آخر 10 مشاركات
دموع بلا خطايا (91) للكاتبة: لين جراهام ....كاملة.. (الكاتـب : *ايمي* - )           »          نوح القلوب *مميزة ومكتملة* (الكاتـب : hadeer mansour - )           »          اختلاف متشابه * مميزة ومكتملة * (الكاتـب : كلبهار - )           »          البديلة *مميزة ومكتملة* (الكاتـب : hollygogo - )           »          178 - قيد الوفاء - سارة كريفن - روايات عبير القديمة(كامله)** (الكاتـب : أمل بيضون - )           »          جدران دافئة (2) .. سلسلة مشاعر صادقة (الكاتـب : كلبهار - )           »          كاثرين(137)للكاتبة:Lynne Graham (الجزء1من سلسلة الأخوات مارشال)كاملة+روابط (الكاتـب : Gege86 - )           »          1112-الإستسلام - شارلوت لامب ج6 -د.ن (كتابة /كاملة )** (الكاتـب : Just Faith - )           »          الضحية البريئة (24) للكاتبة: Abby Green *كاملة+روابط* (الكاتـب : * فوفو * - )           »          وَرِيث موريتي(102) للكاتبة:Katherine Garbera(الجزء1 من سلسلة ميراث آل موريتي) كاملة (الكاتـب : Gege86 - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > ارشيف الروايات الطويلة المغلقة غير المكتملة

مشاهدة نتائج الإستطلاع: ما رأيكم؟
جيد 13 43.33%
متابع 3 10.00%
لا بأس به 2 6.67%
أعجبني 18 60.00%
إستطلاع متعدد الإختيارات. المصوتون: 30. أنت لم تصوت في هذا الإستطلاع

Like Tree256Likes
موضوع مغلق
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 23-12-21, 10:36 PM   #41

شهر'زاد.

? العضوٌ??? » 492944
?  التسِجيلٌ » Sep 2021
? مشَارَ?اتْي » 100
?  نُقآطِيْ » شهر'زاد. is on a distinguished road
افتراضي


اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة shadwa.dy مشاهدة المشاركة
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
ليش الرواية واقفة ان شاء الله خير
وعليكم السلام
الرواية مش متوقفة أنا اعتذرت عن التنزيل الأسبوع اللي فات لضيق الوقت.. لكن فصل النهاردة هيكون في معاده بإذن الله كمان نص ساعة




شهر'زاد. غير متواجد حالياً  
قديم 23-12-21, 11:22 PM   #42

شهر'زاد.

? العضوٌ??? » 492944
?  التسِجيلٌ » Sep 2021
? مشَارَ?اتْي » 100
?  نُقآطِيْ » شهر'زاد. is on a distinguished road
افتراضي على شرفات الحب

الفصل الحادي عشر


دخل المنزل بوجهٍ متجهم .. قادته خطواته الغاضبة إلى غرفة الجلوس حيث وصلت إلى مسامعه أصوات جلبة , وصراخ ريهام الغاضب يصله عن بُعد
( ها قد وصل أمجد )
هتفت بها زهرة وهي تتحرك ناحيته وتابعت تسأله بقلق
( هل تحدثت معها؟ )
أجابها ونظراته الغاضبة تتجه نحو ريهام
( نعم , وأخبرتني أنها لن تدخل منزلنا مرة أخرى )
صدح صوت ريهام بتشفي
( فلتذهب للجحيم .. من الغد سوف أبحث بنفسي عن معلمة أخرى ... مَن تظن نفسها تلك الحثالة ! )
اقتربت منها والدتها لتمسك ذراعيها بقوة وتهتف مستنكرة
( ما هذه البساطة التي تتحدثين بها؟!! ... ألا يوجد لديكِ أدنى إحساس بالمسؤولية !! ... مِن أين سنجد معلمة أخرى ترتاح لها ليان ! ... حتى
وإن وجدنا , ألا تشعرين بالخجل مِن نفسكِ بعد ما فعلته مع الفتاة؟ ... لقد أعطتنا مِن وقتها لتساعد ابنتكِ ورفَضَت أن تأخذ قرشًا واحدًا .. والآن يكون هذا جزائها ! .. من أين لكِ بتلك الوقاحة !!! )
كان صوت المرأة يعلو وقد تفاقم غضبها من غباء ابنتها فتقدم أمجد ناحيتها يربت عليها مهدئًا ليساعدها على الجلوس ... في حين لم تشعر ريهام بذَرة ندم بل هتفت بحقد
( عن أي مسكينة تتحدثين ها؟ .. هل يخيل عليكِ تلك الحركات ! ... أنا أفهمها جيدًا ... ماذا فعلت لكم كي تدافعون عنها هكذا؟!! )
كانت تُلقي بكلماتها بشراسة وقد أعمتها غيرتها ... منذ رأت طارق يتحدث مع صِبا بل ويبتسم لها بإشراق تلك الإبتسامة التي حُرمت هي منها ... لقد قضت ليلتها تتحرق على جمرٍ وخيالها يأخذها لمساراتٍ بعيدة حول علاقتهما ... حتى أنها لم تستطع التحكم في انفعالتها عند التعامل معها في الأيام السابقة , ولذلك ما إن واتتها الفرصة اليوم حتى استغلتها في محاولة منها للتخلص من وجود صِبا ... ويبدو أنها نجحت ...
كان أمجد ينظر لها بازدراء وهو يتعرف على الجانب الآخر منها ... جانب يختلف تمامًا عن هدوئها الغامض الذي تظهره أمام الجميع ... ليكتشف فجأة أنه كان بعيدًا جدًا عنهم .. أبعد مما تخيل ...
انتبه على صوت زهرة التي تحدثت بتوتر
( يا إلهي ماذا سأفعل الآن؟ ... بأي وجه سأقابلها وأنا التي اقترحت فكرة مجيئها هنا من الأساس؟ )
نظر لها بصمتٍ وهو يفكر في حل لهذا الموقف السخيف ... بينما كان والدهم يراقب الوضع بجمود دون أن يعرف كيف يتصرف مع أفعال ابنته المخجلة .. تكلم موجهًا حديثه لرحمة
( ستذهبين إلى بيتها غدًا يا رحمة .. تحدثي معها بهدوء حول سوء الفهم الذي حدث )
ثم التفت ناحية ذات العينين المستعرتين بنبرة آمرة
( وأنتِ .. ستذهبين معها وتعتذرين عما تفوهتِ به من حماقة .. هل تسمعين؟ )
ظهر الرفض على ملامح ريهام .. لكن والدها لم يمنحها فرصة الاعتراض بل هتف بحنق وقد نفد صبره
( لا أريد مناقشة في هذا الأمر .. تصرفي كأمٍ عاقلة لمرة واحدة في حياتكِ من أجل مصلحة ابنتكِ .. وإلا قسمًا بالله سأتصل بطليقكِ ليأخذ ليان كي تعيش معه ويتولى هو أمرها )
توسعت حدقتاها رعبًا .. تدرك جيدًا أن والدها على أتم استعداد لينفذ تهديده ... دارت نظراتها بين الجميع بشعور طالبة مذنبة يتم توبيخها أمام زملائها ... نظرت لها رحمة التي التقطت استغاثتها الصامتة , تنهدت وقالت بتعقل
( أنا أقترح أن أذهب وحدي .. نحن لا نعرف كيف سيكون رد فعلها بعد ما حدث ولذلك أُفضل التحدث معها بهدوء )
صمت الرجل قليلًا ليفكر بكلامها ثم أومأ برأسه موافقًا ... أما أمجد فكسر صمته ليقول بثبات
( وأنا سأذهب معكِ )
ظهرت معالم الدهشة على وجوه الجميع وهم يشعرون بالتعجب مِن مبادرته .. لطالما انطوى على نفسه غير مكترثًا بما يدور بالمنزل .. واليوم ولأول مرة أثبت حضوره حين تصرف باهتمام تجاه هذا الأمر بعينه ...
شخصٌ واحد فقط لم تعتريه الدهشة كالجميع , وإنما الغضب .. غضب احتل ملامحه ما إن نطق أمجد .. ليهتف بشراسة
( ولماذا تذهب معها؟! ... ما دخلك أنتَ بهذا الأمر من الأساس !! )
نظر له أمجد بجمود دون أن يهتم بالرد عليه بينما التفتت رحمة لزوجها هامسة باستنكار
( فارس ! .. ما هذا الذي تقوله !! )
عَلا صوته الساخر وتكلم بعدائية يوجه حديثه نحو الجميع
( وما الخطأ فيما قلته؟ .. لماذا يذهب هو مع زوجتي؟ .. ومنذ متى وهو يهتم بشئون العائلة؟ .. بل منذ متى وهو ينتمي لهذه العائلة من الأساس !! )
وعند جملته الأخيرة لم يستطع أمجد التحلي بمزيدٍ من الصبر بل قطع صمته ليرد بغضب
( أنا أنتمي لهذه العائلة رغمًا عن أنفك أيها السكير )
هَم فارس بالتحرك نحوه وقد أفلتت أعصابه إلا أن والدهما تدخل زاعقًا بغضب
( توقفا أنتما الاثنين .. ألا يوجد احترام لوجودي ! )
ثم وجه تحذيره لفارس
( وأنت ... تأدب عند الحديث مع أخيك الأكبر )
لم تتزحزح عينا فارس عن أخيه .. كان التحدي بارزًا فوق ملامحهما , لكن نظراتٍ كريهة انبعثت من عينيّ فارس وقد أطبقت كفه على رسغ رحمة دون وعي منه ... حتى تململت متأوهة , فابتعد مندفعًا إلى الخارج دون كلمة أخرى .. بل إلى خارج المنزل بأكمله متجاهلًا هتاف رحمة القلق بِاسمه.

*********************************

فركت عينيها بنعاس وقد تملكها الإرهاق بعد أن أنهت مذاكرتها ... كادت تغلق الكتاب أمامها لكن قاطعها رنين هاتفها لتعقد حاجبيها وتنظر للساعة بقلقٍ لتأخر الوقت .. ارتفع حاجباها بدهشة ما إن رأت اسم المتصل .. فتحت الخط لتضع الهاتف على أذنها متكلمة بترقب
( مساء الخير سيد مروان )
أتاها صوته على الجانب الآخر هادئًا وهو يرد تحيتها .. صمتت تنتظر أن يقول ما عنده .. مرت ثانيتين حين تكلم أخيرًا
( هل أيقظتكِ من النوم؟ )
نفت بهدوء
( لا أبدًا .. لقد أنهيت مذاكرتي للتو )
ثم تنحنحت تسأله بتململ
( عفوًا سيد مروان .. لكن هل لي أن أعرف سبب الاتصال؟ )
حرك مقلتيه سريعًا يبحث عن حجة مناسبة وقد نسي ما قد جهزه سابقًا .. تكلم بجدية مصطنعة
( نعم .. أنا .. أقصد أنتِ لم تأتِ إلى الشركة اليوم وكان هناك أمرًا هامًا أردت التحدث معكِ فيه .. بخصوص العمل طبعًا )
أجابته ببساطة
( نعم لقد ذهبت إلى الجامعة لأحضر جدول الامتحانات .. لكنني أنهيت الملف المطلوب مني وأرسلته بالبريد الإلكتروني )
تحرك في غرفته ذهابّا وإيابًا وهو يضرب جبهته بكفه كي يحث عقله على التفكير في رد مناسب بينما يلعن لسانه الذي انعقد فجأة .. تنحنح يتصنع الجدية
( نعم نعم لقد رأيته ولذلك أردت مناقشتكِ في بعض تفاصيله )
أحنت جبهتها تسندها فوق قبضتها وقالت بإجهاد
( ألا يمكننا تأجيل ذلك؟ .. سوف أكون في الشركة غدًا ... يمكننا مراجعة الملف بأكمله )
توقعت أن يتحلى ببعض اللباقة ويتركها كي تنعم بقسطٍ مِن الراحة .. إلا أنه سارع يُلح بسماجة
( لكنني أحتاج إلى تلك المعلومات الآن ... أريد دراسة الملف جيدًا قبل اجتماع الغد )
أبعدت مريم الهاتف عن أذنها لتدلك بين عينيها زافرة بضيق ... ثم ردت من بين أسنانها
( حسنًا سيد مروان .. أنا أسمعك )
قضى قرابة النصف ساعة يتحدث ويسألها عن أمور لا تستحق التعقيد .. إلا أنها كانت تجيبه بصبرٍ حتى أنها لم تنتبه حين خرج تدريجيًا عن سياق الكلام ليسألها عن دراستها وعدة أمور تافهة ...
أنهى حديثه أخيرًا باعتذارٍ مهذب عن اتصاله في وقتٍ متأخر ثم سألها بلطف
( سأراكِ غدًا في الشركة , أليس كذلك؟ )
لم تنتبه لتغير نبرته وقد استبد بها الإرهاق لترد بالإيجاب فأردف هو بابتسامة
( لقد أوصيت الساعي أن يحرص على توفير عصير البرتقال حتى نعمل في بيئة منتعشة )
رفعت مريم حاجبها حين تأكدت مما سمعت فلم تستطع منع ضحكة أفلتت منها و ارتفعت تدريجيًا وهي تهز رأسها بيأس ... بينما ابتسم هو على الجانب الآخر متنهدًا يستمع لعذوبة ضحكتها ...
بعد أن تمنى لها ليلة سعيدة أغلقت مريم هاتفها
مبستمة ... سمعت طرقات على باب غرفتها الذي أطلت منه صبا بملامح جامدة لا تنم عن شيء ثم جلست على سرير أختها بصمت ... هزت رأسها بتساؤل فتكلمت صِبا
( لقد اتصلتُ بسامر منذ قليل ... سيحضر غدًا لتناول الغداء معنا )
ارتبكت نظرات مريم فأبعدت عينيها عن صِبا التي تتفحصها بتمعن ثم تحركت مِن مكانها لتسأل وهي تنظر لأختها من خلال المرآة
( وما سبب تلك الدعوة المفاجئة؟ )
هزت صِبا كتفيها تجيب ببساطة
( لا يوجد سبب محدد ... لقد مرت فترة طويلة على آخر مرة رأيته بها وأنتِ تعلمين أننا صديقين بغض النظر عن أمه التي تطيق العمى ولا تطيقني )
أومأت دون رد فأردفت صِبا بفضول
( مع من كنتِ تتحدثين في الهاتف لأكثر من نصف ساعة )
نظرت مريم لهاتفها الموضوع على سطح مكتبها ثم ردت تتصنع اللامبالاة
( ها؟ إنها زميلة لي , كانت تسألني عن شيء بخصوص المذاكرة )
أومات صِبا بعدم اقتناع ثم نهضت لتتجه غرفتها وهي تنوي إجراء اتصالًا هامًا قبل أن تخلد للنوم ...

********************************

سمع صوت طرقات على باب غرفته .. كاد يتجاهلها لعدم رغبته في الحديث مع أحد .. إلا أنه ما إن سمع صوت زهرة الرقيق تستأذنه للدخول حتى أخذ نفسًا عميقًا يهدأ به نفسه ثم ناداها كي تدخل ..
تقدمت منه حتى وقفت على بُعد خطوة واحدة مطرقة برأسها وهمست
( أنا آسفة )
لم يحتمل سماع نبرتها الباكية فأمسك بذقنها يرفع وجهها إليه بلهفة
( لماذا تعتذرين يا صغيرتي؟ )
تكلمت بصوتٍ مختنق شاعرة بالذنب
( لأنني اقترحت مجيء صبا إلى هنا .. كان عليّ ألا أغفل عن طباع ريهام الحادة .. والآن لقد اشتعل البيت بأكمله لما حدث ... وتشاجرت أنت وفارس مجددًا )
ربت بكفه الآخر فوق ظهرها وهمس بلينٍ
( لا يجب أن تعتذري نيابة عن الآخرين , أنتِ لم تخطئي بشيء , بل بالعكس لقد فعلتِ ذلك من أجل ليان ... أما بشأن فارس فلا تقلقي .. منذ متى ونحن لا نتشاجر؟ )
قال جملته الأخيرة ضاحكًا بسخرية فسارعت زهرة تهتف بصدق
( فارس ليس بهذا السوء .. أعلم أن طباعه حادة منذ الصغر .. لكنه يملك قلبًا صالحًا )
لم يجادلها أكثر واكتفى بالصمت رافضًا الخوض في هذا الأمر أكثر حتى لا يصدم قلبها البريء ...
ثم أحاط كتفيها بذراعيه وهو يغير دفة الحديث
( المهم دعينا من هذا فلدينا موضوعًا أهم )
جذب انتباهها فرفعت وجهها له تحثه على الحديث فسألها بمرح
( كيف سنقنع ذات الرأس الحديدي بالعدول عن قرارها وتناسي غلاظة أختكِ معها )
زمت شفتيها بقلة حيلة
( لا أعلم .. حتى أبي أمَّر رحمة بعدم الذهاب تحاشيًا لغضب فارس فتتطوعت أنا للمجيء ... لكن سأترك لك الحديث فأنا لست بارعة في الإقناع )
ضحك أمجد وهتف بتشدق
( حتى وإن كنتِ بارعة لن يفلح الأمر مع عِنادها )
ضيقت زهرة عينيها تسأله بشكٍ
( لماذا أشعر أنكما تعرفان بعضكما من قبل؟ )
أجابها مبتسمًا
( ألا تذكرين السيارة التي ارتطمت بنا يوم الغداء العائلي قبل فترة؟ )
أومأت برأسها فتابع بمرح
( لقد كانت صبا هي صاحبة تلك الارتطامة الجهنمية )
هتفت زهرة بذهول
( يا إلهي تلك الفتاة التي ظللت طوال الطريق متجهمًا بسببها؟ .. أنا لم أتبين ملامحها وقد تجمهرت باقي السيارات حولكم )
ضحك بشدة وقد بدأ حديثه مع زهرة يخرجه من غضبه
( من الجيد أنكِ لم ترين ما حدث .. كانت تقفز بتحفز كحبة الذرة في الوعاء ... وتهتف بغضب أنني أنا المخطئ )
ابتسمت زهرة تتأمله بعينين حانيتين فهز رأسه متسائلًا , لتقول بعذوبة
( لا أظن أنه سبق لي ورأيتك تتحدث عن أحد بانطلاق هكذا .. خصوصًا أنها أثارت غضبك يومها بشدة ... ما زلت أذكر بما غمغمت به لنفسك يومها أكثر مِن مرة )
اتسعت ابتسامته وقد عرف ما توشك على قوله بينما أجلت زهرة صوتها وقلدت طريقته تقول بعبوس
( كانت صُدفة سوداء تلك التي جعلتني أسلك ذلك الطريق لأول مرة )
ثم تشدقت بجدية زائفة
( لكت يبدو أن الصُدفة التي جعلتني أُدخِل صبا إلى منزلنا ليست سيئة على الإطلاق )
انتبه لنظرات اللؤم التي تملأ عينيها .. فعبس وقال بخشونة
( نعم ربما ليست سيئة لأنها ستساعد ليان ..
والآن هيا إلى غرفتكِ فأنا أريد أن أنام )
كان يدفعها بفظاظة بينما تضحك هي باستمتاع وتشاكسه بتثبيت قدميها في الأرض كي لا تخرج وهي تعلم أنه يتهرب منها .. مما دفعه لإلقائها خارج الغرفة وأغلق الباب .. ومع ارتفاع صوت ضحكاتها ابتسم بخفة وتمتم لنفسه
( ربما فعلًا ليست كل الصُدف بذلك السوء الذي اعتقدته )

********************************
في اليوم التالي ..
جلسوا جميعًا في غرفة الضيوف بينما تتابع صبا الجميع بنظرات ثاقبة غير غافلة عن ذبذبات الشرر المتطاير بين كريم المتحفز وسامر الذي تجاهله تمامًا موجهًا مزاحه لملك ووالدتها .. كانت قد رفضت دعوة كريم على الغداء , بل وأصرت عليه أن يحضر إلى المنزل ليرحب بسامر .. كانت تعلم أنها تغامر بحدوث مشكلة , خاصة وأن كريم يعلم أن سامر قد سبق وتقدم لخطبتها ...
إلا أنها تخلت عن قلقها وهي تعترف لنفسها للمرة الأولى ربما , أنها تقف بمفردها ضد ضغط كريم عليها .. كان يجب أن يعلم أنها تمتلك عائلة رغم كل شيء , وأنها ليست دمية يتحكم بها كما أراد معتقدًا أن بإمكانه استغلالها .. ولذلك قصدت أن تفتح موضوع عملها اليوم أمام سامر وهي تتحدى كريم بعينيها أن يعترض .. زمت شفتيها بسخرية وهي تُذكِر نفسها أن أمر العمل قد انتهى , لكن لا يهم ... المهم أن تثبت لنفسها قبل أن تثبت له أنه لا يستطيع إجبارها على ما لا تريد ..
حانت منها نظرة لمريم التي تجلس بجانب والدتها ترد على حديث سامر بملامح عادية جعلتها تشعر ببعض الارتياح ... تحدثت والدتها تسأل سامر
( ومتى ستسافر؟ )
أجابها بهدوء
( بعد شهرين إن شاء الله )
كادت صِبا تسأله عن شيء إلا أن كريم تحدث بطريقة أغاظتها
( لكن يجب أن تعود حتى تحضر زفافي أنا وصبا .. لا أظن أنه سيكون من اللائق ألا تحضر حفل زواج ابنة خالك )
كان يتحدث وهو ينظر إليه ببرود بينما يمد يده بوقاحة ليلامس كف صبا .. بينما رد عليه سامر بنبرة عادية وهو يتجاهل طريقته المستفزة
( بالطبع سأحضر الزفاف .. بل أنا من سيسلمها لك بنفسي )
حين نبس بجملته وفي حلقه غصة , لم ينتبه لتلك الجالسة قربه , والتي انتفض قلبها بألمٍ بعد ما قاله , فلم تستطع منع عينيها من النظر نحوه .. ورغم أنه لم يكن ينظر ناحيتها , إلا أن ألمه وصلها , وطالها رغمًا عنها .. فمن سواها تشعر به الآن ! .. مَن سواها تسربت أمانيه مِن بين أصابعها وذهبت لآخر ... هزم الألم عينيها وتحركت شفتاها تهمس دون صوت
( يا إلهي )
بينما استقبل كريم الكلمات بابتسامة صفراء .. فنزعت صبا يدها بعصبية , استأذنت منهم لتخرج من الغرفة وهي تستشيط غضبًا من سخافة تصرفاته ...
وتابع سامر انصرافها .. لثانية واحدة , بعينين خاويتين .. ثانية واحدة فقط لم يزد عنها .. نظرة خاطفة لا يملك غيرها ولا تحق له حتى , يطرق بعدها برأسه كي يستعيد قناعه الهادئ , يخفي به خيبته وأساه .. يخفي به ألمه الموجع وأمله الضائع .. فلا يبدو أمامها منهزمًا وإن كان بداخله ينزف .

*********************************

بعد مرور بعض الوقت استأذن للرحيل على وعدٍ بلقاءٍ آخر قبل سفره ... رافقته صبا إلى الخارج , حين وصلا إلى باب المنزل توقف كي يقول بصدق
( إن احتجتِ لأي شيء لا تترددي في الاتصال بي )
أومأت له بابتسامة ممتنة .. لكنه كرر بجدية
( أي شيء يا صبا .. لا داعي لفرد عضلاتكِ أمام كل موقف والتصرف بمفردكِ )
لوحت بكفها تهتف بمزاح
( حسنًا يا عم )
ابتسم ابتسامة يشوبها الحزن واكتفى بالنظر نحوها للحظاتٍ قبل أن ينصرف تاركًا خلفه صبا التي تنهدت وأرغمت نفسها على العودة لغرفة الضيوف ...
مرت بضع دقائق ليتعالى بعدها رنين جرس المنزل بإلحاح فأسرعت مريم لتفتحه ثم عقدت حاجبيها وهي ترى زهرة أمامها تفرك كفيها بتوتر بينما ظهرت الدهشة على وجه الأخيرة وقد تعرفت عليها .. إلا أنها سألت بحرج
( عفوًا .. هل صبا موجودة؟ )
في نفس اللحظة وصلت صبا تتساءل بتعجب عن سبب وقوف زهرة أمام باب منزلها إلا أن الأخرى لم تمنحها الفرصة وهتفت بقلق
( ليان تمر بنوبة صراخ والطبيب معها الآن )

************************************

وقفت بجانب الطبيب الذي أعطى الطفلة دواءً مهدئًا .. تأملتها بإشفاق وقد احتضنتها ريهام تتمسك بها باكية متخلية عن جمودها المعتاد ...
خرجت بعد عدة دقائق حيث ينتظر الجميع بالخارج ليطمئنهم الطبيب قبل أن ينصرف تاركًا صبا تقف حائرة أمام نظرات الترقب الصامتة في أعينهم ... حركت مقلتيها ناحية كريم الذي أصر على مرافقتها , وجدته ينظر إليها متجهمًا وهو يستثقل وجودهما هنا .. دفعها شيء للنظر في الجهة الأخرى .. حيث يقف أمجد الذي كان يتابع الأمر من بعيد مكتفيًا بصمته , ورغم ذلك كان ينظر ناحيتها مثلهم تمامًا , وكأنه ينتظر ردها
شعرَت بأن صمتها قد طال فتكلمت بهدوء
( حمدًا لله على سلامتها .. لا داعي للقلق , فكما قال الطبيب صراخها أمر طبيعي بسبب عدم قدرتها على التعبير عما تريده بالطريقة الطبيعية )
ثم أخذت نفسًا عميقًا وقد حسمت أمرها فتابعت باقتضاب
( دعوها تستريح الآن وأنا سأعرف كيف أتصرف معها غدًا )
ظهر الارتياح على معالم الجميع لتشكرها السيدة مشيرة بحرارة وهي ترافقها إلى باب المنزل ...
بينما راقب أمجد رحيلها بصمتٍ , لم يقترب منذ دخولها للمنزل بصحبة كريم وقد تفاجأ بمجيئه معها .. لا يعرف سببًا لذلك الإحساس الذي انتابه وهو يراقب كريم الذي أمسك كفها بتملك , وقد أغضبه ذلك من نفسه , ليس فقط رفضه لتصديق سبب ضيقه من رؤيتها بصحبة خطيبها .. وإنما إحساسًا آخر متناقض تمامًا , ينم عن سعادة خفية بعودتها.

************************************

فى اليوم التالي ...
أنهت عملها لتتجه مباشرة إلى منزل عائلة أمجد .. لقد حسمت أمرها بعد ليلة طويلة وهي تقنع نفسها أنه يتوجب عليها مساعدة تلك الطفلة ... تقاوم إحساسًا غادرًا بالضعف وهي تدرك في قرارة نفسها أن صراخ الطفلة بالأمس لم يكن سوى إبر مؤلمة .. إبر وخزت مسامعها طوال الليل وفي ترى فيها مريم أختها .. طفلة صغيرة تجرها صبا أينما ذهبت .. تحميها من بطش عبد الرحيم الذي لم يرحم صغر سنهم وهو يضرب والدتهما .. أمام أعينهما !!
كم قضت من ليالٍ لا تعرف هل تمسح دموع أختها الصغيرة , أم دموع العجز التي تنحدر على وجنتيّ والدتهما وهي تحتضنهما بحماية ... أم تمسح دموع الخوف والذل التي تتحجر في مقلتيها هي وقد وجدت نفسها في مواجهة بطش والدها الذي ينفجر كالبركان بلا سبب ..
صفت سيارتها أمام المنزل وأزالت دمعة غافلتها وانحدرت من عينها .. أخذت شهيقًا عاليًا وجزمت على المتابعة .. ستفعل ما يمليه عليها ضميرها , فهي لن تتحمل ذنب تلك الطفلة أبدًا ...
فتحت باب سيارتها وقبل أن تصل للبوابة لمحت سيارة أمجد تصل .. ترجل منها وعيناه تناظرانها بينما خطواته تقترب ...
فتح القفل الإلكتروني ودخل كلاهما في صمت كسره أمجد حين تكلم بتقرير دون أن ينظر إليها
( إذن لقد عدلتِ عن قرارك )
توقفت مكانها لتواجهه بعينيها وقالت بحزم
( فقط من أجل تلك الطفلة التي لا ذنب لها .. أنا لن أقف مكتوفة الأيدي وأنا أعلم أنه بإمكاني مساعدتها )
كان قد توقف ينظر إليها بصمت , يتعرف منها على ذلك الوجه الحازم .. ارتسمت على شفتيه ابتسامة عذبة وقال
( يبدو أن ليان كانت محقة عندما ارتاحت لصحبتكِ ... قلوب الأطفال دائمًا صادقة )
"ماذا يحدث معه بالضبط !!" ... هكذا حدثت نفسها وهي تحدق به بتعجب مِن ردود أفعاله الغير متوقعة ... لقد كانت تجهز نفسها لشجارات لا تنتهي عندما قررت دخول هذا المنزل , إلا أنها لا تستطيع الآن أن تنكر أنه ليس من السهل توقع ردود أفعاله ...
قطع أفكارها مجيء زهرة التي رحبت بها ببعض ببعض الحرج
( يسعدني أنكِ هنا مجددًا )
شكرتها صبا وسألتها عن ليان .. فترددت زهرة قليلًا قبل أن تجيبها ببعض الحذر
( إنها موجودة في غرفتها .. وريهام وطارق معها )
بعد دقائق كانت تجلس بجانب ليان وتتحدث مع طارق حول حالتها مُتجاهلة ريهام تمامًا .. بينما اشتعلت نظرات الأخيرة بغيرة واضحة وهي تراهما يتجاهلان وجودها وكأن تلك الطفلة ليست ابنتها ! ...
وقف أمجد يراقب الوضع بتمعن وقد فطِن لسبب ما حدث منذ البداية بعد أن فهم من حديث طارق أنه على معرفة سابقة بصبا .. لم تفته نظرات ريهام الغاضبة المصوبة ناحيتهما فزفر بضيق وقد استشف ما يجري ...
بعد قليل خرجوا جميعًا من الغرفة ليتركوا صبا تمارس عملها مع الطفلة بتركيز ...

*********************************

تُمسِك بهاتفها تتصفحه بشرود , تتظاهر بالانشغال عن عينيه المنشغلتين بها .. بينما كان هو يراقبها بتفحص من حين لآخر وهو يلاعب طفليه .. منذ تلك الليلة التي خرج فيها مِن المنزل غاضبًا وهي تتجنب الاحتكاك به .. لا ترد عليه إلا بكلماتٍ مقتضبة كلما سألها عن شيء .. يعلم أنها لا تزال غاضبة , كما يعلم أيضًا أن لها كل الحق في ذلك .. لقد وعدها أن يتوقف عن تصرفاته المتهورة لكن شيطانه الكامن لا يساعده على ذلك .. خاصة إن كان الأمر يتعلق بها هي , غيرته عليها تعميه حين يتمنى لو يخفيها عن الجميع فلا يراها سواه ...
لقد عاد ليلتها إلى المنزل بعد منتصف الليل وكان قد قضى عدة ساعات يجوب الشوارع بسيارته ... حين دخل إلى غرفتهما الخاصة كانت تتظاهر بالنوم فَوصَل إلى فكره كل السيناريوهات التي رسمتها بعقلها بينما هو بالخارج .. وقتها بدل ملابسه بصمت بينما يتابع بعينيه تنفسها الغير منتظم وهو يعلم أنها تراقبه .. ثم اندس جوارها بهدوء وصمتٍ طال لعدة دقائق قبل أن يقطعه حين تكلم بحزمٍ وهو يعلم أنها تسمعه
( أنا لست مخمورًا .. ولم أذهب إلى أي مكان أو أفعل شيئًا مما يدور في رأسك .. لم أستطع أن أنقض عهدي معكِ )
وببطءٍ اقترب منها أكثر ليطبع قبلة دافئة طويلة فوق خصلاتها ثم تحرك مبتعدًا عنها يعطيها ظهره .. بينما أطبقت رحمة جفنيها بعد دمعةٍ انحدرت فوق وجنتها ...
انتبهت من شرودها مجفلة حين اختطِفَ هاتفها من يدها وانتقل إلى يديه العابثتين ..
كادت تهتف به بحنق وتنتزع الهاتف مجددًا .. إلا أنها برمت شفتيها وهي تراه يرفع الهاتف ناحيتها وعلى شفتيه ابتسامة عابثة
( مَن هذا الوسيم الذي تشاهدين صوره؟ )
أشاحت بوجهها بعيدًا متجاهلة اقترابه منها حين نهض من مكانه ليجاورها على الأريكة .. ابتلعت ريقها باضطرابٍ وهي تشعر بأنفاسه قربها وهمسه الخافت في أذنها
( تتفقدين صورًا منذ أعوام بينما الأصل يجلس على بُعد خطواتٍ منكِ )
تأففت بضيق .. وقالت دون أن تنظر ناحيته
( أعطني الهاتف )
لم يرد واستمرت نظراته العابثة إليها وعلى شفتيه ابتسامة متسلية .. فأطلقت رحمة زفرة أخرى وهي تنهض مبتعدة تاركة له الهاتف بأكمله , إلا أنه لم يمنحها الفرصة فقد جذبها ناحيته فجأة حتى أجلسها فوق ركبتيه بينما هي تقاومه دون فائدة ...
خرج صوتها مرتعشًا وهي تهتف بغضب
( اتركني يا فارس ! )
لم يرمش وهو ينظر إليها بهدوء .. شعرت بأصابعه فوق خصرها بينما يهمس بتقرير
( إذن ما زلتِ غاضبة )
لوحت بكفها تهتف بتهكم
( ولماذا أغضب ! ... وهل تفعل أنتَ شيئًا يدعو للغضب؟ )
تجاهل سخريتها ورفع حاجبيه يتصطنع البراءة
( وطالما أنا زوج مطيع .. لِمَ تلك المعاملة يا ذات القلب القاسي !! )
أبعدت يده التي تمسك بخصرها وغمغمت بجمود
( توقف عن ذلك فارس )
وقبل أن تنهض فوجئت بطفليها يتسابقان ليصعدا فوق الأريكة .. ليتسلق إياد كتف والده بشقاوة بينما تعلقت نادين بعنق فارس الذي ضحك باستمتاع .. تكلم وهو يضم عائلته الصغيرة بين ذراعيه
( "بابا" لديه مفاجأة )
هتف الطفلان متسائلين بحماس فأجابهما وعيناه تتجهان لرحمة
( سوف آخذ غدًا بأكمله عطلة ونذهب جميعًا في نزهة )
صفق التوأمان بسعادة وعانقا والدهما يقبلاه بطفولية جعلت شفتيّ رحمة ترتعشان بتأثر ... التقط حركتها البسيطة بعينيه اللّتان تراقبان كل سكناتها ... رفع إبهامه يلامس شفتيها وسألها بهمسٍ وعيناه تنشدان الصفح
( هل ستأتي "ماما" معنا؟ )
لم ترد عليه ليتكفل الطفلان بذلك مُهللين
( بالطبع .. بالطبع )
لكنه ظل يطالعها بعينيه منتظرًا أن تلين صلابة نظراتها .. فلم تملك سوى الإيماء بالموافقة.

**************************************

سارت بجانبه في المجمع التجاري الذي اصطحبهم إليه في نهاية اليوم ... نظرت إليه وكان لا يزال مستمرًا في حديثه المرِح مع طفليه دون أن تشاركهم رغم محاولاته لتبديد جمودها ..
لن تنكر أنها تكاد تطير فرحًا من مبادرته بقضاء يومًا عائليًا في الخارج .. ومع هذا لا تزال تعاقبه بجمودها ... موقفه الأخير مع أمجد جعلها في حالة غضب شديد , خاصة أن ما حدث كان أمام العائلة , ومِن وقتها والأجواء مرتبكة في المنزل ..
انخفضت نظراتها لكفه الذي يعانق أصابعها بدفء بينما تأملته بقامته الطويلة وملامحه الخشنة تزينها ابتسامة جذابة وهو يتبادل الحديث مع طفليه بمرح .. تعلقت عيناها بتلك الابتسامة التي لا تزال تثير بداخلها مشاعر شتى وكأنها ما زالت مراهِقة .. التفت ناحيتها فجأة فالتقط نظراتها المعلقة به لتتسع ابتسامته أكثر .. أسبلت جفنيها متنهدة , تقاوم لمساته على ظاهر كفها , ترنو إلى ذلك التشابك بين أصابعهما , تتساءل إلى متى سيظل متعلقًا بها؟ .. أتراه يفلت يدها ذات يوم؟
( ولا بعد مائة عام )
قالها بصوتٍ أجش لم يسمعه سواها , وكأنه يجيبها عن سؤال لم تبوح به .. رفعت وجهها إليه فتلقفتها عيناه بينما يشدد من احتضان كفها ... فابتسمت وقلبها لا يعرف سوى تصديقه ... انتبه فارس لابنته التي نادته وأشارت بإلحاح لعدة أشخاص يرتدون ملابس شخصيات كارتونية ويلتقطون الصور مع الأطفال ... فاصطحبهم إلى حيث تريد وبدأوا في التقاط بعد الصور ... تأمل فارس طفليه بحب حتى هتف إياد فجأة بحماس
( شاركنا بعض الصور يا أبي )
عبست ملامحه مستنكرًا
( بالطبع لن أضحي بهيبتي وألتقط صورًا بجانب أشخاص يرتدون "سلاحف النينجا" ! )
رمش الطفل وصحح ببراءة
( إنهم "باور رينجرز" )
نظر فارس بحاجبين منعقدين ناحية الفتيان أصحاب البدلات الملونة ثم التفت لرحمة التي انفجرت ضاحكة وهزت كتفيها تشاكسه
( لا تحاول .. ابنك رأسه كالحجر مثلك )
لم يملك سوى الاستسلام ومجاراة طفليه .. بينما رفعت رحمة هاتفها كي تلتقط لهم الصور دون أن تتوقف عن الضحك .. وجد نفسه يبتسم لعينيها وقد غردت ضحكاتها صوب قلبه مباشرة , يكفيه أنه شارك في إضحاكها , وكم بدت في تلك اللحظة جميلة , دافئة إلى الحد الذي لا حد له ..
إمرأة يتمثل الحُسن في عينيها , وتتثانر الألوان من بين أصابعها .. تضيء الطرقات فور وصولها , حتى تكاد تظنها نجمة .. وتحلُق الفراشات حولها , ظنًا منهم أنها وردة .. يكفي فقط أن تبتسم , فتلامس ابتسامتها قلبه.

*********************************

جلسوا في أحد المطاعم الذي اقترح فارس أن يتناولوا عشائهم فيه .. بينما استمر هو في الاعتناء بالطفلين كما يفعل منذ بداية اليوم ..
تنهدت تتأمله وقد أجلس نادين فوق ركبتيه وبدأ في إطعامها بنفسه ... أدامت النظر نحوه كي تتشرب كل ثانية من هذا المشهد , تكاد تقسم أنه يمتلك من الحنان ما يكفي المدينة بأكملها ..
انتبه لها فأشار بعينيه لطبقها وسأل باهتمام
( لماذا لا تأكلين؟ .. هل أطلب لكِ شيئًا آخر؟ ) هزت رأسها نفيًا ثم شرعت في تناول بضع لقيمات بينما تابعها فارس بعينيه وكأنها طفلة صغيرة ...
لاحظت نظراته التي حادت عنها وقد أطال النظر خلفها بتمعن .. فتغلب عليها فضولها ودفعها كي تدير رأسها ناحية ما يشتت انتباهه ...
دققت في تلك الطاولة البعيدة نسبيًا حيث لمحت صبا تجلس بابتسامة رزينة وأمامها خطيبها ...
التفتت مجددًا لفارس فوجدته ينظر لها هي بهدوء وكأنه يقرأ أفكارها ... تحدثت ممتعضة
( لا أرتاح لخطيبها هذا )
قالتها بعدم ارتياح يلازمها تجاهه منذ أتى بصحبة صبا إلى منزلهم ... حدسها يخبرها أن ملامحه الوسيمة ليست إلا واجهة أنيقة لم يسعفها زيفها في إخفاء نظراته الحانقة لوجود صبا بمنزلهم ..
( تلك الفتاة إما محظوظة جدًا لكونها خطيبته ... أو ... )
استحوذت جملته على اهتمامها لكنه تركها مبتورة فحثته كي يكمل ... لكنه رفع حاجبه يسألها بلؤم
( لماذا تهتمين بهذا الأمر؟ )
تأففت من طريقته وهتفت بحمائية
( لأن خطيبته التي تتحدث عنها أصبحت صديقة لنا ... وبصراحة أشعر أنها تستحق شخصًا أفضل )
أومأ برأسه وارتشف بعض العصير قبل أن يسألها باهتمام مصطنع
( ومَن هو الشخص الأفضل من وجهة نظركِ؟ )
زمت شفتيها وقد فهمت ما يرمي إليه فأشاحت بوجهه تتجاهل إغاظته لها ...
وبعد مرور بعض الوقت تحركوا مغادرين فألقت رحمة نظرة أخيرة تجاه صبا التي لم تنتبه لوجودهم من الأساس ...

**************************************

( هل أختاره أنا لكِ؟ .. لديّ اقتراحات ممتازة )
قال جملته بحماس ثم صمت ينتظر ردها .. إلا أنها كانت غائبة الذهن عما يقوله وهي تتلاعب بخاتمه في إصبعها بشرود ...
حرك كفه أمام عينيها فرمشت عدة مرات وانتبهت له تسأله بتشتت
( هل قلت شيئًا؟ )
نظر لها بجمود لثانيتين قبل أن يتكلم بجفاء
( أنا أتحدث منذ أن وصلنا إلى هنا بينما أنتِ تبدين وكأنكِ في عالمٍ آخر )
مسدت جبهتها وتمتمت باعتذار
( عفوًا كريم لقد شردت قليلًا ... ماذا كنا نقول؟ ) ترك الشوكة من يده ليشبك كفيه ببعضهما وأجابها
( كنت أقول ... أنه يمكنني مساعدتكِ في اختيار فستانًا ملائمًا للحفل )
أطرقت برأسها للحظات ثم نظرت إليه وقالت بهدوء
( لا أظنني سأستطيع الحضور .. هذا الحفل يخص عملك ولا أعتقد أن هناك داعٍ لوجودي ... كما أنني لا أشعر بالارتياح في هذه الحفلات )
لم ينفعل كما توقعت , بل مد يده لكفها الموضوعة على الطاولة ليلتقطها متلمسًا إياها بحميمية
( كيف لا يوجد داعٍ؟ .. ألستِ زوجتي المستقبلية؟ .. يجب أن تعتادي على مرافقتي في مثل تلك المناسبات )
كان يتحدث بنبرة ناعمة لم تؤثر بها .. سحبت كفها بهدوء وهي تكتم زفرة غاضبة من إصراره على لمسها ... بينما ظهر الضيق على وجه كريم .. سيطر الاستياء على ملامحه حين قال باستنكار
( ألا يحق لي أيضًا لمس يد خطيبتي !! )
كادت ترد ردًا لازعًا لتُذَكِره بشرطها بخصوص هذا الأمر بعينه , لكن قاطعها هتاف مائع بِاسمه جعلها تلتفت إلى صاحبة الصوت , وكانت فتاة بشعرٍ أحمر تقترب من طاولتهما .. قطبت صبا حاجبيها وهي ترى تلك الفتاة تندفع نحو كريم مباشرة كي تعانقه وتقبله من وجنتيه , هاتفة دون خجل أنها اشتاقت له ... أطبقت صبا أسنانها تقاوم رغبة مفترسة في جَر تلك المائعة مِن شعرها وضرب رأسها الكبير في رأس ذلك الأحمق الذي يجاريها في وقاحتها ...
بعد انصراف الفتاة عاود الجلوس بهدوء ملقيًا نظرة باردة ناحيتها ... لكنها قفزت واقفة وتمتمت بجفاء
( سأعود للمنزل .. لقد تأخرت بما فيه الكفاية )

************************************

جذبها مِن مرفقها عنوة كي يجبرها على التوقف وهدر صوته
( هل سأظل أركض خلفكِ كثيرًا !! )
نفضت ذراعها وتكلمت ببرود
( ولماذا أتيت خلفي من الأساس؟ .. كان بإمكانك الجلوس على طاولة صديقتك التي قبَّلتك أمامي بكل وقاحة بينما لم تحاول أنت منعها دون أي مراعاة لخطيبتك التي تجلس أمامك )
كتف ذراعيه وقال متهكمًا
( لن أعتبر هذه غيرة لأنني تأكدت أن هذا الشعور لا يصل إليكِ ... عمومًا هي لا تعرف أنكِ خطيبتي ... لقد عادت لتوها مِن السفر ولذلك تصرفَت بعفوية ما إن رأتني )
استفزها بروده فكزت على أسنانها بغيظ
( أنا لا يهمني كل هذا ... ما أريده هو أن تحترم وجودي في حياتك ... ولا تعتقد أن تحفظي معك بشأن التلامس سيعطيك الحق في فعل ما تشاء ... هذا العرض المخزي الذي حدث منذ قليل أثار اشمئزازي )
لمحت شرارات الغضب تتطاير من عينيه وفتح فمه يهم بالرد , إلا أنها لم تمنحه الفرصة فقد أشارت لأول سيارة أجرة ثم استقلتها واختفت من أمامه ليضرب هو سقف سيارته بغضب.

************************************

أسندت رأسها إلى زجاج السيارة وهي تشعر بأن تصرفاته المستفزة تستنزف طاقتها .. يومًا بعد يوم تكتشف صفة جديدة فيه , أو بالأصح عيبًا .. عيب جديد يجعلها بحاجة لإعادة التفكير بشأن استمرارية تلك العلاقة .. تحتاج للنظر إليها مِن زاوية أخرى جديدة بعيدًا عن كونه شخصًا مناسبًا للزواج .. فها هي الآن ترى جوانب أخرى لم يُظهرها مِن قبل حين حاول إبهارها بشتى الطرق ليرتبط بها ...
كانت تنظر للطريق بشرود .. وحين رفعت عينيها فجأة ناحية مرآة السائق أجفلت بارتباك ... كان ينظر ناحيتها بطريقة أثارت فيها بعض الرعب وقد اكتشفت فجأة أن الوقت تأخر جدًا ... فركت كفيها بتوتر وعادت تنظر إلى الطريق الخالي من المارة .. أجلت صوتها لتكسبه بعض الثقة ثم طلبت من السائق الشاب أن يتوقف على جانب الطريق ..
وما إن نزلت من السيارة بأمان حتى تنفست الصعداء وأسرعت في مشيتها ناحية منزلها الذي يبعد شارعين ...
لكن مع هدوء الليل استطاعت تمييز خطوات هادئة خلفها .. شحب وجهها وارتفعت خفقات برعب .. إلا أنها لم تُظهر ذلك وهي تكمل طريقها بخطوات واثقة ...
شعرت أن الخطوات خلفها تسرع قليلًا , ورغم قلقها استجلبت بعض الشجاعة لتلتفت خلفها وقد ظنت أنه ربما يكون كريم ..
إلا أن ضربات قلبها هدرت بعنف حين اكتشفت أن شابًا يسير على خلفها مباشرة , على بُعد خطواتٍ منها .. تعرفت عليه سريعًا وقد كان سائق سيارة الأجرة التي نزلت منها منذ قليل ...
شحبت ملامحها وعادت تحث الخطى نحو منزلها الذي ظهر عن بُعد ..
وما كادت تفعل حتى شهقت بعنف ما إن شعرت بقبضة خشنة تجذب مرفقها بعنف وترغمها على الالتفات .. كادت تصرخ به أن يبتعد , إلا أن صرختها احتبست في حلقها ما إن رفع كفه الآخر نحو وجهها وأشهر نصلًا حادًا أمام عينيها المتسعتين .. تجمدت نظراتها على ما في يده , ازدردت ريقها بذعرٍ وهي تنقل نظراتها بين يده وبين عينيه التي تبرق بشراسة .. تكلم الشاب يهددها دون أن يعلو صوته
( أعطِني كل ما لديكِ واخلعي هذا الذهب الذي ترتدينه .. أسرعي وإلا شوهت وجهكِ )
لكنها بدت كمن فقدت القدرة على النطق وقد تجمد كامل جسدها عاجزة عن الحركة إلا من ارتعاش شفتيها ... فصرخ الشاب بنفس الهمس ورغم ذلك انتفضت
( هيا !! )



انتهى الفصل

يُتبع ..


شهر'زاد. غير متواجد حالياً  
قديم 23-12-21, 11:39 PM   #43

شهر'زاد.

? العضوٌ??? » 492944
?  التسِجيلٌ » Sep 2021
? مشَارَ?اتْي » 100
?  نُقآطِيْ » شهر'زاد. is on a distinguished road
افتراضي

مساء الخير ❤️
قراءة ممتعة للجميع أتمنى الفصل يعجبوا ومنتظرة رأيكوا❤️


شهر'زاد. غير متواجد حالياً  
قديم 23-12-21, 11:46 PM   #44

سوسن شريف

? العضوٌ??? » 481029
?  التسِجيلٌ » Nov 2020
? مشَارَ?اتْي » 45
?  نُقآطِيْ » سوسن شريف is on a distinguished road
افتراضي

قفلة تحبس الانفاس
شهر'زاد. likes this.

سوسن شريف غير متواجد حالياً  
قديم 24-12-21, 12:29 AM   #45

شهر'زاد.

? العضوٌ??? » 492944
?  التسِجيلٌ » Sep 2021
? مشَارَ?اتْي » 100
?  نُقآطِيْ » شهر'زاد. is on a distinguished road
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة سوسن شريف مشاهدة المشاركة
قفلة تحبس الانفاس
بقالي ١٠ فصول مدلعاكوا بقفلات خفيفة 😂❤️
مرة من نفسي بقى 😈 😂


شهر'زاد. غير متواجد حالياً  
قديم 30-12-21, 11:35 PM   #46

شهر'زاد.

? العضوٌ??? » 492944
?  التسِجيلٌ » Sep 2021
? مشَارَ?اتْي » 100
?  نُقآطِيْ » شهر'زاد. is on a distinguished road
افتراضي على شرفات الحب

الفصل الثاني عشر


تقلب في سريره عدة مرات محاولًا استدعاء النوم دون فائدة , اعتدل نصف جالسًا والتقط بهاتفه ثم فتح أحد مواقع التواصل الاجتماعي يتابع بعض الأخبار بلا حماس ..
ظهرت أمامه بعض الحسابات المقترحة , لكن واحدًا بعينه هو ما لفت انتباهه .. توقفت أصابعه عن الحركة وهو ينظر لصورة صاحب الحساب ,أو بالأصح صاحبته .. كانت تضع صورة لها بوضع الالتقاط الذاتي وبجانبها أختيها .. تعرَّف على مريم بسهولة ليخمن أن الأخرى هي أختها الصغرى التي أخبرته زهرة عنها سابقًا وهي تثرثر كعادتها .. بنقرة سريعة وجد نفسه داخل حسابها , مر بعينيه سريعًا حيث وجد عدة صور لها أغلبها مع أختيها ووالدتها , وأخرى لها بمفردها .. تمهل أمام إحدى الصور التي تُظهر قامتها كاملة حيث تقف وخلفها سيارتها , تبتسم ابتسامة صافية وجدت صداها لديه وانعكست فوق ملامحه التي انبسطت وأصابعه تتابع التنقل من صورة لأخرى معظمها مع أختها الصغرى , يشاهد ابتسامتها التي لم يرها إلا نادرًا , فهي تختصه بوجهها العابس وطريقتها الجافة , فتح التعليقات على الصور ليجد بعض صديقاتها يهنئنونها على السيارة الجديدة , فاتسعت ابتسامته تدريجيًا حتى تحولت إلى ضحكة متسلية وهو يتذكر الحادث الأول لهما ...
استمر في تصفح حسابها والذي امتلأ أغلبه بالصور التي تجاورها فيها مَلك , أو أغاني تشاركها من حينٍ لآخر .. فتح أحد الروابط التي شاركتها منذ فترة طويلة .. بدأت موسيقى إحدى الأغنيات القديمة , فاستمع إليها وشردت نظراته في صورة لها تبتسم فيها بعذوبة وعينين زينتهما الظلال الفيروزية

سيّد الهوى قمري .. مُورق الجمال طري
دائم الوجد والغِوى .. سيّد الهوى قمري


داعبته نسماتٍ باردة فتنهد يستمع إلى الكلمات وقد ارتخت أعصابه لسماع الموسيقى الناعمة

وجهه الغضّ حين لاح .. عَصَف الليل بالحِلي
وبكت زهرة المِلاح .. مُذ رأت شعره الفتي
وأنا أغسل الندى .. عن ملاعب الشجرِ
أكتب الشوق موعدا .. في وريقة العمرِ

طالع الخصر بالهتاف .. وحكى صوته المدلّ
يا شراعًا على ضفاف .. من ضفاف السنا يطلّ
سامَح العمر واهتدى .. بعد طوله سفري
وشدا بلبل شدا .. بالجمال والذِكَرِ



لم ينتبه لمرور الدقائق إلا مع انتهاء آخر كلمات الأغنية , هز رأسه متفاجًا مما يفعله , كاد يغلق هاتفه إلا أن فضوله لم يسعفه , فأكمل تفحص باقي المنشورات واحدًا تلو الآخر , حتى تجمدت حركة إصبعه ما إن وصل لمنشور معين , صورة لها ترتدي فيها فستانًا لامعًا وبجانبها خطيبها .. ارتعشت عضلة في فكه وهو يستنتج أن الصورة من حفل خطبتهما .. ليرفع رأسه فجأة ينظر لانعكاسه في المرآة المقابلة , وكأنه أدرك للتو فداحة ما يفعله .. سحقًا ما الذي يفعله !! ... ما الذي يجعله يتفحص حسابًا يخص إمرأة لا تربطه بها أي صلة , بل والأدهى أنه يفتش في صورها بمنتهى التطفل , إمرأة ترتدي خاتم رجلٍ آخر في يدها .. ما الذي دهاه !!
سارع بإغلاق هاتفه وألقاه جانبًا بعنف , اعتدل يفرك وجهه بكلتا يديه ثم نهض من مكانه شاعرًا بالاختناق وتوجه إلى شرفته ينشد بعض الهواء ...
وقعت نظراته على شرفتها المظلمة ذات الستائر المغلقة على غير العادة , فأشاح بوجهه ليبعد عينيه للناحية الأخرى ...
لكن المشهد الذي لمحه عن بُعد جمده مكانه , لحظات واتسعت حدقتاه فور أن ترجم عقله ما يحدث .. فعلى مسافة قريبة نسبيًا كانت تقف على جانب منعزل مِن الشارع الفارغ , وأمامها
شابًا لم يتبين ملامحه , لكنه استطاع تمييز تلك المدية اللامعة والتي يرفعها مباشرة أمام وجهها !!
انتفض من مكانه وفي أقل من ثانيتين كان قد وصل لباب غرفته , فتحه بعنف وتابع جريه إلى الأسفل وقلبه يخفق برعب مِما رآه.

**********************

( هيا ... ! )
فزعت من صرخته رغم خفوت صوته , عاد وعيها إليها فجأة فأسرعت تومئ برأسها وقد استحوذ الذعر على ملامحها وهي ترفع يديها نحو للقلادة التي ترتديها تحاول خلعها بأنامل مرتجفة بينما تشعر بنبضات قلبها تكاد تتوقف ..
انتزعه اللص منها مباشرة وأشار بعينيه لخاتم خطبتها الذي سال له لعابه ما إن لمحه .. لم تفكر في المقاومة وهي تنفذ أمره وتحاول خلع خاتمها , لكنها فشلت بسبب صغر حجمه على إصبعها .. أصدرت صوتًا متألمًا ليسحب الشاب يدها بنفاد صبر وهو يحاول إخراج الخاتم بعنف غير مباليًا ببكائها المكتوم وقد بدأت تفقد ثباتها الزائف ... كانت أعصابها قد تفككت وصوت بكائها يعلو مع كل محاولة عنيفة منه لانتزاع الخاتم ... لفها دوار عنيف وكادت تسقط مكانها , حينها شعرت بشيء يجذبها للخلف , لتجد نفسها فجأة خلف حاجز بشري عريض .. اتسعت عيناها حين استوعبت أنه أمجد , كتمت شهقتها بيدها وهي تراه يوجه للشاب لكمة أسقطته أرضًا ثم انقض عليه ليوجه له عدة ضربات متتالية جعلت الشاب يتوسله كالأطفال أن يتركه .. نهض أمجد وجذبه من تلابيبه حتى أوقفه على قدميه ليتنزع القلادة من يده , في نفس اللحظة التي باغته فيها اللص بحركة غادرة ورفع سكينه القذر ناحيته ... كانت صبا تراقب الوضع ودموعها تنهمر دون توقف , لمحت النصل يوجه ناحية أمجد فصرخت برعب
( انتبه يا أمجد ! )
كانت استجابته سريعة ومال بجسده ليتفادى الضربة مما جعل الشاب يخطئ هدفه , لكن نصل السكين الحاد سقط على كف أمجد ... حينها شهقت صبا بهلع وهي ترى قطرات الدماء تتساقط من كفه بغزارة , فلم تتردد وهي تسرع راكضة إليه , فقرر اللص أن يلوذ بالفرار .. تحرك أمجد كي يلحق به إلا أنها جذبته تقول باكية
( يا إلهي أنتَ تنزف )
نظر لباطن كفه الذي شقه السكين بجرح قطعي لتخرج منه الدماء بشكل مرعب ...
بينما ازدادت شهقات صبا وصوت وبكاؤها يرتفع وهي تردد بهلع
( يا إلهي .. يا إلهي )
كتم تأوهًا متألمًا ثم طمأنها بقوله
( لا بأس إنه مجرد جرح بسيط )
رفعت عينيها الباكيتين نحوه وهي تقول من بين شهقاتها
( لا ليس بسيطًا , إنه .. إنه .. يحتاج إلى طبيب يا أمجد ... يجب أن نذهب للطبيب الآن )
قالت جملتها الأخيرة وهي تجذبه ليتحرك إلا أنه أمسكها لتلتفت إليه وهو يقول بحزم
( سأذهب أنا بمفردي , أما أنتِ فستدخلين حالًا إلى منزلكِ .. لقد تأخر الوقت )
هزت رأسها برفض وهتفت
( لا , سآتي مـ ... )
إلا أنه قاطعها بنبرة آمرة
( هيا يا صبا )
توقفت تنظر له بعجز دون أن تتحرك مِن مكانها , فهمس برفقٍ والألم يشتد في كفه النازف
( عودي لمنزلكِ يا صبا .. هيا )
طالعته بتردد فأومأ برأسه يحثها على الذهاب , ألقت نظرة متألمة لدماءه التي سالت أرضًا , وتحركت تنفذ طلبه ... سارت خطوتين وعادت تلتفت إليه مجددًا فنظر لها مستفهمًا حين بدأت تخلع شالًا خفيفًا كانت تضعه حول عنقها , اقتربت منه ليجدها ترفع يده وبدأت في لف الشال حول جرحه برفق .. أخفض بصره يتابع ما تفعله , ازدرد لعابه وهو ينظر لأصابعها الممسكة بكفه بينما يدها الأخرى تحكم وضع الشال حول جرحه دون أن تتوقف عن البكاء بصمت ... انتهت مما تفعله لترفع عينيها الدامعتين نحوه ثم قالت بصوت مختنق
( لا تخلعه حتى لا يتلوث الجرح )
أومأ برأسه دون كلام , ودون أن يكرر طلبه بالعودة وكأن ذلك بات يتعارض مع رغبته الحقيقية في بقائها ... لكنها تنهدت مستسلمة وسارت إلى منزلها بخطوات مترنحة حتى خشي أن تسقط مغشيًا عليها .. تابعها أمجد بعينيه إلى أن دخلت بيتها وتحرك هي الآخر قاصدًا سيارته
بينما يمسك بكفه الذي بدأ التنميل يصيبه تدريجيًا ..

********************

مساء اليوم التالي ...
قطعت غرفتها ذهابًا وإيابًا وقد بدأ القلق ينهش أعصابها ... لقد قضت ليلة أمس في رعب وهي تراقب الطريق من شرفة غرفتها في انتظار وصوله , وقتها تنفست الصعداء حين عاد أخيرًا بعد أكثر مِن ساعة ويده ملفوفة برباطٍ أبيض ...
لكنه دخل إلى منزله مباشرة فلم تتحرك من مكانها ووقفت تنتظره أن يفتح نافذته لتطمئن عليه , مرت أكثر من عشر دقائق دون أن يظهر فعادت إلى غرفتها تخمن أنه قد نام مِن التعب ...
لكن اختفاءه طوال اليوم أرعبها , وها هي الآن يشتعل خيالها وهي تتخيل أبشع ما جعله يدخل إلى منزله بصمتٍ دون أن يلتفت حتى ناحيتها ...
تحركت مجددًا تنظر للشرفة المقابلة ثم زفرت بإحباطٍ لمرأى الظلام يحيط بها .. نظرت نحو الساعة التي تشير إلى السابعة مساءً وتساءلت أين يمكن أن يكون .. لقد سألت مريم بطريقة غير مباشرة وتأكدت منها أنه لم يذهب اليوم إلى الشركة .. هل كان الجرح خطيرًا إلى هذا الحد؟! ... اتسعت عيناها وهتفت تحدث نفسها برعب
( هل أخطأت في تقدير عمق الجرح؟ ماذا لو كان السكين ملوثًا ! .. اللعنة سأفقد عقلي )
ثم أسرعت تبدل ملابسها البيتية واتجهت إلى خارج غرفتها وقد وصل رعبها إلى أقصاه.

*********************

( إلى أين يا غندورة؟ )
وقفت تعض شفتها السفلية بغيظ واستدارت إلى ملك التي وقفت متخصرة وفي يدها أحد كتبها الدراسية الذي تتجول به في المنزل كعادتها حين تقرر المذاكرة ... ردت صبا بقلة صبر
( لا شأن لكِ .. اهتمي بمذاكرتكِ أفضل )
ثم تحركت تفتح الباب إلا أن قول ملك الساخر أوقفها مجددًا
( أتمنى ألا تفهمي سؤالي على أنه تدخل في شئونكِ الخاصة , لكن هل ستخرجين هكذا؟! )
قطبت صبا حاجبيها بعدم فهم , فهزت ملك كتفيها ببراءة وأشارت بعينيها نحو قدميّ أختها ... نظرت صبا لقدميها لتنتبه أنها نسيت تبديل الخف البيتي وردي اللون .. فزفرت بضيق وهي تتحرك ناحية خزانة الأحذية وترتدي أول ما قابلها ... ثم تحركت لتخرج بسرعة وهي تتجاهل إصرار ملك على معرفة وجهتها ...
بينما وقفت الأخيرة متعجبة تضرب كفًا بكف
( هل فقدت أختي عقلها أم ماذا؟! )

***********************

عبرت الطريق الذي يفصل بين منزليهما ليفتح لها الحارس تلقائيًا وهو يحييها باحترام .. دخلت تتلفت حولها بينما تفكر في حجة مناسبة تبرر مجيئها الذي تسرعت فيه خاصة أن اليوم ليس موعدها مع ليان , انتبهت لغباء ما تفعله فقررت أن تعود لمنزلها وقبل أن تفعل لمحت زهرة التي ظهرت من بعيد تلوح لها بترحيب فابتسمت لها بارتباك ... جذبتها زهرة من ذراعها إلى الداخل هاتفة بحبور
( ما هذه المفاجأة الرائعة؟ )
تنحنحت صبا بحرج
( كنت أشعر ببعض الملل ثم خطر على بالي أن آتي للاطمئنان على ليان )
أدخلتها زهرة حجرة الضيوف وهي تقول بمودة
( ليان مع والدها بالخارج , إنها تقضي اليوم معه )
زاد ارتباك صبا أكثر وهتفت
( إذًا لا داعي لوجودي .. آراها في الغد )
ظهر الاعتراض على وجه زهرة وهي تقول بلهجة عاتبة
( وهل أسباب وجودكِ هنا تقتصر فقط على ليان .. ألسنا أصدقاء؟ )
ثم أكملت بطيبة
( أم أنكِ ما زلتِ غاضبة بسبب ما حدث مع ريهام؟ )
نفت صبا بابتسامة حقيقية
( أولًا نحن أصدقاء بالطبع .. ثانيًا لقد نسيت ما حدث والدليل أنني هنا الآن )
ابتهجت زهرة وهتفت
( إذًا اجلسي لنقضي بعض الوقت سويًا .. رحمة ستسعد جدًا بحضوركِ )
أسرعت صبا تهتف
( لن أستطيع فأنا .. )
بترت جملتها حين وجدت نفسها تتكلم مع هواء الغرفة , فقد رشقت زهرة إلى الخارج كي تنادي رحمة بالفعل .

***********************
مرت أكثر من ساعة انشغلت خلالها بالحديث المرح معهما , لكنها تابعت بعينيها باب الغرفة تترقب ظهوره وقد منعت نفسها من سؤال زهرة عنه خوفًا من أن ينكشف أمرها .. طمأنها مزاح زهرة ورحمة فهمست لنفسها ببعض الثقة أن كل شيء على ما يرام .. لو كان مكروهًا قد أصابه لَما وجدت الأجواء هادئة هكذا , أليس كذلك؟ .. أقنعت نفسها أن الأمر بسيط ولا يستدعي ذلك الرعب الذي عاشته فنهضت من مكانها استعدادًا للمغادرة ...
وما إن نجحت أخيرًا في التملص من إلحاحهما عليها للبقاء حتى تحركت لترحل وهي تلعن تسرعها الذي دفعها للمجيء إلى هنا ...
ودعتها زهرة وقبل أن تصل إلى البوابة الكبرى ألقت نظرة عفوية على يمينها , فتوقفت خطواتها وقد لمحته مِن بعيد , يقف في آخر الحديقة , ينظر ناحيتها بصمت ...
تحركت خطوة واحدة تنوي التوجه إليه , لكنها ثبتت مكانها وهي لا تعرف ما يجب حقًا أن تفعله ...
مِن مكانه التقط تصرفها العفوي فتقدم إليها بخطواتٍ هادئة دون أن يحيد بعينيه عنها ..
وقف على بُعد خطوة منها فأنزلت نظراتها لكفه الملفوفة بقطعة من الشاش الطبي , أطبقت شفتيها وعادت تنظر ناحيته بقلقٍ
( هل أنتَ بخير؟ )
رعشة خفيفة دغدغته ما إن نبست بسؤالها , ودون أن يظهر على ملامحه سوى الهدوء أجابها
( نعم .. إنه شيء بسيط )
تنفست الصعداء وتبخر عن ملامحها القلق , سألته باستنكار وقد تبدل صوتها إلى الحنق
( طالما أن الأمر مر بسلام , لماذا لم تهتم بطمأنتي .. كدت أجن وأنا أتخيل أسوأ ما قد أصابك كي تختفي هكذا بعد ما حدث )
تجاهل نبضة خبيثة أفلتت منه وقد استشف القلق المستتر خلف غضبها , برر لها عصبيتها فقد تعمد الاختفاء بعد ما حدث .. لقد لمحها بعد أن عاد من المشفى وهي تقف في شرفتها ومع ذلك لم يلتفت ناحيتها , حتى أنه كان يقف خلف ستائره المظلمة وهو يراها تنظر ناحية شرفته متوقعة أن يخرج إليها .. إلا أنه ببساطة لم يفعل ... ماذا كان سيخبرها؟ هل كان سيرد بتهذيب أن الأمر ليس خطيرًا ! هكذا ببساطة ! ..
بعد ساعة قضاها بالخارج لا يفكر سوى في شيء واحد , أنه قبل دقائق فقط مما حدث كان يتأمل صورتها على ألحان الموسيقى , وأنه حين أنقذها كان خوفه عليها يسبق شهامته , لو لم يكن كذلك لما تمنى أن يجذبها لأحضانه وقتها , ولذلك اختار تجنبها , أكيدًا بأنها لو بقيت لثوانٍ أخرى لكان فعلها في لحظة جنون , وكم يشعره ذلك بالدونية .. حتى سعادته الآن حين أحس بقلقها لا تحق له , في النهاية هي فتاة ساذجة في مأزق وليس عليه أن يكون دنيئًا إلى هذا الحد ...
أخفى انفعالاته بمهارة ورسم قناعًا جامدًا على وجهه وتكلم ببرود
( كان من الممكن أن نتفادى كل ما حدث لو أنكِ لم تعودي وحدكِ في ذلك الوقت المتأخر )
استفزها توبيخه فنسيت جرحه وطبيعتها النارية تتغلب عليها لترد بمكابرة
( لم يكن الوقت متأخرًا لهذه الدرجة , كما أنني أستطيع تدبر أموري في أي موقف سخيف يقابلني )
انتفضت مكانها ما إن ضرب أمجد بيده السليمة على جذع شجرة بجانبه وهتف فيها بغيظ
( هلا توقفتِ عن التظاهر بالشجاعة بالله عليكِ ! .. لقد كان هناك نصلًا حادًا يوجه نحوكِ وأنتِ تمنحين مقتنياتكِ لذلك المجرم بمنتهى التفاني .. والآن تملكين المكابرة كي تتشدقي بشجاعتكِ في مواجهة المواقف الصعبة ! .. فلتحمدي الله أنني وصلت في الوقت المناسب قبل أن يصيبكِ مكروه )
صمت يلهث بانفعال بينما رمشت صبا بعينيها وقد اخترق صراخه أذنها , وبدلًا من أن تغضب
أخفضت رأسها وهي تعلم أنه محق .. تكلمت بقنوط
( هذا ليس مجرمًا .. إنه سائق سيارة الأجرة الذي أوصلني )
جعد جبينه وحدق فيها بذهول بعد ردها الأحمق , ثم قال بتهكم
( وهل ينفي هذا كونه مجرمًا؟ لقد حاول قتلي )
اندفعت تهتف باقتناع
( لكنه أخطأ هدفه .. لقد شعر بالخوف وكانت تلك مجرد حيلة دفاعية كي يبعدك عنه .. هدفه كله كان السرقة وأنا أرجح أن تلك هي محاولته الأولى )
كاد حاجبيه يلتصقان بجبهته وقد أفحمته بمنطقها وهي تشرح تحليلها النفسي لشخصية المجرم بكل ذلك الهدوء حتى ظن أنها تهلوس ..
ضيق عينيه يتظاهر بالجدية وسألها
( وأين كانت تلك العقلية البوليسية وأنتِ تركبين سيارة أجرة في ذلك الوقت المتأخر مع شابٍ لا يبدو عليه الانضباط )
صمتت فلم تجد ردًا لسؤاله المنطقي سوى أنها لم تهتم وقتها بهيئة السابق , فقد أعماها غضبها مِن كريم ورغبتها في الابتعاد مِن أمامه بعد ذلك الموقف السخيف ...
تنهد أمجد وقد شعر أنه ضغط عليها أكثر من اللازم مما جعله يردف برفق هذه المرة
( المهم أن الأمر مر بسلام .. وأنا أعطيت مواصفات ذلك الشاب لشرطة المشفى وسيتولون الأمر )
وعلى ذكر سيرة المشفى انتبهت صبا لما جاءت من أجله فنظرت ليده مرة أخرى ثم تمتمت بذنب
( أنا حقاً آسفة .. لقد أُصبت بسببي )
لمسه اعتذارها رغمًا عنه وشعر أنها تحمل نفسها ذنب ما حدث .. فقال بهدوء
( لا بأس , إنها مجرد إصابة بسيطة )
لتهتف فجأة
( إذًا لماذا لم تذهب اليوم إلى عملك؟ )
خرج سؤالها تلقائيًا فأطبقت شفتيها تشتم لسانها المندفع .. أما أمجد فلم يستطع منع ابتسامته وقد فطن أنها اهتمت بمعرفة إن كان ذهب إلى الشركة أم لا .. أجابها ببساطة
( لم يكن هناك شيئًا هامًا يستدعي ذهابي )
ثم أخرج شيئًا من جيب بنطاله ومده ناحيتها بصمت .. نظرت صِبا لقلادتها التي تتدلى من بين أصابعه وكانت قد نسيت أمرها تمامًا في خضم ما حدث .. مدت يدها تأخذها منه فتلامست أيديهما للحظة كانت كافية لجعل قشعريرة لذيذة تسري بطول ذراعه ... بينما كانت هي غافلة عما يحدث له وهي تلتقط القلادة هامسة بخفوت
( شكرًا )
وبعفوية أزاحت شعرها على جانب واحد كي ترتدي القلادة وتحكم إغلاق القفل ...
ابتلع ريقه وعيناه تتابعان حركة أصابعها الرقيقة تعدل من وضع القلادة بينما خصلات شعرها تتطاير نحوه وكأنها تجاهد للوصول إليه ...
رفعت عينيها لتفاجأ بنظراته المحدقة بها فتخضبت وجنتيها بحمرة خفيفة , استدارت لتغادر بصمتٍ إلا أنه أوقفها بنداء خافت
( صِبا )
التفتت له مرة ثانية تسأله بعينيها عما يريد , ليتنحنح هو بتهذيب
( أعتذر فيبدو أنني أضعت الشال الذي أعطيتني إياه بالأمس )
قالت بتفهم
( لا عليك .. المهم أن الأمر مَر بسلام )
أومأ برأسه وتابع رحيلها , ثم وضع كفه فوق المضخة القوية داخل صدره وغمغم بخفوت
( نعم مَر بسلام , أتمنى ذلك )

*********************

تجلس في غرفة الاجتماعات وعيناها شاردتان , ترسم بقلمها خطوطًا بلا معنى , لا تصغي لكلمة مما تدور في الاجتماع بينما تتجاهل النظر تجاهه وهي تعلم أنه يتابعها بنظراته .. رفع صوته قليلًا وكأنه ينبهها بطريقة غير مباشرة
( سيكون السفر بعد أسبوعين , لذلك يجب أن تكون التصاميم التي كلفتكم بها جاهزة )
ثم أنهى حديثه ليبدأ الجميع في الانصراف عداها هي , ولم يبدو متعجبًا من بقاءها رغم تجنبها الواضح له منذ يومين .. جلس على كرسي مكتبه ببساطة فحسمت أمرها وتوجهت إليه بشجاعة , لترفع عينيها إليه لأول مرة منذ بدء الاجتماع لتقول بثبات
( سيد مروان , بالنسبة لأمر السفر فأنا أعتذر عنه .. لن يمكنني المشاركة )
تعجب وسألها بغير رضا
( وما هو السبب ! )
تبدلت نظرتها الحازمة لأخرى أكثر هشاشة , نظرة حملت معنى لم يفهمه وزادت من حيرته لتغير أسلوبها معه .. بينما شردت مريم فيما حدث منذ يومين ...
{ كانت تتجه نحو حمام الموظفات بالشركة , تتلفت حولها كل برهة كي تتأكد مما يوترها .. هل تتهامس باقي زميلاتها عليها ! .. منذ الصباح وهي تستشعر تغامزهن ونظراتهن الغير مفهومة .. أشاحت بوجهها تركز عينيها نحو وجهتها حتى وصلت إلى الحمام واختفت داخله ... بعد دقائق كانت على وشك الخروج من المرحاض إلا أنها سمعت ما جعل يدها تتوقف فوق المقبض وهي تتعرف على صوت إحدى موظفات الشركة تتحدث إلى زميلتها ..
بدأت إحداهما كلامها بنبرة خبيثة
( كيف تسير أموركِ مع السيد مروان؟ )
لترد الأخرى بغنج
( لقد قضينا ليلة رائعة سويًا بالأمس )
فقالت الأخرى بلؤم
( يبدو أن علاقتكما قد عادت أفضل من ذي قبل )
ضحكت الفتاة بميوعة
( وهل كنتِ تتوقعين غير ذلك ! .. مروان حبيبي لا يمكنه الاستغناء عني )
بينما تساءلت الأخرى
( إذًا ماذا بشأن شكوككِ حول تلك الفتاة الجديدة )
ردت بـاستهزاء
( هل تقصدين تلك الحمقاء التي تدعى مريم؟ .. لا تقلقي , لقد كانت مجرد محاولة فاشلة منه لاصطيادها .. تعلمين أن مروان يحب أن يقطف مِن كل الأشجار .. لكنه في النهاية يعود إليّ أنا .. وهذا هو المهم )
ضحكت رفيقتها بخبث
( كنت قد بدأت أشك أن مديرنا ذو العينين الزائغتين قد وقع في الحب .. لكن على ما يبدو أنه كان يجرب نوعًا جديدًا من الموظفات ليس إلا .. )
تشدقت الأخرى بثقة
( ومن قال أنه لا يحب ! .. مروان يحبني أنا .. صحيح أن عينيه أحيانًا تنظران بعيدًا .. لكنه في النهاية يعلم أنه لن يجد من تفهمه مثلي )
تشاركت كلتاهما الضحك بميوعة , بينما مريم تستمع لحوارهما القذر وقبضتها تشتد فوق مقبض الباب , عيناها قاسيتين رغم الدموع المتحجرة داخل مقلتيها ... كيف سمحت لذلك أن يحدث؟ .. لماذا سمحت له بالتباسط معها , كانت قد وضعت لنفسها حدودًا في التعامل مع الجميع منذ اليوم الأول لها هنا , لم تركز إلا على هدفها من العمل وبالفعل بدأت تتعافى من أملها الذي نُسف في مهده مِن أن يحبها سامر .. وقد رضيت ... يشهد الله أنها كانت قد تجاوزت الأمر .. أم أنها كانت تخدع نفسها ولذلك سمحت لمروان بالاقتراب ! .. تعلم أنها لم تتخذ تجاهه موقفًا حازمًا حين بدأ يقحم نفسه في يومها .. والآن هل يجب عليها أن تصطدم الآن بحقيقة نظرته لها ! , أنها لم تكن سوى فريسة حاول هو اصطيادها بخبث؟ وهي بكل سذاجة كادت تقع في فخه ! .. لكن ماذا كانت تتوقع ! لقد رأت بعينيها انفتاحه في التعامل مع الموظفات فلماذا تتفاجأ الآن ! .. الأمر واضح كما الشمس .. هي لم تكن سوى تحدي , مجرد نوع جديد من الفتيات أراد أن يجربه ... عند الخاطر الأخير عضت مريم شفتيها ببعض القهرة ثم أخدت نفسًا عميقًا تستجمع به قوتها , طرفت بعينيها تمنع نفسها من البكاء وفتحت باب المرحاض لتندفع إلى الخارج مباشرة بعد أن ألقت نظرة محتقرة على الفتاتين ... بينما تابعت غادة خروجها بملامح شامتة وغمزت للفتاة الأخرى بظفر }

عاد ذهنها للواقع حيث يقف أمامها متجهم الملامح في انتظار إجابتها , فتكلمت بثبات
( السبب أن لدي ظروفًا خاصة تجعل أمر السفر صعبًا .. يمكنني تنفيذ أي عملٍ آخر مِن مكاني هنا في الشركة )
لم يعجبه طريقتها الجامدة وأشعرته بالغضب ولم يفهم ما يحدث معها .. هو لا يذكر أنه فعل ما يضايقها , بل على العكس لقد تحسنت علاقتهما كثيرًا في الأيام الماضية وقد بدأت تتعامل معه ببعض اللطف .. فماذا حدث إذًا لكل هذا !
نهض من مكانه وتكلم برفق
( مريم , أنا حقًا لا .. )
لم يستطع أن يكمل جملته وقد قاطعته بحزم
( من فضلك سيد مروان .. لقد أخبرتك بقراري ولا أظن أن هناك ما يقال )
ثم تحركت خطوة تنوي المغادرة إلا أنه أوقفها بهتافٍ مشتدد
( انتظري مكانكِ )
تسمرت قدماها وشعرت أن ثباتها الزائف على وشك الانهيار إثر نبرته الغاضبة لأول مرة , استدارت إليه بصمت فأكمل بحزم
( أولًا أنا لم أنتهي من كلامي .. ثانيًا منذ متى ونحن نعمل حسب أهواء الموظفين؟! .. لقد كُلفتِ بعملٍ وعليكِ إنهائه على أكمل وجه .. خاصة وأنه لا يوجد ما يمنعكِ عن ذلك ... سوف تنتهي اختباراتكِ قبل موعد السفر , إذًا لا توجد مشكلة كما أرى )
كانت تستمع إلى صوته الحازم والبعيد كل البعد عن طبيعته المرحة اللينة .. لتبتسم لنفسها بسخرية من قدرته الرائعة على إتقان مظهر المدير الملتزم ... بينما تفحصها هو بتمعن بعد أن أنهى كلامه .. يعلم أن أسلوبه كان خشنًا لكنه لم يجد طريقه أخرى لإثناءها عن قرارها الأحمق ...
أخذ نفسًا عميقًا وهو ينوي تحسين الوضع إلا أنها فاجأته حين التزمت الهدوء وقررت إنهاء ذلك الحديث الذي يستنزفها
( معك حق سيد مروان , لا يجب أن يتعطل العمل لأي سبب .. سوف أنتهي من التصميمات التي تخص ذلك المشروع وأستعد للسفر .. هل هناك شيئًا آخر قبل أن أنصرف؟ )
نظر لها دون أن يرد وهو لا يعرف حقًا ما أصابها , بينما إعتبرت هي صمته إجابه بـ 'لا' لتعطيه ظهرها وتحث الخطى لتختفي من أمامه .. تابع مغادرتها بصمت وما إن اختفت عن ناظريه حتى ضرب بكفه فوق سطح مكتبه زافرًا بسخط.
**********************

خرج أمجد من مكتبه متوجهًا إلى خارج الشركة وهو ينظر في ساعة يده للمرة التي لا يذكر عددها اليوم , لكن ما المشكلة؟ هو فقط يخشى أن يتأخر على موعده .. بالتأكيد ليس لأنه ينتظر هذا الموعد منذ الأمس , لا لا هو فقط يخشى التأخر .. قطع حديثه مع نفسه عندما اصطدمت إحداهن به وهي تسير مسرعة غير منتبه لطريقها .. رفعت رأسها تتمتم بكلمات اعتذار مبهمة , عقد حاجبيه بتعجب
( ماذا بكِ مريم ! )
لفت انتباهه احمرار وجهها وعينيها الدامعتين فسألها بقلق
( هل هناك مشكلة؟ )
هزت رأسها نفيًا وهي تحاول تمالك أعصابها غير قادرة على الحديث ثم غمغمت بكلمات خافتة بدت كاعتذارٍ آخر لتتحرك من أمامه بخطوات مسرعة ..
راقبها بعينيه وهو يشعر بالحيرة , لكن حيرته لم تدم كثيرًا ما إن رأى مروان يهرول مسرعًا من نفس الاتجاه الذي أتت منه للتو ..
اعترض أمجد طريقه وسأله بجمود بينما نظراته تشع غضبًا
( ماذا يحدث هنا بالضبط؟ )
حاول مروان تخطيه وهو يقول باستعجال
( ليس الآن يا أمجد ، يجب أن .. )
قاطعه أمجد حين جذبه مِن ذراعه بعيدًا عن أعين الموظفين , وقف أمامه في ركن منعزل ليهتف مروان بحنق
( ماذا تريد يا أمجد؟ .. هل هذا وقته ! )
لمع الغضب في عينيّ أمجد أكثر وهو يقول دون مواربة
( ومتى يكون وقته إذًا ! .. عندما تأتي لنا بمصيبة !! .. ألا رادع لجنونك هذا؟! )
قطب مروان حاجبيه مستهجنًا
( عن أي مصيبة تتحدث ! .. أنت لا تفهم شيئًا دعني أذهب الآن؟ )
قال جملته الأخيرة وهو يحاول تخطيه , إلا أن أمجد لم يتزحزح من مكانه بل أمسك بساعده يمنعه مِن الحركة , قال من بين أسنانه
( تذهب إلى أين؟ .. يبدو أنكَ تريد أن تجلب لنا فضيحة في الشركة .. توقف عن ذلك الجنون
وأخبرني ماذا تريد من مريم بالضبط؟ .. سبق حذرتك بأن موظفات الشركة خط أحمر , وخاصة هذه ! )
زفر مروان وضرب الحائط بكفه ليفرغ غضبه , ثم هتف بانفعال
( يا أمجد أنت لا تفهم شيئًا .. لماذا تشعرني أنني سألتهمها .. الأمر كله سوء تفاهم وأنا أريد إصلاحه )
رد أمجد بتهكم
( الفتاة تخرج مِن مكتبك باكية وأنت تقول سوء تفاهم ! ماذا تظن نفسك فاعلًا ! .. ابتعد عن الفتاة يا مروان وابحث لك عن لعبة أخرى خارج حدود الشركة .. مريم ليست مِن هذه النوعية )
فتح فمه ينوي المجادلة لكنه تنهد وقال بإنهاك ,
( الأمر ليس كما تفهم صدقني .. هذه المرة مختلفة , أنا لا أتعامل مع مريم كما تظن أنت .. أنا فقط .. أشعر أنني .. )
لم يجد تتمة لشرح الأمر , قطع كلامه ومسح على وجهه بتعب .. بينما وقف أمجد يراقب ردود أفعاله بتفحص وهو يشعر بغرابة ما يحدث .. صديقه لا يبدو على طبيعته منذ مدة وقد لاحظ ذلك , لكنه انتظر أن يبادر هو بالحديث .. لكن بعد ما يراه الآن مِن ذلك الأحمق الذي يقف أمامه لا يستطيع ترتيب كلماته فيجب عليه أن يتحدث معه في أقرب فرصة ..
ربت على كتفه ليرفع له مروان عينين حائرتين فتكلم أمجد بتعقل
( يجب علينا أن نتحدث , لكن ليس الآن .. فلتستجمع نفسك أولًا ثم لنا جلسة طويلة حتى أفهم ما يحدث معك بالضبط )
أومأ مروان باستسلام وهو ينظر نحو مكتب مريم , انتبه لأمجد الذي تحرك ينوي المغادرة فاستوقفه متسائلًا
( إلى أين أنت ذاهب؟ )
لم يستدر وأجابه وهو يكمل طريقه
( لا شأن لك .. عد لمكتبك وانتبه لعملك يا سيادة المدير )
رفع مروان حاجبه بريبة
( أمجد لا يترك الشركة أبدًا في منتصف اليوم .. ما الذي يجري بالضبط ! )


انتهى الفصل

يُتبع ...


شهر'زاد. غير متواجد حالياً  
قديم 07-01-22, 12:40 AM   #47

شهر'زاد.

? العضوٌ??? » 492944
?  التسِجيلٌ » Sep 2021
? مشَارَ?اتْي » 100
?  نُقآطِيْ » شهر'زاد. is on a distinguished road
افتراضي على شرفات الحب

الفصل الثالث عشر

تأففت للمرة الثالثة في نفس الدقيقة وهي تنظر في ساعتها ثم تمتمت لنفسها بحنق
( لو أن هناك جائزة في قلة الذوق فهو يستحقها بجدارة .. يحدد موعدًا ويتأخر عنه وكأنني مضطرة لانتظاره !! )
هزت ساقها بعصبية وهي تعاود مراقبة الطريق, تتذكر اتصاله المفاجئ بها بالأمس ليخبرها بهدوء أنه سيصطحبها غدًا إلى مركز الشرطة لتدلي بشهادتها بعد أن تم القبض على ذلك المجرم الذي تعرض لها ... في البداية شعرت بالخوف من فكرة الذهاب مع رجل غريب وإلى مركز الشرطة !! .. لكنها لم تستطع الاعتراض وقد أخبرها بضرورة وجودها حتى يكتمل المحضر .. في النهاية رضخت لإصراره وهي تعترف لنفسها أنه تأذى بسببها, وأقل ما يمكنها المساهمة به هو المساعدة على أن ينال ذلك المجرم عقابه ..
لمحت سيارته تقترب أخيرًا .. بينما أوقف هو سيارته على مقربة منها, تحرك وعيناه مثبتتان عليها, استشف غضبها مِن وقفتها العصبية, اقترب منها وقبل أن يعتذر بتهذيب فوجئ بها تهتف بمنتهى قلة التهذيب
( لقد اخترعوا المواعيد حتى نلتزم بها, لا لكي نعطيها بلا هدف .. ما كل هذا التأخير؟ أنا لدي عمل لست متفرغة لـ ... )
انتفضت حين ضرب بكفه على سقف سيارتها بغضب وقد طفح به الكيل من لسانها السليط, ضغط أسنانه وتكلم بفحيح
( عشر دقائق .. عشر دقائق تأخرتهم لسببٍ خارج عن إرادتي .. عشر دقائق فقط لكنهم كانوا وقتًا كافيًا حتى يستجمع لسانكِ ذلك الكم الهائل مِن الكلمات المتلاحقة لتفجيرها في وجهي )
استقبلت إلى هتافه الغاضب بعينين متسعتين وهو لا يعطيها فرصة للاعتراض ..
بينما كان يتحدث بحنق وهو يضرب على سقف سيارتها ضربات متتابعة مما جعلها تصرخ بغضب
( توقف عما تفعله ستحطم السيارة ! )
استفزه صراخها أكثر ليعطي السيارة ضربة أخرى وهو يهتف بحنق
( قسمًا بالله أشعر بالإشفاق عليها وقد أوقعها حظها العاثر تحت رحمتكِ )
ضربت صبا الأرض بقدمها تستنكر سخريته المستمرة من قيادتها, فهتفت بتحذير
( احترم نفسك .. !! )
أخذ نفسًا عميقًا يهدئ به أعصابه التي تنجح هي في إتلافها كل مرة ثم تكلم بصرامة
( سأركب سيارتي الآن وأتحرك حتى لا نتأخر أكثر من ذلك ... هل ستلحقين بي أم ما زال هناك أبياتًا لم تقوليها مِن القصيدة التي أطربتِ بها أذني قبل قليل؟ )
نظرت له بغيظ وهي تتمنى أن تسدد له لكمة تشوه بها ملامحه الوسيمة المستفزة, إلا أنها تماسكت وهي ترد ببرود
( هيا بنا قبل أن أرتكب جناية )
ثم فتحت باب سيارتها فسمعت صوته المتهكم خلفها
( أرى أنكِ تتوجهين بالفعل لارتكاب الجناية, هل تنوين قيادة السيارة ! )
أجابته ساخرة
( لا, أنا فقط أفتح بابها حتى يدخلها بعض الهواء )
تحرك بدوره نحو سيارته بعد أن قال باستفزاز
( فكرة جيدة, أتمنى أن تعمل إستراتيجية الهواء بشكل يقلل مِن حدوث الكوارث الناتجة عن قيادتكِ الرائعة )
أغلقت باب سيارتها وأطبقت بعنف على المقود مغمغمة بتوعد
( سأكون سعيدة جدًا لو كانت الكارثة الجديدة هي تحطيم سيارتك )

***********************

بعد عدة دقائق وصل كلاهما إلى مركز الشرطة ليصطحبها أمجد إلى الداخل, شعرت ببعض التشنج وسط ذلك الإزدحام الهائل ... الكثير من الناس يتحركون بعشوائية, يتخللهم بعض الأشخاص الذين وُضِعت السلاسل الحديدية حول معاصمهم وقد بدا على وجوههم الخطورة .. كانت تسير بجانبه في رواقٍ طويل مزدحم, ابتعلت ريقها بتوتر حين ظهر أمامها أحد العساكر الذي يصطحب في يده شخصًا ضخمًا تنضح ملامحه بالشر, وما إن مر بجانبها حتى نظر لها بطريقة مرعبة جعلتها تشيح بوجهها الشاحب لاتجاهٍ آخر, انتبهت لشيء يحيطها من الجانب الآخر لتفاجأ بأمجد وقد مد ذراعه يفصل بينها
وبين المارة بطريقة دفاعية دون أن يلمسها ...
التفتت له باستفهام ليهز رأسه برزانة وقد بدا عليه أنه يطمئنها ! ..
هل شعر بتوترها؟ هل بدت كحمقاء حين
انكمشت على نفسها منذ أن دخلت إلى المركز؟ عقدت حاجبيها وأشعرها ذلك بالحنق, وبخت نفسها على إظهار خوفها بتلك الطريقة وأمامه هو, لكنها لم تستطع منع لمحة الدفء التي تسللت إليها ومنحتها شعورًا فطريًا بحاجتها للقليل من الأمان, لكن ليس عليها أن تكتسبه لأول مرة من شخص غريب وهي التي عودت نفسها على الاكتفاء .. وعلى قدر ما هدأت نفسها لهذا الإحساس الدافئ, على قدر ما شعرت بالحنق من نفسها وقد خذلها غرورها من التظاهر بالثبات ...
انقطعت أفكارها عندما توقف أمجد, توقفت بدورها تتابع حديثه مع أحد العساكر الذي غاب داخل الغرفة لعدة ثواني ثم خرج ليسمح لهما بالدخول ...
تبعته صبا إلى الداخل حيث وجدت الضابط الشاب ينهض من مكانه هاتفًا بحبور
( يا أهلًا يا أهلًا .. أمجد الراوي بنفسه هنا ... اشتقنا إليك يا رجل )
صافحه أمجد بمودة بينما تابعت صبا الموقف وقد لاحظت أن هناك معرفة سابقة بينهم ...
رحب بها الضابط الشاب ليجلس ثلاثتهم على أرائك مريحة في أحد أركان الغرفة ...
تحدث الضابط بهدوء موجهًا حديثه لصبا
( لقد أطلعني أمجد على كافة التفاصيل وطلب مني أن يتم الأمر بهدوء ... سيأتي ذلك الشاب الآن حتى تتعرفين على ملامحه ونبدأ نحن في إجراءاتنا )
ثم فتح ملفًا أمامه وبدأ يقرأ المعلومات التي تم جمعها عن ذلك الشاب
|| ولد في حي فقير لأسرة أشد فقرًا, تخلى عنه والده وسافر للزواج من سيدة غنية وتركه لأمه المريضة تتولى رعايته, توفيت المرأة بعدها بعدة أعوام تاركة ابنها لا يزال طفلًا ليتنقل في بيوت جيران الحي حتى أصبح شابًا بالغًا, فنبذه الكثيرون خوفًا على بناتهم, إلى أن تلقفته الشوارع لتعطيه دروسها القاسية, ورغم ذلك تعد تلك هي سابقته الأولى في السرقة ولا يوجد له أي تاريخ إجرامي ||
استمعت لما يقال بملامح جامدة لم تعكس تلك الغصة التي آلمت حلقها وقد صدق حدسها تجاه الفتى ..
أغلق الضابط الملف وتحدث ببساطة
( أوراقه كلها نظيفة, حتى سيارة الأجرة ليست مسروقة, يبدو أن ذلك الأحمق أراد تسديد قسطها الشهري فلم يجد سوى البلطجة )
أرفق قوله بضحكة ساخرة ثم تابع موجهًا حديثه لصبا
(عامة سينتهي الأمر بتعرفكِ عليه, لم ترصد كاميرات المراقبة ما حدث للأسف, ولذلك شهادتكِ هي الأهم )
لم تدرِ وقتها لمَ تسارعت دقاتها لمجرد أن الأمر يتوقف عليها, لقد تحول شعورها من النفور للقائها بذلك الذي أرعبها, إلى شعور معاكس تمامًا بالخوف من أذيته .. نظر أمجد ناحيتها وقد لاحظ تغير ملامحها بينما كانت تفرك كفيها وقد عاد إليها توترها ... اقترب منها هامسًا بلين
( لا داعي للخوف )
التفتت ناحيته لترى نفس النظرة التي رأتها في عينيه بالخارج, نظرة تحمل قدرًا كبيرًا من الطمأنينة, لم تشأ أن تعترف بذلك أمام نفسها بل قالت تتدعي الصلابة
( أنا لا أخاف )
زم شفتيه متنهدًا بغير رضا, غير غافلٍ عن وجهها الذي شحب قليلًا ما إن فُتح الباب ليظهر الجندي ومن خلفه شاب ينظر للأرض بانكسار ..
نهض أمجد من مكانه لينظر ناحية الشاب بتفحص بينما هتف الضابط بنبرة خشنة لا تماثل تهذيبه قبل دقائق
( ارفع رأسك )
كان يوجه الأمر للفتى مرفقًا بضربة عنيفة على ظهره, فتدخلت صبا بحزم
( من فضلك لا داعي للعنف )
رمقها الضابط بامتعاض قبل أن ينقل نظراته لأمجد متأففًا بملل من رهافة قلب النساء, تجاهلته صبا وتجاهلت إيماءة أمجد له أن يجاريها .. تقدمت بخطى ثابتة وهي تنظر لذلك الشاب بتمعن .. نظراته تختلف عن ذلك المجرم الذي هددها بتشويه وجهها إن لم ترضخ له, بل كما خمنت تمامًا بدا وكأن تلك كانت أولى محاولاته .. شحبت ملامح الشاب وامتلأت بتوسلٍ صامت قرأته في عينيه الدامعتين, دموع حقيقية تأكدت منها, ومَن غيرها سيعرف معنى الدموع الحقيقية ! دموع العجز والقهر .. ازدردت لعابها تبتلع معه غصتها ثم سألته بثبات
( كم عمرك؟ )
نظر لها أمجد بتعجب بينما أجابها الفتى بوجه شاحب وقد تأكد من أنها تعرفت عليه بسهولة
( عشرون عامًا )
أومأت برأسها وسألته مجددًا
( هل سبق وتقابلنا؟ )
استعرت نظرات الضابط وقد بدأ يفقد صبره فأشار لأمجد مستفهمًا, لكن الأخير كان يولي اهتمامه كاملًا لما يدور وقد راوده خاطر مزعج ...
في حين أجفل الفتى من سؤالها وتعرق جبينه وكأنه أدرك أنه يساق نحو الهاوية, لكن ثبات نظراتها إلى داخل عينيه لم يمنحه أي تهديد, فوجد نفسه يقول بثبات غريب
( لا أظن ذلك )
حين ابتسمت خرج من بين شفتيه زفيرًا مرتعشًا, طال صمتها ليحثها أمجد بحزم
( هيا يا صبا )
هزت كتفيها توجه جملتها للفتى ببساطة
( وأنا أيضًا لا أظن ذلك )
بعدها التفتت إلى زوج من الأعين يحدقان فيها بسخط, لم تكترث لأمجد الذي فرك وجهه بكفه يتوعدها سرًا, وتكلمت بثقة
( ليس هو )

***********************
ضرب على عجلة القيادة بعصبية دون أن يتوقف عن توبيخها بهياج
( أنا لا أصدق ما فعلتِه للتو, لماذا كذبتِ أمام الضابط .. أنا متأكد أنه هو .. لماذا فعلتِ ذلك؟! )
حافظت على هدوئها وهي تستمع إلى هتافه الغاضب بثبات وما إن صمت حتى تحدثت ببرود
( توقف عن ضرب يدك المجروحة بمقود السيارة .. سيتأذى الجرح )
التفتت إليها بفم فاغر غير مستوعب ملامحها الباردة وردها الأكثر برودًا, تمتم بذهول
( هل أنتِ معتوهة؟! )
لم تفقد برودها اللعين وهي تكتف ذراعيها متكلمة بهدوء
( احترم نفسك يا أمجد ولا تتعدى حدودك معي )
هل تخطط لقتله؟ صدقًا هل تنوي الانتقام منه عن طريق إصابته بسكتة قلبية !
هتف بحنق بينما يضرب المقود ولكن باليد السليمة هذه المرة وهو ينفذ طلبها المهذب دون أن ينتبه
( توقفي عن استفزازي يا صبا, خاصة الآن بعد هذا الموقف السخيف الذي وضعتني به أمام الرجل )
لوحت بكفها ممتعضة وقبل أن تنطق بمزيدٍ من الاستفزاز قاطعها بحدة
( ششش سؤال واضح وصريح و لا أريد سوى إجابة واضحة وصريحة .. لماذا كذبتِ أمام الضابط؟ ولا تقولي أنكِ لم تتعرفي على الفتى .. أنا واثق أنكِ عرفتيه منذ أن دخل إلى الغرفة )
اعتدلت في جلستها وواجهته بثقة
( ومن قال أنني لم أتعرف عليه؟ بل أنا أتذكر وجهه جيدًا )
تجهمت ملامحه دون أن يتكلم, فأكملت بجمود
( ولكن أخبرني أنت ماذا كنت تنتظر مني بعد ما عرفته؟ .. أن أتسبب في ضياع مستقبل شابٍ كل جريمته أنه وجد نفسه في هذه الدنيا بلا أب, تخلى عنه بنذالة ليواجه تلك الغابة وحيدًا باحثًا عن رزقه؟ هل كل ذنبه أنه وفي لحظة ضعف قرر أن يسلك الطريق الأسهل ويوقع نفسه في الخطأ ! )
كان يستمع إلى ردها الهادئ والذي خمنه من البداية, عارضها بصوتٍ مشتدد
( لكنه وضع قدميه على بداية الطريق .. أنتِ بذلك تتسببين في خروج مجرم إلى المجتمع يعتقد أن دموعه ستؤثر في كل ضحية يقابلها )
قابلت رده بابتسامة هازئة
( وماذا تعرف أنتَ عن الدموع؟ .. ذلك الذي بكى أمامنا لم يفعلها استعطافًا ولا طلبًا للرحمة, بل كان يرثي حاله وهو يعتقد أنها النهاية, ظن أنني سأشي به ليواجه مصيره في سجنٍ مظلم تمامًا كحياته, حياته التي دمرها أبوه حين تركه وحيدًا يعاني التشرد دون أدنى شفقة أو رحمة ... تتحدث عن الضحايا؟ ذلك الفتى هو نفسه الضحية يا أمجد .. لو كان وجد من يعطيه القليل من الحنان لما فعل ما فعله .. لو كان ذلك الحقير والده لم يتخلَ عنه لكان الآن شخصًا آخر, غير الذي بكى أمامنا كالأطفال بمنتهى الانكسار بينما ذلك الضابط يضربه بمنتهى القسوة ... هل عرفت الآن لماذا كذبت؟ ... والآن أخبرني ماذا تعرف أنتَ عن الدموع؟! )
كلماتها تنفذ إلى قلبه كالسهام المارقة, ونبرة صوتها المتحشرجة تجلده بلا رحمة بينما دموعها التي تحجرت في عينيها تكويه بنار الذنب وقد رأى الموضوع من ناحيته هو بمنتهى الأنانية ... إلا أن جملتها الأخيرة اخترقت قلبه كنصل حاد,
فأجاب سؤاله بخفوت لم تسمعه
( الكثير .. الكثير يا صبا )
أخذ نفسًا عميقًا يهدئ به ضربات قلبه الثائرة, مد يده ليلتقط منديلًا وقربه منها بصمت .. حدقت في المنديل دون فهم للحظات, ثم رفعت يدها تتحسس وجنتيها لتفاجأ بخطي الدموع اللذان انسابا دون أن تشعر .. عادت عيناها نحو أمجد لتجده ينظر لها دون تعبير, وإن كانت عيناه تفيض بما لا تصفه تعابير, وما بين مشاعر متضاربة لم تتبين ماهيتها قرب المنديل منها أكثر, يقول بخفوت ونبرة حانية
( لا بأس )
ارتعش جسدها من نبرته الغريبة على أذنيها .. فابتلعت ريقها و هي تمد يدها أخيرًا تلتقط المنديل, لكن يده ظلت متعلقة في الهواء ببعض التردد .. إلى أن أنزلها أخيرًا
وهو لا يزال ينظر إليها .. تابعها بعينيه وهي تجفف دموعها بثبات بات يدرك جيدًا قدرتها على إتقانه, لن ينكر أنها فجرت غضبه بفعلتها حين ظن أنها أشفقت على مجرد مجرم, لكن تفسيرها للأمر زاد حيرته, ليست هذه هي نفسها الشابة التي تبدو مدللة غير مبالية, لقد تحدته منذ دقائق بجبروت كي ترغمه على التنازل عن المحضر, وها هي الآن تبكي لأنها أوشكت على نيل حقها, فقط لمجرد أن علمت بظروف الفتى, منطقها غريب ككل ما يتعلق بها, ورغم أنه لم يقتنع بنظرتها العاطفية للأمر إلا أنه سايرها وتنازل عن حقه, لا يدري حتى الآن كيف طاوعها لكنه بالنهاية فعل !
هدأت أخيرًا وظلت مكانها تنظر أمامها بصمت, فسألها بنبرة محايدة
( أفضل الآن؟ )
أومأت وقالت دون أن تنظر ناحيته
( أعتذر عن وضعك في موقف كهذا, لقد فعلت ما رأيته صائبًا من وجهة نظري .. وكنت أتوقع منك أن تفعل المثل, ولذلك رجاءً, إن كنت تريد حقًا أن تتصرف بطريقة صحيحة, ساعِد ذلك الشاب ليجد عملًا محترمًا ويجني رزقه بالحلال .. صدقني لن تندم )
فتحت باب السيارة تنوي المغادرة لكنها عادت تلتفت إليه مرة أخرى وهمست بخفوت
( آسفة بشأن هذا )
نظر لقطعة الشاش الأبيض حول كفه حيث أشارت بعينيها, وحين رفع رأسه إليها مجددًا كانت قد غادرت ناحية سيارتها وتحركت مبتعدة عن ناظريه.

**************************

يجلس على كرسي مكتبه, يُرجع رأسه للخلف باسترخاء يستمد بعض الهدوء ليخرج من ضغط العمل, فتح عينيه حين أحس بملمس يد ناعمة تداعب شعره بحميمية, انتفض مِن مكانه بتحفز, وما إن فعل حتى ابتسمت له صاحبة اليد بإغواء أشعل فتيل غضبه, هتف بشراسة دون أن يعلو صوته
( دنيا ! ... كيف دخلتِ إلى هنا؟ )
اقتربت منه بخطواتٍ مدروسة, وقفت تلصق نفسها بصدره هامسة بميوعة
( دخلت من الباب يا حبيبي )
نفض يدها التي امتدت تتحس لحيته وأطبقت أصابعه على ذراعها بعنف أوجعها, وقال بنبرة مرعبة
( كيف تجرؤين على المجيء إلى هنا بعد ما فعلتِه؟ )
كاد ذراعها يُكسر في يده إلا أنها أخفت ألمها بمهارة وهي تجيبه بدلال
( أنا لم أفعل شيئًا .. بل أنت من فعل يا فارس, هل نسيت أم ماذا؟ )
أتبعت قولها الأخير بغمزة وقحة وقربت شفتيها من أذنيه لتهمس ببعض الكلمات التي اكفهر لها وجهه, ليرفع كفه ويهبط به على وجنتها في لطمة عنيفة كادت تفقدها الوعي, ثم أمسك خصلاتها يجذبها بعنف وهمس بفحيح شرس
( اخرسي يا حقيرة .. هل تعتقدين أن لعبتكِ القذرة قد نجحت؟ أفيقي لنفسكِ يا إمرأة .. أنا فارس شكري الراوي .. ليس على آخر الزمان ستأتي عاهرة مثلكِ لتنصب شباكها حولي معتقدة أنني سأسقط فيها كالأبله )
أرعبتها نبرته بحق, وخصلاتها بين أصابعه تكاد تصرخ متوسلة, ورغم ذلك ابتسمت كي تنال منه
( تلك العاهرة التي تتحدث عنها كانت تجلس بجانبك كل الليلة وتستمع إلى أحاديثك الحمقاء عن مشاكلك مع والدك وأخيك ... وأنت تتحدث
وتتحدث عن أي شيء وكل شيء )
دفعها باشمئزاز فعلمت أنها أصابت هدفًا, تابعت وقد اتسعت ابتسامتها المنتصرة
( أخبرني يا فارس الراوي .. هل ما زلت تغار من أخيك الأكبر؟ )
صفعة أخرى هبطت على وجنتها من كفه الحديدية بينما راقب هو خط الدم الرفيع الذي سال من جانب شفتيها, وشتم بقرف
( حقيرة )
رفعت دنيا رأسها تهتف بحرقة
( أستحق أن تفعل بي هذا وأكثر, فأنا مَن فعلت ذلك بنفسي وأنا ألهث خلفك كالحمقاء, أتمنى منك كلمة حب, نظرة حنون كالتي تظهر على وجهك كلمة ذكرت اسم زوجتك والتي يبدو وكأنك تتنفسها .. بينما بخلت أنت عليّ بكل هذا وأشعرتني بالدونية )
ثم تبدلت نظراتها لأخرى شرسة وتابعت بغِل واضح
( نعم يا فارس لقد نفذت خطتي في تلك الليلة واستغليت إسرافك في الشرب, وأنا التي وضعت أحمر الشفاه على قميصك .. كانت تلك هي فرصتي الوحيدة للحصول عليك )
كان يستمع إليها والنفور يحتل ملامحه .. يعرف كل ما تحكي عنه وقد اكتشف خطتها الحقيرة بعدها بفترة بسيطة, ذلك الفخ الذي وقع فيه حين اقتنصت فرصة غياب عقله في تلك الليلة التي قضاها في الملهى مع أصدقائه واستغلت هي ذلك ببراعة, وقد دفع ثمن غبائِه جيدًا بسبب تلك الحقيرة التي كادت تدمر علاقته بزوجته, أو ربما دمرتها فعلًا وهذا هو ما يحاول هو إصلاحه حاليًا .. ظل مكانه بملامح منقبضة مما شجعها للاقتراب منه والهمس بنعومة خادعة
( رغم أنني تمنيت أن أحصل عليكَ فعلًا وليس مجرد تمثيل )
مال جانب فكه بابتسامة قاسية
( في أحلامكِ .. لقد قلتِها بنفسكِ وانتهى الأمر
'أنا أحب زوجتي .. بل أتنفسها' )
لم تستطع أن تتمالك أعصابها أكثر وهي تسمعه يتحدث عنها بتلك الطريقة كما كان يفعل دومًا حتى وهو تحت تأثير الخمر .. فهتفت بنبرة حاقدة
( وأين كانت زوجتك وأنت تقضي لياليك تسكر حتى تفقد وعيك ! ها؟ .. أين كانت وأنت تحكي ذكرياتك المؤلمة التي استمعت أنا إليها بكل صبر وحب )
لم تهتز به شعره بل قال بسخرية
( لا تقلقي, كنت أبيت بأحضانها كل ليلة .. تلك السهرات كانت مجرد سلة ألقي فيها بكل تلك الذكريات التي تتحدثين عنها, ثم أعود إلى زوجتي وأودعها كل حبي الذي لم ولن يقل يومًا, لقد كانت دومًا موجودة حتى في غيابها )
تجلى الحقد في عينيها التي تحول لونهما إلى لون أسود قاتم حين أردفت بحزم
( رحمة دائمًا هنا )
كان يقول جملته وهو يشير بإصبعيه ناحية قلبه في حركة طعنت كبريائها وجعلتها تدرك أن آخر خيوط خِطتها قد انقطع, اندفعت ناحية باب مكتبه تفتحه بعنف, وتطاير الشرر من عينيها وهي ترى غريمتها أمامها .. أعطتها نظرة طويلة ثم أكملت طريقها إلى خارج الشركة ..
بينما تسمر فارس ما إن رآها أمامه وهتف بصدمة
( رحمة ! )

*************************

كانت تقف على باب مكتبه بثبات وملامح واثقة لم يتبين منها شيئًا, رمقت بطرف عينيها تلك التي تخطها مبتعدة عن المكان .. تقدمت لداخل المكتب وأغلقت الباب خلفها, وقفت أمامه بنفس الهدوء ودون أن تعقب على شيء, تحرك فارس خطوة واحدة ولم يجرؤ على الاقتراب أكثر, توقف مكانه يهمس بلهاث
( دعيني أوضح لكِ كل شيء .. إنها .. )
قاطعته دون أن تفقد هدوءها
( لا أحتاج لتوضيح, أنا أعرف كل شيء )
هز رأسه نفيًا بعنف
( لا يا رحمة أنتِ لا تعرفين شيئًا .. تلك الحقيرة .. )
قاطعته مرة أخرى بنفس الثقة
( تلك الحقيرة هي من اتصلت بي لآتي إلى هنا, كي تجعلني آراها بنفسي وهي تسرق زوجي مني )
اتسعت عيناه بصدمة وشتم بخفوت, بينما تابعت رحمة بجمود
( أتعلم كم كان الأمر قاتلًا وأنا أستمع لتفاصيل سهراتك في تلك الأماكن بصحبتها )
ابتلع طعمًا صدءًا في حلقه وهو يكاد يتوسلها أن تمحو ما حدث من ذاكرتها للأبد, لكن رباطة جأشها بدت غريبة وسط الموقف, فسألها بصوتٍ يرتجف
( هل صدقتِ كذبها؟ )
سألته بدورها
( لو أنك مكاني, ماذا كنت ستفعل يا فارس؟ )
أطبق جفنيه بقوة يستجمع شتات نفسه وقبل أن يتكلم تابعت هي
( لا تقلق, لقد كانت بالذكاء الكافي واستخدمت سلاحًا أشد فتكًا من الكذب, اختارت أن تطلعني على الساعات التي قضتها في الاستماع إليكَ, وكم أنك ارتحت لصحبتها وفضلت أن تمنحها شرف معرفة ما تخفيه عني )
ابتلع ريقه دون أن يجد القدرة على تبرير غباء تفكيره وقتها, بينما تابعت رحمة بفتور
( لست بذلك الغباء يا فارس, كنت أعلم أن سهراتك في تلك الأماكن المشبوهة لن تخلو من وجود أمثال هذه المرأة, لكنني تمسكت بثقتي بكَ حتى آخر رمق )
اندفع فارس ناحيتها يجذبها إليه وهتف بحرارة
( ليس مجددًا يا رحمة, لن نخوض في هذا الأمر بعد كل ما مررنا به, لو أنني فعلتها لكنتِ عرفت.. كنت أضمكِ لصدري كل ليلة, هل شعرتِ يومًا أن أخرى قد احتلت مكانكِ؟ )
رفعت كفيها تمسك ياقة قميصه وهمست بعنف
( لم أكن لأسامحك لو فعلتها يا فارس, حتى وإن كنت أحبك, كانت هذه هي آخر فرصة لك وقد أنقذت نفسك صدقني )
عقد حاجبيه من ذلك العنفوان الذي أطل من عينيها وذكره بها في مراهقتها, سألها ذاهلًا
( هل تراهنتِ معها ضدي ! )
همست بشراسة من بين أسنانها
( رهان كنت سأربحه في كل الأحوال, فلو أنني استشعرت ذرة ضعف من ناحيتك لكنت ... )
التهم تهديدها بين شفتيه في قبلة عميقة أفقدتهما الوعي لدقائق, إلى أن همس فارس دون أن يحرر ثغرها
( أحبكِ يا رحمة .. لا تتوقعي مني ضعفًا أمام إمرأة غيركِ .. حرري قلبي أولًا فلا مالكة له سواكِ )
انسابت من عينيها دمعة دافئة وهي ترتفع بجسدها كي تتعلق بعنقه, بينما تَلكم ظهره بقبضها وتهتف بتحشرج
( تبًا لكَ يا فارس .. لن أسامحك على تلك الأوقات التي منحتها لهذه المرأة )
عاد يقبلها بقوة أكبر هامسًا
( وأنا لن أسامح نفسي حتى تصفحي أنتِ يا رحيمة القلب .. عاقبيني كيفما شئتِ, لكن هنا .. بين ذراعيّ )
ذابت مع قبلاته وعناقه الدافئ الذي داوى بعضًا من ألمها إزاء ما فعلته تلك الأفعى .. لقد تمالكت نفسها بأعجوبة حتى لا تقتحم المكتب عليهما
وتقبله أمامها بعد ما قاله عنها أمام غريمتها .. لا تنكر أنه لم يبخل عنها يومًا بأي كلمة غزل, لكن ما سمعته منه اليوم يفوق كلمات الغزل بمراحل .. ماذا تريد المرأة في لحظة كهذه أكثر من أن تسمع زوجها يتحدث عنها بتلك الطريقة أمام إمرأة تعرض نفسها عليه؟ .. تلك الكلمات التي قالها نزلت عليها بردًا وسلامًا ومنحت السكينة لقلبها الذي كان ينتفض رعبًا مِن أن يخذل ثقتها به ... تعلقت به أكثر فهمس من بين أشواقه المجنونة
( أحبكِ يا رحمة .. يا إلهي أنا أحبكِ جدًا )
تبسمت شفتاها بحب وانسابت دمعة أخرى من عينيها, التقطها فارس بشفتيه برقة مهلكة بينما لا يزال يمسك بخصرها وكأنه يخشى أن تبتعد في أي لحظة ... أبعد وجهه بضع شعيرات ليسألها
بصوتٍ أجش
( ماذا سمعتِ بالضبط؟ )
أجابته بثقة إمرأة ثأرت لكبريائها للتو
( كل شيء مِن البداية, كل كلمة نطقتها كانت تدخل قلبي لتطفئ بعضًا من لهيب الغيرة وأنا أرى تلك القذرة تتقرب منك )
سألها بأنفاس لاهثة
( هل كنتِ تتوقعين غير ما فعلت؟ )
رفعت كفيها تتلمس لحيته برقة
( أنتَ لم تخذل حبي يومًا يا فارس ...
حتى بعد تلك الخطة الوقحة التي وقع كلانا ضحيتها, كان هناك صوتًا يتردد في قلبي أنكَ لا تخون, أن رحمة دائمًا هنا )
همست بجملتها الأخيرة وهي تضغط إصبعيها فوق قلبه كما فعل منذ قليل, ليكرر فارس خلفها بصدق حار
( رحمة دائمًا هنا )

**************************

تغمض عينيها دون أن تنام فعلًا بمنظر يبدو لمن يراه أنها تتمدد باسترخاء, بينما كانت هي أبعد ما تكون عن الاسترخاء وقد هرب النوم مِن عينيها ... منذ أن عادت من مركز الشرطة وهي في حالة نفسية سيئة, حتى أنها توجهت إلى المنزل فورًا ولم تكمل عملها .. من وقتها وهي تنكمش على نفسها في غرفتها وذكرياتها السيئة تطاردها بلا شفقة, ذكرى دموع لازمتها طويلًا وما إن بدأت تتخلص منها حتى عادت إليها اليوم بطريقة قاسية جعلت أعصابها تنفلت أمام أمجد ... تنهدت حين تذكرت نظراته وقتها, في البداية كادت تشعر بالغضب وقد ظنت أنها نظرات شفقة, لكنها سرعان ما أدركت معناها مما جعلها تشعر بالحيرة, ملامحه حملت ألمًا دفينًا جاهد لإخفائه إلا أنها لاحظته رغم ذلك ...
انقطعت أفكارها بنقراتٍ هادئة على باب غرفتها فسمحت للطارق بالدخول, خطت والدتها داخل الغرفة لتعتدل صِبا بدهشة
( أمي ! .. ظننتكِ نائمة, هل حدث شيء؟ )
جلست جيهان بجانبها وقالت وهي تربت عليها برفق
( لا تقلقي لم يحدث شيء .. أرددت فقط أن أتحدث معكِ قليلًا )
هزت صِبا رأسها باستفهام لتردف والدتها
( ماذا يحدث معكِ هذه الأيام؟ أنا أُلاحظ تغير أحوالكِ )
هربت صبا بعينيها عن نظرات والدتها الثاقبة وغمغمت
( أي تغير ! )
أجابتها والدتها بهدوء
( زادت عصبيتكِ .. بالإضافة إلى انكماشكِ أغلب الوقت في غرفتكِ, حتى اليوم عدتِ من عملكِ باكرًا ولم تغادري حجرتكِ من وقتها )
تنهدت صِبا وقالت تطمئنها
( كنت فقط أشعر ببعض الإرهاق .. لا تقلقي يا حبيبتي )
تكلمت والدتها دون مواربة
( وماذا عن كريم؟ )
تغيرت ملامحها بحنق ونفور لم تغفل عنه والدتها, تكلمت صبا بتقرير
( لقد تحدث معكِ, أليس كذلك ! )
أومأت والدتها بإيجابٍ فأردفت صبا بنبرة بانفعال
( هذا هو كريم .. عندما يفشل في الحصول على ما يريد بالطريقة المباشرة, فإنه يلجأ إلى الطرق الملتوية حتى لا يعترف بخطئه )
ردت والدتها بتعقل تحاول فَهم سبب الخلاف
( أنا ألاحظ توتر علاقتكما منذ فترة, ولم أحاول التدخل لأنني أعلم كم أنتِ متعقلة وستنجحين في التوصل للقرار الصحيح )
اختفى الغضب عن وجه صبا فجأة, وهمست بضعف والعجز يحتل ملامحها
( ماذا لو أنني أشعر بالضياع هذه المرة؟ ماذا لو أنني أحتاج حقًا لمن يساندني في معرفة القرار الصحيح ! )
سحبتها والدتها لأحضانها تعانقها برفق دون أن تتكلم, فقد شعرت أن ابنتها تتحمل شيئًا فوق طاقتها .. بينما أجهشت صِبا في بكاءٍ صامت وهي تضم جسدها بين أحضان والدتها .. كم كانت تحتاج هذا العناق .. متى كانت آخر مرة عانقها أحدهم ! .. منذ فترة طويلة, حين نصبت نفسها مسؤولة عن عائلتها الصغيرة بما فيهم والدتها .. لكنها الآن تشعر باحتياجٍ عاطفي شديد لتبتعد عن تلك الواجهة الصلبة التي تحيط بها نفسها ..
كانت والدتها تملس شعرها بحنان وهي تتلو بعض الآيات القرآنية, هدأت صِبا بعد عدة دقائق قضتها في بكاء لم تحاول والدتها قطعه وتركتها تفرغ ما في قلبها .. حين سكن نشيجها رفعت رأسها لتنظر لوالدتها بامتنان, همست بحبٍ وهي تجفف دموعها
( هل تعلمين كم أحبكِ؟ )
دمعت عينا جيهان فأمسكت صبا يدها لتقبلها بحنان
( اليوم داهمني موقف مؤلم, وقتها شعرت بطاقة كبيرة من الامتنان لكِ .. لطالما كنتِ بنظري أعظم أم في الدنيا )
بصدق بالغ كانت تهمس بكلماتها, تشكر ربها على هذه النعمة التي عوضها بها عن قسوة أبيها, والدتها ورغم هشاشة شخصيتها إلا أنا منحتها الدعم والحنان منذ نعومة أظافرها .. أما جيهان فبرغم تلك المشاعر العميقة التي بثتها صبا إلا أنها لم تستطع منع شعورًا حارقًا بالذنب يتسلل إليها, ترجمت شعورها بتردد
( كنت أظن أنكِ ستشعرين بالنقمة عليّ لأنني ضغطت عليكِ قليلًا لتوافقي على خطبتكِ من كريم )
هتفت صبا بدهشة
( أمي ! .. أنا وافقت على تلك الخطبة بكامل إرادتي, ويجب أن تكوني واثقة أنني قادرة على مواجهة قراراتي وتحمُل نتائجها أيًا كانت )
ربتت جيهان على كتفها وقالت بحزم
( ويجب أيضًا أن تكوني متأكدة أنني أدعمك في أي قرار ستتخذينه مستقبلًا بشأن تلك الخطبة .. هل تريدين إنهاء الأمر؟ )
بماذا ترد؟ هل فكرت في هذا السؤال مِن قبل؟ .. الحقيقة أنها ورغم كثرة خلافاتها مع كريم في الفترة السابقة إلا أنها لم تفكر جديًا في الانفصال عنه, ربما فكرت في تأجيل أمر الزواج لكن أن تنهي الأمر كليًا؟ ... لا يمكنها أن تنكر أنه ورغم تسلطه عليها في الفترة الأخيرة لكنه لا يزال فرصة مناسبة لها ... ألم يكن هذا سبب موافقتها على تلك الخطبة من الأساس؟ أنها كانت تبحث عن فرصة للخروج مِن حياتها السابقة وقد وجدت ذلك في كريم ...
طال صمتها وهي تفكر في الأمر فأردفت والدتها حين لمحت ترددها
( عمومًا لا يزال الأمر بسيطًا ويمكنكِ إنهاؤه, لكن لو طلبتِ نصيحتي فأنا أرى ألا تتعجلي
وامنحي كريم فرصة أخرى )
أومأت صبا بلا اكتراث وكأنها توقعت ما قيل, لقد أتقن كريم إقناع الجميع بكونه الشخص الافضل, وها هو لم يفشل في التأثير على موقف والدتها.

***********************

مرت قرابة الساعة وهي لا تزال تحاول النوم دون جدوى .. نظرت لستائر الغرفة التي تتمايل بفعل نسمات الهواء, فنهضت قاصدة شرفتها, وقفت تطلع لسماء الليل بذهن مشتت, تفكر بتمعن في ذلك الأمر الذي يؤرقها, مدت أصابعها تتلاعب بقلادتها بشرود ليقتحم ذهنها ما حدث في تلك الليلة, حين كانت القلادة ملطخة بدماء أمجد ... وبعفوية تحركت نظراتها ناحية نافذته حيث أضواء الغرفة المضاءة على غير العادة مما جعلها تتعجب من عدم نومه حتى الآن, ورغمًا عنها شعرت برغبة غريبة في رؤيته الآن, أدامت النظر أكثر تجاه نافذته, تنتظر أن تُفتح في أي لحظة.
*************************

وبغرفته كان أمجد يجلس على الأريكة, يمسك في يده شيئًا يتلمسه بأصابعه, عيناه شاردتان في أمواجٍ زرقاء رأى اليوم فيهما بريقًا مختلفًا للدموع, دموع تتحدث عن دموعٍ أخرى بمنتهى الحزن ... وبين أمواجٍ هائجة ودموعٍ حزينة يتشتت هو بما يشبه الغرق, شاعرًا بقدميه تُسحب أكثر رغمًا عنه .. أو ربما بإرادته !!! ..
سرت قشعريرة لذيذة في جسده وهو يسترجع إحساسه بها اليوم وهي تسير بجانبه بينما يحيطها ليمنع احتكاك المارة بها ... شعور تلقائي بالرغبة في حمايتها حين استشف توترها الذي خف ما إن طمأنها بعينيه .. كم بدت وقتها هشة, وجذابة بشكل معذب لأي رجل في مكانه .. وعلى الرغم من سلاطة لسانها معه وتظاهرها أمامه بالصلابة, كان يعلم في قرارة نفسه أنها كانت غارقة في توترها, كما يعترف أخيرًا أن برغم ما حدث بينهما من مشاحنات منذ بداية لقاءهما حتى نهايته إلا أنه استمتع بصحبتها, ليكتشف لأول مرة أن سلاطة اللسان تُعطي مذاقًا فريدًا بالاستمتاع .. خاصة لو كانت مع إمرأة كصبا .. وقعت نظراته على نفسه في المرآة فأدهشته تلك الابتسامة التي تملأ وجهه, كما اندهش من أفكاره التي سحبته بعيدًا دون أن يشعر ...
ترك ما في يده واستقام يهرب من أمام انعكاسه, سار نحو شرفته طالبًا بعض الهواء البارد عله يهدئ من حرارة جسده التي ارتفعت فجأة .. وإن ظن أنه سيحصل على مبتغاه فقد أخطأ, خاصة بعدما ارتفعت حرارة جسمه أكثر ما إن رآها أمامه بكامل هيئتها التي تجمع بين الرقة والعنفوان في مزيج مختلف يُميزها وحدها ..
كانت تقف مستندة على سور شرفتها وهي ترتدي منامة بيضاء أحاطت جسدها بطريقة جذابة, بينما تركت خصلات شعرها تتنفس متأرجحة في الهواء .. ابتلع ريقه يحاول تذكر الطريقة الصحيحة للتنفس خاصة وأن عينيها كانت مصوبة ناحية شرفته ... فكرة خبيثة سيطرت عليه وهو يتخيل أنها كانت تنتظر خروجه, سرعان ما هز رأسه ينفض تلك الأفكار عنها ... أما هي فتيبست قدماها حين ظهر أمامها, فكرت في الهرب لداخل غرفتها الآمنة, لكنها لم تستطع التحرك وهي تراه ينظر ناحيتها مباشرة وكأنه ينتظر منها شيئًا لا تعرفه ...
وبحركة غبية وجدت نفسها ترفع كفها في الهواء وتحركه يمينًا ويسارًا ببطء في حركة ترحيب بلهاء شتمت نفسها عليها وأنزلت كفها بسرعة ...
فيما ابتسم أمجد لحركتها البسيطة إلا أنه لم يبادلها الترحيب, بل أخرج هاتفه ووضعه على أذنه بعد أن طلب رقمًا ما ...
سمعت صبا رنين هاتفها مِن داخل الغرفة فنظرت خلفها ثم عادت بعينيها لأمجد فأومأ لها برأسه بهدوء, استدارت صبا لداخل غرفتها, التقطت وفتحت الخط دون أن ترد, ثم عادت إلى الشرفة, ووقف كلاهما يضع الهاتف على أذنه دون حديث ...
مرت دقيقة كاملة مِن الصمت والتواصل البصري بينهما مستمر وكلاهما يستمع إلى تنفس الآخر عبر سماعة الهاتف ...
وبكل فظاظة العالم قطعت صبا ذلك التواصل
حين فتحت فمها لتقول بتبلد
( ماذا تريد؟ )
تنهد أمجد وهو يرفع رأسه للسماء بيأس طالبًا يطلب بعض الصبر ثم قال وهو يعود بأنظاره ناحيتها
( لا أريد شيئًا .. ظننت أنكِ تريدين التحدث )
هزت كتفيها لتقول بفظاظة
( ظنًا ليس في محله .. )
زفر أمجد وهتف بحنق
( حسنًا سأغلق الخط )
وقبل أن يفعل نادته بسرعة
( انتظر )
أعاد الهاتف على أذنه ينتظر ما ستقوله, في حين سألته بردد
( هل التئم جرح يدك؟ )
رغم شعور لذيذ تسلل إليه بعد سؤالها البسيط إلا أنه رد برزانة
( سيحتاج بعض الوقت حتى يلتئم بشكل كامل )
عضت باطن وجنتها وهمست بنبرة بذنب
( أأنتَ ناقم عليّ بسبب ما فعلته اليوم؟ )
ناكفها بسؤال آخر
( هل تشعرين بالندم على ما فعلتِه؟ )
هتفت بثقة
( بالطبع لا )
حرك كتفيه ببرود
( إذًا لماذا تهتمين إن كنت ناقمًا أم لا؟ )
زفرت بارتجاف من ضغطه على أعصابها, أطرقت برأسها تجيبه
( لأنني تسببت بطريقة غير مباشرة في ضياع حقك بعد إطلاق سراح الفنى رغم أنه آذاك )
همهم أمجد ثم قال ببساطة
( بل فعلتِ ذلك بطريقة مباشرة )
اتسعت عيناها من رده الذي رأته وقحًا, هتفت بصدمة
( هل تُحملني ذنب ما حدث ! )
وبنفس البساطة أجابها
( أنا فقط أصحح لكِ المعلومة )
وقفت متخصرة تهز ساقها بعصبية وغمغمت
( إذًا أنت تحملني ذنب ما حدث لـ يدك )
ظهرت الجدية على صوته وهو يقول بصدق
( بالطبع لا, أيًا كانت عواقب الموقف فأنا تصرفت كما كان ينبغي عليّ أن أفعل وقتها )
ثم أردف بحزم
( وتذكري أنني استجبت لجنونكِ في مركز الشرطة لكنني لست مقتنعًا حتى الآن )
زمت شفتيها تقول بفتور
( حسنًا سأتذكر )
زفر بصوتٍ عالٍ فانفعلت هاتفة
( ماذا؟! )
تكلم من بين أسنانه
( لا شيء, المهم أن تتعلمي من خطئكِ ولا تعودي وحدكِ مجددًا في وقت متأخر كهذا )
تذكرت الموقف الذي دفعها لذلك فعاد التخبط يطرق رأسها, أومأت له بطاعة جعلته يرفع حاجبيه بدهشة ..
ناوشتها نسمات باردة جعلت خصلات شعرها تتطاير حولها بعشوائية, فتنهد أمجد وهو يحاول استيعاب جاذبيتها المدمرة للإعصاب, ثم قال بهدوء
( تصبحين على خير )
أغلقت معه الاتصال لتعود إلى غرفتها, وتركته هو واقفًا مكانه يتأمل المكان الذي شغلته منذ لحظات, يسترجع صوت أنفاسها الهادئة في أذنه ...
دخل هو الآخر إلى غرفته ثم مد يده ليمسك بذلك الشي الذي كان يمسكه منذ دقائق ورفعه لأنفه يتشم رائحته التي منحته إحساسًا فريدًا بالاسترخاء ...
تمدد فوق سريره وقد بدأت جفونه ترتخي بنعاسٍ ولا يزال يمسك ذلك الشيء في يده, والذي لم يكن سوى قطعة قماش ملونة أحاطت يده المجروحة في تلك الليلة وقد لفتها هي بأصابعها الرقيقة حول كفه, شالها الناعم الذي يحمل رائحتها الدافئة والذي يحتضنه هو الآن بينما يغط في نوم عميق.

انتهى الفصل
يُتبع ..

فصل طويل ومُرهق يهمني أعرف رأيكوا فيه..
هنتوقف هنا شوية وبعتذر عن التنزيل الأسبوع القادم.. الوقت ضيق جدًا بسبب ظروف الامتحانات..
لنا عودة قريبًا بإذن الله، ادعولي ♥️


شهر'زاد. غير متواجد حالياً  
قديم 28-01-22, 12:56 AM   #48

شهر'زاد.

? العضوٌ??? » 492944
?  التسِجيلٌ » Sep 2021
? مشَارَ?اتْي » 100
?  نُقآطِيْ » شهر'زاد. is on a distinguished road
افتراضي على شرفات الحب

الفصل الرابع عشر

في اليوم التالي..
فتحت باب المنزل وهي تحك جبهتها بإرهاق بعد يومها الطويل بالعمل، تُحدث نفسها بأنها تحتاج إلى حمامٍ ساخن تريح به أعصابها، لكن آمالها تبخرت في الهواء حين أبصرت ذلك الجالس في حجرة الضيوف.. توقفت خطواتها لثانيتين قبل تجبر قدميها على التقدم، دخلت الغرفة بملامح واجمة
( كريم )
نهض من مكانه يستقبلها بابتسامة جذابة لم تؤثر بها، احتفظت ملامحها بجمودها رغم محاولتها في إظهار بعض اللياقة.. لم تره منذ تلك الليلة المشؤومة، حين تركها تعود بمفردها إلى المنزل دون حتى أن يكلف نفسه عناء الاطمئنان على وصولها.. شعرت بالحنق ناحيته فجأة وهي تتذكر الرعب الذي عاشته وما كان من الممكن أن يحدث لها ليلتها..
وصلها صوت والدتها تقول بهدوء
( لقد أتى كريم كي يتحدث معكِ يا صبا )
حركت نظراتها تجاه المرأة التي نهضت مِن مكانها واقتربت تربت على كتفها بحنان
( اجلسي مع خطيبكِ يا حبيبتي وأنا سأحضر لك مشروبًا فأنتِ تبدين مرهقة )
أومأت صبا على مضض ثم تحركت لتتخطاه إلى أحد الكراسي وتجلس عليه بهدوء.. بينما أوشكت مريم وملك اللتان كانتا تتابعان الموقف بصمتٍ على التحرك لتركهما بمفردهما، إلا أن صبا هتفت بعناد
( انتظرا )
ثم أمرتهما بعينيها ألا تتحركا، متجاهلة شرارات الغضب المتطايرة من كريم ناحيتها، جلس بالقرب منها فرفعت رأسها وقالت بحدة
( خير يا كريم.. ما هي حجتك الجديدة هذه المرة؟ أعلم أنكَ قد أعدت ما ستقوله جيدًا، فأنت بارع جدًا في تلك الأمور )
ألقى نظرة ناحية أختيها كي يحذرها بعينيه من التمادي، لكنها تمسكت بموقفها، كتفت ذراعيها وعلامات التمرد تتراقص على وجهها.. زفر كريم بحنق قبل أن يحاول تخطي الأمر بهدوء
( أنا أُقدِّر سبب غضبكُ.. وأعلم أنني تماديت قليلًا ليلتها، لكن هذا لا يمنع أنكِ أيضًا أخطئتِ ! )
ارتسمت علامات الذهول على وجهها وهتفت بعدم استيعاب
( هل جئت اليوم لتتهمني بأنني مخطئة !! )
رد بعصبية
( وهل يصح أن تتركي المطعم بتلك الطريقة وتجعليني أركض خلفكِ ! لقد لفتِ أنظار الجميع )
هزت رأسها بنفس الذهول
( مجددًا ! لا تهتم سوى بالواجهة الأنيقة.. ولأذهب أنا للجحيم !! )
صرخت بجملتها الأخيرة فتوترت الجلسة، بينما تابعت صبا وقد فقدت هدوئها
( ماذا كنت تنتظر مني بعد ما حدث أمام عيني.. هل كان عليّ أن أصفق لكَ وأنا أرى تلك الوقحة تقبلك أمامي وتتقرب منك بتلك الطريقة التي أقل ما يقال عنها أنها مبتذلة ! )
لم يستطع الرد عليها أمام سيل كلماتها الغاضب، ولم تنتظر منه ردًا فقد تابعت
( أنت حتى لم تكلف نفسك عناء الاطمئنان عليّ بعد أن رحلت بمفردي في ذلك الوقت المتأخر )
تدخلت مريم كي تهدئ الوضع
( طالما أن الأمر قد مَر بسلام فلا داعٍ لكل هذه المشاكل يا صبا.. لا تسمحي لتلك الفتاة أن تتسبب في مشكلة بينكما، أنتِ تفهمين تلك الأمور )
نظرت لها صِبا بصمت وهي تحاول تمالك أعصابها كي لا تصرخ أمامهم جميعًا بأن الأمر لم يمر بسلام في تلك الليلة، لكنها صمتت والتفتت لكريم الذي استرسل في حديثه وتبريراته لإصلاح الأمر، استمعت لما يقوله دون حماس، لم تهتم حقًا بمبرراته الفارغة، فقد بدأت تشعر أن تلك القشرة اللامعة التي كانت تزينه بدأت في التصدع.. شيء ما بداخلها يخبرها أن علاقتها بكريم تتجه نحو الهاوية، وأن الأمر بات مسألة وقت حتى تحسم الأمر نهائيًا، أو بمعنى أصح يحسمه هو بقطع آخر خيوطه معها...
أنهى حديثه الذي لم تهتم بسماع حرفًا منه، نهض من مكانه واتجه إلى لفافة ضخمة كانت موضوعة بعيدًا، تناولها وعاد إلى صبا التي طالعتها دون حماس وكأنها متيقنة مما بداخلها، فتحها كريم فبرزت لمعة ساحرة لفستانٍ أسود..
ابتسم لها وهمس بتملق
( والآن هل ستعفو عني أميرتي وتوافق على مرافقتي إلى الحفل؟ )
التوت شفتيها ببسمة ساخرة، حدثت نفسها بأنها لم تكن تتوقع غير هذا.. كالعادة، حديث لطيف وهدية مبهرة وسهرة راقية، هي كل خطوات كريم نصار للوصول إلى مبتغاه.. وكأنها لا تساوي عنده غير هذا..
تنهدت ولم تكشف عن أفكارها، قالت بهدوء
( لكن هذا الفستان مكشوف الأكمام، أنت تعرف أنني لا أرتدي فساتين مكشوفة )
اعتبر جملتها موافقة على طلبه فسارع يقول بلهفة
( إنه بنصف أكمام حبيبتي.. لقد اخترته خصيصًا كما يناسب زوقكِ )
فركت كفيها وهي تسحب كُم بلوزتها الفضفاضة بحركة غير ملحوظة، قالت بإصرار
( لم أحبه.. سأحتاج لتبديله بواحدٍ آخر )
نقل كريم نظراته بتعجب ناحية مريم يسألها بعينيه عما يجري، إلا أنها لم تنتبه له وعينيها مثبتتين على يد أختها التي تسحب طرف كُم بلوزتها حتى غطت منتصف كفها.. ابتلعت صِبا ريقها وهي تلقي نظرة خاطفة ناحية مريم قبل أن تنتبه لوالدتها التي تقف بصمت عند باب الغرفة..
نظرات صامتة تبادلتها كلتاهما لعدة ثوان قبل أن تقطع والدتها ذلك التواصل وهي تندفع مبتعدة عن باب الغرفة، بينما ملامحها تعكس ألمًا واضحًا و شعورًا بالذنب كالحجر يجثم فوق صدرها.

**************************

طرقت باب غرفته بخفة لتدخل ما إن سمعت إذنه بالدخول، أطلقت صفير إعجاب واقتربت تغازله
( سيدي يا سيدي.. ما كل هذه الأناقة؟ )
استدار إليها ضاحكًا
( كل هذا المزاج الرائق لأنكِ ستتأتين معنا للحفل؟ )
ابتسمت زهرة ومدت يدها لتعدل له ياقة قميصه
( بل لأنني أخيرًا أنهيت اختباراتي وسأبدأ في الاستمتاع بالعطلة )
هز رأسه متعجبًا
( وهل يُعقل أن تكون أولى خططتكِ في الاستمتاع بالعطلة أن تأتي إلى حفلٍ يخص العمل؟ )
أجابته ببساطة وهي تنثر على قميصه بعض العطر
( أنتَ تعلم أنني أستمتع بصحبتك في أي مكان أخي العزيز )
ابتسم لبساطتها المحببة، وأذنيه تلتقط لفظ
"أخي" الذي يكاد لا يسمعه من غيرها، بل هو فعلًا كذلك.. تلك المشاكسة الصغيرة تمنحه طاقة غير مشروطة من الحنان والأخوة، بطريقة تجعله لا يمانع في إعطاءها عينيه لو أرادت..
انتهت من وضع لمستها الخاصة على ملابسه ثم ابتعدت قليلًا تسأله بزهو
( والآن ما رأيك في فستاني؟ )
ابتسم بخفة ومدحها بإعجابٍ حقيقي
( ربما لدينا عروس هنا الليلة ! )
توردت وجنتيها بخجلٍ وقد زادت ثقتها بنفسها وهي تتخيل رد فعل مروان ما إن يراها.. الحقيقة أنها بالغت في الاهتمام بزينتها ما إن علمت بمرافقته لهما وهي تحدث نفسها أن الفرص تخدمها هذه الأيام حتى تتقرب منه بشكل أكبر..
طرقات هادئة على باب الغرفة تبعها صوت الخادمة تخبرهما بوصول السيد مروان.. سار أمجد متوجهًا إلى الأسفل تتبعه زهرة التي همست لنفسها بحماس مرتبك
( أليس هذا فألًا جيدًا ! )

*****************************

نظرت حولها تتطلع إلى ذلك الحفل الفخم، ملامحها عابسة وقد بدأت تشعر الملل، إنها تجلس بمفردها منذ أكثر من نصف ساعة بينما أمجد منشغلًا في الحديث مع بعض ضيوف الحفل.. ألقت نظرة يائسة نحو مروان الذي يجلس أمامها بصمت وشرود.. منذ بداية الليلة وهو على هذه الحالة من الهدوء على غير عادته، طوال الطريق وهي تحاول مشاكسته ليلتفت إليها إلا أن ردوده كانت مقتضبة وقد التهى بشروده طوال الطريق.. نظرت لفستانها الرقيق الذي انتقته بعناية وقد كانت تأمل أن تستطيع لفت انتباهه، إلا أن كل آمالها ذهبت أدراج الرياح وقد أحبطها أن تراه غير منتبهًا لوجودها تقريبًا.. تنحنت تجلي صوتها وهي تنوي سؤاله عما به، لكن قاطعها تدخل مفاجئ من إحدى فتيات الحفل التي اقتربت من مروان وبدأت في التقرب إليه بميوعة، تجمدت زهرة في جلستها وقد ضربها إحساس بالتقزم في حضرة تلك الفاتنة التي تجاهلت وجودها، اشتعلت غيظًا من ذلك العرض المكشوف واتجهت أنظارها لمروان.. لكنه
بدا غير مباليًا وقد منعه شروده من اقتناص الفرصة، ابتسم بسخرية وهو يرى تلك الفتاة تتلاعب بشعرها في محاولة مبتذلة لجذب انتباهه.. لتقتحم عقله صورة أخرى لأصابع رقيقة تتلاعب في خصلاتها ببراءة خلبت لبه دون أدنى مجهود منها.. تنهد بعمق وهو يتذكر وجهها في آخر مواجهة بينما، طريقتها الجامدة في الحديث معه أكدت له أن هناك شيئًا لا يعرفه، ومنذ ذلك اليوم وهي تتجنبه تمامًا، بينما يكاد يجن وهو يحاول أن يفهم ما يحدث معها.. زفر بإحباط ونظر بطرف عينه لتلك الفتاة الحمقاء التي بدأت تثرثر رغم تجاهله لها، ودون اكتراث نهض عن كرسيه ليتجه نحو طاولة المشروبات، وقف يتلاعب بالأكواب بشرود لترتسم على شفتيه ابتسامة خفيفة وهو يرفع كأسًا من عصير البرتقال لشفتيه يشربه بتلذذ.

**************************

استقر أمجد بجانب زهرة التي كانت تستند بمرفقها على الطاولة وهي تريح وجنتها فوق كفها شاعرة بالإحباط من تلك السهرة المملة، سألها مستفهمًا
( ماذا بكِ صغيرتي؟ هل تشعرين بالملل؟ )
زمت شفتيها وعاتبته دون أن تلتفت بوجهها إليه
( أنا أجلس هنا بمفردي منذ مدة )
تعجب أمجد وهو يبحث بعينيه بين الحضور
( لماذا؟ أين ذهب مروان؟ )
أجابته بسخرية وهي تنظر إلى زاوية بعيدة
( يقف أمام طاولة المشروبات منذ أكثر من ربع ساعة، وقد قضى على عصير البرتقال كله )
راقبه أمجد بتمعن وتأكد بفطنته أن صديقه ليس على طبيعته، إنذارات الخطر في عقله تحذره مما لاحظه سابقًا حول علاقته بمريم، لم يعطِ الأمر اهتمامًا كبيرًا في البداية فهذا ليس جديدًا على صديقه، لكن هذه المرة يشعر بأن الأمر حقًا مختلف، وتغير حال صاحبه هو أكبر دليل.. انتبه لصوت زهرة التي صاحت فجأة بحماس
( أليست هذه صبا؟ )
نظر إلى حيث أشارت فتحفز مكانه وقد رآها أمامه، لكنها لم تكن بمفردها، بجانبها وقف كريم يتحدث مع أحدهم.. تعلقت عيناه بها رغمًا عنه، ترتدي فستانًا لامعًا من اللون الأسود يغطي جسدها بالكامل، يلتصق بقوامها الرشيق لينسدل عند آخره بطبقة من الشيفون حتى آخر قدميها، وشعرها مرفوع في لفة أنيقة أبرزت نعومة ملامحها.. انحدرت نظراته لكفها وقد تعلقت بذراع خطيبها، أشاح بوجهه عنها بسرعة وهو يشعر بالغضب من نفسه ثم أخذ نفسًا متشنجًا، مد كفه يرتشف من كوب الماء البارد أمامه بينما أتاه صوت زهرة التي نهضت من مكانها بحماس
( سأذهب لأسلم عليها )
قالتها وأسرعت تجاه صبا، بينما هب أمجد من مكانه حيث يقف صديقه أمام طاولة المشروبات.

****************************

وقفت تبتسم بدبلوماسية لصاحب الحفل وزوجته، كانت تشعر بعدم الارتياح وتلوم نفسها على مجيئها.. نظرت ناحية كريم الذي انهمك في حديثه معهما لتشرد قليلًا وهي تشعر بنفسها عاجزة لأول مرة عن اتخاذ قرارًا حاسمًا.. لقد وافقت على المجيء إلى الحفل والعودة لشخصية "خطيبة رجل مهم" كما تقول أختها ملك، رغم أنها لا تستسيغ فكرة الحفلات والمظاهر الكاذبة، كانت أجبرت نفسها على تقبل مجتمع كريم منذ أن تمت خطبتهما، لكنها الآن لا يسيطر عليها سوى شعورًا بالاختناق وهي تجبر نفسها على تقبل كريم ذاته !!
أنهى حديثه ليلتفت ناحيتها مبتسمًا
( ما رأيكِ في الحفل؟ )
جاملته بابتسامة لم تصل لعينيها وحاولت إبداء إعجابها بأجواء الحفل، انتبهت لصوت رقيق يناديها فالتفتت متفاجئة وهي ترى زهرة أمامها.. عانقتها الأخيرة بسعادة
( وأخيرًا شخص أعرفه في هذا الحفل الممل؟ لم أتوقع أن أراكِ هنا )
ابتسمت صبا وقد هدأ توترها قليلًا شاكرة ظهور زهرة، أجابتها بمودة
( لقد أتيت مع خطيبي )
حيَّته زهرة بإيماءة خفيفة، لكنه مد يده مُصافحًا
( مرحبًا بالجميلة جارة صبا )
ابتسمت له ببرود ثم سحبت كفها سريعًا وهي تشعر بعدم الارتياح ناحيته، التفتت تكمل حديثها مع صبا بتلقائية
( لم أكن أعلم أنكِ تهتمين بهذه الحفلات المملة، أنا عن نفسي لن أكرر هذه التجربة، يكفيني حفلات أبي )
سألتها صِبا بفضول
( مع من أتيتِ إذًا؟ )
أشارت زهرة إلى حيث يقف أخيها ومروان
( لقد اصطحبني أمجد، لكنه منشغلًا منذ بدء الحفل.. )
أكملت ثرثرتها في حين نظرت صِبا إلى حيث يقف أمجد، تقابلت عيناهما في لقاء قصير قبل أن تشيح ببصرها نحو زهرة، تحدثتا قليلًا فى بعض الأمور قبل أن تنصرف زهرة شاعرة ببعض الحنق من خطيب صبا الذي أقحم نفسه في حديثهما بصفاقة ضايقتها.

**************************

نقر على كتف صديقه ليلتفت له الآخر متسائلًا، فرفع أمجد حاجبًا واحدًا، وقال بسخرية
( ألم تكتفِ بعد؟ لقد شربت أكثر من نصف كمية البرتقال المجهزة للحفل كله )
لم يرد مروان ورفع الكوب يشرب نصفه دفعة واحدة.. زم أمجد شفتيه وأردف بجدية
( بيننا حديث لم نكمله )
أومأ مروان قائلًا بشرود
( عندما أعود من السفر )
اعترض أمجد بنبرة حازمة
( لا.. لن أنتظر كل هذا، يجب أن أفهم منك ما يحدث )
نظر مروان لصديقه وهو لا يزال يحتفظ بهدوءه
( دعنا ننتهي أولًا من هذا المشروع.. موضوعي أنا أعرف كيف سأتصرف فيه )
وقبل أن يحتج قاطعه مروان وهو يربت على كتفه ببعض الخشونة، متشدقًا بمشاكسة
( لا تقلق يا صديقي.. هل فشلت أنا يومًا في حل مشكلة؟ )
زفر أمجد وهو يعرف أنه يتهرب من الأمر، غمغم بصوت مسموع
( استر يا رب )
ضحك مروان ضحكة قصيرة تبعتها تنهيدة عالية.. وبعد لحظات من الصمت تساءل
( أين أختك؟ )
نظر أمجد ناحية زهرة التي وقفت تتحدث بانطلاق مع صِبا، فالتفت مروان حيث أشار صديقه، ثم قال بلؤم
( المعلمة الفاتنة هنا.. يالها من صُدف )
تكلم أمجد من بين أسنانه
( اخرس يا مروان )
هتف بتذمر واهٍ
( ماذا ! هل كلما نطقت ستحجر عليّ !! )
خبطه أمجد في كتفه بغلظة، وزجره بتقريع
( يا بني آدم احترم نفسك وركز في خيبتك )
دلك مروان ذراعه بألم، ثم قال بترفع
( تأدب يا ولد وأنت تكلِم عمك.. عن أي خيبات تتحدث !! أنا بعون الله سأستحوذ على مخزون البرتقال كله )
نبس بجملته الأخيرة وهو يلاعب حاجبيه بخبث وقد استعاد روحه المشاكسة، بينما ضحك أمجد بيأس قبل أن يعود بأنظاره إلى حيث تقف أخته..
( خطيبها هذا ****.. كان الله في عونكِ يا صبا )
غمغم مروان بجملته بهدوء وهو ينظر ناحية كريم.. ليلتفت أمجد لصديقه بصدمة ما إن التقط ما قاله، غير غافلًا عن اللفظ الذي ذكره، هتف بذهول
( هل تعرفه؟ )
أومأ مروان وهو يوضح ببساطة
( والده رجل أعمال من عائلة عريقة وثرية.. وهذا المدلل ابنه، يساعده الآن في الشركة، لكن سُمْعته لا تتوافق مع مظهره اللامع )
ألقى أمجد نظره متفحصة ناحية كريم ثم عاد ببصره إلى صديقه الذي أردف بتعجب
( أتساءل من أين تعرفت عليه صبا.. الفتاة تبدو محترمة وليست من شاكلته )
عقد أمجد حاجبيه، متحيرًا من هذا اللغز، قال بعدم فهم
( عن أي شاكلة تتحدث ! ألم تقل أنه من عائلة محترمة؟ )
لم يُجبه مروان مباشرة، بل أخذ وقته في تناول قطعة حلوة بتلذذ، ثم رد ببساطة
( نعم.. لكنه هو ليس محترمًا )
رفع أمجد حاجبه وقبل أن ينطق بشيء هتف مروان بغضب
( لماذا تقف زهرة معهما كل هذا الوقت؟ )
أجابه أمجد بذهنٍ منشغل بينما نظراته تتركز على كريم
( تتحدث مع صديقتها )
انفعل مروان بحنق
( وبالنسبة لخطيب صديقتها ! )
التفت له أمجد بحدة، وقد ظهرت علامات عدم القلق تظهر على وجهه، تكلم بتوجس
( ما خطب هذا الرجل يا مروان.. أفهمني ! )
رد يهدئه
( سأفهمك فيما بعد.. المهم لا تتحدث أمام زهرة، حتى لا تثرثر بشيء أمام صِبا بالذات )
أومأ برأسه مضطرًا وهو يلمح زهرة تقترب منهما، والتي اختفت ابتسامتها وهي تطالع الوجهين العابسين، فتساءلت بقلق
( هل هناك مشكلة؟ )
لم يرد أمجد وهو يذهب بنظراته ناحية كريم يتفحصه بتمعن، بينما اندفع مروان يسألها بخشونة
( لماذا أطلتِ في الحديث مع صبا بينما خطيبها اللذج يقف كحارس المرمى بجوارها؟ )
رفعت حاجبها وقالت متهكمة
( وما المشكلة لا أفهم ! ألا يكفي أنني أجلس بمفردي منذ بداية الحفل ! قلت لنفسي أن أستغل فرصة وجود صِبا لأستمتع بوقتي مثلكما )
رد مروان متأففًا
( ليس وخطيبها معها )
رفرفت فراشات صغيرة في معدتها وقد فسرت جملته على أنها غيرة، احمر وجهها ببلاهة وهي لا تصدق أنه بدأ يشعر بها أخيرًا.. ولذلك أجابته بتشدق ترغب في إثارة غيرته أكثر
( وما به خطيبها؟ إنه لطيف جدًا )
تهكم مروان وهو يكرر جملتها بطريقة ساخرة
( نعم لطيف جدًا.. حتى أن لُطفه دخل في عيني.. انظري )
همَّت بالرد عليه لكن كلاهما انتفض على صوت أمجد الذي صاح بقلة صبر
( اخرسا أنتما الاثنين.. هيا سنغادر الآن )

***************************

دخل كلاهما إلى المنزل بعد انتهاء السهرة، كانت العائلة متجمعة على غير العادة في غرفة المعيشة أمام التلفاز، تقدمت زهرة وهي تلقي بحذائها بعيدًا وتدلك رقبتها متأوهة.. سألتها رحمة التي تجلس بجوار فارس
( كيف كانت السهرة؟ )
أجابتها وهي تتثاءب بنعاس
( رائعة بكل المقاييس، والحمد لله لن أكررها مرة أخرى )
ضحكت رحمة متعجبة.. بينما وبخ فارس أخته بحدة مبالغ بها
( هل خرجتِ بهذا الفستان القصير ! )
نظرت زهرة لفستانها ثم رفعت رأسها باعتراض
( ليس قصيرًا لهذه الدرجة.. كما أنني كنت مع أمجد )
همهم فارس بسخرية وهو يلقي نظرة مستهزئة ناحية أمجد، فلكزته رحمة وهي تحدجه بنظرات محذرة.. أما أمجد فلم يلتفت لما يحدث، ألقى تحية المساء وأوشك على الصعود لغرفته، لكن زوجة والده التي دخلت الحجرة لتوها أوقفته تسأله
( انتظر يا أمجد.. كيف حال جرح يدك؟ )
ثم اقتربت منه لتفحص الجرح.. فقال أمجد بهدوء
( لقد أوشك على الالتئام )
ثم أردف وهو يحاول التملص من ذلك التجمع
( سأصعد للنوم.. تصبحون على خير )
لكن السيدة مشيرة لم تسمح له بالتحرك وهي تجذبه ليجلس على الأريكة بينما تقول باهتمام
( ابقَ قليلًا حتى أضع لك لفافة جديدة على الجرح.. أين وضعتِ القطن يا رحمة؟ )
غمغم أمجد برفق
( لا داعي لذلك )
لكن رحمة كانت قد نهضت بالفعل لتحضر القطن ثم ناولتها إياه وعادت تجلس مكانها متجاهلة نظرات فارس النارية نحوها... بدأت المرأة في تغيير اللفافة بينما تنهد أمجد وقد طافت ذكرى قديمة بالمكان
"قبل عشرون عامًا"..
( انتبهى يا رحمة كي لا تسقطي )
هتف بها أمجد ذو العشر سنوات وهو يركض ناحية ابنة عمه التي تلعب بالدراجة، وقبل أن يصل إليها وجد يدًا صغيرة تدفعه بحدة كي يتراجع فارتطمت ساقه بالدراجة بجانبه.. بينما هتف فارس بتذمر
( ابتعد أنتَ )
وضع يده على ساقه يتلمس ذلك الخدش، بينما صدح صوت والده الغاضب
( فارس ! ألم أحذرك من تلك التصرفات من قبل ! تأدب وأنت تحادث أخيك )
في حين اقتربت السيدة مشيرة تمسح ركبة أمجد بمنديل وهي تحدث ابنها موبخة
( اعتذر فورًا يا فارس وإلا عاقبتك )
حرك الصبي عينيه الصغيرتين بينهم وقد لمع بهما التمرد، وصاح بعناد
( لا أريده أن يلعب معنا.. فليذهب ليعيش مع أمه )

تقابلت نظراتهما وذكرى ذلك اليوم تقتحم مخيلة كلاهما، كانت نظرات أمجد ثابتة جامدة لا تظهر ما يشعر به، بينما اهتزت حدقتيّ فارس قليلًا قبل أن يستعيد ثباته ويشيح بوجهه بعيدًا..
قطع ذلك الصمت صوت زهرة تقول بعتاب
( هل كان يجب عليك أن تستخدم السكين في تلك الليلة؟ )
التفت نحوها بتشتت وهو يلتقط جملتها التي اختلقها سابقًا
( أردت تحضير شيئًا سريعًا فحسب.. كنت أشعر بالجوع )
دنت منه زهرة لتسحب كفه من يد والدتها وبدأت تكمل وضع اللفافة وهي تقول بحنان
( لماذا لم توقظني حتى أحضر لك ما تريد؟ )
مصمصت السيدة مشيرة شفتيها وتهكمت
( مَن يسمعكِ هكذا يقول أنكِ أستاذة طبخ.. ألا تتذكرين الحريق الذي كدت تتسببين به؟ )
احتجت زهرة بطفولية
( كان ذلك منذ عامين.. أنا الآن أجيد الطبخ بمهارة.. أليس كذلك يا أمجد؟ )
ربت على على شعرها برفق
( طبعًا يا صغيرتي )
ثم استقام واقفًا واتجه إلى غرفته وهو يشعر بانتهاء طاقته لهذا اليوم.

****************************

أوقف سيارته أمام منزلها والتفت ناحيتها يحدثها برقة
( كانت سهرة رائعة، أليس كذلك حبيبتي؟ )
أجبرت نفسها على الابتسام وهي تومئ برأسها بمجاملة كاذبة، تعلم أنه الآن يشعر بالرضا من نفسه بعد نفَّذ ما أراد واصطحبها معه للحفل ليتحرك بها كالدمية بينما يتحدث إلى باقي الضيوف.. أخذت صبا نفسًا وهي تكاد تشعر بالاختناق من تلك الأجواء المفروضة عليها.. صدح صوت رنين هاتفه فمد يده ليطفئ الصوت بلا مبالاة، نظرت صبا للهاتف الذي لم يتوقف عن الرنين منذ بداية الليلة، سألته بهدوء
( ألن تجيب؟ )
أجابها ببساطة وهو يتجاهل الرنين الذي صدح مرة أخرى بإلحاج وكأن المتصل قد فقد صبره
( لا يهم.. فالمكالمات لا تنتهي )
قالت وهي تمد يدها تنوي الإمساك بالهاتف الموضوع أمامهما
( ربما يكون هناك أمرًا هامًا )
لكن سبقتها يده التي أمسكت بكفها قبل أن تصل إليه وهو يقول بنبرة ناعمة
( لا يوجد ما هو أهم منكِ عزيزتي )
نظرت لكفها المستقر في يده ثم حادت بعينيها للهاتف بينما قال كريم وهو يداعب أصابعها
( سأمر عليكِ غدًا في العمل لنتناول الطعام في النادي )
سحبت كفها وتكلمت ببرود
( غدًا لدي جلسة مع ليان بعد العمل )
تجاهلت الضيق الذي ظهر على وجهه وهي تتمنى أن يعترض، إلا أنه خالف ظنها وقال بإصرار
( لنجعلها بعد غد )
حكت جبهتها بملل، تعلم أنه لن يتوقف عن إلحاحه فاضطرت للموافقة.. ألقت تحية سريعة وهي تفتح باب السيارة بعجلة، وقبل أن تصل لبوابة منزلها أوقفها كريم بنداءه فاستدارت له متسائلة، اقترب منها ورفع كفه يزيح خصلة من شعرها ويهمس برقة
( أتمنى ألا تكوني ما زالتِ غاضبة )
أبعدت رأسها قليلًا تتحاشى لمساته وتمتمت بتململ
( لقد انتهى الأمر ولا داعي لفتحه مرة أخرى )
لم يبالِ بنبرتها المتأففة ولا بإشارتها الواضحة لرفضها لمساته، بل اقترب منها وقد انتقلت أصابعه لوجنتها يمسدها بخفة
( على العموم أنا سأعرف كيف أحصل على صفحكِ كاملًا )
رفعت كفها ترجع خصلة من شعرها للخلف وقصدت أن تبعد يده عنها بلباقة مُنهية حديثها معه وقد استبد بها الإرهاق...
انصرف أخيرًا فراقبت ابتعاده بشرود شاعرة برأسها يكاد ينفجر من فرط التفكير، كانت تدلك وجنتها التي مستها أصابعه منذ لحظات غافلة عن ذلك الظل الذي يقف في شرفته العالية، يراقب الموقف منذ بدايته و عيناه تشتعلان ببريق غاضب، أنفاسه تعلو بشكلٍ ملحوظ وهو يقبض كفيه حتى ابيضت مفاصله وملامحه تتوحش أكثر بينما يغزو مخيلته ذلك المنظر الذي شاهده منذ قليل حين رآها تقف مستسلمة لتلك اللمسات.. طحن أسنانه وهو يضرب يده بالحائط المجاور في حنق منها ومِن نفسه قبلها غير مباليًا لجرح يده، نفخ زفيرًا عاليًا وهو يغلق زجاج نافذته بعنف فأصدرت صوتًا عاليًا وصل إلى مسامع صبا التي كانت على وشك إغلاق بوابة منزلها، انتفضت وهي ترفع رأسها لمصدر الصوت، لكن لم يقابلها سوى الظلام المحيط بالمكان، هزت كتفيها متجاهلة الأمر واتجهت داخل المنزل.

**************************

فتحت عينيها بخمول ورمشت عدة مرات حتى استفاقت، سكنت مكانها تتطلع في سقف غرفتها لعدة دقائق حتى استعادت وعيها لتستقيم جالسة وهي تفرك عينيها الناعستين، نظرت إلى ساعة الحائط التي تشير إلى الثانية ظهرًا، نهضت من مكانها بكسل وهي تلملم خصلات شعرها المبعثرة ثم توجهت لحمام غرفتها..
بعد دقائق كانت تهبط الدرج وهي تدلك معدتها بجوع، لم تأكل شيئًا منذ البارحة، رغم أن الحفل كان مليئًا بالمأكولات إلا أنها لم تستسيغ تلك الأطعمة الأجنبية التي تأتي من الخارج خصيصًا لأجل تلك الحفلات.. ابتسمت بهيامٍ وأنفها يلتقط رائحة طعام شهي يأتي من مطبخ منزلهم فاتجهت ناحيته مباشرة، وقفت تستند برأسها إلى الباب تتأمل والدتها تحضر الطعام، ابتسامة دافئة لوَّنت شفتيها وهي ترى والدتها ما زالت محتفظة ببساطها رغم فخامة المنزل الجديد، حتى أنها أصرت أن يكون المطبخ بالذات على الطراز القديم الذي اعتادته.. تحركت صبا لتقبل رأس والدتها وقالت تداعبها
( صباح الخير على سيدة مطبخنا الأولى )
ابتسمت المرأة وقالت
( أي صباح هذا أيتها الكسولة.. ألم تنظري في الساعة؟ لماذا لم تذهبي للعمل اليوم )
مدت صبا يدها تلتقت قطعة من الخضروات المقطعة تلتهمها بنهم وأجابت ببساطة
( ألا يحق لي بعض الراحة يا "جوجو"؟ لقد تأخرت بالأمس في الخارج وأنتِ تعلمين أنني أكره الاستيقاظ مبكرًا )
أجفلت كلتاهما على هتاف عالٍ لتلك الشعلة التي اقتحمت المطبخ ساخطة
( طبعًا تكرهين الاستيقاظ مبكرًا فلا يوجد لديكِ اختبارات مثلي، وتقضين وقتكِ في السهرات والحفلات مع خطيبكِ اللامع )
اقتربت منها تقرص بوجنتيها بمشاكسة بينما تحاول ملك إبعاد وجهها دون فائدة
( تلميذتنا النجيبة.. كيف كان الاختبار؟ )
أبعدت يد صبا عنها بأعجوبة وأخذت تدلك وجنتها التي احمر لونها، صاحت بصضيق٦
( حسبي الله ونعم الوكيل في تلك المعلمة.. دائمًا تكون اختباراتها هي الأصعب.. أتعلمين؟ إنها تشبه تلك المرأة حماتكِ )
قهقهت صبا بينما هتفت جيهان توبخ ابنتها لتتذمر ملك
( ماذا؟ هل كلمتي هي التي تقف في الحلق ! ها هي ابنتكِ تضحك ولم تعترض )
ضربتها والدتها بخفة ثم سألت صبا
( كيف كان الحفل؟ هل استمتعتِ؟ )
تداعت ابتسامة صبا وقد تعكر مزاجها لترد بكلمات مقتضبة محاولة عدم إثارة قلق والدتها.. منذ الأمس وهي تغلق هاتفها لتتحاشى اتصالات كريم، تحتاج لتصفية ذهنها بعيدًا عن وجوده الدائم في حياتها حتى تفكر جيدًا.. مدت يدها تتناول قطعة من الخضروات وفعلت ملك المثل، بينما زجرتهما والدتهما
( سيجهز الطعام بعد قليل، لا داعي للتصرف كالقطط )
زمت ملك شفتيها وفمها ممتلئ بالطعام.. تساءلت صبا فجأة
( أمي، هل لدينا دقيق؟ )
بعد دقائق وقفت صبا عاقدة شعرها بعشوائية وقد انهمكت في الأوانى أمامها بعد أن أصرت على إعداد بعض الحلوى، هوايتها المفضلة منذ أن كانت في سن المراهقة وقد علمتها والدتها إعداد بعض الأصناف لتتخذ من الأمر طريقة للتخلص من الطاقة السلبية، وبالفعل بدأت تتخلص تدريجيًا من الضغط الواقعة فيه وهي تنهمك في إعداد الحلوى تساعدها ملك وقد ارتفعت أصوات ضحكاتهما.

***************************

دخل إلى المنزل ليتجه مباشرة إلى الدرج المؤدي لغرفته، لكنه اصطدم في طريقه بالصغير إياد، فتوقف مكانه وهو ينظر للفتى الذي تكلم بتهذيب
( آسف عمي أمجد )
انحنى أمجد ليجلس على عقبيه، أمسك بذقن للفتى عاقدًا حاجبيه من منظر وجهه الذي يلطخه الطعام وسأل بتعجب
( لماذا يغطي الطعام فمك يا إياد؟ لو رأتكَ جدتك ستعاقبك )
قاطعه الصغير ببراءة ونبرة خافتة
( ششش أخفض صوتك حتى لا تسمعك "نانا".. لقد أعطتني الفتاة هذه الحلوى وأنا وعدتها أنني لن أخبر أحدًا )
رفع أمجد حاجبه مرتابًا
( أي فتاة تقصد؟ )
أشار له إياد بيده أن يقترب ففعل أمجد ما طلبه
وهو يكتم ضحكاته منتظرًا السر الخطير الذي سيقوله، بينما همس الطفل بنبرة جادة مضحكة
( تلك الفتاة التي تأتي وتلعب مع ليان.. ذات الشعر الطويل )
همهم أمجد وقد أدرك مَن يقصد، ليستأذنه الصبي وأكمل ركضه إلى الحديقة بينما استقام أمجد وسار يبحث بعينيه عن "صاحبة الحلوى" .. سمع ضحكات تأتي من المطبخ فاقترب بهدوء، لمح زهرة التي تجلس على كرسي في المطبخ وقد التصقت بها كل من نادين وليان، تتناولن بعض الحلوى بنهم، وأمامها تجلس صبا تضحك بصوت عالٍ وهي تستمع إلى زهرة التي تروي شيئًا ما، اقتربت خطواته إلى داخل المطبخ وعينيه على تلك التي تضحك بعلوٍ غير منتبهة له، وما إن هتفت زهرة بِاسمه حتى رفعت وجهها ناحيته وبدأت تتحكم في ضحكاتها..
نهضت زهرة تتجه لأخيها تقبله بخفة ومازحته
( السيد أمجد بنفسه في مطبخنا؟ ما هذه الزيارة السعيدة )
ثم سحبته مِن كفه تحثه كي يجلس على الكرسى المقابل لصبا والذي كانت تحتله هي منذ قليل، ثم أردفت بنفس المرح
( يبدو أن حماتك التي ما زلنا لا نعرفها تحبك.. هيا تذوق تلك الحلوى وأخبرنا رأيك )
نظر أمجد للطبق الموضوع أمامه ثم رفع عينيه لصبا فوجدها تحدق به بترقب وكأنه تنتظر رأيه، وما إن تلاقت نظراتهما حتى ارتبكت وأخفضت عينيها سريعًا.. ثم تنحنحت وهي تمد يدها ناحية الطبق لتقربه منه في دعوة صامتة للتذوق.. استجاب لدعوتها ومد يده ليلتقط إحدى القطع وما إن وضعها داخل فمه حته سألته زهرة بلهفة
( ما رأيك؟ هل أعجبتك؟ لقد أعدتها صبا بنفسها )
نظر لها أمجد بصمتٍ بينما يمضغ الحلوى بهدوءٍ متلذذ وقد راقه أن يتناول شيئًا من صنع يدها، شعور غريب اجتاحه وقد غمرته الألفة لفكرة أنه يتناول شيئّا أعدته هي بينما تجلس الآن أمامه في منزله وهو يعلم أنها تنتظر رأيه حتى وإن أظهرت عدم الاهتمام.. ارتفع صوت نادين الصغيرة التي هتفت بحماس طفولي
( لقد أخبرتني صبا أنني عندما أكبر سيصبح لدي شعرًا طويلًا مثلها )
تلقائيًا حادت نظراته ناحية شعرها الذي صففته على هيئة ذيل حصان استقر بنعومة فوق كتفها.. تنحنحت صبا وقد توترت مِن نظراته لشعرها، فرقعت أصابعها بحركة عصبية وهي تشعر بوجنتيها تشتعلان احمرارًا..
رن هاتف زهرة فاستئذنت منهما وابتعدت إلى خارج المطبخ تتبعها نادين.. عضت صبا شفتيها وتلفتت حولها لتدرك أنها تجلس معه بمفردها، شعرت بنقرات خفيفة فوق ركبتها لتنتبه لـ ليان التي تنظر لها ببراءة، ابتسمت لها صبا بمحبة ثم رفعتها ببساطة لتجلسها على ساقها.. راقب أمجد حركتها العفوية فتسارعت نبضات قلبه وهو يتأمل تلك اللوحة الجذابة أمامها، هي بكل فتنتها تجلس أمامه بملامح صافية وقد انعكست أشعة الشمس فوق وجهها فأظهرت لون عينيها الصافي لامعًا، بينما يدها الرقيقة تداعب شعر ليان بحنان، تركزت نظراته على تلك الأصابع التي تغوص في شعر الطفلة، ليفقد فجأة السيطرة على أفكاره ويشرد أكثر متخيلًا تلك الأصابع الرقيقة تداعب شعره هو !
ارتفعت حرارة جسده وقد داعبت الفكرة رجولته، فابتلع ريقه ليكتشف فجأة أن فمه ممتلئًا بقطعة حلوى، استعاد سيطرته على نفسه وتخلص من أفكاره المجنونة، حاوى ابتلاع ما في فمه قبل أن يقول بهدوء ظاهري لا يعكس ما به
( إنها لذيذة )
رمشت بعينيها حين انتبهت لما قاله بعد أن كانت شاردة تفكر في طريقة تهرب بها من أمام نظراته، تنحنحت تجلي صوتها وشكرته بلطف، قسألها فجأة
( هل أنتِ من أعددتها حقًا؟ )
أومأت برأسها ليردف هو بتعجب
( لم يبدو لي أنكِ تجيدين الطهي )
على الرغم من جملته العفوية لكنها وكعادتها تفترض سوء النية لتقنع نفسها أنه يتندر عليها،
ردت بتحفز
( لماذا؟ هل أبدو لك فاشلة؟! )
رفع حاجبه بتعجب من هجومها الغير مبرر وكاد يرد عليها ردًا ساخرًا بحق، لكنه وبدلًا من ذلك وجد نفسه يرفع قطعة أخرى لفمه يتناولها ببطء متلذذ في إجابة صامتة على سؤالها الغاضب بينما يثبت عينيه أمام عينيها.. أخذ وقته في تناول قطعة الحلوى ثم قال ببساطة ونبرة هادئة
( بالعكس )
عقدت حاجبيها وقد تاه منها تركيزها، بينما تابع أمجد بصدق
( لا تبدين فاشلة يا صِبا )
صوته الهادئ وطريقة مدحه البسيطة أربكتها قليلًا، لكنها وبخت نفسها تنهرها على التفكير كالمراهقات، لتستعيد وقارها وهي تنوى النهوض لتغادر إلى منزلها، لكنه سبقها ونهض من مكانه يقول ببساطة
( قهوة؟)
لم تفهم مقصده فقالت باستفهام
( عفوًا؟ )
أجابها وهو يلتقط بعض المحارم الورقية يمسح بها فمه
( سأعد بعض القهوة.. هل ترغبين في القليل؟)
ماذا يحدث معه اليوم؟ ما باله يتصرف وكأنهما أصدقاء قدامى متخليًا عن وجهه الجامد معها ! شهقت دون صوت وهي تراه يخلع سترته ليظهر من تحتها قميصه الأبيض وبدأ يرفع أكمامه وهو يتحرك في المطبخ يبحث عن بعض الأشياء ليشرع بالفعل في إعداد القهوة دون أن ينتظر ردها... تفحصته بينما يعطيها ظهره منشغلًا فيما يفعله لتلحظ طول قامته الذي لم تنتبه له مسبقًا.. ثم نظرت لقامتها التي لا تتصنف كقصيرة، لكنها بالطبع دون كعبها العالي الذي باتت ترتديه كثيرًا مؤخرًا بالكاد تصل إلى كتفيه، رمشت بعينيها وأخذت تضرب جبهتها بيدها عدة مرات متتالية توبخ نفسها على ما تشغل تفكيرها به، ثم أبعدت نظراتها عنه واستطالت برأسها ناحية باب المطبخ تبحث عن شخص ينقذها.. زفرت وقد قابلها الهدوء الذي يحيط بالمكان بينما زهرة تبدو وكأنها تبخرت، تنهدت بإحباط ونظرت للطفلة التي تجلس بين أحضانها بوداعة وكأنها تسألها عما يجب أن تفعله، بينما التفت هو ناحيتها عندما التقط تنهيدتها بأذنيه المستشعرة لحركتها المتململة، كان قد انتهى من إعداد القهوة ليحمل الفنجانين ويتوجه إلى الطاولة مرة أخرى، جلس أمامها وقرب أحدهما إليها.. تنحنحت صبا وأخذته تلتقطه منه ثم وضعته أمامها وبدأت تتلاعب بحافته دون أن تشرب منه شيئًا.. ارتشف أمجد قهوته وهو يراقبها بصمت ثم قال بهدوء
( لا تحبين القهوة )
كانت جملته تحمل لهجة التقرير أكثر منه سؤالًا، لترفع في نظراتها ناحيته وتقول ببساطة
( لا أفهم لماذا يحب المرء شيئًا يحمل كل تلك المرارة؟ )
ثم ضحكت ضحكة خفيفة مرتبكة وأردفت
( وبصراحة لا أقتنع بإرتباط القهوة بالمزاج الرائق، في نظري هي مشروب كئيب لكثرة ما يحمله من مرارة )
ارتشف أمجد رشفه أخري وتكلم ببساطة
( ولماذا لا نقول أن مرارتها تحمل معنى آخر )
هزت رأسها مستفهمة فأوضح
( كأن تخبرنا مثلًا أن طعمها المُر يحمل بين طياته لذة خفيفة لمن يريد حقًا أن يتذوقها )
إنه حقًا يصرف اليوم بغرابة، وحديثه المليء بالألغاز هذا يثير ريبتها وهي لا تعرف كيف تجاريه.. هزت كتفيها ولا تزال تتلاعب بفنجانها
( حتى وإن احتوت على بعض اللذة، مرارتها التي تصدمنا في البداية ستفسد الأمر )
ابتسم ابتسامة جذابة وتحدث يوضح لها، وقد راقه جدًا أن يوضح لها
( هل جربتِ يومًا أن يحدث لكِ شيئًا سيئًا؟ يشعركِ بالغضب مثلًا.. ثم بعدها تكتشفين أن الأمر لم يكن بهذا السوء، وأنه فقط كان مجرد بداية لشيء آخر؟ شيء أقل ما يقال عنه أنه.. )
بتر جملته دون أن يكملها، فهزت رأسها تحثه ليكمل وهي تقول بفضول
( أنه ماذا؟ )
تعمقت نظراته أكثر وقد تركزت نظراته داخل عينيها وهو يجيب بصوت رخيم
( رااائع )
رمشت بعينيها عدة مرات وهي تسمع وصفه الذي قاله بنبرة ممطوطة وكأنه يتذوق الكلمة بينما يحدق بها بطريقة مربكة.. صمت قليلًا قبل أن ترد بتبلد وخشونة
( لا، لم يسبق لي شيء كهذا )
عبست ملامحه وقد صدمته بجلافة ردها، واستشعرت هي ذلك فضحكت رغمًا عنها لكنها كبحت ابتسامتها وأخفضت نظراتها سريعًا وهي تزيح خصلة من شعرها.. ثم نظرت للفنجان الموضوع أمامها لعدة ثوان قبل أن ترفعه لشفتيها وترتشف منه رشفة خفيفة باحثة عن تلك اللذة التي يتحدث عنها، لكن يبدو أنها لم تجد ضالتها فقد زمت شفتيها وانكمشت ملامحها وهي تهز رأسها ثم تركت الفنجان ومدت يدها بتلقائية لتأخذ كوب الماء الموضوع أمامه تشرب منه القليل حتى يضيع ذلك الطعم المُر.. نظر هو لحركتها العفوية وهي تتصرف كطفلة تناولت طعامًا لم يعجبها.. وضعت صبا الكوب أمامها هتفت بامتعاض
( يا إلهي يا أمجد إنها مُرة جدًا )
سعل قليلًا وهو يستمع إلى اسمه الذي نطقته بعفوية، تنحنح يسيطر على انفعالاته ثم تظاهر بالامبالاة وهو يقول متهكمًا
( ما هذه المبالغة ! أنا لم أضع بها شطة )
برمت شفتيها وهتفت بحنق
( نعم لم تضع بها شطة، ولم تضع بها سكر.. لم تضع بها شيئًا أصلًا )
ضحك عاليًا حتى دمعت عيناه وهز رأسه بيأس من ردودها بينما رفعت صبا حاجبها وهي تراه يضحك بهذا الانطلاق أمامها، لا تذكر أنها رأته يضحك هكذا من قبل، بل لا تذكر أنها رأته يضحك إطلاقًا وخاصة أمامها هي، لكن ولما العجب ! هو يبدو غريبًا منذ فترة ولذلك عليها أن تتوقع منه أي شيء... هدأت ضحكته تدريجيًا وانتبه للطفلة التي ما زالت تجلس في حضن صبا ليجدها تنظر ناحيته بعينيها الواسعتين ثم ابتسمت له فجأة وكأنها تشاركه ضحكاته، ابتسم لها بحنان وانجذابه لتلك الصغيرة يزداد أكثر.. ثم رفع رأسه ناحية صبا يسألها باهتمام
( ما هي أخبار دروسكِ مع ليان؟ ألاحظ تقدمًا في حالاتها لكنها ما زالت تمتنع عن الحديث )
تنهدت وأخفضت نظراتها للطفلة
( ستتكلم.. ربما يستغرق الأمر بعض الوقت لكنها ستتكلم، هي فقط تحتاج لبعض الاهتمام، تحتاج لمن يتحدث معها كثيرًا حتى لو لم يتلقَ إجابة.. كما أن وجودها في الجلسات العائلية مفيد جدًا، ليس من الجيد ترك الاطفال وحيدين لفترة طويلة )
أومأ برأسه وعاد ينظر للطفلة ثم قال بشرود
( نعم.. ربما فعلًا تكمن المشكلة في عدم وجود من يتحدث معك )
قطع جلستهما الهادئة دخول صاخب لزهرة تتبعها فتاة أخرى.. تحدثت الأولى وهي تنهت قليلًا
( آسفة على التأخير )
زمت صبا شفتيها وهي تمنع نفسها عن القول بها بأنها تتحدث في الهاتف منذ أكثر من نصف ساعة
( مرحبًا يا أمجد.. كيف حالك؟ )
عقدت صِبا حاجبيها وهي تنتبه لصاحبة الصوت التي تقف بجوار زهرة.. فتاة شابة ترتدي ملابس ضيقة وقد غطت وجهها بمساحيق التجميل فبدت مثل دمية أنيقة خاصة مع قامتها الممشوقة وكعبها العالي..
أما أمجد فلم تقل دهشته وهو ينظر لتلك الفتاة التي وجههت تحيتها إليه وكأنها تعرفه.. ضَيق عينيه يحاول تذكر أين رآها من قبل فهذا الصوت لا يبدو غريبًا على أذنيه، لتريحه زهرة من حيرته وتقول بمشاكسة
( ألا تتذكر ناريمان؟ إنها ابنة صديقة أمي.. لقد كانت موجودة في حفل عيد ميلادي )
أومأ برأسه وقد تذكر ما تحكي عنه.. إنها الفتاة التي أصرت زوجة والده أن يقف معها ويستمع إلى والدتها تعدد في مزاياها في عرض مكشوف لتوفيق "رأسين فى الحلال" كما يقولون...
تنحنح أمجد ورحب بالفتاة بتحفظ
(أهلًا.. )
صمت يحاول تذكر اسمها فبادرت الفتاة بنبرة محرجة وقد أصابها الإحباط
( ناريمان )
حياها برأسه بينما جذبت زهرة كرسيًا للفتاة وآخر لها لتجلس كلتاهما، حدجها أمجد بنظرة مغتاظة قابلتها هي بأخرى مشاكسة وهي تحرك حاجبيها بشقاوة.. ثم أشارت لصبا وهي تقول موجهة حديثها للفتاة
( لم أُعرفكِ.. صبا جارتنا، صديقتي ومعلمة ليان )
ابتسمت لها صِبا بسماجة بينما رحبت بها ناريمان ببرود وهي تعطيها نظرة تقييمية من رأسها حتى أخمص قدميها.. فجأة تململت ليان في جلستها وهي تشير ناحية طبق الحلوى، لتسألها صبا بحنان
( ماذا تريدين يا حبيبتي؟ هل أحضر لكِ بعض الحلوى؟ )
أومأت الطفلة فأعطتها صبا ما تريد.. بينما غمغم أمجد بتهكم
( أين أنتِ يا ريهام كي يكتمل الوضع الرائع )
سمعته صبا فمنحته نظرة نارية، ثم أشاحت عنه ووجهت حديثها لناريمان وهي تشير نحو طبق الحلوى
( تفضلي )
هزت الفتاة رأسها بتأفف
( لا أتناول الحلوى حتى أحافظ على حميتي الغذائية )
رفعت صبا حاجبها وهي تمصمص شفتيها فكتم أمجد ضحكة كادت تفلت منه، ثم اتسعت عيناه وهو يراها ترفع قطعة حلوى كبيرة لفمها تتناولها دفعة واحدة وهي لا تزال تنظر للفتاة بينما تمضغ ما تناولته بتحدي.. لم يستطع أمجد منع ضحكاته أكثر فسعل بقوة من منظرها العفوي وقد أثارت اشمئزاز ناريمان بطريقة مضحكة.. التفتت ناريمان ناحيته وهي تراه يسعل بقوة فمدت يدها ناحية الكوب الذي شربت منه صبا منذ قليل، أعطته له وهي تقول بلهفة
( سلامتك.. تفضل بعض الماء )
أخذ منها الكوب ليشكرها بتهذيب ثم ارتشفه فهدأ سعاله أخيرًا.. راقبت زهرة تراقب الوضع بخبث، بينما لم تتحمل صبا تلك الجرعة الزائدة من الميوعة التي تمقتها فنهضت من مكانها واستأذنت للرحيل، لكن زهرة تمسكت بها بإصرار
( اجلسي لمزيدٍ من الوقت يا صبا، لم نأخذ وقتنا الكافي في الحديث )
قالت صبا بوعد
( فلنؤجل حديثنا لوقت آخر.. بصراحة مرارتي توشك على الانفجار )
ثم نظرت لناريمان وتابعت بجدية مصطنعة
( يبدو أن كثرة الحلوى يتعب المرارة أيضًا )
قلبت ناريمان شفتيها بينما ضحكت زهرة وهي تصطحب صبا ناحية باب المنزل، ودعتها وعادت إلى أمجد الذي ما إن رآها حتى أسرع بالنهوض من مكانه متملصًا من تلك الثرثارة التي تجلس بجانبه
( يجب أن أصعد لغرفتي فلدي الكثير من الأعمال.. استمتعا بوقتكما )
ثم أسرع يهرب إلى الأعلى تاركًا خلفه ناريمان التي تهز ساقها بعصبية بينما زهرة تكتم ضحكاتها.

****************************

بعد مرور عدة أيام...
أنهت صلاتها لتنهض وتخلع ملابس الصلاة ثم اتجهت لشرفتها تفتح نافذتها سامحة لنسمات الفجر بالدخول، تحركت لتخرج من غرفتها إلى الغرفة المجاورة، طرقت الباب بهدوء ثم دخلت لتجد أختها أمام حقيبة سفرها المفتوحة وما إن رأتها حتى هتفت بدهشة
( ما الذي أيقظكِ الآن؟ )
اقتربت منها صبا لتلكزها في كتفها مستنكرة
( هل ظننتِ أنني سأترككِ تسافرين دون أن أراكِ مثلّا ! )
ابتسمت مريم لذلك الحنان المتدفق من عينيّ أختها رغم طريقتها الجافة.. ثم قالت موضحة
( أقصد أن الوقت لا يزال مبكرًا، فأنا لن أتحرك قبل أربع ساعات )
جلست صبا على السرير وتحدثت ببساطة
( لا يهم.. سأساعدكِ في ترتيب ما ينقصكِ )
أومأت مريم برأسها، لكنها أجفلت حين هتفت صبا فجأة بتذمر
( هل كان من الضروري أن تسافري؟ )
اتسعت عينا مريم بدهشة ثم ضحكت تقول
( هل سأسافر في نزهة؟ إنه أمر يخص العمل )
اعترضت صبا بملامح مبتئسة
( لكنها المرة الأولى التي تبتعدين فيها عن المنزل، كما أنني لا أشعر بالراحة وأنا أعلم أن ذلك السمج الذي يدعي مروان سيكون معكِ )
توترت مريم وهربت بنظراتها وهي تقول بارتباك
( إنه المشرف على المشروع يا صبا.. ونحن لن نكون بمفردنا، سيرافقنا باقي فريق العمل )
زمت صبا شفتيها مغمغمة
( أتمنى ألا يحاول مضايقتكِ مرة أخرى )
طمأنتها مريم وأوضحت لها أن مشكلتها معه قد انتهت منذ مدة، ثم شردت وقد تذكرت لقاءهما الأخير، منذ ذلك اليوم وهو يلاحقها بنظراته لكنها تتجاهله عن عمد، بعد ما سمعته مِن تلك الوقحة غادة وهي لا تعرف كيف تتعامل معه.. حتى الآن لا تصدق أنها لم تكن سوى فريسة ساذجة كادت تقع تحت أنيابه، بل لا تصدق أن يكون بمثل هذا السوء، هو حتى لم يحاول التطاول معها بأي تصرف خارج.. هل كان ذلك أيضًا ضمن خطته للإيقاع بها؟
( متأكدة أنكِ جهزتِ كل ما تحتاجينه؟ )
سؤال صبا أخرجها من شرودها فأومأت برأسها مجيبة بـ'نعم'... مَر بعض الوقت الذي قضته صبا في إعطاءها عدة نصائح كي تتبعها في فترة سفرها وهي تؤكد عليها أن تعتني بنفسها جيدًا.. وبعدها توجهت صبا لغرفة والدتها التي تعلم أنها تستيقظ باكرًا.. طرقت الباب ودخلت بعفوية قبل أن تسمع الإذن بالدخول، لتعقد حاجبيها حين وجدت والدتها تجلس في سريرها وقد انتفضت ما إن رأتها وأسرعت تدس يدها تحت وسادتها وكأنها تخفي تحتها شيئًا ما.. اقتربت منها صبا
وهي فلمحت احمرار وجه والدتها وعلامات البكاء تظهر واضحة عليه !! دهشتها جعلت لسانها ينعقد فلم تفهم ما يجري، نقلت نظراتها بين الوسادة وبين والدتها المرتبكة، وما إن وجدت صوتها حتى رفعت يدها تربت على كتف والدتها وتسالها بقلق
( ماذا بكِ يا أمي؟ هل أنتِ مريضة؟ )
تنحنت المرأة وحاولت رسم ابتسامة على وجهها قائلة بمواربة
( لا يا حبيبة أمكِ أنا بخير )
ثم نهضت من مكانها وسألتها بنبرة لا تزال تحمل الارتباك
( هل انتهت مريم من تجهيز أغراض سفرها؟ )
أومأت صبا برأسها ودققت النظر لوالدتها تحاول أن تستشف ما بها، لكن الأخيرة لم تمنحها الفرصة وقد سحبتها من يدها تحثها كي تتبعها إلى خارج الغرفة بينما تتكلم بنبرة مهتزة
( تعالي معي كي تساعديني في إعداد الأفطار لنتاوله سويًا قبل أن تسافر أختكِ )
استسلمت صبا ليدها التي تسحبها بعيدًا، لكن نظراتها ظلت متعلقة بالوسادة وانشغل ذهنها بما أخفته عنها والدتها وتسبب في بكاءها.

****************************

بعد دقائق كانت تتسلل خلسة إلى غرفة والدتها بعد أن استغلت انشغالها في المطبخ، أغلقت الباب بهدوء واتجهت نحو السرير، ودون تفكير دست يدها أسفل الوسادة وهي تبحث عن ذلك الشيء المجهول، وما إن وجدت ضالتها حتى سحبتها لترفع ما وجدته وما جعل عيناها تتجمدان بقسوة وقد استعادت نظراتها الثلجية القديمة، أنفاسها تعلو بتشنج بينما يدها تقبض على تلك الصورة التي تحمل ذلك وجهه، وجه والدها، عبد الرحيم مأمون.. ذلك الوجه الذي لطالما أرعبتها نظراته ولا تزال تفعل !! عضت شفتيها بقوة كادت تدميها ونظراتها مثبتة على عينيه وكأنها تتحداه، نظرات عينيها تزداد قسوة بينما لونهما الأزرق يلمع ببريق مخيف.. مدت يدها الأخرى في جيب بلوزتها لتخرج هاتفها كي تتأكد من شيء ما، وقد صدق حدسها وهي تقرأ تاريخ اليوم.. إنها ذكرى وفاته إذًا.. وهذا ما جعل والدتها في هذه الحالة البائسة فجلست تبكيه خفية كعادتها، تلك العادة التي ظنت أنها انتهت بعد انتقالهن لمنزلٍ آخر، لكن يبدو أن والدتها تصر على سحب أقدامهن إلى شِباك الماضي رغم محاولات صبا المستميتة في الخروج بهن جميعًا مِن تلك الدائرة.. أخذت نفسًا عاليًا تستعيد به سيطرتها على أعصابها ثم أعادت الصورة في مكانها بحرصٍ وخرجت مسرعة من الغرفة بينما تشعر بوخزة مؤلمة في صدرها.


انتهى الفصل

يتبع..


شهر'زاد. غير متواجد حالياً  
قديم 28-01-22, 01:04 AM   #49

شهر'زاد.

? العضوٌ??? » 492944
?  التسِجيلٌ » Sep 2021
? مشَارَ?اتْي » 100
?  نُقآطِيْ » شهر'زاد. is on a distinguished road
افتراضي

فصل بعد غياب ♥️
متنسوش تعملوا لايك بدل اللي اتمسحوا🥺..
وسيبوا كومنت يا كتاكيت برأيكوا♥️


شهر'زاد. غير متواجد حالياً  
قديم 29-01-22, 11:20 PM   #50

Shadwa.Dy

? العضوٌ??? » 418619
?  التسِجيلٌ » Feb 2018
? مشَارَ?اتْي » 627
?  نُقآطِيْ » Shadwa.Dy has a reputation beyond reputeShadwa.Dy has a reputation beyond reputeShadwa.Dy has a reputation beyond reputeShadwa.Dy has a reputation beyond reputeShadwa.Dy has a reputation beyond reputeShadwa.Dy has a reputation beyond reputeShadwa.Dy has a reputation beyond reputeShadwa.Dy has a reputation beyond reputeShadwa.Dy has a reputation beyond reputeShadwa.Dy has a reputation beyond reputeShadwa.Dy has a reputation beyond repute
افتراضي

تسلم الايادي على هذا الفصل الرائع
شهر'زاد. likes this.

Shadwa.Dy غير متواجد حالياً  
موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 05:54 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.