الفخامة...جلسنا على أريكة في بهوه ..كانت ملوكية ربما من زمن السلاطين!!.....دقائق قليلة والتفتّ الى مصدر الصوت الذي كسر الهدوء وهي خبطات قدمين قادمتين نحونا وإذ بها لرجلٍ ضخم البنية في بداية العقد الخامس...يبدو عليه القوة والصلابة لكن عينيه غارقتين في الحزن.....تصافحنا وجلس مقابلاً لنا...كان يتأملني بصمت للحظات....خطّ بسمة خفيفة تخفي ألمه هامساً:

" واخيراً رايتك يا ابن محيي الدين "

التفتّ للسيد (ماجد)..رمقته بتعجب واستغراب فضحك الرجل وقال :

" لا تستغرب يا ابني...انا اعرفك جيداً منذ ان ولدت...لكن لم يشأ لنا القدر الالتقاء الى هذه اللحظة"

قلت بتردد:

"كـ....كيف تعرفني ومن انت؟"

امسك السيد(ماجد) يدي يشد بقبضته عليها ليطمئنني هامسا بلطف:

" اهدأ يا هادي...سيخبرك عمك إبراهيم بكل شيء!!"

تنهد السيد(إبراهيم)..ارخى ذراعيه على ساقيه واسند ظهره للأريكة ثم قال بحنان وحنين:
" انا صديق والدك من أيام الثانوية.....تفرقنا بعد ان قرر والدي الهجرة الى دولة مجاورة حيث يتواجد أخيه الكبير ووالدته لمساعدته بشركات العائلة.....افترقنا جسدياً لكنا استمرينا بالتواصل عن بعد عبر الهاتف والرسائل....اقنعته للقدوم عندنا لنلتحق بنفس الجامعة....عشنا معا اجمل أيام عمرنا....كنا نتشابه بنفس الميول والمبادئ...اسسنا انفسنا وفتحنا اول شركة لنا.... عاد والدك للبلاد والتحق بجيش الدولة لثلاث سنوات حتى حاز على ترقيات , بعدها تزوج والدتك وانا تزوجت ابنة عمي....زرنا بعضنا ونساءنا حوامل ...ترك والدك منصبه ثم انقطعنا عن الزيارات لانشغال كل منا بعمله وعائلته بعد ان اصبح لكل منا شركته الخاصة ..."

صمت للحظات يبتلع ريقه ويلقط أنفاسه ثم استأنف:

" عندما كان ابني في الخامسة من عمره ...اكتشفنا انه يعاني من فشل كلوي....كان يوما اسوداً في عمري...توقفت عن الحياة....أهملت صفقاتي...تألمت كثيرا حد الموت ...وقف والدك بجانبي وآزرني....اخرجني من حالتي ودفعني لأمضي قدماً بإعطائي امالا جميلة واننا سنجد له كلية تناسبه ويتعافى....حتى انه كان يترك اعماله ويقوم ببعض اعمالي من بعيد حماية لي من الإفلاس...مرت شهور ونحن نبحث من مشفى لآخر ولم نجد ما يناسبه , فخطف والدك نفسه لزيارتنا بعد ان أغلقت الأبواب في وجوهنا والوقت يداهمنا بسبب فصيلة دمه
والتي تستقبل فقط متبرع من نفس الفصيلة........(O)
.كان طبيب العائلة موكلاً بالبحث بالتفاصيل ولم نذكر يوماً نوع فصيلة دمه امام والدك....اقترح والدك ان نوسع نطاق بحثنا لبلاد مجاورة فأخذ معه نسخ من الملف الطبي وعاد ليستشير طبيباً في الوطن , تفاجأ انه نفس فصيلته وصمم على التبرع بكليته بعد ان اجرى عدة فحوصات ليتأكد من حالته الصحية.....نزلت كلماته بقراره هذا في اذني كالغريق الذي كان يلتقط اخر أنفاسه ليفارق الحياة وجاء من ينتشله ويسحبه الى بر الأمان في اللحظة الأخيرة..."

تبسّم ومع بسمته فرّت دمعة امتنان من عينه وقال بصوت مخنوق:

" كان والدك المنقذ لابني....لو فديته بحياتي لا اوفيه حقه "

تأثرت بداية من حكايته لكن موقف ابي حملني من عالم الآلام الى عالم الآمال الجميلة...تنحنحت وسألت:

" اين ابنك الان؟"

أسبل عينيه ورد بنبرة حزينة:

" كبر ابني امامي وهو بكامل الصحة حتى اتم الخامسة عشر عاماً...كنت وقتها في البلاد احارب مع والدك واصدقائنا الثوار..."

قاطعته سائلاً:

" هل كنت أيضا في صف الثوار؟؟"

اومأ براسه مؤكدا وقال:

" بعد ان نجحت عملية ابني انضممت لهم عندما رأيت شهامة والدك وانتصاراته في معاركه .....ويبقى الوطن وطني لو كنت بعيداً عنه.."

تنهد يزفر أنفاسه وتابع :

" اضطرت زوجتي للحاق بي مع ولديّ وقبل وصولهم المطار..."

ابتلع غصة في حلقه وأكمل بصوت متحشرج:

" تفجرت مركبتهم على يديّ جاسوس نذل يعمل لصالح الخونة....كان هذا بعد وفاة والدك بأسبوع.."

ازدردت ريقي وقلت بصدمة :

" كيف وصلوا لهم؟؟"

صكّ على اسنانه وقال بقهر:

" علموا انني ادعم الثوار ماديا وهددوني كثيرا لكني لم ابالي...وفي النهاية حققوا مرادهم الاوغاد.."

اخفض رأسه وساد صمت رهيب ...كبح جماح نفسه واخرج صوته بصعوبة :

"حتى اننا لم نستطع جمع اشلائهم"

مسكين هذا الرجل كم عانى في حياته!!...من يرى مصائب غيره تهون عليه مصائبه!!....تعاطفت معه بسبب قصته وشعرت بالقرب منه لربما بسبب علاقته بأبي...نهضت من مكاني مقبلاً نحوه....جلست بجانبه لمواساته بعد رؤية الدموع التي كابد على اخفائها...ربتّ على كتفه برقة هامساً :

" رحمهم الله يا عمي....شهداء بإذن الله...لا تحزن....هنيئاً لهم "

التفت نحوي ...جاهد على رسم ابتسامة في زاوية فمه يجاملني برقيّ...وضع يده على ساقي قائلاً بصوت خافت :

" اسأل الله ان يجمعني بهم "

بعد دقائق صمت أشبه بالحداد على مآسينا التي نتبارز بها...عدت الى مكاني وسألت موجها كلامي للذي بجانبي :

" ما دوري انا الآن؟"

قال السيد(ماجد):

" ستكون يامن إبراهيم الهاشمي..."

أشار للمقابل لنا وأكمل:

" أي السيد إبراهيم هو والدك من هذه اللحظة "

سكتّ للحظة ثم قلت بحيرة :

" لي الشرف بذلك لكن....لكن ما الفرق ان كان هو احد الثوار مع والدي واسمه معروف للأعداء ايضاً؟؟...لم لا احمل اسم والدي؟!"

تبسم السيد(إبراهيم) وأجابني:

" اسمي الحقيقي إبراهيم الهلالي أبا احمد...هذا ما كنت أُعرف به....الاعداء ظنوا انني دخلت مصحة نفسية بعد حزني على فقدان عائلتي فوثّقت ذلك لصالحي بعد ان وضعت اسمي بشكل رسمي في احدى مصحات البلد التي كنت بها...وبعد أربعة اشهر بعت كل املاكي هناك وجئت الى هنا لتنفيذ خطتنا مع صديقنا السيد سليم الأسمر..."

صمت وحرّك راسه بشكل دائري مضيفاً:

" اشتريت هذا القصر من حوالي ثلاث سنوات تقريباً...غيرت هيأتي ...كنت اقرب للسمنة فاتبعت نظام غذائي ورياضي...حلقت شعري على الصفر واطلقت ذقني ..ثم دخلت عالم رجال الأعمال باسم (إبراهيم الهاشمي أبا يامن ) جاهدت وبمساعدة السيد سليم حتى لمع اسمي في عالمهم ووصل البلاد المجاورة بفضل الله.."


أنهى كلامه ليكمل السيد(ماجد) في تعليماته لي :

" خلال فترة دراستك ستمكث معه بصفتك ابنه ومن هنا سنوجهك اولاً بأول , انا والسيد إبراهيم بمساعدة السيد سليم الأسمر عن بعد.."

قاطعته قائلاً:

" وأمي كيف ستتقبل بعدي عنها ؟"

قال:

" سنعلمها انك تمكث عند صديق اعطاك اسمه لحمايتك ليس اكثر.."

اتفقنا على بركة الله على العودة الى هذا القصر في الأول من أيار لأبدأ بدراستي التمهيدية ...

~~~~~~~~~~~

" اراكَ سبقتني وما زال الوقت باكراً...ام غلبك الفضول ؟؟"

هتفت مازحة بعد ان وصلت المقهى المتفق عليه صباح اليوم التالي... مستقلّة سيارة اجرة تمويهاً لزوج شقيقتها خوفاً من مراقبته لها....

حاول ان يخفي حرجه من جملتها الصريحة المباغتة له:

" كان لي مشوار قريب وانهيته باكراً....نعم تفضلي "

سحبت كرسياً تجلس محاذية له وهمست بضعف:

" انا احتاج مساعدتك وأتمنى ان تثق بي!!"

قال بتعجب:

" تفضلي ان كنت استطيع..."

قالت ناظرة لباب المقهى:

" اصبر قليلاً...انا انتظر شخصاً اخراً.."

ارتبك السيد(ماجد) ...لقد قلق من ان يكون هذا الشخص هو (عاصي) وهذا ما لم يحسب حسابه....صحيح انه هو مخفي عن الأنظار وغير مشهور شكلياً واسمياً ويعمل بسرية تامة ولن يستطع التعرف عليه ان واجهه ....الا ان مجرد تفكيره بان يرى الوغد امامه شعر باضطراب معدته...

بعد قليل وصل الشخص المنتظر....صوب نظره متفاجئاً وقال :

" سيده ايــــمان ...ماذا تفعلين هنا ؟"

شهقت السيدة (ايمان) بعينين متسعتين سائلة باندهاش:

" أبا لؤي!!...هل انت السيد ماجد المقصود؟!"

تبسم قائلا بمرح بعد ان زال حمل جبال من الارتباك الذي مر به قبل قليل:

" طبعاً وهل يوجد غيري؟!"

ثم حرّك لها الكرسي لتجلس....اما السيدة(فاتن) كانت تشاهد بصمت مستغربة , مصدومة...لقد طلبت من صديقتها مساندتها بهذه المسألة ولم يخطر في بالها ولو بقدر ذرة انهما متقاربان لدرجة وكأنهما تناولا عشاءهما معا بالأمس ...رمشت تطرد اندهاشها وسالت بتردد:

" انتما!!...منذ متى تعرفان بعضكما؟"

واكملت مازحة:

" يبدو ان لا حاجة لي بينكما.."


ضحكا معاً واجابت صديقتها:

" هذا أبا لؤي بشحمه ولحمه الذي يأتيني بالمعلومات السرية التي انشرها فيما يخص الوطن , ابطاله وخائنيه.."

وضعت يدها على كتف صديقتها ثم تابعت وهي تنظر للسيد(ماجد):

" فاتن صديقتي المقربة التي لها افضال كثيرة بدعم صحيفتنا مادياً وايضاً تسرب لي معلومات مهمة بسرية "

كانت صدمة السيد(ماجد) من احتلت هذا اللقاء...فلم يتوقع بتاتاً ان تكون الصحفية الثائرة صديقة لاحد افراد عائلة (عاصي رضا)....

بعد ان استجمع أفكاره خارجاً من صدمته سال بفضول السيدة(فاتن):

" ما هو الأمر الذي جلبتني له؟؟"

شدّت على فكيها وقالت بحقد يظهر بحدقتيها المرتجفتين :

" اريد الانتقام من عاصي رضا...."

شعر انه يبتلع كرة مع ريقه من ذهوله بعد ما سمع من تصريح مباشر....لكنه تظاهر بالهدوء قائلاً:
" وما شأني انا بذلك؟"

قالت بثقة:

" أنت من الثوار...وانا احتاج مساعدة الثوار لكرههم له وكرهه لهم "

أشهرت سبابتها بمرح مردفة:

" لا يمكنك الانكار بانك لست منهم.....انا جمعت بعض المعلومات عنك وتأكدت من علاقتك بهم..."

أشارت لصديقتها وتابعت بانتصار:

" وها هو دليلٌ آخر...صلتك بصديقتي الداعمة الكبرى إعلاميا للثوار وشؤون اللاجئين.."

عدّل جلسته...تنحنح وقال بصوت أجش:

" ما هو سبب الانتقام؟"

قالت:

" شيءٌ خاص...اتركه لي"

هبّ السيد(ماجد) من مكانه دافعاً كرسيه للخلف مغتاظاً قائلاً بنبرة قاطعة:

" انتهى اللقاء!!"

تدّخلت السيدة(ايمان) هامسة:

" ارجوك أبا لؤي...اصبر قليلاً.."

ثم التفتت الى السيدة(فاتن) تمسك يدها مضيفة:

" وأنت يا فاتن كوني على ثقة به ولا تخفي شيئاً ليتسنّى له مساعدتك.."

قاطعها بلباقة:

" عذراً سيدة ايمان , انا لا اساعد شخصاً لا اثق به , ولكسب ثقتي شرطي هو الصدق والوضوح من غير تعتيم!!"

أخرجت الصورتين من حقيبتها ووضعتهما امامه من غير أن تهمس حرفاً.....مسكهما وحدقّ بهما للحظات محاولا البحث في ثنايا ذاكرته لمن تكون!! ...استقام بجلسته متأهباً وهتف ضارباً ذراع الكرسي بقبضته:

" القائد ياسين النجار رحمه الله!!"

ثبّت نظره على السيدة(فاتن) سائلا باستغراب:

" من اين لك هذه؟؟ كيف وصلتِ اليها؟"

ضحكت السيدة (ايمان) واجابت عنها مشيرة اليها:

" هو والدها....فاتن ياسين صبحي النجار"

تناول كأس ماء كان امامه وشربه برشفةٍ واحدة وهمس باضطراب وتشوش:

" لحظة....لحظة....انا لم استوعب بعد!!...كيف ومتى؟.....آه يا الهي ..ضعت...هل هو الشخص الذي ساعد عاصي رضا وزوجّه ابنته؟!!....لكن!!....لا ..لان زوجته تحمل كنية أخرى؟َ!....كيف وهي من المفروض ان تكون شقيقتك؟"

رسمت ابتسامة مجيبة لتبدد ضياعه:

" اختي سجلت باسم خالي علي عبّاس , لأن اهلي عند ولادتها وهبوها له ولزوجته لتكون ابنتهما بسبب حرمانهما من الأطفال....لكن شاء القدر اعطائهم ابناً بعد سنتين وعند بلوغهما لحرمة بقائها مع ابن خالها , اضطر خالي لإعادتها لابي وبقيت بالأوراق الرسمية تحت اسمه اهمالاً.."

كان يصغي لها بملامح مبهمة.....هم يعلمون ان رجلاً شهماً زوّج (عاصي) من ابنته لكن ما خفي عنهم ان يكون احد قادة الثورات سابقاً وقدوتهم في الماضي ...بينما هو في حالته هذه , تنحنحت السيدة(ايمان) مبتسمة هامسة:

" خذ وقتك لتستوعب أبا لؤي...فالصدمة الحقيقية لم تأتي بعد!!"

تنهد بعمق ....حكّ عنقه وهو يتأمل الصورتين أمامه...أعاد ظهره للوراء يعدّل جلسته وقال بصوت جهوري بعد ان غلبه الفضول اكثر بمعرفة خبايا وأسرار انتقامها :

" اخبريني قصتك .."




يتبع....

سبحان الله , الحمد لله , لا اله الا الله , الله اكبر



التعديل الأخير تم بواسطة ebti ; 30-10-21 الساعة 11:40 PM
ألحان الربيع متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 30-10-21, 02:28 AM   #70

موضى و راكان

نجم روايتي

alkap ~
 
الصورة الرمزية موضى و راكان

? العضوٌ??? » 314098
?  التسِجيلٌ » Mar 2014
? مشَارَ?اتْي » 6,242
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » موضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   cola
¬» قناتك max
?? ??? ~
سبحان الله وبحمده .. سبحان الله العظيم
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 8 ( الأعضاء 4 والزوار 4)

‏موضى و راكان, ‏ألحان الربيع, ‏Moon roro, ‏Nana96


آه منك يا ألحان قطعتى الفصل فى جزء مهم و لسوف نظل معلقين للغد حتى نعرف الحكاية من بدايتها

تسلمى يا جميلة


موضى و راكان غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:50 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.