شبكة روايتي الثقافية

شبكة روايتي الثقافية (https://www.rewity.com/forum/index.php)
-   الروايات الطويلة المكتملة المنفردة ( وحي الأعضاء ) (https://www.rewity.com/forum/f118/)
-   -   سَكَن رُوحِي * مكتملة **مميزة** (https://www.rewity.com/forum/t472579.html)

سعاد (أمواج أرجوانية) 15-08-20 12:50 AM

سَكَن رُوحِي * مكتملة **مميزة**
 

https://upload.rewity.com/uploads/154089255098181.gif

سكن روحي
https://upload.rewity.com/do.php?img=165495



السلام عليكن


أنا سعاد محمد هاكون معاكم إن شاء الله برواية سَكَن رُوحِي.. وأتمنى تعجبكم




**********

*المُقدِّمة*


"أمي!"

لم تلقِ بالا لأمر زوجة خالها الصارم بالانصراف ولا بدفع ابنتها لها تجاه الباب لتتقدم أكثر حتى مسَّت الفراش بإحدى ركبتيها مكررة:

_أمي، لِمَ تبكين؟

والصراخ انطلق من ابنة خالها وهي تلكزها بِعنف صائحة:

_أخرجي حالا!

مرة ثانية لم تهتم بِمَ تقوله وهي تتملص منها بينما دمعاتها تتسارع في الانهمار، وضعت يدها على كف والدتها وهي تسألها ببراءة:

_أمي هل أنتِ مريضة؟ هيا بنا نذهب إلى الطبيب إذن!

أخيراً نظرت لها أمها طويلا، فَتَسَمَّرَت وهي تبادلها النظر بتساؤل دهِش لِتشعر بذعر وذنب غير مبررين حينما نطقت أمها بعباراتها الأخيرة:

_أنتِ السبب، لو لم تولدي لما عانيت أنا طوال تلك السنوات ، ليتني لم أر وجهك أبدا، أنتِ السبب، الآن سأرتاح منكِ إلى الأبد.

ظلت الكلمات الغامضة تتردد بذهنها وهي تنقل نظراتها بين ثلاثتهن بذهول...

زوجة خالها تصرخ وتبكي..

"أنتِ السبب!"

ابنة خالها تدفعها وتسُبها..

"أنتِ السبب!"

أمها أرخت ذراعها ببطء شاخصة ببصرها إلى الأعلى وكانت آخر تمتماتها..

"أنتِ السبب!"...

تراجعت ببطء إلى الباب حتى اصطدمت بجسد صلب فالتفتت مذعورة مُحدِّقة بخالها الذي شحب وجهه وهو يتطلع إلى الفراش خلفها فَهَتَفَت به بِخوف:

_خالي، لِمَ أنا السبب؟ ماذا فعلت؟! ما بها أمي؟!

ربَّت خالها على رأسها ثم اندفع إلى الجسد المُسجى بالفراش مُرددا بخفوت:

_لست أنتِ السبب ، إنا لله وإنا إليه راجعون.

**********
https://scontent-mrs2-1.xx.fbcdn.net...07&oe=5F5BBBFA


روابط الفصول


المقدمة ..نفس المشاركة
الفصل 1 .. بالأسفل

الفصل 2
الفصل 3، 4 نفس الصفحة
الفصول 5، 6، 7، 8 نفس الصفحة
الفصل 9، 10 نفس الصفحة
الفصل 11، 12 نفس الصفحة
الفصل 13، 14 نفس الصفحة
الفصل 15، 16 نفس الصفحة
الفصل 17
الفصل 18
الفصل 19
الفصل العشرون الأخير والخاتمة

رابط التحميل
https://www.mediafire.com/file/9fnfj...%25AF.pdf/file



ضحى حماد 15-08-20 12:55 AM

يا هلا بالغالية والله
منورة وحي كلووووووووو
رواية رائعة جميلة جدا ولا يصدق انها روايتك الاولى
مليئة بالتشويق والغموض والاكشن ومخلوطة برومانسية حلوة
تحوي العديد من الرسائل والافكار الجميلة
مزيد من التطور والابداع يا عيوني
وناطرييييييييييييييييينك دووووووووووووم على نااااااااااااااااااااار

ألفففففففففففففف مبروووووووووووووووووووووو ووك
:wavetowel2::wavetowel2::wavetowel2::wavetowel2::w avetowel2::32-1-rewity::32-1-rewity::32-1-rewity::32-1-rewity::32-1-rewity::32-1-rewity::yaaaa::yaaaa::yaaaa::yaaaa::yaaaa::yaaaa:


ضحى حماد 15-08-20 12:58 AM

واول مشاهدة مني

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 5 ( الأعضاء 2 والزوار 3)
‏ضحى حماد, ‏سعاد (أمواج أرجوانية)

سعاد (أمواج أرجوانية) 15-08-20 01:14 AM

الفصل الأول
*البداية*
تَطَلَّعت إلى أركان الشقة_إن جاز التعبير_ باهتمام ظاهري، مُحاوِلَة إخفاء رجفة جسدها عن مُرافقها كي لا يستغل وضعها أكثر، جالت ببصرها على الجدران المُتسخة والبلاط العتيق، ثم انتقلت بعينيها إلى الطاولة التي تتوسط الغرفة الوحيدة بخشبها المتآكل وهي تلمح أحد أرجلها المائلة بوضوح، زفرت باستسلام واستدارت عائدة إلى الخارج مرة أخرى ترسم على وجهها لامبالاة وضيق مصطنعين متسائلة:
_ألا ترى أن الإيجار الذي تطلبه كثيرا يا حاج؟ إنها غرفة بسيطة بالطابق الأرضي.
عقد الرجل حاجبيه وهتف بنزق:
_ألا تعلمين يا آنسة كم ارتفعت أسعار إيجارات الxxxxات؟ ألا تدركين أن تلك الغرفة يأتيني زبائن يتوسلونني يوميا كي أوافق على تأجيرها لهم؟ إن ظللتِ تبحثين في المنطقة بأكملها لن تجدي مثل ذلك السعر الذي لا يعجبك.
اقتربت منه خطوتين قائلة بأسف:
_أعتذر يا حاج، لم أقصد أن أُقلل من قيمتها، لكن أعذرني، أنا لازلت ببداية حياتي ووحدي، كما أن عملي لا يـ.....
قاطعها بصرامة:
_ولهذا السبب بالتحديد يجب أن تشكرينني لأنني وافقت على تأجيرها لكِ في الأساس، فلن تجدي بسهولة من يسمح لفتاة وحيدة بالسكن في بناء سكني عائلي.
ازدردت لُعابها وأشاحت ببصرها بعيدا وتلميحه يصل إليها واضحاً، فقد رفض ثلاثة من أصحاب البناءات السكنية السماح لها بالتأجير لديهم بالفعل، فبمجرد أن يعلم المؤجِر أنها فتاة وحيدة يذهب ترحيبه بلا عودة.
رَفَعت رأسها تنظر له باستسلام قائلة:
_كما تريد، سأنتقل غدا بإذاً الله.
تنحنح بخشونة قائلاً:
_لا تنسِ دفع شهرين كمُقدم، كما أنني لا أسمح بتأخير الإيجار عن اليوم الثالث بالشهر.
وافقته بإيماءة بسيطة من رأسها ثم حيته وتجاوزته إلى الخارج.
**********
أغلقت حقيبة ملابسها ثم وضعتها بجوار الأخرى التي تحوي كتبها، جلست على فراشها منهكة وهي تُحدق في كل جزء بغرفتها البسيطة مبتسمة بشجن، على ذلك المكتب كانت تقضي لياليها ساهرة تذاكر دروسها، أمام تلك النافذة انتظرت بالساعات من يأتي وينتشلها من مأساتها، داخل تلك الخزانة اختبأت من زوجة خالها وهي تسعى خلفها بالعصا الغليظة، ثم انتقلت ببصرها إلى الفراش الذي تجلس فوقه فشابت ابتسامتها المرارة وهي تستأنف تأملاتها، كم من مرة تم عقابها بالنوم أسفله_رغم خُلُو أعلاه_ ليال أخرى؟!
مَسَّدت على ذراعيها ببطء تحث نفسها على درأ الحزن والخوف والتمسُّك بالتفاؤل بالمستقبل، يكفيها معاناة منذ أن بدأت تعي ما حولها ، الآن هي لن تفكر إلا بكفاحها وبنجاحها وستعمل عليهما بكل جهدها، ولن تسمح لأحد بأن يُزعزع ثقتها الوليدة بنفسها.
تعالت دقات على باب غرفتها فهتفت بترحيب:
_ادخلّ!
فُتح الباب ليطل خالها من خلفه قائلاً بحنان:
_اعتقدتُ أنكِ نمتِ مُبكراً، لكنني أردتُ الإطمئنان عليكِ.
وقفت مبتسمة بحنان واتجهت إليه قائلة:
_كنت أجمع أغراضي ولتوي انتهيت، تفضل بالدخول خالي!
تقدم خالها إلى الداخل ببطء ثم جلس على أقرب مقعد وهو يتهرب من عينيها، أغلقت الباب ثم اقتربت منه وجلست أرضاً بجانبه كما تحب أن تفعل دوما، امتدت يدها لتحيط بكفه وتُقبله بحنان، لتتساقط دمعاته تِباعا مُردداً بِحسرة:
_سامحيني ابنتي، لقد خذلتك.
رَفَعَت أناملها لتمحو دمعاته التي تنهال على وجنتيه، فتابع هو:
_أعلم أن ما سيحدث أمر غريب، أعلم أنه كان يجب علي التمسك بكِ والدفاع عنكِ، لكن أقسم أنني لم أعد استطيع، كما أن ما حدث أيضا يجعلني مُكبلا أمام شروق و.....
قاطعته بجدية:
_خالي أنت لم تخذلني أبدا، أنت الوحيد الذي ارتضيت بي وتقبلتني حينما نبذني الجميع، أنا ليس لي سواك، أنت أبي وأخي وصديقي وأماني، ولن يستطيع أحد زحزحة مكانتك لدي.
نظر لها بألم متزايد فارتسمت ابتسامة مشاغبة على شفتيها وهي تقول:
_ماذا بك يا صلاح؟ ما الغريب في الأمر؟ لو كنا نعيش بالخارج لكنت استقللت بمعيشتي عنكم منذ سنوات، ثم إنك لن تتخلص مني تماما، فسأحرص بكل جدية على استمرار نزهتي الشهرية معك لتبتاع لي المثلجات والشوكولاتة، وسأرهقك بطلباتي التي لن تنتهي.
ابتسم لها من بين دمعاته وهو يدرك محاولاتها لتخفيف ذنبه الذي لن يُغتفر أبدا،ثم رَبَّت على رأسها مُتحدِّثاً بألم:
_لطالما كنتِ ابنتي وحبيبتي وصديقتي، اعلمي أنني سأحاول إقناع شروق ودينا وسأجعلهما يطالبنك بالرجوع بأنفسهما.
منعت ابتسامتها الساخرة بصعوبة وهي ترتفع بجذعها لتقبل رأسه بامتنان قائلة بِخفوت:
_أشكرك خالي، أشكرك على كل ما فعلته من أجلي طوال تلك السنوات، أشكرك لتحمل ما لا يُطاق بسببي، أنت سندي دائما، ولن أرتضي الألم لك مجدداً.
أتودعه؟! ابنته الحبيبة بالفعل ستبتعد! ألن يتمتع باهتمامها به؟! ألن ينام كل ليلة وهو مطمئن البال بأنها في أمان تحت سقف منزله؟
هبَّت واقفة بابتسامة مرتجفة وهي توليه ظهرها كي لا يرى دمعاتها وهتفت:
_أنت جئت الآن خصيصاً كي تؤخرني عن موعد نومي، هيا خالي عد إلى غرفتك فيومي حافل بالغد.
تظاهرت بالعبث في هاتفها حتى لا يكتشف قهرها وحسرتها، فلم تشعر إلا بقبلته المعتذرة فوق رأسها ثانية، ثم سمعت أصوات خطواته المغادرة، وبمجرد إغلاقه الباب سمحت لأنينها المكتوم بالتحرر أخيرا.
**********
لملمت حقيبتها ودفاترها بِتمهُّل ثم اتجهت إلى خارج القاعة لتدرك فجأة أنها لم تتناول أي طعام منذ الصباح، أخذت تفكر في نوعية الطعام الذي يتم إعداده في غضون عشرة دقائق على الأكثر لأنها لن تتحمل الإنتظار أكثر من ذلك قبل الخلود للنوم، لايزال الوقت مبكرا تعلم لكنها ستتخلى عن أي شيء كي تنعم ببضع ساعات من الراحة بعد إسبوع مُرهِق تماما، وصلت إلى بوابة المبنى الخاص حيث تقوم بتدريس اللغة الإنجليزية لطلاب المرحلة المتوسطة منذ أربعة أشهر حينما سمعت ذلك الأنين الضعيف من مسافة قريبة، اقتربت بحذر حتى وصلت إلى مصدر الصوت
لتتوقف فورا وهي ترى تلك الفتاة الصغيرة تُكفكف دمعاتها وتشيح بوجهها بسرعة، فسألتها بقلق:
_مريم! ماذا بك؟ لِمَ تبكين؟
مَسَحَت الفتاة وجهها بحرج وهي تتهرب بعينيها مُجيبة:
_لا شيء، أنا متعبة قليلا.
جلست بجانبها بهدوء ثم قالت بحنان:
_لا تخجلي أبدا من البكاء، عبري عن حزنك ومشاعرك كما يحلو لك تماما.
ما إن أنهت عبارتها حتى انفجرت الفتاة في بكاء متألم، أحاطت كتفيها بذراعيها مربتة عليها بحنان لتتشبث مريم بأحضانها، بعد عدة دقائق هدأت مريم بالتدريج وكَفَّت عن البكاء تماما، ابتعدت عن أحضانها ببطء فَرَفَعت ذقنها بإصبعها ترمقها بحنو مُخاطبة إياها:
_إن لم تريدي إخباري بما حدث لتبكي بذلك الشكل فلن ألح عليكِ.
نظرت لها الفتاة بألم قائلة:
_لقد سَخِروا مني، مجددا.
عقدت حاجبيها بدهشة وهي تسألها:
_من سخر منك؟!
طأطأت رأسها أرضا مرة أخرى ورددت بخفوت:
_بعض من زملائي اعتادوا على السخرية مني بسبب تلك الشامة على وجنتي،كنت أراهم دائما وهم يدققون النظر بها ثم يتهامسون سويا ويبتسمون.
تطلعت إلى تلك الشامة الظاهرة على وجنتها بوضوح وسألتها بحنان:
_وكيف يكون رد فعلك في ذلك الموقف؟
اجتذبت نفسا عميقا وهي تحاول التظاهر بالقوة وغمغمت:
_كنت أتظاهر بعدم ملاحظتي، حتى عندما كانوا ينظرون لي بتحدي كنت أدعي عدم الاهتمام.
_إذن ما الذي حدث اليوم لتنهاري بتلك الطريقة؟
عادت الدمعات إلى عيني الفتاة مع سؤال معلمتها فَمَحَتهن بيدها وتحشرج صوتهاوهي تقول:
_اليوم..اليوم نعتوني أمام صديقتي الجديدة بالقبيحة، لقد نظرت لي مليا ثم ابتسمت بسخرية ورحلت مسرعة، أنا ليس لدي أي أصدقاء، جميعهن لا يردن التقرب مني حتى لا يتعرضن للسخرية بسببي.
استأنفت بكاءها المرير فلم تقاطعها تلك المرة، راقبتها مليا بصبر حتى انتهت بعد دقائق متسائلة بخفوت:
_هل أنا قبيحة إلى تلك الدرجة؟
امتدت يديها لتتشبث بكتفي الفتاة بقوة فرفعت الأخيرة عينيها بترقب:
_اسمعي مريم، أنت لا تحتاجين أن أكرر على مسامعك كم أنتِ جميلة وستزدادين جمالا بمرور الأيام، لا تحتاجين لأن أخبرك كم أن تلك الشامة التي تكرهينها أراها أنا تميزك بشدة، لكن ما سأقوله يجب أن تنتبهي له جيدا وتعملي به.
تطلعت إليها الفتاة باهتمام لتتابع هي حديثها بصرامة مَشوُبَة بالحنان:
_لا تسمحي لأي شخص أن يقلل من قيمتك، أو أن يؤثر على ثقتك بنفسك، الله عادل ورحيم بنا لا يظلم أحدا، نحن فقط من نظلم، فلا تجعلي بعض قساة القلوب يتسللوا إلى إيمانك به أو بنفسك، ولا تضعي نفسك في أية مقارنة، اعلمي أيضاً أن من لا يسعى إليك لا يستحق صداقتك بالأساس.
ازدردت لعابها وهي تومىء برأسها فتابعت:
_واحرصي دائما على أن تبكي بمفردك، اطلقي العنان لدمعاتك وصرخاتك وشكواك وحيدة، ثم اظهري أمام الجميع قوية واثقة.
ابتسمت الفتاة بضعف ممتن فبادلتها ابتسامتها قائلة:
_والآن ألن تعودي إلى منزلك؟
انطلق رنين هاتف الفتاة فوقفت مسرعة:
_كنت أنتظر شقيقي ليُقِلّني، ها هو قد وصل.
_حسنا، أراك بالأسبوع القادم إن شاء الله، إلى اللقاء.
ما إن استدارت لتنصرف حتى عاجلتها الفتاة صائحة:
_آنسة رهف!
التفتت إليها مرة أخرى مبتسمة بتساؤل فتقدمت مريم لتقف أمامها تماما:
_شكرا لك.
ابتسمت رهف بحنان ثم قبَّلت شامتها ولحِقتها بغمزة شقية لتتعالى ضحكات الفتاة، حتى انطلق الصوت الرجولي من خلفها:
_هل أنت بلهاء؟!
استدارت تنظر لشقيقها بملل وهي تحدثه بنظرة مستنكرة:
_لقد أنهيت حصتي منذ ربع ساعة، أين كنت؟ ولِمَ تأخرت؟
نظر لها شقيقها بابتسامة ساخرة:
_عذرا سيدتي على تأخري بخدمة سيادتك، فأنا كما تعلمين لدي وظيفة أخرى سوى تنفيذ أوامرك والخضوع لدلالك.
ضغطت أسنانها بغيظ:
_هل تسخر مني عاصم؟
_حاشا لِّله وهل أتجرأ أنا على السخرية من الهانم؟! هيا إلى السيارة وتوقفي عن أفعال الأطفال فأنا مرهق للغاية ووالدك ينتظرنا لتناول الطعام.
تقدمها إلى السيارة فتبِعته شاردة في كلمات معلمتها التي_ولا تدري كيف_ أشعرتها بقوة غريبة وثقة مشجعة.
**********
أوصدت باب شقتها بالمفتاح ثم أحكمت غلق النافذة الوحيدة جيدا، اتجهت بتثاقل إلى الفراش وارتمت بجسدها فوقه وهي تزفر بتعب، لقد كانت تتثاءب بمجرد انهائها عملها لكنها الآن تتوسل النوم للحضور فلا تجده، أكل ذلك بسبب وحدتها وشعورها بالغربة؟أم بالخوف؟ أم أن حديث مريم هو ما أثار شجنها؟
مهما حاولت التهرب من ذكرياتها المظلمة لا تستطيع، وكأنه يلاحقها متعمدا كي يمعن في إيذائها، تنمُّر دارِج بين بضع مراهقين أفسد عليها راحتها التي تشتاق إليها، هل ستظل دوما على تلك الحال؟ هل ستبقى حبيسة ذنب لم ترتكبه طوال حياتها؟ سخِرت من نفسها بإزدراء:
_أين كلماتك الحماسية التي أسمعتيها للفتاة؟! ألن تعملي أنتِ نفسك بمبادئ الخطبة العصماء التي تشدقتي بها اليوم؟!
تطلعت إلى صورتها خلال المرآة تراقب ملامح القوة التي بدأت تختفي بالتدريج، ليحل محلها..
ضعف؛
ألم؛
احتياج؛
وشعور بالذنب!
أسبوع مر منذ إنهائها فصل حزين آخر بحياتها، هاتفها خالها بضعة مرات لم يتحدث خلالهن كثيرا، تعلم أن شعوره بالضعف والذنب يقتلانه، تعلم أن ما بيده حيلة، ولا تنتظر منه أكثر، يكفيه ما تحمل من أجلها، يكفيه دفاعه عنها وإيوائه لها لسنوات، وستكون ظالمة إن طالبته بالمزيد، ما يؤلمها الآن أنها بالفعل وحيدة، لا أحد يؤنسها ولا يبادلها كلمة، هل من الطبيعي أنها الآن تشعر باشتياقها لأوامر زوجة خالها التي لا تنتهي؟ أو أنها لا تتضايق بشدة بسبب سخافات ابنة خالها وتنمُّرها الدائم؟
حتى الأمور التي نكرهها نُدرك أن لها بعض القيمة بعد زوالها!
استسلمت أخيرا تعي انتهاء مدة صلاحية اصطناعها اللامبالاة والبرود لهذا اليوم، فأطلقت العنان لنفسها كي تعبر بصمت عم يجيش بصدرها، لتنهمر دمعة..
تلحقها أخرى؛
وأخرى؛
و.....
سيل ألمها انهار ولن يتواجد بجانبها إمريء تضطر لمداراته عنه، هي في الأصل لا تريد مداراته، يحق لها أن تكافيء صمودها بتسليم المقاليد لضعفها كي لا تنفجر في وقت لا يسمح لها بذلك، فلتستريح ببكائها الآن ثم تبدأ يومها غدا متسلحة بعنفوانها.
**********
تداخل صوت رنين هاتفها مع أصوات حلمها، بنصف عين استيقظت ثم ظلت مكانها لثوان قبل أن تتعرف على الرنين المُصِّر، تناولت هاتفها وحَدَّقت به مدركة بأنها نامت بعدما أنهك جسدها بسبب بكائها الذي لم ينقطع لنصف ساعة، صمت الهاتف يأساً فألقته جانبا ثم استقامت بتعب، عاد صوت هاتفها للصراخ مرة أخرى فالتقطته وهي تحاول التعرف على الرقم غير المسجل ثم أجابت باستسلام:
_مرحبا!
صمت تام على الجهة الأخرى جعلها تجلي حنجرتها ظنا منها أن المتصل لم يسمعها، وكررت:
_مرحبا! من معي؟
مرة أخرى لا رد، عقدت حاجبيها بضيق، وانطلق صوتها الرقيق حانقا:
_إن لم ترد حالا سأقوم بحظر رقمك.
ضغطت أسنانها بغيظ وهمت بانهاء المكالمة، لكن أصابعها تيبست على الهاتف وهي تستمع لتعليق محدثها:
_إذن أنتِ رهف!
تسلل تَرَقُّب غريب إليها بسبب النبرة الرجولية الخشِنة غير المألوفة، تمسكت بهاتفها أكثر ثم أجابت بتوجس:
_نعم، أنا رهف، من تكون أنت؟
ضحكة ساخرة خافتة انطلقت من الطرف الآخر حولت توجسها إلى قلق فأتبعها بعبارته:
_غريب! غريب! ألا تعرفين من أنا؟! وأنتِ أحق الناس بمعرفتي!
اجتاحها خوف وهي تتلفت حولها متجهة إلى الباب لتتأكد من إغلاقه:
_اسمع! إن كنت تريد التلهي قليلا فلست أنا من تبحث عنها، أنا لست متفرغة لتلك المهاترات، لا تعاود الاتصال مرة أخرى وإلا سأ.....
قاطعتها لهجته الساخرة بتحدي:
_وإلا؟! ماذا ستفعلين؟ هل ستخبرين خالك؟
صمتت محاولة السيطرة على ارتجافة ذراعها اليسرى وهي تهبط بنظراتها إليها بخوف، لا! لن يحدث ذلك الآن! لن تخذلها في تلك اللحظة! همت بالرد حينما بادرها بضحكة ساخرة سرى بها_لدهشتها_بعض من الألم:
_يا إلهي! أنا آسف، لقد نسيت أنه لم يعد هناك وجود لخالك بحياتك، وأنك الآن تعيشين بمفردك تماماً بغرفة وضيعة، لا صحبة، لا أمان، لا أحد على الإطلاق!
ثم أردف بسؤال ساخر:
_ أتعتقدين أنكِ إن حاولتِ الرجوع إليه ستوافق كلا من زوجته وابنته؟
اتسعت عيناها بذعر وهي تعاود الالتفات حولها بجنون، عم الصمت لحظات أخرى وكأن الطرف الآخر يمنحها الفرصة لتستوعب المأزق الواقعة به الآن، ثم بصوت متقطع أجابته:
_من أنت؟! وكيف تعرف عني كل ذلك؟ أهي إحدى مكائد دينا لتكدير حياتي؟ لقد تركت لها المنزل بأكمله، لِمَ لا تدعني وشأني؟!
أرعبتها الصيحة الغاضبة التي انطلقت منه:
_وهل تعتقدين أن ابنة خالك الخبيثة تفكر بك بعدما رحلتِ عنها؟ اسمعي رهف! أنا لم أبحث عنك بأمر من أحد ولا يستطيع شخص إثنائي عن ذلك، كما أنني ليس لي علاقة بخالك ولا بأسرته، ما يهمني هو أنتِ، وأنتِ فقط!
بهمسة مرتجفة أجابته وهي تحشر هاتفها بين أذنها وكتفها، ثم تمد يدها اليمنى لتُمسد ذراعها اليسرى بسرعة، تساقطت دمعاتها وهي تحاول كتمها بإصرار كي لا يدرك محدثها تأثير حديثه عليها:
_ماذا تريد مني؟
تسمرت يدها على ذراعها وإجابته تصدمها ببساطتها:
_لا أريد سوى الاطمئنان عليكِ.
ثم أردف بغموض:
_حتى الآن.
اهتزت حدقتاها وتنفست ببطء متسائلة:
_ماذا تعني؟
وعندما أجابها، استطاعت أن تدرك ابتسامته برغم عدم رؤيته أو معرفتها بهويته من الأساس:
_أعني أنكِ لستِ وحدك رهف، وأنا لن أتركك مطلقا.
وبنفس البساطة أنهى مكالمته قبل أن يتسنى لها العثور على رد مناسب، أمسكت هاتفها بيدها قبل أن يسقط أرضا ودقات قلبها تتصارع وهي تحدق بيأس في ذراعها اليسرى التي توقفت عن الحركة تماما.. مجدداً!
**********
دلف إلى مكتبه بعدما أنهى مكالمته الهاتفية مع شقيقته المزعجة بطلباتها التي لا تنتهي، صحيح هو يتظاهر بالضيق من كثرة مطالبها لكنه لا يخفي على نفسه استمتاعه بتدليلها برغم علمه بعدم استطاعته تعويضها عن غياب أمها في تلك السن المبكرة، دعا لها بالغفران والرحمة كما رحمته وأكرمته صغيرا يتيم الأم برغم وجودها على قيد الحياة!
كان يدندن بلحن شعبي أُجبر على سماعه في الآونة الأخيرة بكل مكان، حتى أنه لن يندهش إذا اقتحم أحد أحلامه، وعلى ذِكر الاقتحام فقد رفع عينيه بملل تزامناً مع تلك العاصفة الهوجاء التي اندفعت من باب مكتبه صارخة:
_استمع إلىَّ عاصم! أنا لن أسمح لكم بتنحيتي عن حضور تلك الاجتماعات المُهمة مرة أخرى، أنا أعلم جيدا ماذا تحيكان أنت وصديقك في غيابي.
أسند وجنته إلى كفه وهو يتصنع الصدمة :
_يا للمصيبة! هل كشفتي مخططاتنا كلها بالفعل؟! هنيئاً لك يا فتاة، أنت بارعة حقا!
ضيقت عينيها بتحذير وهي تقترب من مكتبه مُرددة ببطء:
_اسخر مني كما شئت، لكنني بالفعل أعلم أنكما تتعمدان الانفراد بحضور تلك الاجتماعات حتى لا يُذاع صيتي وأُلفِت الانتباه بحذاقتي وذكائي.
مط شفتيه بسخرية:
_بالطبع! بالطبع! أخبريني متى استيقظتي اليوم؟
عقدت حاجبيها بدهشة وهي تحدق به ببلاهة:
_عفواً؟!
زفر بغيظ شديد وهو ينظر إليها بجدية مُشدِداً على كل كلمة:
_في أي ساعة استيقظتي اليوم آنسة سارة؟
تهربت بعينيها منه وهي تدور بهما في أنحاء غرفة المكتب بتوتر:
_ في التاسعة.
ابتسم ببرود وهو يسترخي في مقعده:
_مواعيد الحضور في الثامنة صباحا، ولهذا يُخصم منك نصف يوم حتى تلتزمي بمواعيد الحضور.
ضربت الأرض بإحدى قدميها عابسة:
_هذا ليس عدلاً، لقد ظللت متيقظة حتى ساعة متأخرة أُفكر في ذلك العرض الذي سنقدمه خلال الاجتماع.
ازدادت ابتسامته الباردة اتساعا وهو يُخاطِبها بلامبالاة:
_إذن سجلي اعتراضك لَدى شقيقك، هو من يضع القوانين هنا.
انتفضت وهي تميل تجاهه متوسلة:
_لا لا، إلا هو، لقد أتيت إليك طامعة في كرم أخلاقك أن تتوسط لي عنده، لكن للأسف أنت مثله تـ...
قاطعها بتحذير:
_للأسف أنا مثله كيف آنسة سارة؟ تابعي! حديثك شائق وأعتقد أنه سَيَسُره أيضا.
ضغطت أسنانها بغيظ وهي تُتمتم بشيء لم يسمعه لكنه تيقن أنها سَبة ما أو ربما دعوة عليه هو وشقيقها بأن ترتاح من تسلطهما، ابتسمت له بغيظ وهي تجبر نفسها على التحدث بهدوء:
_وأين هو صديقك؟ لقد خرج مبكرا جدا قبل حتى موعد الاجتماع.
ابتسم لها باستفزاز وهو يرفع حاجبيه في حركة مغيظة:
_لا أعلم، أنا لست مُحققك الخاص، توقفي أنتِ والحاجة سوسن عن محاولة جعلي كذلك.
تخصرت وهي ترد له ابتسامته بأكثر منها إغاظة:
_إذن الحاجة سوسن تخبرك ألا تتناول طعام غدائك لدينا اليوم، والذي هو بالمناسبة يحتوي على الكثير والكثير من أنواع السمك.
انتفض واقفا مُندفِعاً إليها بِحماسة واضحة:
_أخوكِ يحاول منذ فترة شراء منزل في أحد الأحياء القديمة، واليوم فقط وصل إلى اتفاق مع صاحب الxxxx، أنتم لن تأكلوا الأسماك بدوني، أليس كذلك؟
رمقته بدهشة:
_أي منزل؟!
ثم تابعت بابتسامة فرحة:
_هل سيتزوج؟!
تهرب من عينيها بارتباك جلي:
_ليس لدي معلومات أكثر، الآن ماذا بشأن تلك الدعوة؟
ضيقت عينيها بشك للحظة ثم أرخت ملامحها:
_قائمة بالطبع بشمهندس عاصم، الآن سأذهب إلى عملي.
خرجت من المكتب فزفر هو بحنق، لقد عبثت الفتاة به وسقط هو كغر ساذج ليفشي سر صديقه...
لو لم تلوح له بورقة الأسماك!
**********
بعد ثلاثة أيام :
اختتمت درسها بابتسامة مرتجفة للطلاب الذين كانوا يتبادلون النظر بدهشة، ولِمَ لا يفعلون وقد كانت اليوم خرقاء أكثر مم يُسمح به؟! لقد تلعثمت وشردت ثم أسقطت أغراضها عدة مرات فلم تسعفها ذراعها السليمة الوحيدة في حفظ ماء وجهها لتتظاهر بعدها بعدم سماعها الضحكات الساخرة الخافتة من بعض هؤلاء المشاغبين، أحقا مكالمة هاتفية غامضة تفعل بها ذلك؟! إنها حتى لم تتكرر!
اندفعت إلى خارج القاعة تنهب الخطوات بحنق وهي تختلس النظر لذراعها تلومها بصمت، لا تعلم كيفية التصرف الآن، لقد ظنت أنها تخلصت من تلك المشكلة أخيرا لتتيقن مؤخرا أنها ربما ستظل إلى الأبد عليلة الجسد والروح.
_آنسة رهف!
التفتت لتجد مريم مقبلة إليها بابتسامة جميلة مُتسائلة:
_هل أنتِ بخير؟
حاولت أن تبادلها ابتسامتها فظهرت النتيجة تعبير مرتجف متوتر تماما مُجيبة إياها:
_نعم مريم، أنا بخير، هل لديكِ أية أسئلة؟
_لا، لقد أردتُ فقط الاطمئنان عليكِ، لقد بدوتِ متضايقة بشدة اليوم.
زفرت بتعب وهي تدنو منها لتربت عليها بحنو قائلة:
_أنا بخير حبيبتي، أريد فقط قَسطاً من الراحة، أخبريني هل حدث ما يزعجك؟ هل أزعجك أحدهم؟
اتسعت ابتسامة الفتاة ورفعت إحدى كتفيها بغرور مصطنع هاتفة:
_ربما! لكنني لا اهتم، لن أسمح لأحد بالتأثير علي مرة أخرى.
أطلقت ضحكة رائقة أخيرا وهي تميل لتقبل شامة الفتاة مُرددة بِنبرة تشجيعية:
_ممتاز! أنتِ فتاة قوية!
نظرت لها مريم بامتنان قائلة:
_أنتِ السبب، لقد أخبرت أخي عن كلامك معي ذلك اليوم فَسَعِد بشدة، حتى أنه أكد عليّ أن أشكرك.
قرنت مريم قولها بالفعل وهي تفتح حقيبتها ثم التقطت غرضا وقدمته إلى رهف قائلة:
_فكرت بإحضار وردة لكني خفت أن تذبل عند انتهاء الحصة، فنصحني عاصم بإهدائك شوكولاتة، تحبينها أليس كذلك؟
دمعت عيناها سعادة وهي تلتقط الشوكولاتة منها ثم أحاطتها بذراعها السليمة بحنان وهي تهمس لها:
_بل أعشقها! شكرا لكِ مريم، لقد أسعدتني وَحَسَّنتِ مزاجي.
ظهرت الفرحة جلية على وجه الفتاة وهمت بالرد عندما بدأت بالتحديق في نقطة ما خلف ظهر رهف ثم سألتها بفضول:
_هل تعرفين ذلك الرجل؟
عقدت رهف حاجبيها بدهشة ثم التفتت لتلمح شابا طويلا على بعد مسافة منهما يوليهما ظهره ثم
يستقل سيارة فاخرة رمادية اللون وينطلق بها مبتعدا، حدقت في إثره بشرود ثم نظرت إلى مريم قائلة:
_لم استطع رؤيته، من هو؟
ظهر الاهتمام الأنثوي المبكر على وجه الفتاة وهي تخفض صوتها وتقترب من رهف هاتفة:
_لقد رأيته بضعة مرات من قبل، واليوم هي المرة الثانية التي أشعر به يحدق بكِ أنتِ على الأخص، فظننت أنكِ ربما تعرفينه.
هزت رهف رأسها بنفي ثم أجابتها ببساطة:
_لا أعتقد أنه ينظر إليّ أنا، ربما يعمل هنا.
ردت مريم بتصميم واثق:
_لا أنا متأكدة، هو لا يعمل هنا، كما أنني لا أراه إلا في أيام حصصك فقط، حتى أنني رأيته اليوم أمام قاعتنا الدراسية وكان يحدق بكِ على وجه التحديد، فاعتقدت أنه ربما يكون شقيقك أو قريبك.
ابتسمت رهف بحسرة قائلة:
_أنا ليس لدي أشقاء أو شقيقات مريم، ومؤكد كل ذلك محض تخيلات من عقليتك التحقيقية المميزة.
هزت مريم كتفيها بعدم اقتناع فتابعت رهف:
_على أي حال، هيا عودي إلى منزلك، ولا تنسِ اختبار الحصة القادمة .
غمزتها رهف وهي تلتفت بسرعة فكادت أن تصطدم بأحدٍ ما فبادرت بارتباك:
_آسفة!
ابتسم بود وهو ينظر إلى الفتاة التي تضحك خلفها:
_لا تهتمي، أعرف تماما أن تلك الجنية تجعل من يرافقها يعدو هربا عند أول فرصة.
نظرت له بدهشة فاتسعت ابتسامته وهو يُحييها:
_مهندس عاصم عبد الرحمن أخ تلك المزعجة، حضرتك بالتأكيد الآنسة رهف معلمتها.
تنحنحت بتوتر وهي تومىء برأسها إيجابا:
_أهلا وسهلا.
إتسعت ابتسامته وهو يمسك بيد أخته قائلاً:
_مريم أخبرتني بما حدث، وودت لو أشكرك بنفسي على النصائح التي أسديتها لها.
ابتسمت بصعوبة وهي تشيح بنظرها عنه قائلة:
_لم أفعل شيئاً، مريم فتاة مميزة ومجتهدة، بارك الله لكم بها، أستأذنك الآن.
لم تنتظر ردا وهي تسرع بالانصراف، وصلت إلى موقف الحافلات واستقلت إحداهن، حمدت ربها أن وجدت مكانها المفضل لايزال خاليا، المقعد الأخير بجوار النافذة، استندت بذراعها عليها وهي تشرد عامدة في أي شيء حتى تمتلئ الحافلة، وحينما أُغلق الباب وهَم السائق بالانطلاق شهقت بخفوت وهي تلمح السيارة الرمادية وصاحبها الذي لم تتبين ملامحه جيداً يحدق بها بتصميم.


***** يتبع *****

سعاد (أمواج أرجوانية) 15-08-20 01:14 AM

تابع الفصل الأول

**********
كان على وشك الولوج إلى مدخل البناية التي يقطن بها عندما قابلته السيدة أم محمود التي تسكن بالدور الأرضي، أخفض بصره داعياً ربه أن يمر بجوارها في سلام دون أن تعطله بثرثرتها التافهة، لكنه_مع الأسف_ لم يكن محظوظا إلى تلك الدرجة!
_أستاذ صلاح!
أغمض عينيه بتعب وهو يفكر في التظاهر بعدم سماع ندائها ولم يكد ينفذ أمنيته حتى وجدها أمامه تسُد عليه طريق الدَرَجات هاتفة:
_أستاذ صلاح أناديك، ألم تسمعني؟
استطاع تدبير ابتسامة مفتعلة وهو يواجهها:
_عذرا أم محمود، فأنا لتوي قد عدت من العمل وأشعر بإرهاق شديد.
ابتسمت المرأة بلامبالاة وهي تميل بالقرب منه قائلة:
_أعلم ذلك أستاذ صلاح، أنا فقط أردت تحيتك والاطمئنان على أحوالكم جميعا، كيف هي السيدة شروق؟
أغمض عينيه ممتنا وهو يحافظ على ابتسامته خافضا بصره بتهذيب علها تتركه يعبر ثم قال:
_بكِ الخير أم محمود، هي بخير حمدا لله، سأخبرها بسؤالك عنها، أتسمحين لي بالمرور؟
لم يبد عليها أنها سمعت طلبه فاستأنفت حديثها والحزن_الذي يدرك هو بأنه مفتعل_ يقفز من عينيها:
_لقد علمت بما حدث لدينا وحزنت كثيرا من أجلها.
أجابها بجدية وهو يثبت نظراته على الدرجات التي ستُخلِّصه من حديثها:
_كل شيء نصيب أم محمود، حمدا لله على كل حال.
ارتسمت نظرة متعاطفة بعينيها وهي تتحدث:
_ألا يوجد سبيل للرجوع؟ أتُحب أن أتدخل وأحاول الإصلاح بينها وبين طليقها؟
نظر لها بحنق وهو يجيبها مسرعا:
_لا لا تفعلي أبدا، لقد افترقا راضيين ولا يريد أحدهما العودة للآخر، شكرا أم محمود على نيتك الطيبة.
رَسَمت المرأة ملامح الحزن على وجهها وهي تقول بإشفاق:
_أنت تعلم أستاذ صلاح أن السيدة شروق بمثابة شقيقتي، وأن دينا أعتبرها ابنتي.
اعتلت ثغرة ابتسامة صفراء وهو يومئ برأسه إيجابا مُردداً:
_أعلم أعلم، كلنا نعلم ذلك، شكرا أم محمود، أستميحك عذرا سأصعد إلى بيتي الآن لأ.....
قاطعته بلهفة والفضول يتراقص بمقلتيها بعد أن كبتته طويلا:
_علمت أيضا أن ابنة شقيقتك لم تعد تقطن معكم، خيرا فعلتم والله فوجودها معكم كان لا يصح بتاتا، حتى أنني أعتقد أنه ربما كان لها يد في طلاق دينا، لكن أين ذهبت يا ترى؟ أيعقل أنها ذهبت إلى......
حان دوره هو ليقاطعها هاتفا بصرامة والغضب يندفع من ملامحه إليها:
_أم محمود! أنا لا أسمح لأي شخص بأن يتحدث عن ابنة شقيقتي بما يسيئها، وبالرغم من أنه أمر خاص ولا يحق لأحد التدخل به إلا أنني سأخبرك أن رهف ليس لها أية علاقة بطلاق ابنتي، فأرجو منكِ أنتِ وصديقاتك الثرثارات ألا تذكرن اسمها على ألسنتكن، ومن الأفضل شغل أوقاتكن بما ينفع بدلا من الخوض في حيوات الغير، افسحي الآن كي أصعد إلى بيتي فرأسي سينفجر حتما من الصداع.
قفزت المرأة جانبا محدقة به بذعر لينطلق هو صاعدا بخطوات غاضبة.
**********
انهت طعامها وَصَلَّت فرضها ثم جلست تتابع أحد مواقع التواصل الاجتماعي بملل، بعد بضع دقائق ألقت الهاتف جانبا وهي تقرر الخلود إلى النوم، أوصدت باب الغرفة جيدا بالمفتاح والقفل الإضافي الذي قامت بتركيبه في اليوم السابق، سخرت مفكرة أنها إن كانت تمتن لزوجة خالها سيكون بسبب استغلالها في مختلف أنواع الأعمال، والآن تستطيع إتمام عدة مهام بدون الاضطرار للاستعانة بالعمال المُوَكلين بها.
اتجهت إلى النافذة لتغلقها لكن اجتذبتها أصوات شجار على مقربة منها بين أحد المراهقات وطفلا آخر يبدو أنه أخوها الأصغر لتجد نفسها_رغما عنها_ تتابعهما بفضول لم يكن يوما من شيمها..

_ألا تفهم؟ إن ابتعت لك تلك الفطيرة لن يتبقى معنا ثمن إفطار الغد.
دق الطفل الأرض بقدميه وهو لا يبالي بنظرة أخته الصارمة:
_أنا جائع مها، أتمنى أن أتذوق مثلها، لقد رأيت اليوم "أنس" يأكل واحدة منها هو وأخيه وأخبرني أن طعمها لذيذ للغاية، أرجوكِ مها أريد واحدة ولن آكلها كلها.
ضغطت شقيقته أسنانها بغيظ وهي تنظر له شذرا:
_يا غبي افهم! أنس أبوه يعمل بوظيفة ثابتة، يستطيع أن يبتاع مثل تلك الفطائر كما يحلو له، لكن أنا أعمل ب"اليومية" ويجب توفير مصاريف علاج أبيك، إن ابتعت لك ما تريد الآن كيف سيتناول أبوك وأمك وإخوتك عشاءهم؟
انطلق الطفل في بكاء عنيف فَهَمَّت رهف بالتدخل قبل أن تعنفه أخته لكنها صمتت بانبهار وهي تراقبها تجلس أرضا على ركبتيها وتشد أخاها بين ذراعيها دامعة:
_لا تبكِ! كفى! سأبتاعها لك، أرجوك توقف عن البكاء فارس، لكن لا تخبر أمي كي لا تتشاجر معي، سنجلس هنا وننتظر حتى تنهيها كلها، اتفقنا؟
مسح الطفل وجهه بكفيه وهو يومئ برأسه إيجابا في لهفة واضحة بينما اتجهت أخته إلى المحل المتواضع وأحضرت له الفطيرة، ثم جلست بجانبه تمسح على شعره بحنان وهو يتناول طعامه بنهم.
كانت تحدق بهما والدمعات تترقرق من عينيها وهي لا تستطيع حرمان نفسها من مراقبة ذلك الحنان المشع، لتغرق فجأة في ذكرى مريرة تعتبرها من أسوأ ذكرياتها على الإطلاق.
قبل تسعة عشر عام:
هرولت إلى داخل المنزل وهي تحاول الوصول بأقصى سرعتها إلى غرفتها، وعندما اعتقدت أنها نجحت فإذا بيد غليظة قاسية تجذب جديلتها الطويلة بعنف لتتعالى صرخاتها:
_إلى أين تذهبين أيتها الحقيرة؟ لم أتم عقابك بعد.
التفتت رغما عنها بقوة الجذب وهي تحاول تخليص شعرها من يدها بلا جدوى:
_أنا آسفة زوجة خالي، أرجوكِ اتركي شعري، لن أعيدها.
صرخت المرأة بغل شديد:
_وهل تعتقدين أنني سآمن لك في بيتي بعد اليوم؟ ما أدراني أصلا أنها المرة الأولى؟ ستعيدينها وربما تفعلين الأسوأ.
استطاعت رهف الوصول إلى كف زوجة خالها الأخرى التي تضربها على ذراعها لتقبلها بتوسل عدة مرات متتالية صائحة:
_أقسم لكِ أنها المرة الأولى والأخيرة، أنا فقط كنت جائعة بشدة، وأنتِ حرمتِني من تناول الطعام منذ الأمس.
اهتاجت المرأة وهي تبعد كفها عن شفتي الفتاة بعد أن تساقطت دمعاتها فوقه لتمسحها في ملابسها بازدراء صارخة بها:
_ولم عاقبتك أنا يا وضيعة؟ ألم تزعجي ابنتي؟ ألم تتسببي في بكائها وتعنيف المعلم لها؟
تقطع صوتها وهي تجيبها بضعف:
_لم أقصد إزعاجها، لقد قلت لها أنني لا استطيع كتابة فرضها المنزلي لأن هذا غش، ثم إنها أكبر مني بثلاث سنوات وحتما المعلم سيكتشف.
هنا تدخلت ابنة خالها بِغِلّ هاتفة:
_لم يكن ليكتشف أبدا، فإن كان بكِ ميزة وحيدة هو حُسن خطك، كان يجب أن تطيعينني بلا نقاش، ألا يكفي أننا نتحملك في بيتنا؟
تحول بكائها إلى شهقات متقطعة من فرط ألمها وهي تتطلع إلى نظرات ابنة خالها الشامتة:
_آسفة، سأكتب لها كل فروضها إن أردتما، لكن أرجوكِ اتركيني زوجة خالي.
عاجلتها المرأة بضربة في بطنها وهي تصرخ بها:
_وماذا عن السرقة؟ كيف ستعالجين تلك المصيبة؟ وماذا سرقت منا من قبل؟كان يجب أن أتوقع أن تفعلي ذلك، فنبتة خبيثة مثلك يجب أن تصبح لصة، هذا أمر يسري بدمائك، انطقي! هل سرقتي منا أموالا من قبل؟
استطاعت أخيرا القفز بعيدا بعد أن خسرت عدة شعيرات في قبضة المرأة:
_أقسم مرة أخرى لم آخذ إلا تلك الشطيرة، حتى أنني لم استطيع أكلها وتخلصت منها، لا أريد أن يعاقبني الله، لا أريد أن آكل حراما.
بلهجة شيطانية مالت دينا على إحدى أذني أمها قائلة:
_كاذبة أمي، أنا بنفسي رأيتها تعبث في حافظة نقود أبي بالأسبوع الماضي، والله أعلم مَن سَرَقَت أيضا، من الممكن أن تفعلها خارج المنزل ونُفضَح بين الناس.
فغرت رهف فاهها مصعوقة وهي تحدق بابنة خالها وتساءلت كيف يمكن لأحد الكذب بتلك السهولة والتجني على غيره؟ في حين أنها ظلت عدة ساعات تشعر بذعر شديد من عقاب الله لها بعدما أخذت تلك الشطيرة التي كانت ابنة خالها ستتخلص منها على أي حال، حتى
أنها_برغم ألمها_ تشعر باستحقاقها التام لأي عقاب توقعه عليها زوجة خالها.
تحقق هدف دينا تماما وعيني أمها تتوحشان وهي تخلع خُفها المنزلي وتهجم على رهف لتضربها بدون كلل لدقائق متواصلة دون أن تهتز بها شعرة لصرخات الطفلة اليتيمة.
مسحت دمعاتها وهي تراقب انصراف الطفل برضاء تام مع شقيقته فشعرت بغبطة من هالة الحنان
المحيطة بهما، اجتذبت شهيقاً عميقا وهَمَّت بإغلاق النافذة حينما تدلى فكها السفلي بذهول وهي تحدق بصاحب السيارة الرمادية الذي يستند على بابها الجانبي ويراقب_معها_ الطفل وشقيقته، لا تعلم كم دقيقة مرت وهي على حالتها تلك، إلا أنها حينما التفت هو إليها توقفت أنفاسها في حلقها وهي تتطلع إلى الابتسامة البسيطة التي واجهها بها.
بارتباك وذعر أغلقت نافذتها ثم هرولت إلى الباب ودفعت المقعد الوحيد وأسندته خلفه، عادت مرة أخرى تتلفت حولها ودمعاتها تتجمع بعينيها ثم انطلقت إلى الطاولة_التي أصبحت بثلاثة أرجل فقط_ ووضعتها فوق المقعد خلف الباب وهي تعلم في قرارة نفسها أنها ليست بالإضافة ذي القيمة، كانت تدور حول نفسها تحتضن ذراعها المتيبسة حينما انطلق صوت رنين هاتفها.
ببطء ووجه شاحب اتجهت إليه وحينما التقطته ازداد عنف تنفسها رامقة ذلك الرقم الذي هاتفها مرة واحدة من قبل، حاولت بأناملها المرتجفة أن تلغي الاتصال لكنه صمت فجأة، وبمجرد أن تنفست ببعض الراحة الظاهرية حتى عاد الاتصال أكثر إصراراً، ظلت محدقة في الهاتف بلا رد فعل حقيقي حتى صمت مرة أخرى.
دقيقة مرت..
دقيقتان..
ثلاثة..
ثم صوت رسالة نصية!
تسمَّرت بموضعها وجسدها بأكمله يرتجف وهي ترمق الهاتف المضيئة شاشته دلالة على انتظار الرسالة لقراءتها، دفعت أناملها دفعاً حتى فتحتها وأصوات أنفاسها المرتعبة تعلو على أصوات
الضوضاء بالخارج، تلك الأنفاس التي توقفت تماما لتحل محلها شهقة خافتة وهي تعيد قراءة الرسالة ذات الكلمة الواحدة مرارا وتكرارا:
"سأعوضك!"
ألقت الهاتف على الفراش وهي تنخرط في بكاء مذعور رافقته ارتعادة عنيفة بجسدها، وبعد أن تظاهرت بالهدوء قليلا اتجهت إلى النافذة مرة أخرى، ثم تطلعت إلى الشارع من خلال أحد الشقوق في أخشابها، لكنها لم تجد السيارة الرمادية الفاخرة، ولا صاحبها!
**********
في اليوم التالي كانت تتلفت حولها بتوتر شديد، منذ خروجها صباحا لم تترك أي شخص يمر بجوارها دون تدقيق النظر به، تشعر أن ذلك الرجل حولها طوال الوقت وفي كل مكان، صداع عنيف أخذ يطرق رأسها
مصحوبا بدوار بسبب عدم نومها منذ الأمس، خرجت من المعهد مُغمضة عينيها بتعب فلم تنتبه لذلك الجسد الذي اصطدمت به، بسرعة فتحت عينيها لتجد أمامها امرأة شابة جميلة بعينين عسليتين تنظران إليها بقلق فسارعت بالاعتذار:
_آسفة جدا.
ابتسمت المرأة قائلة:
_لا عليكِ، لم يحدث شيء، هل أنت بخير؟
بادلتها رهف الابتسامة بضعف:
_الحمد لله، شكرا لكِ، مجرد دوار بسيط.
بنبرة مهتمة خاطبتها المرأة:
_هل تريدين الذهاب إلى مكان معين؟ أستطيع أن أقلك إن أردتِ.
اتسعت ابتسامتها وهي تجيبها برقة:
_شكرا لكِ، سأستقل الحافلة من الموقف القريب، أستأذنك.
ابتسمت لها المرأة برسمية فأولتها رهف ظهرها، وابتعدت خطوتين عندما أوقفها نداء المرأة:
_لو سمحتِ!
التفتت لها رهف بابتسامة متسائلة فأقبلت عليها مُتسائلة باهتمام:
_هل تَدرُسين بذلك المعهد؟
أجابتها رهف:
_لا أنا أقوم بالتدريس للطلاب هنا.
ابتسمت المرأة بحرج قائلة:
_عذرا اعتقدت أنك صغيرة بالسن.
ثم بفضول أضافت متسائلة:
_كم عمرك؟
وعلى النقيض من معظم النساء أجابت رهف ببشاشة:
_خمس وعشرون.
ضحكت المرأة بحرج:
_آسفة جدا، أعلم أنه سؤال لا يليق.
ردَّت رهف بابتسامة فتابعت المرأة:
_طفلي عمره ستة سنوات وهو لا يحب اللغة الإنجليزية، ولي صديقة رشحت لي هذا المعهد، لهذا جئت أستفسر ربما يستطيع المعلمون جعله يحبها، هل يقبلون هنا بذلك السن؟
ظهر الاهتمام على وجه رهف أثناء قولها:
_بالطبع، هناك دورات متخصصة في عمر ولدك، تستطيعين الحجز بالداخل، اذهبي إلى مكتب الاستقبال والموظفة ستخبرك بكل التفاصيل.
ابتسمت المرأة بامتنان وهي تمد يدها مصافحة إياها:
_ شكرا آنسة...
مدت رهف يدها لتبادلها مصافحتها مبتسمة:
_رهف، اسمي رهف.
حدقت المرأة بعينيها بابتسامة جميلة:
_ جميل اسمك، شكرا آنسة رهف.
أومأت رهف برأسها ثم انصرفت مودعة، وبالرغم من بعض الاطمئنان الذي تسلل إليها بعد ذلك الحوار القصير، إلا أن الخوف عاد يكتنفها وهي تتلفت حولها، لكن لحسن حظها_أو لسوئه لا تعلم_ يبدو أنه غير متواجد حولها اليوم.
**********
فتحت شروق باب المنزل بتجهم بعد الرنين المُلِح لتجد أمامها السيدة أم محمود بابتسامتها اللزجة وعينيها اللتين تسبقانها إلى أركان الشقة، رسمت ابتسامة مفتعلة قائلة:
_أهلا أم محمود،كيف حالك؟
دفعتها المرأة بخفة ودخلت بدون دعوة ثم جلست على أقرب أريكة:
_بخير أم دينا، لقد اشتقت إليكِ بشدة، كيف حالك؟ وكيف حال دينا الآن؟ لقد حزنت بشدة من أجلها، أخبريني! ألم يحاول طليقها التواصل معكم مجددا؟ أرجو ألا تردوه.
تأففت شروق بدون صوت وهي تتجه إليها ثم جلست على المقعد المقابل لها وتكافح كي لا يظهر الضيق على وجهها:
_دينا ابنتي يتمناها الأفضل، وبالفعل يأتي الكثير طالبين لها، لكن هي من لا تريد الارتباط الآن، لقد ضيق معيشتها وأصابها بالنكد ذلك البائس.
نظرت لها المرأة بلوم أو ربما شماتة قائلة:
_لقد حذرتك يا شروق، قلت لك إن ذلك الرجل لا يناسبها، ابنتك جميلة ومنطلقة وتحب الحياة، بينما يبدو هو وكأنه أفندي هارب من حقبة الخمسينيات، وقد كان من الواضح تعلقه الشديد بأمه، لكن هي من تشبثت به، هل ظنَّت حقا أن كونه طبيبا سيجعله ينزهها كل أسبوع في بلد مختلف؟! كم كان راتبه على أية حال؟
رمقتها شروق بغيظ شديد وهي تجيبها:
_لا أعلم أم محمود.
ثم تابعت بضجر:
_هو لم يخبرها في الأصل عن راتبه، لكنها أخبرتني أنها رأته يعطي والده بعض النقود أكثر من مرة.
ضربت المرأة صدرها بكفها ثم هتفت بذهول:
_يا لخيبة ابنتك يا شروق! كيف عاشت معه لثلاث سنوات كاملين ولم تعلم أبدا مقدار راتبه؟! وكيف قبلت بإنفاقه على أهله وهي أولى بتلك النقود، ألا يتقاضى أبوه معاشا ما؟!
ردت شروق بنبرة حانقة:
_بلى يتقاضى، لكنه أيضا يتناول علاجا باهظا وأنتِ تعلمين حالة والدته أيضاً، وربما لا يكفيهما ذلك المعاش.
عبست أم محمود هاتفة باعتراض:
_وما ذنب دينا؟! هل يصح أن يأخذ بنات الناس من بيوتهن كي يرهقهن؟!
هزت شروق كتفيها باستسلام لا تجد ردا فتابعت المرأة بنبرة هامسة:
_اسمعي! لقد علمت اليوم أن شقيق السيدة منال يبحث عن عروس، ولأني أحب دينا وأعتبرها مثل بناتي فقد قفزت الفِكرة إلى رأسي الآن، عسى أن يكون عوضا لها عم عانته مع ذلك الرجل.
اتسعت عينا المرأة بدهشة وهي تجيبها:
_أخ السيدة منال؟!! من تقصدين؟ هشام؟! إنه أصغر من دينا!
توترت عينا أم محمود ثم تنحنحت:
_أعلم أن هشام أصغر من دينا، لكني لم أقصده هو.
ضيقت شروق عينيها بعدم فهم ثم ما لبثت أن فتحتهما على اتساعهما وهي تفغر فاهها بصدمة:
_أنتِ لا تقصدين طارق بالطبع، أليس كذلك؟
تهربت أم محمود بعينيها إلى الجدار المقابل ثم أجابتها بنبرة ضعيفة:
_وما به طارق؟! لديه ورشتين وعلمت أنه يسعى لافتتاح الثالثة، سيجعل معيشتها مزدهرة وسَيُلَبِّي كل طلباتها.
هتفت شروق بها وهي تهب واقفة:
_هل جننت يا امرأة؟! إنه أكبر منها بعشرين عاما ولديه أربعة أولاد.
جذبتها أم محمود لتجلسها بجانبها وهي تخاطبها بتمهل:
_أنصتي جيدا يا شروق! الرجل ثري وأرمل ويبحث عن زوجة، وأولاده بالفعل يتحملون مسئولية أنفسهم منذ وفاة والدتهم، ما يضيرها إن تنعمت هي بذلك الرغد؟
نظرت لها شروق بتمعن فعاجلتها المرآة بنبرة حازمة خافتة:
_لا ترفضي فورا! فكري مليا وربما يكون هو العوض بعد ذلك الفقر المدقع الذي عاشته مع ذلك المعقد.
تابعت أم محمود عد مميزات ذلك العريس"اللقطة" بينما شردت شروق وهي تفكر في كلامها، وتتخيل مستقبل ابنتها إن استطاعت اقناعها، فقط بعد أن تقتنع هي أولا، وربما قريبا ستفعل!
**********
فتحت الباب بلهفة بعد أن تأكدت أن خالها هو من ينتظر خلفه، وعلى الفور ألقت نفسها بين أحضانه وتساقطت دمعاتها على صدره وهي تشدد ذراعها اليمنى حول ظهره، بضعة دقائق مرت وهو يربت عليها بقلق شديد ثم أبعدها عنه برفق وهو ينظر إليها بقلق هاتفا:
_ما بكِ حبيبتي؟ ماذا حدث؟ هل ضايقك أحد ما؟
مسحت وجهها بكفيها وهي تفتعل ابتسامة بصعوبة ثم أجابته بخفوت:
_لا شيء، فقط اشتقت إليك.
تفحص خالها هيئتها من منبت شعرها حتى أخمص قدميها بتمعن ثم توقفت نظراته عند ذراعها اليسرى ورفع عينيه إليها مرة أخرى متسائلا بقلق:
_هل..هل توقفت ذراعك مرة أخرى؟
تهربت بعينيها منه وهي تجذب يده إلى الداخل متجاهلة سؤاله، ثم خاطبته بمرح مصطنع:
_اجلس صلاح وسوف أقوم بإعداد القهوة التي تحبها من يدي.
ما إن أولته ظهرها حتى جذبها من ذراعها اليمنى آمرا إياها بنبرة صارمة:
_الآن ستخبرينني ماذا حدث لتتوقف ذراعك عن الحركة، لقد ظننت أن تلك المشكلة انتهت منذ زمن.
جلست صاغرة على الأريكة وهي تزفر بيأس، هل تخبره؟ بم تخبره؟! "لا شيء خالي، مجرد رجل غامض يراقبني بكل مكان ويعلم عني كل شيء، كما أنه أرسل لي رسالة نصية لا استطيع تصنيفها تحت نوع التهديد، لكنها ترعبني وتسرق النوم والتركيز مني!"
استطاعت اجتذاب ابتسامة مرتجفة وهي تجيبه:
_لا شيء، أنا فقط أشتاق إليك جدا، أشتاق لغرفتي الصغيرة، ولا أعلم إن كنت ستصدقني عندما أخبرك بأنني اشتقت أيضا لزوجتك التي تكرهني ولابنتك التي تقيم الأفراح بعد رحيلي!
حدق بعينيها محاولا سبر أغوارها وهو يكاد يقسم أن هناك ما تحاول إخفاءه، لطالما فشلت في الكذب منذ صغرها، لطالما كانت كصفحة الماء الرقراق العذب أمامه، بنظرة واحدة إليها يستطيع معرفة إن كانت مهمومة أم سعيدة، ويا لندرة تلك المرات التي سعدت بها!
_رهف! أنا لازلت خالك، يجب أن تخبريني بما يشغلك.
بلهفة قبَّلت كفاه ثم أجابته بِحُب:
_بل أنت أبي وصديقي، الوحيد الذي أثق به في هذه الدنيا، وبالنسبة لذراعي لقد توقَّفَت فور انتقالي بسبب حداثة الأمر، لكن أنظر! لقد بدأت بالتحرك ببطء مجددا، وفي غضون أيام ستشفى تماما، أنت تدرك أن تلك الحالة عارضة وستنتهي وحدها بالتدريج فلا داع للقلق.
بالفعل حركت رسغها بضعف متغلبة على ألمها لينظر إليها بعدم رضى، قَبَّلته مرة أخرى على وجنته ثم استقامت مسرعة واتجهت إلى ركن المطبخ الملحق بالغرفة لتعد له القهوة.
"لِمَ لا تخبرينه يا حمقاء؟! هو ولي أمرك الوحيد ويستطيع حمايتك من ذلك الذي يطاردك!"
زفرت بتعب وهي تضع الدَلَّة على الموقد البسيط ناهرة نفسها بحزم:
"هل أصبحت معتوهة تماما؟! أهو يستحق منك توريطاً في مشاكلك المبهمة؟ ألا يكفيه ما حدث له قريباً بسببك؟ماذا إن أخبرتيه وتطور الأمر ليكتشف أن الموضوع في النهاية مجرد تسلية شائعة من أحد فارغي العقل الذين يشعرون ببعض الملل؟"
سَكَبَت القهوة داخل الكوب الزجاجي الصغير اللامع وتقدمت إلى خالها الذي تناوله منها بلهفة واضحة فابتسمت بشقاوة:
_مهلا صلاح سيتلاشى وجهها!
ارتشف بعضا منها مغمضا عينيه باستمتاع ثم فتح عينيه مبتسما:
_مهما تعددت الأماكن التي أشرب بها القهوة، لا أشعر بلذة بها إلا من يديك أنت.
ابتسمت بفخر شديد مفضِّلة مراقبته في صمت حنون على التفوه بأية كلمات تفصل عنها متعة رفقته القصيرة، ثم لفت انتباهها بعض الأكياس البلاستيكية بجوار الباب فعقدت حاجبيها بنزق:
_ما هذا صلاح؟ ما الذي جلبته معك؟ أنا لا أحتاج شيئا.
أطرق برأسه في صمت لِثوانِ ثم رمقها بأسف مُردداً بِخفوت:
_أعلم رهف، أدرك تماما أنكِ لن تطلبي مني شيئا كما اعتدتِ طوال عمرك، لكن لا تحرميني من إحساسي بأبوتي لك ولا تعاقبيني على تركي إياك!
ترقرقت عيناها وهي تنظر له بحب:
_كم مرة يجب علي أن أخبرك أنك بالفعل أبي؟ ألا تعلم خالي أنني لولاك لَصار مصيري مُظلما منذ زمن؟ ألا تعلم أنك أنقذتني من أسوأ كوابيسي؟ ألا
تعلم أن حتى ما كان يحدث لي في بيتك أنا أعتبره نعمة مقارنة بما كنت سأتعرض له خارجه؟ اسمعني خالي وأنصت إليَّ جيدا لأنني لن أكرر ذلك ثانية، أنت لم تُقَصِّر معي أبدا بأي شيء، لا بالحنان ولا بالاهتمام ولا بالماديات، أنظر إليَّ! أنا الآن معلمة في مكان مرموق ولي مكانتي بين الجميع، ما ضرَّني إن عشت بمفردي؟ لا تعتقد أن ذلك الوضع أنت المتسبب به على الإطلاق، انتقالي كان سيحدث آجلاً أم عاجلاً، وزوجتك مشكورة أنها تحملتني طوال تلك السنوات، لا تبتئس أرجوك!
ربت عليها بحنان جارف وهو يداري عينيه المتحرجتين عنها فأسرعت بتغيير الموضوع:
_ألم يحاول حمزة الرجوع إلى دينا؟
عقد حاجبيه بضيق وهو يزفر بِضيق:
_لا، لم يحاول أبدا، وعلى ما يبدو أن دينا أيضا لا تهتم بذلك، من الواضح فعلا أنهما لا يستطيعا التفاهم سويا، فهي ذكرت أنه متشدد ويضيق عليها معيشتها بدون توضيح، وبالرغم من إلحاحي عليه هو أن يخبرني بسبب انفصالهما إلا أنه كان مُتحفظا بشدة وهو يؤكد على اختلاف شخصيتيهما، لكنني متأكد رهف أن هناك سببا قويا خلف الطلاق.
هزت رهف كتفيها وهي تجيبه:
_ربما اختلافهما تسبب في استحالة معيشتهما، فنحن لم نعرف عنه ما يسوءه طوال السنوات الثلاث، وبما أن الانفصال تم بِرُقِي ودينا ليست حزينة أو نادمة فلا تهتم، عسى الله أن يعوضهما مع آخرين.
أومأ صلاح رأسه إيجابا بشرود ثم تجاذب معها أطراف الحديث عن عملها وكيفية قضاء يومها ثم
وعدها باصطحابها في نزهة بأقرب وقت، وبعد ساعتين انصرف مودعا تاركا إياها في حالة من الهدوء النفسي لتدلف إلى فراشها متهربة من أية أفكار تعبث بسلامها المؤقت.
**********
أغلق الباب والتفت بتثاقل ليجدها تناظره باستفهام متخصرة، استغفر ربه سرا وهو يغمض عينيه متضرعا الصبر ثم فتحهما ليبتسم بتكلف مُحيياً:
_السلام عليكم، كيف حالك شروق؟
بنبرة محذرة أجابته:
_أين كنت؟ لقد اتصل بك صديقك أشرف وسألني عنك لأعلم منه أنك انصرفت مبكرا من العمل؟إلى أين ذهبت يا صلاح؟
تجاوزها بغيظ وهو يجيبها ببرود:
_هل تحققين معي شروق؟! لكني سأجيبك، كنت أطمئن على رهف.
ألقت ذراعيها جوارها وعيناها تتوسعان بدهشة غاضبة:
_ماذا؟! أذهبت لزيارتها بعدما حدث؟ ألم نتخلص منها ومن المصائب التي تلاحقها؟
استدار إليها هاتفا بحنق:
_شروق! إنها ابنة أختي وأنا أحق الناس بالاهتمام بها، ألا يكفيكِ أنني أطعتك وتركتها ترحل لتقيم وحيدة؟ ألا يكفيك أنني أكاد أن أُجن كلما تخيلت كلام الناس عنها؟ لِمَ تكرهينها بذلك الشكل؟ بِمَ آذتكِ أنت وابنتك؟
تراقص الحقد في مقلتيها وهي تجيبه بحنق:
_هي ابنة أختك أنت ولا تخصني بشيء، أنا ليس لدي إلا ابنة واحدة، تلك التي ربما تسببت مدللتك في إفشال زواجها.
حدق بها بدهشة:
_ماذا تقصدين؟ ما علاقة رهف بطلاق دينا؟! لا أفهم.
بفحيح غاضب اقتربت منه وهي تحاول بث سمومها داخل عقله:
_أنت لا تفهم لكنني أنا أفهم جيدا، لقد رأيت نظرات حمزة لها كلما جاء إلى زيارتنا مع دينا، وأنت بنفسك حضرت بعض تلك المناقشات بينهما من قبل، الآن اجزِم بأن الهانم قد تسببت في طلاق ابنتي الوحيدة، لكنك أنت من تصر على صم أذنيك أمام أي شيء يظهرها على حقيقتها أمامك.
تعالى صدره وهبط في تنفس سريع وهو ينظر لها بذهول، ربما لو كان وضع أسرته هادئاً تلك الآونة لاستطاع تهذيبها كما يجب، لكن للأسف هو مضطر للصمت كعادته من أجل ابنته، اقترب منها والشرر يقفز من عينيه قفزا مُرددا بخفوت:
_أتعلمين يا شروق؟ لطالما خفت من أن تقع الغيرة في قلب رهف تجاه دينا، فابنتنا لديها منزل مستقر ووالدين يحبانها ومكانة عالية بين الجميع، لكن ما حدث هو العكس، أنت وابنتك تغاران من تلك المسكينة أشد الغيرة، علام كل ذلك؟! انظري لحالها! أنتِ بنفسك لتوك اعترفتِ بأن المصائب تلاحقها وهي الآن وحيدة تماما، ألا تدركين بِمَ أشعر لفكرة اقتحام أحدهم تلك الغرفة الوضيعة التي هربت منكما إليها؟ ألا تشعرين ولو بقدر قليل من القلق على فتاة عاشت أكثر من عشرين عاما تحت سقف بيتك والآن
لن نعلم إن حلت بها مصيبة وهي بمفردها ونحن هنا نجتمع ثلاثتنا معا مُستمتعين بالأمان؟
تهربت بعينيها منه بتوتر وهي ترد بتخاذل:
_أنا تحملتها لسنوات، لكن ما حدث مؤخرا كان يجب وضع حد له و.....
قاطعها بصرامة:
_ما حدث مؤخرا.. نعم ..بالحديث عن ذلك، هل أنت بريئة منه تماما يا زوجتي العزيزة؟
شحُب وجهها وجذبت إحدى خصلاتها تضعها خلف أذنها بأنامل مرتجفة:
_م.. ماذا تقصد؟
بإزدراء أجابها:
_تفهمين قصدي جيدا شروق، إن كنتِ تظنين أني أطعتك مضطرا فأحب إعلامك أنكِ مخطئة، أنا لم أدع رهف ترحل من هنا إلا خوفا عليها من مكائدك أنتِ وابنتك، أعلم أنكما لن تتوقفا عن أذيتها، وربما الشرور الموجودة بالخارج أرحم من كلتاكما.
صرخت بتوتر :
_أنت تتعمد مضايقتي حتى تجبرني على إعادتها، أليس كذلك؟
ضحك عاليا بسخرية أثارت دهشتها، ثم مال برأسه أمام عينيها يحدق بهما:
_أتظنين أنها قد تعود إلى ذلك البيت؟ أستطيع أن أقسم لك بالعكس تماما، رهف تخلصت من قيدك وأنا لن أقبل لها المذلة والإهانة هنا ثانية.
أولاها ظهره واتجه إلى غرفته ثم توقف أمام بابها واستدار إليها مرة أخرى مخاطبا إياها بصرامة أرعبتها:
_حمزة لم يحب دينا، ودينا لم تر فيه سوى الواجهة المميزة، لقد ظنت أنها ستفترش الأموال وصُدِمَت بالعكس عندما علمت بمساعدته المستمرة لأهله، هو رجل دمث الخُلُق وأنتِ تعلمين ذلك، كان متعاطفا بشدة مع رهف وعندما رأى معاملتك أنتِ وابنتك لها أراد إشعارها بقيمتها، لم يراها يوما أبعد من أخت له، ولكم تمنيت إن كان لي ابن أن يكون مثله، لِذا فتفكيرك المريض هذا لا تقحمي رهف به.
أنهى عبارته ودلف إلى غرفته صائحا من الداخل:
_أرجو أن توصلي تحياتي إلى أم محمود!
زفرت بِغِل شديد وهي تضغط أسنانها بشدة متوعدة تلك الفتاة إن فكرت بالعودة مرة ثانية.
**********
بعد أسبوع:
تقلب قنوات التلفاز بشرود شديد، اليوم عطلتها وقد انقضى وهي لا تجد أي نشاط تفعله سوى الجلوس بغرفتها بملل، فكرت في الخروج قليلا لكنها تراجعت فورا وهي تشعر برفض الفكرة ليلح عليها سؤال واحد طالما أرقها: لِمَ لا تستطيع عقد صداقات مثل معظم الفتيات؟ زفرت بضيق وهي تتهرب من الإجابة فارضة نهيا حازما على نفسها:"أنتِ لن تحتاجي لأي صديقات، وحدِك آمنة تماما!"، فقط لو يستطيع خالها الحبيب زيارتها مرة أخرى!
استرعى انتباهها رنين هاتفها فقفزت تتناوله مبتسمة، دائما ما إن تفكر به حتى يشعر بها، وعلى الفور ماتت الابتسامة على شفتيها وهي تتطلع إلى الرقم الذي ظنت أن صاحبه قد مَلَّ لُعبته الجديدة، بهدوء وضعت الهاتف على الطاولة وهي تنظر له بترقب حتى صمت، لكن طالبها كان أكثر إصرارا تلك المرة، فقد أعاد الاتصال مرتين أتبعهما برسالة نصية عندما أدرك أنها لن تجيب.
فتحت هاتفها لتتسع عيناها بذعر والكلمات تغزو عقلها ببطء، بينما ترى عبارة "يكتب الآن" لتزيد من ذعرها:
"أنتِ تُدركين أنني أستطيع أن أصل إليكِ في أي وقت وفي أي مكان، أليس كذلك رهف؟"
وبينما لاتزال تحاول استيعاب الرسالة الأولى عاجلها بالثانية:
"هيا رهف! أنتِ لن تجعلينني آتي إلى_لِنَقُل منزلك_ في تلك الساعة!"
والثالثة قطعت صيحتها الضعيفة:
"يجب أن نتحدث الآن، لن أنتظر أكثر."
امتدت أناملها إلى الهاتف تكتب بارتجاف:
"ماذا تريد مني؟"
ليعود الرنين أقوى بين يديها، فازدردت لعابها وأجلت حنجرتها وهي تجيب الاتصال متسلحة بقوة واهية مكررة سؤالها الوحيد:
_ماذا تريد مني؟
أتتها الإجابة الخافتة فورا بدون مواربة لتعقد لسانها:
_أُريدِك!
ثم تابع بنبرة رجولية خشنة لا تعلم لِمَ يُثيرها الحزن بها:
_أريدك رهف، أريد رؤيتك، أريد تعويضك، أريدك معي دائما وإلى جانبي.
وقبل أن تنجح بالنطق بادرها:
_أنا لا أريد بكِ شرا رهف، أنتِ غالية، لا تدركين كم أنتِ غالية!
أخيرا خرج صوتها الضعيف مهددا بوهن:
_اسمع يا هذا! أنا لن أقبل بتلك الوقاحة، وأنت لن تتصل بي مرة أخرى، وإلا سأخبر الشرطة، وأنت تعلم أنهم سيصلون إليك ويشبعونك تعذيبا.
ضحكة خشنة انطلقت منه جعلتها تصمت تماما بدهشة وهو يخاطبها:
_يا إلهي أنتِ حقا ممثلة فاشلة!
ثم تابع بنبرة جادة:
_أنصتي جيدا رهف، ذلك الوضع لن يستمر طويلا، قريبا ستكونين معي ولن يفرق بيننا أحدا، وحتى ذلك الوقت اعتني بنفسك جيدا، إلى اللقاء.
حدقت في هاتفها بصدمة ثم ألقته برعب وهي تبكي بشدة، ثم هبت واقفة وهي تصل إلى الحل الوحيد...
سترحل من هنا؛
ستبحث عن غرفة أخرى وترحل قبل أن يؤذيها ذلك الغريب!
**********
وعلى الطرف الآخر وقف هو مُحدِّقا بِشرود بالحديقة الخارجية من نافذة غرفته، يلوم نفسه بشدة فهو يشعر برعبها الجلي، يعلم أنه تعجل بملاحقتها لكنه تصرف رغما عنه، فلم يستطع الانتظار أكثر، يكاد أن يُجن بعدما رأى المكان الذي تقطن به، قليل من الوقت فقط هو ما يريد، وبعدها لن يتركها وبصدره نفس يتردد.
فَك عقدة حاجبيه وابتسم رغما عنه وهو يستمع إلى الصيحة الطفولية القادمة من الحديقة:
_أنظر أبي! لقد أصبحت ماهرا في تلك اللعبة!
اتسعت ابتسامته بحنان وهو يجيبه:
_أحسنت إياد! ستنافسني بها بكل تأكيد.
بلهجة متوسلة صاح الطفل:
_إذن انزل أبي لتلعب معي، أرجوك!
مد يده ليغلق النافذة مبتسما وهو يرد:
-كما تريد إياد، لكن حذار من البكاء عندما أهزمك!
استدار مبتسِما ليتخشب جسده بأكمله وتنمحي ابتسامته فورا وهو يحدق بالعينين العسليتين الدامعتين تنظران إليه بحسرة، وبنبرة خافتة مُتكسِّرة بادرته:
_أتخونني عَمَّار؟!
***** نهاية الفصل الأول*****

سعاد (أمواج أرجوانية) 15-08-20 01:17 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ضحى حماد (المشاركة 15034658)
يا هلا بالغالية والله
منورة وحي كلووووووووو
رواية رائعة جميلة جدا ولا يصدق انها روايتك الاولى
مليئة بالتشويق والغموض والاكشن ومخلوطة برومانسية حلوة
تحوي العديد من الرسائل والافكار الجميلة
مزيد من التطور والابداع يا عيوني
وناطرييييييييييييييييينك دووووووووووووم على نااااااااااااااااااااار

ألفففففففففففففف مبروووووووووووووووووووووو ووك
:wavetowel2::wavetowel2::wavetowel2::wavetowel2::w avetowel2::32-1-rewity::32-1-rewity::32-1-rewity::32-1-rewity::32-1-rewity::32-1-rewity::yaaaa::yaaaa::yaaaa::yaaaa::yaaaa::yaaaa:




حبيبة قلبي يا ضحى ماتحرمش منك أبداااااااا:21-1-rewity::21-1-rewity:

ضحى حماد 15-08-20 01:22 AM

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 18 ( الأعضاء 5 والزوار 13)
‏ضحى حماد, ‏إنجى خالد أحمد, ‏rola2065+, ‏سعاد (أمواج أرجوانية), ‏إسراء يسري

قصص من وحي الاعضاء 15-08-20 01:36 AM

اهلاً وسهلاً بك بيننا في منتدى قصص من وحي الأعضاء ان شاء الله تجدين مايرضيك موفقة بإذن الله تعالى ...

للضرورة ارجو منكِ التفضل هنا لمعرفة قوانين المنتدى والتقيد بها
https://www.rewity.com/forum/t285382.html

كما ارجو منك التنبيه عندما تقومين بتنزيل الفصول على هذا الرابط
https://www.rewity.com/forum/t313401.html

رابط لطرح اي استفسار او ملاحظات لديك
https://www.rewity.com/forum/t6466.html



واي موضوع له علاقة بروايتك يمكنك ارسال رسالة خاصة لاحدى المشرفات ...

(rontii ، um soso ، كاردينيا73, rola2065 ، رغيدا ، **منى لطيفي (نصر الدين )** ، ebti )



اشراف وحي الاعضاء


ضحى حماد 15-08-20 02:03 AM

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 15 ( الأعضاء 3 والزوار 12)
‏ضحى حماد, ‏الذيذ ميمو, ‏إسراء يسري

أسماء رجائي 15-08-20 02:10 AM

سكن
 
مبااارك ياسو..
في الإنتظار نتابع تاني معاك

سعاد (أمواج أرجوانية) 15-08-20 02:30 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أسماء رجائي (المشاركة 15034886)
مبااارك ياسو..
في الإنتظار نتابع تاني معاك

الله يبارك فيكي يا أسماء 😍😍

Ra Rashad 15-08-20 04:13 AM

مبرووووك ربنا يوفقك حبيبتي
اخبار عاصم ايه😅😁

أميرةالدموع 15-08-20 11:03 AM

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اسلوب رائع جدا وكلمات منسابة بلا تكلف
بداية شيقة متابعة معاكي أن شاءالله
في انتظار جديدك
أميرةالدموع

شمس الصحراء 15-08-20 12:58 PM

الف مبروك يسلمو الايادي بدايه قويه وماثره بجد اسلوبك رائع في توصيل الاحساس لدرجه ان دموعي لم تتوقف ع رهف والظروف اللي هيا بها ومن هو الرجل الغامض وماذا يريد منها ما هذه القفله الشريره ولو سمحتي متى موعد الفصول بجد استمتعت بقراءة الفصل وتاثرت بكل شي به بتوفيق لك كل احترام وتقدير ناطرين ع نار شكرا

سعاد (أمواج أرجوانية) 15-08-20 01:27 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة Ra Rashad (المشاركة 15035125)
مبرووووك ربنا يوفقك حبيبتي
اخبار عاصم ايه😅😁

الله يبارك فيكي يا راميا:yaaaa:
عاصم منور اهه:22-1-rewity:

سعاد (أمواج أرجوانية) 15-08-20 01:29 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أميرةالدموع (المشاركة 15035417)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اسلوب رائع جدا وكلمات منسابة بلا تكلف
بداية شيقة متابعة معاكي أن شاءالله
في انتظار جديدك
أميرةالدموع

حبيبتي تسلميلي يا رب.. سعيدة انها عجبتك ويا رب تعجبك للآخر

سعاد (أمواج أرجوانية) 15-08-20 03:04 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة شمس الصحراء (المشاركة 15035554)
الف مبروك يسلمو الايادي بدايه قويه وماثره بجد اسلوبك رائع في توصيل الاحساس لدرجه ان دموعي لم تتوقف ع رهف والظروف اللي هيا بها ومن هو الرجل الغامض وماذا يريد منها ما هذه القفله الشريره ولو سمحتي متى موعد الفصول بجد استمتعت بقراءة الفصل وتاثرت بكل شي به بتوفيق لك كل احترام وتقدير ناطرين ع نار شكرا


الله يبارك فيكي حبيبتي
مبسوطة جدا إنها عجبتك عقبال باقي الفصول
المواعيد إن شاء الله هاتكون يومي الأحد والأربعاء

sun 256 15-08-20 03:17 PM

ألف مبروك البداية يا سوسو :sm92:نورتي المنتدى بالتوفيق يا رب:elk:

سعاد (أمواج أرجوانية) 15-08-20 04:37 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة sun 256 (المشاركة 15035786)
ألف مبروك البداية يا سوسو :sm92:نورتي المنتدى بالتوفيق يا رب:elk:

الله يبارك فيكي يا شروق:21-1-rewity::21-1-rewity:

سعاد (أمواج أرجوانية) 16-08-20 07:56 PM

الفصل الثاني
ضحية أَم...؟!
قبل ثمانية سنوات:
شَبَّكَت أصابعها ببعضهم بتوتر شديد ووهي تختلس النظرات المنبهرة الخجِلَة إليه، لا تُصدِّق ما يحدث بالأصل حتى الآن.
أحقاً هو هنا طالباً الزواج بها؟
أحقاً هو يريدها أيضاً؟
وبالرغم من صمته وعبوسه منذ حضوره مع خالتها وزوجها وتغريد إلا أنها تكاد تطير فرحا لفكرة رغبته بالاقتران بها، أيُعقل أن الرجل الوحيد الذي لطالما أحبته يبادلها شعورها منذ سنوات كما تُقسم خالتها؟
تباطأت دقات قلبها للحظة عندما رفع عينيه إليها، أغاضب هو أم مرتبك؟ ابتعدت عيناه عنها فأطلقت زفيراً قلقاً مُضطرباً، يحق له الارتباك بالطبع فالوضع أصبح غريباً فجأة، حتى الأمس فقط كان مجرد ابن الخالة الصديق المهتم الحنون، اليوم هو خاطبها! ربما هو خَجِل ليس أكثر.
وهو..
أنفاسه ثائرة ودقات قلبه تدوي بعنف، هل يشعر فقط بالغضب والنفور؟ أم بالامتعاض والاستنكار؟ كيف وصل إلى هنا وارتضى المشاركة في تلك المهزلة؟ كيف سمح لنفسه أن يُصبح بذلك الضعف والخنوع؟ لقد اعتاد على طأطأة رأسه لوالديه في اختيار ملابسه وطعامه وأصدقائه..
حتى دراسته لم يخترها!
يتذكر جيدا يوم اجتيازه لمرحلة الثانوية العامة حينما ذهب إلى والديه قائلاً بِحماسة زائدة:
_أبي، أنا لا أريد دراسة الطب، أريد أن أصبح مُعلما، أنا أحب التدريس.
ليستنكر والده:
_هل تمزح؟! أتريد أن تصبح مجرد معلم بذلك المجموع الذي يتمناه الآلاف؟، انس هذا الهراء تماما، أنت ستصبح طبيباً شئت أم أبيت.
وتتوسل والدته:
_عَمَّار حبيبي، أنت لا تريد لهالة صديقتي أن تشمت بي أليس كذلك؟ ابنها التحق بكلية الطب بالعام الماضي، وهو ليس أفضل منك.
فيرد بتخاذل:
_ولكنني...
ولكنه وجد نفسه طبيبا رغم أنفه وأحلامه، ولم يتوقع أبدا أن يمتد انتهاكهم لخصوصياته وتسييرهما لحياته إلى تزويجه من ابنة خالته التي يراها كأخته الصغيرة ، هي فقط تكبرها بعدة سنوات، لكن مشاعره تجاهها لا تختلف، وما يغيظه ويحيره حقا تلك الابتسامة المتوردة التي ترتسم على محياها الجميل، والنظرات المختلسة التي ترمقه بها بعسليتيها ظناً منها أنه لا يلاحظها...
عندئذٍ شرد في حُلم آخر حرمه منه أبواه قريبا ولن ينساه يوما:
_أبي، أنا أريد التقدم لخِطبة رضوى.
ليهب والده صارخا:
_هل جننت؟! أتريد مني أن أُصاهر تاجر يبيع الملابس بمنطقة شعبية؟
وتضرب والدته فوق فخذيها بكفيها:
_يا ويلتي في ابني! أترضى بجلب ابنة البائع إلى بيتنا؟
فيدافع بعناد:
_لكني أحبها، هي طبيبة مجتهدة وعلى خلق، أبوها تاجر وليس لِصاً!
ليشدد أبوه بلهجة حازمة:
_انس هذا الهراء تماما، صديقي مصطفى لديه ابنة رائعة الجمال، أبوها رجل أعمال وأخوها أيضا صاحب شركة ضخمة، سنذهب لخطبتها.
وتسارع أمه بلهفة:
_وما بها مَوَدَّة ابنة أختي؟! من أجمل منها؟! كما أننا نعرفها تمام المعرفة وهي تحبك يا عَمَّار، لن ترهقني أو تسبب المشاكل، ولن نضطر لجلب كنَّة لا نعلم عنها شيئا إلى بيتنا.
فتتسع عيناه بذهول مستنكرا:
_مَوَدَّة!! هي مثل تغريد تماما!!
ولأنه دوماً ما كان سريع الاستسلام؛
قدرته على الاعتراض محدوده؛
وخنوعه يجد به سلاماً آمناً!
ها هو يجلس مع والديه وشقيقته في مواجهة أسرة خالته ليستمع بذهول إلى قصة غرامه بابنة خالته واضطراره إلى كتمان عشقه منذ سنوات حتى لم يعُد يقو على الانتظار أكثر!
****
عودة إلى الوقت الحالي:
خرجت من عملها تسير شاردة بعد أن بائت كل محاولاتها مع صاحب الxxxx بالفشل، لا يريد اللئيم أن يعيد إليها حتى مقدم شهر واحد مستغلا حاجتها الواضحة للمأوى والمال، وهي الآن تشعر برغبة عارمة في الصراخ أو البكاء..
ما يضيرها إن بكت الآن؟! الظلام حل على أي حال ولن يلاحظ أي شخص! انحدرت دمعة اختنقت بسبب شدة تقييدها فمدت أناملها تمحوها بسرعة ولم تنتبه إلى الدراجة النارية القادمة من خلفها ولا بالراكب خلف السائق الذي اختطف حقيبتها وانطلق!
تخشبت مكانها للحظة لا تفهم ما حدث ثم صرخت وهي تعدو خلف الدراجة التي اختفت براكبيها:
_انتظر أرجوك! انتظر بالله عليك! هاتفي! كتبي!!
وحينما أدركت أن ما تفعله بلا طائل سقطت أرضا مكانها وهي تنهار باكية كما لم تفعل يوما..
بكت يتمها؛
بكت الظلم الملازم لها؛
بكت كراهية الأقربين لها؛
بكت وحدتها وخوفها؛
بكت سرقتها وهاتفها وكتبها!
تربيتة حنونة على إحدى كتفيها جعلتها ترفع عينيها لتطالع سيدة مسنة تنظر لها بقلق:
_ما بكِ ابنتي؟ لِمَ تجلسين هكذا؟ لِمَ تبكين؟
وكطفلة صغيرة تائهة أشارت بسبابتها إثر الدراجة الراحلة وهتفت ببكاء:
_اللصوص! لقد سرقوني، هاتفي وحقيبتي!
فجأة اتسعت عيناها بذعر وهي تتابع:
_الأنذال! لقد سرقوا دفتر الملاحظات خاصتي!! أين سأكتب ملاحظاتي الآن؟!
انهارت في بكاء عنيف والمرأة تنظر إليها بتوجس، لكنها ما لبثت أن أمسكت بذراعها وهي تساعدها على الوقوف، خفتت شهقاتها وهي تنفض الغبار عن ملابسها متمتمة بشكر ضعيف للسيدة التي بادرتها متسائلة باهتمام:
_كيف ستعودين إلى منزلك؟هل تملكين أية نقود ابنتي؟
فَتَّشَت رهف جيوبها بذعر ثم زفرت بارتياح وهي تخرج ورقة من فئة العشرة جنيهات تنظر لها وكأنها أغلى كنوز العالم مُرددة بابتسامة بدت دخيلة على حالتها المزرية:
_دائما ما نصحني خالي بألا أضع نقودي كلها في مكان واحد حين أخرج.
ثم وضعت الورقة على شفتيها مقبلة إياها بامتنان مُبالَغ به!
"حسنا، إنها مجنونة!" هكذا فكرت المرأة وهي تبتعد عنها خطوة إلى الخلف مُتوجسة، لكن رهف سرعان ما استأنفت بكاءها شاكية:
_اللصوص الأوغاد! ماذا سأفعل الآن في الكتب؟! لقد كانت باهظة الثمن! ودفتر ملاحظاتي، منكم لله! عسى الله أن ينتقم منكم قريباً!
تمتمت المرأة بارتباك:
_أشعر أنك حزينة على ضياع الكتب ودفتر الملاحظات أكثر من خسارتك للهاتف!
شهقت رهف بحسرة:
_ إنها الكتب التي تساعدني في عملي، كيف سأذهب إلى المركز الآن؟!
ظل سؤالها بلا إجابة حتى زفرت بيأس والمرأة تتململ في وقفتها فافتعلت ابتسامة مخاطبة إياها بخفوت:
_أشكرك على مساعدتي، لا تقلقي عليّ! أنا سأستقل الحافلة من الموقف القريب.
انتهزت المرأة الفرصة وهي تومىء برأسها وتطلق ساقيها للريح ابتعادا عن غريبة الأطوار تلك، زفرت رهف بإرهاق وهي تجُر خطواتها جرا بعيدا عن أعين المارة الفضولية من حولها، وعندما وصلت إلى البيت ظلَّت تُقسم لِصاحبه أن حقيبتها تمت سرقتها ولا تملك أية مفاتيح ليوافق على إعطائها النسخة الإضافية.
****
في اليوم التالي:
كانت تتناول طعام إفطارها في مطعم الشركة البسيط عندما لمحته آتيا، تظاهرت باللامبالاة وهي تشيح بوجهها بعيدا فجلس بمقابلتها مبتسماً بإغاظة وسألها:
_لِمَ أنتِ غاضبة مني؟ إنه قرار أخيك، ما ذنبي أنا؟
نظرت له بغضب هاتفة:
_أنتما الاثنان تريدان كتم أنفاسي ثم إزهاق روحي، لقد مللت من تحكمكما الزائد بي ولا يمنعني عن أخذ حقي سوى أمي.
ضحك باستمتاع شديد فازداد الغضب على محياها لتتابع بتحدي:
_أتعلم عاصم؟ يوما ما سأتخلص من سطوتكما علي، سيُبتلى كل منكما بمصيبة يستحقها وسأراقبكما بتشفِ.
توقف عن الضحك وهو يعبس بافتعال:
_أنتِ حقا تكرهيننا! كل ذلك لأننا نخاف عليك؟ السفر إلى هناك سيضجرك لأننا سننشغل طوال الوقت، ثم يجب أن تفرحي، فأخوكِ قد قرر أن يسافر وحده وسأظل أمامك طوال الأسبوع القادم.
أشاحت بوجهها بامتعاض متمتمة:
_فليكن الله في عوني!
استأنف ضحكه وهو يمنع نفسه عن إخراج لسانه لها كالأطفال ثم خاطبها:
_هيا سارة! لا تكوني ظالمة! أنا لست سيئا إلى ذلك الحد.
مالت وجهها تتحدث من بين أسنانها بِغِل:
_بل أنت... أنت......
لم يسعفها لسانها بالرد المناسب فتوقفت عن البحث عن واحد وهي تلمح الشابة الجميلة ضئيلة القامة نوعا ما التي توقفت أمامهما، نظرت لها بتساؤل بينما التفت عاصم إليها باستغراب فبادرت:
_أعتذر! هل حضرتك تكون مهندس عاصم؟
استقام بهدوء وهو ينظر اليها بابتسامة مهذبة:
_نعم أنا، وحضرتك تكونين...؟
اجتاح ملامحها توتر جلي وهي تنقل نظراتهما بينهما بارتباك:
_أنا سما محسن.
ضيق عاصم عينيه وهو ينظر إلى سارة بتساؤل فأجابته بهزة من كتفيها مُعلِنة جهلها، فالتفت مرة أخرى إلى الفتاة قائلاً بتهذيب:
_إن كنتِ هنا من أجل مقابلة عمل فاصعدي إلى الدور الثاني لـ....
قاطعته الفتاة بنفاد صبر:
_لا، لست هنا من أجل ذلك، أنا أريد التحدث معك بموضوع شخصي.
عقد حاجبيه بدهشة:
_تفضلي بالحديث، إنها مهندسة سارة، ابنة خالتي.
اتسعت عينا الفتاة بدهشة حقيقية هاتفة:
_كيف تكون هي ابنة خالتك؟
وقفت سارة مبتسمة باستفزاز:
_بمعنى أن والدتينا شقيقتان، إنها الكلمة التي تطلق على ذلك النوع من صلة القرابة إن كنتِ لا تعلمين!
فغرت الفتاة شفتيها وهي تنقل نظراتها بينهما كأنهما معتوهين ثم قالت بدهشة:
_ولكن.. ولكن والدتك ليست لديها أية شقيقات!
هنا فقد عاصم هدوئه وهو يهتف بها:
_بِمَ تهذين أنتِ؟! ومن أين تعرفين أفراد عائلتي؟
واجهته الفتاة بصرامة حانقة:
_إن كنت لم تلتقط الاسم.. أنا سما محسن حجاج، ووالدتك السيدة صفاء تكون زوجة أبي وأنا متأكدة من عدم وجود شقيقات لها!
حدق الاثنان في وجهها بذهول كانت سارة أول من تخلص منه، بابتسامة مرتجفة تقدمت منها قائلة:
_تفضلي آنسة سما.
جلست سما على المقعد المجاور بترقب فلحقتها سارة وهي تحاول التصرف بطبيعية:
_ماذا تفضلين أن تشربي؟
همت الفتاة بالرد حينما أجفلتها حركة عاصم وهو يندفع منصرفاً بغضب هائل، فنظرت لها سارة باعتذار وهي تبتسم بمجاملة:
_اعذريه، ذلك الأمر على الأخص يغضبه.
أومأت سما لها فبدأت الأخرى باجتذاب الحديث معها حنى يعود ذلك الغاضب.
****
قبل سبع سنوات:
دلف إلى غرفته وهو يلقي مفاتيحه وهاتفه على أقرب مقعد، ثم تخلص من سترته واتجه إلى الخزانة ليلتقط
بعض الملابس المنزلية، أخذ يقلب بها بنزق ثم صاح بغضب:
_مَوَدَّة! مَوَدَّة!!
اندفعت إلى داخل الغرفة بخوف ثم ما لبثت أن زفرت بارتياح وهي تجده واقفا أمام الخزانة، لكنها عقدت حاجبيها بحنق وهي تجيبه:
_ماذا بك عَمَّار؟ لِمَ تصرخ بذلك الشكل؟
التفت إليها حانقا:
_أين قميصي القطني الأزرق؟ لقد كان هنا في الصباح، ألا حد لإهمالك؟
أغمضت عينيها بألم وهي تجيبه بضعف:
_أنا مُهملة عَمَّار؟! منذ متى أهملت بشيء يخصك؟ لقد مرت ثلاثة أشهر على زواجنا، هل سبق وضاع شيء منك؟
دفع درفة الخزانة بغضب مبالغ به وهو يهتف به:
_الآن أهملتِ يا هانم، أين ذلك القميص؟
زفرت بتوجس وهي ترد:
_إنه قديم جدا، لقد .. لقد بهت لونه بشدة وذاب القماش في بضعة مواضع به.
اتجه اليها ببطء رامقا إياها بتحفز:
_ثم..؟
تقهقرت خطوتين إلى الخلف وهي تنظر في كل الاتجاهات بعيدا عنه، وبنبرة ضعيفة أجابته:
_ثم ارتأيت أن أتخلص منه.
توقفت أنفاسها وهي تتطلع إلى النظرة المصدومة بعينيه قبل أن يجيبها بخفوت منذر:
_ارتأيتِ أن تتخلصي منه؟!
بلهفة حماسية عاجلته:
_لا تقلق!لقد ابتعت لك واحدا آخر اليوم.
تجاوزته حتى وصلت إلى الخزانة فالتفت ينظر إليها بصدمة، انتقت شيئا من فوق الرف الخشبي ورفعته أمام وجهه مبتسمة بتشوق هاتفة:
_انظر! إنه باللون النبيذي، لقد لاحظت أن معظم ملابسك باللون الرمادي وتدعو إلى الكآبة، لكن ذلك اللون سيكون رائعا عليك، سيجعلك أكثر وسامة.
لم يحرك مقلتيه عن عينيها العسليتين ولم يهتم حتى بالنظر إلى هديتها وهو يعاود سؤالها بهدوء مريب:
_مَوَدَّة لآخر مرة أسألك، أين هو قميصي الأزرق الآن؟
ازدردت لعابها وهي تخفض كفها بالقميص الجديد ثم أجابته بِوَجل:
_ألقيته بالقمامة.
تخلل شعره بيديه مغمضا عينيه ثم فتحهما رامقا إياها بنظرة ميتة:
_ألقيتِه بالقمامة؟!
عَمَّ الصمت وانتشر التوتر، بينما تابع هو بجمود مريب:
_الشيء الوحيد الذي أحبه واخترته في ذلك السجن ألقيتِه بالقمامة؟!
نظرت له بدهشة حذرة سرعان ما تحولت لانتفاضة وهو يجتازها ليصل إلى خزانته ثم يصرخ وهو يلقي قطع ملابسه منها بثورة صارخا:
_لِمَ لم تلقي تلك الملابس بدلا منه؟ أنا لم أختر أيا منها، لم أختر أي شيء، لم أختر ذلك البنطال، لم أختر تلك السترة، لم أختر رابطة العنق الخانقة تلك!
بدأ جسدها بالارتجاف رعبا وهي ترى الغرفة قد تحولت إلى ما ينتج عن اجتياح إعصار بينما اتجه هو إليها بسرعة واختطف منها القميص الذي تتمسك به ثم أمسك ذراعيها بشدة هاتفا بِغِل:
_أنا لم أختر ذلك القميص الذي احضرتيه إليّ، أتعلمين؟! أنا لم أخترك أنتِ أيضا!!
ارتجفت شفتاها في بوادر بكاء وعيناها تتسعان بذعر مشوب بالخيبة، حدقت بعينيه لترى الألم يصرخ بهما متوسلا فلم تجد رَدَّاً إلا:
_آسفة عَمَّار!
ارتسمت نظرة متحسرة بعينيه وهو يجيبها بأسئلة متألمة:
_علام تأسفين؟! هل تعتقدين أن عذابي يمحوه أي أسف؟ هل تعتقدين أن كلمة واحدة قد تنسيني ألما يقض مضجعي كل ليلة وأنا أدرك أن الإنسانة التي أعلنت برغبتي بها اضطررت لخطبة غيرها باليوم التالي؟!
توقف الزمن بهما وكلماته التي طالما سيطر على انفلاتها انطلقت على حين غفلة منه لتمزق قلبها بلا رحمة.
ألهذا السبب هو بعيد؟!
بعيد جدا؟!
امرأة أخرى؟!
وهي من حالت بينهما وفرقتهما لتحقق أحلامها فوق أنقاض قلبين آخرين؟! أهي فعلا أنانية إلى ذلك الحد؟ لكن..!
لكن هي لم تكن تعلم، هو من جاء إليها، بينما قد نجحت لسنوات في كتمان حبها والتظاهر بأخوة كاذبة، لِمَ يحاول جعلها المذنبة الآن؟ في حين أنه هو المسئول عن تحطيم ثلاثة قلوب بصمته وخضوعه!
بقوة تخلصت من ذراعيه وهي تتراجع إلى الخلف مُرددة بِصوت مُتقطع:
_لا عَمَّار، أنا لست آسفة من أجلك فأنا لم أجبرك على الزواج مني، وقد استمرت خطبتنا بضعة أشهر كنت تستطيع إخباري خلالها بكراهيتك لي، وأنا لايزال لدي مقدار من عزة النفس ما يجعلني أتركك حفاظا على كرامتي حتى وإن كنت أذوب بك عشقا.
حَلَّت نظرات الدهشة الصامتة بِعينيه رَدَّاً على اعترافها البسيط بينما تابعت هي ودمعاتها تتساقط:
_نعم عَمَّار، أنا أحبك منذ سنوات ولقد صدقت القصة التي ألقتها عليَّ خالتي عن غرامك بي خاصة وأنك لم تخبرني بالعكس.
وبحسرة تمتمت:
_لقد صدقت لأني تمنيت وهذا لا يغفر خطأي.
ثم استأنفت حديثها بابتسامة ساخرة:
_ولذا أنا آسفة لأجلي بسبب تفريطي بكرامتي معك وبقلبي لك، وأيضا.. وأيضا آسفة لطفلي الذي سيكون ذنبه الوحيد أن أباه يكره أمه.
فغر فاهه بصدمة وهو يستوعب كلماتها، وبصوت متحشرج سألها:
_هل أنتِ.. هل أنتِ ....
قاطعته بضحكة ساخرة:
_ نعم عَمَّار، أنا حامل، مبارك!
وبمنتهى البساطة أولته ظهرها وخرجت من الغرفة تاركة إياه يبتلع صدمته، بينما اتجهت هي إلى أقرب غرفة لتنهمر في بكاء متحسر على حالها وحال طفلها القادم.


بقية الفصل على هذا الرابط
https://www.rewity.com/forum/t472579-3.html


سعاد (أمواج أرجوانية) 16-08-20 07:58 PM

تابع الفصل الثاني:

ظلت تبحث في الصندوق المليء بالأغراض القديمة حانقة، هي متأكدة من إحضاره معها من بيت خالها لكن أين هو الآن؟ زفرت بضيق وهي تستسلم بتعب مفكرة:
"وماذا إن وجدتيه؟ بم ستستفيدين؟ بالتأكيد اللص لن ينبُت له ضمير فجأة ويعيد إليكِ أغراضك!"
بدأت في إعادة كل شيء إلى الصندوق وهي تستغفر وتدعو بالصبر، وفجأة وجدته أمامها فاختطفته بلهفة، قلبته بين يديها بتفحص وهي تحمد ربها أنها لم تتخلص منه، هبت واقفة لتقوم بتوصيله بالشاحن الكهربائي وانتظرت بضعة دقائق حتى وجدت شاشته الصغيرة تضيء أخيرا، زفرت بارتياح ثم بدأت تطلب رقم هاتفها المسروق بتركيز وهي تتضرع أن يجيب السارق، ولخيبة أملها انطلقت الرسالة الرتيبة في أذنها:
"الهاتف الذي طلبته ربما يكون مغلقا، من فضلك عاود الاتصال في وقت لاحق!"
ماذا توقعت إذن؟! بضيق وضعت الهاتف على المنضدة الصغيرة المجاورة لفراشها وهي تلعن حظها الذي يزداد سوءا كل يوم! استغفرت مرة أخرى وهي تحمد ربها على سلامتها الشخصية، ثم جلست تبحث عن حل لمشكلة الكتب التي سرقت منها.
****
"هل أنهيتِ مذاكرتك قبل أن تفتحي ذلك التلفاز؟"
هتف بها عاصم بعصبية فاستدارت مريم إليه بابتسامة مغيظة:
نعم أنهيتها كلها، ولا تحاول إفراغ غضبكالذي لا أعلم سببه_بي!
جزَّ على أسنانه وهو ينظر لها بغيظ ثم انطلق إلى غرفته صافعا بابها بقوة، أمسك هاتفه وكتب عدة كلمات برسالة نصية إلى صديقه ليطمئنه على أحوال العمل في غيابه، ثم أطفأ الأضواء وتأهب للنوم، لكن رنين الهاتف ارتفع فَهَبَّ من فراشه وهو يشعل الأضواء مرة ثانية مُتمتماً بضيق:
"لقد أرسلت إليك تفاصيل التفاصيل، ماذا تريد مني بعد؟! ألا استحق نوما هانئا مبكرا؟!"
لكنه عندما تناول هاتفه لم يجد اسم صديقه كما اعتقد، بل وجد رقما غير مسجلا، أجاب مسرعا بنزق كي يعود إلى نومه:
_مرحبا، من معي؟
أجفلتها نبرته العالية فتنحنحت وهمت بالتحدث لكنه بادرها بصوت أكثر حنقا:
_من أنت؟ هل اتصلت لتسمعني صمتك؟ انطق من أنتــ......
_ قليل من الصبر لو سمحت! أعطني فرصة اولاً كي أتحدث!
عقد حاجبيه بدهشة والصراخ الأنثوي الحاد يلسع أذنه:
_من أنتِ؟!
_أنا سما!
بتوجس أجابته، فأخذ يبحث في عقله عن صاحبة ذلك الاسم فلم يجد ثم تحدث برسمية:
_عذرا آنسة، يبدو أنكِ مخطئة في الرقم.
تمكن منها نفاد الصبر وهي تجيبه بغيظ واضح:
_لا أنا لست مخطئة، أنت مهندس عاصم وأنا أريد أن أتحدث معك شخصيا، بالمناسبة أنا سما محسن حجاج، وقد تقابلنا بالأمس فورا قبل أن تتركني وتنصرف بمنتهى قلة الذوق.
وبرغم إدراكه هويتها واشتعال غضبه لذلك السبب إلا أن عبارتها الأخيرة أثارت حنقه ليتساءل بدهشة:
_أنا قليل الذوق؟!
ببرود شديد أجابته مؤكدة:
_وتفتقر لأدنى قواعد "الإتيكيت" أيضاً.
علا صوته حتى اضطرت لإبعاد الهاتف عن أذنها مغمضة عينيها بامتعاض :
_هل أنتِ معتوهة؟! أتصفينني أنا بقلة الذوق؟! اسمعيني جيدا آنسة "شبر ونصف" أنا لا أريد منكِ الاتصال بي مرة أخرى، ولا أود أن استمع لاسم تلك السيدة ما حييت، اذهبي اليها وخبريها أنني لا أطيق سماع اسمها ولا أريد أي صلة بها، هل تفهمينني جيدا أم لا؟ وبدون سلام!!
انهى الاتصال فورا وهو يستشيط غضبا، لكنه يشعر أنه لم يكتفِ! كان لابد له من إهانتها أكثر، كان لابد له من اخباره برأيه بها وبمن أرسلتها بمنتهى الصراحة، وعندما استغرق في أفكاره الحقودة شعر بِحركة خلفه فالتفت ليجد مريم واقفة بإطار الباب تحدق به ببلاهة ليصيح بها:
_ماذا تفعلين هنا؟
أجابته بنبرة دهشة متوترة:
_لقد أرسلني أبي لأخبرك أن طعام العشاء جاهز.
_لن أتسمم!
صاح بها بغضب ففغرت فاهها ثم قلبت شفتيها بإزدراء وهي تخاطبه بتحدي:
_ربما معها بعض الحق، أنت بالفعل قليل الذوق!!
ثم هرولت جريا قبل أن تصلها وسادته التي ألقاها تجاهها بغيظ.
وعلى الجانب الآخر كانت سما تضغط هاتفها بين يدها بغيظ وهي تلقي قاموسا متكاملا من الشتائم وتصب اللعنات على رأس ذلك الوقح، لكنها خرجت من غرفتها لتواجه المرأة التي ترتكز على عصا وتتحسس الجدران بجوارها فانطلقت إليها مسرعة لتستند عليها باطمئنان متسائلة بضعف:
_ماذا قال لكِ؟ هل سيأتي؟
عَوَجت سما شِفتيها بامتعاض ثم رَسَمت ابتسامة واهية حتى يخرج صوتها طبيعيا:
_نعم أم عاصم، إن شاء الله سيأتي قريبا.
ابتسمت المرأة بفرحة وهي تحمد ربها وتترقب سماع صوت ابنها الوحيد في أقرب فرصة.
****
"أين كنتِ دينا؟! لقد سأل أبوكِ عنك أكثر من مرة."
ألقت شروق سؤالها على ابنتها ما إن ولجت إلى داخل الشقة، فعقدت الأخيرة حاجبيها بضيق وهي تواجهها مجيبة:
_لقد أخبرتك أمي أنني سأقضي اليوم لدى صديقتي، هل انتهى العالم؟
اقتربت أمها منها قائلة:
_لا حبيبتي، لكني شعرت بالقلق، كما أن هاتفك مغلق طوال الوقت.
_لقد انتهى شحنه.
أجابتها بلا اكتراث ثم التفتت لتتجه إلى غرفتها فاستوقفتها أمها هاتفة بتوتر:
_انتظري دينا! أريد التحدث معك قبل أن يأتي أبوكِ ويقيم الدنيا ويقعدها.
علمت أنها استطاعت جذب انتباه ابنتها تماما حينما ألقت حقيبتها وجلست على الأريكة ببطء وهي تنظر لها متسائلة بترقب:
_ماذا حدث أمي؟، وإياكِ أن تقولي لي أنكِ تفكرين في موافقة أبي على إعادة تلك الحقيرة، والله سأترك البيت وقتها، أنا لن أتحملها ساعة أخرى.
جلست أمها بجوارها وهي تحدثها باهتمام:
_لا تقلقي، أبوكِ أصلا لا يفكر بإعادتها، لكن الموضوع يخصك أنتِ.
نظرت لها بقلق ثم حَثَّتها:
_تكلمي أمي! ماذا حدث؟
رمقتها أمها بِتردد ثم سألتها:
_أخبريني أولا! ألم يحاول حمزة التواصل معك؟
مطت دينا شفتيها باعتراض قائلة:
_ما دخل حمزة الآن؟ لقد تخلصت منه ومن معيشته الخانقة، وإذا حاول الرجوع لن أقبل، وارتاحي أمي هو أصلا لا يريد العودة، ما كان بيننا مجرد ثلاث سنوات من النكد والشجار ليس أكثر.
زفرت شروق باستسلام ثم قالت:
_حمداً لله أنكما لم تُنجبا أطفال.
توترت عينا دينا وهي تتهرب من أمها ثم غيرت الحوار هاتفة بفضول:
_ما هو الموضوع أمي؟
_هناك.. هناك عريس يريد التقدم للزواج منك.
ألقت شروق عبارتها مرة واحدة لتتسع عينا دينا بدهشة:
_عريس لي أنا؟ بتلك السرعة؟
مطت أمها شفتيها بلا تعبير وهي ترد:
_لا أعلم إن كان يجب علينا أن نفرح أم نحزن!
_ماذا تقصدين أمي؟ من هو؟ وماذا يعمل؟
نظرت لها بتوجس تجيبها:
_إنه.. إنه ليس بغريب، نحن نعرفه تمام المعرفة، هو يكون أخ السيدة منال.
رمقتها دينا باستنكار وهي تهتف بها:
_هل تمزحين أمي؟! إنه أصغر مني بستة سنوات!
عوجت الأم فمها ثم أجابتها بتوتر:
_لم أقصد هشام يا دينا، قصدت شقيقه الأكبر، طارق! انتظرت هجوما من ابنتها مصحوبا بتوبيخ تستحقه الفكرة لكن دينا نظرت لها بدهشة تحولت لاهتمام مباغت وهي تسألها:
_طارق! الذي يملك سيارة رُباعية فاخرة؟
دارت عينا شروق على وجه ابنتها ثم أجابتها:
_نعم، وهو أيضا يمتلك xxxxا بوسط المدينة ومنزلا صيفيا بالساحل الشمالي.
عم الصوت وشروق تحاول سبر أغوار ابنتها بينما بدت دينا وكأنها شاردة بعالم آخر، لم تقو شروق على الانتظار أكثر وهي تهتف بها بترقب:
_لكنه أكبر منك بعشرين عام ولدية أربعة أولاد.
ردت دينا بشرود:
_لكنه يهتم بنفسه وبصحته ومظهره، من لا يعرفه يعتقد أن عمره لا يتعدى الأربعين، كما أن أصغر أولاده عمره اثني عشر عاما، أي أنه لا يحتاج لاهتمام خاص، بالإضافة إلى أني علمت منذ مدة أن أخته ترعى أولاده بحكم سكنهما بمنزل واحد.
سألتها أمها بترقب:
_دينا! هل أنتِ موافقة؟
نظرت لها دينا مليا ثم هزت كتفيها بلا مُبالاة وهي تجيبها:
_أنا أفكر أمي، يجب أن أفكر جيدا قبل أن أوافق أو أرفض، لا أريد تكرار خيبتي الأولى.
****
منذ ست سنوات ونصف:
استند على أقرب جذع شجرة كي لا ينهار مكانه وهو يراقب موكب العروسين الذي وصل لتوه إلى قاعة الزفاف، راقبها وهي تتأبط ذراع عريسها بابتسامة سعيدة..
أهي حقا سعيدة؟هل نسته تماما؟! هل استبدلته بآخر بعد شهور فقط؟
ولِمَ الدهشة وعلام الاستغراب؟! لقد بدأ هو بالتخلي عندما خضع لوالديه واقترن بغيرها تاركا إياها خلفه بقلب محطم وما ذنبها سوى أنها لم تكن رفيعة المستوى من وجهة نظر والديه، والآن يفكر بلومها؟ وهو من تنتظره في البيت يوميا زوجة لا يشعر تجاهها سوى بالذنب؟! من ينتظره طفلا بعد شهرين لا يشعر تجاهه بأي شيء؟! هو حتى لا يهتم بقدومه أو عدمه!
تقهقر منهزما وهو يجر نفسه جرا ليسير على قدميه إلى فيلا والديه حيث صمما على الاستقرار بينهما، وصل إلى الفيلا يشعر بألم شديد، وصعد إلى جناح الزوجية المظلم كالمعتاد، فمنذ ذلك اليوم الذي أخبرته زوجته بخبر حملها وقد سرى بينهما اتفاق غير معلن على انفصالا نفسيا، لا تنتظره ولا تكلمه، لا ينظر إليها ولا يطلب منها شيء، يشعر هو براحة بسبب ذلك الوضع، أما هي فتتألم كل ليلة وهي تتمنى حتى عودته شقيقا يحنو عليها ويهتم بها، لكنها أخذت على نفسها ميثاق صبر لن ينفصم، ستنتظر وتنتظر حتى يفيق من سَكرة شعوره بالاضطهاد، وحينها سيدرك أنه مطلقا لن يجد من تعشقه بقدرها، وسيحين ذلك اليوم قريبا، أليس كذلك؟!
لكن من الواضح أنها نقضت عهدها اليوم، فالجناح مضاء وهي جالسة أمام الباب تنتظره بلهفة فشلت في إخفائها فشلا ذريعا، فما أن دفع نفسه بتثاقل الى الداخل حتى انتفضت على قدر ما تسمح به حركتها الثقيلة ببطنها المتكورة وهي تهتف:
_عَمَّار! هل أنت بخير؟! لِمَ تأخرت حتى الآن؟!
حدق بها لثوان بعدم فهم ثم رفع معصمه ونظر إلى ساعته، لتتسع عيناه بدهشة: إنها الثالثة صباحا! هل ظل يمشي لأربع ساعات متواصلة بدون أن ينتبه؟
أما هي فقد التقطت ضياعه فورا، ضربها ذلك التيه بعينيه في مقتل، لتمتد ذراعيها بدون إرادة منها وتجتذبه لأحضانها بانهزام مُرَبتًة عليه بحنو، وبدمعات متكسرة وبصوت مذبوح سألته:
_علام تحتد حبيبي؟
ليجيبها بهمس ضائع:
_لقد تَزَوجَّت!
لا تعلم هل شعر باهتزاز صدرها تحت رأسه أم لا، لا تعلم هل استمع لصراخ روحها الصامت أم لا..
أيجب عليها أن تعاتبه؟!
أيُجاهِر بِحُزنه لِفقدان أخرى أمامها؟!
أيشكو لها ضياع غريمتها؟!
أحقا عَمَّار أنت بتلك القسوة؟!
ستصمت الآن، ستساعده وتطبب جروحه، وبعدها لكل حادث حديث.
وهو..
تسلل إليه دفء غريب لا يدري ما هو مصدره؛
لا يدري إن كان حقيقياً بالأصل أم أنه يتوهم؛
أمِن شِدة توقه إليه شعر به دون وجوده..أَم...!
طرقات عنيفة على باب جناحهما حرمتها من ذلك القرب النادر وأخرجته من ذلك الشرود ليرفع رأسه وهو ينظر لها بدهشة انتزعته منها إعادة الطرقات بصوت أعلى، اتجه الى الباب وفتحه ليجد أبيه يندفع تلاحقه أمه شاحبة الوجه ثم :
صفعة!
صفعة على وجهه من أبيه!
صفعة على وجهه أمام أمه!
صفعة أمام زوجته التي صرخت باسمه هَلِعَة!
صفعة يوم ضياع آخر أحلامه!
وصياح غاضب من أبيه كما العادة:
_أذهبت إلى زفاف ابنة البائع؟! أتريد إلحاق العار بي؟ لقد علمت أنك ستكون سبب نكبتي يوما، ماذا تريد أكثر؟! مهنة مرموقة، فيلا فخمة، أحدث سيارة، زوجة أصيلة النسب والمقام وطفل بعد شهرين قادم، أتعلم أي نوع من الحياة وفرت لك أنا؟
وكان الرد الهادىء على النقيض مم يستيقظ تلك اللحظة بأعماقه بعد طول غياب:
_سجن!
عقد والده حاجبيه بدهشة:
_ماذا قلت؟!
أعاد كلمته الوحيدة برتابة:
_سجن!!
ثم أضاف بابتسامة ساخرة بدأت تظهر على استحياء:
_وفرت لي سجن رفيع المستوى، عظيم المقام، جميل الهيئة من الخارج، ذي عيشة رغدة وطلبات تلبى بلحظة.
ثم هَزَّ كتفيه مُتابعاً بِتَهَكُّم:
_ لكنه يظل مجرد سجن!
لطمت أمه على وجنتها بذعر بينما فغر ابوه فاهه بصدمة هاتفا:
_هل تتواقح عليّ يا ولد ؟! أتعترض على رَغَد عيشك الذي أمنته أنا لك؟!
والابتسامة تحولت لضحكة، والضحكة تعالت وتعالت حتى دمعت عيناه، ثم بصعوبة توقف وهو يخاطب أبيه:
_أعترض؟! ماذا تعني تلك الكلمة يا أبي؟ وهل أنا أمتلك مثل تلك القوة الخارقة؟!
وانمحت الابتسامة تماما ليحل محلها تعبير حاقد كاره وكأنه لتوه تم تشكيله على وجهه، تراجع أبوه للخلف خطوة واحدة وهو يحدق في ذلك الكائن الذي يراه للمرة الأولى ويتوقع الآن منه تصرف عشوائي لم يعتده من قبل، هو يعلم متى يفقد زمام أحد عبيده ويبدو أنه قد فعل الآن، فلم يخذل عَمَّار توقعه عندما زأر بأعلى صوته:
_متى اعترضت أبي؟ وعلام اعترضت طوال حياتي؟ ارتدي تلك السترة عَمَّار، حاضر! لا تتباسط مع ابن الموظف الذي يعمل لَدَيّ عَمَّار، حاضر! سيارة زرقاء عَمَّار؟! ما هذا الذوق المقرف؟!، خذ الرمادية، حاضر! لا تأكل في ذلك المطعم الشعبي عَمَّار، حاضر! ستصبح طبيبا وانس امر التدريس تماما، حاضر! اتريد ان تتزوج ابنة البائع وتحرجني أمام معارفي؟ ستتزوج ابنة خالتك بالطبع، حاضر!حاضر! حااااااااضر!!!
صمت عم بين أربعتهم إلا من شهقات مَوَدَّة الباكية وهي تتمسك ببطنها بألم، الابن يواجه أبيه للمرة الأولى بحياته وهما لا يشعران بما حولهما، ليتقدم عَمَّار تجاهه الخطوة التي تقهقر الآخر بها وهو يحدق بعينيه بابتسامة حاقدة، وبنبرة خافتة قاتلة تحدث:
_أتعلم أبي؟! لطالما استمعت من أصدقائي عن شعورهم عندما بُشِّروا بانتظار أطفالهم ودهشت كثيرا، لأظل طوال الشهور الفائتة أتساءل لِمَ لا أشعر مثلهم؟ لِمَ لا أتلهف لحضور ابني إلى هذه الدنيا؟ لِمَ لا أتخيل ماذا سأفعل معه عندما أحمله بين يدي وألاعبه وألاطفه، هل انعدم شعوري أخيرا؟ هل تبلدت أحاسيسي بالأبوة تماما؟، ودوما ما هَرِبَت مني الإجابة، والآن فقط أدركتها بأم عيني وأنا أنظر إليك..
سَكَت يجتذب شهيقاً عميقاً ثم أردف بِتشديد:
_ببساطة أنا لا أريد أن يأتي ابني حتى لا أكن له أبا مثلك أنت!
والصفعة الثانية انطلقت من أبيه لكنها لم تصل لهدفها عندما قفزت مَوَدَّة صارخة باسمه تفتديه بجسدها لتصبح من نصيب إحدى كتفيها، فسقطت أرضا شاحبة الوجه بينما انتفضت خالتها إليها تصرخ بلهفة، دارت عينا أبيه بين ثلاثتهم بجنون غاضب وتركزت على مَوَدَّة والذعرللمرة الأولى منذ سنوات يتملكه، ثم انطلق خارج الفيلا بأكملها، أما عَمَّار فقد حدق في الماء الذي ينهمر أسفل جسد زوجته التي تطلعت إليه بصدمة، سَقَط بِجانبها على رُكبتيه وملامحه تصرخ بالذعر ممسكا إحدى كفيها، ثم مَدَّ إحدى يديه أسفل عنقها والأخرى أسفل ركبتيها وانطلق بها إلى الأسفل وقلبه يرتجف بين أضلعه شاعراً برُعب لم يكتنفه يوماً ، فمن الواضح أن ابنه لن يصبح خاضعا مثله ، حيث قد قرر عصيانه والخروج إلى الدنيا قبل موعده بشهرين!!
****
عودة إلى الوقت الحالي:
"الهاتف الذي طلبته غير متاح حاليا، من فضلك حاول الاتصال في وقت لاحق!"
تأففت بضيق وهي تلقي بهاتفها القديم على الطاولة الممتدة أمامها بعد أن استمعت لنفس الرسالة عشرات المرات، جالسة في أحد أركان غرفة الاستراحة بالمعهد تتناول شطيرتها بهدوء وهي تحاول تدبُر طريقة تحصل بها على بدائل للكتب التي سُرقت منها، لقد مر أسبوع منذ وقعت السرقة والوضع خلال الحصص أصبح فوضوي للغاية، لكنها لن تكون متشائمة، فقد رُزِقت بنعمتين خلال تلك الأيام، أولهما أن تلك الذراع ذات المزاج المتقلب عادت وحدها للعمل بشكل كامل، وثانيهما أنها لم ترَ مُلاحِقها، صحيح هي لا تعلم إن كان يتصل بها على الرقم القديم أم لا لكنها لم تره عند مسكنها أو مكان عملها، وهذا بحد ذاته إنجاز هام، كي تكتفي الآن بالتفكير في حل لمشكلة وسائل عملها الضائعة.
رنين ضعيف من هاتفها شديد الصغر جعلها تضع شطيرتها جانبا وهي تتناوله بملل،"بالتأكيد هي رسالة من شركة الاتصالات تعرض عليها الاشتراك في خدمة ما!" هكذا فكرت وهي تفتح الرسالة لتتسع عيناها بذهول، بالفعل هي رسالة من شركة الاتصالات، لكن النص مختلف!:
"الرقم الذي حاولت الاتصال به أصبح متاحا الآن!"
قفزت واقفة تتلفت حولها بلا هدف ثم انتبهت إلى حماقتها، بأنامل مرتبكة طلبت رقمها القديم لتتسع
عيناها بترقب فَرِح وهي تسمع صوت الجرس الرتيب على الطرف الآخر يشدو في أذنها كسيمفونية عذبة!
"أجب! أرجوك أيها اللص أجب!"
ظلت تهمس بتضرع حتى انقطع الاتصال فلم تيأس لتعيده مرة ثانية، ثم ثالثة، وفي الرابعة انفتح الخط!
_انتظر أرجوك لا تغلق!
بادرته بلهفة ثم تابعت بتوسل:
_اسمع! لا أريد النقود التي كانت بحقيبتي، وأعلم أيضا أنك لن تعطيني الهاتف بالطبع، لكن أرجوك أعطني الكتب!
نبرة رجولية هادئة أجابتها:
_أي كتب؟
ازداد التوسل في لهجتها وهي تجيبه:
_الحقيبة كانت تحتوي على كتب تخص عملي، ودفتر ملاحظات هام بالنسبة لي للغاية، لا أريد سواهم.
ببطء ونبرة أيقنت أنها باسمة جاء الرد:
_نعم.. الكتب ودفتر الملاحظات، ماذا تريدين أيضا يا آنسة؟
ضيقت عينيها وَرَدَّت بحذر:
_إن كنت ستعطيني بطاقتي الشخصية سأكون أكثر من راضية.
أجابها بتأكيد:
_طبعا! طبعا! وماذا عن نصف لوح الشوكولاتة؟ ألا تريدينه أيضا؟
بدهشة سألته:
_هل لا يزال هناك؟!
ثم استدركت بصرامة مصطنعة:
_اسمع! أنا لا أسمح لك بالسخرية مني، أخبرتك أني سأترك لك الهاتف والنقود، أريد الكتب فقط.
رد بضيق شعرت أنه مفتعل:
_هل تعلمين أن شاشة هاتفك كانت محطمة؟! وأنها كلفتني مبلغا وقدره كي أبدلها وأستطيع تشغيله؟
هتفت به بحنق:
_اعتذر من سيادتك أيها اللص، سأدفع ثمنها لك، انتظر لحظة! أنت بالفعل معك كل نقودي، تستطيع أن تخصم منهم ما تشاء.
ضحكة رائقة طالت للحظات تبعتها حمحمة ثم عبارة خافتة:
_لِمَ لا تنفكِين تسألين عن الكتب؟ هل أنتِ طالبة؟
بارتباك أجابته:
_إنها مهمة لعملي، أنا مُعلمة.
عم صمت قصير استطاعت من خلاله سماع صوت تقليب صفحات، لتتيقن أنها كتبها، ثم تحدث هو بهدوء:
_"قواعد اللغة الإنجليزية"، "مفردات شائعة باللغة الإنجليزية"، "نساء صغيرات"!! هل يدرُسون تلك الرواية المملة؟! إنها منذ أيام جدي، ألا يتطورون؟!
اتسعت عيناها بدهشة حقيقية وهي تسمعه يقرأ عناوين كتبها بلكنة أجنبية طليقة..
لص مثقف إذن! أمن الممكن لحظها أن يصبح أكثر غرابة؟!!
_إنها خاصة بي أنا!
هتفت بحزم ليرد هو بنبرة متحرجة بعد بضعة لحظات:
_آسف، إنها رواية رائعة بالطبع لمن يُقدِّر فنون الأدب.
نفضت رأسها تفتعل جدية هاربة ثم هتفت بِنفاد صبر:
_والآن ماذا؟! هل ستعطيني كتبي؟
تظاهر بالتفكير ثم رد بعتاب:
_أتطلبين مني أن أوافق على تسليمك كتبك حتى تقومي بإبلاغ الشرطة عني وأقضي سنوات شبابي في السجن أليس كذلك؟! أتعتقدين أنني بتلك السذاجة؟!
ردت بلهفة متوسلة:
_أقسم لك أنني لن أبلغ الشرطة أبدا، أنا لا أريد التورط مع أمثالك، فقط اترك لي كتبي بأي مكان ولن تسمع عني مرة أخرى.
عقب بدهشة:
_لا تريدين التورط مع أمثالي؟! شكرا لكِ آنسة ، شكرا جزيلا ، ألا يندرج قولك هذا تحت بند التنمُر؟ أهذا ما تعلمونه للجيل الصاعد؟!
ضغطت أسنانها بغضب وهي تدق على رأسها بكفها لاعنة تهور لسانها:
_آسفة جدا يا أستاذ، أرجوك أنا أحتاج تلك الكتب بشدة ولا أستطيع الحصول على بدائل لها.
والضحكة الرائقة عادت أقوى وأطول وعاد معها ارتباكها وهي تنتظر انتهاءه بأدب:
أتعلمين؟! _ولا أتعمد ازعاجك اسمحي لي أن أقل لك أنكِ ضحية لقطة!
عقدت حاجبيها بدهشة ولم ترد فتابع هو بصرامة هادئة:
_أنتِ في موقف الحق، لا يجب عليك أن تتوسلي، أملي شروطك ولا تخضعي لأحد حتى وإن كانت أحلامك كلها متعلقة به.
عم الصمت مرة أخرى ليستدرك بنبرة مرحة:
_والآن كيف ستتسلمين حقيبتك بما فيها ؟
سألته بِترقب:
_هل تعني أنك ستعطيني الحقيبة مع الكتب والـ....
قاطعها بلهجة باسمة:
_ والنقود والهاتف ودفتر الملاحظات، لكنني سأعتبر نصف لوح الشوكولاتة هو تعويضي عن إصرارك على اتهامي بالسرقة!
بنبرة دهشة مرتبكة أجابته:
_أتعني أنك لست لصا؟!
استطاعت سماع زفيره الحانق الذي سبق تحدثه بنفاد صبر:
_أقسم لكِ يا آنسة رهف أنا لست لص، بل أنا مهندس محترم ولدي نصيب بشركة مرموقة.
تسللت ابتسامة رقيقة رغما عنها إلى شفتيها وهي تجيبه باستفسار أحمق:
_كيف عرفت اسمي؟!
لتتسع تلك الابتسامة أكثر وهو يحدثها بلهجة خافتة أثارت بها قشعريرة غريبة:
_بطاقة هويتك الشخصية بين يدي الآن آنسة رهف!
ساد صمت غريب قطعه هو بحمحمة متوترة:
_إذن كيف ستتسلمين أغراضك؟
وقبل أن تفكر بادرها:
_هل آتي إلى العنوان المدون على البطاقة؟
وبذعر نهته مُسرِعة:
_لا لا، أنا لم أعد أقطن بذلك العنوان، ولا أريد أن أرهقك معي، أخبرني بأقرب مكان إليك، أستطيع أن أحضر إلى مكان عملك، إن لم أكن سأتسبب في تعطيلك بالطبع.
أجابها بتهذيب:
_أنتِ لن تعطليني عن شيء، سأنتظرك غدا بالعنوان الذي سأرسله إليك على هذا الرقم، اتفقنا؟
بانقياد تام أجابته:
_اتفقنا!
****

سعاد (أمواج أرجوانية) 16-08-20 08:00 PM

تابع الفصل الثاني:

شارد الذهن منذ دقائق يجلس بِمكتبه ولا يستطيع تحليل ماهية مشاعره، وفجأة فُتِح الباب دون استئذان وانطلق هتافها المُصمم على الفور وهي تدلف :
_يجب أن أتحدث معك!
ألقى القلم الذي يمسك به بطول ذراعه ليصطدم بالجدار البعيد وهو يحدق بها بغضب ويهب واقفا هادراً بها:
_من سمح لكِ بالدخول إلى مكتبي؟! أين هي تلك السكرتيرة الـ...
قاطعته سارة التي دخلت لتوها تنظر إليه شزرا:
_أنا من أدخلتها عاصم، ويفضل أن تخفض صوتك قليلا كي لا يستمع الموظفون.
ثم أضافت بنبرة خافتة سمعها الاثنان:
_يا خسارة تربية سوسن بك!
استشاط غضبا وتحرك من خلف مكتبه متجها إليهما فتخصرت سما وهي تقف أمامه رافعة ذقنها بتحدي ثم هتفت:
_ماذا ستفعل؟ هيا أرني! لقد حصلت على الحزام الأسود في الكاراتيه منذ سنوات ولم تسنح لي الفرصة للاستفادة به بعد، ولكم أتشوق للتجربة، خاصة إن كانت على وجهك المستفز.
لم تستطع سارة كتمان ضحكتها أكثر وهي تتطلع الى ملامح الصدمة على وجه عاصم بينما هو يطالع قامة مواجهته الضئيلة وصاحبتها تناظره بتحدي صارخ، حتى استطاع أخيرا الرد بصوت متحشرج:
_أنتِ..أنتِ فعلا مجنونة!
لتبتسم ببرود وهي تهتف:
_وأنت قليل الذوق، عديم "الإتيكيت".
تدخلت سارة بشماتة:
_الفتاة كشفتك منذ اللقاء الأول، حتى تعلم كم تحملت أنا لسنوات!
جذب شعره بغيظ وهو يحاول التمسك بالهدوء هاتفاً:
_ماذا تريدين مني؟
ببرود أجابت:
_أريد التحدث معك، وبشأن والدتك التي أنجبتك، السيدة صفاء، وليكن في معلوماتك أنني لن أتزحزح اليوم من هذا المكان إلا بعد أن أنفذ ما جئت لأجله، حتى وإن اضطررت إلى جلب الشرطة لي!
وضعت سارة يدها على كتفي سما برقة ثم نظرت إليه قائلة:
_لن يضيرك شيئ إن استمعت إلى ما لديها عاصم، فقط اهدأ واجلس.
زفر بغيظ وهو ينظر إليها بكراهية بادلته إياها بكل كرَم، فدفعتها سارة برفق لتجلس فوق أقرب مقعد، وعاد هو أيضا إلى المقعد خلف مكتبه، همت سارة بالخروج حتى أوقفها عاصم بحزم:
_إلى أين تذهبين سارة؟
التفتت إليه بدهشة قائلة:
_أنا أعمل في هذا المكان إن كنت لا تعلم!
شدد على حروفه ببرود وهو يرد على سارة لكن نظراته محدقة بسما:
_أنتِ لن تخرجي وتتركيني معها!
لم تحد سما بعينيها عنه وهي تبتسم بتحدي قائلة:
_أنا لن آكلك، لا تخف!
مسح وجهه بكفيه وهو يزفر نيرانا من صدره بينما ردد بِغيظ:
_يا الله يا ولي الصابرين!!
ارتمت سارة على المقعد المواجه لهما وهي تنظر لسما بتوسل، فارتخت ملامح الأخيرة وهي تنظر إليه بجدية قبل أن تقول:
_استمع إلي مهندس عاصم، أنا لا أعلم سبب القطيعة بينك وبين والدتك، لكنني أعلم أنها تتمنى...تتمنى أن تتواصل معها، تتمنى أن تزورها، هي لم تنجب غيرك وتحتاج الآن إلى وجودك معها، واعتقد أنك لن تتحمل ذنب كقطع رحم أمك وعقوقها.
هب واقفا بغضب:
_ما خصك أنت بما بيني وبينها؟ ثم أنني.....
هبت واقفة تصرخ به:
_أنت لا تخصني بشيء، هي من تخصني، هي من تتعذب، هي من تصرخ ليلا باسمك وكلما ارتفع رنين جرس الباب نادتك بلهفة، كيف تتحمل كونك قاس هكذا؟ أمك مريضة مهندس عاصم، مريضة جدا وتحتاجك بشدة، لا تظلمها أنت ايضا، تناقش معها ربما لديها ما تحتاج إليه، لِمَ اكتفيت بالسماع من طرف واحد فقط؟!لِمَ لا تطالب بالحقيقة كاملة؟
عم الصمت المكان والثلاثة ينظرون لبعضهم بِوجل ودهشة وغضب، كانت سارة أول من تعقل بينهم وهي تنظر له بابتسامة حنونة وتخاطبه بِتشجيع:
_فكر بكلامها عاصم، مهما كان ما حدث بالماضي ستظل هي والدتك وستظل أنت ابنها الوحيد، اذهب إليها وتحدث معها.
التقطت سما طرف الحديث بهدوء:
_أنت لن تخسر شيئا، زيارة عابرة لن تأخذ من وقتك الكثير، ستريحها وسترضي شوقها إليك.
ابتسم ساخرا وهو يردد بألم:
_شوقها إلي؟ السيدة صفاء تشتاق إلي؟ بعد كل تلك السنوات تذكرت وجودي أخيراً؟ أين كانت من قبل؟
لم تجد رَدَّاً مع نظرة التحسُّر بعينيه فَتَابَع هو:
_آسف آنسة سما، تستطيعين إخبارها أن ابنها الذي اكتشفت وجوده فجأة لم يعد بحاجتها ولا ينتظرها، وأن الله قد عوضه بزوجة أب وبأختها فكانتا له التعويض الكافي عن نبذها إياه.
تَعَلَّقت عيناها به بينما نَضَبَت كلماتها بِعجز، تستطيع أن تعاند؛
تستطيع أن تتحداه؛
تستطيع استخدام حدة لسانها ومجادلته حتى الساعات الأولى من الصباح؛
لكن ذلك الصراخ الذي تهتف به عيناه يمنعها، ذلك الخذلان الذي يعانيه يجبرها على احترام رغبته، يجب عليها أن تفكر في حل لمهمتها الصعبة بعيدا عنه، يجب عليها ألا تضغط على جرحه أكثر من ذلك.
تقهقرت للخلف وهي تومىء برأسها إيجابا، وعند الباب التفتت تنظر له بهدوء:
_أعتذر مهندس عاصم، لن أزعجك أو أعترض طريقك مرة أخرى، لكن إن..إن غيرت رأيك تستطيع أن تهاتفني بأي وقت وسآخبرها أنك تريد رؤيتها، رقمي لدى الآنسة سارة، إلى اللقاء.
خرجت مسرعة وهي تشعر بأنفاسها تضيق بصدرها، أما هو فقد طأطأ رأسه وصدره يتعالى ويهبط في تنفس سريع، وبخفوت صارم تفوه:
_أريد أن أظل بمفردي سارة.
زفرت بحزن وهي تتطلع إلى حالته السيئة، ثم بهدوء خرجت وأغلقت الباب، أما هو فقد جلس مكانه سارحا بعقله في ذكريات بعيدة...
منذ عدة أعوام:
وقف يحدق في وجه والده بصدمة وهو يحاول استيعاب ما أخبره به للتو:
"والدتك لم تعد زوجتي منذ مدة!"
"والدتك لن تعيش معنا ثانية!"
"والدتك ستتزوج بآخر!"
مشاهد متلاحقة وأحداث صادمة، أمه تحتضنه باكية وهي تودعه معتذرة، أبوه يقف رامقا إياها ببرود، خزانة ملابسها أصبحت فارغة، أدوات زينتها لم تعد موجودة، رائحة عطرها لم تداعب أنفه منذ فترة، أدوات طهيها، حكايات ما قبل النوم، حضنها الدافىء، قُبلتها الحنونة على جبهته، كلهم ذهبوا بلا عودة.
ثم..
سنوات مرت وهو بانتظار عودتها إلى أن بدأ بالتدريج يفقد الأمل..
ثم..
امرأة أخرى!! أثاث جديد، ملابس جديدة بخزانة أمه، أدوات زينة جديدة، عطر جديد، أدوات طهي جديدة..
ومحاولة للتقرب.. تفشل!
لبعض المشاركات في المذاكرة.. تفشل!
لقُبُلات على الجبهة..
تفشل!
وتفشل!
ثم رضيعة صغيرة تصرخ بصوت حاد!!
أبوه: "احملها عاصم إنها أختك!"
_لا أريد!
زوجة أبيه: "ما رأيك إن سميتها أنت؟!"
_لا أهتم!
أبوه: "كان يقول دائما إنه إن رُزِق بأخت ستكون مريم."
زوجة أبيه: "إذن هي مريم!"
وعندما أصبحت تلك الرضيعة بعمر الثالثة اضطر أبوه وزوجته للسفر لآداء واجب العزاء في أحد الأيام..
الصغيرة شقية كالعفاريت! تقفز هنا وهناك ولا تترك شيئا بمكانه! لا تطيعه ولا تسمح له بالتركيز في دروسه، جرى خلفها فهربت إلى المرحاض، أمرها بفتح الباب فعاندته، لينتقم منها ويوصد الباب!
طرقات ضعيفة متتالية وهو يبتسم من خلف الباب بتشفِ، ثم صوت ارتطام!!
تسمَّر بمكانه لثوان يحاول تخمين ماهية الصوت الى أن ضربت الفكرة عقله في مقتل..
المغطس المليء بالمياه حرصا منهم على الاحتياط منه في حالة انقطاعها..
وبلهفة فتح الباب وهو يجد أخته تنازع للحصول على بعض الأنفاس!
تسمر مرة أخرى مكانه محدقا بها...
هل أصبح قاتلا؟!
هل قتل أخته؟!
وانفتح باب الشقة..
وصراخ من زوجة أبيه وأبوه يدفعه ليحمل طفلته التي لا تأتِ بأية حركة، ولِثوانِ أخذ ينعشها باستماتة وعندما سعلت أخيراً استدار إليه ليصفعه.
طأطأ رأسه راضيا بالمزيد فجذبته زوجة أبيه من أمامه تحتضنه رغما عنه وهي تمسد على ذراعه بحنان، وتوبخ أبيه بغضب!
ومنذ ذلك اليوم..
لم يعد عطرها يضايقه!
أصبح هو من يبادر باحتضانها وتقبيلها وطلب الاستماع إلى حكاياتها!
إلى أن فقدها وهو في عمر الرابعة والعشرين بعد صراع مرض غادر أهلكها ثم اختطفها تاركة بعدها طفلة، وتاركة إياه يتيما للمرة الثانية!
لتتسلم القيادة الأمومية من بعدها أختها الخالة سوسن، نعم هي ليست خالته بالمعنى الحرفي لكنها أخت حبيبته التي رحلت..
****
عودة إلى الوقت الحالي:
_هل جننت يا شروق؟!
هتف بها صلاح ثم خرج من غرفته مناديا ابنته التي جائته خائفة:
_نعم أبي؟
نظر لها بغضب هاتفاً:
_هل سمعتِ بالهراء الذي تتفوه به أمك؟ تريد أن تعرض عليك عريس وعدتك لم تنتهي بعد!
نقلت دينا نظراتها بين أبيها وأمها التي تقف خلفه بترقب ثم قالت بتردد:
_نحن لم نقل أنني سأتزوج غدا أبي، هو مجرد تعارف بسيط.
تحدثت شروق بحنق:
_أخبريه دينا، لقد جعلني أشعر أني اصطحب المأذون في يدي!
فغر أباها فاهه دهشة وهو ينظر إليهما بالتبادل ثم صاح:
_أنتِ موافقة إذن على ذلك السخف؟! وبالطبع تعلمين أن عريس الغفلة يصغرني أنا ببضعة أعوام، ولديه أربعة أولاد أكبرهم يقارب سنك!
وعندما طأطأت كلتاهما رأسها أخذ يضرب كفيه ببعضهما وهو يحوقل ويستغفر ثم حدثها بمهادنة:
_لله الأمر من قبل ومن بعد، أتريدين فعل ذلك بنفسك ابنتي؟ لِمَ التعجل؟ انتظري قليلا عسى الله أن يرزقك بشاب في مثل سنك.
انتفضت دينا صائحة:
_لقد تزوجت من قبل بمن هو في مثل سني أبي، وماذا كانت النتيجة؟
صاح بها أبوها:
_ماذا كانت النتيجة دينا، أخبريني! أريد أن اعرف ماذا حدث، أعلم أن هناك ما تخبئينه عني خوفا لأنكِ تعلمين أنكِ مخطئة، حمزة أيضا لم يشأ إخباري مُصِرَّا على عدم التحدث في أسرار تخصكما، هل هذا هو من تندمين على زواجك به؟ أليس هو نفسه من كدت تطيرين فرحا يوم تقدمه لخطبتك؟
_ هتفت دينا بغضب:
_لقد أخطأت! نعم أخطأت حينما اعتقدت أن عمله كطبيب يُدر عليه العديد من الأموال واكتشفت أن مستواه مماثل لنا تماما، لن يضيف إليّ شيء، وليزيد الطين بلة علمت أنه يعطي أموالا لوالده وما خفي كان أعظم، وأنا لم أتزوج كي أعيش بنفس الظروف المادية الخانقة، أريد أن اتمتع بشبابي وبجمالي مع من أسعد معه.
نظر لها صلاح بخيبة أمل مشوبة بازدراء:
_ماذا به مستوانا دينا؟ هل قصَّرت معك بشيء؟ هل قصَّر حمزة معك بشيء؟ لقد كنت أرى بنفسي مدى كرمه وطيب أصله وإيثاره إياكِ على نفسه، ثم ماذا إن كان ينفق على أهله؟ ما خصك أنتِ؟! هل كنتِ تريدين الزواج من أحد العاقين الذين يتنكرون لأهلهم؟! كيف ومتى أصبحتِ طماعة وحقودة بذلك الشكل ابنتي؟
تدخلت شروق بغضب:
_من حقها صلاح أن تعيش مرفهة، وان كان هو يـ.....
صاح صلاح بها بثورة:
_اخرسي أنتِ! ألا تملين؟! ألا تتعبين من تلك السموم التي تسكن جلدك؟ ألا تريدين أن ننعم براحة وسلام مطلقا؟! كفي عن بث أحقادك في أذني ابنتك وإلا أقسم أنني لن أهتم لِسِنِّك وسأجعلك تكرهين حياتك.
ثم التفت إلى ابنته صائحاً بصرامة:
_وأنتِ! لا تفكير في زواج آخر إلا بعد انقضاء عدتك، لعلك تكونين قد تعقلتِ حتى ذلك الوقت.
ثم دخل إلى غرفته صافعا بابها بقوة أتبعها بصوت دوران المفتاح لإيصاده تماما في رسالة صامتة بأن تقضي شروق ليلتها على الأريكة.
****
منذ ست سنوات ونصف:
وقف أمام غرفة العمليات مُتسمراً بِخوف وهو يولي أمه وأخته وخالته ظهره، وعلى الجانب الآخر يقف والده بعد أن هاتفته أمه صارخة به بغضب ومهددة إياه إن حدث شيء لمَوَدَّة بسببه.
مَوَدَّة!!
آآآآه يا مَوَدَّة!
ماذا فعلت بكِ أنا؟ ولِمَ تصبرين على ذلك الوضع؟ ما الذي أظهرك بحياتي الآن وأنا أعاني من التشتت والضياع؟! ما ذنبك كي تتحملي ذلك الألم من أجلي؟ ما ذنبك أن تحبي وتتزوجي وتنجبي طفلا من ضعيف مثلي؟
وعلى ذكر طفله ارتجف قلبه بقوة، لقد كان يتشدق منذ قليل بعدم اهتمامه به على الإطلاق ، لِمَ يشعر الآن بأنه إن لم ينج بالداخل سيلحق به مُرَحِبَاً؟!
ابتهل هامساً بتوسل:
_لا يا رب، لا تؤذِني فيه، أريد ذلك الطفل، اجعله سالما معافى، واحفظ أمه يا رب.
ثم خرج الطبيب معلنا بإرهاق عن سلامة الطفل رغم ميلاده مبكرا..
وبلهفة بادره:
_وزوجتي؟ كيف حالها الآن؟
ليطمئنه الطبيب بسلامتها فيحمد ربه على استجابته.
وبعد أن جرب للمرة الأولى حمل جزء من روحه بين يديه، اجتاحه حنان جارف ورغبة بالبكاء وهو يراقب خاطر خبيث يرحل مدحورا...
هو لن يكن مثل أبيه مطلقا! لن يظلم تلك العطية ما حيا، سيحبه وسيرعاه، لن يجعل منه صورة مصغرة من ضعفه وخضوعه واستسلامه، وعلى النقيض تماما سيجعل منه الأمان والعضد، هو القوة والتأييد والسند ، نعم هو : إياد!
نظر لها بندم بعد انفراده بها بغرفتها بالمشفى، راقبها تحدق بطفلهما بعينيها الجميلتين، تلاعبه وتُقَبِّله بحنان دامع، صورة اكتشف تلك اللحظة أنه لن يمل من التطلع إليها أبدا..
_مَوَدَّة!
ازدردت لعابها وأجابته بدون أن تنظر إليه:
_نعم عَمَّار؟
_أنا آسف.
بابتسامة ساخرة طالعته:
_علام تأسف عَمَّار؟!، إن كنت اليوم قد حطمت قلبي فقد أراد الله تعويضي في الحال، اذهب عَمَّار!، إن أردت الانفصال أنا ليس لدي ما يمنع، سأكتفي بولدي، سأربيه وسأعلمه ألا يخضع، ألا يظلم، ألا يكسر قلب غيره بحجة ضعفه.
هز رأسه نافيا بلهفة:
_لا مَوَدَّة، أنا لا أريد الانفصال، أريد فقط فرصة كي أعتاد علـ....
وصمت لا يجد تعبيرا لا يجرحها أكثر، لكنه فعل! فقد أكملت هي عنه بشرود:
_كي تعتاد على كوني زوجتك، كي تعتاد على أن أم ابنك ليست هي حبيبتك، لا عَمَّار، أنا لا استحق تلك الإهانة، لقد دفعت ثمن خطأي تجاه نفسي بسبب لهفتي على الزواج بك وكدت أخسر الشيء الوحيد الذي حظيت به منك، لن أجازف مرة أخرى، لن أرتضي المذلة من أجلك ثانية، أنا زوجتك عَمَّار، إن شئت اتركني على حالي وإن شئت طلقني، أنا سأعيش من أجل ابني ولن أنتظرك يوما آخر.
رمقها مليا بألم ثم وقف يناظرها بِشعور غريب، وبنبرة صارمة شدت انتباهها خاطبها:
_أعلم أن ذنبي كبير مَوَدَّة، بحقك وبحق نفسي وبحق غيري، لكنني سئِمت، الآن لدي ما أحارب لأجله، سأحارب ضعفي وخنوعي قبل أن أحارب أبي، وأعدك مَوَدَّة، أعدك أن أتخلص من عَمَّار الذي عَرَّضك لتلك الحالة، لا أطلب منك الكثير، فقط عودي صديقتي وملاذي الآمن!
بادلته التدقيق ، ثم بصوت خافت ردت:
_أنا لا أغفر الخيانة عَمَّار.
ليؤكد بلهفة:
_لم أخنك!
بحسرة أجابته:
_ستخون.
مال عليها بتصميم:
_أقسم ألا أفعل.
دمعت عيناها خوفا من أمل وليد:
_لا تقسم بما لا تستطيع فعله عَمَّار!
وبنبرة مشددة ووعد بعينيه كان رده:
_أعدك ألا أخونك.
لتسأله بعناد:
_وإن فعلت؟
أجابها بنفاد صبر:
_عندئذ يحق لك ما تريدين.
ببطء شددت على كل كلمة:
_ستكون النهاية عَمَّار!
وبلهجة منتصرة زفر بارتياح:
_لكِ ذلك!
وباليوم التالي انفرد بأبيه رغما عنه بمكتبه ليعتقد الأخير أنه جاء ليعتذر، فيفاجئه ابنه بلهجة صارمة باقتضاب:
_أنت أبي لك مني كل احترام، لكنني بدءاً من اليوم لن أسمح لك بالتدخل في أي شيء يخصني أو يخص زوجتي أو ابني، وإن شعرت يوما ما بعدم راحة هنا سآخذ زوجتي وابني وسأستقل بمسكني، فلم يعد بي طاقة كي أتحمل منك أكثر، الآن لدي ابن يحتاج إليّ بكامل قوتي.
وبدون انتظار رد خرج تاركا أبيه يغلي غضبا وهو يتوعده بداخله إن نفذ تهديده ورحل.
****
عودة إلى الوقت الحالي:
"لِمَ اكتفيت بالسماع من طرف واحد فقط؟!"
"لِمَ لا تطالب بالحقيقة كاملة؟"
العباراتين اللعينتين تأبيان تركه منذ غادرته صاحبتهما بالأمس ، يحاول فهمهما، يحاول فك شفرتهما فلا يستطيع، ماذا قصدت؟ عن أي طرف كانت تتحدث؟
"ماذا بكَ بني؟ بِمَ أنت شارد؟"
التفت عاصم إلى أبيه مُقبِّلا جبهته بحنان ثم ساعده على الجلوس فوق الأريكة الموضوعة بالشرفة وهو يرد:
_العمل والدي، أفكر بأشياء تخص العمل.
ابتسم أبوه بضعف قائلاً:
_لم تستطع الكذب علي من قبل عاصم، عيناك تُقران بالحقيقة دائما.
"الحقيقة!"
"لِمَ لا تطالب بالحقيقة كاملة؟"
مجددا!
حدق عاصم بعينيه مليا ثم ازدرد لعابه قائلا بخفوت:
_وما هي الحقيقة أبي؟ أخبرني؟
نظر له والده بعدم فهم ثم سأله:
_أي حقيقة بني؟
وانطلق السؤال بنبرة هادئة لكنها تشتعل:
_لِمَ تركتني أمي؟
اتسعت عينا أبيه بصدمة فعاجله بسؤال ثان:
_لِمَ انفصلت عنها بالأصل؟
وعندما طالت دهشة أبيه أتبعه بالثالث:
_لِمَ لم تزرني طوال تلك السنوات؟
هنا لم يستطع أبوه الصمت أكثر فهتف بغضب مرتبك:
_لِمَ تسأل أنت في ذلك الشأن الآن؟ ألا ترى أنك تأخرت عدة سنوات لِتفعل؟
تسارعت دقات قلبه وهو ينتبه لِتهرُّب أبيه منه فازدادت نظرته ثم لهجته صرامة وهو يُخاطبه:
_الآن أبي! الآن أريد الحقيقة، وأنت لن ترضى لي بالحيرة والشك أكثر.
أجابه بنزق وهو يهب واقفا عائداً إلى الداخل:
_لم نتفق، هذا يحدث للكثير.
تعلق بذراعه بتوسل قبل أن يخرج هاتفا:
_ولِمَ لم تزرني مطلقا؟
عندئذ نظر أبوه إليه نظرة صدمته وجعلت قلبه يرتعد، لتنتشر الارتعادة بجسده كاملا وأبوه يجيبه ببرود:
_لقد زارتك!
****
سنوات مرت وهي تنتظر أن يدق قلبه لها ولم يفعل، تنتظر أن يجتاحه حنينه إليها ولم يفعل، حتى فقدت الأمل وأدركت أنها تتمنى شيئا بعيد المنال، وأنه حتى إن كانت شخصيته قد تغيرت واستطاع فرضها على الجميع إلا أن قلبه لن تملكه مُطلقاً، هنيئا لها!
لكنها لن تطالبه بشيء، لن تتوقع حبه، ستعيش من أجل ابنها الحبيب، طالما عَمَّار لم يخنها لن تعرض ابنها لخطر التفكك الأُسَري ولن تتسبب بالنزاعات بين أمها وخالتها.
لكن الحال فجأة انقلب، اختفاء بالساعات ثم مكالمة هاتفية هامسة، ليبدأ الشك بالنبش بقلبها، تفضي بقلقها لأمها فتنصحها بمراقبته، أو بتفتيش هاتفه، لتتجرأ وتقوم بالاثنتين.
بمرور الوقت وبإحدى الليالي استطاعت الوصول لهاتفه، مقاطع مصورة لعمليات ، أهداف لفريقه المفضل، صور حالات طبية، صور لابنهما في مراحل مختلفة..
وفتاة جميلة بريئة الملامح!
صورة..
تلو أخرى..
تلو أخرى..
وكلها مُلتقطة لها في الشارع، فيبدو أنها يتم تصويرها بدون علمها، هل هي حبيبته السابقة؟!
لا تعلم عنها سوى أنها كانت زميلته وتُدعَى رضوى، هل انفصلت عن زوجها؟ هل سيعود إليها؟
وعلى جمر متقلب قضت ليلتها، وفي الصباح الباكر كانت السيارة الرمادية هدفها حتى توقف صاحبها أمام أحد معاهد تدريس اللغات، لتختبىء داخل سيارتها بعيداً عن مرمى رؤيته، حتى خرجت غريمتها يحدق بها زوجها بحب لم تطاله عيناها يوما.
وباليوم التالي حزمت أمرها، تأكدت من وجوده بالمشفى واتجهت إلى مكان عمل طريدة زوجها ، انتظرت طويلا حتى خرجت الفتاة أخيرا تترنح بعض الشيء، فمشت باتجاهها متعمدة الاصطدام بها وتجاذبت معها حديثاً يبدو مُصادفة بينما تخفي نيراناً داخل صدرها وهي تواجه غريمتها وتتظاهر باللامبالاة بينما الفتاة تتضح عليها البراءة بالفعل..
افتعلت خطة ما وتذرعت بحجة السؤال عن الدورات التي تدرس للأطفال بسن ابنها ، وبينما تجيبها الفتاة بإتقان شردت هي بملامحها متفحصة، لن تنكر جمالها، لكن بِمَ كان يبحث عَمَّار ووجده بها هي بالتحديد ليتخلى عن إخلاصه غير المشروط منذ ستة سنوات؟
عمرها خمس وعشرون!
اسمها رهف!
ليست السابقة إذن!
ماذا عَمَّار؟ هل مللت أخيرا؟ هل وجدت أن ما لدينا لا يستحق؟ أستبحث بين كل النساء ما عداني إلى متى؟
وبعد أسبوع:
لا تستطيع النوم، يجب أن تواجهه، لكنها تعلم أنها إن واجهته سينهار عالمها بأكمله...
عذاب لا ينتهي!
لقد عابته يوما بضعفه وها هي تُبتلى بنفس العيب!
الأضواء المُتَسَللة من غرفة نومه شدتها لتتسلل إليها بصمت، فتراه مُولِيا إياها ظهره ممسكا بهاتفه مُطْلِقَاَ السكاكين إلى قلبها بلا رحمة:
_أريدِك!
_أريدِك رهف، أريد رؤيتك، أريد تعويضِك، أريدِك معي دائما وبجانبي.
_أنا لا أريد بكِ شرا رهف، أنتِ غالية، لا تدركين كم أنتِ غالية!
_يا إلهي أنتِ حقا ممثلة فاشلة!
¬_أنصتي جيدا رهف، ذلك الوضع لن يستمر طويلا، قريبا ستكونين معي ولن يفرق بيننا أحدا، وحتى ذلك الوقت اعتني بنفسك جيدا، إلى اللقاء.
ألجمتها الصدمة وهي تتشرب الكلمات التي لم تتمتع بها مُطلقاً، وعندما أنهى مزاحه مع ابنه واستدار، كانت دمعاتها تنهمر بلا إرادة منها، وتكسرت نبرتها كما تكسر قلبها وهي تبادره بصدمة:
_أتخونني عَمَّار؟!
****
عودة إلى الوقت الحالي:
تطلعت إلى موظفة الاستقبال ببلاهة تحاول استيعاب سؤالها البسيط فاضطرت الأخرى لتكراره مرة ثانية:
_أرجوكِ آنسة، أنا لست متفرغة.
حمحمت بحرج وهي تعيد نفس العبارة:
_لقد أخبرتك، أريد مقابلة صاحب هذه الشركة.
لتزفر الموظفة بملل:
_أي واحد منهما آنسة؟
تطلعت رهف حولها بضيق وهي تلعن غبائها وهاتفها الذي سُرق والآخر بحوزتها الذي لا يستمر شحنه عشرة دقائق كاملين، هي حتى لا تستطيع الآن الاتصال بالرجل، أما فكرت في سؤاله عن اسمه عندما هاتفها؟
خرقاء! وستظل خرقاء!
عادت بنظراتها إلى الفتاة وأدركت أنها تمنع نفسها بصعوبة عن الصراخ بها، ثم هزت كتفيها بحيرة وهي تجيب بحرج:
_أنا لا أعلم اسمه، اعذريني!
همت الفتاة بنهرها بحنق فتدخلت زميلتهاالتي تبدو أكثر حُلما بسرعة متسائلة:
_أتريدين مقابلة المهندس عاصم؟ لم يأتِ اليوم.
كانت على وشك الرد بنفس الإجابة فقاطعها الصوت الذي تسلل إلى أذنيها هاتفياً بالأمس من خلفها:
_لا! الآنسة تريد مقابلتي أنا!
وعندما التفتت للخلف اجتذبتها على الفور عينان خضراوتان تحدقان بها بابتسامة رائعة، ليتابع صاحبها بتهذيب:
_مرحبا آنسة رهف، أُعرِّفك بنفسي، مهندس ساري رشوان!
** نهاية الفصل الثاني**

سعاد (أمواج أرجوانية) 19-08-20 07:54 PM

الفصل الثالث
الدائرة
****
قالوا إن الحب ضعف
ذل
خيبة
وقلتُ إنه قوة
عِزَّة
وثِقة!
إلى أن وُضِع قلبي مَحلاً للاختبار
وبكل الضعف والذُّل والخيبة استسلمت
إلى أن حان الوقت واستيقظت
لا تتعارض رأفتي مع كرامتي
لا تتعارض مَحَبَّتي مع قيمتي
ولن يُعارض قلبي احترامي لذاتي
لِذا يا من احتللت قلبي بلا رغبة منك أو مني
انتحِ جانباً فأنا مَلِكة على عرش كياني!
****










منذ أسبوع:
"أتخونني عَمَّار؟!"
أغمض عينيه لحظة يلعن تَهَوُّرُه ثم فتحهما ليجدها تنظر إليه بصدمة وازدراء وهي تتابع باكية بألم:
_لقد أخبرتك عَمَّار، أخبرتك منذ سنوات أنني لن أغفر الخيانة، أعطيتك ستة أعوام من البداية الجديدة من أجل ابننا، ستة أعوام عَمَّار لِمَ أهدرتهم الآن؟ لِمَ جعلتني لتوي أشعر وكأنني كنت أحارب كي أحافظ على صمود جبل من الرمال؟
وبنبرة متخاذلة رد:
_لم أخُنك!
وبصراخ كان هتافها:
_كاذب!
ثم استدركت بنبرة لائمة بحسرة:
_أنت تراقبها، تهاتفها، ترسل إليها الرسائل، تخبرها أنك تريدها معك، تخبرها أنك ستعوضها، تخبرها أنها غالية.
انتحبت ببكاء قاتل وهو يحدق بها بصدمة فتابعت بشفتين مرتجفتين وصوت متقطع:
_أتعلم عَمَّار كم تخيلت أنك تُسمعني الكلمات نفسها؟ كم رسمت في عقلي صوتك وأنت تخبرني أنك تريدني معك؟! أنك ستعوضني عن انتظاري لسنوات للحصول على حبك وأنني أصبحت لديك غالية؟!
ثم اقتربت منه بخطوات ضعيفة حتى وقفت أمامه تحدق به بعسليتيها المتوسلتين ودمعات ملتهبة وسألته بِلهفة:
_ألم تشعر أبدا عَمَّار أنك تريدني؟ ألم تشعر أبدا أنني على قلبك غالية؟
وضع يديه على كتفيها بألم ينفي:
_أنا لم أخنك مَوَدَّة، أبدا لم أخنك.
ونفضت يديه صارخة به بجنون:
_كاذب عَمَّار، كاذب! كاذب! لقد رأيتك بنفسي كيف تنظر إليها، لقد رأيتك كيف تتطلع إليها بحنان، لقد رأيت هوسك بها، أنت عميت عني تماما حتى ما عدت تشعر بوجودي حولك، لقد كنت على بُعد خطوات منك وأنت تقف محدقا بها باشتياق، لقد كنت أشاهد خيانتك لي بنفسي، أنت خنتني بقلبك وبعقلك وبلسانك، وأنا...
توقفت لحظة تلتقط أنفاسا تؤلم صدرها ثم تابعت بامتعاض:
_وأنا أتواجد حولك أستجدي حنانك واهتمامك فلا أجد، فإلى متى تظن عَمَّار أنني سأظل أدور في تلك الدائرة من التسول والتوسل إليك؟ لقد اكتفيت، ولم أعد أرغب بك.
شحب وجهه وازدرد لعابه بقلق:
_ماذا تقصدين مَوَدَّة؟
ببطء مسحت وجهها بكفيها وشمخت بأنفها وهي تبتسم له ببرود ثم قالت:
_أعني أنني قد حققت شرطي من الاتفاق، والآن حان دورك.
كان يرفض الفكرة الخبيثة التي تلح على عقله الآن حينما استدركت هي بنفس النبرة القوية المذبوحة:
_لقد وعدتني يوم أهداني الله إياد وحذرتك من الخيانة أنك ستنفذ لي مطلبي إن خرقت شرطك، الآن يا عَمَّار، الآن ستُنفذ ذلك الوعد وستطلقني!
أخذ يهز رأسه برفض ومجرد فكرة عدم تواجدها حوله تصيب قلبه بنغزة مؤلمة وتبث في كيانه الرعب، ليكتشف أنه بحقها أخطأ ولايزال!..
لكن..
لكن ربما ذلك القرار يكون الأكثر صوابا تلك الفترة!
أولته ظهرها ثم اتجهت إلى الباب وتوقفت مستدركة بصرامة:
_سأذهب إلى بيت أبي صباحا، أرجو أن ينتهي كل شيء بدون مشاكل، من أجل إياد ومن أجل عائلتينا!
وبمنتهى البساطة خرجت مغلقة الباب بهدوء ليحدق هو في إثرها بغضب ولسانه يأبى أن يلعن من كان السبب!
****
عودة إلى الوقت الحالي:
"لقد زارتْك!"
ببطء ترك عاصم ذراع أبيه وهو يحدق به بعدم استيعاب ثم ردد بعد وقت بصوت متحشرج:
_زارتني؟! متى؟ ولِمَ لَم أقابلها؟
صاح أبوه بثورة وهو يجذب ذراعه من يده بِحِدة:
_ما الذي ذكرك بها الآن؟ إلى أين تريد أن تصل بكل تلك الأسئلة؟
ليهتف به بألم:
_إلى الحقيقة أبي، أريد الحقيقة، أريد أن أعلم هل الصورة التي رسمتها أنا لها طوال ذلك الوقت صحيحة أم لا، أريد أن أعرف أهي فعلا قاسية أنانية أم لا، أريد أن أعرف ما الذي يجعل امرأة تحب ابنها تتركه فجأة وترحل وهو لا يفهم السبب، والآن أريد أن أعرف لِمَ سلبتني حقي برؤيتها منذ سنوات.
والعبارة الأخيرة خرجت صارخة فنظر له أبوه بِوجع وهو يسأله بحزن:
_ألم تستطع أنعام حل مكانتها لديك؟
وانهمرت دمعتين متوسلتين من عاصم بينما يهز رأسه نفياً:
_كانت أمي أيضا، وأقسم أنني أحببتها، لكن..لكن أنا لدي أم حقيقية عِشت لِسنوات مُقتنعاً أنها أرادت الابتعاد عني، والآن فقط اكتشفت أنها لم تتخلص مني وتنساني تماما مثلما ظننت.
طأطأ أبوه رأسه بألم وهو يرد بخفوت:
_لم تحبني يوما!
عقد عاصم حاجبيه وفضل الصمت ليستحثه على المواصلة فتابع أبوه بِصوت بانت فيه الهزيمة واضحة:
_كنت أكبرها بثمانية عشر عاما، فتاة جميلة مدللة تفيض رقة وبهاء، وأنا كنت قد تناسيت الاستقرار منذ حملت مسئولية أسرتي، وفي الأربعين استفقت فجأة لأكتشف أن عمري يضيع في العمل وجمع المال، لا زوجة! لا ولد! لا مستقبل، وكانت هي أول من فكرت بها.
زفر بعذاب مشوب ببعض الخزي وهو يتهرب من عيني ابنه ثم تابع:
_علمت أن حالة أسرتها المادية سيئة للغاية، فرأيت نفسي الفارس الهُمام الذي سينقذها من براثن الفقر، طلبتها، رفَضَت! أعدت طلبها، أعادت الرفض، لكن والداها أجبراها، أشقائها أجبروها، حاجتها أجبرتها، فوافَقَت!
ارتفع صوت تنفس عاصم كما اتسعت عيناه ذهولاً وهو يرى الأمر من تلك الزاوية للمرة الأولى وأبوه يتابع بعينين شاردتين في ماض ولى ورحل:
_انتويت أن أجعلها تبادلني حبي بأية طريقة، حاولت، وحاولت، وحاولت، لكن لا سلطة لنا على قلوبنا يا عاصم، كانت تذوي يوما بعد يوم، كانت تموت ببطء وأنا أعلم، لكني لم أكن بالقوة التي تجعلني أحررها، لطالما رأيت شعلة تمرد بعينيها تنطفيء ما إن تنظر إليك بحسرة، أخبرت نفسي أنها ولابد ستمل يوما، ستفقد الأمل، سترضى بنصيبها وستسعد معي، لكن ذلك اليوم لم يأتِ أبدا، وعندما تعدى الألم نفسها ووصل إلى جسدها كانت النهاية، طالبتني بالتحرر فساومتها بك، تراجَعَت ثم ضَعُفَت، فحررتها!
عيناه لم تعودا تبصران بسبب غلالة الدموع الكثيفة التي تتحكم بهما وهو يَتَشَبَّع بِمعنى كل كلمة تُلقى على أذنيه كأكثر العذابات إيلاماً، لم يجد تعليقا ولم يكن أبوه ينتظر واحدا فأضاف:
_ربما تراني أنانيا، لكنني اعتقدت أنها ستدرك المزايا التي تركتها خلفها وستعود، خاصة وأنا أعلم كم كانت روحها معلقة بك.
أغمض عاصم عينيه محاولا إخفاء الحسرة التي تنمو بداخلهما عندما نظر له أبوه بندم ثم تابع:
_إلى أن علمت بزواجها ذات يوم لتُقتل كل آمالي بِعودتها، فأعماني غضبي وذهبت إليها متوعدا إياها بألا تراك ثانية، وقبل انتهاء الأسبوع كنت قد تزوجت بأنعام.
فتح عينيه رامقاً إياه بِتوجس ثم لم يجد بداً من طرح السؤال الذي يصرخ بِعقله فتحدث هامساً:
_هل أحببتها أيضا أم....
والدمعات تحررت من عيني أبيه أيضا بعد تأخر سنوات عِدة ثم رَدد بعذاب:
_ لقد حاولت يا عاصم، كثيرا ما حاولت أن أحبها، كنت أسأل نفسي مندهشا، كيف لا تستطيع احتلال قلبك بكل حنانها وحبها لك؟ كانت كريمة معي ومعك، لم تشكو أبدا وهي تدرك أن قلبي تمتلكه غيرها، لكن الله عاقبني وفقدتها بعد بضعة سنوات، لأكتشف أن ربما الوحدة ليست سيئة بذلك الشكل، ربما من مثلي لا يجب أن يجتمعوا بغيرهم حتى لا يؤذوهم، فمن أحببتها ظلمتها، ومن أحبتني خذلتها!
جلس عاصم وهو يخفي وجهه بين كفيه، لا يريد أن ينظر له الآن، لقد كان مرتعبا من اهتزاز الصورة السيئة التي رسمها لأمه طوال عمره، الآن ماذا يفعل في صورة أبيه المُثلى التي تمزقت ومزَّقت معها قلبه بكل قسوة؟!
لكن أبوه كان كمن وجد فرصة للاعتراف بِخطاياه أخيراً بعد سنوات فاخترق بصوته أفكاره قائلاً:
_لقد جاءت، كثيرا ما جاءت، كل يوم ميلاد لك جاءت بهدية لألقيها بوجهها، كل عيد فطر جاءت بصندوق الكعك الذي تحبه من صنع يدها لأردها خائبة، كل مناسبة اعتادت على الاحتفال بها معك جاءت ولم تيأس من أن تراك يوما، لكني لم أستطع التخلص من حقدي عليها، لم أستطع نسيان أنها تركتني واقترنت بغيري بعد أن أحببتها كل ذلك الحب.
لم يتحمل أكثر..
أن يجلس مُستمعاً إلى صوت هدم كل قناعاته لِسنوات خلال دقائق بينما هو عاجز.. صعب للغاية؛
أن يستوعب الآن أن والدته أرادته ولم تتخل عنه بلا اهتمام بعد أن مَثَّلَت له صورة للإجحاف.. مؤلِم للغاية؛
أن يُدرك الآن أنه ارتكن إلى ظلم أبيه لها دون معرفة منه ولم يتخذ أي خطوة للبحث خلف ما حدث..قاس وموجع للغاية!
هب واقفا متجها إلى الخارج قبل أن يقدم على شيء قد يندم عليه طوال عمره فتمسك أبوه بإحدى كفيه بضعف:
_ربما أنا أقترب من نهايتي عاصم، ذنبي تجاهها يؤرقني، لا أريد مقابلة ربي وظلمي لها مكبل عنقي.
هنا نظر له عاصم بعذاب مرددا:
_أنت لم تظلمها وحدها أبي، لقد ظلمتني أيضا، ويا للغرابة! لم أختلف أنا عنك كثيرا، فقد ظلمتها أكثر.
وبهدوء جذب كفه من يده وخرج من الشرفة، وعلى فراشه ارتمى محدقا بذهول في سقف غرفته وهو لا يصدق أن عمره بأكمله قد ضاع في حقد وكراهية من كان كل ذنبها أنها تزوجت من أبيه، ثم أنجبته!
****
"مرحبا آنسة رهف، أعرفك بنفسي، مهندس ساري رشوان!"
حدقت بوجهه للحظات وفعل هو المثل فَغَضَّت بصرها متحدثة بخفوت:
_اعذرني! لم أنتبه إلى أنني لم أعلم اسمك إلا الآن.
التزم الصمت للحظات لا يحيد بعينيه عنها ثم اتسعت ابتسامته وهو يقترب منها مرددا بنبرة مَرِحة:
_لا يهم، طالما لم تنعتيني باللص!
هربت ضحكة رقيقة منها مصاحبة تورد وجنتيها، ثم رفعت نظرها إليه مُتسائلة:
_أين أغراضي؟
أجابها بتهذيب وقد اكتسبت نظراته اهتماما خالصا:
_كل متعلقاتك بمكتبي بالأعلى.
_لِمَ لم تجلبها معك؟
عقد حاجبيه بدهشة متسائلاً بنبرة خافتة:
_أتريدينني أن أتمشى ببهو الشركة حاملا حقيبة نسائية؟ أنتِ بالفعل تعملين على إلصاق تهمة السرقة بي!
ابتسمت وهي تتهرب من عينيه فبادرها بتهذيب:
_تفضلي آنسة رهف، المصعد من ذلك الاتجاه.
........
تطلعت إلى المكتب الأنيق رغم بساطته، ثم اتجهت إلى المقعد المواجه لمكتبه وجلست تحدق في الأرض بترقب، جلس هو خلف مكتبه ثم التقط هاتفا داخليا وهو يسألها:
_ماذا تشربين آنسة رهف؟
وبسرعة كان ردها:
_لا لا، لا أريد شيئا، فقط أعطني أغراضي حتى أنصرف.
عقد حاجبيه بضيق مفتعل وبنبرة آمرة طلب من محدثه قهوة وعصيرا طازجا.
تطلع إلى توترها الجلي بابتسامة حاول إخفاءها فلم يستطع، يعترف أن هيئتها الحقيقية تختلف كثيرا عن صورتها بالهوية..
أكثر هشاشة؟ ربما؛
أكثر رقة؟ يبدو ذلك؛
أكثر فتنة؟ أكيد!
وسؤالها المرتبك قاطع استرسال أفكاره:
_كيف وصلت مُتعلِّقاتي إليك؟
وقبل أن يجيبها دخلت العاملة بالمشروبات ثم خرجت بعد أن قدمتها لهما.
_لقد اضطر اللصوص إلى التخلِّي عنها.
أخيرا نظرت إلى عينيه مباشرة وهي تسأله بدهشة:
_كيف؟
مط شفتيه ثم أجابها بجدية:
_ كنت أقود سيارتي فإذا بمجنونين على دراجة نارية يتجاوزاني وكادا أن يصطدما بي، خرجت لأتشاجر معهما فكان أحد كمائن الشرطة أمامنا، تخلصا من الحقيبة فورا ثم مرَّا بالكمين، لكني شككت بالأمر وكان حدسي بمحله، فعندما وصلت إلى الحقيبة وجدت بها كتبك وهاتفك وحافظتك.
ثم أردف بشبه ابتسامة:
_ونصف لوح الشوكولاتة خاصتك.
كانت تحدق به بانبهار وهو يسرد تفاصيل ما حدث، وعندما انتهى رمقها بابتسامة أربكتها، بسرعة طأطأت رأسها وهي تجلي حنجرتها وقالت:
_أشكرك على تعبك واهتمامك وحرصك على أغراضي.
اتسعت ابتسامته مرة أخرى وهو يشاكسها:
_أرجو ألا أحبطك، لكني منذ صغري وقد تمنيت الحصول على العدالة بيدي والتخلص من الأشرار، لذا لقد سعيت خلف البطولة من أجلي في المقام الأول.
بادلته ابتسامته رغما عنها وهي تهز كتفيها:
_وإن يكن، يظل هدفك سامي.
طالت النظرات الصامتة بينهما، فحاولت انتزاع عينيها عنه ولم تستطع، ثم أجبرت نفسها على التهرب، أصدر هو حمحمة مرتبكة وهو يحك لحيته ثم أمرها بلهجة لطيفة:
_اشربي العصير آنسة رهف.
بيدين مرتبكتين أمسكت بالكوب الزجاجي وهي ترشف بضعا من السائل حلو المذاق، بينما عادت عيناه تراقبانها بتصميم غريب، و بعد لحظات هبت واقفة وهي تبحث عن كلمات خرجت متوترة:
_لقد تأخرت، سأنصرف الآن.
وكان رده به بعض الضيق وقليل من الرجاء:
_لِمَ أنتِ متعجلة هكذا؟ انتظري قليلا بعد!
ثم استدرك بنبرة مرتبكة:
_أقصد، انهي العصير أولا!
وبنفس الارتباك أجابته:
_آسفة، لدي حصة بعد قليل، يجب أن أذهب.
اجتذب ابتسامة مُدققة ثم قال:
_اعتني بنفسك آنسة رهف، وحاولي ألا تمشي بمفردك في وقت متأخر.
هزت رأسها بسرعة ثم ابتسمت..
غامزة!
غامزة؟!
نعم غامزة!!
اتسعت عيناها بذهول وهي تلعن غبائها، بينما حدق هو بها بدهشة ينتظر توضيحا أو تأكيداً!، لم تُطِل عليه انتظاره وهي تزيد الطين بلة متحدث باضطراب وتهور:
_اعتذر! أنا .. أنا لم أكن أغمز لك! أقصد أنني .. إنها "لازمة" وحركة تلقائية أودع بها طلابي.. أعني طالباتي بالطبع.. أنا لم أتعمد أن أغمز لك و......
ومع كل كلمة تصبح وجنتيها
أكثر توردا!
أكثر احمرارا!
وأكثر جاذبية!
وردُّه كان ابتسامة تلقاها قلبها فرقصت دقاته بصخب، ثم تلتها عبارته الماكرة:
لا عليكِ! لقد كنت طالبا ذات يوم، لكنللأسف_ حظي لم يكن بمثل ذلك الإشراق!
والابتسامة أصبحت ماكرة، فتراجعت إلى الخلف ثم أولته ظهرها فأوقفها بصوته هادىء:
_آنسة رهف!
زفرت بعمق وهي توبخ نفسها محاولة رسم الجدية على محياها ثم استدارت هاتفة بِصرامة:
_نعم مهندس ساري؟!
لتجده ينحني على أحد أدراج مكتبه، فاتسعت عيناها بدهشة وأسدلت أهدابها بِحَرج، حتى شعرت به أمامها مخاطبا إياها بخفوت:
_لقد نسيتِ..أغراضك!
نظرت له بِتوتر وحمحمت بحرج وهي تأخذ منه الحقيبة تستشعر ثقلها، ليهمس هو بهدوء:
_لا تقلقي! لم آخذ منها سوى نصف لوح الشوكولاتة!
وردها التلقائي انطلق:
_بألف هناء وشفاء.
ثم ارتدت حقيبتها على كتفها لتصبح هيئتها مضحكة بالاثنتين معا ثم تابعت:
_مع السلامة مهندس ساري.
وكان الرد القوي الهادىء الذي يعلن بوعد غير منطوق:
_أشعر أنني سأراكِ ثانية!
وهنا دفعت ساقيها المتخشبتين دفعا لتتحركا إلى خارج ذلك المكان الذي يجذبهاوصاحبهإلى شعور غريب يرسل القلق إلى أطرافها، وعندما كانت تتأكد من وجود أغراضها، وجدت كل شيء مثلما تركته، إلا نصف لوح الشوكولاتة الذي لم يعد هناك!
وبدلا منه وجدت لوح كامل من ألذ الأنواع!
****

سعاد (أمواج أرجوانية) 19-08-20 07:56 PM

تابع الفصل الثالث:
طرقت تغريد باب جناح أخيهاالذي خلا من زوجته وابنهعدة طرقات بهدوء وانتظرت حتى فتح لها الباب بعد دقيقة كاملة، تعلَّقت عيناها به بصدمة ونست سبب صعودها إليه في الأصل..
حُزن، تعب، ضياع، وحقد!
للمرة الأولى بحياتها تشعر بكل هذا العنف المكبوت الذي تُنذر به عيناه؛
حتى عندما ثار فجأة منذ سنوات عند ميلاد ابنه اكتفى بالتجاهل، تخلَّص من سطوة أبيهما عليه لكنه لم يقم بأي خطوة تسبب القلق!
التزم هُدنة غير مُعلَنَة تحمل شعاراً واضحاً بالتحذير من محاولة التسلُّط، وبدا لها أن أبيهما أيضاً قد أدرك بداية تحرره منه فتظاهر باللامبالاة!
_ماذا تريدين تغريد؟
سألها بصوت حمل حنقاً هائلاً تعلم أنه غير موجه لها هي، فقالت له بحنان:
_ألن تتناول طعام الغداء؟ أمي أرسلتني كي...
قاطعها عائداً إلى الداخل:
_لا أريد!
حدَّقت به جالساً بِتَعَب والهَم يعلو وجهه، اتجهت إليه واتخذت مقعدها إلى جواره ثم حدثته بهدوء:
_عَمَّار! إن كنت إلى تلك الدرجة تتعذب بسبب رحيل مَوَدَّة وإياد فلتذهب إليها، اعتذر وأخبرها أن الأمر ليس بيدك.
لم يُعَلِّق على نصيحتها فتابعت بنفس النبرة:
_هي تحبك ولطالما كانت متأنية في قراراتها.
والتهكم احتل وجهه وهو ينظر إليها قائلاً:
_الحب له حد تغريد، وهي بالتأكيد تندم الآن على أنها أحبت رجل مثلي.
ثم استطرد بِحسرة:
_لقد اعتقدت أنني باكتفائي بالرفض لكل ما يريده أبي سوف تصير حياتي سوية، اعتقدت أنني بإمكاني الحصول على بداية جديدة..
وعاد التهكم مرة أخرى إلى صوته مع ابتسامة ساخرة مُردِفاً:
_ولكن هل يقوم البناء على أساس مهزوز؟
واجهته بحزم متسائلة:
_ماذا تريد عَمَّار؟
رمقها في صمت لبعض الوقت ثم تحدث بعذاب قائلاً:
_أريدها معي!
وبالرغم من أنها أدركت هوية من يتحدث عنها إلا أنها قالت بصوت شابه الحَذَر:
_أنت تقصد مَوَدَّة، أليس كذلك؟ أنت لن تقوم بشيء يهدم كل...
قاطعها بألم والتوسل بعينيه صارخ:
_بل رهف!
واستدرك بتصميم:
_ظهورها الآن بالتحديد هو بمثابة رسالة.
ثم جزَّ على أسنانه بغضب وتمتم مُتَوَعِداً:
_رسالة سأعيد توجيهها إلى كل من ظن أنه يستطيع تسيير حيوات الآخرين بذلك الجبروت!
تسارعت دقات قلبها واكتنفها القلق، وبعض من ندم..
ربما ليست هي السبب في كل ذلك بالأصل؛
لكنها ساهمت ولو بقدر ضئيل في وصوله إليها..
إلى رهف!
_عَمَّار! أنا.. أنا لا أعلم هل عليّ تشجيعك أم نصحك بالتراجع، لكن الأمر صعب، وربما ستحل الكوارث.
هتف بِحِقد شديد:
_لتحل تغريد، لن أتراجع مهما حدث، لم أعد أهتم، أحتاج فقط إلى ترتيب خطواتي القادمة ولن أطأطأ رأسي مجدداً.
رمقته بعتاب قائلة:
_وَمَوَدَّة، وإياد؟!
أغمض عينيه بألم وبلا رد تركها ودلف إلى غرفته!
****
أمام الباب الذي يحمل لافتة: محاسب صبري رشون أخذ يضغط الجرس بإصرار، فتحت سارة الباب لتجده أمامها فانقلبت أنظارها بملل مفتعل قائلة:
_في العمل، وفي البيت، وبيوم العطلة! إلى أين يستطيع المرء الهرب كي يتخلص من تلك الخلقة العابسة يوما واحدا فقط؟!
وقبل أن تسنح له فرصة للرد جاءها صوت والدتها من الداخل:
_ من بالباب يا سارة؟
بهتاف حانق أجابت:
_إنه عملي الأسود أمي، عابس الوجه فارع الطول..
وبنبرة خافتة مع ابتسامة مُغيظة أضافت:
_قليل الذوق!
باقتضاب سألها:
_هل انتهيتِ؟
وكان الرد بنفس الابتسامة:
_إن أجبت بنعم هل ستنصرف وتجعلني أنسى وجهك السَمِح اليوم؟
وقبل أن يرد وصلت أمها:
_لِمَ لازلت على الباب عاصم؟
رد بهتاف حانق:
_ربما لأن الله ابتلاكِ بمصيبة متنقلة تسلط لسانها على كل من يطرق بابكم.
جذبتها سوسن بعيدا عن الباب وهي ترحب به:
_ادخل عاصم، ساري بغرفته لكنه نائم.
أغلق الباب خلفه وهو يجيبها ناظرا لسارة شذرا:
_لم آتِ من أجله خالتي، أردت الاطمئنان عليكِ، فقد أخبرتني مريم أنكِ متعبة.
جلست فجلس أيضا بمواجهتها، بينما تركتهما سارة وانطلقت إلى غرفتها، ابتسمت سوسن تطمئنه:
_لا تقلق بني، إنه فقط ضغط الدم.
ثم دققت بوجهه وسألته بِقلق:
_ما بكَ عاصم؟ هل حدث شيء؟ هل ابوك بخير؟
أقلقتها البسمة الساخرة على شفتيه وهو يجيب بشرود:
_بخير، هو بخير خالتي.
ثم التفت إليها ماحيا بسمته، وبألم تحدث:
_لكني أنا من لست بخير على الاطلاق.
انتشر الخوف على وجهها وهي تسأله:
_بعيد الشر عنك بني، احكي لي، تخلص من همومك.
بألم وصلها رده المُعَذَّب:
_هل تظنين خالتي أن التخلص من الهموم سهلا؟ هل تظنين أن الحديث بكلمات مُسننة تمزق القلب والروح قبل اللسان بسيطا؟ هل تظنين أن انهيار عالم شخص بأكمله وانقلاب موازين عدله ثم خيبته في قدوته قد يُنسى بمرور الوقت؟!
نظرت له بعدم فهم لكنها تتألم، صحيح هو ليس ولدها بالفعل ولا حتى ابن أختها الراحلة، لكن إن كانت صلة الدم مفقودة بينهما فَصِلَة الروح أقوى وأشد!
وتابع هو بنفس الشرود:
_أتعلمين أنني لطالما حلمت بها، تخبرني أنها آسفة، تخبرني أنها تحبني ولم تتخل عني، تخبرني أنها ستعود لتأخذني، تخبرني أنها لن ترضى بيُتمي وهي على قيد الحياة أبدا، لأصحو كل مرة كارها نفسي وضعفي واشتياقي إليها وحاجتي لحضنها الراحل ووجهها البشوش!
سألته سوسن ببطء متألم:
_أعادت أمك؟
والدمعة المتحجرة بعينيه ذبحت قلبها وهو يرد:
_هي لم تذهب أبداً خالتي، لم تذهب، لقد جاءت وحاولت وتوسلت، لم تيأس ثم ارتضت بالحرمان، وإلى الآن تنتظر.
طأطأ رأسه يحاول إخفاء ضعفه فربتت على ذراعه بحنان متسائلة بهدوء:
_والآن ماذا تريد؟
رفع رأسه يتطلع إليها بضياع:
_لا أعرف!
ثم استدرك بألم غاضب:
_لا أريد!
وعاد بنبرة أضعف:
_لا أستطيع!!
أطلقت زفيراً حارا ثم خاطبته بِهدوء:
_أنا لا أعلم تفاصيل ما كان بين والدك ووالدتك عاصم، لا أعلم من منهما المُخطىء ومن الظالم، لكنني متأكدة أن لا أم تترك ابنها بإرادتها، لا أم تُحرَم من ابنها وتعيش سعيدة، حتى وإن امتلكت السعادة بعدها، سيظل فقدها لابنها يؤرقها ويؤلم روحها.
التمعت عيناه بِدمعات لا يخجل من ظهورها أمامها فأضافت بِحسرة:
_أنعام قد أخبرتني أن أمك أرادت رؤيتك ذات مرة لكن أبوك هو من تَعَنَّت ورَفَض، لقد اعتقدت أنك أيضاً تلومها يا ولدي فَلم أشأ التدخل.
واكتسبت لهجتها بعض الصرامة وهي تُردِف أخيراً:
_لكنك الآن قد علِمت أنها نالت من الألم والاشتياق ما يفوق قدرة أي أم، وأثق بأنك ستتخذ القرار الصحيح.
خبأ وجهه بين كفيه فتحركت هي بهدوء إلى الخارج ثم أغلقت الباب عليه، لطالما كان يفضل وحدته في بيتها عن بيته، كان كلما آلمه شيء جاء إليها منفردا بنفسه لبعض الوقت ثم خرج منتعشا وكأن شيئا لم يكن، والآن يبدو أن ثقله أكبر، وعذابه أشد، ويا ليته يقضي وحدته كما يشاء ثم يخرج إليهم مرتاح البال ،تعلم أنه في آخر الأمر سيذهب من تلقاء نفسه، سيذهب استجابة لغريزته نحو أمه وليس بناءا على إصراراً من غيره.
****
كان يتنقل بين زوايا الجناح وعيناه تحملان نظرة خاوية بلا هدف..
متى صار بارداً بذلك الشكل؟ متى تسلل الاختناق إلى أرجائه؟ متى عم الظلام كل ركن به؟
وهل للمكان روح؟!
سؤال غريب طرحه عقله عليه الآن ليجيب قلبه بلا مواربة بأنه يمتلك روحا بالطبع!
روحا كانت تطهي طعاما هنا، روحا كانت تلاعب ابنه هنا، روحا كانت تهتم بكل ما يخصه هنا، روحا لطالما انتظرته كلما ابتعد، واشتاقت إليه أكثر كلما اقترب، روحا تنازلت وتنازلت حتى وأدها بقسوة، لكنه ليس بيده، يقسم أن الأمر لم يكن أبدا بيده، تلك الروح الآن رحلت بلا عودة، لتتركه بمكانه كئيبا فارغا مدركا ضياعه للمرة الثانية!
رحلت مَوَدَّة! رحلت ليدرك أنها حرمته من نسمات الراحة التي كانت تحاول إضافتها رغما عنه لحياته المتعبة بينما تمسك هو دائما بالرفض.
رحلت ليقتله التشتت بين رغبته في استعادتها وعدم إبعادها هي وابنه عنه، ورغبته بتخليص تلك الأخرى الوحيدة تماماً من سُحُب سوداء تتكاثف فوقها مُنذرة بِعتمة ستحُل قريباً.
رحلت ليقف تائها لا يعلم من أين يبدأ الآن وماذا يفعل؟ لديه حرب ستنشب قريبا ويحتاج أن يصبح أقوى، من أجل نفسه، من أجل رهف!
****
تململت أم محمود في جلستها وهي تتظاهر بِعدم ملاحظة غيظ شروق الشديد ثم قالت:
_أنتِ من تأخرتِ في الرد عليّ يا شروق، والرجل ظل منتظرا منذ شهر حتى تنتهي عدتها، لكني لم أستطع الضغط عليه أكثر وهو بحاجة لزوجة تهتم به وببيته.
نظرت لها شروق بِغِل حاولت إخفاؤه بلا جدوى وأصوات الزغاريد تصلها من البيت المجاور تنهش بعقلها وتثير بصدرها الحقد.
ثم استأنفت أم محمود بنبرة خافتة:
_لكن لا تقلقي! عريس دينا عندي، وأنا لن أهدأ حتى أطمئن عليها بنفسي مع من يستحقها.
بلهجة مكتومة ردت شروق:
_شكرا أم محمود، أتعبناكِ والله!
انصرفت المرأة مسرعة كي تلحق بعقد القران بالمنزل المجاور وهي تطلق الزغاريد التي انطلقت كرصاصات تخترق أذني شروق أثناء مراقبتها من نافذة الصالة العروس التي تصغر ابنتها بخمسة أعوام تتأبط ذراع من كانت تتخيل منذ فترة أنه سيصبح صهرها وستتغير أحوالهم المادية على يديه.
_لِمَ أنت واقفة هكذا أمي؟
التفتت لترى ابنتها ترمقها بقلق فأجابت بغم:
_ألا تسمعين الزغاريد؟
ردت دينا بلامبالاة:
_أسمع، إنه زفاف طارق وابنة الحاج عبد الرحيم.
هتفت شروق من بين أسنانها:
_كان من المفترض أن يكون زفافك أنتِ، لولا تعقيدات أبيكِ الذي يعشق الفقر كعشقه لحياته.
زفرت دينا بملل وهي تجلس على الأريكة وتقلم أظافرها بالمبرد:
_لا تبالي أمي، هو أيضا لم يكن بالعريس الذي لا يُعوض، لا تنسِ أنني أصغر منه بالكثير، كما أنني كنت سأبتلى بأربعة أولاد لا يخصونني بشيء.
نظرت لها أمها بذهول ثم هتفت بها بغضب:
_غريب! لم يكن هذا رأيك عندما أخبرتك بالأمر أول مرة!
ردت دينا بلا اكتراث وهي تحدق في أظافرها باهتمام:
_كل ما في الأمر أمي أنني لم أعترض، لكن هذا لا يعني أنني كدت أطير فرحا به، كان مناسب من بضعة جهات فقط ليس إلا، وقد قررت الانتظار حتى أجد من هو أفضل.
ضيقت شروق عينيها بحذر وهي تحاول فهم ذلك التغيير المفاجىء، تحفظ ابنتها كخطوط يدها، وتعلم أن تلك الكلمات تخفي وراءها أمرا آخر..
أو.. شخصا آخر!
_أهناك آخر يا دينا؟
وبلحظة حصلت على كامل انتباهها، انتفاضة، ثم شحوب، ثم محاولة تماسك فتظاهر باللامبالاة، لتخرج النتيجة من خلال صوت متوتر متكسر أكد لها صدق ظنها رغم تفوه ابنتها بالعكس:
_ما الذي تقولينه أمي؟ أي آخر؟! من أين؟ ومتى؟ بالطبع لا! أنا فقط أريد التمتع بحريتي قليلا.
وقبل أن تعاودها بسؤال آخر وصل زوجها من الخارج مُحيياً:
_السلام عليكم.
وبدلا من رد السلام كانت الثورة والغضب:
_هل أنت سعيد الآن؟! لقد تزوج الرجل في غضون أيام، والآن ستهنأ من هي أصغر من ابنتك بماله، ولنظل نحن في ذلك الهَم حتى الممات.
فكان رده السريع بابتسامة متشفية:
_عسى من يتوقع الهم أن يجد الهم!
وقبل أن تستمع للردود المتبادلة التي ستتحول إلى شجار حتما تسللت إلى غرفتها موصدة بابها بمفتاحها وعند أقصى ركن بها وقفت تجيب النداء الصامت لهاتفها بهمس :
_أخبرتك ألا تتصل بي وأنا بالمنزل، إن علم والدي أنني أحدثك ستحل الكوارث.
وانتظرت رده الهادىء ثم أجابته:
_سأحضر، فقط أترك لي عنوان المكان وسآتي الأربعاء القادم بالموعد.
ثم انتهت المكالمة فابتسمت هي بأمل وهي تتمنى أن تصبح ظنونها حقيقية في أقرب وقت!
****
"ما بِكِ اليوم يا مريم؟ لقد لاحظت شرودك طوال الحصة، هل أزعجك أحدهم مرة أخرى؟"
هتفت بها رهف وهي تواجه مريم التي تستند على أحد الجدران في باحة المعهد، فردت الفتاة بابتسامة ضعيفة:
_لا آنسة مريم، لكن.. أخي مريض قليلا وأنا قلقة عليه.
ربتت رهف على إحدى كتفيها بحنان:
_شافاه الله وعافاه، الكثير يمرض هذه الأيام، هو أمر شائع لا تقلقي، فقط اجعلوه يشرب الكثير من السوائل الدافئة.
ابتسمت الفتاة بامتنان فتابعت رهف:
_ هل هو نفسه أخوكِ الذي يقلك كل مرة؟
هزت مريم رأسها إيجابا فعقدت رهف حاجبيها تساؤلا:
_كيف ستعودين إلى منزلك إذن؟
أجابتها مريم بهدوء:
_ابنة خالتي ستأتي وسأعود معها لبيتهم.
_هل تحبين أن أنتظر معك حتى تصل؟
وما إن همت الفتاة بالرد حتى تراجعت فجأة وهي تنظر إلى نقطة خلف رهف و تبتسم بفرحة، التفتت الأخيرة لتتسمر مكانها وهي لا تعي أحقيقة هذه أم خيال!، لكن تحديقه الذاهل المتبادل بها جعلها تنفض شرودها وهو يتقدم منها ببطء بينما قفزت مريم هاتفة:
_ساري!
ووصل إليهما لا ينزع عينيه عن عينيها وهو يحاول التخلص من تلك المفاجأة فاستدركت مريم:
_لقد قال لي عاصم أن سارة من ستأتي لتقلني، لِمَ أتيت أنت؟
وبدون أن يحيد بعينيه عنها أجاب بهمس وصلها وحدها:
_لأن أمي دعت لي دعوة صالحة هذا الصباح!
توردت وجنتاها وتهربت منه عيناها فأردف بنبرة خافتة:
_ألم أخبرك بأني أشعر أنني سأراكِ ثانية؟!
تدخلت مريم وهي تنقل نظراتهما بينهما:
_الآنسة رهف ساري، إنها معلمتي!
رد بابتسامته الرائعة:
_أهلا آنسة رهف، وأنا أكون ساري ابن خالة مريم.
أومأت برأسها في تحية صامتة، ثم تخلصت من توترها بسرعة وهي تحاول الابتسام بمجاملة:
_لا تضايقي نفسك مريم، ألف سلامة لأخوكِ، بعد إذنكما.
اندفع بسرعة قبل أن تتحرك وهو يعرض بلهفة واضحة:
_انتظري آنسة رهف! سنقلك إلى منزلك، الظلام بدأ في الحلول بالفعل.
تململت في وقفتها بارتباك ثم ردت:
_لا داع، أنا سأستقل الحافلة، شكرا لك.
توسلتها مريم:
_أرجوكِ آنسة رهف! تعالِ معنا!
ابتسمت رهف لها بحرج وهي ترد بهدوء:
_صدقيني مريم لا أستطيع.
توجه ساري بالكلام إلى مريم:
_اذهبي مريم وانتظريني بالسيارة.
نظرت لها مريم بابتسامة ثم انطلقت إلى سيارته، ازداد توترها ثم تشبثت بكتبها وهي تبادر:
_إلى اللقاء.
وقبل أن تتحرك هتف:
_انتظري رهف!
نظرت له بدهشة فحك ذقنه بارتباك:
_آسف! لم أقصد رفع الألقاب.
هزت رأسها بلا تعبير فأردف:
_أخبريني! ما هي أعَمَّار طلابك؟
رفعت رأسها تنظر له بدهشة وهي تجيبه:
_عفوا؟!
حمحم بحرج وهو يعيد سؤاله:
_أقصد.. الطلاب الذين تُدَرِّسين لهم، ما هو الحد الأقصى لأعَمَّارهم؟ أرغب بالحصول على معلومات عن ذلك المركز.
برتابة أجابته:
_من الخامسة إلى الخامسة عشرة.
عقد حاجبيه بضيق وهو يهتف بها:
_هذا ليس عدلا! وماذا عن الأكبر سنا؟ ألا يحق لهم تعلم اللغة؟ هذا ظلم بَيِّن!
استغربت حدته وهي تُجيبه بسرعة:
_كنت أعتقد أنك تسأل عن الفصول المقامة الآن، بالطبع هناك فصول مختلفة لجميع الأعَمَّار وبمواعيد مختلفة كي يتسنى لمن لديهم وظائف الحضور.
مالت شفتيه بابتسامة خطفت أنظارها وهو يردد بنبرة خطرة:
إذن أهناك فصول لشاب في الثانية والثلاثين يرغبوبشدة_ في التعلم؟ وأُصدقك القول حينما أؤكد لكِ أنه مجتهد جدا! وملتزم بالحضور جدا! وسيحرص على الاستذكار جدا جدا!!
جف حلقها وهي تبتعد بعينيها عنه بقلق ثم ردت:
_لقد..لقد أخبرتك، يوجد فصول لجميع الفئات والأعَمار بغض النظر عن الوظيفة، تستطيع الحصول على المعلومات بمكتب الاستقبال.
خفت صوته وهو يسألها بتدقيق:
_وأنتِ، هل من الممكن أن تُدَرِّسي في أحد هذه الفصول؟
تظاهرت بالجدية وهي ترد عليه هاربة بتصميم من عينيه اللتين تحدقان بها:
_أنا لا أحب تدريس الكبار، أفضل أن أتعامل مع الأطفال وصغار السن فقط.
لينقلب توترها إلى الدهشة حينما أجابها بلا تردد:
_خيرا فعلتِ!
حدَّقت به بتوجس والتساؤلات تسبح بعينيها، ماذا يقصد؟! ماذا يعني ذلك الإنسان الغريب؟ بل ماذا يريد منها ولِمَ يحملق بها بذلك الشكل؟ وقبل أن تعثر على إجابات لأسئلتها بادرها هو مبتسماً:
_فلا أظن أنه من الجيد أن تُحيي المُعلمة كبار السن بغمزة، لن يقتنع أحد منهم أنها حركة تلقائية، وربما تزرع الأمل بقلوب الكثيرين.
اتسعت عيناها بدهشة ما لبثت أن تحولت لغضب وهي تهتف به:
_أنت ماذا تقصد؟! هل تلمح إلى ما حدث بمكتبك رغما عني؟! اسمع! صدق أو لا تصدق، إنها تلقائية تماما ولم أعنِ بها شيء.
ثم أردفت بحنق ولسان منفلت:
_أيها المغرور!
ووصل رده سريعا بابتسامة لامبالية:
_وأنتِ أهدابك مُشعثة!
ارتدت للخلف تبرق عيناها بجنون وهي تسأله بصدمة:
_ ماذا قلت؟!!
مط شفتيه بلا اهتمام وهو ينظر لها بجدية:
_قلت أن أهدابك مشعثة، ألم ترينهن بالمرآة؟! بالتأكيد لديكِ واحدة.
اندلع الجنون بعينيها فتسارعت دقات قلبه وهو بالكاد يمنع ابتسامته:
_هل تتنمر عليّ؟!
ليرد ببرود:
_ومتى تنمرت؟! لقد قلت أن أهدابك مشعثة، وإن كنتِ لا تعلمين أنها من أحد علامات الجمال، تعطي العينين مظهرا مميزا وتختطف أنظار المساكين أمثالي، فليس ذنبي أنكِ جاهلة في ذلك النحو.
تخطت معنى ما قاله بإصرار وهي تضيق عينيها بتحفز:
_هل قلت أنني جاهلة؟!
عض على شفته السفلى بغيظ لجمه بصعوبة ثم هتف:
_من بين كلماتي جميعهن لم تلتقط أذناكِ إلا جاهلة؟!
زفرت بضيق وهي تشدد من احتضان كتبها ثم قالت:
_على العموم إن كنت تريد الاستفسار عن الدورات يجب عليك الحضور مبكرا، لأن الموظفين انصرفوا بالفعل، استأذنك.
تجاوزته متجهة للخارج فلحقها يبدي لامبالاة مفتعلة:
لا عليكِ، لقد غيرت رأيي، ربما قد أحصل ذات يوم على درس خصوصي لدى إحدى المُعلمات المميزات، فأناإن كنتِ لا تعلمين_أحب التركيز جدا، وأحترم الدراسة جدا.
تجاهلت كلماته عندما وصلت إلى خارج المعهد ثم التفتت راسمة ابتسامة رسمية:
_كما تحب، بعد إذنك.
وأتى رده على تحيتها ابتسامة ماكرة مصحوبة بـ..ـ
غمزة!!
****
صف سيارته بباحة فيلا خالته وهو يقفز منها مهرولا إلى الداخل، فتح له زوج خالته الباب فبادره بقلق عارم:
_ماذا حدث عمي؟ ماذا به إياد؟
أجابه زوج خالته من بين أسنانه:
_كان يعاني الأنفلونزا، لكنه أفضل حالاً الآن.
تبعه عَمَّار إلى الداخل وهو يدور بعينيه في المكان بلهفة متسائلاً:
_أين هو عمي؟ أريد أن أراه.
أشاح الرجل بوجهه بعيدا وهو يرد كاظماً غيظه:
_إنه بالطابق الأعلى، تستطيع الصعود إليه.
ما إن أنهى عبارته حتى انطلق عَمَّار إلى الأعلى فلم يستطع الرجل منع نظرة الامتعاض التي رماه به، لو بيده لانتقم منه على كسر قلب ابنته الوحيدة ، عديم الشعور!
احتضن ابنه بلهفة وهو يعي ضعفه الشديد وعندما تأكد من استغراقه في النوم بحث بعينيه عنها، أخذ يدور في الغرفة باحثا عن أية آثار لها، ومن خلال النافذة لمحها تجلس وحيدة شاردة بالحديقة الخلفية.
اقتادته قدماه حتى هبط إليها مُتجاهلا نظرة الغيظ التي رمقه بها أبوها لعلمه بأنه محق بالطبع، وعندما أصبح خلفها تماما بحث عن كلمات بعقله فلم يجد، وكعادتها لم تتركه لحيرته وهي تلتفت له بهدوء:
_هل اطمأننت على إياد؟
تَعَلَّقت عيناه بها والألم يكتنفه بشدة، ما به صوتها؟! لقد كان كلحن طائر، ما به أصبح أبحا مجروحا هكذا؟ أمرض ابنه السبب؟ أم فِعلته هو؟
_إنه.. نائم.
أولته ظهرها وتحدثت باقتضاب:
_تستطيع الانصراف إذن، سأُطَمئن خالتي على إياد.
تخشب مكانه لا يستطيع تقدم ولا يقوى على تراجع، أيعود إلى برود البيت دونها؟ أيعود إلى الظلام الكامن بأعماقه وبروحه بعد انسلاخها عنه، أم..، أم يتخذ خطوة طائشة ويخسرها إلى الأبد؟
يحق لها الاختيار أليس كذلك؟
_مَوَدَّة، أريد أن أخبرك بنفسي عَن كل شيء!
بسكين ثلم يغزو قلبها؛
ببرود قاتل يدعس كرامتها وروحها؛
هل ستمنحه هي الفرصة؟ هل ستؤكد له أن قلبها الأحمق مازال يصرخ باسمه؟
أظهرت لامبالاة ثم قالت:
_لا أهتم.
وبغضب هتف:
_أنا أهتم.
التفتت إليه دامعة العينين رغما عنها :
_إن اشترطت أن تتخلى عنها ....
قاطعها بحسم:
_لا أستطيع.
وكتمت شهقة ذَبْحَها بصعوبة..
تناظره بِحسرة والخسارة تطغى على عينيها..
ألهذه الدرجة عَمَّار؟ ألهذه الدرجة؟
أشاحت بوجهها بعيداً هاتفة:
_اذهب إليها عَمَّار، اذهب ولا تعُد!
وفجأة وجدته يقف أمامها وبعينيه صراع، هالها العذاب المرتسم داخل عينيه اللتين تطلبان غفران ومشورة ومساندة..
"يا حمقاء!! أستشفقين عليه الآن؟ إنه يقف أمامك ليتبجح بتمسكه بأخرى ربما مُتعللا بصراحته معك منذ سنوات أو بصداقة من طرف واحد، لم يحبك ولم يخدعك يوما، وكما لم تستطيعي أنتِ التخلص من حبك له على الرغم من كل ما فعل ، فهو أيضا لا يستطيع السيطرة على مشاعره!"
قاطع سيل أفكارها بعد أن حسم نتيجة صراع أخيراً قائلاً:
_مَوَدَّة! دوماً ما كنتِ حنونة مُتَعَقِّلَة، سأخبرك بالحقيقة كلها وأرجو أن تتفهمي موقفي وتغفري لي إخفاءي عنكِ شيئاً بتلك الأهمية، الأمر ليس بيدي، سأمنحك حق الاختيار وأرجو أن يكون حُكمِك عادلاً!
****
انهى صلاته بالمسجد وسار بلا هدى، أصبح لا يطيق العودة إلى المنزل الذي بات خانقا، المرأة وابنتها لا يكفان عن تكدير معيشته، زوجته تعايره طوال الوقت بالجنوح إلى الفقر و بالنظر تحت قدميه، وابنته هي ألم غائر بقلبه تزداد حسرته عليها يوما بعد يوم.
متى توحشت هكذا؟! كيف رباها مع ابنة أخته بنفس المكان وبنفس الوسائل لتنشأ الاثنتان متناقضتان تماما؟!
لم ينتبه من فرط شروده إلى تلك السيارة التي توقفت على بُعد أمتار منه، ليكتشف أنه يسير بمنتصف طريق السيارات، تنحى جانبا يرفع رأسه باعتذار لقائد السيارة وهم بمتابعة سيره عندما انطلقت العبارة المُرَحِّبَة من خلفه:
_مرحبا عم صلاح!
التفت باستغراب ثم أشرق وجهه ببسمة هاتفا والآخر يتقدم منه:
_مرحبا حمزة، كيف حالك بني؟
وصل إليه حمزة مصافحا إياه قائلاً:
_الحمد لله عمي، أنا بخير، كيف حالك أنت؟
_ أنا بخير بني.
ثم نظر خلفه ليقول بِصدق:
_مبارك السيارة الجديدة.
ابتسم حمزة ببشاشة وهو يجيبه:
_بارك الله بك عمي، هل أنت عائد إلى المنزل؟ تعال لأقلك بطريقي.
وبعد إلحاح منه استقل المقعد المجاور له، وفي الطريق علم منه أن أحواله المادية تحسنت كثيرا وقد عاد لتوه من آداء العمرة مع والديه.
وبعد قليل تنحنح حمزة بحرج قائلا:
_وما أخباركم عمي؟ أرجو ان تبلغ أم دينا سلامي.
_بك الخير ولدي.
سأله حمزة باهتمام:
_ورهف أيضا، طمئني عن أخبارها، كيف تبلي في عملها الذي التحقت به منذ فترة؟
ارتسم التوتر المشوب بالحرج بعيني صلاح وهو يجيب بخفوت:
_رهف رحلت يا حمزة.
نظر حمزة له بحدة هاتفا:
_إلى أين رحلت عمي؟
حاول إبداء نبرة اعتيادية بصوته وهو يجيبه:
_استقلت بمعيشتها عنا.
توقف حمزة بالسيارة فجأة فانطلقت الأبواق من خلفه باعتراض، لكنه لم يأبه وهو يهتف متسائلاً باعتراض أشد:
_ماذا؟! استقلت؟ أهي تعيش بمفردها الآن؟
فقد صلاح سيطرته على نفسه وصاح حانقا :
_نعم حمزة، تعيش بمفردها تماما، بمكان وضيع ويعلم الجميع أنها وحيدة، فلا تظن أنني سعيد بسبب ذلك، أنا ألعن نفسي كل لحظة بسبب تركي إياها، حتى أنني قد فكرت بالاستقرار معها وترك من تسببا في ذلك الوضع ليجربا النبذ والإهمال اللذين أذاقاها إياه طوال عمرها..
ثم هدأت نبرته وهو يتابع:
_ لكن ما بيدي حيلة بني، أنا مضطر لذلك كي تكون هي آمنة.
هتف حمزة من بين أسنانه:
_وما أدراك أنها الآن آمنة؟! ألم يخطر ببالك أن يلاحقها ذلك الحقير مستغلا وحدتها؟!
حدق صلاح في وجهه بصدمة مرددا:
_أنت..أنت..
قاطعه حمزة بهدوء:
_نعم عمي، أنا أعلم ما حدث جيدا ذلك اليوم، وأعلم أن ذلك الرجل لن يدعها وشأنها.
ظلت النظرة المصدومة على وجه صلاح وهو يحدق بحمزة الذي يرتفع صدره ويهبط بغضب واضح، الآن فقط أدرك أن السبب الحقيقي لطلاق ابنته سيكون أحدهم...
الخوف؛
أو الخزي؛
أو الازدراء!
****

سعاد (أمواج أرجوانية) 19-08-20 07:58 PM

تابع الفصل الثالث:
تأففت سارة بِغيظ وهي تحاول التزام أقصى قواعد التهذيب عندما سمعت المرأة تسألها:
_هل تجيدين الطهي يا عروس؟ يجب أن أخبرك بأن أحمد يحب جميع أنواع الطعام، ويدقق به كثيرا، كما أنه لا يستطيع تناول نفس النوع يومين متتاليين.
ابتسمت سارة ببرود:
_أستطيع أن أعد بعض المعكرونة بصلصة الطماطم!
عقدت المرأة حاجبيها بدهشة متسائلة:
_وماذا عن بقية الأنواع؟
مطت سارة شفتيها بلا مبالاة وهي تجيب:
_سأكتفي بالمعكرونة.
عوجت المرأة شفتيها بضيق وهي تنظر لابنها فتدخلت سوسن بابتسامة مصطنعة:
_سارة تمزح، إنها تحب المزاح ما شاء الله، هي تعد جميع أنواع المأكولات، أليس كذلك حبيبتي؟
والسؤال الأخير كان بنظرة تحذيرية انقطعت عندما تحدث ساري ببرود:
_على أي حال أعتقد أن الطعام الصحي أصبح نَمَطاً شائعاً ضرورياً هذه الأيام أستاذ أحمد، أنصحك بتجربته!
وقبل أن يرد الشاب هتف عاصم بتصديق:
_معك حق، كما أن هناك ما هو هام أكثر من أنواع المأكولات لنتناقش بشأنه الآن.
سألت الأم بصراحة:
_هل تعملين يا عروس؟
أجابت سارة ببرود:
_أنا محاسبة بشركة أخي وابن خالتي.
ظهر الفضول على وجه المرأة وابنها الذي لا ينطق وهي تسألها:
_وستظلين بوظيفتك بعد الزواج، أليس كذلك؟
كشَّرت سارة عن أنيابها وهمت بالرد، لكن أخوها بادر:
_أي زواج ؟ ولو افترضنا أنه سيتم، لِمَ تعتقدين أنها ستعمل؟ربما ستُفضل أختي أن تترك العمل، هذا شأنها وحدها.
تبادلت المرأة النظرات مع ابنها بتوتر ثم قالت:
_لكن أنت تعلم مهندس ساري أن الظروف المادية أصبحت شاقة، لا بأس أن تساعد المرأة زوجها طالما هي بالأصل تعمل، إنه بيتهما سوياً.
ليجيبها ساري ببرود:
_هذا أمر يكون بالرغبة لا بالإجبار يا فندم، ربما يفضلان أن يعيشا بقدر دخل الرجل حتى يوسع الله رزقهما، لا أنا ولا أنتِ لنا أن نتحدث في شيء خاص كهذا.
لم تستطع المرأة إخفاء علامات الخيبة والامتعاض من على وجهها فنظرت لابنها نظرة ذات مغزى فوقف لتتبعه مبتسمة بمجاملة:
_خيرا ، سنتبادل الاتصالات خلال أيام، إن شاء الله يكن النصيب لهما معا.
همس ساري بغيظ:
_إن شاء الله لن نر وجهك أنتِ وابنك ثانية.
وعندما وصلا الى الباب تتبعهما سوسن التي تداري غضبها بصعوبة وساري الذي يكاد يركلهما بقدمه، هتف عاصم:
_أستاذ أحمد فكر في النادي الرياضي بجانب الطعام الصحي، عسى أن تنمو لك بعض العضلات.
وما إن أغلقت سوسن الباب حتى استدارت لهم جميعا هاتفة بغضب:
_إلى متى ستتسببون بفضحي أمام الناس؟
رد عاصم بدهشة:
_وأين الناس؟ لم يحضر سوى امرأة فضولية متسلطة وبحوزتها كائن غريب الملامح لم نسمع حتى صوت سعاله، كيف يريد ذلك الزواج؟
عَلَّقَ ساري بابتسامة مستفزة:
_بجهود أمه!
ضرب الاثنان كفيهما ببعض وهما يتضاحكان بينما سارة تكاد تطير سعادة بتخلصها من ذلك السمج، صرخت بهم سوسن بغضب:
_ولا واحد من ثلاثتكم يريد أن يسعدني، ولا واحد يريد أن يجعلني أحضر زفافا.
ثم شرعت في أنين مفتعل فاتجه إليها ساري واحتضنها بحنان قائلا:
_يا إلهي! أكل ذلك من أجل حضور زفاف؟، حسنا حبيبتي ارتدي أجمل ما عندك والآن سآخذك إلى أقرب قاعة أفراح لتُصفقي وتزغردي كما تشائين، لكن بدون رقص.
لكزته أمه في إحدى كتفيه وهي تعاتبه:
_أتسخر مني ساري؟ أتقلل من قيمة مشاعري ورغبتي بالاطمئنان عليكم؟
قبل ساري جبهتها بحنان ثم همس بإحدى أذنيها بعيداً عن الآخرين:
_دعواتك أمي،دَعْكِ من ابنتك وابن أختك، ربما أُسعدك أنا قريبا.
ابتسمت أمه بلهفة وهي تسأله بصوت قوي:
_أحقا ساري؟! أهناك فتاة؟! من هي؟! أخبرني ما اسمها وأين رأيتها؟
أغمض عينيه زافراً بيأس وهو يستمع إلى هتاف عاصم من خلفه:
_الله الله!! أهناك فتاة؟ وأنا لا أعلم؟! أين؟ ومتى؟ وكيف وأنا ملاصق لك طوال اليوم، وطوال الأسبوع؟
وهبت سارة هاتفة بفرحة:
_ما اسمها ساري؟ وكيف تعارفتما؟ هل هو حب من النظرة الأولى؟ هل هي جميلة؟
ليسأله عاصم بنزق:
_ومتى كنت ستفكر بإخباري؟ قبل زفافك بيومين أم في حفل عقيقة ابنك؟ لم أكن أتوقع أن تصدر تلك النذالة عنك أبدا يا ساري!
بينما عقدت سارة حاجبيها بحزن مفتعل:
_وماذا عني أنا؟ أنا أخته الوحيدة معه بالبيت وبالعمل، وأنا مخزن أسراره، وقد أخفى عني أهم ما بهم، أتدرك مقدار حزني وخيبتي عاصم؟
وافقها عاصم بإيماءة حزينة من رأسه:
_أدركها تماما ابنتي، طعنة نجلاء تنفذ إلى القلب، وتفقدك الثقة في أقرب الناس إليكِ.
ردت سارة:
_أوتدري أيضا عاصم ......
_كفى يا أوغاااااد!!
عم الصمت بينهما عندما قاطعتهما صيحته المدوية وهو ينظر إليهما متسعي الأعين ومتسمرين كالأصنام ثم اقترب منهما هاتفا بغيظ وهو يتوجه بنظره إلى أخته أولا:
_أنتِ! اسمعيني جيدا! هل تريدين إعطاء تلك السيدة..أقصد ابن تلك السيدة فرصة؟
هزت سارة رأسها نفيا بسرعة:
_إطلاقاً!
بصرامة جاء رده:
_انتهى! سأحرص على وصول ردك إليهما، أنا لن أجبرك أبدا على شيئا لا تريدينه سارة.
ابتسمت بامتنان وهي تحتضن أخيها بحب فربت عليها بأبوة واضحة ثم التفت إلى عاصم غاضبا:
_وأنت!!
بسرعة رد عاصم رافعاً كفه أمام وجهه:
_أنا لا أريد الزواج من أي أحد.
عقد ساري حاجبيه بحنق:
_أي زواج يا أحمق؟! أنت لن تأتي إلى الشركة بالغد، عسى حجتك بانعدام التفرغ تبطل وتقوم بالزيارة التي أجلتها طويلا.
حدق عاصم بعيني صديقه بتساؤل ضائع وملامح مهزومة فابتسم ساري بحنان مخاطبا إياه بهدوء:
_يا أبله! أيكون للمرء أحد والديه على قيد الحياة ويهدر أيامه في التردد والخوف، اذهب عاصم، هي أمك وتتمنى رؤياك، اذهب ولا تنتظر أكثر كي لا تتأخر فتندم!
ابتسامة ضعيفة بدأت بالظهور على شفتي عاصم بالتدريج ليغمز له ساري ببسمة ثم تتسع عيناه بذعر مفتعل هامساً باستدراك:
"تلك المشعثة أصابتني بالعدوى!"
****
وبغرفة الجلوس كانت مريم تعبث بهاتفها، جلس ساري على المقعد المجاور لها متسائلاً بلا اكتراث:
_ماذا تفعلين؟
أجابته وهي محدقة بهاتفها:
_أشاهد صور الحفل.
_أي حفل؟
نظرت له متحدثة باهتمام:
_حفل ختام الفصل الماضي، انظر!
تظاهر بالاهتمام وهو ينظر إلى هاتفها بغير تركيز للحظات ثم اتسعت عيناه فجأة وهو يختطف الهاتف منها قائلا:
_أعيدي الصورة السابقة!
أعادتها مريم ثم ابتسمت هاتفة:
_إنها الآنسة رهف، أنت قد قابلتها معي.
شملت ابتسامته وجهه وهو يرد محدقا بالهاتف:
_بالطبع قابلتها.
مدت مريم يدها لتأخذ هاتفها فهتف بنبرة مهتمة:
_صحيح! هل رأيتِ ذلك التطبيق الحديث على هاتف سارة الذي يضع للوجه أذني حيوانات؟
نظرت له باستغراب:
_بالطبع ساري أعرفه! إنه لدى الجميع!
وهمت باختطاف هاتفها فأبعده عنها بإصرار وهو يخاطبها بنزق مفتعل:
_لم أقصد ذلك التطبيق القديم يا ذكية، هناك واحدا آخر لتوه تم إصداره وبه مميزات كثيرة، اذهبي الآن واحضري هاتف سارة وسأريكِ إياه.
نظرت له بفضول ثم انطلقت إلى الخارج، فالتقط هو هاتفه بسرعة وقام بإرسال صورتها إليه، وعندما عادت مريم تعطيه هاتف أخته لم يكلف نفسه عناء الرد عليها وهو يتجه إلى الخارج سعيدا بغنيمته!
****











يوم الأربعاء
العاشرة صباحا:
بتثاقل أخذ يصعد الدرجات وهو يفكر في التراجع، لا يعلم كيف أقنعه ساري بالقدوم إلى هنا، لا يعلم ماذا يجب عليه أن يقول أو يفعل، هل يبتسم لها؟ هل يحتضنها؟ هل يناديها ب"أمي"؟!
زفر بحيرة وهو يتوقف بمنتصف الدرجات...
هبطت عيناه إلى الأسفل درجة درجة؛
ثم صعدت إلى الأعلى درجة درجة؛
يستطيع الآن الهرب إلى خارج البناية إذا اختار الهبوط فتخرج أمه من حياته إلى الأبد، ويستطيع أيضا أن يقتحم ذلك الباب بالأعلى مطالبا بحقه بأمومتها له فلا يسمح لها بالابتعاد عنه لحظة أخرى.
ماذا يختار؟
لحظة..
والثانية..
وفي الثالثة دفعته قوة ما إلى الدرجة الأعلى..
ثم الأعلى، ثم الأعلى، حتى وجد نفسه بعد ثلاثة درجات يركض ركضا إلى أن توقف مضطرا أمام الباب يدقه بيده اليمنى ويضغط جرسه باليسرى بإصرار وهو يلهث..
قلبه يلهث يريد حنانها؛
عقله يلهث يصرخ باسمها؛
روحه تلهث تشتاق لحضنها؛
وعندما فُتِح الباب فجأة توقف لهاثه منسحبا لتحل محله شهقة!
فأمامه كانت ضئيلة القامة عيناها دامعتان ومُتشحة بحجاب أسود!!
وأطلق لسانهبحشرجة مذعورة السؤال بدون إذن منه:
_هل تأخرت؟!
****
الثانية عشر ظهرا:
هبطت من سيارتها ثم دلفت إلى داخل المبنى، وبهدوء اتجهت إلى مكتب الحجز، بادرتها الموظفة بابتسامة:
_تحت أمرك سيدتي، أتحبين الاستفسار عن الدورات؟
وبابتسامة أيضا جميلة ردت:
_لا، أنا أريد الحجز في إحدى الدورات لطفلي.
_كم عمره سيدتي؟
بابتسامة ردت:
_عمره ستة أعوام.
_والاسم؟
ردت بقوة:
_إياد عَمَّار الناجي.
بدأت الموظفة بتسجيل البيانات حينما بادرتها:
_لكن بعد إذنك، أيحق لي اختيار الفصل الذي سيدرس به؟
ردت الموظفة ببشاشة:
_بالطبع سيدتي، أستطيع ترشيح أفضل المعلمين لابنك.
ابتسمت باقتضاب وهي ترد بجدية:
_شكرا لكِ، لكني أريد أن يلتحق ابني بالفصل الذي تدرس به الآنسة رهف!
****
وبنفس المكان بنفس الوقت وعلى بُعد بضعة أمتار تلفتت رهف حولها بقلق بعد ان استدعوها لمقابلة شخصا ما يريدها فورا، وعندما وصلت أخيرا إلى باحة الإستقبال حدقت بظهره باستغراب مُحَاوِلَة أن تتعرفه، لكنه التفت على الفور إليها فارتفع حاجباها في دهشة، وقبل أن تنطق بادرها بتوتر ملحوظ:
_أريدك أن تحذري رهف، ربما هناك من يتربص بك!
وازدادت دهشتها وهي تهتف به بقلق:
_من تقصد يا حمزة؟!
****
الواحدة ظهرا:
مطعم راق للغاية وموسيقى ناعمة؛
ملابس غالية وسيارات فخمة تصطف بالخارج؛
يا للحسرة ألا يكون نصيبها مثل واحدة من هؤلاء النسوة! لكن ربما مجيئها لمقابلته هو خطوة بأول طريقها، فهو يبدو مهتما للغاية.
وفي أبعد ركن بالمكان وجدته، اتجهت إليه ترسم ابتسامة أنثوية رائعة، فرفع عينيه إليها وبادلها ابتسامتها، ثم وقف جاذبا أحد المقاعد كي تجلس عليه.
مهذب؛
وسيم؛
ذو مكانه عالية؛
والأهم: ثري!
متزوج؟ لا تهتم!
لديه طفل؟ أيضا لا تهتم!
لن تسمح لأي شيء تافه أن يقف أمام أحلامها
وانطلق سؤالها بأنوثة ناعمة:
_لِمَ طلبت أن تراني؟
وجاءها الرد على الفور:
_هناك شيئا أريده منك بشدة سيدة دينا.
عقدت حاجبيها بدهشة مفتعلة:
_وماذا يكون هذا الشيء دكتور عَمَّار؟
** نهاية الفصل الثالث**

سعاد (أمواج أرجوانية) 23-08-20 08:27 PM

الفصل الرابع
جانِ أم...؟
****
هو..
هارب ولا يزال؛
ناقم وإلى الأبد؛
يُعاند ولن يميل!
هي...
جريئة لا تتراجع؛
صريحة لا تتردد؛
عَزَمت على الوصول إلى هدفها رغماً عن أنفه!
وما بين رغبتها ورفضه، اندفاعها وصَدُّه.. تقبع بقايا سلامته النفسية.. وربما قواه العقلية!
****

العاشرة صباحا:
"هل تأَخَّرت؟!"
مَسحت سما عينيها وهي تفتحمها وتغلقهما بصعوبة عندما أعاد سؤاله مرة أخرى بذعر واضح:
_هل أنا تأخرت؟
رفعت أحد حاجبيها بدهشة قائلة:
_وهل دعوناك؟!
ظل محدقا بها مبهوتاً لبعض الوقت ثم ما لبث أن سألها بتقطع:
_لِمَ..لِمَ ترتدين الأسود وتبكين؟
أخيراً استطاعت فتح عينيها بالكامل وهي تحدق به بدهشة مفتعلة قائلة:
_ياإلهي! قليل الذوق عديم الإتيكيت هو من يسأل عن حالي باهتمام؟ يا لسعدي!
ثم انقلبت ملامحها للامتعاض بلحظة قائلة:
_لا أعتقد أن هناك قانوناً ما يمنعني من ارتداء الأسود كما أحب.
ثم تابعت بِزهو:
_بالإضافة إلى أنه مَلِك الألوان!
تدلَّى فكُه السفلي ببلاهة وهو لا يستطيع استجماع كلمات مناسبة، لكن الأخرى لم تكن تفتقر لتلك الهِبة فهتفت بجفاء:
_لماذا جئت إلى هنا؟
فجاء رده متوجساً متوسلاً:
_أردت رؤية.. رؤية أمي!
وحينما كانت تهم برد عنيف آخر ألجمتها النظرة المعذبة بعينيه، فزفرت بضيق وهي ترد عابسة:
_أم عاصم نائمة الآن.
تيبس مكانه وهو يرتشف معنى عبارتها باستمتاع، تخللت الكلمات البسيطة عقله وقلبه لتعود روحه جرياً إلى جسده فترتسم ابتسامة غريبة على شفتيه بالتدريج حتى شملت وجهه كله، نظرت هي له بتوجس وهي تفسح جانبا لتدعه يدخل.
ودخل!
أخذ يطالع كل شبر بأرجاء ذلك المكان الذي تنعَّم بوجود أمه طوال سنوات حرم هو منها خلالهن، بينما الابتسامة البلهاء مقترنة بدقات قلبه التي تتسارع بفرح وصيحات ذاهلة يهتف بها عقله..
"أنت هنا الآن عاصم!"
"أنت ببيت أمك عاصم!"
"أنت ستسترجع حضنها وقُبُلاتها وحكاياتها!"
ظل عقله ينبهه ببطء إلى ما هو مُقدِم إليه حتى لا يجن من فرط فرحته، وحينما التفت وقعت عيناه على قصيرة القامة تنظر له بدهشة، حمحم بخشونة وهو يحاول استعادة رزانته التي ضاعت تماما أمام غريبة الأطوار تلك، ثم سألها:
_لِمَ تبكين إذن؟!
مطت شفتيها بغيظ وهي تجيبه:
_إن كانت حاسة الشم لديك مُعطلة، فأحب أن أخبرك أنني أطهو الطعام وأقطع بعض البصل.
وما إن أنهت عبارتها حتى اتسعت أعينهما سويا ورائحة الاحتراق تصل إلى أنفيهما، فظلت متسمرة مكانها حتى سبقها هو بالإدراك قائلا بِحَذَر:
_يبدو أن هناك حريقا ما!
فانتفضت هي إلى الداخل صارخة:
_البصل!!
نزع قدميه انتزاعاً من مكانه ولحق بها ليجدها تحاول إنقاذ بقايا الطعام المتفحم، وعندما فتح فاهه كي يطمئنها سبقته تمتمتها الغاضبة وهي توليه ظهرها:
_الخير حقا على قدوم الواردين!، لأول مرة بحياتي يحترق مني طعام بسبب قليل الذوق هذا!
ضيق عينيه بِشرّ وهو ينظر إلى إحدى السكاكين الضخمة الموجودة بالقرب منها، إلا أنه سرعان ما نبذ ذلك الخاطر وهو يبادرها ببرود:
_ربما كان من البديهي أن تطفئي الموقد قبل أن تجيبي من بالباب.
لكنها كانت أكثر منه جرأة وهي تلتفت مختطفة نفس السكين لتشير بها إليه بتوعد هاتفة:
_اسمع! أخرج من هنا واجلس بغرفة الاستقبال بصمت وهدوء ولا تجعلني أسمع صوتك حتى تصحو أم عاصم، مفهوم؟!
تخشب جسده بأكمله وهو يُحدِّق بها بعينين مُتسعَتين، مذعورتين؛
هو ليس جبانا بالطبع، لكن من التعقل أن يبدي المرء احتراما أمام فتاة مجنونة غاضبة تحمل سلاحا أبيضا ضخما وتشهره أمام وجهه ولا يظهر عليها ترددا في استخدامه على ملامحه.
وهكذا فقد رفع يديه بجانب رأسه استسلاما وهو يتراجع بابتسامة مهذبة حتى ولى هاربا من مطبخها.
وبعد بضعة دقائق قضاها جالسا بأدب وتوتر يحاول انتقاء بعض الكلمات في غرفة الجلوس شعر بحركة بطيئة خلفه أعقبها صوت ضعيف هارب من خفايا ذاكرته اليتيمة فأرسل القشعريرة إلى قلبه وصاحبته تسأل:
_هل أتيت أخيرا عاصم؟
عندئذ التفت ببطء يحدق في المرأة أمامه بصدمة وهو لا يقوى على إبداء أية ردة فعل!
****
الثانية عشرة ظهرا:
"شكرا لكِ، لكني أريد أن يلتحق ابني بالفصل الذي تدرس به الآنسة رهف!"
ابتسمت لها الموظفة برسمية وهي تعاود إكمال ادخال البيانات، أما مَوَدَّة فقد شردت بعيدا في حوارها السابق مع عَمَّار وقرارها الذي اتخذته بناءا عليه بعد تفكير هادىء.
لن تظل إلى الأبد مستسلمة، لن تدفن رأسها بالرمال وتصمت، بل ستحارب بكل قوة من أجل ما تؤمن به، وما يجب عليها القيام به.
نهرها عقلها بغيظ متسائلاً عن كرامتها التي دعسها عَمَّار طوال تلك السنوات؟ هل سيتلبسها الضعف وستتغاضى عنها؟
لكنها تَعَلَّقت بِصمود مُثير للاهتمام ،بالطبع لا! بل ربما تستردها الآن، يجب عليها فقط أن تنحي قلبها جانبا وتتعامل معه بعقلها فقط!
****
"أريدك أن تحذري رهف، ربما هناك من يتربص بك!"
ازدادت دهشتها وهي تهتف به بقلق:
_من تقصد يا حمزة؟!
اقترب من بضعة خطوات ثم توقف مقابلها مرددا كلمات بطيئة:
_ أنتِ تعرفين قصدي رهف، أنا.. أنا أعلم كل ما حدث قبل طلاقي ودينا.
شحب وجهها وهي ترتد إلى الخلف بصدمة هاتفة باضطراب:
_أنا.. أنا لا أفهم شيئا حمزة، وما علاقتي بطلاقك ودينا؟
تنهد بألم قائلا:
_ربما ليست لكِ علاقة مباشرة بالطلاق، لكن ما تسببت ابنة خالك به لكِ قد ساهَم في رؤيتي كم إنها إنسانة حقودة طماعة، ولن تهدأ حتى تحقق أهدافها حتى وإن خَرَّبَت حياة الغير.
عقدت حاجبيها بدهشة وهي تنظر له بتساؤل:
_وما الذي تسبَبت به حمزة؟
نظر لها بإشفاق واضح ثم زفر باستسلام وقال:
_دينا وأمها هما اللتان أحضرتا ذلك الرجل إلى بيتكم.
تألم قلبه وهو يطالعها لا تأتِ بأية ردة فعل للحظات، وما إن نطقت حتى سألت بصوت متحشرج به لهجة رفض واضحة:
_م..ماذا تقول؟!
مسح وجهه بكفيه وهو يكرر عبارته مرة أخرى:
_ما سمعتِ رهف، ما سمعته بالضبط، هما ذهبتا إليه، هما طلبتا منه أن يأتي إليكِ ليُرهِبِك، هما تسببتا بما حدث!
وكان ردها الغريب بشرود ذاهل:
_كيف؟! لقد.. لقد كانتا حاضرتين ذلك اليوم، كانت حاضرتين وشاهدتا كل شيء! مُحال حمزة، ما تقوله مُحال!
بألم رد عليها حمزة:
_أعلم رهف، أعلم...
قاطعته بهتاف غاضب:
_لا! ، أنت لا تعلم! أنت لم تكن هناك! بل أنا كنت، ذلك الوحش معدوم الضمير اصطحب ثلاثة مجرمين معه وأوسعوا خالي ضربا، أمامي، وأمام زوجته، وأمام ابنته، وهما.. هما كانتا تصرخان وتبكيان،.. هما كانتا ترجوانه ألا يؤذوه، ألا تفهم؟! مستحيل!
أغمض حمزة عينيه بإشفاق ثم أعاد فتحهما وعم الصمت! كان يترك لها الفرصة كاملة لاستيعاب تلك الصدمة، وعندما بدأت بهز رأسها برفض خاطبها بحسرة:
_إن كان هناك درس تعلمته من خلال تجربتي مع دينا طوال ثلاثة سنوات فهو أن بعض البشر يمكنهم التمثيل والاصطناع بإتقان تام، فلا تستطيعين كشف حقيقتهم إلا بأدلة قاطعة، وهذا ما حدث، دينا وأمها لم يتمنيا بحياتهما شيئا أكثر من إبعادك عن بيتهما، وفي سبيل ذلك كانتا على استعداد لفعل الأسوأ على الإطلاق.
وعيناها الدامعتان سألتاه بعذاب:
_لِمَاذا؟! ما الذي فعلته أنا؟ أنا لم أؤذِهِما أبدا! لقد.. لقد حاولت مرارا الانتماء إليهما والتقرب منهما، وفي سبيل ذلك تحملت ما لا يُطاق لسنوات.
أجابتها ابتسامته الساخرة:
_معدوم الضمير الحاقد لا ينتظر أذى الآخرين له، بل يخطط ويدبر ثم ينقض!
جلست على أقرب مقعد واضعة رأسها بين كفيها فزفر بتعب:
_اسمعي رهف! أنا معك دائما، لن أتركك ولن أدعه يتسبب لكِ بالأذى، سأساعدك بكل طاقتي.
نظرت له بألم ساخر ثم قالت:
_أنت لم تر ماذا فعل بخالي وهو لم يؤذه أبدا، ولا تعلم إلى أي مدى يمكن أن يصل، ابتعد حمزة، ابتعد عني قدر ما تستطيع، فكل من يقترب مني يحترق.
وبتصميم أسمعها رده:
_لا رهف، أنا لم أنس يوما ما فعلته معي، والآن حان دوري، لن أتخلى عنكِ أبدا، هذا وعد!
رمقته بامتنان فأضاف:
_واحذري جيدا رهف، احذري من كل من يقترب منك!
نظرت له بشرود وهي تومىء برأسها ببطء، بينما أخذت تفكر في كم الأذى الذي عاد ليحوم حولها بعد أن ظنَّت أنها ستنعُم بحياة هادئة أخيراً.
****
الواحدة ظهرا:
"وماذا يكون هذا الشيء دكتور عَمَّار؟"
تراجع إلى ظهر مقعده وهو ينظر إليها بابتسامة أرسلت القشعريرة على طول عامودها الفقري ثم أجابها متسائلاً:
_أنتِ أخبريني سيدة دينا، أخبريني ما الذي تريدينه من رهف؟
شحب وجهها تماما وهي ترتد إلى الخلف بصدمة مُرددة:
_رهف؟!
والابتسامة اشتدت أكثر وهو يجيبها:
_نعم رهف، ابنة عمتك.
وبحقد هائل شمل ملامحها سألته:
_كيف تعرفها؟
انمحت ابتسامته بلحظة ليحل محلها نظرة تحذيرية أرعبتها وهو يجيب:
_اعتقد أنكِ يجب عليكِ إجابتي أولا، لكنني سأكون أكرم منكِ أخلاقا وسأجيبك.
وبمنتهي البرود تابع:
-رهف تخصني جدا، ويهمني أمرها جدا، ومن يحاول الاقتراب منها بِشر سأجعله يندم أشد الندم.
ازدردت لعابها بخوف وهي تحاول العثور على حيلة تخرج بها من ذلك المأزق متسائلة:
_هل.. هل هي حبيبة سرية؟!
انقلبت ملامحه على الفور إلى غضب عارم، ومن بين أسنانه هتف:
_أنتِ تتجاوزين حدودك هنا، وأنا لن أخبرك بعلاقتي بها، لكن أنتِ من ستخبرينني الآن، ما الذي تمتلكينه أنتِ ووالدتك ليشجعكما على الابتزاز؟، ما الذي بحوزتكما ومن شأنه أن يؤذي رهف؟
وبرغم ذهولها بسبب معرفته بأمر ابتزازها السابق، وبرغم جهلها بِعلاقته بابنة عمتها فإنها هبِّت واقفة ترتجف بذعر وهي تصيح به بتوتر:
_اسمع! أنا لا أخافك ولا أخاف سطوتك، إن كنت تعتقد أنك تستطيع تهديدي أو إيذائي فأنت مخطىء.
ثم تَغَلَّبَت على حالتها سريعاً ومالت على الطاولة تنظر له بِغِل خالص قائلة:
_أنت تعلم أنني استطيع الابتزاز ثانية، لكن تلك المرة لن تكن من أجل إبعاد رهف، بل من أجل إبعادك أنت، صدقني دكتور عَمَّار ليس من الصواب أبدا أن تهددني أنا على الأخص، لأنني بالفعل لدي شيء يخص رهف، لكنه ليس كما تتوقع أنت، هو لن يضرها.
توقفت تناظر عينيه المهتمتين بِشِدة ثم لاحت على شفتيها ابتسامة مُقلِقة وهي تتابع:
_ بل على العكس، هي لا تجرؤ على الحُلم بوجوده من الأصل، لذا أنا أستطيع استخدامه بالطريقة التي ستفيدني تماما، أو إخفاؤه إلى الأبد إذا اضُطررت لذلك، فابتعد دكتور عَمَّار لأنني لست بالخصم الذي تود مجابهته.
وما إن أنهت عبارتها حتى عادت ابتسامته التي تحولت إلى ضحكات عالية، ثم بعد لحظات جاء رده الهادىء:
_كيف حال دكتور حمزة؟
تسمرت مكانها محدقة به بصدمة أشد فتابع وهو يستقيم أمامها ببطء:
_أوصلي له تحياتي من فضلك، وأخبريه بتهنئتي الحارة لتخلصه منك.
وبنفس البطء تجاوزها وانصرف وهي لازالت مكانها لا تتحرك ولا تفهم شيئا..
هل تداعت أحلامها؟
هل فقدت أملها الوليد معه؟
هل نبذت طارق بلا جدوى؟
وما علاقته هو بتلك اللعينة؟
وكيف يعرف بذلك الأمر الذي لم يشهده أي شخص سواها هي وأمها؟
أما هو فقد وصل إلى سيارته الرمادية واستقل مقعد السائق وهو يزفر بغضب، لتبادره مجاورته:
_ألم تخبرك بشيء؟
بغضب شديد أجاب من بين أسنانه:
_لا، لم تقل شيئا، تلك الحقيرة لن تتحدث بسهولة، لقد منعت نفسي بصعوبة عن خنقها، لكنني سأصل إلى ذلك الشيء الذي بحوزتها ويخص رهف أيا كان هو، لن أستسلم وسأحارب من أجلها.
عدلت من وشاحها وهي تحاول تهدئته:
_لا تقلق عَمَّار! اتركها على حالها مرتعبة حتى تقوم بخطوتها التالية.
زفر باستسلام ثم استدار إليها رامقا إياها بتمعن..
ازدرد لعابه مراقباً جانب وجهها؛
لطالما كانت الأجمل؛
ولطالما تشاجر من أجلها منذ بدأت أنوثتها في الظهور؛
كانت من الأوقات القليلة التي يشعرر خلالها بِقوته؛
ألهذا السبب فقط كان ينزعج من النظرات الموجهة إليها؟ أم أن هناك شيئ بداخله كان ينتفض مدافعاً؟!
ورضوى؟!
كانت حُلم..ربما علاقته الواهنة بها كانت وسيلة!
وسيلة لها كي تتهرب من أشباح ومسميات مجتمعية لا يعلم أحد متى تم اختراعها؛ ووسيلة له كي يفخر بنفسه يوماً قائلاً: لقد اخترت، لقد اتخذت قراراً، لقد فعلت ما أردت!!!
هرِب من ذكريات لا أهمية لها الآن مُرَحِّبَاً بواقع لم يكن يتخيل أنه سيكون بذلك الجمال؛
بذلك الحنان؛
بتلك الرقة؛
وذلك..الدعم!
طرف وشاحها يطير ويغطي وجهها فأزاحته وظلت متمسكة به، لم يستطع منع نفسه وهو يمد يده ليتلمس كفها، أجفلتها حركته فاستدارت إليه مندهشة ، توترت ملامحها وهي تبتعد بعينيها عنه، فحمحم بخشونة وهو يتساءل:
_ماذا فعلتِ أنتِ؟
وبهدوء أجابته:
_لقد سجَّلت إياد في الفصل الذي تُدرِّس به.
ابتسم لها بتمعن وهو يخاطبها بنبرة ممتنة:
_شكرا لكِ مَوَدَّة!
****
"ضريرة!!"
ازدرد لعابه وهو يقف مكانه لا يُبدي أية ردة فعل بينما عاودت أمه سؤالها بنفس الضعف:
_هل أتيت أخيرا يا عاصم؟
ولا يزال لا يجد ردا وهو يحدق في هيئتها ضعيفة الجسد وهي تقترب منه ببطء متحسسة الجدران بجوارها حتى وصلت إليه...
انخفض نظره إلى يدها المرتعشة الحرة بينما الأخرى مُتمسكة بالعصا التي تتوكأ عليها، تعلقت أنظاره بها وهي ترفع يدها لتتجه إلى ذقنه،ثم أغمض عينيه مستعيدا ذكرى آخر لمسة من نفس اليد منذ سنوات عديدة، فصعدت يدها إلى:
أنفه..
وجنتيه..
عينيه..
جبهته..
وتخللت شعره..
ودمعتان منه هطلتا بدون شعوره؛
ودمعات منها مختلطة بابتسامة من عينين منطفئتين؛
أهدابه مبللة..
شفتاها ترتعشان..
صدره يعلو ويهبط..
أناملها على بشرة وجهه تتجول بلهفة..
ونداء هامس:
_عاصم!!
وفتح عينيه..
ثم أطلق زفرة مُحَمَّلة بيُتم سنوات..
ونداء هامس متكرر:
_عاصم!!
دمعات متوسلة تهرب منه إليها..
وللمرة الأخيرة:
_ابني!!
ليندفع إلى أحضانها..
يجذبها إلى صدره؛
يشهق ببكاء محروم..
وتنتحب ببكاء أكثر حرمانا؛
اختفت تماما بين ذراعيه حتى ما عاد يظهر من جذعها شيء وهو يعتصرها على صدره مُقبِّلا جبهتها بلهفة حارقة وصوت شهقات بكائه الرجولي يصدح بالغرفة..
وأخيرا أكرمها بسماع صوته:
_اشتقت إليكِ!
_سامحيني!
_احتاج إليك، أمي!!
_أمي!!
_أمي!!
وعند الباب وقفت سما تمسح دمعاتليس للبصل ذنبا بها وهي تعترف لنفسها بِذهول:
"عديم الإتيكيت ربما، لكنه أبدا ليس بعديم الشعور!"
****

سعاد (أمواج أرجوانية) 23-08-20 08:29 PM

تابع الفصل الرابع:
"يا إلهي! ماذا فعلتِ أيتها المجنونة؟"
زفرت بتوتر وهي تدور في الصالة بقلق وتجيب أمها:
_لقد..لقد اعتقدت أنه يتقرب مني لشخصي، لم أكن...
قاطعتها أمها بثورة:
_لشخصك؟! هل تعتقدين أنه من الممكن أن يفكر بك؟ ألا تدركين أن القُرب ممن مثله خطر؟ إنه يستطيع هدم بيتنا فوق رؤوسنا بإشارة من إصبعه.
فقابلتها بنفس الثورة:
_وما أدراني أنا؟ لم أكن أعلم بهويته بالأصل، كل ما أخبرني به أنه طبيب يعمل بمشفى مرموق وقريباً سيفتتح عيادة خاصة، والثراء الفاحش يصرخ من ملابسه وسيارته وهاتفه.
صاحت بها أمها:
_لِمَ لم تخبريني عنه؟ لكنت حذرتك!
تأففت دينا بحنق ثم قالت:
_بدلا من أن تبدئي في تعنيفي يجب أن تفكري معي بحل لتلك المصيبة، إنه يعلم بوجود الورقة معنا ولن يهدأ حتى يأخذها.
هتفت أمها بسرعة:
_إذن نعطيها له بسرعة ونتخلص من تهديده.
صاحت بها باستنكار:
_هل تمزحين أمي؟! إنها ليست مجرد ورقة، إنها الضمان الوحيد لنا، إن أعطيناها له بكل ترحيب ما الذي يمنعه من إلحاق أشد الأذى بنا؟
والصياح الآخر كان أعلى:
_ماذا تقترحين إذن؟ أن نقضي حياتنا مذعورين منتظرين هجوما منه؟
وقبل أن ترد انطلق رنين جرس الباب فاتجهت لتفتحه، ثم ما لبثت أن تسمرت مكانها وهي تحدق أمامها بصدمة متسائلة:
_ما الذي أحضرِك؟
لحقتها أمها ثم انقلبت ملامحها إلى الكراهية الخالصة وهي تهتف:
_ألن نتخلص منكِ أبدا؟
فانطلق السؤال الضعيف من رهف بدلا من الإجابة عليهما:
_ماذا تريدان مني؟
من بين أسنانها هتفت دينا:
_نريد ألا نرى وجهك ثانية، نريد أن يموت اسمك بهذا البيت، نريد أن نمحوكِ من حياتنا تماما، أتستطيعين فعل ذلك؟
هالتها الكراهية الصارخة بعينيها ثم أجابت بصوت متقطع:
_لقد رحلت! لقد تركت بيت خالي الوحيد ورحلت! لم آتِ إلى هنا منذ خرجت من ذلك الباب، لا أتصل بخالي إلا أثناء موعد عمله حتى لا تشعرا بالانزعاج، ماذا تريدان مني بعد؟ أتعتقدان أن بإمكانكما قطع علاقتي به تماما؟
وبدمعة أردفت:
_إنه الشخص الوحيد الذي يحبني برغم ماهيتي، الوحيد الذي يحنو عليّ، الوحيد الذي يتمنى لي السعادة، لِمَ تستكثران علي بعض الراحة؟!، تعلمان أن اهتمامه بي لن يُنقص من اهتمامه بكما شيئا، أليس كذلك؟
والرد من زوجة خالها جاء صارخا حاقداً:
_ليس من حقك، هو ليس بأبيك، هو زوجي أنا ، ولديه ابنة واحدة فقط، ولولا وجودك أنتِ بحياتنا ربما كان لدي أولاد آخرين يتمتعون بالحنان والاهتمام والحب الذين اغتصبتيهم أنتِ منا دون وجه حق !
نظرت لها رهف بصدمة وانعقد لسانها لِثوان؛
الكراهية بعينيها ليست بشأن جديد؛
لقد أيقنت بذلك منذ زمن، لكن لماذا تُلقي عليها بتلك التهمة الآن؟!
أجلت حنجرتها ثم سألتها:
_وما ذنبي أنا؟
فأجابتها المرأة وهي تزيح ابنتها لتقف بمواجهتها هاتفة:
_ ذنبك أن أمك ماتت وتركتكِ لنا، ذنبك أن أبيك رماكِ، ذنبك أن خالك الذي تريدين مشاركتنا به قد رفض إنجاب أطفال آخرين حتى يستطيع الإنفاق عليكِ معنا!
ثم أردفت بحقد هائل:
_أنتِ السبب!
انتفضت رهف وهي تضع يديها تلقائياً على أذنيها طاردة تلك العبارة التي لم تكره مثلها:
_أنتِ السبب!
"لو لم تولدي لم عانيت أنا تلك السنوات"
_أنتِ السبب!
" ليتني لم أر وجهك أبدا"
_أنتِ السبب!
"الآن سأتخلص منك للأبد"
_كفــــــــــى!!!
والصرخة انطلقت مختلطة بشهقات باكية، هي لم تقصد أن تؤذي أحدا، لم تقصد أن تموت أمها، لم تقصد أن ينبذها أبوها، ولا أن يقرر خالها عدم الإنجاب خوفا من الحاجة، هي لم تقصد أبدا التسبب بالضرر لغيرها.
انتزعها هتاف ابنة خالها الغاضب:
_اغربي ولا تعودي، اغربي وإياكِ أن تأتي إلى هنا مرة أخرى، وإلا أنتِ تعلمين كيف يمكننا أن نمنعك، كفانا فضائح بسببك!
نقلت نظراتها بينهما بألم، ثم تطلعت باشتياق إلى أركان البيت الذي نشأت به والآن لا يُسمح لها بتجاوز عتبته، تنفست بعمق وهي تخفض رأسها قائلة بهدوء:
_سأذهب بالتأكيد.
ثم رفعت رأسها تنقل نرمقهما بالتبادل ببرود ظاهري متابعة:
_لكن رغما عنكما هو خالي وأماني الوحيد، واعلما أنكما إن تسببتما بالأذى له مرة أخرى أنا لن التزم الصمت، سوف أخبره بأنكما من قمتما بتحريض ذلك الوحش كي يأتي إلى هنا، سأخبره أنه حين كان يتعرض للضرب والإهانة على يد ذلك الرجل ومن معه كنتما تتظاهران بالعويل والبكاء والرعب بينما بالواقع لم تفكرا إلا بالتخلص مني، حتى وإن كان في سبيل ذلك يُؤْذَى الزوج والأب!
تحولت نظرتا المرأتين إلى التوجس وهي تُضيف بمرارة:
_لَكَم تحملت إيذاءكما لي، نعوتكما البذيئة، إهانات وضرب وتقييد وحبس،حرمان من المصروف ومن الطعام أحياناً، اعتقدتما أنني كنت أتقبل كل ذلك بدون رد فعل لأنني ببيتكما ومُضطرة للصمت شاكرة أليس كذلك؟
لم تكن تسألهما حقا، لذا استأنفت حديثها بهدوء:
_لكن بالواقع أنا تحملت صاغرة من أجل خالي، كي لا أضعه في موقف حيرة أو اختيار يوما ما، يكفيه مسئوليتي التي اُلقِيت على عاتقه منذ مولدي، لكن الآن، وبعدما تعداني أذاكما ووصل إليه فأنا لا أجد ما يجعلني أتمسك بالصمت، ولِهذا أتمنى أن تفكرا جيدا قبل تقوما بفعل آخر متهور وغبي.
والتحية المودعة كانت ابتسامة مُحذِّرة أثارت دهشتهما، ربما لأنها للمرة الأولى ترتسم على محياها، لطالما كانت وديعة بريئة صامتة، لكن يبدو أن هناك شيئاً ما قد تَبَدَّل بها!
وعندما هبطت جريا مَحَت ابتسامتها المُفتَعَلة وحررت دمعاتها التي سُجِنَت طويلا، وأمام مدخل البناية قابلها البائع بالمحل المجاور، وما إن رآها الرجل حتى طأطأ رأسه عابسا وهو يخاطبها بحنق شديد:
_أعوذ بالله! ألم نتخلص منكِ وتتطهر البناية من الفضائح التي تحيط بكِ؟! ما الذي أعادكِ إلى هنا ثانية؟!
ارتجفت شفتاها وهي تحدق به بألم مختلط بالحرج ثم رددت بارتباك:
_أنا.. أنا...
هنا نظر إليها الرجل باشمئزاز واضح هاتفا:
_أستتحدثين معي؟! ابتعدي يا فتاة واغربي عن ذلك الحي كله، لدينا نساء وفتيات ولا تنقصنا المصائب!
وأغلق باب المحل بوجهها وهو يستعيذ بالله عدة مرات!
ظلت محدقة في إثره بشرود وعيناها مغروقتين بدموع الاضطهاد، إلى أن ارتفع رنين هاتفها فأجابت بلا تركيز:
_نعم؟
ليأتيها الصوت الرائق المرح الرخيم بنبرة فشلت أن تبدو جادة كما كان يحاول:
_استشارة عاجلة آنسة رهف وأرجو أن تساعدينني، إن أردت ترجمة تلك العبارة إلى اللغة الإنجليزية ماذا أقول:
"أنا لا أفهم ما الذي يحدث لي، لكنني أفكر بكِ منذ رأيتك، هلا خرجتِ من عقلي قليلا كي أستطيع التركيز بعملي يا مشعثة؟!"
للحظات حاولت تذكُّر الصوت المُميز ثم أطلقت زفرتها الباكية مع كلمته الأخيرة وهي تقول بخفوت:
_مهندس ساري!!
وعلى الطرف الآخر انطلق صوته متسائلا بقلق:
_ما بكِ رهف؟، ما بال صوتك؟! أتبكين؟
وخرج ردها بدون تفكير وهي تهُز كتفيها مُتلفِتة حولها شاهقة بألم:
_أنا.. ضائعة!
ووصلها صوته مرة أخرى مُتسائلاً بمهادنة كي لا تفزع:
_اهدئي رهف! قفي مكانك ولا تتحركي، فقط إن استطعتِ أن تخبريني باسم الشارع الذي ضعتِ به أو أي علامة مُميزة، وفورا سأكون عندك.
أجابته بسرعة من بين دمعاتها:
_أنا لست ضائعة بالمكان، أنا أعلم أين أنا، لكن..لكن أنا ضائعة بالحياة، لا أدري ماذا عليّ أن أفعل، لا أدري لِمَ يحدث لي ذلك، لا أدري لماذا أعاني منذ مولدي، لا أدري لِمَ كل تلك القسوة التي يتعامل بها الجميع معي، ما ذنبي؟!
أطلق أنفاسه المحتبسة بصدره وهو يغمض عينيه براحة ثم سألها بهدوء:
_أين أنتِ رهف؟ أخبريني! أريد أن أراكِ الآن.
ثم أردف بهمس:
_أرجوكِ!
عندئذٍ انتبهت إلى ما يحدث، وانتبهت إلى استرسالها بالكلام معه أكثر من اللازم فَهزَّت رأسها رفضاً بسرعة قائلة:
_لا! شكرا، أنا آسفة، إلى اللقاء!
وبدون انتظار رده انهت المكالمة وأغلقت الهاتف فورا وهي تجر قدميها جرا كي تنصرف من ذلك المكان الذي لطالما نبذها بقسوة.
****
"سامحيني أمي! أرجوكِ سامحيني، أقسم أنني لم أعلم أبدا أنكِ تريدينني، أقسم أمي أنني كنت أشتاق إليكِ طوال الوقت، آسف أمي، لم أقصد أن أكون عاقا."
ومن بين شهقاتها الخافتة أجابته وهي تتحسس وجهه بأحضانها:
_أنت لست عاقاً، أنت حبيبي ونور عيوني، أنت ولدي الحبيب عاصم، وقد كنت أعلم أن ربي سيردك إلي قبل أن أموت.
بلهفة رفع رأسه من بين ذراعيها هاتفا:
_بعيد الشر عنك أمي، أنا لم أكن أعلم ما حدث من قبل مع أبي إلا مؤخرا، صدقيني لو كـ....
وضعت أصابعها فوق شفتيه تسكته قائلة:
_أنا لا أريد التحدث عن الماضي عاصم، وأبوك أنا قد سامحته، طالما لم يجعلك تكرهني طوال تلك السنوات.
هتف بغضب وحِقد هائل:
_لكنه لم يخبرني بالحقيقة إلا حينما صممت أنا، لقد ضاع الكثير من عمري وعمرك ونحن مفترقان، وهو كان يعلم مدى اشتياقي وحاجتي إليكِ، كان يعلم أن ما من تعويض يحُل محلِّك، كان يعلم أنكِ تحتاجينني أيضاً واختار أن يمنعِك من رؤيتي.
ابتسمت أمه بطيبة:
_يا ولدي، لستُ ناقمة على أبيك، أنا كنت أعلم أن زوجته عاملتك بحنان، وأنا أيضا عشت مع زوجي رحمه الله أياما جميلة لم ينقصها إلا وجودك معي، والآن أراد الله اتحادنا، لا أريد الانشغال بالحقد والتفكير بالماضي، أريد أن أهنأ بوجودك بين أحضاني.
انهال بقُبُلاته على جبهتها فربتت هي على ظهره بحنان، لكن دخول سما قطع لحظات قربهما وهي تهتف بضيق واضح:
_الطعام جاهز أم عاصم!
التفتت المرأة لها برغم عدم استطاعتها رؤيتها متسائلة:
_ماذا بكِ سما؟ أهناك ما يضايقك؟
زفرت سما بضيق وهتفت من بين أسنانها:
_لا أبدا، أنا بخير.
عقدت المرأة حاجبيها بقلق وهي ترد:
_حبيبتي، أخبريني ما الذي أغضبك هكذا؟
تدخل عاصم قائلا باستفزاز:
_أهي لديها تعبيرات أخرى غير الغضب أمي؟
انفجرت به سما هاتفة:
_أنت لا شأن لكَ بي؟ أتفهم؟!
مالت أمه على أذنيه هامسة:
_ماذا فعلت عاصم؟ لِمَ أغضبتها؟
هتف بسرعة:
_والله أمي لم أفعل شيئا، هي من تضايقني وتعاملني بسوء، حتى أنها منذ قليل كانت تهددني بسكين أضخم منها، كادت تقتلني أمي، بعد أن أَحْرَقَت البصل!!
فغرت سما فاهها دهشة فابتسم هو لها ببرود، بينما سألتها أمه باستغراب:
_أصحيح سما؟ أصحيح ما يقول؟
اندفعت سما بسرعة هاتفة:
_هو من عطلني وظل يثرثر حتى احترق البصل.
مطت أمه شفتيها ثم زفرت بنفاد صبر قائلة:
_كنت أسأل عن السكين سما، هل هددتِه؟
ضيقت عينيها بشر وهي تنظر له:
_ولِمَ أهدد وأنا أستطيع التنفيذ فورا؟!
اتسعت عيناه دهشة لِوهلة ثم تبدلت نظرته إلى الغيظ وهو يغمغم:
_سليطة اللسان، ضئيلة القامة!
فاندفع ردها هي مرتفعاً على الفور:
_قليل الذوق، عديم الإتيكيت!
انطلقت الضحكات الرائقة من السيدة صفاء فنظر لها الاثنان بابتسامة حنونة حتى نطقت:
_يا إلهي! هل أنتما طفلان؟!
ثم التفتت تجاه ابنها وهي تربت عليه:
_هيا ابني، هيا نتناول الطعام سويا.
وعلى المائدة كان الاثنان يتسابقان على إطعامها، في البدء اهتماما لم يلبث أن تحول الأمر إلى منافسة، حتى كادت المرأة أن تغص بطعامها، دارت النظرات القاتلة بينهما بصراحة فلم يحاول أحدهما إخفائها، وعندما انتهى الطعام انفرد بأمه ثانية، تبثه حنانها وينهل من حبها بلا شبع، وفي آخر اليوم اتجه إلى الباب مُتثاقِلاً وهو يتمنى ألا يفعل.
قبَّل رأسها و كفيها دامعا ثم قال بِنبرة واعِدة:
_قليل من الوقت فقط أم عاصم، سأبحث عن شقة مناسبة وسنعيش سويا إلى الأبد.
اتسعت ابتسامتها الحنونة وهي تُربِّت على كفه.
"عفوا؟!"
والكلمة انطلقت من تلك التي تتشح بالحجاب الأسود، لكن غضب عينيها كان أكثر سوادا، نظر لها بدهشة صامتة فأعادت سؤالها بنبرة تحذيرية:
_ماذا تقصد بكلامك؟
وبلهجة لامبالية رد:
_أقصد أنني سأبحث عن شقة مناسبة لأعيش بها مع أمي.
صاحت بغضب:
_أنا لا أوافق على ذلك الاقتراح.
رد بإغاظة يعيد عليها جملتها التي استقبلته بها صباحا:
_وهل دعوناكِ؟!
ضغطت أسنانها بغضب وهي تنطلق إليه حتى وقفت أمامه فوصلت قمة رأسها أمام صدره، رافعة رأسها وهي تنظر له بتحذير بداعليها مضحكا:
_اسمع! أم عاصم تقيم معي، اذا أردت أن تزورها سأتحملك مُضطرة، لكن انس تماما أن تبعدها عني، هل تفهم؟!
ولأن عنقها آلمها فلم تنتظر رده وهي تعود إلى الداخل صافعة بابها بقوة أجفلته وأخرجته من دهشته، فعقد حاجبيه بضيق وهو ينظر إلى أمه ويهتف بها عاتبا:
_أمي بالله عليكِ كيف عشتِ طوال تلك السنوات معها ولم تقومي بإيداعها مشفى الأمراض العقلية؟!
ابتسمت أمه بحنان وهي تجيبه:
_عاصم! سما أمها ماتت أثناء وضعها، لم تر أُماً غيري، ومنذ ضَعُف بصري وهي تهتم بشئوني كلها مهما كانت، حتى أنني توسلتها مرارا أن تضعني بإحدى دور المسنين كي لا أُرهقها فغضبت مني وهي تقسم لي بأنها لن تتركني أبدا، ولن ترضى لي المذلة، والآن أنت بنظرها من ستأخذني منها لذا رد فعلها عنيف قليلا، أعذرها بني، فهي فتاة أصيلة وحنونة وأعتبرها ابنتي فعلاً.
نظر لأمه باستغراب قليلاً ثم انتقلت نظراته تجاه الباب المغلق أمامه بِتفكير صامت..
هو حتى الآن لا يعلم كيف سينفصل بالمعيشة عن أبيه وأخته وليس في حاجة لظهور مُعضلة جديدة.
****
دلفت إلى فيلا والدها شاردة في بحث عن حل للمشكلات القادمة حتماً إن آجلاً أم عاجلاً والتي ستطال عائلتها بكل تأكيد، تستطيع التكهن بِموقف والدها، لكن أمها...!
"لِمَ تأخرتِ مَوَدَّة؟"
أجفلت وهي تلتفت لأبيها بدهشة قائلة:
_كنت مع عَمَّار أبي، لقد أخبرتك هاتفياً.
اتجه إليها ببطء حتى توقف أمامها مُردداً بِهدوء لم يمنع عبوس ملامحه ولا نظرات عدم الرضا التي يُلقيها بها:
_أعلم، لكني لا أفهم ما الذي يدور بينكما، لقد تركتِ بيتك وطلبتِ الانفصال بإلحاح، ثم توقفتِ فجأة عن التحدث بخصوصه، والآن تتقابلان بالخارج مثل المراهقين؟!
أخفضت مَوَدَّة رأسها بحرج وهي تجيبه بخفوت:
_أي مراهقين أبي؟ هو لايزال زوجي.
هتف بها أبوها بضيق:
_أعلم أنه زوجك، لكنني لا أفهم طبيعة تلك العلاقة، لو أنكِ تصالحتِ معه لِمَ لازلتِ هنا؟ ولو أنكِ على قرارك بالانفصال لِمَ تخرجين معه؟ ولِمَ لا تسمحين لي بالتحدث إليه كي ننهي ذلك الموضوع تماما؟!
تململت مَوَدَّة في وقفتها ثم ارتسم الاستسلام بعينيها وردت بألم:
_أحبه أبي! لم أحب سواه طوال عمري، ولن أفعل، لن أكرهه، ولن أنساه حتى إن انفصلنا، وهذا هو الأرجح.
اجتذبها أبوها بين أحضانه وهو يربت عليها بحنان شديد:
_أعرف حبيبتي أنكِ تحبينه، لكنني لا أريد أن تندمي عندما تكتشفين أنكِ قد خسرتِ الكثير في سبيل ذلك الحب، أنا لم يرزقني الله بسواكِ وأتألم عندما أراكِ على تلك الحال.
رَفَعَت رأسها تنظر إليه مبتسمة من بين دمعاتها:
_لِمَ ليس كل الآباء مثلك أبي؟ لِمَ هناك آباء قساة القلوب على أبنائهم؟
عقد أبوها حاجبيه بضيق وهو يسألها:
_هل ضايق عَمَّار إياد؟ أقسم أنني لن أرحمه إن تأثر حفيدي بانعدام مسئوليته.
بسرعة أجابت مَوَدَّة:
_لا أبي، عَمَّار يهتم بإياد ولا يتحمل أن يطاله أي سوء، صدقني أبي عَمَّار لم يعُد ذلك الشخص الضعيف، لكنه مجرد سؤال طرأ على بالي.
زفر أبوها بضيق ثم هز رأسه بنفي قائلاً:
_لا مَوَدَّة، لا أعتقد أن هناك من يتحمل الأذى لأولاده، الأب والأم يكونان على استعداد دائم لتحمل أي شيء في سبيل راحة أبنائهما، أنتِ أم وتفهمين ما أعني.
هزت مَوَدَّة رأسها بشرود تحاول إخفاء الابتسامة الساخرة التي تناضل للظهور على شفتيها.
.......
أما هو، فقد جلس داخل سيارته الرمادية يحدق في تلك التي تجر قدميها بصعوبة بعيدا عن بيت خالها وذلك الرجل الذي ألقى عليها عبارة قاتلة اخترقت أذنيه، ليغمض عينيه بألم وهو يضغط أسنانه بغضب مُتمسكاً بآخر ذرات من الصبر ويُدرك أنها قاربت على الهرب...للأبد!
.......
وفي اليوم التالي استيقظ صاحب المحل ليجد الناس متجمعين بالقرب من مصدر رزقه، فاخترق صفوفهم برعب حتى وصل إلى باب المحل ليجد العبارة التالية مكتوبة بطِلاء الحائط فوقه:
"يا من تتشدقون بالطهارة، حاسبوا أنفسكم أولا!"
****
أنهى توقيع الكشف على المريض مُبتسِماً وانتظر حتى خرج وأغلق الباب،ثم أغمض عينيه بتعب يتلمس بضع دقائق من الراحة لكنه انتفض واقفا مع اندفاع الباب بتلك المصيبة التي حَلَّت عليه تناظره بحقدها المعهود، فأغمض عينيه بضيق متأففا ثم تمتم بخفوت:
_يا إلهي! وأنا كنت قد ظننت أنني قد تخلصت من ذلك الكابوس للأبد!
انطلق على الفور هتافها الغاضب:
_ما الذي تريده مني حمزة؟ ألم تنتهي قصتنا؟
فتح عينيه رامقا إياها ببرود وهو يجيب:
_صدقا دينا كل ما أريده منكِ تلك اللحظة أن تختفي من أمام عيني، وألا تطربيني بسماع صوتك الحاد، وأن ترحميني من عطرك الخانق، وأن أغمض عيني وأفتحهما لأجد نفسي قد نسيت كل ما يتعلق بكِ ونسيت غبائي وفقداني البصر والعقل عندما أذنبت في حق نفسي وأهلي وتزوجتك!
اشتعل الغيظ بعينيها كما اعتادت دوماً معه، هي باهرة الحسن تعلم ذلك وتراه في أعين الجميع ، منذ مراهقتها وهي تتلقى نظرات الاستحسان والاعجاب من الكل، إلا هو! هو الوحيد الذي لم يُشعرها بانبهاره بها، الوحيد الذي لم يسقط صريع فتنتها، ولهذا لطالما كرهته!
بغيظ عارم سألته:
_أتعتقد دكتور حمزة أنه من المروءة أن تتحدث عني مع أصدقائك؟
اتسعت عيناه بغضب وهو يهتف:
_هل جننتِ أنتِ أم ماذا؟!
نظرت له بتحدي وهي تبتسم قائلة:
_بِمَ تسمي إذن معرفة دكتور عَمَّار بي؟ وبِم تسمي تهديده إياي ؟لقد أوصاني بنفسه بإبلاغك تحياته، هل انحدر بك الأمر إلى تلك الدرجة؟
ثم مالت على المكتب تبتسم له بإغاظة:
_أم تراك تحاول استفزازي كي أعود إليك؟
وتحولت عيناه الغاضبتان إلى الدهشة العارمة ثم..
انفجر ضاحكا!
تراجعت للخلف وهي تستقيم وتراقب ضحكاته التي تتزايد بشدة ، ارتفع صدرها في تنفس غاضب وهي تراه يمسح دمعات سالت من عينيه لشدة استمتاعه، وأخيرا عندما تحدث نظر اليها بسرور لم يمنع الاستنكار في لهجته قائلا:
_أعود إليكِ؟! أنا أعود إليكِ؟! هل العاقل عندما يغرق في بركة من الوحل ويمُن الله عليه بإنقاذ يعود إليها برغبته مرة ثانية؟!
ثم ارتسمت الجدية على ملامحه وهو يتابع:
_لقد كنت أكافح وأنا أحاول عدم إظهار راحتي الشديدة عند الطلاق احتراما لرجل كل ذنبه أنه أنجبك!
صرخ الغل بملامحها وهي تهتف به:
_إذن أنت لا تعرف دكتور عَمَّار؟
وضع قدما فوق أخرى وهو ينظر لها بمكر قائلا:
_أنا لم أقل لك أنني لا أعرفه، بصرف النظر عن أنه كان زميلي بالكلية وحضرت معه بعض المؤتمرات فأنا أدين له بجزء من سلامي النفسي وراحة بالي.
ثم صمت متعمدا إثارة غيظها أكثر وعاد متابعا بِخفوت:
_فهو كان القشة التي قصمت ظهر البعير، كنت أشعر أننا سننفصل يوما ما على كل حال، لكنه كان أحد الأسباب التي جعلتني أُعجِّل بذلك، لذا كما ترين إن كانت هناك حربا قادمة بينك وبينه فبالتأكيد صَفُه ما سأتخذ، فأنا لي ثأر عندك، أم هل تراكِ نسيتِ؟
فغرت فاهها دهشة وهي تحاول ربط كلامه فلم تستطع، بينما وقف هو ببطء محدقا بها بتحدي وهامساً بتشديد:
يبدوسيدة دينا_ أنكِ ستبدئين بتسديد ديونك كلها بدءاً من الآن!
شحب وجهها والذعر يحتل ملامحها بلحظة وبخوف واضح تراجعت إلى الخلف، وبدون كلمة إلى الخارج هرولت، فارتخت ملامحه المتسلية ليحل محلها قلق شديد، ثم أخرج هاتفه من جيب بنطاله وطلب رقمها.
****
"إلى اللقاء إياد!"
ودعت الطفل الوافد الجديد إلى فصلها بابتسامة ثم خرجت لتعود إلى مسكنها، وعندما خرجت من المركز شعرت باهتزاز هاتفها فالتقطته لتطالع اسم حمزة لتجيبه بقلق:
_نعم حمزة؟
أتاها صوته المتردد:
_مرحبا رهف، كيف حالك؟
والتردد بنبرته لم يخف عليها فقالت سريعاً:
_أنا بخير حمدا لله، هل..هل هناك ما حدث؟
صمت لثوان ثم تحدث بهدوء:
_اسمعي رهف!، أنا أشعر بالقلق الشديد من أجلك، هناك شقة فارغة في إحدى البنايات التي يمتلكها والد صديقي، بباب حديدي وحارس، أعتقد أنها ستكون أكثر أمانا من الغرفة التي أخبرني عنها عم صلاح.
زفرت بتعب قائلة:
_لا حمزة، أنا لا أريد الهرب، أنا لم أفعل شيئا كي أظل أعاني ظلم الآخرين لي، شكرا لتفكيرك واهتمامك، أنا بخير تماما.
لكنه أصر:
_أرجوكِ رهف فكري جيدا، الشقة حالتها جيدة ولا تقلقي بشأن الإيجار على الإطلاق.
ابتسمت بضعف وهي ترد:
_حاضر حمزة، سأفعل، إلى اللقاء.
وضعت هاتفها بحقيبتها والتفتت لتتجه إلى موقف الحافلات فطالعتها العينان الخضراوان..
لكنهما غاضبتان وبِشدة!
وبذلك الغضب الذي حاول التحكم به سألها:
_من يكون حمزة؟!
****

سعاد (أمواج أرجوانية) 23-08-20 08:31 PM

تابع الفصل الرابع:
وأمام أحد المصالح الحكومية خرج صلاح ليجد سيارة رمادية تسد الطريق بينما هتف صاحبها به مناديا باسمه فالتفت إليه محاولاً التعرف عليه وسأله باستغراب:
_هل تناديني بُني؟
وصل إليه عَمَّار ووقف أمامه مبتسما بأدب وهو يرد:
_نعم أستاذ صلاح، كيف حالك؟
ضيق صلاح عينيه بحذر وهو يجيبه:
_حمدا لله، أعذرني بني، هل أعرفك؟
حك عَمَّار شعره بحرج وهو يجيب بتوتر:
_لا.. أقصد نعم..آ.. هل من الممكن أن نتحدث بمكان ما؟
ازدادت دهشة صلاح وهو ينظر له هاتفا بنفاد صبر:
_ألا يحق لي معرفة من تكون أنت أولا؟
مط عَمَّار شفتيه بقلق وهو يجيبه:
_دكتور عَمَّار.
وعندما طالع ملامح عدم الفهم على وجه الرجل أكمل:
_دكتور عَمَّار شديد الناجي!
انتفض صلاح إلى الخلف وهو يحدق به برعب فعاجله عَمَّار هاتفا:
_لا تجزع، أنا لم آتِ بسوء، أردت فقط التحدث معك.
صرخ به صلاح:
_ماذا تريدون منا بعد؟ ابتعدوا عنا! كفى أذى بي وبالمسكينة التي لا تستحق كل ما فعلتم بها، اتركوها بحالها فقد عانت الكثير بسببكم.
بلهفة خاطبه عَمَّار:
_استمع إلي أرجوك، أقسم أنني لن أؤذيها، أنا .. أنا أريد تعويضها، أريد أن أجعلها تنسى كل ما تعرضت له.
بغضب رد صلاح:
_هل تهزأ بي؟! ألا يكفي ما فعلتم بي وأمام أهل بيتي؟ ألا يكفي إحضاركم المجرمين وتهجمكم علينا؟ الآن تقول أنك تريد تعويضها؟ هل تراني أحمق؟!
صرخ عَمَّار بعذاب:
_لم أكن هناك! أقسم لم أكن موجودا وأنت تعرف، أنا حتى لم أكن أتخيل أن يحدث ذلك أبدا، لم أكن لأسمح بالأذى لك أو لرهف، أنت لا تدرك كم أتعذب أنا منذ ذلك اليوم! لم أعد أستطيع النوم بسبب الكوابيس التي تهجم عليّ وأنا أراها تحترق بالنيران بينما أنا عاجز ضعيف لا أستطيع إنقاذها، لست أنا من أريد بها غدرا عم صلاح، والله لست أنا.
نظر له الرجل بشك يُطالع الصدق الذي يقفز من عينيه، وزفر حانقا:
_وماذا تريد مني الآن؟
اقترب منه بلهفة مجيبا:
_أريدك أن تأخذني إليها، أعلم أنني إن حاولت التقرب منها ستنفر مني تماما، وهي لا تثق بسواك، لذا أريدك أنت أن تطمئنها تجاهي.
وبسخرية قابله:
_وإذا كنت أنا نفسي لا أطمئن لك؟ كيف أفعل ذلك؟
هتف عَمَّار حانقا متألما:
_ما الذي يمكنني فعله حتى تصدق أنني لست سيئا؟ ما الذي يمكنني تقديمه كي تتأكد أن نواياي تجاهها عكس ما تعتقد تماما؟
عم صمت قاتل وعَمَّار ينظر له بتوسل شديد حتى زفر صلاح بيأس بعد لحظات هاتفاً:
_أنت لا تدرك كم تكرهكم!
والرد جاء سريعا:
_أدرك تماما! ويحق لها، سأصبر وسأتحمل حتى أكتسب ثقتها.
بتخاذل رد صلاح:
_امنحني بعض الوقت كي أقوم بتهيئتها نفسيا أولا، الفتاة عانت كثيرا بسببكم ولن تتقبل الأمر بسهولة.
هز عَمَّار رأسه بسرعة وابتسامة واسعة شملت وجهه كله مرددا بفرحة ظاهرة:
_كما تريد أستاذ صلاح، لكن أرجوك لا تتأخر عليّ، فأنا أتعذب كل يوم بينما هي ليست معي.
نظر له صلاح شزرا ثم أولاه ظهره وانصرف بدون كلمة واحدة.
أما هو فقد مسح وجهه بكفيه وصورة واحدة ترتسم بعقله لحظة اجتماعه بها مرددا:
"لن أتركك رهف، سأعوضك وستبقين معي حبيبتي!"
****
"من يكون حمزة؟"
نظرت له بدهشة متسائلة:
_نعم؟
فأعاد سؤاله والغضب يتقافز من مقلتيه:
_لقد سمعتني رهف، من هو حمزة الذي كنتِ للتو تحدثينه؟
ولا تعلم لِمَ أجابته ببساطة:
_إنه.. إنه جارنا، أقصد كنت أنا جارته، وهو أيضا كان متزوجا من ابنة خالي.
ارتفع حاجبيه بدهشة وهو يسألها بصرامة:
_كنتِ جارته وكان قريبك، لكنه لم يعد هذا ولا ذاك؟!
هزت رأسها بتلقائية وهي تحدق في عينيه اللتين تشتعلان ببريق غاضب فازدادت حدة نبرته وهو يعاود سؤالها:
_وطالما العلاقات انتهت لِمَ يُحدثك؟ ولِمَ تشكرينه بتلك الحرارة؟ وعلام ذلك الاهتمام منه بك؟
هنا ضاقت عيناها وعقدت حاجبيها بدهشة وهي تجيبه بسؤال:
_عفوا! لماذا تسأل أنت كل تلك الأسئلة؟ علام تُحاسِبني لا أفهم؟!
ثم استدركت بانتباه:
_لحظة! لِمَ أتيت اليوم بالأصل؟ مريم ليس لديها أية حصص.
هتف بغضب:
_من أجلك أتيت!
تعلَّقت نظراتها به لِثوان وسألته بِحَذر:
_من أجلي أنا؟ لماذا؟
اقترب منها متحدثا بخفوت غاضب:
_هل تعلمين كيف انقضت ليلتي بعد سماع صوتك الباكي بالأمس؟ هل تدركين مدى العجز الذي شعرت به وأنا لا أستطيع التواصل معِك بعد أن أغلقتِ الهاتف تماما؟ هل تعلمين مقدار الخوف الذي تملكني وصوتك المتألم المنتحب لا يبرح أذناي منذ ساعات حتى رأيتك أمامي الآن سالمة؟
وكان الرد الغبي الذي انطلق على لسانها بدون تفكير:
_انتظر لحظة! صحيح!من أين أتيت برقم هاتفي من الأساس؟
عض على شفتيه بغيظ واتسعت فتحتا أنفه، استشعرت العنف الذي يكبته بصعوبة، بينما خرج رده أكثر غرابة ودهشة:
_لقد ظل هاتفك معي لعدة أيام ! أنتِ كيف يسمحون لكِ بتدريس أجيال؟ تُرى أي عقول تفكر بالعكس سيمتلكها هؤلاء المجني عليهم؟
ضيقت عينيها بشك وهي ترد بخفوت:
_أشعر أنك تسخر مني!
هنا أولاها ظهره بسرعه وهو يمسح على وجهه بقوة مرددا بخفوت:
"يا لحظك الرائع ساري!"
حدقت بظهره بِتوجس حتى التفت إليها مرة أخرى قائلا وهو يجز على أسنانه بغيظ:
-لنعود إلى البداية! ماذا يريد منكِ هذا الجار سابقا؟
فانطلق صوتها حانقا:
_وما شأنك أنت؟!
هتف ساري بحنق رافعا رأسه إلى السماء:
_ألهمني الصبر يا الله!
ثم نظر إليها بابتسامة صفراء أثارت قلقها:
_رهف، هل من الممكن أن تجيبيني بدون أن تثيري حنقي؟
نظرت إليه بصمت فزفر بضيق وهو يخفت حدة صوته:
_أرجوكِ رهف أخبريني، ما علاقتك به؟
رمقته بنظرة بها مزيج من الدهشة وبوادر فهم ثم .. أمل!
الترقب في عينيه ممتزجا بالتوتر مع علامات الأرق على وجهه يُثيرون بداخلها مشاعر غريبة تجتاحها للمرة الأولى بحياتها..
يريد المعرفةليس بدافع الفضول وإنما...!
ازدردت لعابها وهي تقرر منحه راحة لم تتيقن بعد من سبب افتقاده لها ثم خرج ردها متقطعا:
_لو.. لو كان لي أخ، فسيكون حمزة!
والابتسامة التي أخذت تتسع بالتدريج على محياه تراقصت على ألحانها دقات قلبها والأمل يكتسح دواخلها، وليُزيد من توترها اقترب هو خطوة مُطالبا بتأكيد:
_أخ فقط؟
تزامنت إيماءة رأسها مع إجابة لسانها الرقيقة وهي لا تجدأو لا تريد من عينيه مهربا:
_أخ فقط.
وتلك المرة لم يولِها ظهره وهو يردد بابتسامة تسببت في جفاف حلقها:
_"يا لحظك الرائع ساري!"
توردت وجنتاها واضطربت عيناها وهي تتراجع إلى الخلف خطوتين فعاجلها :
_ماذا يريد منك هذا "الأخ"؟
والكلمة الأخيرة لم يكن يقصد بها علاقة القرابة، فالغيظ بعينيه واضح ، أيعقل أنه بالفعل....؟ خرقاء أنتِ يا رهف وستظلين خرقاء!، هل نسيت من تكونين؟ أفيقي يا فتاة حتى لا تتلقي صدمة أخرى، فلم يعد قلبك يتحمل على أي حال.
_كان يعرض عليّ مكان للإقامة.
عقد حاجبيه بدهشة قائلاً:
_لا أفهم! أستتركين بيت أهلك؟
والسؤال أخرجها بالكامل من حالة الأمل التي انتابتها، فنظرت له بتمعن وازداد عنف تنفسها وهي تقرر التخلص من تلك الحالة الغريبة التي تتلبسها في حضوره، فأجابت بهدوء:
_أنا أسكن بمفردي.
وازدادت دهشته وهو يسألها ثانية:
_وأين أهلك؟
فجاءته الإجابة بسرعة تُلقي حملاً ثقيلاً عن كاهلها:
_كنت أعيش مع خالي، وتركت بيته منذ بضعة شهور.
لكن إجابتها لم تشبع فضوله كما يبدو لأنه صمم متسائلاً بتشديد:
_رهف قصدت أين أبوكِ وأمكِ؟
والعينين التمعتا بدمعات متحسرة، والشفتان ارتجفتها بقهر واضح، فحدقت بعينيه بجرأة مُوَدِّعة، والإجابة خرجت على الفور قاتلة:
_أمي انتحرت أثناء طفولتي بعد أن حمَّلتني ذنباً أدفع أنا ثمنه حتى الآن، وأبي لا يريدني، فقد تبرأ مني منذ مولدي ولم يعترف بأبوته لي!
والصدمة على وجهه كانت بديهية، جسده الذي تخشب للحظات أنبأها عن وقع عباراتها عليه، عيناه اللتان اتسعتا بذهول حتى نسى أن يُرفرِف بأهدابه أوصلتا إليها رأيه بما سمع، صدره الذي أخذ يرتفع ويهبط في تتابع سريع أعطاها فكرة ما عن وقع مفاجأتها، طالت الثواني وهي تنظر له بدمعات متحجرة بينما هو كالصنم أمامها، فاحتضنت كتبها بذراعيها وبدون كلمة رحلت!!
****
ومن بوابة الفيلا الضخمة دخل والأمل يشع بصدره، وعندما صعد أول درجتين أوقفته صيحة حازمة:
_عَمَّار!
أغمض عينيه وهو يضغط أسنانه بغضب، وببرود شديد التفت قائلاً:
_نعم شديد بك؟
اقترب منه الرجل ببطء عابس الوجه كعادته هاتفا:
_أين كنت؟
والرد جاء سريعاً و.. وقحا:
_ألم يخبرك رجلك بتحركاتي كلها؟ عَنِّفه إذن كي يصبح أكثر إتقانا في عمله.
ليرد أبوه باشمئزاز:
_لقد سئمت منك ومن تهورك، احذرني عَمَّار فأنا لا أتسم بالصبر!
ابتسم عَمَّار وهو يحدق بعينيه مُعَلِّقَاً بسخرية:
_الصبر؟! مالك والصبر شديد بك؟ للأسف أنت لا تمتلك منه شيئا.
ثم أردف بتحدي:
_وللأسف أكثر ربما قريبا ستحتاجه.
التمع الشر الخالص بعيني أبيه وهو يهتف من بين أسنانه:
_أنا أعرف علام تنتوي عَمَّار، فهل تعرف أنت كيف يمكنني أذيتها؟
والتحدي ارتسم على وجه ابنه بأقوى صوره وهو يجيب:
_لا أحد يعرف بِقدري مدى قسوتك وشِدتك يا أبي، فأنا قد تشربتهم لسنوات على مهل حتى أصبح بإمكاني توقع تفكيرك وخططك وتحرُكاتك كلها، لكن أنت من لا تعلم إلى أي مدى أصبح بإمكاني أن أصل في سبيل استعادتها وتعويضها.
صرخ شديد بِغِلّ:
_إنها لقيطة!!
ليُجابهه عَمَّار بصراخ أشد:
_إنها أختي!!
** نهاية الفصل الرابع**

نغم 24-08-20 02:27 AM

عنوان جذاب ، شخصيات جميله ، حبكة مشوقه
سرد سلس و أحداث سريعة
تسلم ايديكي و كل التوفيق ليكي إن شاء الله

سعاد (أمواج أرجوانية) 24-08-20 04:21 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة نغم (المشاركة 15051468)
عنوان جذاب ، شخصيات جميله ، حبكة مشوقه
سرد سلس و أحداث سريعة
تسلم ايديكي و كل التوفيق ليكي إن شاء الله

حبيبتي تسلميلي يا رب💞💞💞💞
متشكرة جدا على رأيك😍😍

سعاد (أمواج أرجوانية) 26-08-20 08:07 PM

السلام عليكم

في انتظار آرائكم وتعليقاتكم بعد قراءة الفصل <3

الفصل الخامس
ما قبل البداية!
قبل عدة سنوات:
وقفت عايدة أمام باب شقة أخيها تنظر له بتوسل هاتفة:
_أرجوك صلاح، أرجوك أنقذني، ليس لي سواك لا تتركني!
صرخ بها بغضب:
_الآن تذكرتِ أن لديكِ أخاً؟ والآن تطلبين مني المساعدة؟ بعدما أجرمتِ بحق نفسك وبحقي؟ حمدا لله أن أمك ليست على قيد الحياة لترى ابنتها وقد أصبحت بذلك الـ....
قاطعته صارخة:
_لا تقلها صلاح، أنا لست مخطئة، لقد تزوجته، أقسم أنني تزوجته.
رد أخوها بحنق:
_وهل الزواج العرفي يعتبر زواج؟ إنه زواج في الظلام لا تستطيعين مواجهة أحد به ولا يعطيكِ أية حقوق، ماذا إن أنجبتِ منه؟
شحب وجهها وهي تتهرب منه بعينيها فحدق بها بصدمة للحظات ثم قال بِتوجس:
_أنتِ..أنتِ لستِ حاملا عايدة، أليس كذلك؟
انهارت أخته باكية فتخلل شعر رأسه بيديه وهو يحوقل مصدوما ثم صرخ بها:
_يا للمصيبة! يا للمصيبة! ماذا سنفعل الآن؟! ماذا سيقول الناس عنا؟!
وعندما لم يجد منها ردا سوى زيادة في البكاء أردف صائحا:
_اسمعي! ذلك الرجل يجب أن يشهر زواجه بك، يجب إتمام عقد قرانكما لدى مأذون وبوجود شهود، وفي أقرب وقت قبل أن يُكتَشَف الحمل.
ناحت أخته وهي تهتف من خلال عويلها:
_لم يوافق صلاح، لم يوافق.
حدَّق بها للحظات بعدم فَهم، ثم ما لبث أن تحولت ملامحه تدريجياً إلى الرعب فسألها:
_ماذا تعني بأنه لم يوافق؟
أجابته بانهيار وهي تقترب منه:
_يقول إنه إن علم أحد بشأني ستقوم زوجته بأخذ طفله وترحل، وهو لن يسمح بذلك.
فأمسك بذراعيها بعنف وسألها بذعر:
_وأنتِ؟! والجنين؟!
لم يجد منها ردا سوى البكاء المرير فتراجع إلى الخلف حتى سقط على أقرب مقعد وعم الصمت إلا من صوت شهقاتها الباكية، لكنه بعد ثوانِ رفع رأسه فجأة هاتفاً:
_لا تخبريني أنكِ لا تمتلكين ما يثبت ذلك الزواج العرفي!
مسحت دمعاتها وهي تجيبه بسرعة:
_لا أخي، معي عقد، وهناك اثنان يعملان معي بالمصنع قد شهِدا عليه.
زفر براحة وهو يهُب واقفاً ويأمرها بصرامة:
_هيا معي إذن إلى ذلك الحقير!
سألته بِحَذَر:
_ماذا ستفعل أخي؟
أجابها بازدراء صارخاً:
_سأجبره على إشهار زواجكما، هناك طفل سيولد الآن وليس له ذنب في فِعلتِك الشنيعة ونذالته!
طأطأت رأسها بحرج ثم تحدثت بخوف:
_لكن.. لكن يا صلاح هو ليس بهين، يستطيع إيذائنا بمنتهى البساطة ولا يخشى أحداً، أنت لا تعلم عنه شيئاً، لا يوجد ما لا يقدر على ارتكابه!
بغيظ واضح هتف بها:
_ألم تدركي ذلك سوى الآن؟ ما الذي ورطك مع من مثله إذن؟!
قالت له بلهجة دفاعية لم تعلم بأنها تُدينها أكثر:
_لقد أخبرني أنه يعاني إهمال زوجته منذ إنجابها ابنه، وأنه سوف يقوم بإشهار زواجه مني ما إن يستطيع تطليقها!
وبكل امتعاضه صاح بها:
_وصدقتِه يا غبية؟! بالطبع سيخبرك بذلك، لأنه كاذب محتال وخائن، وأنتِ لا تختلفين عنه بشيء!
وعندما طأطأت رأسها أرضاً بِذُل شديد زفر يائساً وهو يهتف:
_أيا كان يجب إعلان زواجكما على الفور، حتى وإن طلقك بعد فترة، ذلك الطفل لا يجب تحميله عاراً ليس له شأن به.
واصطحبها وذهبا إلى مصنع شديد بك، وهناك تحقق ما حاولت تنبيه أخيها إليه، طردهما شديد بكل برود بعد أن قام بتهديدهما بفضحهما بين الجميع إن حاولا ابتزازه، فعاد ومعه أخته مهزومين، لا يجدا حلا لتلك المعضلة!
وكي يضمن شديد ألا يُعيدا الكَرَّة حرِص على أذية صلاح في محل عمله، حتى اضطر إلى تغييره وتغيير مكان إقامته أيضاً هرباً من بطشه.
وبعد بضعة أشهر وضعت عايدة مولودتها، نبذتها منذ اليوم الأول وكذلك فعلت زوجة أخيها، فكان صلاح لها الأب والأم.
رضيعة شديدة الجمال، لم تكن تبكي باستمرار كجميع المواليد، ومن يومها الأول كانت هادئة للغاية ليجد نفسه يناديها ب"رهف!"
****
عودة إلى الوقت الحالي:
"إنها أختي!!"
صاح أبوه بغضب:
_أنت ليس لك إلا أخت واحدة، هي تغريد، ويجب عليك نسيان ما غير ذلك، لأنني لن أقبل بذلك الهراء الذي تريد القيام به.
هز عَمَّار رأسه برفض عنيد وهو يرد بنبرة مشددة:
_لا أبي، لن أخضع لك في ذلك الأمر أيضا، رهف أختي وستنتمي إليّ رغماً عن الجميع.
صرخ شديد بجنون:
_هل جننت؟! أتريد أن تُحضر تلك اللقيطة إلى منزلي؟! أتريد أن تتسبب لنا بالفضائح؟! لن أسمح بذلك العار أبدا.
فقد عَمَّار كل هدوئه وهو يصيح بغضب عارم:
_عاااار؟! عن أي عار تتحدث شديد بك؟! العار هو أن نعيش نحن الرجال في ذلك القصر المنيع محاطين بحُراسك من كل اتجاه بينما ابنتك تقطن غرفة وضيعة يتطاول عليها الرائح والغادي ويتهمها ويحاسبها على ما ليس لها به ذنب، هل لك أن تخبرني كيف تشعر وجزء منك يُهان ويُحاسَب طوال الوقت بسبب غلطة لم يرتكبها؟ هل لك أن تخبرني كيف تنام قرير العين وأنت لا تعلم كيف تقضي هي ليلتها؟ هل تستطيع النوم بأمان؟ألا تتساءل هل يتعرض لها أحد وهي الفريسة الأكثر سهولة على الإطلاق، بمفردها تماما بدون عائلة..
خفتت نبرته مردفا:
_بدون أب.
ثم تابع دامعا مُتحسِّراً:
_وبدون أخ!
ولم ينتظر ردا يعلم أنه أبدا لن يسمعه، فهو قد آمن تماما أن أبيه عقله قد قُد من حجر، وقلبه قد مات منذ زمن، لذا فقد استدار صاعدا ليجد أمه تنظر له بلوم قائلة:
_ما الذي ستفعله عَمَّار؟ ما الذي تريده؟
وبهدوء رد:
_أريد أختي أمي، أريدها معي.
وبنهي صارم صاحت به:
_هي نتاج نزوة أبيك عَمَّار، لن ترضى أن تسكنها بيتي في ذلك العمر، لن ترضى بأن أُفضح بين الناس الآن، لن تقبل بأن تُضر أختك تغريد بسببها، مستقبلها مُشرقاً، ألم تفكر عندما يأتي لها الخاطبون بِمَ نخبرهم؟
نظر لها بقهر مجيبا:
_قولي لهم ابنتي لها أخت أخرى من زواج سري، أخت تعاني ظلم الأهل قبل الأغراب، قولي لهم إن كنتم تريدون حسابا فحاسبوا الذي خان وغدر ثم افترى ، أو حاسبيه أنتِ أمي، فأنا أرى أنكِ سامحتِه هو ورضيتِ بالظلم لفتاة مسكينة لم يطلب أحد رأيها في نسبها وأصلها.
تجاوزها إلى الأعلى ثم توقف فجأة ملتفتا لهم وقال:
_هذا المكان الذي تخافون جلب العار إليه أنا لا يشرفني أن أعيش به.
وهم بالالتفات عندما عاد مرة أخرى رامقا والديه بابتسامة شامتة:
_وبالمناسبة، تغريد تعلم عن وجود أخت لها، بالأصل هي من سمعتك أبي وأنت تتفق مع المجرمين الذين يعملون لديك للذهاب لتهديد خالها.
ثم أردف بخفوت ساخر:
_هذا إن كنت قد لاحظت تهربها منك وانعزالها وتتساءل عن السبب في الأساس.
وبمنتهى البساطة صعد إلى جناحه ليجذب حقيبة ملابسه المُعَدَّة سَلفا وانطلق خارجه يشعر ببوادر الحرية تلوح في الأفق، وعندما وصل لآخر درجة توقف بمواجهة والده، ثم جذب كفه ببطء ووضع مفتاح سيارته بها هامسا بأذنه:
_هاك أبي، مفتاح السيارة الرمادية الكئيبة، لقد ابتعت أخرى.
وبابتسامة متسعة حملت بعض التشفي تابع:
_زرقاء اللون!
ثم انطلق إلى الخارج يهرول على الدرجات الخارجية ويكاد يرقص فرحا وهو يرمق الفيلا بلا تصديق جاذباً نفسا عميقا إلى صدره ثم قفز بسيارته الجديدة، وقبل أن يشرع بالقيادة أخرج هاتفه ليكتب رسالة نصية محددة:
"أحتاجِك، وافيني بالعنوان التالي!"
****
وقفت أمام الباب تتطلع حولها بفضول وتتململ بتوتر منتظرة بعدما دقت الجرس، فتح لها بلهفة شديدة وعندما وقعت عيناه عليها..
ابتسم!
ابتسم لها عَمَّار بالفعل ابتسامة لم ترها موجهة إليها على الإطلاق، بللتكون صادقة لم ترها على ملامحه يوماً، بدا سعيدا، مشرقا، مرتاحا.
سألته مُتوجسة:
_ما بك عَمَّار؟ لِمَ تـ.....
وعبارتها بترتها عندما احتضنها فجأة لتتخشب مُتسعة العينين جاهلة ما يجب عليها فعله..
أتدفعه؟!
أم تحيطه بذراعيها؟!
ولما ازدادت حيرتها فضلت الاستسلام، أو الاستمتاع!
والدفء الصادر منه بدأ يصيبها بالدوار؛
دفء تقسم أنه مستجد تماماً!
تلك الحيرة التي لم تصبه هو بينما يعتصرها بين ذراعيه هاتفا:
_لقد تحررت مَوَدَّة، لقد تحررت!
أفاقت من استسلامها المخزي متراجعة للخلف ببطء، ثم تهربت من عينيه متسائلة بارتباك:
_ماذا تقصد عَمَّار؟ مِمَّ تحررت؟
وبِسعادة لم يُخفِها أجابها:
_من سطوته وقسوته، لقد تركت بيته وسأعيش هنا، سنعيش هنا سويا.
عقبت بدهشة لم تخل من الفرحة:
_هل تَقَبَّلتك رهف بهذه السرعة؟!
ارتسم الحزن فورا على ملامحه وهو يزفر بيأس نافياً:
_لا، لم أكن أتحدث عنها، هي لاتزال لا تعرف شيئا عني، أنا قصدت أنني سأعيش معِك أنتِ وإياد هنا.
عقدت حاجبيها بدهشة:
_أنا سأعيش معك؟! متى أخبرتك بذلك؟
هَزَّ كتفيه وهو يرد ببديهية:
_أنتِ زوجتي!
لكنها على الفور هتفت بصرامة:
_نحن سننفصل!
ارتفع حاجباه دهشة بينما سألها:
_من قال أننا سنفعل؟ أتذكر جيدا أن شرطك الوحيد للطلاق كان الخيانة، وهذا ما لم أقم به أنا مطلقاً، ولن أفعل للأبد.
زفرت بيأس تحاول الخروج من تلك الدائرة المؤلمة، ثم رددت بخفوت:
_اسمع عَمَّار! أنت لم تخني بالفعل، لكن.. لكن تلك العلاقة مرهقة لكلينا، لا أجد جدوى من الاستمرار بها، دعنا ننفصل بسلام من أجل إياد ومن أجل أمي وأمك، وستظل أنت ابن خالتي صديقي وأخي وملاذي الآمن طوال العمر.
أنهت عبارتها بابتسامة دبلوماسية مفتعلة اختفت فور أن لمحت عُقدة حاجبيه ونظرته الخطرة قبل أن يهتف بِتحفز:
_أعيدي ما قلتِ!
بتوتر حمحمت وببطء تلعثمت:
_قلت أنت ابن خالتي وصديقي وأخـ.....
قاطعتها صيحته المستنكرة:
_أخوكِ يا امرأة؟! هل أنتِ بلهاء؟! نحن لدينا طفل!
فاجتاحها الغضب وهي تناظره بعينيها البارقتين أثناء صياحها:
_لماذا تصرخ؟ قصدت أن شعورنا تجاه بعضنا مثل الـ...
قاطعها مرة أخرى بتحذير غاضب:
_أعيديها مَوَدَّة، أعيديها وأطلقي شياطيني كلها تلك اللحظة، فأنا بالفعل أبحث عن وسيلة لتفريغ بعض توتري.
كتمت غيظها وهي تحاول التظاهر بالهدوء ثم خاطبته ببرود:
_حسنا عَمَّار، مبارك خروجك من بيت أبيك، ومبارك الشقة الجديدة، إلى اللقاء.
حاولت تجاوزه فتمسك بذراعها قائلا باقتضاب:
_لقد اشتريت سيارة جديدة أيضا!
هزت رأسها بدهشة ثم ردت بِتوجس:
_مبارك السيارة الجديدة أيضا!
حدق بها بنظرة ماكرة ولاحت الابتسامة مرة أخرى على ثغره فتعالت دقات قلبها بينما تحدث بخفوت:
_إنها الجميلة اللامعة ذات اللون الأزرق بالأسفل، بالتأكيد رأيتِها بطريقك.
وعندما لم تجد ردا أو تفهم ما التعليق الذي يتوقعه منها أومأت برأسها بلا معنى فأردف بمكر أشد:
_أريد أن أعلمك بأنني لا أحب اللون الرمادي، ولا أفضل اللون النبيذي، لذا إن فكرتِ يوما بإهدائي قميصا قطنيا ليجعلني أكثر وسامة فاجعليه أزرقا لأنه لوني المفضل.
اتسعت عيناها بدهشة والذكرى المريرة تضرب عقلها، لكنه فورا طردها بتصميم وهو يميل مقتربا من عينيها سابحاً بهما متابعا بهمس:
_أو ربما عسلياً!
شهقة خافتة انطلقت منها رغما عنها فانحدرت عيناه إلى شفتيها لتنتفض هي إلى الخلف متظاهرة بتثبيت حقيبتها، أما هو فقد حاول السيطرة على ضربات قلبه وهو يحمحم بخشونة شاعراً برضا جراء ارتباكها، ثم هتف آمراً:
_غدا سأمر على فيلا والدك لتحضري معي أنتِ وإياد، جهزي جميع أغراضكما.
وبسبب توترها لم تستطع معاندته وهي تومىء برأسها بطاعة فأردف هو بحنان:
_هيا بنا لأقلك وأرى إياد، لقد اشتقت إليه جداً.
تململت في وقفتها وهي تبدي اعتراضا متخاذلا:
_ولكني.. ولكني أتيت بسيارتي، سأعود وحدي.
حدق بعينيها بعاطفة وهو يهز رأسه رافضا، ثم قال بِحزم:
_لا مَوَدَّة! لن تعودي وحدك، ليس بعد الآن!
وبابتسامة بدت طفولية أردف:
_كما أنني أرغب أن تكوني أنتِ أول من يستقل سيارتي الجديدة.
بصعوبة تحكمت بابتسامتها وهي تُشيح ببصرها عنه ثم تقدمته فلحقها بشوق عارم.
ها هي البداية الجديدة يراها كنور الشمس مُحلِّقة في الأفق، وسيكون من الغباء أن يفقدها ثانية..
ربما كان وجوده في ذلك السجن هو ما يضع غشاوة على عينيه تمنعه من الرؤية، ومن الشعور، والآن وقد تخلَّص من ذلك القيد سيضم كلتاهما إليه وسيعوضهما معا..
مَوَدَّة.. ورهف!
****
قبل عدة سنوات:
في الظلام الدامس وقفت متشبثة بكف طفلتها ذات الستة أعوام وهي تحدق بالبوابة الحديدية الكبيرة بتوتر مشوب بالتصميم، والغضب!
تعلقت بها عينا الصغيرة ببراءة وهي تحاول البحث عم تنتظره أمها بذلك الارتباك، كانت تنقل نظراتها بين ملامح أمها والبوابة الحديدية بانتظام، حتى فُتحت البوابة وخرج!
قوي البنية؛
عريض المنكبين؛
فارع الطول؛
قاسِ الملامح مظلم العينين؛
وبتلقائية تراجعت خلف ظهر أمها وهي تتشبث بذراعها وقلبها يرتجف، بينما اتجه الرجل إليهما وغضبه يزداد مع كل خطوة حتى توقف أمامهما هاتفاً بصوت غاضب منخفض:
_هل فقدتِ عقلك؟ أتجروئين على الحضور إلى بيتي؟ ماذا إن رأتك زوجتي؟ ماذا إن رآك ابني؟
لكن أمها هتفت بنبرة أعلى:
_أنا أيضا زوجتك، وهذه أيضا ابنتك!
مالت رهف برأسها من خلف ظهر أمها تتطلع إليه لوهلة بينما انطلقت الأسئلة داخل عقلها الصغير: أهذا هو أبوها الذي لطالما تساءلت عنه؟
أهذا هو أبوها الذي أغاظتها دينا دوما بعدم وجوده؟ تسللت ابتسامة بريئة إلى شفتيها هاتفة بهمس: مرحى! ستعود اليوم للمنزل وتخبرها أن لها أب، أنها رأته وصافحته، ربما سيحتضنها الآن ثم يعطي لها بعض الحلوى، وربما غداً سيصطحبها إلى مدينة الألعاب!
لكن النظرة التي ارتسمت بعيني الرجل أرعدتها، اتسعت عيناه بصدمة وهو يقترب أكثر من أمها متسائلا بنبرة خافتة تحذيرية:
_ألم تجهضينها؟
وبعناد هزت عايدة رأسها نفيا وهي ترد:
_لا! لم يوافق صلاح، لِذا أقدم لك ابنتك! رهف شديد الناجي!
اندلعت النيران بعينيه للحظات وشعرت هي بارتجاف جسد أمها، أما الرجل فلم يهتم حتى بإلقاء نظرة عليها وهو يبتسم لأمها ببرود قائلاً:
_اثبتي!
أجفلت أمها وهي تنظر له بقلق شديد ثم سألته بِتوتر:
_ماذا تقصد؟
ليعيد نفس الكلمة ببرود أكبر:
_اثبتي عايدة، اثبتي أنني سبق وتزوجتك، اثبتي أن تلك اللقيطة ابنتي.
توترت عايدة وهي ترد:
_أنت..أنت تعلم أنني أملك نسخة من عقد الزواج شديد.
اتسعت ابتسامته الخبيثة متسائلا بلا انتظار الإجابة:
_حقا؟!
وعندما لم ترد هي عم الصمت، تسارعت أنفاسها وهي تتهرب من عينيه بينما الذعر يكتنف قلبها، كيف علم بفقدانها العقد منذ مدة؟ كيف علم بأنها بالفعل ليست لديها ما يثبت زواجه منها؟
نظراته مُتوعدة شامتة؛
نظراتها مرتعبة خاسرة!
أخفضت عينيها ترمق ابنتها ثم جذبتها لتوقفها بينها وبينه ووضعت كفيها فوق كتفيها وهي تهزها بقسوة هاتفة:
_انظر شديد!، تلك هي ابنتك وأخت ولدك المدلل! لها حق بك وباسمك وبذلك القصر الذي تعيش به، هل ستتركها؟ هل ستتخلى عنها؟ هل ستقبل بأن ينعتها الناس بــــ"ابنة الخطيئة؟"
مط شفتيه مُبتسِماً ببرود ثم أجابها:
_لا أهتم في الواقع عايدة، فأنا أتذكر جيدا عند زواجنا اشتراطي عدم الإنجاب لكنكِ خالفتني، أتذكر أيضا طلبي إجهاضها ما إن اكتشفتِ الحمل لكنكِ عاندتِ، الآن تأتين لي راغبة بالإنقاذ؟! أنتِ من تسببتِ لنفسك ولتلك اللقيطة بالفضائح، فلتتحملي نتائج أفعالك! أنا بالفعل لدي زوجة يعلم بأمرها الجميع، لدي ابن سيشرفني وسيُحقق أحلامي، أما أنتِ!.. للأسف عايدة أنتِ تطلعت لمكانة لن تطاليها أبدا.
كل كلمة قالها لم تُفاجئها تماماً، فهي علِمت منذ سنوات كم هو نذل وخسيس، لكنها كانت تأمل في أن يرق قلبه تجاه طفلته عندما يعلم بوجودها ويراها..
والآن لا تملك سوى...تهديده!
صرخت بقهر:
_سأفضحك شديد! سأذهب إلى مصنعك وسأفضحك أمام العاملين لديك، سأخبر الجميع أن شديد بك الذي يتظاهر بالشدة والالتزام والانضباط ويرهبه الجميع لديه ابنة لا يود الاعتراف بها!
وكان رده على تهديدها دَفعة بصدرها أسقطتها أرضا لتصرخ بألم بينما أخذ يسُبَّها بأقذع الألفاظ، فاندفعت إليها رهف بجزع هاتفة:
_أمي! أمي هيا بنا، لا أريد أب، لا أريد ذلك الرجل ولا أريد منه الحلوى، خالي يجلب لي منها الكثير، هيا نبتعد عن ذلك الرجل، وأنا سوف أدعو عليه أن ينتقم الله منه مثلما تدعو عليّ زوجة خالي!
ومع الكلمة الأخيرة شعرت بقوة عاتية تجذبها إلى الأعلى، فالتفتت إليه لتقابلها صفعة مؤلمة اختطفت الأصوات من إحدى أذنيها للحظات، وبينما هي تكافح للاستيعاب إذا بقبضة قاسية تتمسك بذراعها اليسرى لتعتصرها بعنف وجسدها الهش يهتز بين يديه حتى ما عادت تشعر بأية آلام.
_إنكِ وقحة تماما! كيف تتفوهين بذلك الكلام؟ أنتِ حشرة! أنا لست أبيك، وأنت لا تمتلكين أي أب!
ثم دفعها لتسقط بجوار تلك الجاثية أرضاً تنتحب بلا جدوى، الذعر يتملك منها وهي تشعر بالذعر من أن يهجم عليهما ثانية، فتراجعت زاحفة تحتمي بأمها بينما تابع هو بِوعيد خالص:
_إن أتت إحداكما إلى بيتي أو إلى مصنعي أو تجرأت بالاقتراب من أي شخص يخصني سوف أقتلكما، تعلمين عايدة أنني أفعلها ولا أهتم.
من بين دمعاتها ابتسمت بسخرية..بالطبع تعلم!
نظرت له بقهر ثم لملمت عباءتها ووقفت بضعف تستند على طفلتها، وما إن ابتعدتا بضعة خطوات حتى نادتها رهف بضعف:
_أمي!
ومن بين نشيجها ردت بغضب:
_ماذا تريدين أنتِ؟!
وبألم مختلط بذعر أجابتها:
_ذراعي الأيسر تأبى التحرك!
وبدهشة نظرت عايدة إلى ذراع ابنتها لتراهاللمرة الأولى متيبسة تماما!
****

سعاد (أمواج أرجوانية) 26-08-20 08:10 PM

تابع الفصل الخامس:
عودة إلى الوقت الحالي:
استيقظت من شرودها في بحر ذكرياتها المظلم وهي تتطلع إلى ذراعها التي فاجأتها صباحا بتيبسها بعد أن قضت ليلتها شاردة في الصورة الأخيرة التي تركت ساري عليها..
مصدوماً، عاجزاً عن الكلام، وقراره لا يحتاج إلى تخمين..
وكأن مقولة "المصائب لا تأتِ فرادى" صادقة تماما!
اجتذبت ابتسامة رقيقة وهي تتطلع إلى الوجوه البريئة أمامها ثم تساءلت بصوت اصطنعت به المرح:
_إذن هل هناك منكم من لم يكتب اسمه على السبورة؟
هز الأطفال رؤوسهم نفيا وتعالت صيحاتهم المُحببة إلى قلبها، فابتسمت لهم ثم التفتت إلى اللوح الخشبي وهي تردد بصوت هاديء:
_مالك أحمد عادل.
_أسيل هاني محمد.
_إياد عَمَّار الناجي.
!!!
تَخَشبت ملامحها كما تخشب جسدها تماما وهي تحدق في الاسم الذي اخترق عقلها فأدركه قبل لسانها، ازدردت لعابها وهي تعيد الاسم بنبرة مرتجفة:
_إياد عَمَّار الناجي!
التفتت ببطء تبحث بعينيها عن الطفل اللطيف الذي استقبلته منذ بضعة أيام فقط فنظر لها بابتسامة بريئة وسألها مترقباً:
_هل كتبت اسمي بطريقة صحيحة آنسة رهف؟
ظلت على صمتها الذاهل لبعض الوقت بينما قلبها يرتجف وبالمثل صوتها وهي ترد:
_نعم إياد، لكن.. لكن هل هذا هو اسمك؟ أعني أن أبيك اسمه عَمَّار وجدك اسمه ناجي؟ أليس كذلك؟!
ازدادت ابتسامة الطفل اتساعا وهو يستشعر اهتمام المعلمة الخاص به فرد بنبرة مُتحمسة:
_لا آنسة رهف، أبي هو من يؤكد علي ترديد ذلك الاسم، لكنني أعلم أن اسمي كاملا هو..إياد عَمَّار شديد الناجي!
تردد الاسم في عقلها ليهتز جسدها بأكمله، شحب وجهها وهي تتطلع إلى الطفل الجميل باحثة عن ملامح سوداء مظلمة تكرهها وتخافها فلم تجد..
باحثة عن قسوة، حقد، نفور.. فلم تجد..
كيف؟! كيف تنتمي تلك البراءة إلى ذلك الوحش؟! كيفبأي طريقة تكون له به صلة دم؟!
لحظة!
أهذا يعني بالتبعية صلته بها؟!
أهذا يعني أنها تتعامل معه منذ أيام غافلة عن الرابط الذي يجمعهما؟!
لملمت أغراضها وبارتباك ثم خرجت مسرعة باعتذار واه للمشرفة، وأمام البوابة كانت تحاول لملمة شتات نفسها، وعندما ظنت أنها قد نجحت شعرت بانفلات دقات قلبها وانهارت أعصابها تماما وهي تراه أمامها مُحدقا بها بألم حائر لينطلق لسانها بنداء مستجد:
_ساري!
وجاءت الابتسامة الحزينة مقترنة بالرد الخافت منه:
_مرحبا يا مشعثة!
****
وأمام المشفى صف سيارته الجديدة ثم ربت على سطحها بحنو مُريب منطلقا إلى الداخل ومُطلقا صفيرا ناعما فأوقفه نداء هادىء:
_دكتور عَمَّار!
التفت إلى الخلف ثم انعقد حاجبيه بدهشة هاتفا:
_دكتور حمزة، أهلا بك.
تقدم منه حمزة بابتسامة ودودة ثم قال:
_أردت أن أتحدث معك بأمر ضروري.
رحب به عَمَّار وهما يعودان إلى الخارج مرة أخرى، وبأقرب مقهى جلسا ليبادره حمزة:
_لقد جاءت إليّ دينا، وعلمت منها أنك قد قابلتها، ويبدو عليها الذعر تماما.
هتف عَمَّار بحنق:
-عسى أن تعيش طوال عمرها كالفأر مذعورة.
ثم استدرك بحرج:
_آسف، أعلم أنها كانت زوجتك وربما...
قاطعه حمزة بهدوء:
_لا عليك، لم آتِ اليوم للتحدث بشأنها، بل جئت من أجل رهف.
عقد عَمَّار حاجبيه وهو ينظر إليه بتدقيق للحظات، ثم سأله بصرامة:
_أخبرني دكتور حمزة، ماذا تريد من أختي؟ ولماذا تهتم بها بهذا الشكل بالأساس؟
مط حمزة شفتيه بضيق واضح وهو يجيبه:
_لا أريد أن تجنح بخيالك بعيدا، رهف مثل أختي تماما، بالإضافة إلى أن تجربتي السابقة تجعلني أهرب بالأميال من أي امرأة مهما كانت هويتها، لكن.. لكن أنا مُدان لِرهف، وسأساعدها بقدر ما استطعت.
مال عَمَّار برأسه تجاه حمزة وهو يستند بذراعيه على الطاولة مُرددا ببطء:
_أحب أن أعرف عن هذا الدَين، أحب أن أعرف أي شيء يتعلق بأختي دكتور حمزة.
غامت عينا حمزة بحزن مشوب ببعض الغضب ثم زفر بيأس قبل أن يتكلم بخفوت:
_كنت أقطن مع دينا في الطابق الذي يعلو شقة أهلي.
توقف للحظة والألم يقفز بملامحه ثم تابع:
_والدتي .. والدتي قعيدة وتعاني أحيانا من نوبات صرع تتغير شدتها من نوبة لأخرى، لذا يجب أن يظل هناك مُرافق لها.
صمت مرة أخرى فشعر عَمَّار بالإشفاق عليه وهم بإيقافه لكن حمزة استكمل حديثه بنفس النبرة المُتألمة:
_وبأحد الأيام كنت أنا بالمشفى وحدث ظرف طارئ استدعى خروج أخي الأصغر من المنزل، هاتفتُ دينا كي تجالس أمي حتى أعود من العمل فوافَقَت غاضبة بعد أن ترجيتها، لكنها لم تكلف نفسها عناء النزول إليها ظنا منها أن أحد أشقائي سيعود أو ربما والدي، جاءت رهف مُحملة بالأطعمة التي ترسلها زوجة خالها، لتجد دينا بشقتنا، بينما صوت ارتطام أمي من فوق مقعدها يصل لأسماعها، أحضرت أحد الجيران الذي كسر الباب وانطلقت إلى أمي تحاول إنقاذها بينما الجميع يبتعد إلى الخلف عنها كأنها وباء، جئت أنا بآخر لحظة لأجد رهف قد أنقذت أمي من ابتلاع لسانها.
صمت حمزة محاولا التغلب على دمعات قاهرة تود الظهور دائما كلما ارتسمت بعقله صورة أمه ملقاة أرضا ورهف تحاول ستر ما يتكشف منها بعد أن فتحت فمها بالقوة وأخرجت لسانها من حلقها.
نظر له عَمَّار بأسف مُختلط بفخر بتلك الرقيقة التي ستنتمي إليه رغما عنها ورغما عن والده.
حمحم حمزة بخشونة وهو ينظر إلى عَمَّار مرة أخرى مستدركا:
_الآن أخبرني ماذا تنوي أن تفعل مع دينا.
ليحل الغضب عيني عَمَّار وهو يجيبه:
_تلك الحقيرة جاءت مع أمها لتبتز شديد بك حتى يجبر رهف على الرحيل من بيتها، أنا لا أعلم ما هو لكنني متأكد من مدى أهميته، لن يرضخ هو لهما إلا إذا كان ما يمتلكانه خطِراً للغاية.
ثم أردف بغيظ:
_ والآن أختي تعيش وحيدة منبوذة بسبب شيطانة وأمها، لكنني أريد أولا التقرب من رهف، أريد أن تسمح لي بالمحاربة من أجلها، أريد أن أتواجد من أجلها طوال الوقت.
زفر حمزة بتعب معقبا:
_لن تكون محاولتك معها سهلة عَمَّار، رهف تعاني فقدان الثقة بالجميع، خاصة بعدما اصطحب والدك هؤلاء المجرمين إلى خالها وعَلِمَت بتورط زوجته وابنته أيضاً.
شرد عَمَّار بعيدا وهو يردد:
_أعلم، أعلم تماما.
وبلهجة قوية مؤكدة خاطبه حمزة:
_أحببت أن أخبرك أنني معك ومع رهف، سأفعل أي شيء في سبيل إثبات نسبها ورد حقوقها.
ابتسم له عَمَّار بود شاكرا وهو يومىء برأسه شارداً في المُستقبل الضبابي...
لا يعلم هل عليه أن يشع بالقلق من موقف والده أم من موقف أخته نفسها!
****
"مرحبا يا مشعثة!"
تعلقت أنظارها به بدهشة وهي ترد بخفوت بأول شيء قفز إلى لسانها:
_مريم.. مريم ليست هنا اليوم أيضا.
افتعل نظرة حانقة وهو يرد:
من أخبرك أنني قد تبنيتها، كما أنني لست السائق الخاص بها وأعلم أنها ليست هنا اليوم، لكننيكالأمس_ لم آتِ من أجلها.
نظرت له بأمل حاولت وأده في مهده وبهدوء قلِق سأَلَته:
_ولِمَ جئت؟
ارتخت ملامحه المتألمة وهو يرد محدقا بها بحُب واضح:
_جئت أبحث عن إجابة لسؤال يؤرقني منذ فترة، ولكن.. ولكنني فكرت باحتمالية وجودها لديكِ أنتِ.
ازدردت لعابها وهي تسأله من بين أنفاسها الهاربة:
_أي سؤال؟
ليقترب خطوتين بعينيها غارقا مُتسائلاً:
_متى تعتقدين يا رهف أن الإنسان منا يدرك التقاؤه برفيق روحه؟ هل يُعقل أن يتعرفه منذ اللقاء الأول؟ هل يُعقل أن ترتبط أفكاره وخيالاته ومخططاته كلها بشخص لم يره إلا بضعة مرات؟ وهل من الممكن أن يكون ذلك الشعور متبادل؟
حدقت بعينيه وهي ترد بخفوت:
_أربعة أسئلة!
عقد حاجبيه بدهشة فأردفت بنفس النبرة:
_أنت قلت سؤالا لكنك سألت أربعة أسئلة!
فارتسمت النظرة المتوسلة بعينيه وهو يرد:
_إذن أجيبيني! أجيبيني رهف فأنا لا أفهم ما الذي يحدث لي!
وكان الرد الذي لم تفهم سبب تفوهها به يائسة:
_ساري!
ليهتف هو بصوت متقطع:
_سيُجن ساري!، سيُقهر ساري إن لم يفهم ما الذي يحيط به، أرجوكِ رهف أجيبيني!
أغمضت عينيها ألماً فأردف بألم مماثل:
_لماذا حدث ذلك؟ لماذا أشعر بذلك؟
أنا تائه، أنا لم أتعرض لذلك من قبل، دوماً ما حكَّمت عقلي بكل شئون حياتي، الآن لا أجد نفسي قادراً على استخدامه، الآن هناك ما يدفعني تجاهك منذ اللحظة الأولى التي رأيتك بها ولا أدري كيف أتصرف، أجيبيني رهف!
لتدمع عيناها وهي تفتحهما لترد بالكلمة التي فرضت نفسها بقوة:
_لقيطة!
ثم تابعت والدمعات تنهمر بغزارة :
_أنا لقيطة ساري، بدون أصل، بدون نسب، بلا أم وبلا أب.
توقفت وهي تهز كتفيها مُبتسِمة بسُخرية وهي تضيف مُتجاهلة الوجع الذي يزداد على ملامحه مُقترناً بوجعها مع كل كلمة تنطق بها:
_إن عَلِم أحد أولياء الأمور الذين يُعلمون أولادهم هنا بذلك سيمنعونهم من الحضور، إن عَلِم صاحب المعهد بذلك سيُقيلني على الفور، إن عَلِم صاحب الغرفة التي أقطن بها بذلك لن يسمح لي بقضاء ليلة إضافية بها.
توقفت مرة أخرى ولكن مُرغَمة، فالدمعات التي انحدرت من عينيها أخفت صوتها للحظات، ثم عادت تتابع بضياع:
_أنا .. أنا ليس لديّ أصدقاء، ليس لديّ أقارب، لا يوجد من يؤنس وحدتي، ليس لي إلا خال واحد تمت أذيته بسببي، يتهرب مني الجميع باشمئزاز كالمصابة بمرض مُعدي.
ارتفع صدره وهبط في تنفس سريع بينما وارت هي دمعاتها عنه بأناملها بينما استكملت بألم:
_ابتعد ساري!، ابتعد ولا تتعلق باعتقاد واه، أنا لا أؤمن برفيق الروح، لا أؤمن بتلك الأفكار الحالمة، أنا وحدي ومن الأفضل لي وللجميع أن أظل وحدي.
لتنتفض فجأة وهو يصرخ بها بصوت عال حتى نظر بعض المارين إليهما بفضول:
_أنا أؤمن رهف!، أؤمن بأن ما يحدث ليس مصادفة، أؤمن بأن هناك سببا ما لاحتلالك عقلي منذ وقعت عيناي عليكِ، أؤمن بأن الرجفة التي تصيب قلبي ما إن أتفوه باسمك وأنا وحدي ليست اعتقاد واه كما تدَّعين.
أسدلت أهدابها بِقهر فتابع بِرجاء:
_ انظري إليّ رهف! أنا لست مراهقا، عمري اثنان وثلاثون عاما قضيتهم أركض ليلا نهارا كي أعول أسرتي حتى نسيت أنني إنسان، لديّ حياة، ولديّ قلب، قلب اعتقدت أنه لن يوجه مشاعره يوما إلا لأفراد أسرته، حتى ظهرتِ أنت! ليصرخ نفس القلب مُطالباً بالانتباه لِما يجيش به، ليصرخ مُهللا بلقاء لم يتخيل وقوعه أبدا.
ثم أردف بِصدق:
_ سأخبرك صراحة رهف، منذ أن رأيتك بالشركة وخلال دقائق معدودة تفاعل معك كياني كله في بادرة لم تحدث مطلقا ، اعتقدت أنه إعجابا أو انجذابا عابرا لكن الأيام التالية أثبتت لي أن ظهورك بحياتي سيكون مغايرا لذلك الاعتقاد.
صمت للحظات ثم تابع بنظرة قاتمة وبنبرة يشوبها العذاب:
_سيكون كاسحا، وربما مؤلما.
رَفَعَت رأسها تنظر إليه بِقلق لكنه أضاف بتصميم:
_لكنني لا أهتم رهف، ما حدث قد حدث بالفعل، وما أشعر به وما يجب علي القيام به لا أملك عنهما تراجعا.
أخفضت رأسها تحاول التهرب بدمعاتها التي عادت أشد، بينما قلبها ينتحب بألم وصدى كلماته تقع به وتتخلله تماما، يريد الإعلان عن نفسه، عن دقاته، عن احتياجه لحنان غامر يفيض بكثرة من عينين راجيتين.
تابع هو مناديا بخفوت:
_رهف!
واسمها الذي انطلق بعذوبة من شفتيه زاد في حيرتها فَرفعت رأسها تنظر له بضياع، ثم هَزَّت رأسها رافضة:
_لا ساري! لا! أنا لا أقبل لك العار، لا أقبل لك الإهانة، وحتما أنت لا تتقبلها على أفراد أسرتك الذين تحبهم وتهتم لأمرهم، دعني وشأني ساري ولا تحاول رؤيتي مرة أخرى.
وانطلقت متجاوزة إياه مطلقة أنينا خافتا كرداً ضعيفاً على صراخ قلبها الغريب ب..حبه!
لكنها لم تتوقع إصراره وهي تجده واقفا أمامها مرة أخرى مدققا بها بصرامة ثم قال:
_أتعتقدين أن الأمر هين؟! أتعتقدين أنني لم أفكر منذ الأمس بكيفية المواجهة؟!أعلم تماما أننا سنتعرض لصعوبات كثيرة، لكن أنتِ لم تعرفيني بعد، وإن كان هناك درسا مبدئيا أريدك أن تستوعبيه عني، هو أنني أستطيع فعل الكثير في سبيل تحقيق أهدافي، مهما كان الطريق طويلاً وعراً محفوفاً بالمخاطر، فلا أسمح لأيٍ كان أو لأي شيء بالحول دونه.
وأمال رأسه مرددا بنبرة خافتة:
_وبتلك اللحظة أنتِ أهم أهدافي رهف!
جف حلقها وهي تحدق بعينيه الحنونتين اللتين اختطفتاها تماما للحظات، لكنه عقد حاجبيه وارتسمت شِبه ابتسامة على شفتيه وهو يدقق بها مرددا بخفوت:
_يا لجمال أهدابك! سبحان الله!
وتورُد وجنتيها طرد الشحوب تماما بينما ظهرت الابتسامة على وجهه مُكتمِلة ماكرة قائلا:
_بالمناسبة، أنتِ مدينة لي بترجمة!
عقدت حاجبيها بدهشة متسائلة:
_م..ماذا؟!
تظاهر بالحنق وهو يعود برأسه إلى الخلف قائلا:
_" أنا لا أفهم ما الذي يحدث لي، لكنني أفكر بك طوال الوقت، هلا خرجتِ من عقلي قليلا كي أستطيع التركيز بعملي يا مشعثة؟!"
ألم أطلب منكِ ترجمة تلك العبارة سابقاً؟ الخدمة لديكم سيئة للغاية وسأرفع شكواي للمدير.
الوجنتان تزدادا تورداً، والقلب يرقص بصخب، ولا تجد ردا فيعاود هو هجومه بلا رحمة، قائلاً بخفوت:
_لكن هناك تعديل بسيط: الآن فهمت ما الذي يحدث لي، ولا أريدك أن تخرجي من عقلي أبدا يا مشعثة!
ونبرتها خرجت متظاهرة بالحنق تخفي فرحة عارمة وخجلاً هائلاً:
_كُف عن مناداتي بالمشعثة!
رفع أحد حاجبيه يغيظها:
_لكنِك بالفعل كذلك!
وقبل أن تقتل فرحته برد مستفز آخر أخرج من جيب سترته شيئا وقدمه إليها، نظرت لكفه بفرحة ثم رفعت أنظارها له متسائلة بغباء:
_ما هذا؟
ليجيب متظاهرا بالدهشة:
_إنها إحدى أنواع الحلوى الشهيرة يطلقون عليها اسم الشوكولاتة، ألم تتذوقي مثلها من قبل؟ لحظة! ألم أحضر لكِ مثلها من قبل يا جاحدة؟ هل ستنكرين ما أقدمه لكِ بدءاً من الآن؟!!
وهربت منها ضحكة خافتة ليبتسم هو مرددا بهمس متألم للغرابة أثار رجفة بكامل جسدها:
_قاتلتي أنتِ يا رهف! يوما ما ستكونين قاتلتي!
بلهجة ملهوفة ردت وهي تهز رأسها رفضاً:
_بعيد الشر عنك ساري، حفظك الله وأدامك.
وعادت النظرات الصامتة بينهما حتى قطعتها هي بتوتر:
_اسمع ساري! سأطلب منك طلبا، لا تأتِ إلى هنا ثانية، أنا.. أنا لا أريد أن يتحدث عني أحد بـ..
رنت في أذنيها العبارة الصارمة الخافتة مقاطعة:
_أويجرؤ شخص على مَسِّك بسوء؟! أنتِ منذ الآن تنتمين إليّ أنا رهف، وقريبا سيعلم الجميع بذلك، ستصبحين لي قلبا وقالبا!
ثم ضيق عينيه بحذر وهو يدقق بذراعها المستقيمة وسألها:
_لماذا تحملين كل أغراضك بذراع واحدة، ولماذا ذراعك الأخرى متصلبة هكذا؟!
نظرت له بِتوجس وهي تفكر... عيب آخر ساري! نقص آخر وعلة أخرى ملتصقة بي؛
وتوترت ملامحها وهي تشعر بقلق يكتنفها، ثم تهربت بعينيها للحظات بينما هو منتظر إجابتها باستغراب فَرَفَعت رأسها وبِحذر خاطبته:
_لدى ذراعي اليسرى عادة، إن طرأ عليّ شيء جديد، خبر محزن، أو صدمة ما، تتوقف عن الحركة بضعة أيام ثم تشفى وحدها بالتدريج.
وازداد قلقُه بعينيه وهو يسألها باهتمام:
_وماذا قال الطبيب؟
هزت كتفها الأيمن بلا اكتراث مجيبة:
_سببها نفسيا، ليس لها علاجا موضعيا.
حدق بها بضعة لحظات صامتا ثم بعينيه المبتسمتين بحنان وعدها:
_سأهتم بنفسي مستقبلا على ألا تعاودك تلك الحالة، هذا وعد مني!
أومأت برأسها والتوتر يكاد يقتلها، وبدون أن تلقي عليه سلاما رحلت وبلوح الشوكولاتة متشبثة!
****

سعاد (أمواج أرجوانية) 26-08-20 08:11 PM

تابع الفصل الخامس:
استقلت المقعد المجاور له بعدما أحكمت حزام الأمان حول جذع ابنها بالمقعد الخلفي بينما صاح الصغير مُهللاً :
_اشتقت إليك أبي.
التفت إليه مطلقا قبلة طائرة وهو يرد:
_وأنا أيضا إياد، اشتقت لكما جدا.
تظاهرت بعدم الاهتمام وهي تتطلع إلى الخارج من النافذة فبادرها بنبرة مُتمَهِّلة:
_كيف حالك مَوَدَّة؟
بنبرة لامبالية ردت:
_أنا بخير، الحمد لله.
انطلق صوت إياد المتحمس:
_هل هذه سيارتك الجديدة أبي؟
وبفرحة لم يحاول إخفائها رد عَمَّار:
_نعم إياد، ما رأيك بها؟
مط الطفل شفتيه وهو يجيبه بينما يدور بعينيه في أنحاء السيارة:
_سيارتك الأخرى كانت أكبر!
فصاح به معترضا:
_لكن هذه لونها أزرق!
وكأن تلك الإجابة كانت كافية لإياد الذي لمس فخر والده الشديد باقتنائها، بينما اختلست مَوَدَّة النظرات له بجانب عينيها مندهشة.
أفقد عَمَّار رشده أم ماذا؟! أين العابس الكئيب الذي يقطر حزنا وألما؟! أكل تلك الفرحة لأنه غير سيارته! عوجت شفتيها بلا رضى وهي تعود إلى مطالعة الخارج بينما انهمك عَمَّار وإياد في حوار ما حتى انتبهت إلى عبارة إياد:
_اليوم جعلتنا الآنسة رهف نكتب اسمائنا باللغة الإنجليزية على السبورة.
نظر كلا من عَمَّار ومَوَدَّة لبعضهما ثم التفتت مَوَدَّة تخاطب ابنها:
_وهل كتبت "إياد" بطريقة صحيحة؟
رد الطفل بفخر:
_بل كتبت اسمي كله، ويبدو أن الآنسة رهف كانت فخورة بي بشدة حيث نادتني أنا وحدي وجعلتني أعيد اسمي أمامها كاملا.
ثم صمت الولد غير مدرك لتصلب والديه فاستدرك بنبرة معتذرة:
_آسف أبي، أعلم أنك طلبت مني أن أعلن أن اسمي إياد عَمَّار الناجي، لكني لم أرغب بأن تعتقد الآنسة رهف أو أصدقائي أنني لا أعرف اسمي كاملا.
ردت مَوَدَّة بنبرة حاولت إخفاء القلق بها:
_لا عليك إياد، أنت ولد مجتهد وبالتأكيد الآنسة رهف فخورة بك.
عم الصمت السيارة طوال الطريق وعَمَّار يقود عابس الوجه بعقل مُزدحِم بالأفكار والأسئلة..
ما شعورها عندما اكتشفت صلة قرابتها بابنه؟ ما رد فعلها تجاهه؟ أهناك أمل في أن يتسبب إياد في التقريب بينهما؟
ظل شارداً حتى وصلوا إلى الشقة الجديدة، انطلق إياد يتأمل أركانها بحماس ، بينما بحثت مَوَدَّة عن عَمَّار لتجده جالسا فوق الأريكة بغرفة الجلوس واضعا رأسه بين كفيه، اقتربت منه وجلست بجواره تطالعه بإشفاق ثم بادرته:
_كنت تعلم عَمَّار أنها ستدرك وجودك حولها إن آجلا أو عاجلا، ولهذا اقترحت عليك أن تجعلها تتعرف على إياد أولا.
وبصوت مكتوم رد:
_لكني لست مستعداً مَوَدَّة، لن تتقبلني الآن.
وبدون إدراك أمسكت بكفيه تبعدهما عن رأسه وهي تهتف به بحزم:
_اسمع عَمَّار! أبوك قد ظلم أختك لسنوات، زوجة خالها وابنتها ظلمنها لسنوات، المجتمع كله ظلمها وسيظل يحاسبها بسبب ذنب لم ترتكبه إلى الأبد، أنت أخوها الأكبر والأحق بالدفاع عنها واستجلاب حقها من الجميع، أنت لن تعود الآن لتلك الحالة من التردد والضياع.
صمتت لتجتذب شهيقا عميقا ثم تابعت بِقوة:
_لقد تغيرت يا عَمَّار، تركت أبيك، تخلصت من سطوته، تخلصت من سيارته الرمادية الباهتة، أنت بدأت في بناء شخصية قوية مستقلة تخصك وحدك فلا تتراجع أبدا، اجعل أختك فخورة بك، واجعل ابنك فخور بك!
حدق في عينيها الجميلتين بتدقيق يتشرَّب الحزم المُنبثِق منهما وهو يسألها بخفوت:
_وأنتِ! أتفخرين بي مَوَدَّة؟
بابتسامتها الجميلة ردت مؤكدة:
_بالطبع! ليس من الشائع أن ينتفض رجل بسبب الظلم فيستبدل كل المال والقوة ويبدأ مجددا، ولا القصر الكبير بتلك الشقة المتوسطة.
وبنبرة مازحة أضافت:
_ولا السيارة الرمادية الفخمة بتلك الزرقاء الرياضية!
سألها بقلق:
_ألا تعجبك الشقة؟ أعلم أنني كان يجب عليّ طلب رأيك بها أولا لكنني أردت أن أفاجئك.
تظاهرت بالحنق مجيبة:
_وهل استطعت أن أتفحصها؟! أنا لم أر أبعد من تلك الغرفة!
لم يستجب لمزاحها وهو يدقق النظر بها قائلاً:
_أتعلمين؟! حينما اكتشفت وجود رهف كنت أدرك تماماً ردة فعل أبي وأمي الرافضة وتجهزت لذلك وهيأت كل شيء لاستقلالنا، توقعت أيضاً قلق تغريد وترددها، لكنني لم أهتم.
صمت للحظات يتأمل جمال وجهها وتابع مُكملاً:
_ما كان يُثير خوفي هو موقفك أنتِ، لأجدني أعترف لنفسي بأنه الوحيد الذي عليّ القلق بشأنه.
ارتسمت الدهشة على وجهها فأضاف هو حازماً:
_وحينما أخبرتك اعتقدت أنني سأمنحك الاختيار، لكنني أدركت أن لا خيار في وجودك معي، ليس من أجل إياد فقط، بل لأنني لا أقوى على البقاء دونك مَوَدَّة.
ولما انعقد لسانها في حلقها ابتسم لها متجولا في ملامحها ثم همس:
_أين كنتِ من قبل مَوَدَّة؟ بل أين كنت أنا؟
لم تجد إجابة مناسبة، خاصة وهو ينظر إليها بتلك الطريقة التي لطالما حَلِمَت بها..
وخاصة وهو يزداد اقتراباً منها بطريقة تُنذِر بالخطر!
فأشاحت بوجهها بتوتر قائلة:
_آ.. سأذهب للداخل كي أرتب أغراض إياد، بعد إذنك!
وانتفضت متهربة من نظراته التي لم تعتدها منه أبدا متسائلة عن مدى صحة قرارها بمساعدته في استعادة أخته..
أما هو فقد ظل مُحدقاً في إثرها والأمل ينبت بقلبه بلا قيود؛
لقد كان خائفاً أن تتخذ مَوَدَّة نفس موقف والدته وتنبذها وترفض ظهورها؛
كان متوقعاً أن تبتعد مصممة على الطلاق إن تسبب بالفضائح رغبة منه في إعلان أخوته لرهف؛
لن ينس أبداً صدمته ذلك اليوم في فيلا والدها عندما أخبرها عن الحقيقة قلِقاً، فنهرته لانتظاره كل ذلك الوقت قبل أن يضم أخته إليه!
وهي..
تعلم أن قلبها سيتضرر أكثر بقربه، لكنها لن تتخذ موقفا سلبيا تجاه تلك المسكينة التي أدركت سبب نظرتها الضائعة بالمرة الوحيدة التي التقتها بها.
.......
وبعد أن رتبت أغراض ابنها بغرفته اتجهت إلى الغرفة الصغيرة التي عزمت على جعلها غرفتها، وبينما هي منشغلة بترتيب ملابسها بخزانتها إذا به يدخل رامقا إياها بدهشة هاتفا:
_ماذا تفعلين مَوَدَّة؟ الغرفة الرئيسية بآخر الممر، هذه غرفة إضافية لرهف ما إن تأتي لتقيم معنا.
حدقت به كأنه أبله فبادلها التحديق باعتقاد مماثل، لكنها ردت أخيرا:
_أعلم أن غرفتك بآخر الممر، تلك غرفتي أنا، سنحاول تدبير الأمر عندما تأتي رهف.
أغمض عينيه مدركا ما تناساه في خضم الأحداث الأخيرة، ليفتحمها زافرا بيأس وهو يتقدم منها بتمهل، حتى توقف أمامها مرددا بنبرة مشددة:
_اسمعيني جيدا مَوَدَّة! أدرك تماما أن بدايتنا لم تكن طبيعية، أدرك أنني ظلمتك كثيرا، وأدرك أنكِ تحملتني لسنوات، وأنا الآن أرغب ببداية جديدة بجميع أركان حياتي، وخاصة معِك!
نظرت له بصدمة فبادلها النظر بتصميم، لكنها ما لبثت أن دمعت عينيها قبل أن ترد رافضة:
_لا أستطيع عَمَّار، لا أستطيع أبدا، أعذرني! إن كان أمر قلبي ليس بيدي فأنا لن أقوى على خذلان كرامتي أكثر.
توقفت لبرهة تستنشق أنفاساً تحتاجها بشدة ثم تابعت بألم:
_ سبعة سنوات عَمَّار، سبعة سنوات من الترقب والانتظار، من الحُلم والتمني والتخيل، لقد كان قلبي يئن متوسلا إياك كل ليلة أن تسمعه وتشعر بآلامه، لكنك صممت أذنيك عنه حتى ما عاد ينتظر أو يأمل أكثر، والآن أنا لا سلطة لي على عقلي الذي يرفض وجودك بصفة أبعد من الصديق ووالد الابن، آسفة عَمَّار، آسفة!
وانتقلت الصدمة إليه وهو يُحدِّق بها..
لقد انذوت الوردة العسلية وذبلت بسبب انعدام بصيرته وبصره؛
أهذه هي مَوَدَّة التي كانت ضحكاتها طفلة تسعد يومه؟!
وكانت مكائدها مراهقة تثير أعصابه وتلقي ببعض الحركة في مياة حياته الراكدة؟!
ما الذي فعله بها؟ وكيف أطفأ الأمل بعينيها بمنتهى قسوته؟!
أحاط وجهها بكفيه وهو يرمقها بتصميم قائلا بهدوء:
_اسمعيني أنتِ جيدا مَوَدَّة، أعلم أن أخطائي بحقك طوال تلك السنوات لن تُمحى بلحظة، أعلم أنكِ عانيتِ معي وبسببي كثيراً في صمت، وأعلم أنكِ تحملتِ انفصالنا الغريب وحياتنا الفارغة الجافة بصبر تام، وبالرغم من ذلك فقد قررتِ مساعدتي حتى أجتمع بأختي.
صمت لوهلة ثم اتسعت عيناه بتحذير مُستكمِلاً:
_لا تظني مَوَدَّة أنني سأتركك، لا تظني أنني سأسمح لكِ بالابتعاد عني.
صمت ليزدرد لعابه ثم قال بخفوت يصرخ بالصدق:
_أنتِ يا مَوَدَّة لا تعلمين كيف شعرتُ أنا عندما خلا المنزل منكِ، لقد اكتشفت أنني سلمت بوجودك بحياتي لسنوات غير مدرك لأهميتك لدي حتى فقدتك.
وتوقف قليلا ملتقطاً أنفاسا هاربة ثم أردف بصوت مبحوح:
_يوم تركتِني فقدتُ أنا روحي، ولم تعد إليّ إلا بعودتك، أنتِ روحي، أنتِ حقا روحي ولديّ غالية!
أغمضت عينيها وهي تحاول استيعاب ما قاله للتو..
"لا تستيقظي الآن أرجوكِ!"
"لا تهدري تلك اللحظات الاستثنائية!"
هكذا توسلت نفسها معتقدة أنها بداخل حلم جميل، لكنه نزع يديه عن وجهها ففتحت عينيها لتطالعه وهو يبتعد للخلف خطوات مبتسما بتوتر هاتفا:
_لكن أنا لن أضغط عليكِ، لن أطالبك بقرب لا تريدينه الآن، سأصبر مثلما صبرتِ أنتِ، ومن أجلِك وحدك سأنتظر!
ثم أردف بِجدية زائفة:
_عندما تنتهين من الترتيب تعالِ لأخبرك بالقرار الذي اتخذته.
أدركت الآن وهو يخرج من الغرفة أنها بالفعل مستيقظة، لقد كان عَمَّار للتو هنا، يخبرها أنه افتقدها، يخبرها أنها روحه وأنهاكما تمنت طوال عمرها لديه غالية!
****
"أحياناً أخاف من عينيك ساري!"
أجفل وهو ينظر إلى أمه التي خاطبته بهدوء بينما تمد يدها بكوبا من الشاي، أخذه منها مقبلا يدها بامتنان فربتت فوق شعره بحنان بالغ بينما ارتسمت الشقاوة المحببة بعينيه وهو يرد مازحاً:
_ليس هذا رأي الفتيات أمي، فإنهن يجدن عيني ساحرتين!
وكزته في إحدى كتفيه فضحك باستمتاع لتنظر هي إليه بحب وفخر..
بالرغم من أنه ابنها الأكبر إلا أنه لطالما كان المسئول عن كل ما يخصهم منذ صغره، هو العامود الذي تستند عليه تلك الأسرة، هو حصنها وآمانها.
_ما بك ساري؟ لِمَ أنت شارد اليوم؟
نظر لها بتردد ثم زفر بيأس وقال بهدوء:
_تعلمين أمي أنني أفتديكما بروحي، تعلمين أنكما أغلى ما أملك، وتعلمين أنني في سبيل راحتكما مستعد أن أفعل الكثير مهما كان.
عقدت حاجبيها بدهشة مجيبة:
_أعلم حبيبي بالطبع، حفظك الله لنا!
لينظر في عينيها بتوسل قائلا:
_طوال سنوات عمري وأنا لا أفكر إلا بسعادتكما وتعويضكما عن الحاجة، لكن.. لكن الآن أمي أنا من أريد شيئا ما، وبشدة، بإمكانك القول أنني لن أجد راحة إلا به!
طل القلق من عينيها بوضوح وهي تميل عليه متسائلة:
_أخبرني ساري، ماذا حدث؟ ماذا تريد؟
وبصوت خافت كانت الإجابة:
_أريدها أمي، بكل كياني أريدها!
انشرحت ملامح أمه ببسمة متشوقة ثم هتفت:
_إذن أنت لم تكن تمزح! هناك فتاة بالفعل؟
ليومىء برأسه بجمود مرددا:
_هناك فتاة أمي.
فازدادت سعادة ملامحها وهي تهتف به:
_الحمد لله! أخيرا سأحضر زفاف أحد أبنائي!
وقبل أن تستغرق في فرحتها عاجلها ساري بصوت قلِق:
_هناك مشكلة أمي!
انعقد حاجبيها بوجل وهي ترمقه فتابع مفجراً مفاجآته مرة واحدة:
_الفتاة كانت تعيش مع خالها، والآن تقيم وحدها، أمها متوفاة منذ زمن، وأبوها لا يعترف بها!
****
كانت تدور في غرفتها والحيرة تقتات على مشاعرها، أيعقل أنه بالفعل يحبها؟ هو لم ينطق لكن عيناه أقسمتا بها!
لم تتخيل بحياتها أن ينظر لها رجلا بذلك العشق خاصة إذا أدرك مصيبتها، أيعقل أنها من الممكن أن تحصل على مستقبل معه؟
بيت بسيط؛
زوج رائع؛
أطفال صاخبين بعيون خضراء وأهداب مشعثة!
ضحكت بسعادة وهي تغرق في بحور تخيلاتها، حينما انتشلها منها صوت رنين جرس الباب الضعيف..
"بوقتك تماما خالي صلاح !"
هكذا هتفت وهي تحيط وجهها بحجابها بعشوائية تحسباً ثم انطلقت إلى الباب وفتحته مبتسمة بسعادة غامرة لكنها بلحظة تسمرت:
_مرحبا رهف!
ضيقت عينيها بشك وهي تدقق النظر بالزائر، ثم ما لبثت أن أدركت أين رأته من قبل فشحب وجهها على الفور..
وبنبرة مرتعدة تساءلت:
_إنه أنت! ماذا تريد مني؟! وكيف تجرؤ على الحضور إلى هنا؟
ازدرد لُعابه بارتباك، وبابتسامة حنونة مشتاقة شابها توسل، أجابها:
_أنا عَمَّار الناجي، أخوكِ!
** نهاية الفصل الخامس**

سعاد (أمواج أرجوانية) 30-08-20 07:59 PM

مساء الخير حبيباتي
معادنا مع الفصل السادس
*****

الفصل السادس
صِراع
قبل عدة سنوات:
بعد أن انصرف آخر مؤدِ لواجب العزاء جلس صلاح مربتا على رهف التي نامت بأحضانه بعد أن أعيتها شدة البكاء، أخذ يدعو بالمغفرة والرحمة لأخته التي انتقلت إلى رحمة ربها بعد معاناة كبيرة مع الاكتئاب انتهت بانتحارها.
عاد بذاكرته إلى تلك السنوات المُضنية، منذ فرارهما من أذى ذلك الحقير ورفضه تطليقها كعقاباً لها على الوشاية بزواجهما لديه، ثم نبذه طفلته بعدما أظهر عدم اهتمامه بتهديدها إياه!
لقد عاتب شقيقته ونهرها لسنوات بلا فائدة؛
ها هي قد سقطت في بحور آثامها حتى الأعمق وإلى أنفاسها الأخيرة!
جلست شروق بجانبه فجأة متأففة:
_أخيراً انصرف الجميع؟! لقد كاد رأسي أن ينفجر!
لم يبد على صلاح أنه استمع إلى عبارتها فنادته بتصميم:
_صلاح، فيمَ أنت شارد؟
نظر لها والألم ينضح من ملامح وجهه، ثم هبط بأنظاره إلى تلك النائمة مردداً:
_أفكر بتلك المسكينة وما ستعانيه مستقبلا.
وبنبرة يشوبها القلق ردت هي:
_بل يجب أن تفكر فيما سنفعله معها، من سيتولى تربيتها؟
ضيق عينيه بعدم فهم فتابعت مهددة:
_لا تخبرني صلاح أنها ستقيم معنا، لقد تحملتها مع أمها لثمانية سنوات كاملين، لكنني لن أسمح بتواجدها معنا أكثر، أبوها على قيد الحياة ويجب أن يتحمل مسئوليتها.
رد صلاح بذهول وهو ينظر لها وكأنها مجنونة:
أنتِ تعلمين أنه رافض الاعتراف بها، وأننا ليس لدينا ما نثبت أبوته لها بعد أن فقدت عايدةرحمها الله_ العقد، بالإضافة إلى أنني خالها وليس لديها سواي، أين ستذهب تلك اليتيمة؟
انتفضت شروق واقفة وهي تصرخ:
_وما خصني أنا؟ لِمَ أتحمل تربيتها؟ هي ليست ابنتي.
ليرد هو بصوت منخفض بعد أن تململت الفتاة بجواره:
_وفيمَ تتعبك هي؟ إنها هادئة لا تثير المتاعب، حتى صوتها لا نسمعه، كما أنني أعلم أنها تقوم بكافة مسئولياتها بالإضافة إلى مسئولياتك أنتِ وابنتك أحيانا!
لتصرخ بنبرة أعلى جعلت الفتاة تهب جالسة مستيقظة بذعر:
_أنا لا أريدها! لا أريدها ببيتي تأكل من طعامنا وتنفق أنت على تعليمها من دخلنا القليل، أريد أن أنجب أخا أو أختا لابنتي يكون لها سندا بالمستقبل، لا أريد لتلك اللقيطة أن تلطخ بيتنا أكثر.
ليقف أمامها صلاح متحدثا بحزم:
_اسمعي شروق وافهميني جيدا! ربما أنا أخبرتك أنني لا أريد أطفالا آخرين خشية الحاجة المادية، لكنني في الواقع لم أشأ أن أخبرك بأنني أخاف إنجاب آخرين منكِ، فأنا أرى بوادر نبتتك التي تتضح بسلوكيات ابنتي، لا أريد فردا أنانيا آخر في ذلك المنزل، وأفضل تكثيف جهودي في إصلاح ما ستفسدينه أنتِ بدينا، واعلمي جيداً أن رهف مسئولة مني أنا، ولن أتركها ما حييت، والآن لا أريد منكِ التفوه بحرف واحد بذلك الشأن.
ثم جذب ابنة أخته التي لا تعي ما يحدث حولها لكنها تشعر أنها قامت بخطأ ما لا تدري كنهه بسبب نظرات زوجة خالها التي تزداد كراهية وحقداً.
ومنذ ذلك اليوم بدأت معاناتها الحقيقية في بيت خالها على أيدي زوجته وابنته، فأقل خطأ كان يستوجب عقابا بالضرب ويصل أحياناً إلى التقييد في عامود الفراش حال خروج الخال إلى عمله ، مع تحذير صارم بإخباره لأنها حينها ستتذوق من العذاب ألوانا.
****
"إلى أين أنت ذاهب يا عاصم؟"
توقفت يده فوق مقبض الباب بعد أن كان يهم بإغلاقه ثم أجاب أبيه باقتضاب دون أن يلتفت إليه:
_ذاهب إلى أمي.
اقترب منه متسائلا بحرج:
_كيف حالها؟
تسارعت أنفاسه ثم ما لبث أن صفع الباب بقوة وهو يستدير إليه والغضب يتقافز من عينيه هاتفا:
_بخير أبي، هي بخير، ربما ضريرة بعض الشيء ولا تستطيع التحرك خطوة بمفردها، لا تستطيع تناول الطعام ولا الذهاب إلى المرحاض ولا الاغتسال ولا تناول دوائها إلا بمساعدة..
صمت يلتقط أنفاساً يُهدىء بها ثورته الداخلية ثم تابع بحسرة:
_ أوتعلم من يساعدها؟ ابنة زوجها المتوفى، وأنا هنا ابنها الوحيد أمارس حياتي بصورة طبيعية بكامل صحتي ولياقتي وأستأنس بك وبأختي، عدا ذلك فهي بخير تماما!
تهرب أبوه من عينيه بندم واضح والتزم الصمت، وبعد عدة ثوان زفر عاصم آسفاً مرددا بخفوت:
_أعتذر! لم أقصد أن أكون وقحا.
أومأ أبوه رأسه بلا تعبير وهو يرد:
_لا عليك بني، اذهب إلى أمك واعتنِ بها.
ثم أولاه ظهره واتجه إلى غرفته بخطوات متثاقلة، فظل هو واقفا يتمزق بين الغضب والندم..
غضب من أبيه الذي تسبب في حرمانه من أمه طوال تلك السنوات ولم يعترف بحقيقة ما حدث إلا حينما صمم هو؛
وندم لأنه للمرة الأولى بحياته يرفع صوته أمامه؛
لكنه سرعان ما تخلص من كليهما وانطلق مشتاقاً إلى أمه.
****
"أهو نوع جديد من المزاح ساري؟! لأنه سخيف جداً!"
ارتسم الإصرار في نظراته وبهدوء أجابها:
_لا أمي، أنا لا أمزح، ما أخبرتك به هو الحقيقة كاملة، الفتاة وحيدة تماما.
هَبَّت أمه واقفة تصيح به:
_هل هذا ما يهم الآن؟ أتريد إحضار فتاة لقيطة تعيش بمفردها إلى بيتي؟ مع شقيقتك؟ أتعلم عنها أي شيء؟ عن أخلاقها؟ عَمَّ تفعله بالخفاء؟ هل فقدت عقلك ساري؟!
وبنفس الهدوء الذي بدأ باستفزازها وقف أمامها وهو يرد:
_أعلم أنها معلمة محترمة، تعلم ابنة أختك التي تحبها بشدة بالمناسبة، أعلم أنها بغاية التهذيب وأخلاقها عالية وربما تتسم ببعض السذاجة والكثير من البراءة، أعلم أنها ضعيفة هشة عانت ماضياً أسوداً وتعاني حاضراً مظلماً، وربما مستقبلاً أكثر قتامة، لكنني أريدها هي فقط أمي.
دمعت عيناها مخاطبة إياه بتوسل:
_فكر بغيرها بني، لا يهم أي واحدة تختارها، فقط لها أصل ونسب.
تدخلت سارة التي التزمت الصمت بجانب باب الشرفة منذ البداية هاتفة باندفاع:
_وما ذنبها أمي؟ ما ذنبها في طريقة مجيئها إلى هذه الدنيا؟ هل سألها أحد عن رأيها؟ إن كانت بالفعل على خلق ودين ما الذي يمنعه من الارتباط بها؟
نهرتها أمها صارخة:
_اسكتي سارة ولا تتدخلي!
تقدمت سارة حتى وقفت بجانب أخيها متشبثة بكفه بقوة ثم قالت بِعِناد:
_لا أمي، إن كنتِ تعتبرينني لساري مجرد أخت صغرى فأنا أعتبره أبي، لقد خاض الكثير من أجلنا وحقق كل أحلامنا، وهو أبدا لم يتمن شيئاً لنفسه، كما أنه ليس ساذجا أيضا، اتركيه يخوض تجربته، عسى أن تكون تلك الفتاة له تعويضاً عن شقائه منذ الصغر.
شبَّك ساري أصابعه بأصابع أخته وهو ينظر لها بامتنان شارداً، نقلت سوسن أنظارها بينهما بحسرة وهَزَّت رأسها رفضاً ثم خرجت من الشرفة حانقة، التفتت سارة إلى ساري هاتفة بمرح مفتعل:
_الآن ستسرد عليّ منذ البداية قصتك مع تلك التي سرقت قلب أخي، بالفعل ساري لم أتخيل أبدا أن تسقط صريع الحب، اعتقدت دائما أنك عندما تقرر الزواج ستختار فتاة مملة لتنجب منها بعض الأطفال وتدبر لي المكائد فأُكدر صفو حياتها، لكن على ما يبدو أن هناك من قضت على أحلامي!
أدرك محاولتها المزاح معه كي تهون عليه الحالة البائسة التي وضعته بها أمه برفضها، لكنها فشلت بجدارة، فقد أولاها ظهره وهو يحدثها بنبرة حزينة:
_اعذريني سارة، أريد أن أبقى قليلا بمفردي.
زفرت بضيق ثم طبعت قُبلة حنونة على ظهره وخرجت رامقة إياه بحزن.
أما هو فقد تمسك بسور الشرفة وهو يعاني صراعا يتغذى على قلبه وعقله وروحه، ضغط أسنانه بشدة وأغمض عينيه هامسا بعذاب:
_اعذريني أمي، لم يعد باستطاعتي التراجع!
****
في عمر التسعة:
ذات يوم عادت من المدرسة رأساً إلى غرفة خالها، وسؤال واحد يؤرقها منذ الصباح..
وبالتحديد منذ أن رأت إحدى زميلاتها تصطحب شقيقتها من أمام فصلها الدراسي بعد أن تشاجرتالأولى مع أحد الأولاد الذين أزعجوا الصغيرة..
بحزن سألته:
_خالي! ألن يكون لي إخوة يوماً؟
بألم أجابها:
_أنتِ لديكِ أخ بالفعل رهف.
بفضول فَرِح سألته:
_أين هو؟ وكم عمره؟ وما اسمه؟
بقهر أجابها:
_ببيت والدك، يكبرك ببضعة أعوام، اسمه عَمَّار شديد الناجي!
........
"عَمَّار الناجي، أخوكِ!"
العبارة البسيطة تتردد في ذهنها بتكرار رتيب وتزامُن مع ذكرى بعيدة جداً لاكتشافها الأول بوجود أخ لها..
أخ انتظرته طفلة أمام نافذتها كثيراً ولم يأتِ؛
أخ انتظرته مراهقة كي ينقذها من قسوة زوجة خالها وابنتها ولم يأتِ؛
أخ انتظرته شابة أن يضمها إليه مُذيقاً إياها حنان لطالما تساءلت عن ماهية الشعور به فلم يأتِ؛
إلى أن جاء أبوه ليُلقنها وخالها درساً ففقدت الأمل به ولم تنتظره أكثر، بل وتمنت ألا تراه مطلقاً حتى مصادفة؛
لكن منذ متى وتحققت أمنياتها؟
ها هي أمامه الآن كالصنم تقف..
"عَمَّار الناجي، أخوكِ!"
بل في الواقع
عَمَّار شديد الناجي!
نفس الاسم؟.. نعم؛
نفس الطول؟.. نعم؛
نفس النظرة القاسية؟... لا
نفس الملامح المرعبة؟... أيضا لا!
حنان... اشتياق... توسل؛
تفيض عيناه بالكثير، لكنهللأسف يظل:
"عَمَّار شديد الناجي!"
ابن الرجل الذي ضرب أمها أمامها، ثم صفعها؛
ابن الرجل الذي تسبب في اكتئاب أمها ثم انتحارها؛
ابن الرجل الذي تسبب في شلل ذراعها؛
ابن الرجل الذي ضرب خالها ثم هددها بالمزيد إن لم تختفِ من بيته؛
ابن الرجل الذي بسبب نبذُه إياها أُهينت وعُذِبت وقُيدت ببيت خالها؛
ابن الرجل الذي بسبب عدم اعترافه بها يتعامل معها الجميع باشمئزاز واحتقار؛
وابن الرجل الذي ألصق بها صفة "لقيطة!"
ابن شديد الناجي..
قاتل أمها، مُكدر حياتها، ومُدمر أحلامها، ولاصق العار بها!
عَمَّار شديد الناجي ليس أخوها..
بل هو ابن عدوها!
وهتاف مشتاق منه انطلق:
_أخيراً يا رهف!
والصرخة خرجت منها مرتجفة:
_ماذا تريد مني؟
والرد كان حاضرا، سريعاً، وبمنتهى الصدق:
_أريدك رهف، أريدك معي وبجانبي، أريد تعويضك.
رَدَّت بصوت متحشرج:
_لماذا كنت تلاحقني طوال الوقت؟!
وأضافت:
_في الهاتف، وفي العمل، وأمام مسكني!
تحرك يهم بالدخول عندما رَفَعَت كفها أمامه ثم صاحت بحزم:
_إياك!
وبتنفس سريع كررت:
_إياك أن تدخل! ماذا تريد مني؟ لقد تركت بيت خالي حتى لا تؤذوه، تركت الحي كله وأعيش بمفردي الآن، ماذا تريدون بعد؟ أن أترك البلد بأكمله؟ أن أنتحر مثلها؟! لِمَ لا تدعوني وشأني؟ لِمَ لا تمحونني من عقولكم؟!!
هز رأسه بنفي قائلاً بألم:
_لا رهف، أنا لست مثله، أنا لن ألحق بكِ أي أذى، أنا أخوكِ رهف، وأريدك أن تعيشي معي، أريدك أن تدركي كم أنا أحبك وأرغب ببقائك بجانبي، أنا.. أنا لم أعلم بوجودك إلا منذ فترة قصيرة، أقسم رهف لو كنت أعلم عنكِ أي معلومة منذ زمن لما كنت تركتك يوماً واحداً بمفردك.
اللهفة، الاشتياق، الأسف، الندم..
يتزاحمون في عينيه؛
ارتجافة صوته، ذراعيه اللذين يجبرهما على الثبات إلى جواره..
يصرخون رغبة في احتضانها؛
لكنها ليست غبية، لن تصدق ابن ذلك الرجل، لن تصدق سليل نسل الأذى..
لن ترتمي بين ذراعيه الآن صارخة معترفة باشتياقها إليه؛
لن تخبره عن معاناتها في انتظاره هو على الأخص؛
لن تفعل ذلك مطلقاً!
نظرت له بسخرية هاتفة:
_أتعلم؟! لو لم تكن ابنه لكنت للتو صدقتك، أنا لا أفهم أي لعبة حقيرة يدبرها والدك لكنني لن أسمح لكم بإفساد حياتي أكثر، ارحل ولا تحضر مرة أخرى كي لا أبلغ الشرطة، فإن كنت لا تعلم أنا ليس لدي ما يثبت أنني ابنة والدك، ولا صفة رسمية على الإطلاق تربط بيني وبينك!
وبأقصى قوة تمتلكها أغلقت الباب ليغمض عينيه بألم متقهقراً، لم تفاجئه على أي حال لكنه تمنى لو أعطته فرصة؛
تمنى لو استطاع احتضانها..
تمنى لو منحته فرصة للاعتذار..
ويا إلهي كم هي جميلة بريئة ضعيفة تصرخ رغبةً واحتياجاً!
ويا لحسرته! للمرة الأولى يراها بذلك القرب ولا يستطيع الدنو منها أكثر!
مسح على وجهه بِتعب حينما ارتفع رنين هاتفه فرد بخفوت:
_نعم مَوَدَّة!
وبصوتها المتلهف سألته:
_ماذا فَعَلَت؟
ليرد بنبرة ساخرة:
_كما توقعنا تماما، رَحَّبَت بي أشد الترحيب!
فأتته نبرتها مواسية:
_أعطها عذرها عَمَّار، واعطها وقتاً حتى تتأكد من حُسن نواياك تجاهها.
زفر باستسلام متمتماً:
_وماذا بإمكاني مَوَدَّة سوى الانتظار!
****
"لقد أتيت!"
هتفت بها سما وهي تدلف إلى الشقة محملة بأغراض كثيرة وضعتها جانبا، عقدت حاجبيها عندما استمعت لضحكاتها مختلطة بضحكات رجولية، عندئذٍ زفرت بملل وهي تدرك هوية صاحبها، وما لبث أن انطلقت صيحة زوجة أبيها:
_تعالي سما، عاصم هنا!
"أعرف! لقد شعرتُ باختناق مفاجىء ورغبة في تهشيم رأس أحدهم ما إن وصلت، بالتأكيد هو هنا!"
تمتمت متجهة ببطء إلى غرفة الجلوس تحاول إخفاء ضيقها من وجوده، لقد احتمت بغرفتها عندما حضر بالمرات السابقة بحجة النوم، لكن أين لها من مهرب الآن؟!
_السلام عليكم!
رفع رأسه بابتسامة مغيظة ينظر إليها، فالضيق واضح تماما بعينيها، ويدرك جيدا أنه السبب، لقد أصبح يشعر بتسلية كبيرة حقا عندما يراها غاضبة، يعلم أنه يتصرف بطفولية لم يعتدها لكن الأمر أصبح خارج عن سيطرته.
_وعليكم السلام آنسة سما، كيف حالك؟ اشتقنا لكِ!
لم يفُته تكوير قبضة يدها في تأمل واضح بتسديد لكمة إلى وجهه، ومن بين أسنانها ردت:
_متى اشتقت وقد أتيت خمسة مرات خلال أسبوع واحد؟!
اتسعت عينا صفاء هاتفة باستنكار:
_سما!
تطلعت إلى ملامح السيدة المؤنِبة ثم تململت بِضيق وقالت بحرج:
_سأدخل غرفتي أم عاصم، إن احتجتِ أي شيء قومي بمناداتي.
ما إن استدارت حتى تنصرف فعاجلتها المرأة باستدراك:
_صحيح سما، الحاجة دلال أتت مع ابنها اليوم، إنها تصر بشدة على التحدث معِك.
التفتت سما والغضب يقفز من عينيها قفزاً هاتفة:
_ألا تمل تلك المرأة؟ كم مرة يجب عليّ إخبارها أنني أغلقت تلك القصة إلى الأبد؟ بالمرة القادمة لا تشجعيها على الحديث بالأصل، وإن صادفتها أنا سأجعلها تندم على ذلك الإصرار.
وانطلقت بغضب شديد إلى غرفتها، بينما زفرت صفاء بحزن، فلم يستطع عاصم التحكم بفضوله وهو يسألها:
_من دلال وابنها يا أمي؟
أجابته صفاء بنبرة حزينة:
_إنها جارتنا وكان ابنها خاطباً لسما من قبل، لكنهما انفصلا منذ بضعة أشهر، والآن هو نادم بشدة ويود استعادتها، لكنها ذات رأس كالجدار لا تود إعطاؤه فرصة ثانية.
وبلهجة أكثر فضولية تساءل:
_ولِمَ انفصلا أمي؟
بامتعاض واضح أجابته:
_لقد اكتشفت أنه يحادث فتيات أخريات، على سبيل التسلَّي، ذو الحظ النحِس تكون معه فتاة مثل سما وينظر إلى غيرها.
رد عليها عاصم بمرح:
_ أنتِ مخدوعة في تلك الفتاة يا أمي، إنها تجعل الرجل يلعن حظه الذي أوقعه مع من مثلها، سلاطة لسانها لم أر مثلها بحياتي، بالتأكيد ذلك المسكين ولى مدبراً ذعراً منها.
عبست أمه وهي تنهره:
_لا تتحدث عنها بتلك الطريقة عاصم، إنها ابنتي، هي فقط تتحسس من وجودك غيرةً منك لا أكثر، لكنها في الواقع لطيفة.
ثم استدركت بلا اقتناع:
_أقصد.. أحياناً تكون لطيفة.
ضحك عاصم وهو يُقبِّل كفها بحنان فربتت بيدها الأخرى أعلى رأسه، قضى معها بعض الوقت ثم وضعها في فراشها وظل بجوارها حتى نامت.
خرج من غرفة أمه متجها إلى باب الشقة ليستمع إلى صياح خافت قادم من المطبخ:
"دعني وشأني شريف، لا تتصل بي مرة أخرى ولا تجعل والدتك تحدث أمي في ذلك الموضوع، أنا التزم الصمت احتراماً لها فقط، لكنني قريباً سأفقد صبري وسأتصرف بطريقة غير لائقة! لديّ من المشاكل بالعمل ما يفوق دلالك وتفاهتك، وما كان بيننا قد انتهى منذ شهور!"
ثم أنهت المكالمة وهي تلقي الهاتف على سطح إحدى الخزانات بغيظ واضح.
أمي؟!
لقد سمعها مراراً تناديها "أم عاصم"، لِم تذكرها الآن ب"أمي"؟!
ألقى سؤاله جانبا واتجه رغماً عنه إلى المطبخ لتتسع عيناه دهشة وهو يستمع إلى صوت بكائها الخافت، كانت توليه ظهرها مخبئة وجهها بين كفيها وجذعها يهتز ببطء، لا يعلم لِمَ لم يتحرك، لا يعلم لِمَ ظل واقفاً يراقبها بصمت، لا يعلم لِمَ انطلق ذلك اللسان الغبي بـ:
_سما!
التفتت مجفلة وهي تنظر له بدهشة من بين دمعاتها الغزيرة ثم مسحت وجهها بكفيها وبمنتهى العنف هتفت به:
_ماذا تريد؟ ما الذي تفعله بالمطبخ؟
ثم ارتخت ملامحها وهي تسأله بهدوء:
_أتريد أم عاصم الذهاب إلى المرحاض؟
هز رأسه مسرعا بنفي وهو يجيبها:
_لا، لقد نامت.
زفرت بتعب وهي تعاود سؤاله بخشونة بدتلأول مرة لا تليق بها:
_إذن ماذا تريد؟!!
حك عاصم مؤخرة عنقه وهو لا يجد إجابة على سؤالها ثموبكل تهور رد بأول شيء جال بخاطره:
_أنتِ تقولين "أمي"!
ضيقت عيناها بحذر وهي تسأله:
_ثم..؟!
حمحم بعبوس مفتعل وهو يرد:
_أنتِ تقولين عن أمي أنا "أمي"، أي أمك أنتِ! انتظر تفسيراً!
اتسعت عيناها بدهشة وارتسم الشر على ملامحها فبحث بعينيه متوجساً عن السكين الضخم، لكنه عاد بنظراته إليها مسرعا وهي تتقدم منه ليتراجع بضع خطوات إلى الخلف، فتبادره هي بلهجة منتصرة:
_لقد كنت أعلم، كنت أعلم أنك ستأخذها مني، منذ أن ظهرت أنت وأصبَحَت طوال الوقت لا تتحدث سوى عنك.
ثم ابتسمت مُفتَعِلة حناناً زائفاً وهي تتابع مُقلدة صوت والدته:
_ كيف يبدو مظهره سما؟ كيف تبدو ضحكته؟ ألم أخبرك أنه فارع الطول، خفيف الظل سما أليس كذلك؟ وسيم بشدة أليس كذلك؟
وبتهور أشد سألها وهو يحدق بعينيها اللتين اكتشف لتوه أنهما جميلتين:
_وهل أنا وسيم بشدة؟
جَزَّت على أسنانها وهي ترد بسرعة:
_وبِمَ تفيد الوسامة إذا انعدم الذوق؟!
ملامحها أيضاً جميلة..نظراتها قوية واثقة..حتى ضآلة قامتها تبدو له الآن..مُحَبَّبَة!
جال في ملامحها مدققاً وبنبرة خافتة قليلا عقّب:
_قَلّ!
انعقد حاجباها بتساؤل واضح فأردف:
_قَلّ الذوق وانعدم الإتيكيت، لا تنسِ نعوتك التي أطلقتها عليّ بنفسك!
أغمضت عينيها وهي تزفر بضجر باحثة عن صبر مفقود فتابع بابتسامة زاهية:
_هذا يعني أنكِ ترينني وسيماً بشدة.
وضعت إحدى كفيها على فمها في إشارة لكظم غيظ شديد فتحدث هو ثانية متسائلاً:
_لِمَ تبكين وليس هناك بصل؟!
ألقت كفها جانباً وهتفت به بنزق:
_ألا ترى أنك تتدخل فيما ليس لك به شأن؟ ألم تنم أم عاصم؟ هيا! ارحل كي أوصد الباب بالقفل!
نظر لها بِغِلّ شديد ثم خرج من المطبخ فتبعته هي، وعند باب الشقة توقف ملتفتاً إليها مُكرراً سؤاله بإصرار بداله شخصياً عجيباً:
_لِم تناديها ب"أمي" في غيابها وليس ب"أم عاصم" كما تفعلين دوماً؟
ولدهشته نحت سلاطة لسانها جانباً وهي تجيبه بهدوء وبصدق ظهر واضحاً بعينيها:
_لأنها أمي مهندس عاصم، لم تنجبني أعلم، لكنني لا أملك أم سواها، هي من رَبَّتني وعاملتني بحب وعطف أكثر مم أتمنى، وهي دائماً ما فضلت أن يناديها الجميع بـــ"أم عاصم" حتى يظل اسمك ملاصقاً لها.
حدق بها للحظات يستشعر حبها الهائل لأمه، ووفائها وإخلاصها، وحتى حنانها الذي تخفيه بِتعمُّد، ليشعر بشيء غريب يتسلل إليه، شيء ناعم، ممتن، فضولي... مُعجب!
وعندما هم بإلقاء أحد الردود اللطيفة التي تستوجبها اللحظة في دعوة للسلام هاجمته على الفور بهتاف مُتحفز:
_ولهذا احذر! أنا لن أسمح لك بأخذ أمي مني مطلقاً! لا تعتقد أنني منشغلة بعملي ولا أفهم ما يدور من محاولاتك المستمرة لاقناعها بالانتقال معك، لكنني أوقن تماماً أنها لن تتركني إلى الأبد، وأنصحك بأن تكف عن محاولاتك لأنها ستفشل!
عاد لتحديقه بها للحظات في صمت حتى بدأت هي تشعر بالتوتر؛
ألن يرد عليها بسخافة؟
ألن يغيظها ويتحداها؟
ولماذا يبتسم كالأبله هكذا؟!
أسئلة دارت برأسها ولم تحصل على إجابات لها، لكن أعصابها ارتخت فوراً عندما فتح الباب وانصرف دون كلمة.. مبتسماً!
***

سعاد (أمواج أرجوانية) 30-08-20 08:02 PM

تابع الفصل السادس:
"ماذا حدث رهف؟ لقد أقلقني صوتك في الهاتف صباحاً"
ارتمت رهف بين ذراعي خالها باكية ليحتضنها بحنان شديد وهو يعيد سؤاله بقلق:
_ماذا حدث يا ابنتي؟
رَفَعت رأسها تنظر إليه من بين دمعاتها وهي تجيب:
_لقد عاد خالي، لن يدعني وشأني!
رمقها بلا فهم للحظات ثم ما لبث أن اتسعت عيناه بذعر وهو يسألها:
_شديد؟!
هزت رأسها نفياً هاتفة:
_بل ابنه!
انفرجت ملامح صلاح بلحظة وهو يربت على ذراعها التي لاحظ تصلبها ثم جذبها برفق ليساعدها على الجلوس على المقعد القريب وجلس أمامها، انتظرها حتى تكف عن بكائها تماما، عندئذ تحدث قائلا:
_أعطِه فرصة رهف!
نظرت له بدهشة ثم سألته بضعف:
_من؟!
ليجيب بحذر:
_أخوكِ.
عندئذ هبت واقفة تصرخ بهياج:
_أنا ليس لدي إخوة، ليس لدي أب، ليس لدي أم، ليس لي إلاك خالي، ولا أريد آخرين، هو مؤذِ، مؤذِ بالتأكيد مثل أبيه، الذي تسبب بانتحار أمي وتسبب بإلصاق العار بي، وأنا لست بلهاء إلى الدرجة التي تجعلني أصدق تمثيله البارع.
ثم استدركت وهي تحدق بخالها بدهشة قائلة:
_لحظة! أنت لم تفاجأ عندما أخبرتك بحضوره، هل كنت تعلم؟
طأطأ صلاح رأسه أرضا يجيبها بخفوت:
_لقد أتاني عند مقر عملي يرجوني أن أحدثك عنه، وأن أخبرك أن نواياه ليست سيئة تجاهك، وأنه.. يريد تعويضك...
قاطعته رهف بصراخ باكِ قلّما انطلق منها:
_عن أي تعويض يتحدث؟! كيف سيعوضني عن كراهية أمي لي؟، عن حرماني منها في عمر الثمانية؟، كيف سيعوضني عن نومي كل ليلة أتقلب بداخل كابوس يحمل وجه مظلم وعينين حاقدتين؟ أيستطيع تعويضي عن كل مرة ناداني فيها أحدهم بـ"عديمة الأصل"؟ "ابنة الخطيئة أو اللقيطة"؟ أيستطيع تعويضي عن النبذ الذي أقابله بكل من يعرف حقيقتي؟ أيستطيع تعويضي عن العذاب والإهانة والألم الذين تمرغتُ بهم على يد زوجة خالي وابنتها؟ أيستطيع تعويضي عن بقائي بمفردي هنا أعاني الوحدة والحرمان واحتقار الذات؟
صمتت للحظات تنتحب ثم تابعت من بين شهقاتها بقهر:
_أيستطيع تعويضي عن ذكرى سيئة لأبيه بينما يتعدى بالضرب عليك أمامي وأمام زوجتك وابنتك؟ أخبرني خالي، أيستطيع تعويضي عن كراهيتي لرؤية وجهي بالمرآة حتى لا أرى أي صورة ضعيفة وضيعة متدنية أحملها أنا؟!
لم يتفوه صلاح بكلمة وبكاؤها المرير يتسرب إلى خلاياه، وبصعوبة منع دموعه من مشاركتها وهو يدرك أنها للمرة الأولى تتخلى عن صمتها، يدرك أن ظهور أخيها تسبب في ظهور بوادر تمرد لم يكن مطلقاً من شيمها، يدرك أن الغضب الذي لطالما ادّعت عدم وجوده يزأر للإعلان عن نفسه بقوة الآن.
انفجار وشيك يستطيع رؤيته عن بُعد، وما يتمناه ألا تتضرر هي منه أولاً.
اقترب منها مربتاً عليها بحنان، وبصرامة خاطبها:
_إن كنتِ لا تريدينه بحياتك لن أُجبرك، وإن حاول التواصل معِك مرة أخرى فقط أخبريني وأنا من سيتصدى له.
لم تستطع حتى رسم ابتسامة ممتنة على وجهها وهي توميء لخالها بشرود.
لكن صورة أخيها النادمة تعلَّقَت بذهنها مورثة إياها ندماً مماثل، لكنها سرعان ما تجاوزت ذلك الندم مستعينة بكل لحظة ذل عانتها منذ أدركت حقيقتها.
****
"هيا ساري! لا تكن سخيفاً، أنت لم تتناول شيئاً منذ الأمس."
هتفت بها سارة برجاء وهي تقدم له إحدى الشطائر بإلحاح بينما هو أكثر عناداً من تقبله..
نظر لها بلا تعبير متسائلاً:
_هل عينتكِ أمك مراقباً علي؟
وقبل أن ترد استدرك ساخراً:
_صحيح، لقد نسيت أنها تقاطعني ولا تتحملني ولن تهتم إذا ما مِتُ جوعاً حتى!
زفرت سارة بتعب وهي ترد:
_لا تحزن ساري، بعض الوقت فقط وستتفهم كيف تحبها وسيتغير موقفها.
لم يرد مكتفياً بتقطيبة حاجبيه، فارتسمت نظرة شقية على محياها وأردفت متسائلة:
_هل هي جميلة؟
ولاحت ابتسامة نادراً ما رأتها على وجهه وهو يجيبها شارداً بنبرة لم يخف بها الوَلَه:
_فاتنة! وجنتان متوردتان، عينان تائهتان، وأهداب مشعثة!
أطلقت صفيراً ناعماً وهي تعلق بابتسامة متسعة:
_يا إلهي! لا أصدق، ساري أخي الذي فقدت الأمل في زواجه يوما هو من يتغزل بفتاة بذلك الهيام؟ أصبحتُ لا أطيق صبراً لرؤيتها.
ثم مالت عليه بهمس ماكر:
ألا توجد لديكوأعني مصادفةً_ صورة لها؟
ليخرج من شروده تماما وابتسامته تتسع أكثر ويحتل عينيه مكر محبب وهو يخرج هاتفه، فرمقته بدهشة قائلة:
_لقد كنتُ أمزح، بالفعل كنتُ أمزح! لم أتوقع أبداً أنك أصبحت مُتيماً وتحمل صورتها على هاتفك يا ساري!
لم يرد وهو يعرض عليها صورتها منتظراً رأيها بحماس، فعلقت بإعجاب:
_إنها جميلة فعلا، لكن أين التقطت لها هذه الصورة؟ ومن هؤلاء الأطفال؟
ظهر الحرج على ملامحه وهو يتهرب من عينيها مجيباً:
_لست أنا من التقطتها، إنها مريم، هي معلمتها بالمعهد الملتحقة بإحدى دوراته.
لتسأله سارة باستغراب وهي لازالت تتفحص الصورة بفضول أنثوي:
_وكيف وصلت الصورة إليك؟
وعندما لم يتحدث مستسلماً للحرج، رَفَعَت عينيها إليه بإدراك بدهشة هاتفة:
-هل تسللت إلى هاتف مريم وسرقتها؟! لقد فسدت أخلاقك تماما بالفعل يا ساري!
اختطف الهاتف منها نزِقاً ووضعه بداخل سترته فسألته:
_ما اسمها؟
وارتسم العشق في عينيه وهو يجيبها:
_رهف!
عاجلته بآخر:
_ما قصتها؟
نظر لها ساري بضيق ثم أجابها زافراً بيأس:
_أمها متوفاة، عاشت مع خالها ثم استقلت عنه.
تساءلت بحذر:
_وأبوها؟
جمدت ملامحه ثم تحولت لاشمئزاز واضح وهو يرد بخفوت:
_أخبرتني أنه لا يريد الاعتراف بها، وأنا لم أفضل أن أسألها عنه حتى لا أضيف لآلامها، ولا يهمني هذا يا سارة، هي فقط من أريد، وعندما تكون لي، ستتحقق كل أحلامي.
وضعت سارة إحدى كفيها تحت خدها وهي تتنهد قائلة بهيام:
_ارزقني يا الله برجل يحبني كهذا الحب.
لتنتفض عندما طار أحد الملفات بوجهها وهو يهتف بها حانقاً:
_تأدبي سارة!
تعالت ضحكاتها ثم توقفت والباب ينفتح ليطل منه عاصم رامقاً إياهما بغيظ:
_ما شاء الله! تتبادلان الضحكات هنا وأنا غارق مع الطلبيات الجديدة، ثم تتصل بي خالتي تشكوكما إليّ، ماذا فعلتما للمرأة الطيبة؟
وعندما ارتسم الحنق على وجه ساري والتحذير على وجه سارة أغلق الباب وجلس على المقعد المقابل لها قائلاً:
_لنترك أمر الطلبيات الجديدة جانباً، ما قصة تلك الفتاة التي سببت المشاكل بينك وبين أمك ساري، أحقاً تود الارتباط بفتاة ليس لها أهل؟
وقبل أن يرد اندفعت سارة بحماس مختلط ببعض الحالمية:
_لها خال كانت تعيش معه، وأمها متوفاة، إنها معلمة مريم أختك في مركز الدورات، اسمها رهف، أحبها ساري منذ النظرة الأولى والآن يتعرضان لصعوبات تهدد بتفريقهما، لكنني أثق أنهما سينتصران عليها وسيجتمعان سوياً بالنهاية رغم كل العقبات.
نظر لها الاثنان باستهجان ثم ما لبث عاصم أن هتف:
_مهلا! هل قلتِ رهف؟ لقد رأيتها من قبل مع مريم.
سألته سارة بلهفة:
_هل هي جميلة في الواقع مثل الصورة؟
هم بالرد حينما توقف ليختلس النظر إلى ساري الذي رَفَع أحد حاجبيه واسودت نظرته بتحذير شرير قائلاً بخفوت أرعبه:
_أجب عن هذا السؤال عاصم لأفصل رأسك عن جسدك على سطح هذا المكتب وفي التو!
حمحم عاصم بتوجس وهو يتهرب من نظرات ساري إلى أخته ليهتف بها بعبوس:
_ومالي أنا وشكلها؟ هل تعرفين عني أنني أنظر إلى الفتيات؟
لتعلق سارة وهي تهز كتفيها ببساطة:
_وحتى إن نظرت؟! من تلك التي ستبادلك النظر؟!
سبها من بين شفتيه وأخرجت لسانها له تغيظه، فاستدرك زافراً بغيظ:
_لا أعلم عنها الكثير، لكن مريم لا تتوقف عن التحدث عنها طوال الوقت، هي مقربة منها بشدة، حتى أنها في إحدى المرات صممت أن تهديها شيئا ما فاقترحت عليها الشوكولاتة.
لم يلاحظ أحدهما ابتسامة ساري التي اتسعت بينما استأنف عاصم سائلا إياه:
_أخبرني ساري، أهي تستحق إغضاب أمك؟
انمحت ابتسامته فورا ليحل محلها عبوساً شديدا وهو يرد حانقاً:
_أنت تعلم أنني ليس لديّ أغلى من أمي، وأنني أفتديها بروحي، لكنها حياتي، لِمَ لا تتفهم أمي أنها تمنع عني تحقيق حُلمي؟
نظر له عاصم بدهشة شديدة يحاول استيعاب ما يستمع إليه، لقد أصبحا صديقين منذ سنوات حينما تقرب منه ساري بعد وفاة زوجة أبيه، لم يفترقا أبداً طوال ذلك الوقت، إنه يعلم عنه كل شيء، لم يعهده أبداً بتلك الرومانسية، لقد اقتنع منذ سنوات أنه آلة للعمل ليلاً نهاراً وتلبية طلبات أسرته فقط، ماذا فعلت به تلك الفتاة لتغيره بذلك الشكل؟!
زفر باستسلام متحدثاً بنبرة مطمئنة:
_اهدأ ساري، سأتحدث أنا مع خالتي، مادُمت تحبها بذلك الشكل.
لم يرد وهو يعود لشروده المُقلق بينما صمم عاصم على مساعدة صديقه ليجتمع بالفتاة التي يحبها.
****
تُحمم ابنها الذي يلعب ببعض الألعاب في المغطس بانهماك، بينما هي شاردة تماماً فيما أصبح عليه واقعهم..
خالتها وأمها ينهرانها على موافقة عَمَّار بترك الفيلا والاستقلال، بينما أبوها يبدو مؤيداً بشدة لزوجها تلك المرة..
زوجها يعاني بسبب عدم تقبل أخته لوجوده بالرغم من منطقية الأمر، وهي لا تستطيع مساعدته سوى بإسداء النصائح له بالصبر والتريُث قبل المحاولة ثانية..
وعلى جانب آخر لا يفوتها التطور الذي تتعرض له علاقتها به؛
لا تفوتها نظراته المُدققة بها وكأنه يبحث عن شيء ما..أو وكأنه قد وجد شيء ما!
لا تفوتها محاولاته للتقرب ولإظهار الاهتمام والندم والتمني ببداية جديدة معها؛
لقد ذهب البرود والجفاء واللامبالاة، أو ربما قد تركهم أيضاً بسجن والده..
تحاول هي الانصياع، تحاول المسامحة لكنها رغماً عنها لا تقوى على تجاهل تلك السنوات بسهولة؛
والسؤال الخبيث لا ينفك يطرق عقلها أحيانا:
"ألايزال يفكر في حبيبته السابقة؟"
زَفَرت بضيق وهي تقرر طرده بعيداً فالتفتت إلى ابنها متسائلة:
_أخبرني إياد، هل تحدثت معك اليوم الآنسة رهف؟
أجابها الطفل وهو يلعب بإحدى ألعابه المطاطية داخل المغطس:
_لم تأتِ اليوم.
مطت شفتيها بشرود ثم قالت:
_عندما تذهب إلى الدورة المرة القادمة يمكنك أن تصافحها وتحتضنها.
نظر الطفل لها بابتسامة قائلاً بحماس:
_أنا أقوم بذلك بالفعل.
ثم عاد إلى اللعب فعادت هي إلى شرودها حتى أخرجه منها هاتفا بعتاب مفاجىء:
_لِمَ لا تشاركينني اللعب بالمياه ونقوم بالغناء سوياً مثلما كنا نفعل في المنزل الكبير أمي؟
انتبهت إلى نبرة الحزن التي تخللت صوت ابنها، وأدركت أنها انشغلت عنه منذ بدأت المشاكل الأخيرة وأهملته، فاجتاحها ندم شديد واقتربت منه بسرعة وهي تخاطبه بحنان:
_لا علاقة بالمنزل الكبير بذلك إياد، هذا المنزل أفضل كثيراً، إنه منزل ثلاثتنا فقط، نستطيع اللعب فيه والغناء كما نشاء، انتظر! سأبدل ملابسي وأشاركك اللعب!
تهلل وجه الطفل وتقافز الحماس بعينيه،
بينما بَدَّلت هي ملابسها فعلاً وعادت إليه تلوم نفسها بشدة..
المياه تتطاير من المغطس الكبير في جميع أنحاء المكان؛
صوتاهما يصدحان سوياً بالأغاني الطفولية والصخب سائد؛
العبث يعم الأرجاء دون تمييز؛
وهما يتضاحكان بمرح شديد؛
غافلين تماماً عن ذلك الذي يستند إلى الباب، مشاهداً، متأملاً، ومستمتعاً!
أغنية؛
تلو أخرى؛
وأخرى؛
ولا يتحرك من مكانه قيد أنملة!
أهذه الصاخبة هي زوجته؟!
أهذه المرحة هي من أصبحت تتحفظ معه وتتعامل معه برسمية مغيظة؟!
لقد عهدها بذلك الانطلاق منذ سنوات ولّت، لكنها عندما بدأت مرحلة مراهقتها أخذت تهدأ وتنكمش رويداً رويداً حتى ظنّ أنها تنزعج منه!
الآن أدرك أنه كان بالفعل أعمى وعديم الإحساس، كيف لم ير ذلك الجمال؟
كيف لم يدرك عقله كم هي رائعة؟!
كيف لم يشعر قلبه بحبها حتى أطفأ روحها؟!
قلبه؟!
مهلا!
أهذا قلبه الذي يدوي داخل صدره بعنف؟!
أهذا قلبه الذي ينتفض هاتفاً باسمها وحدها مطالباً؟!
أهذا قلبه الذي يتضخم الآن وعيناه تراقبانها بتدقيق حريصاً على ألا تفته هفوة من حركاتها؟!
لكن كان لابنه رأياً آخر عندما التفت فجأة إليه مقاطعاً أفكاره صارخاً بفرحة:
_أبي!!
وانتفاضة منها للخلف؛
توردت الوجنتان؛
تهربت العسليتان؛
وقُضِمَت الشفتان!!
ليميل محتضناً ابنه غير عابئاً بابتلال ملابسه وعيناه معلقتان بها، وبنبرةاكتسبها مؤخراً خرجت ماكرة أردف:
_ما هذا الجمال يا إياد؟!
والطفل المتحمس صاح:
_هل رأيتنا نلعب ونغني أبي؟ لِمَ لا تشاركنا؟
استقام وعينيه لا تحيدان عنها مجيباً ابنه بإيحاء واضح:
_رأيت إياد، وأخيراً رأيت!
والطفل يتابع بثرثرة لا ينتبه إليها حقاً:
_من يغني أفضل أبي؟ أنا أم أمي؟
وخرج صوتها أخيراً متحشرجاً بحياء:
_إياد!
ليتابع هو بلهجته الماكرة:
_لا أستطيع أن أحكم بعد ست أغنيات فقط، يجب أن تعيدا ذلك العرض منذ البداية حتى أستطيع الحكم بضمير.
حدقت به بدهشة بالرغم من خجلها..
كم هو وسيم! حبيبها وزوجها ووالد طفلها؛
متى تستطيع التوقف عن عشقه؟
متى تنقذ نفسها من الغرق به أكثر؟
متى تبتعد عن هالة الجاذبية التي يفرضها حضوره؟!
ونبرتها خرجت مرتعشة وهي تمر بجواره:
_سأجهز الطعام.
ليتمسك بذراعها هامساً بأذنها:
_أحببت تلك الملابس عليكِ جداً.
انخفضت نظراتها إلى ملابسها القصيرة المُلتصِقة بجسدها بفعل البلل فتصاعد حرجها أكثر، ثم ارتفعت نظراتها إليه بدهشة ليتابع محدقاً:
_وأحببت تلك الأغنيات، أنتِ ماهرة!
جذبت ذراعها منه مهرولة إلى الخارج وانفرجت شفتاها في ابتسامة خجولة فرحة، أما هو فقد أخذ يصدم رأسه بالباب هاتفاً:
_تحمل نتيجة تأخرك عَمَّار وادفع الثمن من أعصابك، تحمل!
_أبي؟!!
أجفل وهو ينظر لابنه الذي يرمقه بدهشة متسائلاً:
_لماذا تضرب رأسك بالحائط؟
وكانت الإجابة سريعاً حاضرة مُزينة بامتعاض موجه إلى نفسه بكل كرم:
_لأن أباك بطيء الفهم إياد، بطيء الفهم جداً!
****
منذ بضعة أشهر:
انتفضت من نومها على صوت طرقات عنيفة على باب المنزل، ارتدت إسدالها البيتي بسرعة وهي تخرج لتجد زوجة خالها وابنته تحتميان ببعضهما مذعورتين بينما خالها يفتح الباب الذي كاد أن ينكسر بقوة الطرق، وما إن فتحه حتى ارتد إلى الخلف بلكمة عنيفة أسقطته أرضا!
_خالي!!
انتفضت صارخة تحاول مساعدة خالها على الوقوف وهي تنقل نظراتها بين ثلاثة وجوه يقفز الإجرام من كل ملمح بهم، ثم من خلفهم ظهر وجه..
قوي البنية؛
عريض المنكبين؛
فارع الطول؛
قاسِ الملامح مظلم العينين؛
بضع شعيرات فضية تخللت مقدمة شعره وشاربه؛
إنها تهذي حتماً!
لِمَ خرج ذلك الوجه الآن من ذاكرتها؟
لِمَ خرج من أسوأ كوابيسها؟
وأي مصيبة تلك التي أرسلته إلى هنا؟
وقفت ببطء يستند عليها خالها، وهي تحدق بوجهه بذعر واضح، قابلها هو بازدراء وحقد، بينما ارتفع نحيب زوجة خالها وابنتهالتي تشاجرت مع زوجها أثناء سفره وتبيت هنا خلفهما، أما خالها فكان يحاول لملمة شتات نفسه التي بعثرها ذلك الوحش بدون كلمة واحدة.
لتتمسك هي بخيط البداية، وبارتجاف تساءلت:
_ماذا تريد؟
وإجابته ارتفعت صارمة:
_إذن أنتِ هي! أنتِ هي تلك الحشرة التي تجرأت وفكرت بتهديدي أنا؟!
تشتت انتباهها لِوهلة وهي تقول بدهشة:
_أنا.. أنا لم ....
لتقاطعها صرخة زوجة خالها:
_نحن ليس لنا ذنب فيم تفعله، هي ابنتك إن أردت تأديبها فهذا حقك، لكن زوجي ليس له شأن.
التفتت بدهشة إلى زوجة خالها بينما نهرها صلاح هاتفاً:
_اصمتي يا شروق، لا تتفوهي بكلمة واحدة.
لتعانده صائحة:
_لن أصمت يا صلاح! لقد صمتتُ لسنوات وسنوات، لكن إن وصل أذاها إلى داخل بيتي ولزوجي فسأتحدث كيفما أشاء، انظر لحالنا التي وصلنا إليها، هي السبب صلاح ، هي السبب.
مجددا!
"أنا السبب!"
هكذا فكرت وهي تحدق بعيني الرجل الأكثر قسوة على وجه الأرض، ثم برعب سألته:
_ماذا تريد منا يا بك؟ أنا لا أتذكر أنني هددت سيادتك بشيء! أنا لم أقابلك إلا مرة واحدة طوال حياتي ولا أريد تكرارها، ماذا تريد منا الآن؟
اقترب منها مزيحا أحد مرافقيه جانباً وهو يجيبها ساخراً:
_هل تريدين خداعي يا فتاة؟! أتعتقدين أن لقيطة مثلك تستطيع أن تتلاعب بي؟! أتأملين أن تحملي اسمي أنا؟ أتطمعين في إرث مني؟!
لتجيبه بلهجة خرجت مهزوزة:
_صدق أو لا تصدق شديد بك، اسمك قد صار آخر ما قد أرغب به، لم يعُد يعنيني بشيء، أموالك وسلطتك ونفوذك لم تعنِني بشيء مطلقاً، أنت نفسك لا تعنيني بشيء.
والصفعة التي امتدت يده بها إليها تلقاها عنها خالها بجسارة، لتتعالى صرخاتها مع زوجته وابنته، فتمسكت بخالها الذي أنهكه الحرج أكثر من الصفعة، ثم نظرت إلى ذلك المجرم صارخة:
_أنا لا أريد منك شيئاً، لا أعلم عم تتحدث، ابتعد عنا ولا تتعرض لنا وإلا أقسم أنني سأبلغ الشرطة.
هنا توقف أمامها تماماً وهو ينظر إلى داخل عينيها بنظرة جمدت الدم في أوردتها مبتسما بتحذير:
_افعليها! افعليها وأبلغي الشرطة حتى لا يرى أحد من أربعتكم نور الشمس ثانية، وأنا لا أهدد جزافاً.
ثم تراجع إلى الخلف بضعة خطوات، وعند الباب وقبل أن ينصرف هتف بوحوشه آمراً:
_اعرضوا عليهم عينة مم يمكنني فعله بهم.
وانصرف..
وحده!
تاركاً معهم ثلاثة من الوحوش البرية التي تقتات على الدماء، حاولت الدفاع باستماتة عن خالها المسكين فنالت منها بعض الضربات والركلات، أما عن زوجة خالها وابنته فلم تحاول إحداهما الاستنجاد بالجيران، وقفا يشاهدان في صمت غريب وبعض البكاء، حتى ارتوت الوحوش أخيرا وانصرفوا..
وَشَبَّ الشجار بين زوجة خالها وابنته من جهة، وبينها من جهة أخرىهذا إن تم اعتبار اعتذاراتها المتتالية ودفاعها الواهي تعادلاً للشجار ؛
سباب واتهامات ودعوات بالأذى ثم طردها شر طردة، وبالطبع لأنها"هي السبب!"
وحينها عَقَدَت المقارنة؛
بين ذلك البيت، المصدر الوحيد للأمان الظاهري؛
وبين خالها ذي الكدمات والسجحات والكرامة المبعثرة؛
وهكذا بعد عدة أيام تركت منزله صاغرة!
........

سعاد (أمواج أرجوانية) 30-08-20 08:04 PM

تابع الفصل السادس:
عودة إلى الوقت الحالي:
انتزعها صوت هاتفها من ذكراها القريبة فمسحت دمعاتها واتجهت إليه بتثاقل لترتفع دقات قلبها وهي تتطلع إلى الاسم الذي سجلته منذ بضعة أيام فقط، عذاب آخر يقض مضجعها، حيرة أخرى وألم آخر، لكنه يبدو مصدر النور الوحيد في ظلمة حياتها.
_مرحبا ساري!
وصوته المازح جاءها بسؤال بطيء هادىء:
_ماذا تفعلين يا مشعثة؟
أغمضت عينيها باستمتاع ونبرته تطفو بالتدريج على ذكريات عقلها، لترد بخفوت:
_لا شيء!
افتعل نبرة غاضبة وهو يرد:
_لو كنتِ سألتني أنتِ نفس السؤال لكانت إجابتي بلا تفكير:"كنت لتوي أفكر بكِ" لكن يبدو أنكِ قاسية!
ابتسمت برقة ثم جمدت ابتسامتها فجأة وهي تناديه بخفوت:
_ساري! أريد.. أريد أن اطلب منك طلباً.
فرد بدون تفكير:
_كل ما تريدينه رهف سأحققه مادام في استطاعتي.
فتحدثت بنبرة ضعيفة متألمة، حاولت بقدر الإمكان إظهار البرود بها:
_أريدك أن تعيد التفكير في الأمر، أريدك أن تضع في حسبانك كل ما ستتعرض له أنت وأحبائك بسببي، لقد علمت من مريم أن لديك أخت، لا أريدها أن تتأثر، لا أريد لعملك أن يتأثر بسببي، لا أريدك أن تكرهني ساري، لذلك فكّر، واعلم جيداً أنك إن غيرت قرارك سأكون متفهمة تماماً.
وانتظرت ثانية..
ثانيتين؛
وطال الانتظار؛
إنه بالفعل يفكر!
الآن يزن جميع جوانب الأمر ويقارن!
الآن سيجبره عقله على رؤية ما عمي عنه بسبب تهوره!
والآن سيدرك قلبه أنه ربما بالغ قليلاً في اعتقاده بحبها بالرغم من عدم اعترافه به!
والآن سيعتذر لها بتهذيب؛
سيخبرها بأنهما سيظلان أصدقاء وأنه لن يتخلى عنها و...
سيبتعد!
ساري سيبتعد!
الوحيد الذي وثقت به بعد خالها وحمزة سيبتعد!
الوحيد الذي لم ينظر لها اشمئزازاً بعد أن علم علاتها كلها سيبتعد!
الوحيد الذي أيقظ قلبها بعد سنوات من السبات الإجباري ليعلن عن
فرحة..أمل..حياة..ومستقبل!!
سيبتعد؛
وانتهى الانتظار، فأغمضت عينيها تترقب الحكم
ليتحدث بكلمات متمهلة:
_أخبريني رهف! إن حققت لكِ مطلبك، إن قلت الآن أنني سأتراجع، إن قلت أننا يمكننا أن نظل أصدقاء، إن قلت أنني لن أهاتفك مرة أخرى ولن ترينني ثانية، هل ستحزني؟ هل ستتذكرينني فيما بعد وتتأملي لو أننا معاً؟ أم ستنسينني بعد فترة وربما..
صمت فجأة ثم استأنف بصوت ازدادت خشونته:
_ربما تستبدلينني بآخر؟!
شددت من إغلاق جفونها تحاول السيطرة على دمعاتها التي تكافح للهرب فكرر بصوت أكثر صرامة:
_أنتظر إجابة رهف، وأوقن أنكِ دوماً صادقة.
لازالت مقيدة عينيها ودمعاتها خلف جفونها ثم أجابته بهمس متقطع:
_سأحزن ساري، سأحزن كثيراً.. جداً، ولن أنساك أبدا، ولن أستبدلك بآخر مُطلقاً.
زفرة حارقة وصلتها من الطرف الآخر أتبعها بقوله الذيرغم هدوئه أرعبها:
_إذن فاسمعيني جيداً، لقد أخبرتك أنني لا أتراجع، أخبرتك أنني دائماً أحقق أهدافي، أخبرتك أنكِ ستكونين لي.
فتحت عينيها لتسمعه يردف بخفوت:
_أنتِ لا تعلمين كم انتظرتك رهف!
ثم أضاف بنبرة حانقة:
_وأقسم لو أتيتِ على ذكر آخر سترين مني ما لم تتوقعينه بأسوأ كوابيسك!
فغرت فاهها دهشة وهي ترد بحنق:
_أنت من قلت أن....
قاطعها بغضب:
_إذن لا تسمعي!
فتحت فمها وأغلقته بضعة مرات تبحث عن رد مناسب فلم تجد، ليتابع هو بجدية أقلقتها:
_سأكون صادقاً معِك رهف، لقد تحدثت مع أمي عنك، وكما توقعت عارَضَت، لكنني سأقنعها بكل الطرق حتى تدرك كم أنتِ مهمة بالنسبة لي، وأنني لم ولن أفكر إلا بك، لا تقلقي أبداً، لن أسمح لأي شخص أن يحول بيني وبينك.
تألمت بشدة بالرغم من الوعود التي يطلقها،
ها هي قد سببت المشاكل له أيضاً؛
ها هي قد أصابته بلعنتها؛
ها هي قد كدرت صفو حياته بعد أن أعطاها الأمل.
_بِمَ شردتِ؟
حمحمت بحرج وهي تجيبه بارتباك:
_أنا.. أنا أريد النوم!
وجاءت لهجته منزعجة:
_أتطردينني من هاتفك؟! خيراً خيراً!، فيما بعد سأنتقم منكِ رهف.
وابتسمت برقة وهي ترد:
_أنا لدي حصص في الغد لهذا يجب أن أنام مبكراً.
وبنبرة ملتوية جاء سؤاله:
_ألا زلتِ على إصرارك بعدم تدريس كِبار السن أمثالي؟!
وبمشاكسة نادرة أجابته:
_ألم تتخذ قراراً بحجز درس خصوصي؟
فسألها بسرعة:
_وهل وافقتِ أنتِ؟
افتعلت اللامبالاة وهي ترد:
_أنا كنت سأقوم بترشيح معلم آخر لك!
فجاء رده الهادىء:
_لا أريد سواكِ!
والعبارة البسيطة تلاعبت بدقات قلبها الذي أخذ يخفق بجنون فَعَم الصمت لحظات حتى حمحمت هي بخجل:
_سأغلق!
ليرد مسرعاً وقد بدا لها أن حالته مُماثِلة:
_هكذا أفضل!
وبدون كلمة أخرى انتهت المكالمة، اتسعت ابتسامتها والأمل يطرد الخوف بقلبها، حتى كادت تنطلق إلى الشارع بحبه صارخة!
****
"ماذا تعني أنت؟ لقد استعنت بك كي تقنعه بالعدول عن ذلك الجنون، فإذا بك الآن تطلب مني التعرف على الفتاة؟ أتقبل بها على نفسك يا عاصم؟"
عوجت سارة شفتيها باعتراض وهي تختلس النظر إلى عاصم الذي يتلقى غضب أمها كله بصبر مخاطباً إياها بهدوء يُحسد عليه:
_يا خالتي! أولا لا فرق بيني وبين ساري، وأنتِ تعلمين جيداً أنني لا أقبل بالسوء له، ومستعد لمساندته في أي شيء يفعله وإنقاذه إذا احتاج، ثانياً أنا لم أقل لكِ هيا بنا نجلب المأذون ونزوجها له، عرضتُ فقط أن تقابليها.
وبغضب هتفت سوسن:
_ولِمَ أقابلها وأنا لن أوافق على دخولها بيتي بالأساس؟! أبعد كل من رفض حتى رؤيتهن يتزوج من هي بلا أصل؟! أبعد صبري وانتظاري طوال تلك السنوات كي أراه في بيته مع زوجة تحفظه يختار لقيطة؟!
صاحت سارة:
_أمي! لقد بدأت تلك الكلمة تثير أعصابي بالفعل، أنا لا أعرف تلك الفتاة ولم أرها مرة واحدة ولم تفعلي أنتِ بالمثل، لكنكِ حكمت عليها بتهمة لا يد لها بها، ما الذي تتعرض له المسكينة إذن من الناس عندما يعلموا بابتلائها؟، لم أعهدك قاسية أمي، لم أعهدك أنتِ بالذات قاسية!
هتف بها ساري الذي فَضَّل الصمت منذ بداية الحوار:
_سارة! لا تتحدثي مع أمك بهذه الطريقة.
التفتت له سارة دامعة وهي ترد بخفوت:
_أعذرني أخي! لقد نشأنا في أحوال صعبة لكن الله منّ علينا بك، لقد رأيتُ بنفسي كم أنت تعذبت وكافحت من أجلنا، الملبس، المسكن، والتعليم، والعلاج، والحماية، كل خطوة بحياتنا كنت معنا بها تدعمنا وتؤيدنا، ولوهلة وضعت نفسي مكانها تلك التي لا أب ولا أم ولا أخ يدعمونها، لم تلقي بنفسها إلى الشارع مستسلمة وحاربت للحفاظ على نفسها، وبالرغم من ذلك فها نحن نظلمها ونحكم عليها بجريمة لم تكن موجودة حتى وقت وقوعها!
عم الصمت المكان وارتسم الألم بأشد صوره على وجه ساري..
صراع؛
صراع عنيف يدور بداخله؛
لقد مسته كل كلمة تفوهت بها أخته..
كل كلمة كانت صحيحة تماما..
أهذا ما تعانينه رهف؟!
أهذا ما تقابله يومياً في أعين الجميع؟!
وكيف هي إلى الآن لم تتشوه روحها؟!
كيف هي إلى الآن ظلت صامدة؟!
وماذا عن المستقبل؟!
وماذا....
قطع صوت اندفاع أخته إلى غرفتها شروده فهب لاحقاً إياها..
نقطة ضعف أخرى تنخر بروحه؛
لا يتحمل الحزن لها أو لأمه؛
لا يتحمل أن يرى إحداهما غير راضية وعلى استعداد أن يخوض الكثير والكثير من أجل سعادتهما.
اقترب عاصم من سوسن متحدثاً بهدوء:
_أتعلمين خالتي؟! لقد نبهتني سارة بالفعل إلى مدى الظلم الذي يقع على الضحية، في حين أننا لا نبحث عن الجاني مطلقاً، الآن سأجيب عن سؤالك ، نعم أقبل! أقبل الزواج من فتاة لها ظروف رهف مادامت على خلق ودين، وبكل سرور.
نظرت له سوسن بحيرة متألمة، فاتجه هو إلى الباب مهموماً حتى أوقفته نبرتها الحازمة:
_قلت أنها معلمة مريم بالمركز؟!
****
صف سيارته والتقط هاتفه ليكتشف أنه نسى إعادة تشغيل صوته، ثم حدق به مليا ليجد بضعة اتصالات من رهف، شعر بالقلق وبسرعة شديدة اتصل بها:
_مرحباً حمزة.
رد بوجل:
_هل أنتِ بخير رهف؟
جاءت نبرتها رائقة وهي تجيب:
_أنا بخير تماما الحمد لله، عذراً على اتصالاتي المتكررة، لكنني أريد رأيك بموضوع هام وبشدة بالنسبة لي.
وجاء صوته هادئاً مهتماً :
_طبعاً رهف تفضلي!
تلجلجت قليلا بحرج ثم تحدثت:
_أعلم أنني كان يجب علي إخبار خالي أولا، لكن.. لكني لا أريده أن يشعر بالقلق من أجلي الآن إلا بعدما اتأكد تماماً.
صمت منتظراً توضيحا فتابعت:
_أنا.. أنا.. هناك من يريد الزواج بي!
هتف بها بدهشة:
_من هو؟ وأين رأيتِه؟
فجاءت إجابتها متوترة:
_اسمه ساري، مهندس، هو أيضا ابن خالة إحدى طالباتي بالمركز.
واتسعت ابتسامته وهو يهتف بسعادة:
_مبارك مقدماً رهف.
فردت سريعا:
_لا! ليس مبارك! أقصد..ربما لا توافق والدته، لكنه يؤكد لي أن باستطاعته إقناعها.
خاطبها بجدية:
_وأنتِ ترغبين بأن يقنعها؟ أم تخافين من عدم إقناعه لها؟
ردت بحنق:
_هل هو لغز؟
ليرد بنفاد صبر:
_سأكون صريحاً رهف ولا تغضبي مني، تعلمين قيمتك لدي، هل تريدين الزواج بذلك الرجل من أجل فكرة الزواج فقط أو الاستقرار خاصة مع.. مع ظروفك؟ أم تريدينه هو بالذات لشخصه؟
همت بالإجابة فعاجلها:
_إن كانت إجابتكِ هي الخيار الأول فسأنصحك بالتراجع بصرف النظر عن هوية الرجل، خذي من قصتي مع ابنة خالك عبرة، لا تتزوجي من أي شخص إلا إذا كنتِ على اقتناع تام بشخصه هو.
عم صمت للحظات حتى قطعته هي بهدوء:
_وإن أخبرتك أنني لم أفكر في الزواج مطلقاً إلا به هو؟ وأنني لا أستطيع استبداله بأي شخص آخر حتى لو تقبل كل ظروفي؟
اتسعت ابتسامته بشدة وهو يجيب واعِداً:
_إذن سأقوم بدوري حسب الأصول.
****
اتجهت إلى مكتب الاستقبال مندهشة من تعدد الزيارات لها في الآونة الأخيرة على الرغم من أن عدد معارفها لا يتعدون أصابع يديها، حدقت في المرأة الجالسة أمامها بابتسامة مهذبة وهي تصافحها بود:
_مرحباً، أنا رهف، أخبروني أنكِ تريدين مقابلتي.
تفحصتها المرأة بدقة من أعلى رأسها إلى أخمص قدميها ثم ردت بصرامة:
_وأنا الحاجة سوسن، خالة مريم، وأم ساري!
وانمحت بالتدريج ابتسامتها الودودة، لتحل محلها أخرى متوترة!
****
وفي الشركة:
وقفت سارة أمام المصعد تدق الأرض بضيق وتوتر ليمر بجوارها أحد الموظفين هاتفاً:
_آنسة سارة، ألا تعلمين أن المصعد معطل؟
حمحمت بحرج تدعي الصرامة:
_أعلم بالطبع، لقد كنت أبحث عن شيء ما بحقيبتي فَحَسْب!
وتجاوزته إلى السلالم متظاهرة بالعبث بحقيبتها، وبينما تهرول فوق الدرجات سقطت حافظة نظاراتها الشمسية إلى الأسفل، وعندما التفتت كان هناك حذاء رجولي ضخم يدعسبمنتهى القسوة نظاراتها.
وضعت إحدى كفيها على فمها كاتمة صرخة ستجتلب جميع الموظفين بالشركة والشركات المجاورة بينما عيناها متعلقتان على حذاء المعتدي، ليلتقط الأخير الحافظة بتوجس وهو يقدمها لها قائلاً:
_آسف! لم أستطع تفاديها!
أتبكي الآن؟
يحق لها!
كانت تحبها!
باستغراب سألها:
_هل أنتِ بخير يا آنسة؟
لقد تحطمت تماما!
قبل أن تراها بعينيها تشعر بها بقلبها!
وبقلق سألها:
_أتعاني من انخفاض الضغط أو ما شابه يا آنسة؟
من أين ستحصل على مثيلة لها؟!
لقد كانت نادرة!
بإطار فضي فخم، وعدسات لامعة تضفي على مظهرها المتهور تعقلاً تفتقر إليه كثيراً!
بتوجس خاطبها:
_أستطيع مساعدتك، أنا طبيب.
تنقل نظراتها بين حذائه وبين الحافظة بحسرة واضحة!
رمقها بِحَذَر متسائلاً:
_هل تتعرضين للشلل الآن؟!
والرد كان صارخاً، بالمرة غير متوقعاً:
_لِمَ لديك حذاءاً ضخماً بهذا الشكل؟!!
وحمدا لله لم تنتظر إجابة لن يستطيع الحصول عليها، وانطلقت مختطفة حافظة نظاراتها منه فوقف قليلاً يحدق في إثرها بدهشة.
****
وفي مكتب ساري:
_هناك شخص يريد مقابلتك للضرورة القصوى، هو نفسه الذي اتصل صباحاً.
أشار لسكرتيرته بالإيجاب فخرجت لتسمح للزائر بالدخول، ذلك الذي تقدم منه بجدية متحفزة بادله إياها بكل سرور وهو يبادره:
_مرحباً دكتور، كيف لي أن أخدمك؟
وكان الرد بهدوء:
_لقد جئت من أجل رهف، أنا دكتور حمزة، كنت.....
ليقاطعه ساري ببرود:
_أنت إذن ذلك "الأخ!"
** نهاية الفصل السادس**

سعاد (أمواج أرجوانية) 02-09-20 07:55 PM

مساء الخير حبيباتي
معادنا مع الفصل السابع من سَكَن روُحِي.. في انتظار آرائكن وتعليقاتكن

الفصل السابع
*نهاية سعيدة أم..؟!*
**********
خذلان فجرح فانكسار..
وأمل فإشراق فحياة..
ثم خذلان
فــ....
وهكذا حياتي أنا؛
دائرة أجوب بها منذ الأزل..
متى بَدَأَت؟
لا أعرف!
متى تنتهي؟
أيضاً لا أعرف!
معصوبة العينين..
مُكَبّلة اليدين..
مُجبرة على طأطأة رأسي ومِن ثَم الاعتذار..
على ذنب لم ارتكبه أنا..
هل يا تُرى سيحين إثبات براءتي يوماً؟
أم أنني سأظل إلى الأبد البريئة الآثمة؟!
**********







"وأنا الحاجة سوسن، خالة مريم، وأم ساري!"
لا تعلم كم من الوقت ظلت محدقة بالمرأة التي أدركت _هي_الآن رأيها بالأمر بأكمله دون مواربة، لكن ردها وصل أخيرا، متحرجاً خافتاً:
_أهلا بك!
جلست فوق المقعد المقابل لها وهي تبحث عن فرصة للهرب وأدتها المرأة بمهدها وهي تباشرها بسؤال صريح:
_ماذا تريدين من ابني؟
فتحت فمها وأغلقته عدة مرات تبحث عن إجابة فلم تجد، أظافرها تنهش كفيها وهي بالفعل لا تشعر بأي ألم.. جسدي؛
لكن المرأة لم تكن لتترك لها فرصة أطول للإجابة فأردفت:
_أخبرني ساري بظروفك كلها، وأريد إجابة سؤال لن أقبل بعدم حصولي عليها.
رفعت أنظارها إليها في ترقب، وبكل برود سألتها المرأة:
_أين هو أبوكِ؟ هل لا يعلم بوجودك؟
لترد رهف بلهجة رتيبة قد دَرَّبَت نفسها عليها مراراً عند تلقيها ذلك السؤال:
_ يعلم بوجودي ولا يعترف بي، تبرأ مني منذ سنوات وليس لدي ما يثبت أبوته لي.
ظهر الغضب على محيا سوسن وهمت بسؤالٍ آخر فسبقتها رهف:
_كان متزوجاً من أمي زواجاً عرفياً، إن كان سيشكل هذا فارقاً معك، لكن للأسف أمي قد فقدت العقد منذ سنوات ففقدت أنا معه الفرصة لحصولي على اسمي ونسبي وكل حقوقي.
تراجعت السيدة سوسن في مقعدها كما بدأ غضبها يتراجع دونما ملاحظة منها ليحل محله شيء لم تدرك كنهه بعد، بينما تابعت رهف بنبرة_رغم وجود الحرج بها_لم تخل من التهكم:
_ولو سألتني عن رأيي الشخصي فلا أجد فرقاً بين الزواج العرفي والخطيئة، كلاهما في الظلام وفي الخفاء، يعتمدان على الغش والخيانة، لا يرضى بهم رب ولا عبد، ويضيعون بهم حقوق غيرهم.
عقد الرد لسانها ففضلت الصمت متأكدة أن الفتاة لديها أكثر، فأردفت رهف بلهجة ساخرة أكثر.. حزينة أكثر:
_وإن سألتني السؤال المعهود في موقفنا هذا: "إن كنتِ مكاني ماذا ستفعلين؟ إن أخبرك ابنك أنه يريد الزواج من لقيطة عديمة النسب تحيط بها الشبهات من كل الجوانب وهو حفظه الله ذو مركز ومكانة وبار بأهله" سأجيبك بدون تردد بــــ"لا" ، لن أقبل أبداً، لأن مستقبله سيصبح مكللاً بالعار، وربما أولاده سيتحملون نصيبهم أيضاً، لذا فإجابتي القاطعة هي لا.
حدقت بها المرأة بدهشة، ورغماً عنها تسلل بعض الإشفاق عليها إلى قلبها بينما بدت رهف كمن وجدت فرصتها أخيراً للتعبير عن الظلم الواقع عليها ولن تفلتها:
_لديكِ إبنة، كيف تتقبلين وجود من هي مثلي معها بمكان واحد وببيت واحد؟ كيف تتقبلين أن تكون أم أحفادك لقيطة؟!
والكلمة الأخيرة خرجت دامعة متكسرة لكنها لم تأبه وهي تتابع:
_وهذا لا يعني أنني أعترف بخطأ لم أرتكبه مطلقاً، ولا أنني أحكم على من هي مثلي بنفس الحكم الذي يوقعه الجميع عليّ، لكن _وببساطة شديدة_ أنا لا أتحمل كوني أتسبب في الأذى للآخرين، خاصة إن كنت أهتم لأمرهم كثيراً.
ثم مسحت دمعاتها بسرعة مبتسمة بألم وأضافت:
_نعود إلى البداية، سألتني ماذا أريد من ساري؟ سأخبرك صراحة، لكن تذكري أن أمي ماتت وأنا طفلة وربما لم أتلقَّى التعليم الكافي للرد في موقف كهذا، فاعذريني إن كانت إجابتي وقحة قليلاً.
تعلقت نظراتهما ببعضهما وهي تتابع بدون ابداء أي رغبة في إخفاء دمعاتها:
_أحبه! بكل بساطة أنا أحب ساري، لم أجرب ذلك الشعور من قبل ولم أتمناه مطلقاً، أعلم أنه شيء يصعب تصديقه خاصةً أننا تقابلنا مرات قليلة جداً، لكن هذا ما حدث.
صمتت تتنفس بعمق، ثم بخفوت أضافت:
_ابنك كان أول إنسان أثق به منذ سنوات، أول إنسان أتكشف أمامه بحقيقتي فلا أخجل، أتدركين لِمَ؟
وبهمس باكِ أردفت:
_لأنه لم يشعرني بخزي أو نبذ، لم يشعرني برغبة في التخفي والهرب، لم يحاسبني على ما لم أرتكب، ولم ينظر لي بأية شفقة، نظراته كلها شفافة واضحة، يحبني أعلم ذلك بالرغم من الذعر الذي لمحته بعينيه بالمرة الأخيرة على الأخص.
صمت أطول حل بينهما، تنازعها مشاعر فقدان وشيكة ورغبة بالتشبث..
قلبها يصرخ بها: تمسكي؛
عقلها ينهاها بحزم: ابتعدي ولا تضريه، أجزاء ما منحك من شعور سامِ عاراً تلصقيه به طوال عمره؟
_هو أيضاً يحبك بالفعل!
أجفلت وهي تنظر للمرأة منتظرة توضيحا فأكملت عابسة:
_ساري، لم يحب أبداً، عِشنا حياة أصعب مم تتصورين وظروف لا يحب أحدنا تذكرها، كان يعمل منذ طفولته كي يساعد زوجي رحمه الله، ثم تحمل مسئوليتنا كاملةً بعد وفاته منذ الصغر، لم يهدأ يوماً، كان يدور هنا وهناك كي لا نشعر بالحاجة، نسى نفسه تماما..
ازدرت المرأة لعابها وتسارعت أنفاسها بتأثر شاركتها به رهف مع إضافة الفخر بنفس الشخص لكليهما، إلى أن تابعت الأولى بابتسامة حزينة:
_لطالما ألححت عليه بالزواج لكنه كان يرفض رفضاً قاطعاً مُتمسكاً بحجج واهية، حتى أنني توقفت منذ بضعة سنوات عن ذلك الإلحاح مؤمنة_بحسرة_ أنه لن يفعل إلا حينما يكتشف أن عمره ضاع وحيداً، وحينها سيتهور ويهرع إلى أول فرصة حتى وإن كانت غير مناسبة.
أعطتها رهف نظرة متوجسة صامتة فتابعت والدته:
_لكنه لم يطلب بحياته كلها سواكِ، لم يتمنَ شيئاً ولا شخصاً غيرك، حتى أنني متأكدة وبدون أن يعلنها صراحةً أنني إذا أصررت على رفضي فإنه لن يستبدلك بأخرى مطلقاً، ولهذا أجد نفسي مضطرة إلى التغاضي عن نشأتك وأوافق.
تهللت ملامحها كمحكوم عليه بالإعدام منحوه عفواً باللحظة الأخيرة بينما تابعت المرأة بحزم:
_لكن احذري!، إن تضرر ابني يوماً بسببك للحد الذي يكدر صفو حياته ويجعله يندم على ارتباطه بك لن أسمح له بالاستمرار معك.
تجاوزت الإهانة الواضحة وهي ترد بوعد صادق:
_صدقيني حاجة سوسن، إن أنا شعرت يوماً أنني سأتسبب بأبسط ضرر لساري سأرحل فوراً ولن يراني ثانية.
نظرت لها المرأة شزرا ثم زفرت بضيق ووقفت لتنصرف بدون تحية.
**********
_أنت إذن ذلك "الأخ!"
ضيق حمزة عينيه بحذر وهو يلاحظ الغيظ المتخفي وراء الملامح الباردة، وقف ساري ببطء مصافحاً إياه بلهجة رسمية بادله إياها وهو يجلس مُرَحِّبَاً، ثم تولى حمزة بداية الحديث مباشرة:
_أخبرتني رهف برغبتك في الزواج بها.
أزاح الغيظ البرود جانباً وساري يجابهه بقوة هاتفا:
_أنا أرى أن رهف تخبرك بأدق خصوصياتها بالرغم من أن الصلة بينك وبين ابنة خالها قد انقطعت!
لم يهتم حمزة لنظرة التحذير بعينيه وهو يخاطبه مُشدداً:
_رهف بمثابة أخت لي ولا تأثير لزواجي السابق على ذلك، وهي أيضاً تعتبرني أخاها وأحد الشخصين اللذين تثق بهما، أنت تعلم ظروف رهف كلها، تعلم أنها ليس لديها أب، وتركها خالها ترحل، لكن ما لا تعلمه أن لديها أخ حقيقي ليس بهين، يريدها ولن يتركها، يريد حمايتها ولن يسمح لأيٍ كان بأذيتها.
ضيق ساري عينيه وهو يميل بوجهه باتجاه حمزة قائلاً بسخرية:
_أخ آخر؟! عظيم عظيم!، أين كان ذلك الأخ إذن منذ البداية؟ كيف تركها تعاني الذل لسنوات حتى اضطرت للإقامة وحدها، لِمَ نبتت له فجأة مشاعر أخوية حانية؟
ليرد حمزة ببرود:
_لم يكن يعلم بوجودها إلا منذ بضعة أشهر، والآن يكافح حتى يكتسب ثقتها ويستعيدها.
تحولت النظرة الساخرة على وجه ساري إلى ابتسامة مماثلة ثم قال:
_انصحه بالصبر إذن! لا أعتقد أن أمنية ثقتها به ممكن تحقيقها بهذه السرعة.
_ماذا تريد من رهف؟
والسؤال خرج من حمزة قاطعاً آمراً، حتى أن ساري توقف قليلاً ونظر له بقوة مجيباً:
_بما أنك هنا بناءاً على إخبارها لك عني فأنت تعلم أنني أريد الزواج بها.
وبنبرة شك رد حمزة:
_مهندس محترم، صاحب نصيب بشركة كبيرة، مكانة مرموقة وسُمعة رائعة، يشيد به الجميع ويفخرون بأخلاقه ونزاهته، ألا تجد الأمر غريب بعض الشيء عندما تترك كل الفتيات ذوات الظروف المناسبة والخلفية الاجتماعية المشرّفة لتقترن برهف بكل ما يحيط بها؟
استرخى ساري بمقعده وهو يبتسم باستفزاز مُعلقاً:
_أرى أنك صدقت كونك أخيها وولي أمرها بالفعل وقمت بإجراء تحرياتك عني.
ثم مال مرة أخرى يقترب منه بنظرة منذرة ونبرة محذرة:
_لكن ألا ترى أن كلماتك تحوي إهانة لرهف؟ إهانة يلقيها بها الجميع؟ حتى أنت ترى أنها أقلّ من الارتباط بشخص مناسب؟ حتى أنت يا"أخ"؟!
عم الصمت لتدور بينهما حرب النظرات
نظرات مغتاظة؛
وأخرى قلقة؛
نظرات محذرة؛
وأخرى مشككة؛
نظرات مصممة؛
وأخرى أخيراً استسلمت!
ليقف حمزة ببطء مردداً بهدوء:
_جئت أخبرك مهندس ساري أن رهف ليست بمفردها، وأخبرك أيضاً بشيء آخر ربما خفي عنك.
حدق ساري بعينيه بترقب والآخر يتابع بلهجة مشددة:
_إن عانت رهف تقلّبك أو إن أكسبتها شعورا بالتفضّل عليها يوماً لن أقف متفرجاً، ولا أظن أن أخاها أيضاً سيفعل!
تشبع ساري بالمعنى المخفي لكلمات حمزة فزفر بابتسامة قائلاً:
_إذن لا يوجد ما يدعو للقلق.
مد حمزة يده مصافحاً إياه فبادله ساري المصافحة بكل سلام..
سلام انتزعه إعصاراً هائجاً اقتحم غرفة المكتب فجأة، فضغط أسنانه بغيظ بينما انتفض حمزة قافزاً رغماً عنه هاتفاً:
_بسم الله الرحمن الرحيم!
"أنت يجب أن تحل مشكلة ذلك المصعد يا ساري، لقد كُسرت نظاراتي الفخمة بسبب ذلك العُطل!"
وألقت الحافظة على سطح المكتب، بعدستين مفككتين وهيكل تم طحنُه!
_كم مرة سأعلمك طرق الباب ونحن بالشركة سارة؟! لقد أرعبتِ الرجل!
خرج هتاف ساري غاضباً فطأطأت سارة رأسها بحرج وهي تلمح وجود رفقة بصحبة أخيها، أما حمزة فقد انعقد حاجباه بحنق مدافعاً:
_أنا لم أرتعب، إنه رد فعل بشري تلقائي.
لم تهتم سارة بالرد على أخيها أو بالاعتذار من ضيفه، بينما كل ما كان يشغل عقلها حذاء أسود ضخم !
وبخفوت رددت وهي تدقق النظر به أكثر:
_إنه أنت! أنت من كسرت نظاراتي!
ثم رفعت عينيها إلى وجهه متابعة بغيظ واضح:
_أنت كسرت نظاراتي الفخمة باهظة الثمن، لقد كانت أحدث إصدار!
"آسف؟!"
وَرَدُّه خرج في هيئة سؤال أكثر منه اعتذار حقيقي عن اقتناع، بينما ينظر لساري يسأله بعينيه عن كيفية التصرف مع تلك المخلوقة الغريبة فيمط ساري شفتيه في إشارة إلى أن الأمر طبيعي تماماً!
والغيظ تحول إلى حنق في صوتها وهي تهتف:
_وبِمَ سيفيدني أسفك وقد أصبحت نظاراتي أشلاء بفضل قدميك الغريبتين؟
وبتلقائية وفضول أطال ساري عنقه مدققاً بقدمي حمزة ليشعر الأخير بالحرج وببعض الذنب!
_أنا حقاً لم أجد الوقت الكافي لإنقاذ نظاراتك الفخمة، أعتذر!
نزع ساري عينيه انتزاعاً عن قدمي حمزة وهو يسأل بنفاد صبر:
_ما الذي حدث سارة؟
وكطفلة غاضبة يتطاير الشرر من عينيها أشارت إلى حمزة شاكية:
_هذا الرجل دعس نظاراتي بحذائه حتى تحطمت تماماً، إنها النظارات التي أهديتني إياها مؤخراً يا ساري!
دار ساري حول مكتبه حتى توقف بجانبها وأحاط إحدى كتفيها بذراعه وهو يربت عليها قائلاً:
_لا تحزني، فداكِ كل النظارات، سأبتاع لكِ غيرها.
انتفضت للخلف رامقة أخيها بغضب وقالت:
_أنت السبب في الأصل، لو لم يكن مصعد شركتك معطل لما اضطررت إلى صعود الدرجات، ولم تكن نظاراتي لتتحطم تحت حذائه غريب الشكل.
وهتف بها الإثنان سويا:
_أنا السبب؟!
_حذائي ليس غريب الشكل!
هنا نظر ساري إلى حمزة بنبرة اعتذر متحرجة:
_لا عليك! هي فقط مندفعة قليلا ولم تتعمد مضايقتك.
وبذقنها أشارت إلى حمزة تسأل أخيها:
_من هذا؟
من بين أسنانه وبنبرة محذرة رد:
_إنه دكتور حمزة، بمثابة أخ لرهف.
ثم نظر إلى حمزة بابتسامة متكلفة معتذراً:
_إنها أختي سارة، وقد سقطت مراراً على رأسها أثناء طفولتها، لذا لا تؤاخذها.
اتسعت عينا حمزة بتوجس وهو يرى انقلاب ملامحها إلى النقيض تماماً إلى الابتسامة المنشرحة التي جعلت ملامحها أكثر جاذبية رغم طفوليتها، حتى أنه الآن فقط لاحظ لون عينيها الأخضر!
بينما اقتربت هي منه ببشاشة وترحيب هاتفة:
_أخ رهف؟!! أهلا أهلا، أرجو ألا تنزعج مني، كيف هي رهف؟ كيف حالها الآن؟
ظل حمزة محدقاً بها بدهشة، ثم التفت إلى أخيها عاجزاً عن الكلام فمط ساري شفتيه مرة أخرى ثم أشار على رأسه بحركة مُبطنة، فالتفت حمزة إليها مجيباً بكلمات بطيئة:
_هي بخير، وتبلغك سلامها.
اتسعت ابتسامتها وهي تلتفت إلى شقيقها هاتفة بفرحة:
_حقاً؟ أحدثتها عني يا ساري؟
هز أخوها رأسه نفيا بدهشة بينما تحدث حمزة بارتباك:
_لا! هي لم تبلغك سلامها بالفعل، إنه مجرد رد تلقائي.
مطت سارة شفتيها بحزن طفولي ثم انفرجت ملامحها مرة أخرى وهي ترد:
_لا عليك، قريبا سأتعرف عليها بنفسي وسنصبح صديقتين، بل أختين!
نظر حمزة له بتساؤل فتظاهر ساري بالتحديق إلى الجدار مُخفياً حَرَجُه، لكن سارة لم تكن لتقف عند هذا الحد وهي تسأل حمزة بتهور شديد:
_هل هي مثل الصور جمـ.....
ليقاطعها صياح أخيها الغاضب باسمها محذراً فابتلعت بقية كلماتها وهي تستدرك مبتسمة:
_حسناً، بالتأكيد سأعرف بنفسي.
ثم التفتت إلى شقيقها ولثمت وجنته قائلة:
_بالتأكيد أيضاً ستعوضني عن النظارات التي كسرها لي أخ خطيبتك.
خطيبتك؟!
والكلمة تسللت إلى قلبه لترسم ابتسامة على شفتيه وتقيم الأفراح بين دقاته.
حمحم حمزة بخشونة وهو يلاحظ شرود ساري قائلاً:
_سأنصرف الآن مهندس ساري، أستأذنك آنسة سارة.
وعندما هم بالإنصراف التفت إلى ساري مرة أخرى وفتح هاتفه قائلاً:
_سأعطيك رقم خال رهف، الأستاذ صلاح.
وبدون كلمة استمع ساري إلى الرقم وهو يومىء رأسه بشُكر، فانطلق حمزة هارباً من تلك المجنونة التي تنظر لهما بحماس زائد وتركها لتتلقى تعنيف أخيها بصمت تام!
**********
أنهت المكالمة الهاتفية مع أمها وهي تزفر بتعب، لقد سئِمت تلك المكالمات بينها وبين أمها وخالتها التي لا تنتهي، كيف يطلبان منها إقناع عَمَّار بالعودة الى الفيلا وهي نفسها لا تقتنع بذلك؟! كيف يعتقدان أنها قد تفرط في عَمَّار الجديد الذي يفاجئها يوماً بعد يوم؟
ليس ابن خالتها الكئيب؛
ليس صديقها الشارد؛
ولا هو بزوجها الناقم على الجميع المتقبل أي شيء في صمت.
إنما عَمَّار آخر.. مهتم، متفائل، حازم، ماكر، ومهووس باللون الأزرق!
ومن جهة أخرى هي تعلم تماماً أن هدفهما من ذلك الإلحاح أن يغير عَمَّار رأيه بشأن أخته، وهو ما أصبحت هي متأكدة من أنه لن يسمح به أبداً.
"ليتكِ ظهرتِ منذ زمن رهف، لقد أعدتِ إليّ عَمَّار الذي أحببته وبالصورة التي طالما رسمتها بخيالي!"
زفرت بحالمية لتجده فجأة يجلس بجوارها يكاد يلتصق بها فابتعدت قليلاً، لكنه اقترب بتصميم ومد ذراعه ليضعها على ظهر الأريكة خلفها فحاولت التظاهر باللامبالاة بالرغم من تأثرها الواضح على وجهها.
_فيم أنتِ شاردة؟
قالها باهتمام فأجابته بارتباك قائلة:
_لقد.. لقد كانت أمي تحدثني للتو.
وبنبرة قلقة سألها:
_أهي بخير؟
_نعم، كانت.. تطلب مني إقناعك بأن نعود إلى الفيلا، وأن تتصالح مع أبيك، يبدو أن لديه بعض المشاكل الخطيرة بالعمل حتى أنه يتعرض لبعض التهديدات أيضاً.
أطلق عَمَّار ابتسامة ساخرة دون مبالاة.. وهل توقفت تلك التهديدات أبداً؟!
منذ سنوات كان يقلق بسببها بالفعل، حتى أنه كان يصمم على عدم خروج تغريد من المنزل بمفردها وقام بالحرص على تحركاتها إلى درجة الاختناق أحياناً!
لكنه الآن بدأ يشك أن أباه يجذب الانتباه إليه بعدما بدأ مصنعه في التدهور بسرعة غريبة بالفترة الأخيرة.
طرد خيال أبيه من عقله ونظر لها بتدقيق متسائلاً:
_وبِمَ أجبتها؟
هزت كتفيها قائلة:
_وعدتها أنني سأتحدث معك.
عَمَّ الصمت للحظات وهو يحدق بعينيها ثم سألها بخفوت:
_وأنتِ ماذا تريدين؟
انعقد حاجباها بدهشة وهي ترد:
_ماذا تقصد؟
أعاد سؤاله بطريقة أوضح قائلاً:
_أقصد هل أنتِ تريدين العودة إلى ذلك المكان؟ أم تفضلين البقاء هنا؟ في بيتنا وحدنا؟
اتسعت عيناها هاتفة برقة:
_هل تطلب رأيي؟
ليبتسم لعينيها مؤكداً:
_ألستِ زوجتي وأم ابني؟ هذا القرار لا يخصني وحدي مَوَدَّة، أنتِ شريكة حياتي ومن حقك أن توافقي أو ترفضي.
وبنبرة أكثر خفوتاً أضاف:
_ألم أقل لكِ أنكِ روحي مَوَدَّة؟
تسارع تنفسها وتسابقت ضربات قلبها..
ما الذي يفعله بها؟
ما الذي يريده منها؟
إن كان ضميره قد استيقظ أخيرا ويشعر بالذنب فيكفي أن يعيدها صديقته فقط، لا تريد التعلق بأمل واه، لا تريد التطلع لأماني زائفة.
هَبَّت واقفة مبتعدة عنه لأقصى ركن بالغرفة فزفر بحنق متجهاً إليها:
_ماذا بكِ مَوَدَّة؟ لِمَ ابتعدتِ؟
التفتت إليه هاتفة بألم:
_ماذا تريد مني عَمَّار؟ إلى ماذا تهدف بمعاملتك الجديدة معي؟
صاح بها غاضباً:
_أريد العفو مَوَدَّة، أريد سماحِك، أريد فرصة أخرى، أعلم أنني كنت....
قاطعته بصراخ دامع:
_لا عَمَّار! أنت لا تعلم أي شيء، لا تشعر بجرح كرامتي وجرح قلبي، لن تدرك أبدأً الحرقة التي تنتابني منذ سنوات بسبب وجودك أمامي لكنك لست معي، أرى بعينيك صورة امرأة أخرى لم تحب غيرها، وأرى صورتي كخاطفة رجل ليس من حقها، أنا أكره حبي لك الذي لم ينقص ذرة واحدة منذ احتل قلبي عَمَّار، أكره قلبي الذي يتوسلك كي تسمع أنينه.
صمتت محاولة السيطرة على أنفاسها المتسارعة بينما حَدَّق هو بها بألم شديد ممتزجاً بنقمته على نفسه، حينما تابعت هي بصوت أكثر هدوءاً:
_أتعلم؟! بالرغم من أنك لم تخني بالفعل، لكن يجب أن نضع حد لتلك العلاقة المرهقة، أنت لا ترضى لي أن أتعذب بتلك الطريقة.
هنا تمسك بذراعيها هاتفاً بغضب لم تره إلا يوم واجه أبيه منذ سنوات:
_اسمعيني جيدا مَوَدَّة، لقد سبق واهتممت بفتاة لم يشأ الله إتمام علاقتي بها وانتهت تماما منذ سنوات قبل زواجي بك، لا تحاسبينني على فترة كنت فيها ضائعاً وأنتِ خير من يعرف معاناتي التي لم تنتهي حتى الآن ولن تنتهي إلا عندما أجتمع بأختي.
ثم خَفَّت قبضته على ذاعيها كما رَقَّ صوته وهو يتابع بِصِدق جلي وعشق واضح للأعمى:
_لكن.. لكن أنتِ مختلفة مَوَدَّة، أعلم أنني كنت عديم الإحساس لوقت أطول مما ينبغي في الواقع، لكنني ندمت، وأدركت الآن قيمتك لدي، أتعتقدين أنني أرى بكِ مجرد بداية لحياتي الجديدة؟
التزمت الصمت مكتفية بالانتظار فتابع يهُز رأسه نفياً:
_أستطيع البحث عن أخرى لم تشهد كل أخطائي وخضوعي وسلبيتي، أستطيع أن أتمسك بصورة عَمَّار الجديد التي لا يعرف أحد الماضى المخزي منها، لكن.. لكنني أريدك أنتِ مَوَدَّة، ليس لأنكِ زوجتي، ولا لأنكِ أم ابني، ولا لأنكِ تساعدينني على استعادة أختي، بل لأنكِ أنتِ مَوَدَّة، لأنكِ.. حبيبتي!
فغرت فاهها بذهول وهي تتطلع إليه، بينما يبدو أن الكلمة التي نطق بها فاجأته هو شخصياً قبلها، حيث رمقها بدهشة ثم ظهرت ابتسامة أخذت تتسع بالتدريج على وجهه وهو يردد بخفوت:
_حبيبتي!
ليكرر بلهجة متهللة:
_حبيبتي!
ويعيد صائحاً باكتشافه بفرحة عارمة:
_حبيبتي أنتِ! مَوَدَّة، روحي أنتِ وحبيبتي!
ظلا لبعض الوقت يحدق كلا منهما بالآخر ولا يريد أحدهما كسر سحر اللحظة، حتى تراجعت هي للخلف فترك ذراعيها مترقباً، بينما أعلنت الصدمة عن نفسها على وجهها بوضوح، ثم ما لبثت أن تهربت من عينيه المُصرتين على شيء لم ترغب_أو لم تتحمل_ تصديقه.
وبعد قليل تحدثت بخفوت:
_عَمَّار أنا.. أنا لازلت....
وبلهفة اقترب منها متوسلاً:
_أريد فرصة مَوَدَّة، فرصة واحدة أثبت لكِ بها صدقي، أثبت لكِ بها حبي فلا تَرُدّينني خائباً!
هزت رأسها بلا تعبير ممزقة بين خبرتها الطويلة معه وعدم ثقتها به وبين أمل بعينيه مشرق يَعِدُها بسعادة مقبلة ثم ما لبثت أن انصرفت مُسرعة ليبقى هو مكانه مبتسماً بدهشة غارقاً في اكتشافه الجديد والذي يشعر وكأنه أصح ما حدث له مؤخراً.
**********

سعاد (أمواج أرجوانية) 02-09-20 07:57 PM

تابع الفصل السابع

"لقد قابلت تلك الفتاة التي تريد الزواج منها اليوم."
ألقت سوسن تلك العبارة بهدوء على مائدة الطعام فحدق بها كلا من ساري وسارة بدهشة للحظات، ثم بادرت سارة بحذر:
_أين قابلتها يا أمي؟
باقتضاب ردت سوسن:
_ذهبت إليها في عملها.
"يا إلهي! أهو أحد الأفلام العربية القديمة؟!"
همست بها سارة بصدمة بينما_وبصوت متحشرج_ سألها ساري شاحب الوجه:
_بم تحدثتِ معها يا أمي؟ هل.. هل سألتِها عن والدها؟
رمقته أمه بنظرة حانقة وهي تهتف:
_لا تخف على حبيبة القلب يا ساري! لم أعذبها، لقد تحدثت معها كي أفهم منها قصتها.
شحب وجهه تماماً وهو يسألها باقتضاب:
_وماذا قالت؟
ثم أردف بِغضب قبل أن تجيبه:
_لقد أخبرتك بنفسي عن قصتها يا أمي، لِمَ أمعنتِ في إحراجها؟
هَبَّت سوسن واقفة وهي تهتف بغيظ:
_كان يجب أن أراها، أن أتحدث معها، أن أعلم هل هي تستحق تضحيتك أم لا؟
ليقف أمامها ثائراً كما لم تره منذ سنوات عدة:
_أي تضحية يا أمي؟ عن أي تضحية تتحدثين؟ أما يكفي نظرة الناس لها حتى تزيدي أنتِ في إيلامها؟ أنتِ تعلمين تماماً أنني لم أكن لأتزوجها بدون موافقتك، لِمَ إذن أهنتِها؟
والألم على وجه ابنها مزقها..
ألهذه الدرجة يا ساري أحببتها؟!
ألهذه الدرجة تتعذب خوفا من فقدانها؟! ورغماً عنها تسللت إليها بعض الغيرة.
لترد بعد قليل بخفوت:
_تزوجها يا ساري، أنا لا أرفض.
فانطلقت زغرودة حادة طويلة من أخته وهو لا يزال يستوعب ما قالته أمه، ليضع إحدى كفيه على فمها يخرسها وهو يطالع أمه ببلاهة متسائلاً ببطء:
_هل أنتِ جادة أمي؟!
هزت أمه رأسها إيجاباً وعدم الرضى يعلو ملامحها بوضوح، وبدلاً من أن ترى الفرحة بعينيه كما توقعت..وجدت وجوم!
بينما أزاحت سارة كفه وأطلقت زغرودة أخرى أعلى وأشد فلم يمنعها.
وبعد قليل بغرفته التقط هاتفه ثم عبث بأرقامه وانتظر عدة لحظات:
_مرحباً أستاذ صلاح، معك مهندس ساري، وأرغب بالتحدث معك بموضوع شخصي.
**********
"لقد اشتقنا إليكِ آنسة رهف."
ابتسمت بضعف للطفلة الجميلة التي قلدت زملائها في وصف اشتياقهم إليها بعد غياب بضعة أيام هرباً، لكن ها هو سبب تهربها يجلس على مسافة قريبة ويبتسم لها ببراءة شديدة، لتتهرب هي بعينيها منه وتبدأ بإلقاء درسها على الأطفال حتى تناست بعضاً من همومها على وجوههم وبين ضحكاتهم.
وأثناء استراحة الفصل اقترب منها إياد فنظرت له بتوجس وهو يسألها بطريقته الفضولية المحببة:
_لِمَ كنت غائبة طوال تلك الأيام آنسة رهف؟
شردت بملامحه تحاول البحث عن أخرى قاسية، لكنها للأسف لم تجد إلا عينين كانت تحدق بمثيلتيهما بمنتهى الخوف منذ بضعة أيام حينما كانا يحملان نفس النظرة المشتاقة، لم تجد إلا ابتسامة ذكرتها بأخرى ارتسمت من أجلها حانية..
ما المشكلة إذن؟
أيعقل أنها تخاف من طفل؟! إنه طفل! ليس له ذنب في نسبه.. تماماً مثلها!
_آنسة رهف؟!
هزت رأسها محاولة إخفاء القلق المضحك على ملامحها وهي تجيبه:
_نعم؟
_لقد سألتك لِمَ لم تحضري تلك الأيام الفائتة؟
ردت بنبرة مرتبكة:
_كنت متعبة بعض الشيء.
ليرد الطفل بحزن بريء على ملامحه:
_شفاكِ الله وعافاكِ، عندما أمرض تقوم أمي بتقبيل مكان الوجع فيشفى فوراً، اجعلي أمك تفعل المثل معك.
ابتلعت غصة مسننة تسد حلقها وهي تومىء برأسها إيجاباً، فابتسم الطفل أكثر ثم ابتعد.
حدقت في إثره تحاول تحليل مشاعرها تجاهه..
إنه طفل!، مجرد طفل!..
لكنه ليس كأي طفل؛
هو ابن أخـ....
أغمضت عينيها طاردة الكلمة كلها بما تعنيه من عقلها، ثم أجبرت نفسها على لملمة شتات نفسها ومواصلة عملها.
**********
أنهى مقابلته مع أحد العملاء بخارج الشركة ثم تناول هاتفه ليهاتف والدته قبل عودته إلى المنزل، وحينها جاءه صوتها مهموماً:
_ما بكِ أمي؟
_لا شيء حبيبي، كيف حالك أنت؟
تملك القلق منه وهو يعيد سؤالها:
_أمي ما بال صوتك؟ هل أنتِ مريضة؟ هل أنتِ وحدك؟
ردت بلهجة حنونة:
_لا تخف عليّ بني، أنا فقط في انتظار مشكلة ما ستحدث اليوم ولا أعرف كيفية التصرف.
سألها عاصم بإلحاح متوتراً:
_أمي لقد بدأت أفزع بالفعل، أخبريني ماذا حدث؟
وصلته زفرة أمه الحانقة بوضوح وهي تجيب:
_تلك المرأة لن تهدأ إلا عندما تسبب فضيحة، وأنا أعلم أن سما تتعامل معها بهدوء فقط من أجلي، لكنني لن أستطيع السيطرة عليها للأبد.
وبدهشة رد عاصم:
_أية امرأة؟! وأية فضائح؟! أنا لا أفهم شيئاً أمي!
وبعد عدة دقائق كان ببيت أمه التي جلست بجوار سما وبرفقتهم ثلاثة أشخاص من ذوات الدم البارد ربما..!
التزم الصمت مفضلاً تحليل الموقف كاملاً قبل التدخل في شيء لا يعنيه على الإطلاق، وعلى بُعد بضعة أمتار شعر أنه إن دقق النظر سيستطيع رؤية دخان متصاعد من رأسها، أو ستتناثر أسنانها أرضا من فرط ضغطها عليهم، أو ستنتفض فجأة مُشهرة سلاحاً في وجه ذلك الشاب الذي يقفز العبث من عينيه بفخر غريب!
"هل نستطيع التحدث بمفردنا سما؟"
ألقى الشاب سؤاله بِأمل واضح، وبمنتهى البرود صدحت إجابتها حاسمة:
_لا!
نظرت السيدة دلال لها بغيظ ثم خاطبتها بِعِتاب:
_لا يصح ما تفعلينه يا سما، يجب أن تمنحي شريف فرصة، لا ينتهي كل شجار بين الرجل وخطيبته بالانفصال.
ابتسمت ابتسامة رغم برودها إلا أنها كانت لائقة بها أكثر من عبوسها الدائم قائلة:
_ليس خطيبي، ابنك لم يعد خطيبي منذ أشهر، لذا ما أفعله يصح تماماً.
هنا تدخل الأب تحت تأثير نظرة آمرة من زوجته قائلا بِمهادنة:
_يا سما، هو أخطأ ويعترف بذلك، ما رأيك إن تعارفتما من البداية، وكأنما لا خبرة سابقة جمعت بينكما؟
نظرت له سما باستهجان وكذلك فعل عاصم، لكنها سارعت بالإجابة بهدوء:
_أعرفه تماماً ، ابنك يعتقد أنه ذكي بشدة، يستطيع التلاعب بالفتيات وبنفس الوقت يحتفظ بي، آسفة عمي، أنا لا أقبل بذلك أبدا.
وبابتسامة أيقن عاصم تماماً أن صاحبها ليس بالواقع كما يحاول التظاهر بالكياسة والرزانة تحدث شريف:
_كانت زلة سما، ولن تتكرر أعدك، كما أن جميع الشباب في مثل سني لهم علاقات متعددة، إنه أمر طبيعي، أؤكد لكِ ذلك!
هنا التفتت سما فجأة إليه هاتفة:
_عاصم!
المرة الأولى!
إنها المرة الأولى التي تناديه باسمه!
لا يعرف لِمَ لفت شيء مثل هذا انتباهه لكنه رد مسرعاً:
_نعم سما؟!
لتفاجئه ثانية وهي تسأله باهتمام شديد:
_هل لك علاقات بأكثر من فتاة بوقت واحد؟
وبرغم دهشته فإنه بسرعة مماثلة هز رأسه نفياً هاتفاً:
_أنا ليس لي علاقات بأية فتيات سوى بمريم أختي وسارة ابنة خالتي.
ثم تمتم هامسا لنفسه:
_على اعتبار أن الأخيرة فتاة!
لكن سما التفتت مرة أخرى إلى خطيبها السابق هاتفة بابتسامة مستفزة:
_أرأيت؟! هذا شاب بمثل سنك ومهندس محترم، لا يتعرف على الفتيات بدون داعِ ولا يخدعهن.
ثم هبت واقفة مخاطبة الجميع بصوت قوي:
_عذراً شريف، أنا لا أقبل بك شريكاً لحياتي تحت أي ظرف، أرجو أن تكون تلك هي المرة الأخيرة لِذِكر هذا الأمر.
وقفت الأم تنظر لها بغيظ واتجهت إلى الباب ليتبعها الأب فورا، لكن شريف تقهقر وهو ينظر لسما بتوسل قائلاً:
_سما، أنتِ تعلمين أن مكانتك لدي مختلفة، أنتِ لست مثل الأخريات، أنتِ.....
حسناً! لقد تمسك بالصمت منذ نصف الساعة لكن ذلك اللحوح أثار أعصابه إلى الحد الأقصى ليجد نفسه يهتف به بحنق مقاطعاً:
_هل لديك صعوبة في الفهم يا هذا؟
نظر له شريف بتحفز:
_عفوا؟! ماذا تقصد؟
ليجيبه عاصم بابتسامة مفتعلة يخفي بها الغيظ الذي بدأ بالتملك منه:
_أقصد أنها أوضحت انعدام رغبتها بك أكثر من مرة، لكنكَ_ولا أقصد حسداً_ مثابر ولحوح إلى أقصى درجة.
نقل شريف نظراته بين عاصم وسما المبتسمة باستمتاع شديد ثم سأله حانقاً:
_ما صفتك أصلاً؟ لِمَ تتدخل بالأساس بيني وبينها؟ وكيف تتحدث معي بهذا الشكل؟!
وضع عاصم يده على رأسه بأسف مفتعل وهو يرد:
_ألم أعرفك بنفسي؟! يا لذاكرتي الضعيفة!
ثم رسم ابتسامة واسعة وهو يمد كفه تجاهه مصافحاً فوضع شريف يده بها بتلقائية مندهشاً، ليبدأ عاصم بنبرة مهذبة:
_معك المهندس_قليل الذوق، عديم الإتيكيت_، عاصم عبد الرحمن شخصياً!
وبلحظة محا ابتسامته ليضع محلها نظرة صارمة مخيفة مشدداً على كل كلمة بشراسة:
_والآنسة سما في حمايتي!
ارتسم الغضب على وجه شريف وهو يتجاوزه بنظره إلى سما الواقفة خلفه والتي تتضح عليها مظاهر السعادة الفائقة، فعاد إليه بعينيه وهو ينزع كفه منه متسائلاً بحنق:
_هل أنت خطيبها؟
عقد عاصم حاجبيه دهشة ثم التفت إلى سما التي جعلتها الكلمة ترمق شريف ببلاهة مستنكرة، حدق بها للحظات متأملاً ثم التفت مرة أخرى إلى شريف...
وببساطة رد مبتسماً:
_بالطبع أنا خطيبها!
**********
كانت تقف بأحد أركان باحة المركز تراقب الأطفال أثناء مغادرتهم باهتمام؛
لا تعلم لِمَ تفعل ذلك؛
لا تعلم هل هو الفضول الذي يجعلها تنتظر منذ نصف ساعة مترقبة انصراف الأطفال أم ماذا؛
هل سيأتي هو ليصطحب ابنه؟ أم زوجته؟
تُرى ما شكل زوجته؟
وكيف تقابلا؟
تُرى كيف كان زفافهما؟
وكيف كان يوم ميلاد ابنهما؟
ترى هل له أشقاء آخرين؟ وبالتالي يكونون إخوة لها؟!
أسئلة تتصارع بعقلها ينبهها كل واحد منهم إلى ما فاتها..كأخته!
وانطلق إياد إلى خارج المبنى مهرولاً لتتبعه عيناها بإصرار حتى توقف أمام إحدى الشابات ثم ارتمى بأحضانها، ضيقت عينيها قليلا محدقة بها بدهشة..
لقد رأتها من قبل! هي أيضاً رأتها من قبل! وبلا إرادة منها اتجهت إليهما حتى شعرت الأخرى بها فرفعت رأسها مجتذبة ابتسامة متوترة قائلة:
_مرحباً رهف!
فجاءها الرد المتشكك فوراً:
_لقد رأيتك من قبل! هل كنتِ معه وهو يراقبني؟!
هزت مَوَدَّة رأسها بسرعة وهي تجيبها والصدق واضح بعينيها:
_لا! لقد.. لقد تحدثنا سوية من قبل، أنتِ من أخبرتني عن الدورات هنا.
ثم أشارت إلى ابنها متابعة:
_كنت أسأل من أجل إياد.
نظرت رهف إلى الطفل المبتسم بفرحة شديدة لأن معلمته تقف معه وتتحدث مع والدته هو على الأخص، لكن معلمته كانت بوادٍ آخر وهي تعود بنظراتها لأمه متسائلة بتهكم لم يخف عليها:
_صدفة غريبة، أليس كذلك؟!
لقد كانت مَوَدَّة طوال عمرها فاشلة في الكذب، فاشلة في الاصطناع، فاشلة في التمثيل، ولذا فقد تهربت عيناها منها فورا فأردفت رهف:
_هل كان يجعلك تراقبينني؟
وبسرعة نفت مَوَدَّة:
_لا! لم يكن له شأن بذلك، عَمَّار لم يطلب مني أبداً مراقبتك.
كتفت رهف ذراعيها وهي ترمقها ببرود ثم سألتها:
_ماذا تريدون مني؟
وبلهفة اقتربت منها مَوَدَّة هاتفة:
_عَمَّار مظلوم رهف، هو ليس مثل والده على الإطلاق، عَمَّار يريدك معه، يريدك إلى جواره، أنتِ أخته مثل تغريد تماماً، لا تدرين كم يتعذب هو بسبب كراهيتك له ونفورك منه.
وبالرغم من الألم الذي ازداد بقلبها صَامَّاً أذنيها عن أي شعور آخر يرغب بالتصديق، فإن كلمة واحدة اجتذبت انتباهها، وبالأحرى..اسم!
والسؤال غير المتوقع انطلق بلا تفكير:
_من هي تغريد؟
والإجابة التلقائية خرجت بحماس:
_أختك، تغريد أصغر منكِ بستة سنوات، هي أيضاً متشوقة جداً لرؤيتك، مثل عَمَّار.
تراجعت رهف إلى الخلف خطوة وهي تهز رأسها
رفضاً..
رفضاً لأخ ظهر مؤخراً؛
رفضاً لأخت علمت بوجودها للتو؛
رفضاً لزوجة أخ يبدو التوسل بعينيها صادقاً؛
رفضاً لابن أخ ينظر إليها بانبهار حالاً؛
رفضا لهدم اعتقادات احتلت عقلها لسنوات كثيرة بعدم رغبة أحد بها!
كاذبون..
كلهم كاذبون..
هم ليسوا بملائكة!
وهي أيضاً ليست إلى تلك الدرجة متسامحة!
لترد بنبرة قوية ظاهرياً مرتجفة باطناً:
_أخبري زوجك وأخته أن يبتعدا عني، أنا لا أريد أياً منكم بحياتي، لقد اعتدت على عدم وجودكم، والآن لن أتقبلكم مطلقاً!
ثم استدارت راحلة قبل أن تضعف أمامها وأمام الطفل الذي_رغماً عنها_ شعرت برابط طبيعي يجذبها إليه..
بينما حدقت مَوَدَّة في إثرها بألم..
الفتاة تعاني بقسوة؛
تأمرها بالابتعاد عنها وتتوسلها عيناها بالوقت ذاته بالاقتراب وعدم التخلّي!
**********
"يا إلهي! توقفا عن الشجار للحظة!"
هتفت بها صفاء بالاثنين الذين حولا غرفة استقبالها إلى ساحة حرب، يتبادلان النظر لبعضهما بِغِل واضح بصوتيهما، ليبادر هو:
_اصرخي بها هي أمي، بدلاً من أن تشكرني لأنني أنقذتها من ذلك الــــ"كازا نوفا" ها هي تتشاجر معي وتتهمني بالتدخل فيما لا يعنيني.
لتهتف الأخرى بسخرية متظاهرة بالانبهار:
_يا الله! المهندس عاصم شخصياً تنازل وأعلن أنه قد خطبني لينقذني من ذئب آخر، كيف لم أرقص أنا طرباً وفرحاً حتى الآن؟!
فيرد ببرود:
_لا أعلم حقاً، فأنا لم أمنعك!
لتصرخ حانقة:
_أم عاصم، اجعلي ابنك يتوقف عن إثارة غيظي وإلا صدقيني سأتجاوز فرق السن وسأجعله يدرك ماذا باستطاعتي أن أفعل.
فيسألها باهتمام مستفز:
_وماذا عن فرق الطول؟!
أشهرت قبضتيها أمام وجهه في وضع لَكْم متحفز، لكن صوت صفاء هو ما جعلها تسكن مكانها:
_يا سما، عاصم لم يتعمد ما فعل، هو أراد أن يخلصك من إلحاح شريف فتحدث بتلقائية.
تدخل هو بنزق:
_ها قد قُلتِها! أخبريها يا أمي، أخبريها أنه لولا تدخلي لكان ذلك الـــ"كازانوفا" عاد غداً وبعد غد وبعده، ثم لا تستبعدي أن يقم باختطافك وإلقاء مياة النار على وجهك لإجبارك على الزواج به، فهو يبدو_وحقاً لا أفهم السبب_ مدله تماماً في عشقك.
اتسعت عيناها بصدمة بسبب وقاحته حتى شعر هو بأنه ربما تجاوز حدوده قليلاً، لكن مجدداً أمه تحدثت بهدوء:
_يا عاصم نعلم أنك نجحت في تخليصها من مشكلة، لكنك ورطتها بأخرى.
انتظر عاصم توضيحاً ما فلم تتأخر أمه وتحدثت بضيق:
_أنت أعلنت خطبتكما وهذا غير صحيح، ودلال تدخل بيوت الجميع في الحي، وهي ليست أمينة تماماً وسترغب في الانتقام، لذا من الغد سيعلم الجميع بأنك تتردد على البيت منذ فترة في وجود أمك الضريرة فقط وعندما ضغط شريف عليك تذرعت بِخطبة وهمية.
هنا قفزت سما تربت على كتفيها بحنان هاتفة:
_لا تتحدثي بتلك الطريقة أم عاصم، إن شئت يمكننا أن ننتقل من الغد إلى مكان آخر.
"أو نستمر في ادعائنا الخطبة!"
ما باله اليوم ينفصل لسانه عن عقله تماماً؟! وما بال لسانه المتهور يتمسك بكلمة"الخطبة" وكأنه لا يعرف من اللغة بأكملها إلاها؟!
نظرت له سما وكأنه مجنون في حين هتفت أمه بها بالفعل:
_هل جُننت يا عاصم؟ أهناك مزاح في أمر مثل هذا؟
رد بصبر لا يعلم من أين اكتسبه تلك اللحظة:
_أنا لا أمزح أمي، وقبل أن تصرخا بي فكرا معي، الحي بأكمله يعلم تلك اللحظة أنني تحججت بكوني خطيبها بفضل موهبة تلك السيدة، فلِمَ لا نتظاهر بحقيقة الموضوع؟ نستطيع التمثيل أننا مرتبطان بالفعل ثم بعد فترة نعلن انفصالنا، وبهذا الوقت أكون أنا قد رتبت أمور انتقالك معي أمي.
هَبَّت صارخة:
_مجددا؟! ذلك الانتقال مجددا؟!
وقبل أن يبادلها صراخها سبقته أمه بِحزم:
_أنا لا أريد الانتقال عاصم، ولن أترك سما إلى الأبد.
وعبوسها تبدّل فوراً لابتسامة مغيظة منتصرة ما إن أبدت أمه تمسكاً بها؛
وتخصرت وهي تواجهه بتحدي؛
أيستطيع حرمانها تلك الفرحة بعناده؟
أيستطيع حرمان"أمه بالطبع" من ذلك الإشراق؟
_حسناً خطيبتي، انتصرتِ تلك الجولة!
همسها ببرود ظاهري لتتقدم منه مثلما فعلت من قبل والتحدي يتراقص بعينيها، فينظر إليها مدركاً أنها حقاً جذابة!
_كما سأنتصر في كل الجولات القادمة، أعدك!
هتفت بها بتوعد وهي ترفع رأسها إلى أعلى محدقة به، فقال بخفوت:
_انتصري إذن! لو كنتِ ستبتسمين أخيراً بتلك البشاشة، انتصري كما يحلو لكِ!
وتوترت عيناها أخيراً وانعقد حاجباها بدهشة، وبلحظات ابتعدت إلى الخلف متظاهرة بترتيب المكان تواري اضطراباً غير اعتيادياً، فلم يشأ أن يسمح لها بالهرب.
_كم عمرك خطيبتي؟
التفتت إليه عاقدة حاجبيها ثم هتفت:
_عفوا؟!
هز كتفيه بلا تعبير ثم رد:
_ألستِ خطيبتي؟! من واجبي أن أعلم بعض المعلومات الأساسية عنكِ، في حال أراد شخص ما اختبارنا.
من بين أسنانها ردت:
_أربع وعشرون.
تظاهر بالصدمة هاتفا:
_يا إلهي! لقد اعتقدتك في الخامسة عشرة.
وقبل أن تثأر منه عاجلها بسؤال آخر:
_ماذا تعملين؟
رسمت ابتسامة باردة على شفتيها:
_موظفة خدمة عملاء بإحدى شركات الاتصالات.
وحينما هَمَّ بإلقاء سؤال آخر عاجلته بنزق:
_لا أحب الرسم، لا أحب القراءة، لا أحب إلقاء الشِعر، ولا أحب السباحة، لكنني بارعة جدا في الكاراتيه!
ابتسم لها باحترام وهو يحك ذقنه:
_لم أنس ذلك أبداً.
تعلَّقت عيناها به للحظات دون سبب واضح وكذلك فعل هو، لكنها على الفور تغلبت على حالتها الغريبة هاتفة بِسأم:
_هل من أسئلة أخرى؟ أو هل ستسمح لي أخيراً بالخلود إلى النوم بعد ذلك اليوم الخانق؟
أشار لها بإحدى يديه صارفاً إياها بعجرفة:
_لا! اذهبي الآن.
وبمجرد أن أنهى أمره حتى دخلت غرفتها صافعة بابها بقوة لتتعالى ضحكات أمه التي يبدو عليها الفضول والرضى.
وعندما ساعدها على الوصول إلى فراشها وهم بالخروج أولته ظهرها هاتفة:
_لا تنس نسخ رقم خطيبتك عاصم!
أما هي فلم تستطع النوم كما ادعت، حالة من التوتر الممتزج بالدهشة والترقب تجتاحها وتسيطر عليها خاطفة من عينيها راحة وهي تستعيد تلك اللحظة التي أعلن فيها أنه خطيبها بكل سلاسة، لكنها نهرت نفسها بضعة مرات ثم أجبرتها على النوم وهي تطرده بصعوبة خارج تفكيرها.
**********
"سأُصاب بالجلطة أمي، أذلك الوسيم الغني يريد الزواج من تلك اللقيطة وأنا تزوجت من حمزة لمدة ثلاثة سنوات؟"
هتفت بها دينا وهي تكاد تبكي قهراً فانطلق صوت أبيها مُغيظاً من خلفها:
_لقد اشترى حمزة سيارة جديدة، ما شاء الله!
التفتت تنظر إلى أبيها المبتسم بحنق فعاجلها:
_أين العصير؟ توقفا عن الثرثرة الحاقدة واخرجا للضيوف.
التفت ليخرج ثم عاد فجأة هاتفاً بخفوت:
_وإن سمعت كلمة "لقيطة" تلك مرة أخرى لن تخرجي من هذا المنزل دينا!
وعندما خرج بالفعل تلك المرة مصمصت شروق شفتيها بحسرة:
_تلك اللعينة كلما أعتقد أنها خرجت من حياتنا تعود ثانية لتحرق دمائنا!
وفي الخارج:
توجه صلاح بالحديث إليه بصرامة هادئة:
_اسمعني جيداً بني أنت تعلم عن ظروف رهف كلها، وكل ما سأطلبه منك ألا تظلمها وألا تجرحها، ألا تعاقبها يوما على جرم لم يكن لها يد به، هي قد استسلمت منذ زمن لمصيبتها فلا حاجة لها بأخرى تتضمن كسر قلبها.
لم يبادله ساري النظر وهو يرد بخفوت مقتضب:
_لا تقلق!
حدق به صلاح بقلق هاتفاً:
_أقلق بني! أقلق كثيراً، رهف لن تتحمل منك أنت أي ألم، أستطيع أن أرى بعينيها مدى ثقتها بك، فلا تخذلها!
اتجه ساري بنظراته إليها فتقابلت الأعين سوياً، أكدت هي على توسل خالها فابتسم رغماً عنه متردداً ووعدها..
غامزاً!
ثم أومأ إيجاباً بابتسامة متوترة مخاطباً خالها:
_هل لنا أن نحدد موعد عقد القران والزفاف الآن؟
نظر له خالها بدهشة هاتفاً:
_عن أي عقد قران وزفاف تتحدث بني؟ يجب الالتزام بفترة خطبة أولا، حتى تتعارفا جيداً وحتى أستطيع شراء ما يلزمها.
هنا تدخلت شروق بوقاحة هاتفة:
_من الذي سيشتري ما يلزمها؟ راتبها لن يكفي، لذا فسنبتاع القليل.
توردت وجنتا رهف بحرج بالغ وطأطأت رأسها حتى لا تبكي أمامهم، بينما نظرت لها كلا من سوسن وسارة بدهشة حينما مالت الأخيرة على أذن أمها هامسة:
_هل رأيتِ أمي إحدى تلك الصور المُركبة المتداولة بكثرة على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يظهر جسد حية رقطاء برأس بومة ناعقة وذيل عقرب مسموم؟ الآن فقط رأيت أحدهم على الحقيقة، فسبحان الله وأعوذ بالله!
لتزيد دينا من الشعر بيتا متحدثة ببرود:
_سيجب أن تنتظري رهف ربما أكثر من عام قبل الزواج حتى تستطيعي ابتياع كل ما ستحتاجين، وأنتِ بالطبع لم تكوني تتوقعين أن تفعلينها يوماً فلم تهتمي بمعرفة ما يلزم عن ذلك الحِمل الثقيل.
لازالت مطأطأة رأسها شاعرة بالحرج الشديد من الموقف الذي وُضِعت به أمام ساري وأهله، وفاتتها النظرة القاتلة المتوعدة التي رماهما هو بها، لكن ما جعلها ترفع رأسها بذهول هو رد"حماتها" التي انطلق صوتها ضاحكاً:
_أتعتقدين حبيبتي أن ساري سيتحمل الانتظار عاماً كاملاً؟ بالكاد أقنعناه بعدم إحضار المأذون معنا اليوم!
وتوردت وجنتاها بينما ضحكت أخته بشقاوة واضحة، لتنظر هي لأمه بامتنان فبادلتها بِشبه ابتسامة متكلفة.
حتى انطلق صوته الذي شعرته متلاعباً مثل أول مرة حدثته هاتفياً وهو يشدد ببطء:
_أنا لا أريد سوى رهف، حتى حقيبة ملابسها لا أريدها، لتصبح زوجتي فقط وحينها لا أهتم بأي شيء آخر.
وأصاب الهدف مرماه ببراعة، فنظرت شروق وابنتها لبعضهما بذهول شابه الغيظ، حينما أطلقت سارة زغرودة ظهرت وكأنها احتفالاً بإحراجهما أكثر من الارتباط المرتقب!
ثم تابع ساري متوجهاً بحديثه إلى صلاح:
_ عمي، أنا لا أريد فترة خطبة، أريد الزواج برهف في أقرب فرصة.
ازداد تورد وجنتيها وهي تتمنى لو قبّلت رأسه امتناناً على ما يفعله معها وبها، لم يرفع أحد قدرها مثله، لم يُشعرها أحداً بأن لها قيمة مثله، كيف يمكنها أن تفيه حقه؟ كيف يمكنها أن تسعده؟
وبنظرة من خالها إليها أدرك أنها غرقت في حب ذلك الرجل حتى نخاعها، أيعقل أن يحرمها أملا واضحاً على محياها وبعينيها؟ أيعقل أن يتعنت في المطلب الوحيد الذي تمنته بكل قلبها؟
عندئذٍ عاد بنظره إلى ساري ليجده يُخرج من حقيبة بجواره صندوق مخملي أحمر، وعندما وقف متجهاً إلى عروسه ليفتحه أمام عينيها شهِقت زوجته وابنته بينما سمع سارة تردد المعوذتين بصوت واضح!
وبأصابع مرتجفة التقطت حلقتها الذهبية وارتدتها قبل أن يفعلها هو، فقام بالمثل وارتدى حلقته الفضية بنفسه حينما أدرك_بسبب ارتجافة أصابعها_ أنها لن تستطيع فعلها!
الناس حولها، خالها وزوجته وابنته، أمه وأخته..
وهو!
تحاول التهرب من نظراته..
فلا تستطع!
تحاول السيطرة على ابتسامتها البلهاء..
فلا تستطع!
تحاول إيقاف ارتجاف أصابعها..
طبعا لا تستطع!
أهذا الوسيم أصبح رسمياً خطيبها؟!
أبعد بضعة أيام كما "أجبر" بشدة إلحاحُه خالها سيصبح زوجها؟!
أستكون لها عائلة تنتمي إليها؟
أغمضت عينيها بسعادة وهي تشعر أنها لو ماتت الآن ستكون راضية!
ليزورها خاطر جعلها تطلق ضحكة خافتة:
"أكان يجب عليها شُكر ذلك اللص لما تسبب لها في سعادة لم تطمح يوما إليها؟!"
وبعد قليل وجدته يزيح أخته الملتصقة بها جانباً وهو يهمس بسعادة:
_مُبارك يا مشعثة!
فكان ردها للمرة الأولى بدون اعتراض:
_بارك الله بك وفيك يا حُلم المشعثة!
ازدرد لعابه وتعلَّقت عيناها به قبل أن يسألها برجاء واضح:
_رهف، هل باستطاعتنا الهرب الآن؟
ارتفع حاجباها دهشة بينما حافظت على فرحة ابتسامتها وسألته:
_مم نهرب؟
لم يتردد وهو يجيبها بنبرة حاسمة:
_من الجميع، من الماضي، ومن المستقبل.
هَزَّت رأسها مُعَقِّبَة باستغراب:
_لكنني لا أريد الهرب، ذلك المستقبل أنا أتمناه وبشدة، بالإضافة إلى أنني قد صرت خطيبتك حقاً، وخلال أيام سأصير..
توقفت والتورد يحتل وجهها فهمس على الفور راجياً:
_تابعي رهف! انطقي بها، قولي سأصير زوجتك يا ساري.
عَضَّت على شفتيها بحرج وطأطأت رأسها فأضاف:
_هيا رهف، خالك سيقتلني، وهاتين العقربتين نظراتهما بدأت تثير قلقي حقاً!
رَفَعَت رأسها لترمقه بتردد شاعرة أن هناك خطب ما؛
أو على الأوقع.. عيناه بهما خطب ما؛
نفس الرجاء الغريب، والذعر بات أكثر صراحةً!
عندئذٍ حَسَمَت أمرها قائلة بوعد صريح:
_سأصير زوجتك يا ساري!
وبدلاً من الراحة التي انتظرتها على ملامحه؛
كان الخوف هو سيدها، قبل أن يغمض عينيه متمتماً بألم لم يخف عليها:
_ليتكِ لم تنطقي بها يا رهف!
**********
وفي آخر الليلة أرسل رسالة إلى عاصم كاتباً:
"بارك لي! لقد خطبت!"
ثم أرفق رسالته بوجه يحمل قلوباً بدلاً من العينين.
ليأتيه الرد أسرع مم توقع:
"بارك لي بالمثل! فقد خطبت أنا أيضاً!"
مُرفق بوجه يلطم خديه!!
**********


سعاد (أمواج أرجوانية) 02-09-20 07:59 PM

تابع الفصل السابع

قبل الزفاف بيومين:
"ستتزوج؟!"
هتف بها عَمَّار بصدمة فصاح به حمزة:
_اهدأ عَمَّار! هي لن تهاجر، زواجها ليس له علاقة باستعادتك لها، ربما يستطيع زوجها إقناعها بإعطائك فرصة.
وبمنتهى الألم رد عَمَّار:
_أنت لا تفهم حمزة، زواجها في ذلك الوقت بالذات يعني أنني قد حُرمت من أداء أحد أهم واجباتي كأخ إلى الأبد، تسليمها لزوجها بيدي كان سيُشعرني بأنها قريبة مني، بأنها تعتبرني أخاها، بأنني استعدت أخيراً جزءاً مفقوداً من حياتي معها..
زَفَر حمزة بضيق بينما تابع عَمَّار بحسرة:
_أنت لا تفهم، أنا ألازم تغريد بكل خطواتها، بكل قراراتها، ومنذ الصغر، لكن.. لكن رهف التي لم أكتشف وجودها إلا مؤخراً يبدو وكأنها قد ضاعت مني إلى الأبد!
عم صمت مكبّل بالألم أنحاء المكان فلم يستطع حمزة التفوه بكلمة، لقد هاتفه عَمَّار غاضباً يسأله عن صحة خبر زواج رهف والذي علمه من خالها، ليأمره بالحضور إلى بيته فوراً، وعندما وصل وجده ثائراً هائجاً، وسرعان ما تحولت تلك الثورة إلى حسرة متمثلة في ملامحه المتعذبة.
أيلوم رهف؟
بالطبع لا!
لقد نشأ معها بنفس الحي وشهِد بنفسه القليل من الإهانات التي تعرضت لها ، وعندما تزوج من ابنة خالها هاله كم الألم الذي تتحمله راضية معتقدة أنها تدفع ثمن إيواء خالها لها ببيته.
ولهذا لن يلومها أبداً..
وعَمَّار أيضاً لا ذنب له، لكن يجب عليه الصبر أكثر، عسى أن يكن الأمل في ذلك الساري الذي يبدو أنها أخيراً وجدت به ملاذها الآمن.
أجفل وهو يتطلع إلى عَمَّار الذي هب واقفاً فجأة وعلى وجهه ينتشر تصميم مُقلق، تمسك بإحدى ذراعيه هاتفاً:
_إلى أين أنت ذاهب؟
وكان الرد المختصر بنظرة عازمة:
_إليها!
**********
منذ عدة أسابيع جمعت نفس الأغراض ووضعتها داخل نفس الحقائب لتترك بيت خالها الذي نشأت به وتقطن تلك الغرفة، الآن ستتركها..
أخيراً ستتركها..
ستذهب إلى بيت حبيبها؛
أكثر من تثق به تلك اللحظة؛
ولوهلة شعرت بالإشفاق عليه، فمنذ زيارته الوحيدة في بيت خالها اقتصر الأمر بينهما على رسائل نصية يطمئن فيها عليها باقتضاب على عكس ما اعتادت منه من مرح دائم؛
بعكس أخته التي تهاتفها طوال الوقت وتقسم لها أنه يسابق الزمن كي يستطيع تجهيز الشقة بموعد الزفاف الذي صمم عليه وكأن حياته تتوقف على ذلك اليوم بالتحديد!
تشتت خاطرها بصوت رنين جرس الباب، ربما زوجة صاحب البيت التي هنأتها عشرات المرات خلال يومين فقط، حيث تبدّلت كل معاملتها المزدرية إلى ترحيب عجيب ما إن علمت بقرب زواجها، ربما لأنها ككل من يعرف أنها تقطن الآن وحدها يراها في صورة الفتاة المخطئة، هزت كتفيها بلا اهتمام حقيقي، بِمَ يهمها رأي أي شخص الآن مادام ساري بحياتها؟!
وأمام الباب تسمرت، ارتفع صدرها في تنفس عنيف ماثله تنفس ذلك الواقف أمامها، لترى في عينيه
نفس الحنان؛
نفس الاشتياق؛
نفس التوسل؛
مع إضافة عاتبة!
لتجد نفسها تهتف به بألم:
_لِم جئت ثانية؟
فأسرع عَمَّار بالإجابة:
_من أجلك رهف جئت، من أجلك فقط.
وجاء ردَّها صارخاً:
_لا أريدك، لا أريدك ألا تفهم؟! أنا لا أريد أي منكم وقد أخبرت زوجتك بالفعل بذلك، ابتعدوا عني، أتستكثرون علي السعادة؟ أتستكثرون عليّ الأمل؟ هل أنا إلى تلك الدرجة وضيعة؟ ألا تستحق من هي مثلي نهاية سعيدة؟!
لم تشعر حتى ببكائها، كما لم يشعر هو بدموعه التي تندفع من عينيه متألما..
ألا يحق له أن يربت عليها؟
ألا يحق له احتضانها؟
ألا يحق له اخبارها كم هو نادم على جهله بوجودها؟
ومن بين دمعاته الضعيفة توسلها هاتفاً:
_رهف! اسمحي لي أن أحضر زفافك، اسمحي لي أن أكون بجانبك، اسمحي لي أن أكون لكِ السند والأمان، اسمحي لي أن يكون بيتي ملجأً لكِ، لا تبعديني رهف، لا تحرميني أخوتك!
كلماته تعذبها؛
تنخر بعظامها؛
تقتلها؛
تُشعرها بيُتمِها وذلها؛
تنبهها إلى ما حاولت تجاهله طوال سنوات..
الفقدان، الحرمان، الاحتياج؛
الأخ والسند!
ونداء خافت منه باسمها متوسلاً أخرج صرخاتها:
_أين كنت أنت؟ لقد انتظرت لسنوات، انتظرت ظهورك أنت بالتحديد لسنوات، انتظرت أن تأتي وتأخذني إلى أبيك، لم أرغب منه هو سوى بالاسم، لكنني أردتك أنت بكليتك، أردت حنانك، احتوائك، أردت حبك، أردت الشعور بالاحتماء بك عَمَّار!
واسمه الذي استمع إليه للتو منها للمرة الأولى نبهه أيضا إلى ما فقد!
يا إلهي!
ما هذا العذاب الذي يتقافز بينهما؟
ما هذا القهر الذي يتقاسمانه بكل لهفة؟
وبأقوى دفعة ضعيفة منها أصبح خارج غرفتها، وحياتها!
وبأقصى قدر من الجمود أمرته:
_اذهب عَمَّار! اذهب ولا تعُد، نحن لم نكن يوماً إخوة، ومطلقاً لن نكون!
وأغلقت الباب بكل قوتها لتنهار أخيراً باكية، وعندما استطاع هو التحرك أخيراً وصل إلى سيارته ببطء وارتمى على المقعد الجانبي، ليسأله مرافقه بقلق:
_ماذا حدث؟!
وبالنبرة الأكثر هزيمة أجابه:
_إنها النهاية حمزة، لقد خسرتها!
**********
"أيعني هذا أنني سأرى الآنسة رهف كثيراً؟"
هتفت بها مريم بفرحة شديدة وهي تساعد سارة في ترتيب بعض الأغراض بشقة ساري العلوية فردت عليها الأخيرة:
_نعم، إن سمح لنا ساري الذي يبدو هذه الأيام شارداً أكثر مما يجب، ماذا سيفعل إذن عندما يتزوج؟
"هل بدأنا تلك الحركات منذ الآن؟!"
ضحكت الفتاتان وهما تلتفتان إلى ساري الذي يبدو بالرغم من افتعاله المرح فهناك شيئ ما يشغله؛
شيئ ما يُخيفه!
لترد مريم بسعادة:
_ألا يجب عليك أن تشكرني ساري؟
مط شفتيه وهو يسألها باستغراب:
_ولِم أشكرك؟
ردت بغرور مصطنع:
_لأنه لولاي لما كنت قابلت الآنسة رهف وتزوجتها.
فابتسم لها ببرود مردداً:
_شكراً جزيلاً مريم، أتحبين أن أحضر لكِ هدية؟
لتبتسم الفتاة مجيبة:
_لا! يكفي أنني لن أترك الآنسة رهف ما أن تعيش هنا، سأظل ملاصقة لها تماماً.
فهمست سارة بمشاغبة:
_هذا إن رأينا وجه أحداً منهما.
ليصفعها ببطء على مؤخرة عنقها هامساً:
_تأدبي سارة!
ثم اتجه إلى الباب تاركاً كلتاهما منهمكتين في الترتيب، وعندما كاد أن يختفي بالخارج هتفت مريم:
_أوتعلم ساري؟! ربما أنا من يجب عليّ شُكرك، ففي الأصل أنت من أصررت علي كي ألتحق بذلك المركز بالتحديد!
وبينما مريم مبتسمة بسعادة نظرت له سارة باستغراب حينما أعطاهما هو ابتسامة مرتجفة وانصرف!
*********



يوم الزفاف:
"اهدئي سما، لا يجب أن يعلم الجميع أننا لا نتحمل بعضنا!"
هتف بها عاصم بخفوت حانق فردت عليه مسرعة:
_إذن لِمَ جلبتني معك؟ نحن"نتظاهر" بالخطبة، فلا يجب أن يكون دورك متقناً إلى ذلك الحد.
نظر إلى الأعلى بنفاد صبر متوسلاً:
_ساعدني يا إلهي!
لكنها تابعت بتبرم:
_كان من الأفضل أن أظل أنا مع أمي بدلا من حضور زفاف شخصين لا أعرفهما، لحظة! أنا لا أعرف أي شخص هنا بالأصل!
وجاء رده حانقاً:
_أنتِ تعرفين سارة!
تخصرت بعناد قائلة:
_إنه زفاف شقيقها، لن تكون متفرغة!
ليبتسم لها ببرود آمراً:
_إذن أنتِ مضطرة للتعامل معي أنا وحدي، تحملي!
وبالرغم من أن نظرتها التي ترسمها بعينيها حانقة، إلا أنها كانت تخفي شعوراً غريباً بالاطمئنان، والترقب، والثقة!
فقد اعتادت على تلصص خطيبها السابق بالنظرات على الفتيات طوال الوقت، أما الآن وقد قررت مراقبة"خطيبها" الحالي فإنه بالفعل لم ينظر لأخريات حتى من حاولن لَفت انتباهه، هل هو مخلص ومحترم أم أنه بمنتهى البساطة لا يهتم؟!
وما يُقلقها حقا هو اهتمامها الشديد بذلك الأمر، فقد وجدت نفسها رغما عنها تتابعه لتعترف لنفسها ببساطة أنه مهذب، لَبِق، محبوب بين معارفه، وجنحت بتفكيرها إلى أنها لو كانت قابلته في ظروف مختلفة لربما قَلَّت حدة رغبتها باستفزازه قليلاً!
**********
تطلعت إلى صورتها بفستان الزفاف بالمرآة وهي تحاول تهدئة ملامحها التي تتصارع ما بين..حنين لأخ..وفرحة بحبيب!
حتى انتزعتها أخته رغماً عنها من شرودها مطلقة زغرودة أكثر حدة جعلتها تبتسم، وعندما التفتت لتخرج من باب الغرفة التي تجهزت بها بالفندق بمساعدة سارة ومريم وجدتها أمامها..
زوجة أخيها!
الآن فقط تستطيع رسم ابتسامة كاملة!
قابلتها مرتين والصلة بينهما معدومة لكنها لا تستطيع إلا الشعور بالامتنان لوجودها.
شخص آخر بخلاف خالها وحمزة حضر عقد قرانها..
عقد قرانها؟!
_هل تم عقد القران؟
والإجابة أتت من خالها الذي دخل بصحبة المأذون يطلب توقيعها، وبأصابع مرتجفة ودمعات كتبت اسمها ولأول مرة تدرك كم هو جميلا بالفعل حينما جاور اسمه هو!
لثم خالها جبهتها مباركاً، لثمتها سارة مهنئة، واقتربت منها زوجة"أخيها" وأمامها توقفت حائرة..
ثم ألقت حيرتها جانباً وهي تحتضنها بحنان غريب لم تشعر به رهف يوماً على الإطلاق، وهكذا شددت هي أيضا من احضانها.
**********
وبالسيارة خارج الفندق:
بعدما عاد حمزة من القاعة سأله عَمَّار:
_أتعرف أي شيء عن ذلك العريس؟
وبلهجة مطمئنة أجابه حمزة:
_مهندس محترم صاحب نصيب بشركة جيدة، يشيد الجميع بأخلاقه ويبدو أنه يعشق رهف.
وبسؤال اعتيادي خاطبه عَمَّار:
_ما اسمه؟
_ساري صبري رشوان.
تسمر عَمَّار لحظة محدقاً أمامه ببلاهة ثم انتفض!
**********
أخذت تحدق في الوجوه المحيطة من أصحاب الشركات التي يتعامل معها وهي لا تستطيع تصديق ما حدث..
لقد أصبحت زوجته!
هي بخلاف الجميع أصبحت زوجة ذلك الرجل الرائع!
بعد أن أيقنت منذ زمن أنها أبدا لن تكون زوجة أو أم، لن يكون لها مستقبل يشاركها به آخر في بيت يسوده الود والدفء..
شردت ببصرها بعيدا بابتسامة آملة تتخيل طفلا صغيرا يلهو ثم تنهره برقة لتحتضنه بعدها بحنو؛
لا! بل طفلين! وربما ثلاثة أو أربعة!
سوف تحبهم وترعاهم، سوف تمدهم بكل الحب والدعم والحنان الذين حُرمت منهم.
زفرت بسعادة وهي تعود بنظراتها إليه، إلى الرجل الذي أعاد إليها معنى الحلم والأمل، إلى من منحها الحب والسعادة، من تحمل وسيتحمل_لا مفر_ العديد من الهمزات واللمزات التي نفر منها الأقربون بسببها، لكن هي ستعوضه، ستجعله يعلم إلى أي مدى تعشقه، لن تتركه للندم يوما على اختياره لها وتمسكه بها وحدها.
توقفت عند عينيه المبتسمتين دوماً، لكن لدهشتها للمرة الأولى لم تكونا كذلك! كان هو من يحدق بها بطريقة مريبة..
لا حب، لا مكر، لا رجاء.. حتى الخوف وَلَّى!
دقات قلبها تباطأت وهي تشعر وكأنه آخر، هل ندم بالفعل؟! هل أدرك الآن فقط أنه قد تَسَرَّع؟!
لكنها أعطته الخيار أكثر من مرة وهو من لاحقها بمنتهى الإصرار، ربما هي من تهذي، ربما عدم تصديقها لوضعها الآن هو من تسبب في ذلك الارتباك، ابتسمت له بارتجاف تبحث عن طمأنة لطالما وجدتها لديه وحده ليشيح بوجهه عنها بإصرار!
ازدردت لعابها وهمت بالإشارة إليه كي تتحدث معه لكنه عَلَّق نظره بمدخل القاعة لتتسع ابتسامة تراها على ملامحه للمرة الأولى..
ليست راجية، ليست خائفة؛
إنما..مُخيفة!
ثم هب واقفا ببطء وهو يغلق أزرار سترته السوداء..
بصعوبة أشاحت بنظرها عنه وهي تنظر في نفس الاتجاه الذي اجتذبه تماما لتتوقف أنفاسها في حلقها وتغمض عينيها وتفتحهما عدة مرات ببطء بينما تدعو ربها أن تكتشف أنها تعيش أحد كوابيسها ليس أكثر!
فتحت عينيها وهي تحدق في ذلك الرجل الذي دلف لتوه إلى القاعة ويقف مع صديق زوجها ، هزت رأسها برفض هزات ضعيفة لم يلحظها أحد، انتزعت بصرها عنه وهي تبحث عن مصدر أمانها الوحيد لتجده الآن واقفا على القاعدة الخشبية العريضة بمنتصف القاعة ممسكاً بمكبر الصوت!
_من فضلكم أرغب بدقيقة واحدة من انتباهكم!
خفتت الأصوات وتوقفت الكلمات وحدق به الجميع بفضول، إلا من بعض الهمهمات التي انطلقت في أنحاء القاعة:
"سيحكي قصة تعارفهما!"
"سيعترف لها كم يحبها!"
"سيجثو على إحدى ركبتيه طالباً منها أن تظل حبيبته طوال العمر!"
“يا إلهي كم أنه رومانسي! ليتني أجد مثله!"
“أعديمة الأصل تلك تحصل على ذلك الوسيم الذي يعشقها؟!"
“بالتأكيد هذه نتيجة شعوذة ما! لقد سحرته تماما! لاحظي كيف ينظر إليها؟!"
والنظرة أرعبتها وجمدت الدماء في أوردتها حتى أنها أنستها تلك المصيبة التي حلت عليها الآن في زفافها، وعندما هدأت الأصوات تماما ونضبت تخميناتهن ابتسم هو بحقد_مستجد_ مستأنفا:
_أشكركم، وأعدكم أن أكون سريعا، في الواقع لقد رغبت في تقديم زوجتي وعائلتها إلى الجميع!
شحب وجهها وتوقف الزمن بينهما وهو يحيد بنظراته عنها كأنها غير موجودة، كأنه للتو لم يقتلها، لكنه كان بكليته مع آخر، مع قاتلها الآخر ليتابع بنفس الابتسامة:
_وها هو أبوها الهارب، إنه هنا معنا جاء كي يطمئن على ابنته ويحرص على رؤيتها في هيئة العروس، كما تعلمون جميعا، حنان الأب لا يعادله شيء.
تعالت الأصوات الخافتة والوجوه تتنقل بين العروسين بفضول، أخرج البعض هواتفهم مختلسا مقطعا تصويريا لفضيحة الموسم بينما تابع هو بنبرة قاسية:
_رحبوا معي بشديد بك الناجي والد زوجتي والذي لا يريد الاعتراف بها.
انتقلت النظرات وكاميرات الهواتف إلى ذلك الرجل الذي يعرفه العديد هنا، لقد كان حتى فترة قصيرة من أشهر رجال الأعمال، وزوجته ناشطة اجتماعية معروفة، ابنه أيضا طبيب له اسمه، كيف تورط في فضيحة مماثلة؟!
اِسْوَدَّ وجه الرجل وهو يبادله النظر بحقد مشوب بالصدمة، فاتجه ساري إليه ببطء حتى وقف بمواجهته تماما، ثم أخفض مكبر الصوت للأسفل ومال على أذنه هامسا:
_أنت لا تتذكرني، أليس كذلك يا بك؟!، لكن أنا متأكد أن الليلة ستنتعش ذاكرتك تماما.
نظر له شديد بذعر حاول إخفاؤه ففشل، بينما رفع ساري مكبر الصوت أمام شفتيه مرة أخرى وهو ينظر له بحقد قاتل متابعا:
_لكن اعذرني شديد بك، أنا لا أستطيع تحمل نتائج أفعالك أنت.
نظرة هَلِعَة هي كل ما رد به شديد والآخر يبتسم له بازدراء ثم أولاه ظهره ليرمق ضحيته الأولى و الأخيرة..
وحينها..فقط حينها..!
اهتز قناع السخرية والبرود للحظة؛
لحظة واحدة ظهر بها صراخ مقهور داخل عينيه؛
صراخ باعتذار وأسف وندم ورغبة بالتراجع والهرب؛
ذلك الهرب الذي توسلها إياه ما إن صارت خطيبته!
كان محقاً في توسله إذن!
ظلام، قيود، قهر، واضطرار!
مرسومين بداخل عينيه واضحين تمام الوضوح..
وهي تنتظر..
تدرك الآن أنه لم ينتهِ؛
توقن أن مازال في جعبته بقية؛
تقسم أنه لن يتوقف عند هذا الحد!
وقد كان على قدر ثقتها، حيث اتخذ قراره وواجهها بنظرته التي تحولت إلى البرودة الشديدة متفوهاً بكلمتين فقط:
_أنتِ طالق!
*****نهاية الفصل السابع*****

سعاد (أمواج أرجوانية) 06-09-20 07:52 PM

الفصل الثامن
*ماضٍ لا يرحل*
**********
أَتَشَرَّب ضعفي حتى أرتوي
أُعايش سلبية باتت ملاذي
أَتَقَبَّل
وَأَتَقَبَّل
ثم أَتَقَبَّل..
بلا شُكر.. بلا نِقمة..
بلا فَرَح.. بلا حُزن..
وبلا اكتراث!
لا تُحاكمونني ولا تظلمون!
لا تزدرونني ولا تنهرون!
فكما ضعفي كان مُتقناً
وكما أصبحت للسلبية شِعاراً مُعبِّراً..
ستصير صحوتي إعصاراً جارفاً
فهذا وعد مني..
ومَن شابه أباه فما ظلم!
**********








"ما بالك أمي؟ بِم أنتِ شاردة؟ أرجوكِ ابتسمي قليلاً!، إنه زفاف ابنك الوحيد، لا يجب أن يعلم جميع المدعوين أنكِ غير راضية عن ذلك الزواج."
همست بها سارة لأمها التي تجلس صامتة تماماً منذ دقائق، فمنذ أن انصرف المأذون وهي متصلبة بمكانها لا تحاول حتى إظهار الفرحة بابنها الوحيد.
وكزت سارة سما في ذراعها فنظرت لها الأخيرة بدهشة متسائلة لتردف بنظرة ذات مغزى:
_أليست عروس أخي جميلة يا سما؟
دققت سما النظر برهف التي تجلس بجانب خالها وتبدو عليها الفرحة الشديدة مختلطة بالخجل ومقداراً واضحاً من عدم التصديق!
_إنها جميلة بالفعل أم ساري، جعلها الله زوجة صالحة لابنك.
لم يبد على سوسن أنها سمعتهما بالأصل، كانت محدقة بابنها بتركيز شديد والقلق يستيقظ بداخلها ويكبر؛
ويكبر؛
ويكبر؛
منذ تم تحديد تاريخ الزفاف وهي تشعر بمصيبة قادمة؛
التاريخ وحده كان كارثة محققة..
أيعقل أنه اختار هذا التاريخ مصادفة؟!
هذا التاريخ الذي تعاهد ثلاثتهم على عدم ذكره معتقدين أنهم بتلك الطريقة ستشفى جراحهم!
أيعقل أنه لم يلاحظ؟!
مرتين ذهبت إليه كي تنبهه لكنها تراجعت خشية إفساد فرحته وإيقاظ ذكريات دهشت كثيراً من سرعة نسيانه إياها؛
أم أنه لم ينس مطلقاً؟!
أم أنه اختار هذا اليوم عن عمد؟!
لكن بِمَ سيستفيد حينئذٍ؟
"ما به ساري؟"
ألقت سؤالها الخافت على ابنتها بينما عيناها تطالعان ابنها بِوَجَل..
وسيم، أنيق، رزين.. كما العادة؛
مظلم،قاتم،متربص.. ليس أبداً كما العادة!
نظرت لها سارة متسائلة:
_ما به أمي؟ إنه عريس!
هَزَّت رأسها نفياً وأطرافها بدأت بالارتجاف رغماً عنها؛
هل بسبب الذكرى السنوية؟
أستعاودها نفس الأعراض؟
ولماذا بعد كل هذه السنوات تحديداً؟!
والنبرة القلقة توضحت تماما بينما أوضحت لابنتها:
_لا تبدو عليه الفرحة، إنه حتى ينظر إليها بطريقة غريبة للغاية.
ضحكت سارة هاتفة:
_ربما ابنك حتى الآن لا يصدق أنه تزوج من حبيبته الوحيدة بعد أن هددتِ تحقيق حلمه بها، لذا أصبح هناك عطلاً ما في الجزء المسئول عن إظهار مشاعره.
هزة نافية قاطعة هي كل ما أجابتها به أمها بينما لم تستطع نزع نظراتها عن ابنها
ملامح متحفزة؛
ملامح غاضبة؛
ملامح ثائرة؛
ملامح متعطشة لانتقام!
وشهقة عالية من ابنتها جعلتها رغماً عنها تُبعد عينيها عنه لتنظر إليها، لكن شحوب وجه سارة المحدقة بباب القاعة جعلها تتبعها بعينيها حتى اجتذبها وجه صارم الملامح لطالما كان له النصيب الأكبر من لعناتها لسنوات!
يا إلهي!
مُحال أن يكون هو نفسه!
_من هذا الرجل؟
والسؤال الذي ألقته سما بفضول وهي تتطلع إلى ملامح الذعر التي تشاركتها الأم وابنتها بسخاء لم تجبها عنه إحداهما..
"علام تنوي يا ساري؟!"
وسؤال سوسن لم تستطع التفوه به حقاً، بينما تشبُّث سارة بها بخوف تلقائي سبق سؤالها المذعور:
_أمي! أليس ذلك الرجل هو نفسه...؟
ولم تستطع سارة إتمام سؤالها، فشحوب وجه أمها والكراهية التي اعتلت وجهها أعلنت وضوح الإجابة.
ثم توقف الحوار!
وتوقفت الضحكات!
وتوقفت الهمسات!
تعلقت أنظار الجميع بالعريس الذي يتصدر القاعدة الخشبية ممسكاً بمكبر الصوت.
"من فضلكم أرغب بدقيقة واحدة من انتباهكم!"
وبسطت سوسن كفها على صدرها في محاولة لتهدئة نبضات قلبها التي تهرول هرولة!
" أشكركم، وأعدكم أن أكون سريعا، في الواقع لقد رغبت في تقديم زوجتي وعائلتها للجميع!"
وارتجف جسد سارة كله في ذعر واضح بينما التصقت أكثر بأمها رغبةً بالحماية!
"وها هو أبوها الهارب، إنه هنا معنا جاء كي يطمئن على ابنته ويحرص على رؤيتها في هيئة العروس، كما تعلمون جميعا، حنان الأب لا يعادله شيء. "
واتسعت عينا عاصم بصدمة مدركاً حجم المصيبة التي شارك بها دون إدراك، هامساً:
_يا إلهي!
"رحبوا معي بشديد بك الناجي والد زوجتي والذي لا يريد الاعتراف بها!"
وخرج صوت سارة مبحوحاً وهي تجذب ملابس أمها أكثر، بينما صوتها تراجع بتنبيه تحذيري، وبالرغم من ذلك فإنها همست بِحشرجة:
_ك..كيف؟!
"لكن اعذرني شديد بك، أنا لا أستطيع تحمل نتائج أفعالك أنت."
..
..
والصراخ الناهي الذي أطلقته سوسن وهي تهب واقفة لم يسمعه ابنها وهو يحدق بـــــ"عروسه"..
بألم؛
ثم بقهر؛
وبرجاء؛
ثم بأسف؛
فبتصميم!
ثم بهتاف بارد:
"أنتِ طالق!"
**********
هل توقف الزمن؟!
هل خرِس الجميع فجأة؟!
لِمَ يحدقون بها؟
لِمَ ينظر الجميع إليها بصدمة؟!
أهذه نظرة تشفي؟!
أتلك نظرة إشفاق؟!
وهذه نظرة اشمئزاز؟!
كل النظرات موجهة إليها وحدها!
هي المجرمة..
هي اللقيطة..
هي الغادرة!!
وتنقلت نظراتها بين وجوه محددة تعرف أصحابها؛
تطلب توضيحاً، تأكيداً، نفياً، أو تبريراً!
هذه أمه المصدومة الشاحبة..
هذه أخته المرتجفة بذعر دامعة..
هذا خالها الذي تصلب مكانه مصعوقاً مثلها..
أما هذا فسبب نكبتها وعارها وعذابها..
ثم هذا؛
قاتلها!!

” قاتلتي أنتِ يا رهف! يوماً ما ستكونين قاتلتي!"
هل أخبرها يوماً أنها قاتلته؟!
ابتسمت!
كاذب! لقد قتلها هو!
...
"أتعلمين؟! _ولا أتعمد ازعاجك_ اسمحي لي أن أقل لك أنكِ ضحية لقطة!”
هل أخبرها يوماً أنها ضحية لُقطة؟!
ضحكت!
صادق إذن! فهي بالفعل لُقطة!
...

" سأهتم بنفسي مستقبلا على ألا تعاودك تلك الحالة، هذا وعد مني!"
هل وعدها يوماً أنه سيهتم بألا يعاودها شلل ذراعها؟!
قهقهت !
أخلف وعده إذن! فقد انتصرت عليه تلك الذراع في التو وتصلبت تماما!
...
ليرتفع فجأة الصوت الأكثر حقداً وقساوة في أنحاء القاعة:
_يبدو أنك مخطىء، أنا لا أعرفك، ولا أعرف من هي تلك الفتاة ولم يسبق لي أن رأيت أحدكما من قبل، ليس لدي سوى ابن وابنة شرعيين أتشرَّف بهما، وبالتأكيد تلك اللقيطة لا تنتمي إليّ، لكنني لن أسكت أبداً عن ذلك التشهير وسأقاضيك!
وزادت ضحكاتها حتى تسابقت دمعاتها للحصول على نصيبها من المشاهدة والتسلية..
النظرات المحدقة بها من الجميع منذ البداية تخلَّت عن الحسد والغيرة والامتعاض، وأصبحت ترمقها برهبة؛
"يا إلهي! يبدو أن الفتاة جُنت!"
"أينقصها العار حتى تُطَلَّق ليلة زفافها؟"
"مستحيل أن تكون ابنة شديد الناجي!"
"بالتأكيد أحد منافسيه من دَبَّر الأمر ليؤذيه بتجارته!"
"يبدو أن الشاب أدرك أخيراً خطأه، وهل يتزوج عاقلاً من لقيطة؟!"
ويداً حانية امتدت إليها، رفعت رأسها متسائلة عن صاحبتها التي جرؤت واقتربت من هالة العار المخزية التي تم تفصيلها لتناسب قياسها، لتجدها زوجة... أخيها!
هو نفسه أخوها الذي صرخ حالا وهو يندفع من باب القاعة كالقذيفة:
"كاذب!!"
ثم وقف أمام أبيه تماماً..
عيناً بعين؛
نداً بند؛
حقداً بحقد؛
تحذير بـ..وعيد؛
ثم....رفض وعِنْد!
_رهف أختي، رهف أختي أنا وابنتك، ابنة شديد محمود الناجي، والدتها السيدة عايدة التي تزوجتها عرفياً منذ سنوات وماتت قبل أن تعلن عن زواجك منها، أمي أنا تعرف ذلك، خالتي وزوجها يعرفان ذلك، خال رهف وزوجته وابنته يعرفون ذلك.
ثم نزع عينيه عنه إلى ساري الذي يقف متخصراً مشاهداً بصمت..
فتح فاهه غاضباً هامَّاً برميه بأقذع الألفاظ، وعلى الفور أغلقه..آسفاً!
وتوقفت الكلمات في حلقه..
ربما خزياً، ربما ندماً، ربما اعتذاراً!
ليتبادل كلاهما نظرات متحسرة؛
نظرات عائدة من ماض أجبر عَمَّار نفسه على نسيانه؛
بينما اكتشف لتوه أن الآخر لم يفعل المثل!
لكنه تجاوزه إلى رهف المبتسمة بالرغم من دمعاتها ليصدح صوته هادراً:
_وهذا الحقير بالتأكيد يعرف ذلك.
ثم استدار مواجها الحضور الذين بدأوا بالاستمتاع جداً بذلك الزفاف الفريد، مستدركاً:
_كما ترون جميعا، العروس ، رهف شديد الناجي هي أختي أنا وليست أبداً بلقيطة، ضحية هي لذلك الرجل الذي نبذها منذ زمن وتسبب لها في ازدراء أمثالكم، ثم ضحية له أيضاً حينما قرر ذلك النذل الانتقام منه عن طريقها.
تعالت الهمسات والفضول ينتشر في هواء القاعة، ولم يشأ عَمَّار أن يطيل انتظارهم فتابع بابتسامة ساخرة:
_وما لا تعلمونه أن شديد بك الناجي لم يؤذني أنا فقط، لم يؤذِ رهف أختي فقط، لم يؤذِ أمها وخالها فقط، بل للأسف امتد أذاه إلى أسرة أخرى كاملة، ومنذ عدة سنوات.
تخشبت سوسن بمكانها؛
وتهاوت سارة على مقعدها؛
وساري..تعلَّقت عيناه بعَمَّار ساخراً!
أيعتقد أنه باعترافه بذلك يعيد الحقوق؟
ومن يعيد أصحاب الحقوق؟!
أيعتقد أنه بذلك يبرىء ذمته؟
وكيف يعيد من يتوجب لهم الاعتذار؟!
واسود وجه شديد وهو ينظر لابنه بنظرة قاتلة لكن الأخير لم يهتم على الإطلاق وهو يتابع بنظرة حاقدة موجهة إلى ساري:
_لِمَ انتقمت منه فيها؟ لِمَ لم تأخذ حقك بأي طريقة أخرى؟ لِمَ لم تنتقم من خلالي أنا؟
جمود..ظلام..قسوة وضعف!
كيف يمتزجون جميعهم بعينيه؟
كيف يستعيض بنظراته عن الرد؟!
ولما طال انتظار عَمَّار للرد تابع باستسلام:
_كنت أنتظرك، كنت أنتظرك منذ ذلك اليوم وكنت مستعداً لظهورك وانتويت أن أساعدك!
لحظة..
والثانية؛
والثالثة؛
وألقى ساري ذراعيه جانباً وهو يجيب عَمَّار بصوت حمل كل آلام الدنيا، كل عجز الدنيا، كل قهر الدنيا:
_أتغالي في قيمتك لديه؟ أتعتقد أنه يمكن إيذائه عن طريقك دكتور؟!
اهتزت نظرات عَمَّار مُصدقاً دون كلمات على ما تفوه به..العريس!
ليتابع الأخير بنبرة لا تحمل أي نوع من أنواع الانتصار:
_وهل لدى شديد بك الناجي أغلى من اسمه كي أصيبه فيه؟!
.....
الحديث يدور أمامها لكنها لا تستمع؛
"أخوها" يصرخ بكلمات لكن لا تصلها سوى حركة شفتيه؛
هل أُصيبت بالصمم أيضاً؟!
وجذبتها أخيراً مَوَدَّة لتقف فوق ساقين مرتجفتين، بينما عيناها متعلقتان به..
لو أخبرها الآن أن كل ذلك كان مزاحاً ثقيلاً ستصدقه!
ستنسى كل ما حدث وتصدقه!
سترحل مع إلى بيته، إلى حيث السعادة والأمل؛ لكن.. لكنه منذ تلك الكلمة الأخيرة التي وجهها إليها لم ينظر لها.
الكلمة الأخيرة؟!
"أنتِ طالق!"
لقد طلقها!
لقد نبذها!
لقد حرمها مستقبلاً تمنته معه وحده!
ويد أخرى ساعدتها على التحرك من مكانها، نظرت إليها بتشوش، خطيبة صديقه التي قابلتها قبل عقد القران هي.
عقد القران؟!
لمدة نصف ساعة؟
ألم يستطع الندم أن يغزوه مبكراً قليلاً؟
ألم يستطع إدراك فداحة خطأه قبل نصف ساعة فقط؟
ألم يستطع التراجع قبل إضافة عار آخر إلى حياتها؟
وبقوة دفع مَوَدَّة وسما وجدت نفسها خارج القاعة، داخل سيارة زرقاء لا تعلم من صاحبها بصمت تام جالسة، وفي الخارج يقف حمزة يتحدث مع مَوَدَّة بانفعال ثم ينطلق إلى الداخل، وبجانبها تلك الفتاة ضئيلة القامة تربت عليها والدمعات تترقرق بعينيها.
وفي الداخل:
اقترب عَمَّار من ساري بتمهل مشددا بنبرة هادئة:
_سأنتقم منك لأجلها يا ساري.
ليأتي الرد رغم بطء كلماته سريعاً خافتاً متقطعاً:
_وهل تعتقد أنني سأمنعك عَمَّار؟!
تبادلا نظرات لا يفهم مغزاها سواهما ثم انطلق عَمَّار إلى الخارج مسرعاً.
"هل أنت ابني؟! هل أنت حقاً ساري ابني؟!"
وبالحسرة..
والقهر..
والصدمة..
فالخسارة!
نظر إلى أمه التي شعرت الآن أنه قد شاخ بلحظات قليلة وبابتسامة ميتة أجابها:
_لا أمي! أنا مجرد شبح!
**********


بقية الفصل على هذا الرابط

https://www.rewity.com/forum/t472579-5.html


الساعة الآن 06:15 PM

Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.