شبكة روايتي الثقافية

شبكة روايتي الثقافية (https://www.rewity.com/forum/index.php)
-   منتدى قصص من وحي الاعضاء (https://www.rewity.com/forum/f38/)
-   -   لاجئ في سمائها... (https://www.rewity.com/forum/t484164.html)

ألحان الربيع 07-10-21 12:24 AM

لاجئ في سمائها...
 
{{..لاجــــــــ في سمائها ــــــــئ..}}


https://d.top4top.io/p_21105txkx0.jpg

https://k.top4top.io/p_2111dsyfg0.jpg

https://l.top4top.io/p_2111naz571.jpg

https://a.top4top.io/p_211140whn2.jpg

https://i.top4top.io/p_2111x8mk40.jpg


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

*بدايةً أشكر منتدى روايتي الذي أتاح لي نشر ما خطت يداي على أمل أن تنال اعجابكم*

هذه تجربتي الأولى لكتابة رواية وربما ستكون الوحيدة...لم أكن سابقاً من زمرة القراء لكن من فترة لا بأس بها اتخذت هذه الخطوة وبدأت أغوص في هذا العالم الجميل الراقي... مما جعلني أشعر أن بإمكاني التجربة حتى لو بقيت كلماتي أسيرة لمسودة متروكة على الرف...نبتت الفكرة منذ سنة وسببها ما يعانيه عالمنا العربي من ضياع وشتات وهجرة ,فاردت رسم حُلم ,ألونه ببسمة أمل ولمسة حب.
ترددت كثيرا في نشرها لبساطتها وفي النهاية قررت المجازفة...!!!

أرجو أن تتجاوزوا عن أخطائي النحوية او الاملائية وأرجو أن تنال استحسانكم فأنا لست بكاتبة محترفة وكلماتي بسيطة جدا في التعبير...فما زلت أتعلم منكم وأتمنى أن تفيدوني بنقدكم البنّاء لأتقدم....
وأعتذر سلفاً ان اضعت وقتكم بما لا يرقى لعقولكم....

!!==توضيح==!!

1-الرواية هي خليط من درامي واجتماعي ورومانسي

2-هي على لسان البطل وكأنها على دفتر يوميات يروي لنا الأحداث باللغة الفصحى (سرد وحوار)

3- هي بجزء واحد لكن يوجد قفزات في الزمن فالفصول الأولى (الاول-الخامس) مرحلة الطفولة وما بعدها مرحلة الشباب والخاتمة فقط قصيرة وستكون بإذن الله مرحلة التقدم في العمر

4- الرواية كاملة من وحي الخيال ولا تمت للواقع او لأي شخص بصلة وان كان تشابه بالأسماء فهو عن طريق الصدفة

5- الرواية لا تتحدث عن بلد معين اطلاقاً ولخيالكم القرار فسيكون تعريف الأماكن بـ " بلاد الأم او الوطن" و"تلك البلاد او خارج البلاد"

6-ربما تجدون موقف مستوحى من تقارير عن معاناة اللاجئين لكنني غيرته بطريقتي!!

7-لم اقرأ رواية تتحدث عن اللاجئين والحرب عند كتابتي لها فاذا وجد تشابه بالفكرة سيكون أيضا صدفة وتداعي أفكار

(*الاهداء*)
الى كل بلدٍ عاشت حرباً
الى كل رجل هُدمَ له بيتاً
الى كل روحٍ زُهِقت غدراً
الى كل أم ذرفت الدمع قهراً
الى كل طفلٍ عانى تشرداً ويُتماً
الى كل امرأة ترملت جوراً وظلماً
الى كل شخصٍ ترك وطنه مُرغماً
صبراً أيها اللاجئ فإن بعد العسرِ يسراً


** المقدمة **

حرب ...خيانة...موت...هجرة ...ضياع...انهيار...حب...قوة...سي� �رة...استقرار...أمان

"احترس يا صديقي"

"تحملي يا اختي"

"هيا أطلق الآن"

"إدفعي بقوة"

آااه......آااه

بين آهٍ وآه موت أو حياة!!
***
* هل الحضن الدافئ لا يُنسى وكان كفيل ليشعرها بالآمان ويغنيها عن ثروة بأكملها؟!

* يهاجر ليلجأ الى بلدٍ تحميه من غدر أبناء وطنه...

* كان يظن أن اللجوء هو فقط خيمة او مأوى وسيتركه يوماً ما ليعود الى بلاده وبيته...لكنه غرق بلجوءٍ آخر، فأينما ذهب ومهما حاول الاستقرار بقي يحمل اسم لاجئ ....لأنه.....لاجئ في سماءها

ومن بحر الألم إلى شاطئ الأمل حكاية لجوء...



ملاحظاتي :
*لم انجح في رفع صور الابطال والغلاف وارجو المساعدة من الاشراف:sm13:

* الرواية ليست حصرية لمنتدى روايتي

* سأقوم بتنزيل الفصل الأول الآن وبعدها في كل يوم جمعة سأنزل فصل الساعة الثانية عشر من منتصف الليل بتوقيت السعودية باذن الله....


ارجو ان لا تلهيكم عن الصلاة في وقتها وذكر الله

***********




روابط الفصول


المقدمة .. اعلاه
الفصل الاول.. في المشاركة التالية
الفصل الثاني.. اسفل الصفحة

الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس ج1
الفصل الخامس ج2
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون ج1
الفصل الثاني والعشرون ج2
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
تتمة الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون
الثامن والثلاثون ج1
الثامن والثلاثون ج2
الفصل التاسع والثلاثون ج1
الفصل التاسع والثلاثون ج2











ألحان الربيع 07-10-21 12:44 AM

الفصل الأول((أصبحت رجلاً))

في ليلة من ليالي الشتاء الباردة ومع سماع دويّ الانفجارات القادمة من كل الاتجاهات التي تفرضها الحرب اللعينة , يصدح صوت القران من بيتنا الجبليّ الكبير الدافئ الذي يملأه الحب والأمان , وفي غرفتها الواسعة بزرابيّ خمريّة تغطي أرضها الرخامية تستلقي على فراشها الوثير متململة ....تحرك رأسها بقوةٍ على جانبيها متألمة, تتأوه, تستغيث أمي (عائشة) وهي منتظرة قدوم مولودها....
تمسك بيدها خالتي ( مريم ) وبالأخرى جدتي والدة أبي لتهدئتها من أوجاعها وصرخاتها....
ومن خلف الباب الخشبيّ الضخم المرصّع بنقوشاتٍ نحاسية الذي كان بمثابة درعٌ واهنٌ لم يمنع أسهم الصرخات من اختراق آذاننا أنا وشقيقتي المدللة ( دنيا) إبنة الثماني سنوات....نرتقب الحدث بقلق, احتضنها وأمسّد على شعرها الترابيّ الناعم لأخفف من بكائها وخوفها على والدتنا ...أمسك كتيّب للأدعية اقرأ منه راجيّاً من الله السلامة لها وللصغير....
وكذلك الخدم , جميعنا في حالة بلبلة...
مضت ساعات شاقّة وأمي لم تُنجب بعد....

~~~~~~~~~~~~~~

على الجهة المقابلة بعيداً عنّا قرب الحدود...غيوم سوداء كثيفة اثرَ الدخان المتصاعد الذي يتخلله زخات من الرصاص ...يتواجد مجموعة من الثوار الأحرار الذين تعاهدوا أمام الله أن يكونوا حماة للوطن والدين حتى آخر قطرة دم في أجسادهم ...اجتمعوا لنصرة الحق بقيادة والدي (محيي الدين الشامي) فإما النصر أو الموت في سبيله....

{ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ ۖ }

اسمهُ لمعَ في عالم الثوار , فارسٌ زعزعَ الأعداء وفضّ مضاجعهم بدهائه الحربيّ....حيثُ يمرُ يقف له الناس إحتراماً من هيبته التي لم يسمح قط للغرور بالمرور جانبها, انما زيّنها بتواضعه وأخلاقه والتزامه في دينه....
يعطي تعليماته لأصدقائه في كتيبته بدقةٍ واحترافية.....

-" احترِس يا صديقي...

استعِد....

هيا اطلق الان...."

طلقة من هنا قابلتها طلقات من هناك لتصيبَ صديقه (زياد) في بطنه...

"آاااه...آااه..."

اندفع أبي نحوه بأنفاس لاهثةٍ وجبينٍ يتصبب عرقاً...يسحب جسده الغارق بالدماء على التراب حتى وصل الى العشب الكثيف يواريه من انظارهم ...يخبئه بحذر وينتظر وقف إطلاق النار ثم همس له:

" تمالك يا صديقي أرجوك.."


" آااه...يؤلمني..."


مرّت دقائق قليلة حتى اختفى ضجيج الأسلحة فحمله على ظهره ودماؤه تسيل , يحاول الركض علّه يسعفه قبل فوات الأوان....
قطع مسافة لا بأس بها وهو يتجه صوْب المشفى الميداني خاصتهم....
حاول اختصار الطريق قدر الإمكان ....
رَغم برودة الطقس والهواء الذي يلفحهم إلا أن حبيبات العرق لزمته من شدة قلقه عليه وهو يسمع انّاته التي تعتصر قلبه....
إعتاد على هذه المناظر والمواقف خلال خوض معاركه...لكن عندما نرى الموت يقترب ليختطف المقربين منا تنهار حصوننا ...فها هو أحد أصدقائه المخلصين الداعمين لمسيرته يشارف على فقد حياته....

أسرع في خطاه عندما لمح دنوهِ من مقرهم العسكري....
دقات قلبه تزداد ...رئتيه تنتفخ تضغط على صدره...لكن لا مناص وهو مصمم على إنقاذه حتى لو لفظ بِنَفْسِهِ أنفاسه الأخيرة...كيف سيترك رفيق دربه وهو من آزره بأصعب أيامه ؟؟!!...


" آااه لا أتحمل سوف أموت...."


زاد بخطواته يصارع الدقائق التي تفصل صديقه عن موت محقق ...وقع جهاز اتصالاته غير مكترث له ...يجري ويجري ليتعثر بعدها بحفرةٍ صغيرةٍ غادرةٍ لم يبصرها والظلام دامس فالقمر تحجبه السحب المدججة بالأمطار المدمجة بالدخان ليقعا معاً وتعلو صرخات (زياد) تخترق فؤاد أبي قبل أذنيه....
دنا منه زاحفاً مع أن طاقته نفذت...وأنفاسه قُطِعت ...حلقه جف...يشعر بالإعياء الشديد بعد استنزاف قوته...ليبثّ السكينة له :


" بقِيَ القليل ونصل المقر...ستعيش بإذن الله..."


شخص بصره للسماء المظلمة وابتلع ريقه بصعوبةٍ ...وضع يده على صدره الذي خفّت حركته تدريجيّا ...
فمدّ له ذراعه يفكّ الوشاح المُلَثِّم وجهه يكشفه ليتفقده...وجاهد لكتم عبراته أمامه لئلا يضعفه ويجعله يستسلم لحتفه...

فاضت الدماء بعد أن وجدت طريقها للخروج من فمه ليلفظ كلماته بشقِّ الأنفس:

" إذهب ...أنت ...يا...يا صديقي...واتركني ...فـ فـ فـالوطن يحتاجك...آاه"


ضغط على شفتيه يوقف ارتجافها وابتلع ريقه هامسا بنبرة مخنوقة:

"مستحيل لن أتركك..."


" آااه...أشـ هدُ أن لا إله إلا ...إلا الله..."

هي آخر آه حملتها روحه عبرت حلقومه يستقبل بها الموت....

~~~~~~~~~~~~~~~~

أمّا في بيتنا بين آهات أمي يظهر القلق والارتباك على خالتي وجدتي التي تدعو بخفوت:

" يارب هوّن على عائشة وأعِد إلينا محيي الدين سالماً.."

تحمل خالتي (مريم) منديلاً تمسح به جبهة أمي الغارقة بقطرات الماء وتهمس لها تدعمها :

" تحملي يا أختي وقولي يا رب..."

تشدّ بقبضتها على يد أختها ...تقلصات بطنها كطعنات تغرز بها...لا تستطيع السيطرة على حركتها ...تحاول كتمان صرخاتها...من يخفف عنها ويريحها ؟! تستمع لتوجيهاتها دون ان تقدر على تطبيقها ليخرج من رحمها ...تغمض عينيها وتعض شفتها السفلى ...داخل صدرها بالون ينتفخ يضغط على أنفاسها...جدتي تتمتم بآيات تسكنها ...لا أحد يشعر بما تواجه في معركتها ...تحاول وتحاول ولكن لا ألم يوازي آلام المخاض....


القابلة من تحت الغطاء تتفقد وضعها ...توجهها وتطلب منها بعناء:

" ادفعي بقوةٍ أكبر...لم يتبقى إلا القليل..."


" آااه يااا رب...."


خرجت هذه الآه وجاءت روح إلى الحياة ...

تبسمت القابلة تزفر أنفاسها وتمسح جبينها بظهر كفّ يدها بعد الجهد الذي بذلته وتنهدت قائلة وهي تحمله تلفه بالقماش القطني الأبيض وتنظفه:

" ها قد أتى وليّ عهدٍ آخر ...الحمد لله على سلامتكما"


" هل هو بخير؟!"

سألتها أمي بصوتٍ متعبٍ لتطمئن على صغيرها غير آبهة بوضعها...


" نعم بخير وإنه كالبدرِ في ليلته الرابعة عشر"


هتفت بعدها جدتي والسعادة تغمرها متناسية تعب اليوم والليلة:

" حمداً لله...جعله الله من الصالحين"


كنتُ في الخارج أحملُ شقيقتي (دنيا) وأدور بها مبتهجاً بعد سماعي بكاء الصغير وتمتمات الفرح المنتشرة في الداخل...
دلفتُ إلى الغرفة أهنئ أمي بسلامتها ثم طلبتُ منها تسميته.
ومع أن تقاسيم وجهها شاحبة، مرهقة، يغزوها التعب إلا انها رسمت بسمتها بحنوٍّ لطلبي هامسة:

"سَمِّهِ يا (هادي) وأذّن في أذنهِ...."


لم أصدق نفسي...دنوتُ من القابلة أحملُ أخي بحذر بين ذراعيّ أتأمله واستنشق رائحته ...كم حجمه ضئيل هذا المخلوق ويا لها من سعادة هذه أول مسؤولية أتولّاها بمفردي...أحسستُ وكأنني رجلٌ بالغٌ كبيرٌ وأنا لم أتجاوز الخمسة عشر عاماً....
أحنيتُ رأسي بقرب أذنه وبدأت بترديد الآذان سائلاً الله تعالى أن يقرّ أعين والديّ به...

بعد عَوْمي في شعور الرجولة هتفت متحمساً:

"شادي...سأسميه(شادي) لأنه يشدو ببكائهِ في أنحاء البيت..."

صمتُّ برهةٍ وأردفتُ باعتزاز مازحاً:

"هادي وشادي ...ثنائي عظيم"

ضحكت أمي وتَبعنها جدتي وخالتي وكذلك القابلة التي أطرأتني بكلماتها:

" حماك الله يا سيد هادي...إنك تمتلك صوتٌ شجيٌّ جميل"

أضافت خالتي:

"إنه حافظ لكتاب الله مع إتقان تجويده...لقد ورث عن والده حُسنَ الصوت والشكل"

تحفّزت جدتي وقالت:

" وكذلك شجاعته وذكاءه ودماثة أخلاقه...ليحفظهما الله"

إكتسى وجهي بالحمرةِ خجلاً من هذا المديح رَغم معرفتي بذلك...فأنا نسخة مصغرة عنه في الشكل ...طويل وعريض المنكبين ببشرةٍ قمحيةٍ...أملك شعراً أسوداً ناعماً وعيناي بلون الأرض الترابية المضاءة بأشعة الشمس... واسعة , تكحّلها رموشي السوداء الكثيفة...وبالطبع ما زلت في مرحلةِ نموٍ ونضوج....
علمني أبي على الشجاعة والثقة بالنفس ودائما كان يحاول غرز مكارم الاخلاق بي وأدخلني حلقات القرآن....

ساعات عشناها كانت خليط من التوتر والسعادة بقدومِ صغيرنا(شادي)...

مع دقات الساعة الواحدة بعد منتصف الليل عمَّ الهدوء في الخارج لِيُسمع فقط صوت قطرات متفرقة من المطر تلامس الأشجار والأسطح....


" الحمد لله ...اللهم اجعله صيباً نافعاً وهدوء خير للجميع "

هذا ما نطقت به أمي.

كنتُ أقف بهذا الوقت على شرفةٍ مغلقةٍ بالزجاج... أغوص متأملاً تلألؤ حبات الماء من انعكاس نور المصابيح الخارجية بمنظرٍ أعشقه....

فجأةً انقبض قلبي لينطق لساني:

"يارب لطفك ورحمتك التي وسعت كل شيء"

توجهتُ بعدها إلى غرفة المعيشة الخاصة بالعائلة وأشعلتُ التلفاز لأتابع آخر أخبار الحرب على الحدود...الحمد لله لقد توقف تبادل إطلاق النار...أغلقته مطمئناً وذهبت إلى غرفتي لأخلدَ للنوم بعد يومٍ وليلةٍ مُرهقتين...

~~~~~~~~~~~~~

في مدينة أخرى جانبية تبعد عن الحدود كيلومترات قليلة...
وتحديداً في مرآب شركته الفخمة حيث غرفة التجمع السرية، يلقي هاتفه عاصفا بمن امامه دون تصديق صارخاً:

"كيف؟! كيف؟!...هلّا أخبرتماني؟!"


ابتلع أحدهما ريقه يتحاشى نظرات الثائر مقابلاً له وأجاب بصوتٍ أجش:

" لا نعلم سيد (سليم)...هذا ما وَصَلَنا حاليّاً"


وثبَ من مكانه كأسدٍ هائجٍ وأشار بسبابتهِ هاتفاً بصرامة:

" لا اريد رؤية وجهيكما قبل أن تأتياني بخبرٍ مؤكد!!"


ألقيا التحية وانصرفا بعجلةٍ تفاديّاً من إعصاره....

~~~~~~~~~~~~~

قصرٌ كبيرٌ بطلائه الأبيض ونوافذه المأخوذة من الطراز المغربي في العاصمة التي لا تفرّق ليلها عن نهارها بأنوارها الصاخبة وحركة شوارعها الحيّة...يجلس على كرسيه الجلديّ الفاخر في مكتبه المؤثّث بأفخم المتاع الذي سلب ثمنه من خزائن الدولة...يسند رأسه للخلف ..يمسك هاتفه مقهقهاً يجري مكالمة لبلادٍ خارجيّة يبشّره بآخر المستجدات:

"لقد تمّ الأمر بنجاح صهري...نريد الحلوان"

أنهى محادثته بعد دقائق زافراً أنفاس ألنصر هامساً لنفسه بصوته الغليظ:
"وأخيراً سننعَم بالاستقرار..."

~~~~~~~~~~~~~

خارج الوطن في بلادٍ يفصلها عنا أميال وأميال من مياه البحر، مدينة كبيرة تجمع أناس من شتّى بقاع الأرض ...لوهلةٍ تظنّها العاصمة من كثرة الإقبال عليها وأهميتها الاقتصادية الحيوية لهذه الدولة لوقوعها على البحر...يتطرفها مخيمات للاجئين من مختلف الجنسيات ...منهم من طُرِد ومنهم من هرَبَ للنجاة من الاعتداءات الغاشمة على بلدانهم ومساكنهم...
يتوسط هذه المدينة أحياء خاصة للأغنياء مكتظة بالقصور والبيوت الحديثة...ومن بينهم قصرٌ ضخمٌ بطابعه الهندي، محاط بالأسوار الشاهقة المزروعة بآلات المراقبة الأمنية.
أَسواره الغرور...أساسه الخيانة....جدرانه النفاق.. طلاؤه دماء الأبرياء....
يقطنه وزير سابق لبلادنا يدعى (عاصي رضا) الذي استقرّ به منذ ثمانية أعوام بعد أن رحل من موطنه...
قصره أشبه ببيتِ العنكبوت...هشّ، ضعيف، برباطٍ غير متين

{وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ}

يعيش معه ابنته الوحيدة المدللة (ألمى) ذات الثمانية أعوام وزوجته الثانية (سوزي) معها ابنها (كرم) ذو العشرة أعوام من زوجها الأول، والسيدة(فاتن)شقيقة زوجته الأولى المتوفاة منذ خمس سنوات.

تتفتل في القصر بخفةٍ كالفراشة... تتدلل على خالتها تارةً والمربيّة تارةً أخرى...فغداً عطلة نهاية الأسبوع ويمكنها فعل ما تشاء...

" خالتي...خالتي...ألن تشاهدي معي كرتون(سالي)؟!"

هتفت (ألمى) بصوتها العذب الطفولي...

فردت عليها خالتها (فاتن)بنبرة استياء مصطنعة:

"اوه صغيرتي...لو علمت أنك ستلتصقين بي كالعلقة لأشاهده معك يومياً لما أخبرتك بذلك."

عبست بدلال لتستعطف خالتها وهمست بمكر:

" يكفي أن أبي لم يوافق على تسميتي باسمها مثلما أرادت أمي...على الأقل لأستمتع بمشاهدته...لا أدري من أين حصل على اسمي هذا؟!"

ضحكت المربية وقالت بحنان:

"اسمك جميل بنيتي ومعناه رائع...فأنتِ فعلاً أتيتِ كالروح لهذا البيت"

قطبت حاجبيها وزمّت شفتيها بامتعاض وقالت:

" ما فائدته إذا كان معناه (الروح) وهو ليس باسمٍ عربيٍّ؟!...نحن لسنا إسبان ليسميني به."

تبسمت خالتها وأردفت:

" توعّك والدك يوماً وهو في إسبانيا ورقد أياماً بالمشفى وأشرفت على علاجه طبيبة تدعى ألمى وكانت والدتك حاملاً بكِ فوعدها بتسمية ابنته باسمها امتناناً لها."

تأففت ثم سرعان ما تحوّلت ملامحها للمرح...فهي هكذا لا تستطيع العبوس أكثر ...هذا ليس من طبعها ...قلبها نقيّ مسامح ...رغم ما عانته وتعانيه....

اقتربت من خالتها تمسك يدها تهمس برجاء:

"هيا خالتي أرجوك لنشاهده معاً"

هزّت رأسها محوقلة بهمسات دافئة مبتسمة وقامت من مكانها تضع القرص المدمج في الجهاز، منصاعة لصغيرتها لتشاهد مسلسلها المفضل للمرة المئة بعد الألف من وقت معرفتها أنّ أمها كانت ستسميها بـ (سالي) لشدة الشبه بينهما...
أطفأن النور في غرفة الجلسات العائلية ثلاثتهن ليبدأ العرض على الشاشة بعد أن شرّطت عليها لتكون حلقة واحدة فقط لأن الوقت قاربَ على منتصف الليل....
×
×
×
تململت في فراشها وفتحت عيناها النجلاء تتمطّى بنعومةٍ في صباح عطلتها وفجأة تذكرت وعد أبيها لها باصطحابها إلى مدينة الألعاب في هذا اليوم....
فزّت بسرعةٍ تدخل الحمام تغسّل وجهها وتنظف أسنانها ثمّ بدّلت منامتها لملابس الخروج...اعتادت على الاهتمام بنفسها وكأنّها فتاة بالغة رغمَ براءتها وصغر سنّها...حملت مشطها وركضت متجهة لغرفة خالتها لتسرّح لها شعرها الذي لا تستطيع هي جمعهُ بنفسها من طوله وكثافته.... وما إن انتهت من تسريحه اندفعت خارجة على صوت من تركتها خلفها مبتسمة لتصرفاتها:

" هيــه ألمى خذي مشطك..."


"لاحقاً خالتي لاحقاً"


نظرت للمشط بيدها وتمتمت بقلقٍ على ابنة شقيقتها:

" آه إلى أين ستصلين باندفاعك هذا عزيزتي؟!"


هبطت درجات السلّم برشاقتها متجهة إلى مكتبه في الأسفل وفتحت الباب تطلّ برأسها إلى الداخل تهتف بدلال:

"صباح الخير يا أجمل...."

اخفضت عينيها دون أن تكمل جملتها عندما رأت كرسيه فارغاً ولا أثر لحقيبته...عادت أدراجها تنكس رأسها بحزنٍ بعد أن اختفى حماسها... تخطو ببطء...تنظر إلى نقشات الأرض الرخاميّة الذهبيّة شاردة ...تريد إجابات لأسئلتها المبعثرة في دماغها...لِمَ دائماً العمل في سلّم أولوياته؟! لِمَ يعتقد أن الهدايا تسدّ عن غيابه؟! لِمَ هي كالغصن المقطوع من شجرة لا أقارب لها ولا أصدقاء ولا أخوة؟!...حتى زميلاتها لا يسمح بتبادل الزيارات بينهن...لِمَ ولِمَ ولا إجابات!!!

رفعت رأسها تسترق السمع بعد أن قطع تساؤلاتها صوت يأتي من الخارج في حديقة القصر...

خرجت بحذر تمسك فستانها كي لا يلامس الأرض ...وقع نظرها على ابنتيّ احدى العاملات في القصر تلهوان سويّاً...تفتحت أساريرها مبتهجة وانطلقت نحوهما كأنهما سقطتا من السماء هذه اللحظة لتجد من تلعب معه!!
جحظت أعينهما وهي تقترب منهما من فخامة لباسها مثل أميرة من أميرات ديزني الخاصة بأفلام الكرتون، فهمست برقةٍ تليق بجمالها وأناقتها:

" هل تسمحان لي باللعب معكما؟"

حدّجتا بها باستغراب...يا الله كيف لهذه الأميرة أن تكون بهذا التواضع ؟ لا وبل تستأذن منهما وهي سيدة القصر...لم تُمهلانها طويلاً فردّتا معاً:

"بالتأكيد"

تبادلن الأسماء وأخذن باللعبِ بسرور ومضى وقت لا بأس به حتى قتلت هذه اللحظات السعيدة من تقف تضع يدها على خصرها كالساحرة الشريرة في الحكايات ترميها بنظرات شزراً صارخة:

"ألمـــــــى...ماذا تفعلين هنا مع الخادمات؟!"


ابتلعت ريقها وأجابت بصوتٍ مرتبك هادئ:

"ألعب معهما خالة سوزي"


"من سمح لك بذلك؟! أنسيتِ أنك ابنة عاصي رضا ؟!"


صُهِرَ قلبيهما بعد أن رمتهما بحممٍ بركانية بتنمرٍ وعنصرية وولّتا مدبرتان إلى والدتهما، أمّا (ألمى) التي اشتعلت غيظاً من زوجة أبيها هتفت بقوةٍ لا تدرك من أين أتتها او ربما كرهها للظلم واحتياجها للأصدقاء ألهمها على ذلك:

" غنى وجنى صديقتاي في القصر وسألعب معهما"


" لا أصدقاء لكِ...أدخلي العبي في غرفتك"


صرخت بعناد:

"كلا...أريد أن العب معهما"


انقضّت عليها كالثور المصاب بصرع ...تمسكها من ذراعها وتسحبها بفظاظة إلى الداخل مستغلّة اعتصام خالتها هذه الأوقات في غرفتها وصرخت بها:

"أيتها الوقحة تعاندينني أنا؟!...سأخبر والدك بذلك"


" لا...لا...أنا آسفة...أرجوكِ لا تخبريه."

قالت جملتها تعلن استسلامها لظلم (سوزي) زوجة أبيها الامرأة الخبيثة الحقودة ...فهي متوسطة الجمال الذي معظمه من المساحيق وعمليات التجميل...تغار من (ألمى) لجمالها الذي ورثته عن أمها ولاهتمام (عاصي رضا) بها فإنها خط أحمر لا يسمح لأحد بتجاوزه...تتربع على عرش قلبه...يفعل المستحيل لحمايتها....
كانت تلك تستغل انشغاله بأعماله ...تهددها وتخوّفها مدّعية بأن والدها سيطرد خالتها (فاتن) إذا علم بتصرفاتها هذه معها...

خالتها(فاتن) هي الحضن الدافئ والنور لظلامها هي نقطة ضعفها...كرّست حياتها للاهتمام بشقيقتها ومن ثمّ بابنتها...ليست جميلة الشكل لكن صفاء روحها وتواضعها وحكمتها تترك اثراً جميلاً لكل من خالطها....
لم تخبر ولا تحدّث أحداً بمعاملة زوجة أبيها لها خوفاً من فقدان خالتها...فهي لا تستطيع المجازفة بها لو كلّفها حياتها لأنها هي الأمل بحياتها مع أنها فتاة شفافة صادقة لا تكتم شيئاً في داخلها....
لقد تزوج (عاصي رضا) بعد وفاة زوجته مباشرةً حيث كان يرسم لذلك سابقاً رغم حبه وعشقه للأولى...لكن الجشع فاق كل المعايير، فـ(سوزي) هي ابنة أحد أبرز أصحاب المناصب الكبيرة الذين يخدمون مصالِحه...

دخلت (ألمى) غرفتها مكسورة الخاطر بعد شجارها مع زوجة أبيها وحرمانها من اللحظات التي أسعدتها...تنقمُ على حياتها...تشعرُ أنها انسانة مبرمجة لتعليمات الآخرين...تفكرُ بقريناتها في المدرسة كيف ينعمن بكامل الحرية...لو كان الأمر بيدها لبدّلت ثروتها بصديقةٍ تحبها....
تراكمت الهموم عليها فأجهشت بالبكاء...

طرقات متتالية على الباب حاولت اخفاءها بصمّ أذنيها تحت مخدتها لا تريد رؤية أحد هذه الساعة...فليتركوها وشأنها...ألا يحق لها حتى في غرفتها أخذ حريتها من دون برمجتهم اللعينة؟!...هل تذهب الى المريخ ليرتاحوا منها ؟! ...لكن يبدو من على الباب يصرّ... ولمّا لم يسمع ردّها دفعه مصمماً لإغاظتها وهذا أكثر ما يغذي أنانيته كوالدته الأفعى...
اقترب منها يلوح بيده التي تحمل اللعبة وهتف باستفزاز:

"انظري ماذا جلبت لي أمي"

رفعت عينيها المحتقنة بالدموع تنظر بألمٍ وحزنٍ ليس لأنها تريد لعبة فغرفتها مرصوصة بالألعاب ...بل لشدة احتياجها لحضن يحميها دون تردد لأم تقاتل العالم من أجلها... أشاحت وجهها عنه بكبرياء ...لا تريد أن ينال مبتغاه...امّا هو كان مصرّاً فأردف ساخراً:

" أمي تحبني وتفعل لي ما أريد وترافقني حيثُ أشاء..."

أطلق ضحكاته يحرك حاجبيه باستفزاز وأضاف:

" أما أنتِ والدك مشغول دائماً ولا يهتم بكِ...كنتِ بالأمس تتبجحين علينا بذهابك إلى مدينة الملاهي...مسكينة ألمى..."

حسناً هي لا تستطيع مواجهة والدته الأفعى لكن هذا الغليظ لن يمنعها عنه أحد...حسمت قرارها بعد أن لم تعد تتمالك نفسها وانقضّت على لعبته المتباهي بها وألقتها بعرض الحائط تكسرها...نظر لأشلاء لعبته مصدوماً ونفخ أوداجه ومد ذراعيه يشدّها من شعرها بغلٍّ وهي تحاول عضّه بأسنانها وتغرز أظافرها بيديه صارخة:

" اتركــــني...اتركـــني"



"كـــــــرم!!"

صرخت خالتها به بعد أن دخلت تتفحص مصدر الأصوات بالقرب من غرفتها...حاولت فضّ نزاعهما وأردفت بنبرة حادة:

"ماذا تفعل في غرفتها ؟!...أخرج ولا أريد رؤيتك هنا مرةً أخرى"


تقف بخبثٍ على الباب تشاهد بصمت حتى تختار اللحظة المناسبة لتتدخل ثم صاحت بحقد:

"ابني يدخل أينما يشاء...هذا قصر والدته وأنتِ دخيلة هنا"


"سأترك لك القصر الكئيب لتشبعي به...لقد سئمت منكم"


"خذيني خالتي أرجوكِ...لا أريد البقاء من دونك"

هتفت (ألمى) بتوسل بعد أن سمعت قرار خالتها(فاتن)

خطَت ببطء اتجاهها وابتسامتها لا تفارق مُحيَّاها ...جثت أمامها القرفصاء تضم كفيها الصغيران بقبضتيها وهمست بصوتٍ حنون:

" عزيزتي ألمى هذا بيتك ...أنت تبقين أينما يتواجد والدك"

لمعت عيناها وقالت بعتاب:

"أين هو أبي؟ أنا لا أراه!! يأتي متأخراً ويذهب باكراً...أرجوكِ خذيني"


" أعدك سآتي لزيارتك والمربية (سهيلة) ستهتم بكِ...اطمئني"

اخفضت رأسها الى الأسفل خضوعاً واستسلاماً ورفعت كفها الصغير تمسح دمعة انزلقت من عينها ثم اولتهم ظهرها وارتمت بجسدها النحيل على فراشها تدثر نفسها به وتتمتم بحسرةٍ مخنوقة:

"اذهبي خالتي...أنا اعلم لا أحد يحبني"


"لا يا صغيرتي...أنا احبك ووالدك يحبك وكذلك الخالة سهيلة تحبك ...ألا نكفي؟!"

همست لها برقةٍ ودنت منها تقبّلها وقالت بحماس لتغير مزاجها:

"هيا الحقي بي الى غرفتي سأعطيك شيئاً كنتُ أخبئه لكِ ريثما تكبرين...لكنني قررت اعطاءه لك الآن..."

قفزت (ألمى) متناسية آلامها كعادتها ,خاصة بعد أن غلبها فضولها وهتفت متحمسة:

"ماذا ستعطيني؟"

ابتسمت لبراءتها وأجابت:

" قلت الحقي بي وستعرفين"

ثم سبقتها تمرّ من جانب (سوزي) تخرج من الباب ترمقها باشمئزاز...

~~~~~~~~~~~~~~~

بعد أن أنهى عمله في شركته توجّه مجدداً الى الغرفة السرية بمرآبها ...ينتظر دحض الخبر من رجليّه اللذين لم يعودا منذ البارحة....
رفع هاتفه يجري اتصالاً سريعاً للمقر على الحدود لكن لا إشارة بسبب تشويشات بالخطوط الأرضية بعد ان تعرضت تلك المنطقة لعدة غارات أدت الى تلفها...
زفرَ أنفاسه المحبوسة طوال اليوم ماسكاً صدغيّه بكفيْه متمتماً بصوته الجهوري:

" يا رب ألّا يكون هذا صحيحاً يا صديقي..."

كان في هذه الغرفة أريكة جانبية قصَدَ الاستلقاء عليها ينتظر مجيء رسوليّه بالخبر اليقين...
غطّ بنومٍ عميقٍ دون إدراك لساعتين بعد أن جافاه ليومين كاملين...

استيقظ على حركة مقبض الباب ففزّ من مكانه بجسده الضخم واتجّه لفتحه بلهفةٍ...
ارتخت اطرافه عنوةً وجرّ قدميه يرتمي مجدداً على اريكته هروباً مما سيسمع بعد أن رأى ثلاثة وجوه شاحبه لا تبشّر في الخير...القى الرجل الثالث الذي رافقهما ليعطيه الحقيقة الصادمة بنفسه وهو من أصدقاء الثوار ومساعدهم على الصعيد الإعلامي والمعنوي دون الخوض بالمعارك:

" البقاء لله اخي (سليم)...إنا لله وإنا إليه راجعون"

امتقع وجهه وابتلع ريقه وبالكاد أخرج صوته بتحشرج يردّ:

"نسأل الله أن يخلفنا خيراً منه"

~~~~~~~~~~~~

غزلت لنا الأيام اسبوعاً كاملاً بعد ولادة شقيقي(شادي) منتظرين قدوم والدي من الحدود بفارغ الصبر...
كان آخر ما وصلنا منذ يومين أن الوضع مستقر في تلك الجهة الغربية على الحدود ولا مناوشات من الخصميْن مما جعلنا نطمئن عليه خصوصاً بعد اعلامنا من السيد (سليم الأسمر) ان انقطاع مكالماته معنا سببه تدمير شبكة الاتصالات الأرضية...
توقُّف إطلاق النار جاء بالتزامن مع توقُّف الامطار الغزيرة التي اغرقت البلاد ...امطار كانون اول...وكأنّهما اتفقا معاً ليعيدا لنا الحياة في مدينتنا الجبلية الخضراء بأشجارها معلنان عن افتتاح مدارسنا بعد اغلاق دام اسبوعين كاملين بفعل الحرب والطقس...
في هذا اليوم بالذات لم يزرني النوم بعد صلاة الفجر من شدة حماسي...ليس فقط لاشتياقي لمقاعد الدراسة ولقاء أصدقائي...إنما لخروجي للحريّة بعد ان كنتُ حبيس البيت وضقت ذرعاً بين حكايات النساء وبكاء شقيقي ودلال شقيقتي المفرط ودون ممارسة أيّ من هواياتي في الخارج...
استعددت مرتديّاً زيّ المدرسة الرسمي الخاص بالثانوية , أمّا الكسولة (دنيا) كانت خالتي تسّرح لها شعرها الترابي المموج وهي مسترسلة بنومها...
حملتُ لها حقيبتها وسحبتها من يدها لأوصلها لمدرستها في طريقي بعد أن تعذّر على سائقنا الخاص الحضور لظرف صحي...

"هيـــه هادي..."

التفتُّ إلى يساري بعد خروجي من البوابة الحديدية الضخمة الخاصة ببيتنا شبيه القلعة عند سماعي صفير ومناداة لاسمي...فكانا (سامي وأحمد) ينتظراني ليرافقاني للمدرسة...

"صباح الخير...ما هذا النشاط؟!"

القيتُ تحيّة الصباح متفاجئاً لوجودهما في هذا الوقت المبكر لأنهما آخر من يدخلان المدرسة بسبب كسلهما ولا مبالاتهما...

ضحك سامي وأشار نحوي هاتفاً:

"انتبه ستقع شقيقتك وهي تغفو متكئة على يدك"

احنيتُ رأسي فوجدتها متشبثة بكفي وتركنُ وجنتها عليه مستمرة بنومها...
ابتسمت ومسّدت وجنتها هامساً:

"دنيا أفيقي..."

اقترب (سامي) بمكرٍ يجثو أمامها ويهزّها على غفلةٍ لتجفل شاهقة وكأنّ دلو ماء بارد أريق عليها وسط قهقهاتهما فزجرت به مؤنباً:

" ماذا فعلت أيها الغليظ؟!...كدت توقف قلبها؟؟"

قال مستنكراً بتهكم ضاحكاً:

"تلك المدللـه يتوقف قلبها؟؟؟!!"

تشبثت أكثر بساقي ترمقه بنظراتٍ ناريةٍ من عينيها العسليّتين وتخرج لسانها بحقدٍ طفوليٍّ فاستقام بوقفته يمطّ ذراعيه للأعلى مضيفاً على تهكمه:

"هيه أنتما الاثنان ألا تتحملان مزاحاً؟!"

ونظر إلى (أحمد) مشيراً بسخريةٍ مصطنعة يتابع عرضه:

"أعان الله من سيتزوج بشقيقته فلسانها طويل ستنغّص عليه عيشته, هذا إن لم يغَلّفها بعبوةٍ من شدة حرصه عليها ويحتفظ بها كالخيار المخلل في أحد أرفف مطبخهم العريق..."

تفحّصت ساعة يدي وضربته بقبضتي على كتفه آمراً بجديّة:

"كفاك ثرثرة...هيا سنتأخر بسببكما"


(سامي) هو أعزّ صديق وتوأمي الروحي رغمَ اختلاف شخصياتنا الظاهر للعيان...
أنا أتّسمُ بالجدّ أسير على خطٍ ثابتٍ وهو بشخصية متقلبة حسب الظروف المحيطة به, أوقات يخيّل لنا أنه يعمل مهرّجاً على مسرح وتارةً يكون بمئة رجل وكأنه ضابطاً بالشرطة...

في اليوم الثاني من المدرسة دقّت عـ قا رب الساعة السابعة صباحاً ودقَّ معها باب البيت بقوةٍ لِتدقّ قلوبنا أملاً بقدوم الغائب أبي وعودته سالماً لنا...
كنتُ أنا الأسرع بينهم من شدة شوقي ولهفتي له, أريد معانقته واخباره عن كل شيء حصل معنا منذ غيابه...
فالعلاقة التي تجمعنا ليست مجرد أب وابنه...نحن كالأشقاء والأصدقاء وأكثر...

فتحتُ الباب وقبضت به جيداً من قوة اهتزازه وجميعهم خلفي...رياح عاتيّة تصطدم بأجسادنا...تلفح وجوهنا...ترفرف ملابسنا...تحاول اقتلاع جذورنا...
وقفنا مذهولين كأنّ على رؤوسنا الطير...أصنام بلا روح...قلب بلا نبضات لرؤية من يقف أمامنا...

فأدركت أنني أصبحتُ رجلاً...


**********( انتهى الفصل الأول )**********

قصص من وحي الاعضاء 07-10-21 09:54 AM




اهلاً وسهلاً بك بيننا في منتدى قصص من وحي الأعضاء ان شاء الله تجدين مايرضيك موفقة بإذن الله تعالى ...


للضرورة ارجو منكِ التفضل هنا لمعرفة قوانين المنتدى والتقيد بها
https://www.rewity.com/forum/t285382.html

كما ارجو منك التنبيه عندما تقومين بتنزيل الفصول على هذا الرابط
https://www.rewity.com/forum/t313401.html

رابط لطرح اي استفسار او ملاحظات لديك
https://www.rewity.com/forum/t6466.html


حجم الغلاف رجاءً يكون بمقاس 610 × 790



نرجو الالتزام بحجم الفصل المطلوب ضمن القوانين
15 صفحة ورد بحجم خط 18




واي موضوع له علاقة بروايتك يمكنك ارسال رسالة خاصة لاحدى المشرفات ...

(rontii ، um soso ، كاردينيا الغوازي, rola2065 ، رغيدا ، **منى لطيفي (نصر الدين )** ، ebti )



اشراف وحي الاعضاء



ألحان الربيع 07-10-21 08:28 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة قصص من وحي الاعضاء (المشاركة 15703797)



اهلاً وسهلاً بك بيننا في منتدى قصص من وحي الأعضاء ان شاء الله تجدين مايرضيك موفقة بإذن الله تعالى ...


للضرورة ارجو منكِ التفضل هنا لمعرفة قوانين المنتدى والتقيد بها
https://www.rewity.com/forum/t285382.html

كما ارجو منك التنبيه عندما تقومين بتنزيل الفصول على هذا الرابط
https://www.rewity.com/forum/t313401.html

رابط لطرح اي استفسار او ملاحظات لديك
https://www.rewity.com/forum/t6466.html


حجم الغلاف رجاءً يكون بمقاس 610 × 790



نرجو الالتزام بحجم الفصل المطلوب ضمن القوانين
15 صفحة ورد بحجم خط 18




واي موضوع له علاقة بروايتك يمكنك ارسال رسالة خاصة لاحدى المشرفات ...

(rontii ، um soso ، كاردينيا الغوازي, rola2065 ، رغيدا ، **منى لطيفي (نصر الدين )** ، ebti )



اشراف وحي الاعضاء




شكرا لكم .....الفصل جاهز حسب القوانين :thanks:

لكن اواجه مشكلة في وضع الغلاف والصور

shezo 08-10-21 11:07 PM

مرحبا.مبارك عزيزتي نزول روايتك الأولى
اخترت موضوع صعب كأول رواية لك ولكنك تبلين بلاءا حسنا.
حيث انك تناولت الكثير من الموضوعات والأشخاص والأماكن
تفاوتت فيها خلقيات الاشخاص وتوجهاتهم بين وطني يقاوم
وبين خانع باع وقبض الثمن ويحيا بالقصور.
تناولت طبيعة الاشخاص خاصة وهم صغار فتكون رودود فعلهم فطرية صادقة
كأهل بيت هادى ومنه إلي قصر عاصي والذى رغم ضلاله إلا ان به بشرا أيضا
اطفالا تتفاوت طبيعتهم واحلامهم بصرف النظر عن الكبار وشرور بعضهم.
والطيب دائما لا يجد له مكانا فينسحب مثل فاتن خالة ألمي.
اذ ما كان لها ان تذهب وتترك ابنة شقيقتها لزوجة أبيها الكارهة
فقد انتصرت لكرامتها بمغادرة القصر ولكنها هزمت أمان ألمي
ومنهم من غادر بكرامة واظنه غادر الدنيا كلها وهو والد هادى.
فالطفل لا يتحول رجلا إلا بموت أبيه هذا ما اعتقده.
بعالم تشرد فيه الحروب اشخاصا وتتيه اوطانا
وصرنا نسمع كلمة لاجئ عادى كصنف آخر من البشر
ولكن بلا امان بلا وطن بتسول ارضا أخرى تأويه غير احضان ودفء الوطن
مبارك لك ثانية الرواية واتمني لك التوفيق والنجاح وبدايتك مبشرة بالخير
بالقدرة علي التعامل مع عديد كبير من الأبطال واحداث متباينة
بلغة رصينة وحبكة جيدة واسلوب جذاب
دمتي بكل الخير والتوفيق من الله

ألحان الربيع 09-10-21 03:20 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة shezo (المشاركة 15705771)
مرحبا.مبارك عزيزتي نزول روايتك الأولى
اخترت موضوع صعب كأول رواية لك ولكنك تبلين بلاءا حسنا.
حيث انك تناولت الكثير من الموضوعات والأشخاص والأماكن
تفاوتت فيها خلقيات الاشخاص وتوجهاتهم بين وطني يقاوم
وبين خانع باع وقبض الثمن ويحيا بالقصور.
تناولت طبيعة الاشخاص خاصة وهم صغار فتكون رودود فعلهم فطرية صادقة
كأهل بيت هادى ومنه إلي قصر عاصي والذى رغم ضلاله إلا ان به بشرا أيضا
اطفالا تتفاوت طبيعتهم واحلامهم بصرف النظر عن الكبار وشرور بعضهم.
والطيب دائما لا يجد له مكانا فينسحب مثل فاتن خالة ألمي.
اذ ما كان لها ان تذهب وتترك ابنة شقيقتها لزوجة أبيها الكارهة
فقد انتصرت لكرامتها بمغادرة القصر ولكنها هزمت أمان ألمي
ومنهم من غادر بكرامة واظنه غادر الدنيا كلها وهو والد هادى.
فالطفل لا يتحول رجلا إلا بموت أبيه هذا ما اعتقده.
بعالم تشرد فيه الحروب اشخاصا وتتيه اوطانا
وصرنا نسمع كلمة لاجئ عادى كصنف آخر من البشر
ولكن بلا امان بلا وطن بتسول ارضا أخرى تأويه غير احضان ودفء الوطن
مبارك لك ثانية الرواية واتمني لك التوفيق والنجاح وبدايتك مبشرة بالخير
بالقدرة علي التعامل مع عديد كبير من الأبطال واحداث متباينة
بلغة رصينة وحبكة جيدة واسلوب جذاب
دمتي بكل الخير والتوفيق من الله

:29-1-rewity:
بارك الله فيكِ على هذا الرد الداعم معنوياً....اسعدتني كلماتك حقيقةً....أتمنى ان اكون عند حسن ظنكم


أما بالنسبة للرواية ...هما بطلان رئيسيان هادي و ألمى ويتبعهما أبطال ثانويين على رأسهم جانب الشر عاصي رضا والآخرون مثل سليم الأسمر وفاتن وغيرهم الذين لهم دور فيها وسيظهرون تدريجياً حسب الاحداث...


شكرا لمرورك :thanks:

ألحان الربيع 09-10-21 04:02 AM

الفصل الثاني ((الهجرة))


"أبي..."

"أبــي!!!"

ضاعت الكلمات بين ثلاثة حروف...لرؤية من يقف أمامنا...
نعم أنها هي حبيبته...هل يمكن أن أخطِئُها ؟!.... مستحيــــل.......هي بذاتها بالحروف المطرّزة عليها.... مشتقّه من أسماءنا (عائشة وهادي ودنيا)....بعد أن وُلدت شقيقتي جعل أمي تطرّز حروفنا تجمعها بكلمة (عهد)..
ابتلعت ريقي أحاول استيعاب المشهد...حدّقت بالواقف أمامي....رجل غريب في ريعان شبابه....ماذا تفعل بندقية أبي معه؟؟!!....وقع نظري على يده الأخرى....إنه مصحفه!!.....المصحف الذي لا يفارقه بمعاركه!!.....كان يضعه بالجيب الداخلي لسترته قرب قلبه , غلافه من المخمل الأخضر....
جحظت عيناي بعد أن لمحتُ لوناً أحمراً يدمغ على زاويته....
تعاقبت أنفاسي....أصابني الوجوم....اختلج شيئاً في صدري......


مـ مـ ما هذا ؟" "

كان صوت جدتي المخنوق الذي دفعني من الخلف بقوةٍ لأجتثّ السلاح والمصحف منه صارخاً:

"أين أبـــــي؟!....أجبنـــي!....هل هو آتي؟"

لم انتظر ردّه وانطلقت متخبطاً بخطواتي للخارج كغزالٍ صغيرٍ تائهٍ عن أمه...أبحث في حدقتيّ علّني أقتنص إشارة ترشدني إليه أو أشتم عطره الذي يسبقه ليطمئنَني على قدومه.....
هدأت الرياح التي اصطحبها معه مخلّفة فراغاً قاتلاً....

عدت أجرّ أقدامي...مسكت تلابيبه بقبضةٍ واحدةٍ...أكاد أنهار متوسلاً:

"أرجوك...أخبرنا أين أبي؟"

أسدل جفنيه يحاول إخفاء نظراته ثم أجابني بانكسار متلعثماً:

"السيد...السيد محيي الدين...استشهد....البقاء لله"

هل هو زلزال من تحتنا؟ أم انفجار بركاني يحرقنا؟! أم أطبقت
السماء على الأرض؟!
هي صرخات من خلفي اخترقت جدران البيت أحدثت اهتزازاً في المكان ....

ذهب عامود بيتنا ...رحلَ مصدر أماننا...كيف السبيل الى السعادة من بعده ؟.... آخر ليلة معنا قبل اسبوعين شدّد من احتضاننا...كان يمسّد على بطن أمي ويداعب أخي في جوف رحمها يسأله متى سينير حياتنا ....كم كان متحمساً للقائه !!...أما المدللة (دنيا) خرج ليشتري لها الحلويات والوقت متأخر والأمطار غزيرة ولم يبالي فتلك هي دنياه..... لا يناديها الا دنيانا ....أذكر مررت عنه في غرفة المعيشة كان يجهز بندقيته ويلمعها وكأنّها عروساً يوم زفافها ...ناداني وأجلسني جانبه....وضعها في حضني وقال

// هذه البندقية هي شرفنا فحافظ عليها من بعدي , قيمتها ترتفع عند استعمالها ضد الظلم... ولنصرة الحق, الدين, الوطن.. ولا قيمة لها اذا رفعتها بوجه ضعيف، أعزل، مظلوم، امرأة، عجوز وكل من يحمل في قلبه شرع الله \\

كانت عيناه تلمعان تحكيا حكاية بطل ,حكاية حب الوطن ,حكاية تسطّر الطريق لنصرة الحق والدين....هل يا ترى كان يشعر بدنوّ أجله؟؟!!....آااه يا أبي ...لو كنت أعلم بفراقنا الأبدي لقضيت تلك الليلة أنعم بأحضانك واتنفس أنفاسك ...لأخبرتك في كل ثانية كم أحبك وسأبقى احبك الى آخر نبضة في فؤادي...
~~~~~~~~~~~~~~

في بلاد الخارج تجلس بأريحية على الأريكة تضع ساقاً فوق الآخر ...تحتسي قهوتها مستمتعة...فهي بأقرب مكان لقلبها.... ببيت صديقتها (ايمان) التي تعرّفت عليها قبل أربع سنوات في مؤتمر يختص بشؤون المهاجرين واللاجئين ونشأت بينهما علاقة وطيدة...كانت من المهاجرين المقيمين في كندا وانتقلت الى تلك الدولة منذ عشر سنوات....لقد عوضها الله بشقيقة لم تلدها أمها بعد ان فقدت اختها (كريمة) والدة (ألمى)....


"كيف استطعتِ ترك ألمى؟"

سألت (ايمان) بتعجب فهي أكثر من تعلم ماذا تعني ابنة شقيقتها لها...ولن تتركها ولو على قطع رأسها!!

وضعت فنجانها الفارغ على الطاولة برقةٍ وأسندت ظهرها للوراء...تنهدت وقالت بثقة مستنكرة:

"أتظنين أنني اتركها بالفعل؟؟"

نظرت إليها بتساؤل تنتظر أن تفسر لها....فمدّت يدها تربّت على ساقها وتابعت:

"أريد أن أعاقب تلك الشمطاء عن طريق زوجها...فرغم بغضي له إلا أنني أدرك انه لن يتخلى عني"

تبسمت بسخرية وأضافت:

"ليس محبة لي طبعاً إنما للاهتمام بابنته فهو يرى مدى تعلّقها بي وهذا يخفف من حمله ...وأيضا لا يسمح لتلك بالاعتناء بها"


"كيف سيعاقبها ؟"

سألت بفضول...


"عندما يفتقدني ويعرف عن رحيلي بسببها وبالطبع سيرى أميرته منهارة سيخرج شياطينه عليها"
اجابت بمكر وضحكت تتخيّل انفجاره عليها فكم من مواقف شاهدته يعنّفها إذا مسّت أحد خطوطه الحمراء وكيف ان كانت مدللته (ألمى)...

تابعت (ايمان) بتحقيقها تظن أنها بمقابلة لكتابة مقال مع احدى الشخصيات الشهيرة:

“والآن ما هي خطتك؟؟"

ردت ببرود وثبات:

"انتظري ...قبل حلول المساء سيكون هنا معتذراً لعودتي من اجل ابنته"


"ويحــك"

هتفت باستنكار وأردفت:

"لا اظن انه سيأتي بنفسه فنحن نتكلم بالنهاية عن عاصي رضا المغرور المتعجرف"

صمتت لبرهة ثم أكملت:

"بالتأكيد سيرسل السائق"


"لننتظر ونرى"

قالت(فاتن)باختصار...


"اذاً لنرى"

أكّدت (ايمان) بتحدّي...

~~~~~~~~~~~~~

تناثرت الملفات أمامه بعد أن عصف بها غضباً....لا يصدق!!
قبل أيام قليلة أخبره عن إتمام الأمر بنجاح ويريد الحلوان!! ....ماذا تغير؟؟
هل كل مخططاتهم أصبحت هباءً منثورا؟!!....لقد سعى جاهدا ليزيل العقبات من طريقه حتى يصل لهدفه....شعرة واحده تفصله لتحقيق حلمه ...نهض عن كرسيه الضخم يضع يديه على خصريه ....صفع جبينه بقهر ...آخر مهماته كانت الأصعب!!....جازف وخاطر بها ....أنفق أموالاً طائلة لإنجازها......ليتلقى في النهاية اتصالاً آخراً من والد زوجته في عاصمة الوطن وهو رئيس الوزراء يخبره عن انفكاك الحكومة بعد انقلاب جنود الدولة عليها لتشتعل الحرب مجددا في مثلث زواياه ,الثوار ,الجنود وحلفاء الحكومة الحالية..!

مرّت ساعتان دون أن يبرح مكتبه....يحاول جمع شتاته...عليه العمل على ما تبقى من أمل....يهاتف هذا وذاك...يبحث ويخطط....

وبينما هو بمعركته الفكرية علا رنين هاتفه الأرضي...استَلّه دون تردد ليجيب:

" من معي.؟؟ "

"............"
كان هذا والد زوجته الذي عاود الاتصال به لحاجة....

لوّى فمه باشمئزاز فهذه المرة الأولى التي ينعته ببنيّ وتوقع أن يسمع طلباً ثقيلاً بعد هذه المقدمة الزائفة فردّ بنبرة زاجرة:

" نعم!!....ماذا تريد؟؟"

"........."

تعالت ضحكاته غيظاً وأجاب متهكماً:

" هل جننت؟!....بالطبع مستحيل"

"........."

"لا شأن لي بذلك!!......سوف اغلق الآن لديّ مشاكل أهم لأحلّها"

اغلق بوجهه قاطعا اخر رابط هاتفيّ به....

~~~~~~~~~~~
في قصر العنكبوت عاد ( عاصي رضا) بتثاقل عيناه تضيء بالأحمر تنذر وتحذّر من الاقتراب منه ....حتى انه لم ينتبه لعدم وجود أميرته التي تسارع لاستقباله والقاء نفسها في احضانه....صعد الى غرفته ينفث لهباً.....انتبهت زوجته للاشعارات الصادرة منه ....ازدردت ريقها رهبةً ...تسللت بهدوء تنزل تسبقه الى غرفة الطعام تجنّباً منه واستعداداً لتناول العشاء....لحق بها بعد وقت قصير وبدا على وجهه الاسترخاء بعد أن اخذ حماماً دافئاً......تجلس على يمينه زوجته وبجانبها ابنها (كرم) ومقابلاً لهما المربيّة السيدة (سهيلة)....بدأت الخادمة بتقديم اطباق الطعام....كان يتكئ بمرفقيه على الطاولة ويشبك كفيّه ببعضهما....رفع احد حاجبيه باستغراب بعد ان مرّ وقت قليل لوجوده وسأل موجهاً كلامه للخادمة:

"أين ألمى وفاتن؟؟"

ابتلعت ريقها ونظرت للجالسة أمامها والتي كانت تعطيها إشارات للصمت تنهاها عن الكلام.....ولما لم تجب وهمّت بالانصراف لفّ وجهه بتوجس لزوجته يكرر السؤال...حاولت التملّص بإشغال نفسها بسكب الطعام لابنها فصرخ بها :

" أظن أنني أتكلم معك....اجيبيني أين هما ؟؟"

تنحنحت المربيّة وشاركت الحديث مجيبة بهدوء:

"عذراً سيد عاصي.... السيدة الصغيرة ترفض الطعام لحزنها على ترك خالتها للمنزل"


"ماذا؟؟...فاتن تركت المنزل ؟؟....لمَ؟؟"

سأل بنبرة مرتفعة متعجباً وهو يوّزع نظراته بينهم يحاول سلب الإجابات من افواههم...

" نعم سيدي...بعد صراعها هي وألمى مع السيدة سوزي"

أجابت بتردد...


"صراع ؟!...ما السبب؟!"

قالها ولم ينتظر الإجابة من كليهما بعد أن فزّ متوجهاً للأعلى الى غرفة ابنته....


"عزيزتي."


" حلوتي..."


"حبيبتي لوما..."

نادى بها بحنان وهو يطرق الباب بلطف ثم ولج الى الداخل بعد أن سمع صوتها تأذن له بالدخول وجلس على طرف السرير بجانبها أحاط كتفيها بذراعه ...يمسّد على شعرها ويهمس لها:

" ما بك أميرتي حزينة؟؟...أخبريني وسأعاقب من كان السبب"

تربّعت على فراشها تواجهه وكتّفت ذراعيها قاطبة حاجبيها تسأل باستنكار:

"حقا؟....هل ستعاقبها؟؟"



"من هي؟"



أجابت بعبوس منفعلة:

"زوجتك أم كرم "

ضحك لانفعالاتها البريئة ولم يعلّق على اجابتها فهو لم يجبرها يوماً على الارتباط بها وبناء علاقة بينهما لأنها لم تهمه كزوجة ...وان كانت تتعامل معها برقيّ واحترام فذلك يعود الى شخصيتها الطيبة وتربية وتوجيهات خالتها والمربية لها....

سحبها الى حضنه يدفن وجهها بصدره عندما رأى احتقان عينيها بدموع القهر ,همس لها :

" حسنا صغيرتي اهدئي....اخبريني ماذا فعلت لكِ؟"

قصّت عليه الموقف بأكمله في الحديقة....قاطعها ناهراَ بلطف :

" حبيبتي لا يجوز أن تلعبي مع أولئك الخدم....من الممكن أن يضروكِ فبالتأكيد يغارون منك ..."

تنهد وأضاف بتجبّر :

"لا يؤتمن لأي شخص ليس من مستواكِ أميرتي....فجميعهم يسعون لأذيتنا من حقدهم وحسدهم على ما نملك.."

رفعت رأسها تنظر له دون أن تهتم لما قاله وتابعت:

"كانت تهددني دائماً بطردك لخالتي.....والآن فقدتها فيمكنني اخبارك كل شيء"

أخبرته بمعاملتها معها ومنعها من اللعب بغير غرفتها ونعتها بألفاظ بذيئة....كانت تسرد له روايتها ....تشدّ من احتضانه تستغل هذه الدقائق التي يتكرّم بها عليها يختصها وحدها دون ازعاجات خارجية فكم تحتاج لحضن يسندها ,يحتويها يشعرها بأنها ليست وحيدة ...حضن الأب أو الأخ الذي لا يقارن بآخر لأنه يعني القوة والأمان لكن لانشغاله بأموره يبقى احتياجها معلّق في الهواء....هي تتحدث وهو يصكّ على فكيّه ...دماؤه تغلي في عروقه...حاول السيطرة بدايةّ وفي النهاية خرج مسرعاً يهبط السلالم بخطوات كبيرة ...يتجه صوْب طاولة الطعام ...يمسك بذراع(سوزي) غير مكترث لمن حولها ...يضغط عليها بقوةٍ صارخاً:

"كيف تسمحين لنفسك بفعل ذلك لابنتي وأنا حذرتك بعدم التدخل في شؤونها ثم منذ متى يحق لك قرار من يبقى ومن يذهب ؟؟"

أجابت وهي تحافظ على برودها ..ترفع رأسها بغرور:

"أنا سيدة القصر والجميع هنا في غيابك تحت أمري...يبدو أنك نسيت ابنة من أكون.."


سحبت المربية (كرم) معها وتركتهما على انفراد.......


أفلت يدها يصفق كفاً بالآخر ..مطلقاً قهقهات ساخرة ثم استقام في وقفته وقال متهكماً:

"كنتِ.."

توسعت عيناها بفضول فتابع:

"كنتِ سابقاً ابنة رئيس الوزراء...أما الآن والدك بلا منصب بسبب انفكاك الحكومة وبما انه متورط ببعض الأعمال سيفر هاربا للخارج ويصبح مشرداً بعد الحجز على ممتلكاته"

سعل من شدة الضحك يضع يده عصدره وأضاف بغرور:

"مشغول حاليا يبحث عن مأوى يهاجر اليه.....تصوري ظنّ أنني سأستقبله في قصري ؟!"

سألت بصدمة:

"ماذا تقول؟..ألم توافق على ذلك؟!"


"بالطبع لا....هل مكتوب على بوابة قصري مأوى للمشردين؟!...يكفيني احتواء ابنته وحفيده من غير فائدة تُرجى "


"لم أكن أعلم أنكَ بتلك الدناءة والقذارة"

ردت عليه بازدراء...


"الطيور على اشكالها تقع ايتها القذرة"

ألقى جملته الأخيرة وتركها مدبراً لابنته ....وبعد لحظات نزل يمسك بيدها قاصداً الخارج...

~~~~~~~~~~~~~~

قرع جرس الشقة بإصرار بينما كانتا تتناولان وجبة العشاء بجوٍ أليف، دافئ، لا يخلو من مرح صديقتها (ايمان)....

"نعم نعم لقد جئت....لحظة"

هتفت (ايمان) وهي تمسك منديلاً تزيل عن فمها بقايا الطعام متوجهة لتفتح الباب....

نظرت بذهول للواقفين أمامها وحدثت نفسها "اذاً فاتن معها حق!!" .

دخل (عاصي رضا) مع صغيرته للاعتذار الجاف الذي كان مضطر له من اجل ابنته فقط وهذا يعد اذلالاً بحقه والّا لم يكن ليسأل عنها البتّة ...بعد انصرافهم أغلقت الباب واتكأت عليه بظهرها ...تكتّف ذراعيها وتحرّك اصبعيها على ذقنها شاردة بأفكارها تهمس بخفوت :

"هكذا اذاً يا سيد عاصي رضا....كنت اعتقد أن لا شخص يعنيك في الحياة ولا حتى ابنتك!!....فقط منصب ومال!!...ربما تكون هي السلاح الذي سنضربك به يوماً ما...من يعلم؟!......الأيام بيننا اذا أراد الله لنا ذلك..."

~~~~~~~~~~~

يومان ونحن في حالة توقف عن الحياة...كأنّ عـقـارب الساعة بقيت مكانها وأبقتنا معها....ننتظر وصول جثمانه الطاهر لنواريه الثرى في مدينته ومسقط رأسه ليحتضنه ترابها الذي أفنى عمره لأجله ...ليضاف شهيداً آخراً فخرا لبلدته....
جدتي دخلت في صدمة تركتها طريحة الفراش.....نبض الحياة أمي تأخذ المهدئات بعد الانهيار الذي أصابها....أخي الرضيع حُرِمَ من حليب امه بعد أن جفّ من حزنها وحدادها على زوجها, بطلها, سندها, أبيها وأخيها بل عائلتها بأكملها التي فقدتهم في الصغر...
ربما كنت أنا الأكثر تحملاً رغم حزني الدفين في كل شعيراتي الدموية.....
استجمعت قوايَ راضيا بقضاء الله لأتولى رعاية أختي , فخالتي (مريم) توّزع اهتمامها بين أمي و(شادي) الذي أجبر على تناول حليبه المصنّع من الزجاجة.....

جاء اليوم التالي المتفق عليه لاستلام الجثة....
جميع أهل البلدة والأصدقاء ومن يُكِنُّ لأبي المحبة والولاء ساروا في جنازة مهيبة تليق بانسان عاش ومات شريفاً خادماً للدين والوطن...

[[ أبــي...
مشيتُ خلفك شامخاً والبلبل يشدو بالغناء
فداءً للوطن حارساً لتُفتح أبواب السماء
بين النجوم وجهك متلألئاً كبدرٍ ساطع في بهاء
سيبقى اسمك خالداً شهيداً بصحبة الأنبياء ]]

~~~~~~~~~~~~

" لا اصدق انك تتعمد اهانتي!!...كيف تعيدها الى البيت؟!"

هتفت(سوزي) باستياء وهي تمشي خلفه تتبعه الى مكتبه بعد عودة (فاتن) الى القصر...

رد دون ان يلتفت لها:

"هذا بيتي أنا....اياك الاقتراب منها او من ابنتي...هما في حالهما وأنت وابنك في حالكما...لا أريد مشاكل....هذا ليس وقت الانشغال في تفاهاتكم جميعاً"

اخذت الجزء الأخير من كلامه وقالت بضيق:

"بالطبع فماذا تعني لك العائلة؟!...المهم هو الحصول على الأموال ونَيْل أعلى المناصب"

استدار خلف مكتبه يجلس على كرسيه..يقول ببرود متهكماً:

" اوه سيدة سوزي منذ متى تغيرت ميولك ولم تعد الأموال أكبر اهتماماتك؟!"

احمّر وجهها حرجا ..فتابع ببروده:

"ثم لا شأن لك بذلك.."

كان قد طفح الكيل معها وصلت ذروتها من الاهانات....فمن جهة كسر كلمتها امام(فاتن) ومن جهة أخرى رفض استقبال والدها في بيته حتى يصلح اموره....لقد تكلمت معه فور خروج زوجها وأمطرها الآخر بوابل من الاهانات ...يتبرأ منها... فبنظره لا نفع منها كابنة مادام لم تستطع اقناع زوجها بشأنه... قرر الرحيل الى ابنيه في هولندا مرغماً فهو لا يطيق زوجتيهما فإحداهما أجنبية والأخرى من عامة الشعب الذي رفض نسبها ولكن ابنه عصاه وتزوجها ورحل وها هو يتلقى نتائج افعاله وتربيته الفاشلة وسعيه وراء المظاهر الكاذبة ومال الحرام ...


" هل تعتقد أنك ستحصل على ما تسمو إليه؟!...انه حلم ابليس في دخول الجنة"


ألقت قذيفتها بغباء ففزّ من مكانه متجها نحوها.. يرمقها باحتقار.. يهدر بفظاظة:

"اصمتي يا وجه النحس!!...سأحصل على ما اريد وعندها ستكونين ملقاة مع والدك في الشارع"


" لا تثق بنفسك كثيرا وتنغر....لا بد من ظهور شخص ما يرسلك الى قعر الأرض لتعود في حال أسوأ مما كنت عليه قبل زواجك من (كريمة)...أوَتظن أن لا علم لي بماضيك؟؟"


دوت صفعة على خدها هزت الأرجاء من شدتها بعد أن أنهت كلامها بحماقة ...أيعقل انها لا تدري مع من تلعب؟!...فنقاط ضعفه المال , ابنته , وماضيه الغير مشرّف....تركها وخرج ينفث لهيباً من احشائه ...تعرّق جبينه قلقاً...سيتحدى الجميع ولن يسمح لأي شيء بالوقوف في طريقه والتأثير على أحلامه التي فعل المستحيل لأجلها....

هوَت (سوزي) بجسدها على أريكة موجودة في مكتبه... تتحسس مكان الصفعة....عيناها غارقتان بالدموع....تفكر بنفسها وابنها...أعادت شريط حياتها السابقة....ابتداءً من والد باعها وهي بعمر الزهور لرجل يكبرها بعشرين سنة من اجل المال لم تذق معه طعم السعادة ...كانت كمومس له يفرغ بها رغباته ثم يلقيها يذلها بابيها ويضربها وبالكاد استطاعت الانفصال عنه....
عادت مع ابنها لأهلها الذين اجبروا على استقبالها متثاقلين, مع أنهم من الأغنياء ولا ينقصهم شيئاً...طلب يدها(عاصي رضا) وكان بنظرها المنقذ من بطش والدها....تعترف بداخلها انها هنا على الأقل تعيش برفاهية وكامل الحرية مع ابنها بغض النظر انها مجرد كرسي في البيت بعين زوجها...لا تشعر بأنوثتها...لا كيان ولا وجود لها في صفحات حياته.....هي صفقة اعتقدها رابحة لغايته ولكنه خرج منها بخفيّ حُنيْن بعد طردِ والدها من منصبه....
كانت الصفعة بمثابة منبه لاستيقاظها من تهورها...عليها اصلاح ما افسدته قبل أن تصبح متسولة تجول الشوارع....
الآن ليس وقت البكاء على الاطلال...يجب أن تتحرك الى الامام...يجب ان تكون اقوى من اجل ابنها....بحثت في عقلها عن طرف خيط لضمان مستقبله....هي تعلم أن أكثر ما يعلّي شأنها بنظر زوجها هو احضار ولائم غنية بالصفقات الدسمة التي تغذي مشاريعه ومسار حياته....هكذا تكسب صفّه وتحافظ على مكانتها في بيته....
لمعت عينيها وأمالت زاوية فمها بمكر بعد أن وجدت ضالتها...
زفرت أنفاسها تستجمع قواها وصعدت الى حمام غرفتها تغسل وجهها بالماء البارد لتنتعش وتبدأ بتنفيذ مخططاتها بدايةً من رفع الهاتف لتدقّ لصديقتها:

" مرحبا...كيف حالك عزيزتي اسراء؟"


" أهلا بالغالية سوزي أنا بخير واشتاق لك كثيرا ما هي اخبارك؟"

استرسلت بالحديث مع (اسراء) صديقتها من الوطن التي لم تنقطع علاقتهما ابدا مع ان كل واحدة بدولة...هي زوجة رجل أعمال شهير يدعى (رائد السيد) ...يقيمون في استراليا حاليّاً...فهم دائمو التنقل بين البلدان ولهم ولدٌ وحيد اسمه (صلاح) البالغ من العمر اثني عشر عاماً.... قررت محاولة اقناعها للإقامة معها في تلك البلاد بعد ان اخبرتها سابقا باستيائها من وضعها فابنها يتعلم لغة يتقنها ثم ينتقلون الى دولة أخرى ولغة أخرى... وانهم يريدون اختيار بلد يستقرون بها....

"لم لا تأتون هنا ؟! بلد جميلة، متطورة، شعبها راقي والأهم تناسب أعمال زوجك.... يستطيع فتح مشاريع كما يحلو له...وربما يتشاركان هو وزوجي...وهكذا نلتقي انا وانت كالسابق وابنينا يصبحان صديقين"

أدلت بصنارتها لعلّ وعسى تُخرج السمكة الذهبية، فتحمست الأخرى هاتفة:

"لم تخطر في بالي سابقاً...من حسن الحظ أنك اتصلتِ بي فنحن كنا على وشك اتخاذ القرار.... سأخبره حين يعود وأعلمك بقرارنا..."

أغلقت الهاتف بعد ان ودعتا بعضهما ....انجزت مهمتها وفقط عليها الدعاء لتصيب صنارتها....

~~~~~~~~~~~~~~

جلس مقابلا له في شركته بعد أن دعاه لأمر عاجل....تبادلا أطراف الحديث العام....نهض السيد(سليم) يضع يديه على خصريه واقترب ينظر للخارج من نافذة مكتبه ثم تنحنح هاتفاً بصوته الجهوري:

" كما أخبرتك سابقاً....حان موعد سفرك"


"متى؟؟"

سأل السيد(ماجد) وهو صديق الثوار ومساعدهم إعلاميا ومعنويا والمرسال بين القادة السريين والمعسكر...

استدار نحوه ثم خطا ليجلس على الكرسي المحاذي له وقال:

"خلال يومين....."


"حسنا...أعطني وقتاً لأرتب أموري.."


"ألم تخبر عائلتك؟؟"


"بلى وهم مستعدون لذلك ,لكن تبّقى بعض الإجراءات الرسمية في المصرف وإخبار أهلي....فإرضاء والدتي واقناعها سيأخذ بعض الوقت لأنني لم افترق عنها من قبل."

~~~~~~~~~~~~~~~~

بعد أسبوع من وفاة أبي عادت أصوات الانفجارات تدوي في كل مكان...ليلة تلو ليلة والحرب تشتد.... قصفٌ هنا وضربٌ هناك!!...بيوت تهدم, أرواح تزهق , أطفال في حالة رعب, عائلات تتشتت, نساء تترمل , أمهات ثواكل...دُمرت بلدان كاملة!!...من سيعمّرها؟! من سيعيد الأزواج لنسائهم؟! من سيواسي الأمهات؟! من سيعوض الأطفال؟!
كان القصف مازال بعيداً عن منطقة سكننا , ولأن أمي لم تفِقْ من صدمتها بعد ...اضطرت عمتي(لبنى) وهي زوجة السيد(سليم الأسمر) صديق أبي ورفيق دربه ومخزن أسراره لأخذ جدتي التي تفاقم عليها المرض والانهيار الى بيتهم في مدينتهم الأقرب للحدود الجنوبية الغربية بعيداً عنا....
×
×
×
تلى الأسبوع أياماً قليلة ووصل الى مسامعنا اقتراب الجنود الى بلدتنا لأنها رحم ولادة الثوار ...بدأوا بالزحف الى مركزها لتدمير المقرات السرية وتهديد عائلاتهم.....

" خُذ شادي لتطعمه....والدتك مشغولة على الهاتف وعليّ الاهتمام في الطبيخ"

طلبت مني خالتي (مريم) الاهتمام به بعد أن رأتني متفرغاً لتتابع عملها في المطبخ ...ما لفت انتباهي هو انشغال امي على الهاتف!!....كانت قد بدأت بالتحسن منذ يومان....الغريب في الأمر انها ليس من عادتها الإطالة بالحديث عبر الهاتف!!....

أطعمتُ الصغير ورفعته على كتفي أربّت على ظهره بخفة ليتجشأ في حركة بتّ أعرفها...فمكوثي في البيت جعل مني حاضنة له ولشقيقتي....

التفتُّ الى يميني حيث الباب الواسع لغرفة المعيشة عند سماعي خطوات أمي وخالتي تقتربان منا.....كان وجه أمي شاحب ونظراتها تتكلم!!... ويبدو أيضا على خالتي أنها مثلي لم تفهم سبب سحبها معها الى هنا!!.....اقتربت مني تحمل أخي وجلست بجانبي وأنا اتأمل تقاسيمها أحاول قراءة ما يدور في رأسها....أومأت بعينيها لخالتي لتجلس فردت:

"لا يمكنني ترك الطبخة على النار....ستحترق"


"اذهب ياهادي واطفئ الموْقد وعد فوراً"

امرتني والدتي بصوت مرتجف...

اطفأته وعدتُ لمكاني ...فهتفت خالتي بتوجس:

" ما بكِ عائشة وجهك اصفرَّ بعد مكالمتك مع لبنى.."


" لم أكن أكلم لبنى بل زوجها السيد سليم"

ردت امي في الحال توضّح سبب شحوبها...


"السيد سليم؟؟!!....ليس من عادته الكلام معك مباشرة!!"

قالت خالتي باستغراب...فهو رجل ملتزم غيّور وبغياب والدي وبعد وفاته كانت عمتي(لبنى) همزة الوصل بينهما عندما يكون امراً طارئاً ليخبرنا به.....


"ماذا يريد عمي سليم؟!"

سألتُ بفضول.....

أخفضت أمي عينيها للأسفل وابتلعت لعابها وهمست بتلعثم:

"علينا..أن...أن نهاجر"


"ماذا؟!"

صرخت خالتي أما أنا كنت أترجم كلمتها في عقلي فتابعت بنبرة يائسة:

"أخبرني أن لا وقت لدينا...فالعساكر سيحاصرون الجبل خلال أيام قليلة وعلينا الاختيار بين الاستسلام لهم من غير مقاومة او النزوح الى مكان آمن حفاظاً على ارواحنا وشرفنا..."

تنهدت وأضافت:

"أنتم تعلمون الاستسلام يعني الاستسلام لبطشهم والله وحده يعلم ماذا سنواجه تحت أيدي أولئك الطغاة..."

رفعت وجهها اليّ نظرت بعيون دامعة ازدردت ريقها وأكملت:

" أنت شاب ومن الممكن أن يأخذوك الى التحقيق لتقر عن أشياء تعلمها ولا تعلمها ....ونحن نعرف ماهي اساليبهم لسحب الكلام او الاجبار على قول ما يريدون لصالحهم "

سكت الكلام...لم أجد أي تعليق يعبّر عن مشاعري....هل هذه حقيقة التي أسمعها؟!....من قرر ذلك؟!..أيمكنني أن أتنفس هواء غير هوائي الجبليّ؟!...ألا يدركون انني انا سمكة في بحر وبإخراجها سأنتهي؟!!...هل سأترك خمسة عشر سنة عشتها في بيتي وحارتي تذهب أدراج الرياح وكأنها لم تكن يوماً؟؟!....بل أصدقائي أيعقل أن افترق عنهم بعد أن اتفقنا لنكون معاً لآخر العمر , حتى أننا بنينا أحلاماً وصلت حدّ السماء !!.....بالله عليهم ماذا يهذون؟؟!!...هذه ترّهات لن أقبل بها !!!!


" كلا وألف كلا"

صرخت بعد عودتي لواقعي أحمل تلك الكلمات....

نظرت لي أمي نظرات رجاء , ضعف , وكأنّها تستنجد بي!!...اغرورقت عينيها بالدموع..ضمّت الصغير الى صدرها بقوةٍ وهمست بصوت مختنق:

"ارشدوني ماذا افعل ؟؟.....هل نجلس هنا ننتظر حتفنا؟!....إن متنا جميعاً فلا بأس, ذلك لا يهمني...أما....أما...."

بترت كلماتها وسط عبراتها وبدأت ترتعش توشك على الانهيار ثم رفعت صوتها تخفي ضعفها وراءه وتابعت :

"أما ان فقدت أحدكم سأموت في الحياة ...أنا لا أقوى على هذا...فلتشعروا بي ......ذهب حبيبي تاج رأسي وتركني اواجه هذه الصعاب لوحدي!!....يكفيني ما عانيت من رحيل الأحبة "

دفنت وجهها بأخي وعلا نحيبها ....كانت كل دمعة تقطر منها تغرز كخنجر في فؤادي وصوت بكائها يمزق روحي.....اقتربتُ منها أضمُ كتفيها بذراعي مقبّلاً رأسها هامساً باستسلام :

" كما تريدين يا نبض الحياة...فلترضي عنا... أرجوكِ لا تبكي"


خالتي تضمُ(دنيا) في حضنها بعد أن رأت الوجوم يعتريها من بكاء امي....


تظاهرتُ بالقوة وسألت:

"متى سنرحل ؟!! وهل يوجد حديث عن عودة أم أن علينا نسيان شيء اسمه وطن ومدينتنا الجبلية وقصرنا العريق؟!"

مسحت امي دموعها بأطراف اناملها وأجابت بين شهقاتها:

"بعد غدٍ ان شاء الله وبإذن الله سنعود عندما تهدأ الأوضاع ..هكذا وعدني السيد سليم.."

أملتُ فمي ببسمة ساخرة وقلت في سرّي "وهل من أملٍ لتهدأ الحرب مادام يتنفس على هذه الأرض الجبناء والأوغاد"
×
×
×
أشعلتُ النار بعد أن جمعتُ بعض الأغصان اليابسة الصغيرة أضعها بين الحجارة لأتدفأ, أنتظر وصول صديقاي (سامي وأحمد)...
كان الوقت هو العصر من اليوم التالي لقرار الهجرة في بيتنا....قمتُ بالاتصال بهما لنلتقي بأعزّ مكان على قلوبنا...جمَعَنا دوْماً لسنوات....كان عبارة عن مرتفع يطلّ على القسم الأسفل من مدينتنا , فتضاريسها تبدأ بالارتفاع تدريجياً حتى تصل حيّنا الموجود في أعلى نقطة منها المحاط بأشجار السرو الكثيفة وكأننا في غابة....
أما مكاننا هذا فهو بطريقٍ ترابيٍّ جانبيٍّ كأنه تلة صغيرة تزيّن رأس الجبل ونبتت فيه شجرة من أشجار الخروب دائمة الخضرة التي نستظل بها ...نجلس على صخور تحتها...نشاهد منظر الغروب منها ونتسابق في القاء الحجارة من يحصّل على أبعد نقطة....كانت هذه أفضل العابنا التحدّي....
كنتُ جالساً بسكون ..تارةً أحرّك النار بعودٍ رفيعٍ وتارةً أخرى أسرح بمنظر مدينتي الحبيبة.....

"السلام عليكم..."

ألقى (أحمد) التحية وتبعه (سامي)الغليظ بـ:

" ما بك تبدو كالأرملة التي فقدت زوجها لتوّها؟! ...بقي عليك أن تولوِل"

" وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.....هيا اجلسا"

قلتُ وأنا أخفي نظراتي المحترقة عنهما....أتمالك نفسي.....

جلس كل منهما على جانبيّ ننظر بنفس الاتجاه الى الأمام....فتنحنحتُ لأحافظ على اتزان حبالي الصوتية قائلاً بدون مقدمات:

"سنهاجر.."

رمقني (احمد) بنظراتٍ مصدومة قاطعها (سامي) باستهزاء وهو يلوّح بيديه أمام وجهه :

"هِيـه هل صدقت هذا الأحمق أيها المغفل؟!...هو لا يمكن أن يتنفس غير هواء جبلنا"


"بلى...أنا لا أمزح"

قلت بصوت ضعيف.....


"لماذا؟!"

سأل (أحمد) بعتاب...


كان (سامي) يحدّق بجانب وجهي الأيمن حيث يتواجد فأجبتُ بقهرٍ ظهر بنبرتي:

"هذا قدرنا لنحمي أنفسنا.."

وعند آخر حرف غدرتني دمعة ظلّت عالقة محاصَرة في زاوية عيني اليمنى ...لمحها من كان بهذا الجانب فأدرك صدقَ قولي وأنقضّ يحاوطني بذراعيه وكأنه يحميني من الهروب ...انضمّ معنا (احمد) يحاوطنا نشبك أيدينا على أكتاف بعضنا ...نلصق جبهاتنا في بعضها ....نبكي بصمت دون أن ننبس ببنتِ شفة.....
دقائق ونحن نشد من احتضان بعضنا قطعتُها أنا ...أضربهما على كتفيهما ..أمسح دموعي مبتسماً بتصنع أجاهد لإخفاء احتضار روحي هاتفاً:

"ما بنا نبكي كالنساء؟؟....هيا امسحا دموعكما قبل أن يرانا احد ويشيع الخبر بالحيّ!!....لا تفرحا كثيراً سأعود قريباً ان شاء الله لأنكد عليكما عيشتكما"

ضحكا وعدّلا جلستهما وبدأت اسرد لهما تفاصيل رحلتنا ثم وصيتهما على بيتنا.....بقينا حتى الغروب وتفرّقنا عند بوابة منزلي بعد أن تعانقنا نودّع ونوصي أحدنا الآخر بالاعتناء بنفسه حتى نلتقي مجدداً....

دخلتُ بيتنا وارتميت على الأريكة في غرفة العائلة شارداً بالهجرة....

الهجرة؟!!

الهجرة هي كلمة ربطتها دائماً بالطيور المهاجرة بين الفصول...!!...كنت أشرحها لشقيقتي(دنيا) ونحن نراقب هجرتها في الخريف واستقبالها في الربيع....
أما هجرة بني البشر كنت أسمع عنها في وسائل الاعلام لأخوة لنا تهجّروا....بيننا وبينهم مسافات كبيرة.....أدعو لهم بصلاح الحال وأقلب المحطة من بعدها على برامج مسلية....فأنا أنعم بكامل الرفاهية في بيتي...احصل على كل ما أتمنى...بيت بارد في الحر ودافئ في البرد.....لا أكترث لشيء ....أصحابي حولي....أزور أقاربي...مطبخنا مليء بأشهى أنواع الطعام....لدينا مركبة فخمة...أدرس بأفضل المدارس....لم أشعر يوماً أو حتى أفكر ماذا عاشوا من تذوّقوها....

نعم الهجرة هي الآن مـ ـلاذّنا الوحيد لننجو اذا قدّر لنا ذلك....بعد أن اقنَعَنا زوج عمتي السيد(سليم الأسمر) بخطورة البقاء لانتمائنا لاسم القائد المجاهد (محيي الدين)....

كيف أصبح إسم أبي يشكّل خطراً علينا بعد أن كان مصدر الأمان الذي نفتخر به؟!.....أين كنا وأين وصلنا؟؟!!

آهات حبيسة تختلج صدري ..تضغط على أنفاسي...وددت لو أطلقتها لأرتاح!!....لكني خشيت على عائلتي فيكفيها ما فيها....

لا أريد لأمي أن تذبل مجدداً بعد عودتها للحياة رويداً رويداً بفضل الله ومن ثم دعم الأحباب...
خالتي العزيزة(مريم) لم تشأ تركنا بعد أن فقدت زوجها قبل سنوات عدة...كانت تلازم امي وتساندها رغم أنّها تصغرها بسنواتٍ...

" رتبتُ حقائبنا ووضعتها عند المدخل كي لا نتأخر في الصباح"

وجّهت أمي كلامها لخالتي التي نهضت من مكانها قائلة:

"حسناً وأنا سافرغ الخزنة من المال والمجوهرات..."

عند سماعي كلمة مجوهرات عدتُ في ذاكرتي لأيام ليست ببعيدة أسمع بها أمي تطلب المال من ابي لاقتنائها لتذخرها بحجة [قرشك الأبيض ليومك الأسود]....يبدو أنه جاء هذا اليوم الأسود لتَخْرُج هذه المجوهرات....

"أنا اريد أخذ بندقية أبي "

هتفت بها عند مروري من جانبها وهي معلّقة مكانها على الحائط فشهقت أمي بفزع ..تضع يدها على صدرها... عيناها تلمعان قائلة :

"مستحيل لن أسمح لك ....يكفي ما خسرنا"


"لكن يا امي هذه رائحة أبي وأوصاني بالمحافظة عليها..أرجوكِ"

قاطعتني بحزم:

" لا استطيع المجازفة بك وبأخوتك....ثم من قال لك أنهم سيسمحون لك بنقلها؟!....تحتاج لتصاريح!!....اقفل الموضوع"

زفرتُ بضيقٍ واستسلمت لقرارها ....دنوت منها أقبّل جبينها وقررت ايداعها بمكان آمن...
بعد منتصف الليل الجميع في سبات باستثنائي !!..أتململ في فراشي...أفكر بالغد والمستقبل المجهول....قبل أيام كنت أطير فرحاً لتحمّلي مسؤولية تافهة ...والآن بعشيةٍ وضحاها أصبحت رجل البيت لأرعى عائلة كاملة رغم صغر سني....
أثقلني التفكير وغلبني النوم في النهاية....


تعالت مآذن البلد بكلمة الله اكبر...
نعم الله اكبر على كل ظالم ..الله اكبر على من طغى وتجبّر...حي على الفلاح والصلاة خير من النوم....إنه موعد صلاة الفجر...

كانت امي في هذه الاثناء تطعم أخي (شادي) ...توجّهت الى المطبخ بعد أن نام الصغير لتغسل زجاجته ثم أقبلت لتوقظنا أنا وخالتي للصلاة وللاستعداد للانطلاق....

أشرقت شمس يومنا الأخير في وطننا لا نعلم ماذا يحمل في طيّاته!!

خرجتُ الى الحديقة قاصداً تلك الشجرة المباركة...شجرة زيتون كبيره معمّرة...حفرتُ تحتها واضعاً البندقية ناثراً التراب عليها بإحكام ومع نثراته تناثرت في قلبي غصّات...فهذا الموقف أعادني الى لحظة مواراة أبي الثرى...دفنتُ أبي ودفنتُ العهد معه...

لم أسمح لدمعي بالنزول...رفعت بصري ناظراً للسماء متذللاً لخالقها:

" ياا رب أنت العالم بحالي...ياا رب إني استودعك مِن أغلى ما أملك...ياارب أحيّني لليوم الذي سنطّهر به الوطن كما رغب أبي"

مسحتُ دمعة خانتني وتوكلت على الله داعيّاً:

" اللهم إنا نسألك خير ما في هذا اليوم ونعوذ بك من شره"

دلفتُ بيتي رافعاً رأسي بثقةٍ وقوةٍ لم أعهدهما من قبل....فاليوم يوم مصيريّ....يجب أن ابثّ الآمان لعائلتي وأُشعرهم أنهم بإمكانهم الاعتماد عليّ لأتولى رعايتهم من بعد الله....

وصلت مركبة تابعة للسيد(سليم الأسمر) كما اتفقنا لتقلّنا الى مرفأ السفن بعد أن رتّب أمورنا مع معارفه وقاموا بكافة إجراءات النقل الرسمية ودفع مبلغ طائل من المال لحجز مقاعد لنا بسفينةٍ على مستوى رفيع فيها شتّى وسائل الرفاهية....

وضعنا الحقائب في صندوق السيارة وركبتُ أنا المقعد الأمامي جانب السائق وبقية عائلتي في الخلف....لنسير على دربِ الهجرة!!

[[سلامٌ على مدينة تنفست هواءها , شربت ماءها ,سجدت على ترابها , أكلت من خيراتها , هاجرتُ منها ووعدي ألّا أنساها, فعمري ودمي كله فداؤها]]

********** (انتهى الفصل الثاني) **********

اللهم صلّ وسلّم على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم

ألحان الربيع 09-10-21 04:06 AM

الفصل الثاني ((الهجرة))




"أبي..."

"أبــي!!!"

ضاعت الكلمات بين ثلاثة حروف...لرؤية من يقف أمامنا...
نعم أنها هي حبيبته...هل يمكن أن أخطِئُها ؟!.... مستحيــــل.......هي بذاتها بالحروف المطرّزة عليها.... مشتقّه من أسماءنا (عائشة وهادي ودنيا)....بعد أن وُلدت شقيقتي جعل أمي تطرّز حروفنا تجمعها بكلمة (عهد)..
ابتلعت ريقي أحاول استيعاب المشهد...حدّقت بالواقف أمامي....رجل غريب في ريعان شبابه....ماذا تفعل بندقية أبي معه؟؟!!....وقع نظري على يده الأخرى....إنه مصحفه!!.....المصحف الذي لا يفارقه بمعاركه!!.....كان يضعه بالجيب الداخلي لسترته قرب قلبه , غلافه من المخمل الأخضر....
جحظت عيناي بعد أن لمحتُ لوناً أحمراً يدمغ على زاويته....
تعاقبت أنفاسي....أصابني الوجوم....اختلج شيئاً في صدري......


مـ مـ ما هذا ؟" "

كان صوت جدتي المخنوق الذي دفعني من الخلف بقوةٍ لأجتثّ السلاح والمصحف منه صارخاً:

"أين أبـــــي؟!....أجبنـــي!....هل هو آتي؟"

لم انتظر ردّه وانطلقت متخبطاً بخطواتي للخارج كغزالٍ صغيرٍ تائهٍ عن أمه...أبحث في حدقتيّ علّني أقتنص إشارة ترشدني إليه أو أشتم عطره الذي يسبقه ليطمئنَني على قدومه.....
هدأت الرياح التي اصطحبها معه مخلّفة فراغاً قاتلاً....

عدت أجرّ أقدامي...مسكت تلابيبه بقبضةٍ واحدةٍ...أكاد أنهار متوسلاً:

"أرجوك...أخبرنا أين أبي؟"

أسدل جفنيه يحاول إخفاء نظراته ثم أجابني بانكسار متلعثماً:

"السيد...السيد محيي الدين...استشهد....البقاء لله"

هل هو زلزال من تحتنا؟ أم انفجار بركاني يحرقنا؟! أم أطبقت
السماء على الأرض؟!
هي صرخات من خلفي اخترقت جدران البيت أحدثت اهتزازاً في المكان ....

ذهب عامود بيتنا ...رحلَ مصدر أماننا...كيف السبيل الى السعادة من بعده ؟.... آخر ليلة معنا قبل اسبوعين شدّد من احتضاننا...كان يمسّد على بطن أمي ويداعب أخي في جوف رحمها يسأله متى سينير حياتنا ....كم كان متحمساً للقائه !!...أما المدللة (دنيا) خرج ليشتري لها الحلويات والوقت متأخر والأمطار غزيرة ولم يبالي فتلك هي دنياه..... لا يناديها الا دنيانا ....أذكر مررت عنه في غرفة المعيشة كان يجهز بندقيته ويلمعها وكأنّها عروساً يوم زفافها ...ناداني وأجلسني جانبه....وضعها في حضني وقال

// هذه البندقية هي شرفنا فحافظ عليها من بعدي , قيمتها ترتفع عند استعمالها ضد الظلم... ولنصرة الحق, الدين, الوطن.. ولا قيمة لها اذا رفعتها بوجه ضعيف، أعزل، مظلوم، امرأة، عجوز وكل من يحمل في قلبه شرع الله \\

كانت عيناه تلمعان تحكيا حكاية بطل ,حكاية حب الوطن ,حكاية تسطّر الطريق لنصرة الحق والدين....هل يا ترى كان يشعر بدنوّ أجله؟؟!!....آااه يا أبي ...لو كنت أعلم بفراقنا الأبدي لقضيت تلك الليلة أنعم بأحضانك واتنفس أنفاسك ...لأخبرتك في كل ثانية كم أحبك وسأبقى احبك الى آخر نبضة في فؤادي...
~~~~~~~~~~~~~~

في بلاد الخارج تجلس بأريحية على الأريكة تضع ساقاً فوق الآخر ...تحتسي قهوتها مستمتعة...فهي بأقرب مكان لقلبها.... ببيت صديقتها (ايمان) التي تعرّفت عليها قبل أربع سنوات في مؤتمر يختص بشؤون المهاجرين واللاجئين ونشأت بينهما علاقة وطيدة...كانت من المهاجرين المقيمين في كندا وانتقلت الى تلك الدولة منذ عشر سنوات....لقد عوضها الله بشقيقة لم تلدها أمها بعد ان فقدت اختها (كريمة) والدة (ألمى)....


"كيف استطعتِ ترك ألمى؟"

سألت (ايمان) بتعجب فهي أكثر من تعلم ماذا تعني ابنة شقيقتها لها...ولن تتركها ولو على قطع رأسها!!

وضعت فنجانها الفارغ على الطاولة برقةٍ وأسندت ظهرها للوراء...تنهدت وقالت بثقة مستنكرة:

"أتظنين أنني اتركها بالفعل؟؟"

نظرت إليها بتساؤل تنتظر أن تفسر لها....فمدّت يدها تربّت على ساقها وتابعت:

"أريد أن أعاقب تلك الشمطاء عن طريق زوجها...فرغم بغضي له إلا أنني أدرك انه لن يتخلى عني"

تبسمت بسخرية وأضافت:

"ليس محبة لي طبعاً إنما للاهتمام بابنته فهو يرى مدى تعلّقها بي وهذا يخفف من حمله ...وأيضا لا يسمح لتلك بالاعتناء بها"


"كيف سيعاقبها ؟"

سألت بفضول...


"عندما يفتقدني ويعرف عن رحيلي بسببها وبالطبع سيرى أميرته منهارة سيخرج شياطينه عليها"
اجابت بمكر وضحكت تتخيّل انفجاره عليها فكم من مواقف شاهدته يعنّفها إذا مسّت أحد خطوطه الحمراء وكيف ان كانت مدللته (ألمى)...

تابعت (ايمان) بتحقيقها تظن أنها بمقابلة لكتابة مقال مع احدى الشخصيات الشهيرة:

“والآن ما هي خطتك؟؟"

ردت ببرود وثبات:

"انتظري ...قبل حلول المساء سيكون هنا معتذراً لعودتي من اجل ابنته"


"ويحــك"

هتفت باستنكار وأردفت:

"لا اظن انه سيأتي بنفسه فنحن نتكلم بالنهاية عن عاصي رضا المغرور المتعجرف"

صمتت لبرهة ثم أكملت:

"بالتأكيد سيرسل السائق"


"لننتظر ونرى"

قالت(فاتن)باختصار...


"اذاً لنرى"

أكّدت (ايمان) بتحدّي...

~~~~~~~~~~~~~

تناثرت الملفات أمامه بعد أن عصف بها غضباً....لا يصدق!!
قبل أيام قليلة أخبره عن إتمام الأمر بنجاح ويريد الحلوان!! ....ماذا تغير؟؟
هل كل مخططاتهم أصبحت هباءً منثورا؟!!....لقد سعى جاهدا ليزيل العقبات من طريقه حتى يصل لهدفه....شعرة واحده تفصله لتحقيق حلمه ...نهض عن كرسيه الضخم يضع يديه على خصريه ....صفع جبينه بقهر ...آخر مهماته كانت الأصعب!!....جازف وخاطر بها ....أنفق أموالاً طائلة لإنجازها......ليتلقى في النهاية اتصالاً آخراً من والد زوجته في عاصمة الوطن وهو رئيس الوزراء يخبره عن انفكاك الحكومة بعد انقلاب جنود الدولة عليها لتشتعل الحرب مجددا في مثلث زواياه ,الثوار ,الجنود وحلفاء الحكومة الحالية..!

مرّت ساعتان دون أن يبرح مكتبه....يحاول جمع شتاته...عليه العمل على ما تبقى من أمل....يهاتف هذا وذاك...يبحث ويخطط....

وبينما هو بمعركته الفكرية علا رنين هاتفه الأرضي...استَلّه دون تردد ليجيب:

" من معي.؟؟ "

"............"
كان هذا والد زوجته الذي عاود الاتصال به لحاجة....

لوّى فمه باشمئزاز فهذه المرة الأولى التي ينعته ببنيّ وتوقع أن يسمع طلباً ثقيلاً بعد هذه المقدمة الزائفة فردّ بنبرة زاجرة:

" نعم!!....ماذا تريد؟؟"

"........."

تعالت ضحكاته غيظاً وأجاب متهكماً:

" هل جننت؟!....بالطبع مستحيل"

"........."

"لا شأن لي بذلك!!......سوف اغلق الآن لديّ مشاكل أهم لأحلّها"

اغلق بوجهه قاطعا اخر رابط هاتفيّ به....

~~~~~~~~~~~
في قصر العنكبوت عاد ( عاصي رضا) بتثاقل عيناه تضيء بالأحمر تنذر وتحذّر من الاقتراب منه ....حتى انه لم ينتبه لعدم وجود أميرته التي تسارع لاستقباله والقاء نفسها في احضانه....صعد الى غرفته ينفث لهباً.....انتبهت زوجته للاشعارات الصادرة منه ....ازدردت ريقها رهبةً ...تسللت بهدوء تنزل تسبقه الى غرفة الطعام تجنّباً منه واستعداداً لتناول العشاء....لحق بها بعد وقت قصير وبدا على وجهه الاسترخاء بعد أن اخذ حماماً دافئاً......تجلس على يمينه زوجته وبجانبها ابنها (كرم) ومقابلاً لهما المربيّة السيدة (سهيلة)....بدأت الخادمة بتقديم اطباق الطعام....كان يتكئ بمرفقيه على الطاولة ويشبك كفيّه ببعضهما....رفع احد حاجبيه باستغراب بعد ان مرّ وقت قليل لوجوده وسأل موجهاً كلامه للخادمة:

"أين ألمى وفاتن؟؟"

ابتلعت ريقها ونظرت للجالسة أمامها والتي كانت تعطيها إشارات للصمت تنهاها عن الكلام.....ولما لم تجب وهمّت بالانصراف لفّ وجهه بتوجس لزوجته يكرر السؤال...حاولت التملّص بإشغال نفسها بسكب الطعام لابنها فصرخ بها :

" أظن أنني أتكلم معك....اجيبيني أين هما ؟؟"

تنحنحت المربيّة وشاركت الحديث مجيبة بهدوء:

"عذراً سيد عاصي.... السيدة الصغيرة ترفض الطعام لحزنها على ترك خالتها للمنزل"


"ماذا؟؟...فاتن تركت المنزل ؟؟....لمَ؟؟"

سأل بنبرة مرتفعة متعجباً وهو يوّزع نظراته بينهم يحاول سلب الإجابات من افواههم...

" نعم سيدي...بعد صراعها هي وألمى مع السيدة سوزي"

أجابت بتردد...


"صراع ؟!...ما السبب؟!"

قالها ولم ينتظر الإجابة من كليهما بعد أن فزّ متوجهاً للأعلى الى غرفة ابنته....


"عزيزتي."


" حلوتي..."


"حبيبتي لوما..."

نادى بها بحنان وهو يطرق الباب بلطف ثم ولج الى الداخل بعد أن سمع صوتها تأذن له بالدخول وجلس على طرف السرير بجانبها أحاط كتفيها بذراعه ...يمسّد على شعرها ويهمس لها:

" ما بك أميرتي حزينة؟؟...أخبريني وسأعاقب من كان السبب"

تربّعت على فراشها تواجهه وكتّفت ذراعيها قاطبة حاجبيها تسأل باستنكار:

"حقا؟....هل ستعاقبها؟؟"



"من هي؟"



أجابت بعبوس منفعلة:

"زوجتك أم كرم "

ضحك لانفعالاتها البريئة ولم يعلّق على اجابتها فهو لم يجبرها يوماً على الارتباط بها وبناء علاقة بينهما لأنها لم تهمه كزوجة ...وان كانت تتعامل معها برقيّ واحترام فذلك يعود الى شخصيتها الطيبة وتربية وتوجيهات خالتها والمربية لها....

سحبها الى حضنه يدفن وجهها بصدره عندما رأى احتقان عينيها بدموع القهر ,همس لها :

" حسنا صغيرتي اهدئي....اخبريني ماذا فعلت لكِ؟"

قصّت عليه الموقف بأكمله في الحديقة....قاطعها ناهراَ بلطف :

" حبيبتي لا يجوز أن تلعبي مع أولئك الخدم....من الممكن أن يضروكِ فبالتأكيد يغارون منك ..."

تنهد وأضاف بتجبّر :

"لا يؤتمن لأي شخص ليس من مستواكِ أميرتي....فجميعهم يسعون لأذيتنا من حقدهم وحسدهم على ما نملك.."

رفعت رأسها تنظر له دون أن تهتم لما قاله وتابعت:

"كانت تهددني دائماً بطردك لخالتي.....والآن فقدتها فيمكنني اخبارك كل شيء"

أخبرته بمعاملتها معها ومنعها من اللعب بغير غرفتها ونعتها بألفاظ بذيئة....كانت تسرد له روايتها ....تشدّ من احتضانه تستغل هذه الدقائق التي يتكرّم بها عليها يختصها وحدها دون ازعاجات خارجية فكم تحتاج لحضن يسندها ,يحتويها يشعرها بأنها ليست وحيدة ...حضن الأب أو الأخ الذي لا يقارن بآخر لأنه يعني القوة والأمان لكن لانشغاله بأموره يبقى احتياجها معلّق في الهواء....هي تتحدث وهو يصكّ على فكيّه ...دماؤه تغلي في عروقه...حاول السيطرة بدايةّ وفي النهاية خرج مسرعاً يهبط السلالم بخطوات كبيرة ...يتجه صوْب طاولة الطعام ...يمسك بذراع(سوزي) غير مكترث لمن حولها ...يضغط عليها بقوةٍ صارخاً:

"كيف تسمحين لنفسك بفعل ذلك لابنتي وأنا حذرتك بعدم التدخل في شؤونها ثم منذ متى يحق لك قرار من يبقى ومن يذهب ؟؟"

أجابت وهي تحافظ على برودها ..ترفع رأسها بغرور:

"أنا سيدة القصر والجميع هنا في غيابك تحت أمري...يبدو أنك نسيت ابنة من أكون.."


سحبت المربية (كرم) معها وتركتهما على انفراد.......


أفلت يدها يصفق كفاً بالآخر ..مطلقاً قهقهات ساخرة ثم استقام في وقفته وقال متهكماً:

"كنتِ.."

توسعت عيناها بفضول فتابع:

"كنتِ سابقاً ابنة رئيس الوزراء...أما الآن والدك بلا منصب بسبب انفكاك الحكومة وبما انه متورط ببعض الأعمال سيفر هاربا للخارج ويصبح مشرداً بعد الحجز على ممتلكاته"

سعل من شدة الضحك يضع يده عصدره وأضاف بغرور:

"مشغول حاليا يبحث عن مأوى يهاجر اليه.....تصوري ظنّ أنني سأستقبله في قصري ؟!"

سألت بصدمة:

"ماذا تقول؟..ألم توافق على ذلك؟!"


"بالطبع لا....هل مكتوب على بوابة قصري مأوى للمشردين؟!...يكفيني احتواء ابنته وحفيده من غير فائدة تُرجى "


"لم أكن أعلم أنكَ بتلك الدناءة والقذارة"

ردت عليه بازدراء...


"الطيور على اشكالها تقع ايتها القذرة"

ألقى جملته الأخيرة وتركها مدبراً لابنته ....وبعد لحظات نزل يمسك بيدها قاصداً الخارج...

~~~~~~~~~~~~~~

قرع جرس الشقة بإصرار بينما كانتا تتناولان وجبة العشاء بجوٍ أليف، دافئ، لا يخلو من مرح صديقتها (ايمان)....

"نعم نعم لقد جئت....لحظة"

هتفت (ايمان) وهي تمسك منديلاً تزيل عن فمها بقايا الطعام متوجهة لتفتح الباب....

نظرت بذهول للواقفين أمامها وحدثت نفسها "اذاً فاتن معها حق!!" .

دخل (عاصي رضا) مع صغيرته للاعتذار الجاف الذي كان مضطر له من اجل ابنته فقط وهذا يعد اذلالاً بحقه والّا لم يكن ليسأل عنها البتّة ...بعد انصرافهم أغلقت الباب واتكأت عليه بظهرها ...تكتّف ذراعيها وتحرّك اصبعيها على ذقنها شاردة بأفكارها تهمس بخفوت :

"هكذا اذاً يا سيد عاصي رضا....كنت اعتقد أن لا شخص يعنيك في الحياة ولا حتى ابنتك!!....فقط منصب ومال!!...ربما تكون هي السلاح الذي سنضربك به يوماً ما...من يعلم؟!......الأيام بيننا اذا أراد الله لنا ذلك..."

~~~~~~~~~~~

يومان ونحن في حالة توقف عن الحياة...كأنّ عـقـارب الساعة بقيت مكانها وأبقتنا معها....ننتظر وصول جثمانه الطاهر لنواريه الثرى في مدينته ومسقط رأسه ليحتضنه ترابها الذي أفنى عمره لأجله ...ليضاف شهيداً آخراً فخرا لبلدته....
جدتي دخلت في صدمة تركتها طريحة الفراش.....نبض الحياة أمي تأخذ المهدئات بعد الانهيار الذي أصابها....أخي الرضيع حُرِمَ من حليب امه بعد أن جفّ من حزنها وحدادها على زوجها, بطلها, سندها, أبيها وأخيها بل عائلتها بأكملها التي فقدتهم في الصغر...
ربما كنت أنا الأكثر تحملاً رغم حزني الدفين في كل شعيراتي الدموية.....
استجمعت قوايَ راضيا بقضاء الله لأتولى رعاية أختي , فخالتي (مريم) توّزع اهتمامها بين أمي و(شادي) الذي أجبر على تناول حليبه المصنّع من الزجاجة.....

جاء اليوم التالي المتفق عليه لاستلام الجثة....
جميع أهل البلدة والأصدقاء ومن يُكِنُّ لأبي المحبة والولاء ساروا في جنازة مهيبة تليق بانسان عاش ومات شريفاً خادماً للدين والوطن...

[[ أبــي...
مشيتُ خلفك شامخاً والبلبل يشدو بالغناء
فداءً للوطن حارساً لتُفتح أبواب السماء
بين النجوم وجهك متلألئاً كبدرٍ ساطع في بهاء
سيبقى اسمك خالداً شهيداً بصحبة الأنبياء ]]

~~~~~~~~~~~~

" لا اصدق انك تتعمد اهانتي!!...كيف تعيدها الى البيت؟!"

هتفت(سوزي) باستياء وهي تمشي خلفه تتبعه الى مكتبه بعد عودة (فاتن) الى القصر...

رد دون ان يلتفت لها:

"هذا بيتي أنا....اياك الاقتراب منها او من ابنتي...هما في حالهما وأنت وابنك في حالكما...لا أريد مشاكل....هذا ليس وقت الانشغال في تفاهاتكم جميعاً"

اخذت الجزء الأخير من كلامه وقالت بضيق:

"بالطبع فماذا تعني لك العائلة؟!...المهم هو الحصول على الأموال ونَيْل أعلى المناصب"

استدار خلف مكتبه يجلس على كرسيه..يقول ببرود متهكماً:

" اوه سيدة سوزي منذ متى تغيرت ميولك ولم تعد الأموال أكبر اهتماماتك؟!"

احمّر وجهها حرجا ..فتابع ببروده:

"ثم لا شأن لك بذلك.."

كان قد طفح الكيل معها وصلت ذروتها من الاهانات....فمن جهة كسر كلمتها امام(فاتن) ومن جهة أخرى رفض استقبال والدها في بيته حتى يصلح اموره....لقد تكلمت معه فور خروج زوجها وأمطرها الآخر بوابل من الاهانات ...يتبرأ منها... فبنظره لا نفع منها كابنة مادام لم تستطع اقناع زوجها بشأنه... قرر الرحيل الى ابنيه في هولندا مرغماً فهو لا يطيق زوجتيهما فإحداهما أجنبية والأخرى من عامة الشعب الذي رفض نسبها ولكن ابنه عصاه وتزوجها ورحل وها هو يتلقى نتائج افعاله وتربيته الفاشلة وسعيه وراء المظاهر الكاذبة ومال الحرام ...


" هل تعتقد أنك ستحصل على ما تسمو إليه؟!...انه حلم ابليس في دخول الجنة"


ألقت قذيفتها بغباء ففزّ من مكانه متجها نحوها.. يرمقها باحتقار.. يهدر بفظاظة:

"اصمتي يا وجه النحس!!...سأحصل على ما اريد وعندها ستكونين ملقاة مع والدك في الشارع"


" لا تثق بنفسك كثيرا وتنغر....لا بد من ظهور شخص ما يرسلك الى قعر الأرض لتعود في حال أسوأ مما كنت عليه قبل زواجك من (كريمة)...أوَتظن أن لا علم لي بماضيك؟؟"


دوت صفعة على خدها هزت الأرجاء من شدتها بعد أن أنهت كلامها بحماقة ...أيعقل انها لا تدري مع من تلعب؟!...فنقاط ضعفه المال , ابنته , وماضيه الغير مشرّف....تركها وخرج ينفث لهيباً من احشائه ...تعرّق جبينه قلقاً...سيتحدى الجميع ولن يسمح لأي شيء بالوقوف في طريقه والتأثير على أحلامه التي فعل المستحيل لأجلها....

هوَت (سوزي) بجسدها على أريكة موجودة في مكتبه... تتحسس مكان الصفعة....عيناها غارقتان بالدموع....تفكر بنفسها وابنها...أعادت شريط حياتها السابقة....ابتداءً من والد باعها وهي بعمر الزهور لرجل يكبرها بعشرين سنة من اجل المال لم تذق معه طعم السعادة ...كانت كمومس له يفرغ بها رغباته ثم يلقيها يذلها بابيها ويضربها وبالكاد استطاعت الانفصال عنه....
عادت مع ابنها لأهلها الذين اجبروا على استقبالها متثاقلين, مع أنهم من الأغنياء ولا ينقصهم شيئاً...طلب يدها(عاصي رضا) وكان بنظرها المنقذ من بطش والدها....تعترف بداخلها انها هنا على الأقل تعيش برفاهية وكامل الحرية مع ابنها بغض النظر انها مجرد كرسي في البيت بعين زوجها...لا تشعر بأنوثتها...لا كيان ولا وجود لها في صفحات حياته.....هي صفقة اعتقدها رابحة لغايته ولكنه خرج منها بخفيّ حُنيْن بعد طردِ والدها من منصبه....
كانت الصفعة بمثابة منبه لاستيقاظها من تهورها...عليها اصلاح ما افسدته قبل أن تصبح متسولة تجول الشوارع....
الآن ليس وقت البكاء على الاطلال...يجب أن تتحرك الى الامام...يجب ان تكون اقوى من اجل ابنها....بحثت في عقلها عن طرف خيط لضمان مستقبله....هي تعلم أن أكثر ما يعلّي شأنها بنظر زوجها هو احضار ولائم غنية بالصفقات الدسمة التي تغذي مشاريعه ومسار حياته....هكذا تكسب صفّه وتحافظ على مكانتها في بيته....
لمعت عينيها وأمالت زاوية فمها بمكر بعد أن وجدت ضالتها...
زفرت أنفاسها تستجمع قواها وصعدت الى حمام غرفتها تغسل وجهها بالماء البارد لتنتعش وتبدأ بتنفيذ مخططاتها بدايةً من رفع الهاتف لتدقّ لصديقتها:

" مرحبا...كيف حالك عزيزتي اسراء؟"


" أهلا بالغالية سوزي أنا بخير واشتاق لك كثيرا ما هي اخبارك؟"

استرسلت بالحديث مع (اسراء) صديقتها من الوطن التي لم تنقطع علاقتهما ابدا مع ان كل واحدة بدولة...هي زوجة رجل أعمال شهير يدعى (رائد السيد) ...يقيمون في استراليا حاليّاً...فهم دائمو التنقل بين البلدان ولهم ولدٌ وحيد اسمه (صلاح) البالغ من العمر اثني عشر عاماً.... قررت محاولة اقناعها للإقامة معها في تلك البلاد بعد ان اخبرتها سابقا باستيائها من وضعها فابنها يتعلم لغة يتقنها ثم ينتقلون الى دولة أخرى ولغة أخرى... وانهم يريدون اختيار بلد يستقرون بها....

"لم لا تأتون هنا ؟! بلد جميلة، متطورة، شعبها راقي والأهم تناسب أعمال زوجك.... يستطيع فتح مشاريع كما يحلو له...وربما يتشاركان هو وزوجي...وهكذا نلتقي انا وانت كالسابق وابنينا يصبحان صديقين"

أدلت بصنارتها لعلّ وعسى تُخرج السمكة الذهبية، فتحمست الأخرى هاتفة:

"لم تخطر في بالي سابقاً...من حسن الحظ أنك اتصلتِ بي فنحن كنا على وشك اتخاذ القرار.... سأخبره حين يعود وأعلمك بقرارنا..."

أغلقت الهاتف بعد ان ودعتا بعضهما ....انجزت مهمتها وفقط عليها الدعاء لتصيب صنارتها....

~~~~~~~~~~~~~~

جلس مقابلا له في شركته بعد أن دعاه لأمر عاجل....تبادلا أطراف الحديث العام....نهض السيد(سليم) يضع يديه على خصريه واقترب ينظر للخارج من نافذة مكتبه ثم تنحنح هاتفاً بصوته الجهوري:

" كما أخبرتك سابقاً....حان موعد سفرك"


"متى؟؟"

سأل السيد(ماجد) وهو صديق الثوار ومساعدهم إعلاميا ومعنويا والمرسال بين القادة السريين والمعسكر...

استدار نحوه ثم خطا ليجلس على الكرسي المحاذي له وقال:

"خلال يومين....."


"حسنا...أعطني وقتاً لأرتب أموري.."


"ألم تخبر عائلتك؟؟"


"بلى وهم مستعدون لذلك ,لكن تبّقى بعض الإجراءات الرسمية في المصرف وإخبار أهلي....فإرضاء والدتي واقناعها سيأخذ بعض الوقت لأنني لم افترق عنها من قبل."

~~~~~~~~~~~~~~~~

بعد أسبوع من وفاة أبي عادت أصوات الانفجارات تدوي في كل مكان...ليلة تلو ليلة والحرب تشتد.... قصفٌ هنا وضربٌ هناك!!...بيوت تهدم, أرواح تزهق , أطفال في حالة رعب, عائلات تتشتت, نساء تترمل , أمهات ثواكل...دُمرت بلدان كاملة!!...من سيعمّرها؟! من سيعيد الأزواج لنسائهم؟! من سيواسي الأمهات؟! من سيعوض الأطفال؟!
كان القصف مازال بعيداً عن منطقة سكننا , ولأن أمي لم تفِقْ من صدمتها بعد ...اضطرت عمتي(لبنى) وهي زوجة السيد(سليم الأسمر) صديق أبي ورفيق دربه ومخزن أسراره لأخذ جدتي التي تفاقم عليها المرض والانهيار الى بيتهم في مدينتهم الأقرب للحدود الجنوبية الغربية بعيداً عنا....
×
×
×
تلى الأسبوع أياماً قليلة ووصل الى مسامعنا اقتراب الجنود الى بلدتنا لأنها رحم ولادة الثوار ...بدأوا بالزحف الى مركزها لتدمير المقرات السرية وتهديد عائلاتهم.....

" خُذ شادي لتطعمه....والدتك مشغولة على الهاتف وعليّ الاهتمام في الطبيخ"

طلبت مني خالتي (مريم) الاهتمام به بعد أن رأتني متفرغاً لتتابع عملها في المطبخ ...ما لفت انتباهي هو انشغال امي على الهاتف!!....كانت قد بدأت بالتحسن منذ يومان....الغريب في الأمر انها ليس من عادتها الإطالة بالحديث عبر الهاتف!!....

أطعمتُ الصغير ورفعته على كتفي أربّت على ظهره بخفة ليتجشأ في حركة بتّ أعرفها...فمكوثي في البيت جعل مني حاضنة له ولشقيقتي....

التفتُّ الى يميني حيث الباب الواسع لغرفة المعيشة عند سماعي خطوات أمي وخالتي تقتربان منا.....كان وجه أمي شاحب ونظراتها تتكلم!!... ويبدو أيضا على خالتي أنها مثلي لم تفهم سبب سحبها معها الى هنا!!.....اقتربت مني تحمل أخي وجلست بجانبي وأنا اتأمل تقاسيمها أحاول قراءة ما يدور في رأسها....أومأت بعينيها لخالتي لتجلس فردت:

"لا يمكنني ترك الطبخة على النار....ستحترق"


"اذهب ياهادي واطفئ الموْقد وعد فوراً"

امرتني والدتي بصوت مرتجف...

اطفأته وعدتُ لمكاني ...فهتفت خالتي بتوجس:

" ما بكِ عائشة وجهك اصفرَّ بعد مكالمتك مع لبنى.."


" لم أكن أكلم لبنى بل زوجها السيد سليم"

ردت امي في الحال توضّح سبب شحوبها...


"السيد سليم؟؟!!....ليس من عادته الكلام معك مباشرة!!"

قالت خالتي باستغراب...فهو رجل ملتزم غيّور وبغياب والدي وبعد وفاته كانت عمتي(لبنى) همزة الوصل بينهما عندما يكون امراً طارئاً ليخبرنا به.....


"ماذا يريد عمي سليم؟!"

سألتُ بفضول.....

أخفضت أمي عينيها للأسفل وابتلعت لعابها وهمست بتلعثم:

"علينا..أن...أن نهاجر"


"ماذا؟!"

صرخت خالتي أما أنا كنت أترجم كلمتها في عقلي فتابعت بنبرة يائسة:

"أخبرني أن لا وقت لدينا...فالعساكر سيحاصرون الجبل خلال أيام قليلة وعلينا الاختيار بين الاستسلام لهم من غير مقاومة او النزوح الى مكان آمن حفاظاً على ارواحنا وشرفنا..."

تنهدت وأضافت:

"أنتم تعلمون الاستسلام يعني الاستسلام لبطشهم والله وحده يعلم ماذا سنواجه تحت أيدي أولئك الطغاة..."

رفعت وجهها اليّ نظرت بعيون دامعة ازدردت ريقها وأكملت:

" أنت شاب ومن الممكن أن يأخذوك الى التحقيق لتقر عن أشياء تعلمها ولا تعلمها ....ونحن نعرف ماهي اساليبهم لسحب الكلام او الاجبار على قول ما يريدون لصالحهم "

سكت الكلام...لم أجد أي تعليق يعبّر عن مشاعري....هل هذه حقيقة التي أسمعها؟!....من قرر ذلك؟!..أيمكنني أن أتنفس هواء غير هوائي الجبليّ؟!...ألا يدركون انني انا سمكة في بحر وبإخراجها سأنتهي؟!!...هل سأترك خمسة عشر سنة عشتها في بيتي وحارتي تذهب أدراج الرياح وكأنها لم تكن يوماً؟؟!....بل أصدقائي أيعقل أن افترق عنهم بعد أن اتفقنا لنكون معاً لآخر العمر , حتى أننا بنينا أحلاماً وصلت حدّ السماء !!.....بالله عليهم ماذا يهذون؟؟!!...هذه ترّهات لن أقبل بها !!!!


" كلا وألف كلا"

صرخت بعد عودتي لواقعي أحمل تلك الكلمات....

نظرت لي أمي نظرات رجاء , ضعف , وكأنّها تستنجد بي!!...اغرورقت عينيها بالدموع..ضمّت الصغير الى صدرها بقوةٍ وهمست بصوت مختنق:

"ارشدوني ماذا افعل ؟؟.....هل نجلس هنا ننتظر حتفنا؟!....إن متنا جميعاً فلا بأس, ذلك لا يهمني...أما....أما...."

بترت كلماتها وسط عبراتها وبدأت ترتعش توشك على الانهيار ثم رفعت صوتها تخفي ضعفها وراءه وتابعت :

"أما ان فقدت أحدكم سأموت في الحياة ...أنا لا أقوى على هذا...فلتشعروا بي ......ذهب حبيبي تاج رأسي وتركني اواجه هذه الصعاب لوحدي!!....يكفيني ما عانيت من رحيل الأحبة "

دفنت وجهها بأخي وعلا نحيبها ....كانت كل دمعة تقطر منها تغرز كخنجر في فؤادي وصوت بكائها يمزق روحي.....اقتربتُ منها أضمُ كتفيها بذراعي مقبّلاً رأسها هامساً باستسلام :

" كما تريدين يا نبض الحياة...فلترضي عنا... أرجوكِ لا تبكي"


خالتي تضمُ(دنيا) في حضنها بعد أن رأت الوجوم يعتريها من بكاء امي....


تظاهرتُ بالقوة وسألت:

"متى سنرحل ؟!! وهل يوجد حديث عن عودة أم أن علينا نسيان شيء اسمه وطن ومدينتنا الجبلية وقصرنا العريق؟!"

مسحت امي دموعها بأطراف اناملها وأجابت بين شهقاتها:

"بعد غدٍ ان شاء الله وبإذن الله سنعود عندما تهدأ الأوضاع ..هكذا وعدني السيد سليم.."

أملتُ فمي ببسمة ساخرة وقلت في سرّي "وهل من أملٍ لتهدأ الحرب مادام يتنفس على هذه الأرض الجبناء والأوغاد"
×
×
×
أشعلتُ النار بعد أن جمعتُ بعض الأغصان اليابسة الصغيرة أضعها بين الحجارة لأتدفأ, أنتظر وصول صديقاي (سامي وأحمد)...
كان الوقت هو العصر من اليوم التالي لقرار الهجرة في بيتنا....قمتُ بالاتصال بهما لنلتقي بأعزّ مكان على قلوبنا...جمَعَنا دوْماً لسنوات....كان عبارة عن مرتفع يطلّ على القسم الأسفل من مدينتنا , فتضاريسها تبدأ بالارتفاع تدريجياً حتى تصل حيّنا الموجود في أعلى نقطة منها المحاط بأشجار السرو الكثيفة وكأننا في غابة....
أما مكاننا هذا فهو بطريقٍ ترابيٍّ جانبيٍّ كأنه تلة صغيرة تزيّن رأس الجبل ونبتت فيه شجرة من أشجار الخروب دائمة الخضرة التي نستظل بها ...نجلس على صخور تحتها...نشاهد منظر الغروب منها ونتسابق في القاء الحجارة من يحصّل على أبعد نقطة....كانت هذه أفضل العابنا التحدّي....
كنتُ جالساً بسكون ..تارةً أحرّك النار بعودٍ رفيعٍ وتارةً أخرى أسرح بمنظر مدينتي الحبيبة.....

"السلام عليكم..."

ألقى (أحمد) التحية وتبعه (سامي)الغليظ بـ:

" ما بك تبدو كالأرملة التي فقدت زوجها لتوّها؟! ...بقي عليك أن تولوِل"

" وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.....هيا اجلسا"

قلتُ وأنا أخفي نظراتي المحترقة عنهما....أتمالك نفسي.....

جلس كل منهما على جانبيّ ننظر بنفس الاتجاه الى الأمام....فتنحنحتُ لأحافظ على اتزان حبالي الصوتية قائلاً بدون مقدمات:

"سنهاجر.."

رمقني (احمد) بنظراتٍ مصدومة قاطعها (سامي) باستهزاء وهو يلوّح بيديه أمام وجهه :

"هِيـه هل صدقت هذا الأحمق أيها المغفل؟!...هو لا يمكن أن يتنفس غير هواء جبلنا"


"بلى...أنا لا أمزح"

قلت بصوت ضعيف.....


"لماذا؟!"

سأل (أحمد) بعتاب...


كان (سامي) يحدّق بجانب وجهي الأيمن حيث يتواجد فأجبتُ بقهرٍ ظهر بنبرتي:

"هذا قدرنا لنحمي أنفسنا.."

وعند آخر حرف غدرتني دمعة ظلّت عالقة محاصَرة في زاوية عيني اليمنى ...لمحها من كان بهذا الجانب فأدرك صدقَ قولي وأنقضّ يحاوطني بذراعيه وكأنه يحميني من الهروب ...انضمّ معنا (احمد) يحاوطنا نشبك أيدينا على أكتاف بعضنا ...نلصق جبهاتنا في بعضها ....نبكي بصمت دون أن ننبس ببنتِ شفة.....
دقائق ونحن نشد من احتضان بعضنا قطعتُها أنا ...أضربهما على كتفيهما ..أمسح دموعي مبتسماً بتصنع أجاهد لإخفاء احتضار روحي هاتفاً:

"ما بنا نبكي كالنساء؟؟....هيا امسحا دموعكما قبل أن يرانا احد ويشيع الخبر بالحيّ!!....لا تفرحا كثيراً سأعود قريباً ان شاء الله لأنكد عليكما عيشتكما"

ضحكا وعدّلا جلستهما وبدأت اسرد لهما تفاصيل رحلتنا ثم وصيتهما على بيتنا.....بقينا حتى الغروب وتفرّقنا عند بوابة منزلي بعد أن تعانقنا نودّع ونوصي أحدنا الآخر بالاعتناء بنفسه حتى نلتقي مجدداً....

دخلتُ بيتنا وارتميت على الأريكة في غرفة العائلة شارداً بالهجرة....

الهجرة؟!!

الهجرة هي كلمة ربطتها دائماً بالطيور المهاجرة بين الفصول...!!...كنت أشرحها لشقيقتي(دنيا) ونحن نراقب هجرتها في الخريف واستقبالها في الربيع....
أما هجرة بني البشر كنت أسمع عنها في وسائل الاعلام لأخوة لنا تهجّروا....بيننا وبينهم مسافات كبيرة.....أدعو لهم بصلاح الحال وأقلب المحطة من بعدها على برامج مسلية....فأنا أنعم بكامل الرفاهية في بيتي...احصل على كل ما أتمنى...بيت بارد في الحر ودافئ في البرد.....لا أكترث لشيء ....أصحابي حولي....أزور أقاربي...مطبخنا مليء بأشهى أنواع الطعام....لدينا مركبة فخمة...أدرس بأفضل المدارس....لم أشعر يوماً أو حتى أفكر ماذا عاشوا من تذوّقوها....

نعم الهجرة هي الآن مـ ـلاذّنا الوحيد لننجو اذا قدّر لنا ذلك....بعد أن اقنَعَنا زوج عمتي السيد(سليم الأسمر) بخطورة البقاء لانتمائنا لاسم القائد المجاهد (محيي الدين)....

كيف أصبح إسم أبي يشكّل خطراً علينا بعد أن كان مصدر الأمان الذي نفتخر به؟!.....أين كنا وأين وصلنا؟؟!!

آهات حبيسة تختلج صدري ..تضغط على أنفاسي...وددت لو أطلقتها لأرتاح!!....لكني خشيت على عائلتي فيكفيها ما فيها....

لا أريد لأمي أن تذبل مجدداً بعد عودتها للحياة رويداً رويداً بفضل الله ومن ثم دعم الأحباب...
خالتي العزيزة(مريم) لم تشأ تركنا بعد أن فقدت زوجها قبل سنوات عدة...كانت تلازم امي وتساندها رغم أنّها تصغرها بسنواتٍ...

" رتبتُ حقائبنا ووضعتها عند المدخل كي لا نتأخر في الصباح"

وجّهت أمي كلامها لخالتي التي نهضت من مكانها قائلة:

"حسناً وأنا سافرغ الخزنة من المال والمجوهرات..."

عند سماعي كلمة مجوهرات عدتُ في ذاكرتي لأيام ليست ببعيدة أسمع بها أمي تطلب المال من ابي لاقتنائها لتذخرها بحجة [قرشك الأبيض ليومك الأسود]....يبدو أنه جاء هذا اليوم الأسود لتَخْرُج هذه المجوهرات....

"أنا اريد أخذ بندقية أبي "

هتفت بها عند مروري من جانبها وهي معلّقة مكانها على الحائط فشهقت أمي بفزع ..تضع يدها على صدرها... عيناها تلمعان قائلة :

"مستحيل لن أسمح لك ....يكفي ما خسرنا"


"لكن يا امي هذه رائحة أبي وأوصاني بالمحافظة عليها..أرجوكِ"

قاطعتني بحزم:

" لا استطيع المجازفة بك وبأخوتك....ثم من قال لك أنهم سيسمحون لك بنقلها؟!....تحتاج لتصاريح!!....اقفل الموضوع"

زفرتُ بضيقٍ واستسلمت لقرارها ....دنوت منها أقبّل جبينها وقررت ايداعها بمكان آمن...
بعد منتصف الليل الجميع في سبات باستثنائي !!..أتململ في فراشي...أفكر بالغد والمستقبل المجهول....قبل أيام كنت أطير فرحاً لتحمّلي مسؤولية تافهة ...والآن بعشيةٍ وضحاها أصبحت رجل البيت لأرعى عائلة كاملة رغم صغر سني....
أثقلني التفكير وغلبني النوم في النهاية....


تعالت مآذن البلد بكلمة الله اكبر...
نعم الله اكبر على كل ظالم ..الله اكبر على من طغى وتجبّر...حي على الفلاح والصلاة خير من النوم....إنه موعد صلاة الفجر...

كانت امي في هذه الاثناء تطعم أخي (شادي) ...توجّهت الى المطبخ بعد أن نام الصغير لتغسل زجاجته ثم أقبلت لتوقظنا أنا وخالتي للصلاة وللاستعداد للانطلاق....

أشرقت شمس يومنا الأخير في وطننا لا نعلم ماذا يحمل في طيّاته!!

خرجتُ الى الحديقة قاصداً تلك الشجرة المباركة...شجرة زيتون كبيره معمّرة...حفرتُ تحتها واضعاً البندقية ناثراً التراب عليها بإحكام ومع نثراته تناثرت في قلبي غصّات...فهذا الموقف أعادني الى لحظة مواراة أبي الثرى...دفنتُ أبي ودفنتُ العهد معه...

لم أسمح لدمعي بالنزول...رفعت بصري ناظراً للسماء متذللاً لخالقها:

" ياا رب أنت العالم بحالي...ياا رب إني استودعك مِن أغلى ما أملك...ياارب أحيّني لليوم الذي سنطّهر به الوطن كما رغب أبي"

مسحتُ دمعة خانتني وتوكلت على الله داعيّاً:

" اللهم إنا نسألك خير ما في هذا اليوم ونعوذ بك من شره"

دلفتُ بيتي رافعاً رأسي بثقةٍ وقوةٍ لم أعهدهما من قبل....فاليوم يوم مصيريّ....يجب أن ابثّ الآمان لعائلتي وأُشعرهم أنهم بإمكانهم الاعتماد عليّ لأتولى رعايتهم من بعد الله....

وصلت مركبة تابعة للسيد(سليم الأسمر) كما اتفقنا لتقلّنا الى مرفأ السفن بعد أن رتّب أمورنا مع معارفه وقاموا بكافة إجراءات النقل الرسمية ودفع مبلغ طائل من المال لحجز مقاعد لنا بسفينةٍ على مستوى رفيع فيها شتّى وسائل الرفاهية....

وضعنا الحقائب في صندوق السيارة وركبتُ أنا المقعد الأمامي جانب السائق وبقية عائلتي في الخلف....لنسير على دربِ الهجرة!!

[[سلامٌ على مدينة تنفست هواءها , شربت ماءها ,سجدت على ترابها , أكلت من خيراتها , هاجرتُ منها ووعدي ألّا أنساها, فعمري ودمي كله فداؤها]]

********** (انتهى الفصل الثاني) **********

اللهم صلّ وسلّم على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم

shezo 09-10-21 09:01 AM

مرحبا.صدق حدسي في موت السيد محي المناضل .
وبموته تتغير كل الأشياء حياة أسرة بالكامل ينضج فيها الصبي قبل الاوان وتواجه الزوجة عالما جديدا بمعايير جديدة فعليها الصراع للبقاء بعد ان إنهار العامود الذى كانوا يحتمون به وليت هذا العالم المنهار يظل راسخا فلا يغادرهم وطنا كما غادرهم رب الأسرة.
اما فاتن فقد إتضح انها ليست ركنا هشا يمكن الإطاحة به إذ لم يمض سويعات حتي أعادها عاصي من أجل عيون ألمي فهو فيما يخصها ابا صالحا محبا بصرف النظر عن أطماعه
ويستمر صراع المصالح والبقاء للأقوى ..سوزان تحاول ترسيخ وجودها معه بعد فقدان والدها لمنصبه وأيضا عن طريق المصالح واستجلاب الصفقات
في عالم الفاسدين كل شئ بثمن ولا عزاء للقيم والمثل العليا.
وها هي الإجابة فبمغادرة الاب عليهم مغادرة الوطن نجاة بأرواحهم متخلين عن عمرا عاشوه آمنين
ومن ثم تبدأرحلة الترحال واللجوء.
هي هجرة ليست كهجرة الطيور التي لا تلبث ان تعود لموطنها بينما من يهاجر وطنه مرغما لا يصبح له يوما وغدا ومستقبلا هي فقط اللحظة التي يحياها متمسكا بأهداب الحياة فاقدا كل سبل الحياة التي أجدتي وصفها علي لسان هادى وهو يودع بيته وحياته الآمنة.
ويضطر لدفن رمز البطولة ووصية والده وهي بندقيته الغاليةتحت شجرته العزيزة عله يرجع يوما وبستعيد فخر أبيه.
حلما بعالم الغيب فكثيرا من يرحل لا يعود
سلمت اناملك علي الفصل الجميل والمشاعر الصادقة التي تعبر بكل الالم والقهر والشتات علي اسرة كانت آمنة فغدت بين عشية وضحاها لاجئة تفقد أحضان الوطن.
إلي لقاء لك كل الحبx التقدير

ألحان الربيع 09-10-21 03:52 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة shezo (المشاركة 15706096)
مرحبا.صدق حدسي في موت السيد محي المناضل .
وبموته تتغير كل الأشياء حياة أسرة بالكامل ينضج فيها الصبي قبل الاوان وتواجه الزوجة عالما جديدا بمعايير جديدة فعليها الصراع للبقاء بعد ان إنهار العامود الذى كانوا يحتمون به وليت هذا العالم المنهار يظل راسخا فلا يغادرهم وطنا كما غادرهم رب الأسرة.
اما فاتن فقد إتضح انها ليست ركنا هشا يمكن الإطاحة به إذ لم يمض سويعات حتي أعادها عاصي من أجل عيون ألمي فهو فيما يخصها ابا صالحا محبا بصرف النظر عن أطماعه
ويستمر صراع المصالح والبقاء للأقوى ..سوزان تحاول ترسيخ وجودها معه بعد فقدان والدها لمنصبه وأيضا عن طريق المصالح واستجلاب الصفقات
في عالم الفاسدين كل شئ بثمن ولا عزاء للقيم والمثل العليا.
وها هي الإجابة فبمغادرة الاب عليهم مغادرة الوطن نجاة بأرواحهم متخلين عن عمرا عاشوه آمنين
ومن ثم تبدأرحلة الترحال واللجوء.
هي هجرة ليست كهجرة الطيور التي لا تلبث ان تعود لموطنها بينما من يهاجر وطنه مرغما لا يصبح له يوما وغدا ومستقبلا هي فقط اللحظة التي يحياها متمسكا بأهداب الحياة فاقدا كل سبل الحياة التي أجدتي وصفها علي لسان هادى وهو يودع بيته وحياته الآمنة.
ويضطر لدفن رمز البطولة ووصية والده وهي بندقيته الغاليةتحت شجرته العزيزة عله يرجع يوما وبستعيد فخر أبيه.
حلما بعالم الغيب فكثيرا من يرحل لا يعود
سلمت اناملك علي الفصل الجميل والمشاعر الصادقة التي تعبر بكل الالم والقهر والشتات علي اسرة كانت آمنة فغدت بين عشية وضحاها لاجئة تفقد أحضان الوطن.
إلي لقاء لك كل الحبx التقدير

اهلا بكِ..نورتِ❤

نعم لقد صدق حدسك وتحليلك بالنسبة لموت الأب.👍

هادي رغم صغر سنه الّا انه واعي كفاية لمسؤولياته اتجاه عائلته...لقد نضج قبل أوانه لانه كان ملازماً لأبيه وتأثر منه لحد كبير........وفاتن كما قلتِ ليست ركناً هشاً انما هي حكيمة في تصرفاتها وردود أفعالها.....اما بالنسبه لعاصي رضا يحب ابنته بطريقة خاطئة ..فهي تحتاج منه الاحتواء والاحضان والمرافقة وليس الماديات وابعاد الاخرين عن طريقها حمايةً لها...وسنرى لاحقا الى أي حد ممكن ان يضحي في مصالحه من أجلها......سوزي هي صورة لزوجة الأب الأفعى الحاقدة ، الأنانية ، الباحثة عن مصالحها ومصالح ابنها فقط .........

نحن ننعَم بفضل الله بالامان والاستقرار في بيوتنا وعندما نخرج لرحلة او زيارة نشتاق بسرعة للعودة الى البيت ....فكيف الذي ترك حياته وبيته مرغماً....مهما كتبنا لا نعبر ذرة عن شعورهم...كان الله في عونهم وعوضهم كل الخير وأعادهم للوطن سالمين آمنين.....

أشكرك على مرورك الاكثر من رائع ولطف كلماتك ...بارك الله فيكِ🌷

موضى و راكان 10-10-21 03:09 PM

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 1 والزوار 1)


‏موضى و راكان


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بداية مبشرة بكاتبة واعدة يا ألحان الربيع و كل العام تمنياتى لك بالتوفيق و إن شاء الله تكون هذه الرواية بوابة

الخير لك و بداية سلسة من الروايات الرائعة

دمتى بكل خير

ألحان الربيع 10-10-21 03:49 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة موضى و راكان (المشاركة 15707728)
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 1 والزوار 1)


‏موضى و راكان


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بداية مبشرة بكاتبة واعدة يا ألحان الربيع و كل العام تمنياتى لك بالتوفيق و إن شاء الله تكون هذه الرواية بوابة

الخير لك و بداية سلسة من الروايات الرائعة

دمتى بكل خير

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

ربي يسعدك ...شكرا على الكلام الداعم والدعوة الجميلة....سررت بمرورك واتمنى ان اكون عند حسن ظنكم


:29-1-rewity:

Mini-2012 10-10-21 07:44 PM

المقدمة مبشرة للقراءة😻😻😻😻

Mini-2012 10-10-21 07:45 PM

شكرا shezo لاقتراح الرواية😻😻😻😻

Mini-2012 10-10-21 07:45 PM

😻😻😻😻😻😻😻😻😻😻😻😻😻😻😻😻

ألحان الربيع 10-10-21 09:20 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة Mini-2012 (المشاركة 15707976)
المقدمة مبشرة للقراءة😻😻😻😻

أهلا بكِ....اتمنى ان تعجبك ولا يخيب ظنك

شكرا لمرورك


:29-1-rewity:

Mini-2012 11-10-21 12:44 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ألحان الربيع (المشاركة 15703454)
الفصل الأول((أصبحت رجلاً))

في ليلة من ليالي الشتاء الباردة ومع سماع دويّ الانفجارات القادمة من كل الاتجاهات التي تفرضها الحرب اللعينة , يصدح صوت القران من بيتنا الجبليّ الكبير الدافئ الذي يملأه الحب والأمان , وفي غرفتها الواسعة بزرابيّ خمريّة تغطي أرضها الرخامية تستلقي على فراشها الوثير متململة ....تحرك رأسها بقوةٍ على جانبيها متألمة, تتأوه, تستغيث أمي (عائشة) وهي منتظرة قدوم مولودها....
تمسك بيدها خالتي ( مريم ) وبالأخرى جدتي والدة أبي لتهدئتها من أوجاعها وصرخاتها....
ومن خلف الباب الخشبيّ الضخم المرصّع بنقوشاتٍ نحاسية الذي كان بمثابة درعٌ واهنٌ لم يمنع أسهم الصرخات من اختراق آذاننا أنا وشقيقتي المدللة ( دنيا) إبنة الثماني سنوات....نرتقب الحدث بقلق, احتضنها وأمسّد على شعرها الترابيّ الناعم لأخفف من بكائها وخوفها على والدتنا ...أمسك كتيّب للأدعية اقرأ منه راجيّاً من الله السلامة لها وللصغير....
وكذلك الخدم , جميعنا في حالة بلبلة...
مضت ساعات شاقّة وأمي لم تُنجب بعد....

~~~~~~~~~~~~~~

على الجهة المقابلة بعيداً عنّا قرب الحدود...غيوم سوداء كثيفة اثرَ الدخان المتصاعد الذي يتخلله زخات من الرصاص ...يتواجد مجموعة من الثوار الأحرار الذين تعاهدوا أمام الله أن يكونوا حماة للوطن والدين حتى آخر قطرة دم في أجسادهم ...اجتمعوا لنصرة الحق بقيادة والدي (محيي الدين الشامي) فإما النصر أو الموت في سبيله....

{ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ ۖ }

اسمهُ لمعَ في عالم الثوار , فارسٌ زعزعَ الأعداء وفضّ مضاجعهم بدهائه الحربيّ....حيثُ يمرُ يقف له الناس إحتراماً من هيبته التي لم يسمح قط للغرور بالمرور جانبها, انما زيّنها بتواضعه وأخلاقه والتزامه في دينه....
يعطي تعليماته لأصدقائه في كتيبته بدقةٍ واحترافية.....

-" احترِس يا صديقي...

استعِد....

هيا اطلق الان...."

طلقة من هنا قابلتها طلقات من هناك لتصيبَ صديقه (زياد) في بطنه...

"آاااه...آااه..."

اندفع أبي نحوه بأنفاس لاهثةٍ وجبينٍ يتصبب عرقاً...يسحب جسده الغارق بالدماء على التراب حتى وصل الى العشب الكثيف يواريه من انظارهم ...يخبئه بحذر وينتظر وقف إطلاق النار ثم همس له:

" تمالك يا صديقي أرجوك.."


" آااه...يؤلمني..."


مرّت دقائق قليلة حتى اختفى ضجيج الأسلحة فحمله على ظهره ودماؤه تسيل , يحاول الركض علّه يسعفه قبل فوات الأوان....
قطع مسافة لا بأس بها وهو يتجه صوْب المشفى الميداني خاصتهم....
حاول اختصار الطريق قدر الإمكان ....
رَغم برودة الطقس والهواء الذي يلفحهم إلا أن حبيبات العرق لزمته من شدة قلقه عليه وهو يسمع انّاته التي تعتصر قلبه....
إعتاد على هذه المناظر والمواقف خلال خوض معاركه...لكن عندما نرى الموت يقترب ليختطف المقربين منا تنهار حصوننا ...فها هو أحد أصدقائه المخلصين الداعمين لمسيرته يشارف على فقد حياته....

أسرع في خطاه عندما لمح دنوهِ من مقرهم العسكري....
دقات قلبه تزداد ...رئتيه تنتفخ تضغط على صدره...لكن لا مناص وهو مصمم على إنقاذه حتى لو لفظ بِنَفْسِهِ أنفاسه الأخيرة...كيف سيترك رفيق دربه وهو من آزره بأصعب أيامه ؟؟!!...


" آااه لا أتحمل سوف أموت...."


زاد بخطواته يصارع الدقائق التي تفصل صديقه عن موت محقق ...وقع جهاز اتصالاته غير مكترث له ...يجري ويجري ليتعثر بعدها بحفرةٍ صغيرةٍ غادرةٍ لم يبصرها والظلام دامس فالقمر تحجبه السحب المدججة بالأمطار المدمجة بالدخان ليقعا معاً وتعلو صرخات (زياد) تخترق فؤاد أبي قبل أذنيه....
دنا منه زاحفاً مع أن طاقته نفذت...وأنفاسه قُطِعت ...حلقه جف...يشعر بالإعياء الشديد بعد استنزاف قوته...ليبثّ السكينة له :


" بقِيَ القليل ونصل المقر...ستعيش بإذن الله..."


شخص بصره للسماء المظلمة وابتلع ريقه بصعوبةٍ ...وضع يده على صدره الذي خفّت حركته تدريجيّا ...
فمدّ له ذراعه يفكّ الوشاح المُلَثِّم وجهه يكشفه ليتفقده...وجاهد لكتم عبراته أمامه لئلا يضعفه ويجعله يستسلم لحتفه...

فاضت الدماء بعد أن وجدت طريقها للخروج من فمه ليلفظ كلماته بشقِّ الأنفس:

" إذهب ...أنت ...يا...يا صديقي...واتركني ...فـ فـ فـالوطن يحتاجك...آاه"


ضغط على شفتيه يوقف ارتجافها وابتلع ريقه هامسا بنبرة مخنوقة:

"مستحيل لن أتركك..."


" آااه...أشـ هدُ أن لا إله إلا ...إلا الله..."

هي آخر آه حملتها روحه عبرت حلقومه يستقبل بها الموت....

~~~~~~~~~~~~~~~~

أمّا في بيتنا بين آهات أمي يظهر القلق والارتباك على خالتي وجدتي التي تدعو بخفوت:

" يارب هوّن على عائشة وأعِد إلينا محيي الدين سالماً.."

تحمل خالتي (مريم) منديلاً تمسح به جبهة أمي الغارقة بقطرات الماء وتهمس لها تدعمها :

" تحملي يا أختي وقولي يا رب..."

تشدّ بقبضتها على يد أختها ...تقلصات بطنها كطعنات تغرز بها...لا تستطيع السيطرة على حركتها ...تحاول كتمان صرخاتها...من يخفف عنها ويريحها ؟! تستمع لتوجيهاتها دون ان تقدر على تطبيقها ليخرج من رحمها ...تغمض عينيها وتعض شفتها السفلى ...داخل صدرها بالون ينتفخ يضغط على أنفاسها...جدتي تتمتم بآيات تسكنها ...لا أحد يشعر بما تواجه في معركتها ...تحاول وتحاول ولكن لا ألم يوازي آلام المخاض....


القابلة من تحت الغطاء تتفقد وضعها ...توجهها وتطلب منها بعناء:

" ادفعي بقوةٍ أكبر...لم يتبقى إلا القليل..."


" آااه يااا رب...."


خرجت هذه الآه وجاءت روح إلى الحياة ...

تبسمت القابلة تزفر أنفاسها وتمسح جبينها بظهر كفّ يدها بعد الجهد الذي بذلته وتنهدت قائلة وهي تحمله تلفه بالقماش القطني الأبيض وتنظفه:

" ها قد أتى وليّ عهدٍ آخر ...الحمد لله على سلامتكما"


" هل هو بخير؟!"

سألتها أمي بصوتٍ متعبٍ لتطمئن على صغيرها غير آبهة بوضعها...


" نعم بخير وإنه كالبدرِ في ليلته الرابعة عشر"


هتفت بعدها جدتي والسعادة تغمرها متناسية تعب اليوم والليلة:

" حمداً لله...جعله الله من الصالحين"


كنتُ في الخارج أحملُ شقيقتي (دنيا) وأدور بها مبتهجاً بعد سماعي بكاء الصغير وتمتمات الفرح المنتشرة في الداخل...
دلفتُ إلى الغرفة أهنئ أمي بسلامتها ثم طلبتُ منها تسميته.
ومع أن تقاسيم وجهها شاحبة، مرهقة، يغزوها التعب إلا انها رسمت بسمتها بحنوٍّ لطلبي هامسة:

"سَمِّهِ يا (هادي) وأذّن في أذنهِ...."


لم أصدق نفسي...دنوتُ من القابلة أحملُ أخي بحذر بين ذراعيّ أتأمله واستنشق رائحته ...كم حجمه ضئيل هذا المخلوق ويا لها من سعادة هذه أول مسؤولية أتولّاها بمفردي...أحسستُ وكأنني رجلٌ بالغٌ كبيرٌ وأنا لم أتجاوز الخمسة عشر عاماً....
أحنيتُ رأسي بقرب أذنه وبدأت بترديد الآذان سائلاً الله تعالى أن يقرّ أعين والديّ به...

بعد عَوْمي في شعور الرجولة هتفت متحمساً:

"شادي...سأسميه(شادي) لأنه يشدو ببكائهِ في أنحاء البيت..."

صمتُّ برهةٍ وأردفتُ باعتزاز مازحاً:

"هادي وشادي ...ثنائي عظيم"

ضحكت أمي وتَبعنها جدتي وخالتي وكذلك القابلة التي أطرأتني بكلماتها:

" حماك الله يا سيد هادي...إنك تمتلك صوتٌ شجيٌّ جميل"

أضافت خالتي:

"إنه حافظ لكتاب الله مع إتقان تجويده...لقد ورث عن والده حُسنَ الصوت والشكل"

تحفّزت جدتي وقالت:

" وكذلك شجاعته وذكاءه ودماثة أخلاقه...ليحفظهما الله"

إكتسى وجهي بالحمرةِ خجلاً من هذا المديح رَغم معرفتي بذلك...فأنا نسخة مصغرة عنه في الشكل ...طويل وعريض المنكبين ببشرةٍ قمحيةٍ...أملك شعراً أسوداً ناعماً وعيناي بلون الأرض الترابية المضاءة بأشعة الشمس... واسعة , تكحّلها رموشي السوداء الكثيفة...وبالطبع ما زلت في مرحلةِ نموٍ ونضوج....
علمني أبي على الشجاعة والثقة بالنفس ودائما كان يحاول غرز مكارم الاخلاق بي وأدخلني حلقات القرآن....

ساعات عشناها كانت خليط من التوتر والسعادة بقدومِ صغيرنا(شادي)...

مع دقات الساعة الواحدة بعد منتصف الليل عمَّ الهدوء في الخارج لِيُسمع فقط صوت قطرات متفرقة من المطر تلامس الأشجار والأسطح....


" الحمد لله ...اللهم اجعله صيباً نافعاً وهدوء خير للجميع "

هذا ما نطقت به أمي.

كنتُ أقف بهذا الوقت على شرفةٍ مغلقةٍ بالزجاج... أغوص متأملاً تلألؤ حبات الماء من انعكاس نور المصابيح الخارجية بمنظرٍ أعشقه....

فجأةً انقبض قلبي لينطق لساني:

"يارب لطفك ورحمتك التي وسعت كل شيء"

توجهتُ بعدها إلى غرفة المعيشة الخاصة بالعائلة وأشعلتُ التلفاز لأتابع آخر أخبار الحرب على الحدود...الحمد لله لقد توقف تبادل إطلاق النار...أغلقته مطمئناً وذهبت إلى غرفتي لأخلدَ للنوم بعد يومٍ وليلةٍ مُرهقتين...

~~~~~~~~~~~~~

في مدينة أخرى جانبية تبعد عن الحدود كيلومترات قليلة...
وتحديداً في مرآب شركته الفخمة حيث غرفة التجمع السرية، يلقي هاتفه عاصفا بمن امامه دون تصديق صارخاً:

"كيف؟! كيف؟!...هلّا أخبرتماني؟!"


ابتلع أحدهما ريقه يتحاشى نظرات الثائر مقابلاً له وأجاب بصوتٍ أجش:

" لا نعلم سيد (سليم)...هذا ما وَصَلَنا حاليّاً"


وثبَ من مكانه كأسدٍ هائجٍ وأشار بسبابتهِ هاتفاً بصرامة:

" لا اريد رؤية وجهيكما قبل أن تأتياني بخبرٍ مؤكد!!"


ألقيا التحية وانصرفا بعجلةٍ تفاديّاً من إعصاره....

~~~~~~~~~~~~~

قصرٌ كبيرٌ بطلائه الأبيض ونوافذه المأخوذة من الطراز المغربي في العاصمة التي لا تفرّق ليلها عن نهارها بأنوارها الصاخبة وحركة شوارعها الحيّة...يجلس على كرسيه الجلديّ الفاخر في مكتبه المؤثّث بأفخم المتاع الذي سلب ثمنه من خزائن الدولة...يسند رأسه للخلف ..يمسك هاتفه مقهقهاً يجري مكالمة لبلادٍ خارجيّة يبشّره بآخر المستجدات:

"لقد تمّ الأمر بنجاح صهري...نريد الحلوان"

أنهى محادثته بعد دقائق زافراً أنفاس ألنصر هامساً لنفسه بصوته الغليظ:
"وأخيراً سننعَم بالاستقرار..."

~~~~~~~~~~~~~

خارج الوطن في بلادٍ يفصلها عنا أميال وأميال من مياه البحر، مدينة كبيرة تجمع أناس من شتّى بقاع الأرض ...لوهلةٍ تظنّها العاصمة من كثرة الإقبال عليها وأهميتها الاقتصادية الحيوية لهذه الدولة لوقوعها على البحر...يتطرفها مخيمات للاجئين من مختلف الجنسيات ...منهم من طُرِد ومنهم من هرَبَ للنجاة من الاعتداءات الغاشمة على بلدانهم ومساكنهم...
يتوسط هذه المدينة أحياء خاصة للأغنياء مكتظة بالقصور والبيوت الحديثة...ومن بينهم قصرٌ ضخمٌ بطابعه الهندي، محاط بالأسوار الشاهقة المزروعة بآلات المراقبة الأمنية.
أَسواره الغرور...أساسه الخيانة....جدرانه النفاق.. طلاؤه دماء الأبرياء....
يقطنه وزير سابق لبلادنا يدعى (عاصي رضا) الذي استقرّ به منذ ثمانية أعوام بعد أن رحل من موطنه...
قصره أشبه ببيتِ العنكبوت...هشّ، ضعيف، برباطٍ غير متين

{وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ}

يعيش معه ابنته الوحيدة المدللة (ألمى) ذات الثمانية أعوام وزوجته الثانية (سوزي) معها ابنها (كرم) ذو العشرة أعوام من زوجها الأول، والسيدة(فاتن)شقيقة زوجته الأولى المتوفاة منذ خمس سنوات.

تتفتل في القصر بخفةٍ كالفراشة... تتدلل على خالتها تارةً والمربيّة تارةً أخرى...فغداً عطلة نهاية الأسبوع ويمكنها فعل ما تشاء...

" خالتي...خالتي...ألن تشاهدي معي كرتون(سالي)؟!"

هتفت (ألمى) بصوتها العذب الطفولي...

فردت عليها خالتها (فاتن)بنبرة استياء مصطنعة:

"اوه صغيرتي...لو علمت أنك ستلتصقين بي كالعلقة لأشاهده معك يومياً لما أخبرتك بذلك."

عبست بدلال لتستعطف خالتها وهمست بمكر:

" يكفي أن أبي لم يوافق على تسميتي باسمها مثلما أرادت أمي...على الأقل لأستمتع بمشاهدته...لا أدري من أين حصل على اسمي هذا؟!"

ضحكت المربية وقالت بحنان:

"اسمك جميل بنيتي ومعناه رائع...فأنتِ فعلاً أتيتِ كالروح لهذا البيت"

قطبت حاجبيها وزمّت شفتيها بامتعاض وقالت:

" ما فائدته إذا كان معناه (الروح) وهو ليس باسمٍ عربيٍّ؟!...نحن لسنا إسبان ليسميني به."

تبسمت خالتها وأردفت:

" توعّك والدك يوماً وهو في إسبانيا ورقد أياماً بالمشفى وأشرفت على علاجه طبيبة تدعى ألمى وكانت والدتك حاملاً بكِ فوعدها بتسمية ابنته باسمها امتناناً لها."

تأففت ثم سرعان ما تحوّلت ملامحها للمرح...فهي هكذا لا تستطيع العبوس أكثر ...هذا ليس من طبعها ...قلبها نقيّ مسامح ...رغم ما عانته وتعانيه....

اقتربت من خالتها تمسك يدها تهمس برجاء:

"هيا خالتي أرجوك لنشاهده معاً"

هزّت رأسها محوقلة بهمسات دافئة مبتسمة وقامت من مكانها تضع القرص المدمج في الجهاز، منصاعة لصغيرتها لتشاهد مسلسلها المفضل للمرة المئة بعد الألف من وقت معرفتها أنّ أمها كانت ستسميها بـ (سالي) لشدة الشبه بينهما...
أطفأن النور في غرفة الجلسات العائلية ثلاثتهن ليبدأ العرض على الشاشة بعد أن شرّطت عليها لتكون حلقة واحدة فقط لأن الوقت قاربَ على منتصف الليل....
×
×
×
تململت في فراشها وفتحت عيناها النجلاء تتمطّى بنعومةٍ في صباح عطلتها وفجأة تذكرت وعد أبيها لها باصطحابها إلى مدينة الألعاب في هذا اليوم....
فزّت بسرعةٍ تدخل الحمام تغسّل وجهها وتنظف أسنانها ثمّ بدّلت منامتها لملابس الخروج...اعتادت على الاهتمام بنفسها وكأنّها فتاة بالغة رغمَ براءتها وصغر سنّها...حملت مشطها وركضت متجهة لغرفة خالتها لتسرّح لها شعرها الذي لا تستطيع هي جمعهُ بنفسها من طوله وكثافته.... وما إن انتهت من تسريحه اندفعت خارجة على صوت من تركتها خلفها مبتسمة لتصرفاتها:

" هيــه ألمى خذي مشطك..."


"لاحقاً خالتي لاحقاً"


نظرت للمشط بيدها وتمتمت بقلقٍ على ابنة شقيقتها:

" آه إلى أين ستصلين باندفاعك هذا عزيزتي؟!"


هبطت درجات السلّم برشاقتها متجهة إلى مكتبه في الأسفل وفتحت الباب تطلّ برأسها إلى الداخل تهتف بدلال:

"صباح الخير يا أجمل...."

اخفضت عينيها دون أن تكمل جملتها عندما رأت كرسيه فارغاً ولا أثر لحقيبته...عادت أدراجها تنكس رأسها بحزنٍ بعد أن اختفى حماسها... تخطو ببطء...تنظر إلى نقشات الأرض الرخاميّة الذهبيّة شاردة ...تريد إجابات لأسئلتها المبعثرة في دماغها...لِمَ دائماً العمل في سلّم أولوياته؟! لِمَ يعتقد أن الهدايا تسدّ عن غيابه؟! لِمَ هي كالغصن المقطوع من شجرة لا أقارب لها ولا أصدقاء ولا أخوة؟!...حتى زميلاتها لا يسمح بتبادل الزيارات بينهن...لِمَ ولِمَ ولا إجابات!!!

رفعت رأسها تسترق السمع بعد أن قطع تساؤلاتها صوت يأتي من الخارج في حديقة القصر...

خرجت بحذر تمسك فستانها كي لا يلامس الأرض ...وقع نظرها على ابنتيّ احدى العاملات في القصر تلهوان سويّاً...تفتحت أساريرها مبتهجة وانطلقت نحوهما كأنهما سقطتا من السماء هذه اللحظة لتجد من تلعب معه!!
جحظت أعينهما وهي تقترب منهما من فخامة لباسها مثل أميرة من أميرات ديزني الخاصة بأفلام الكرتون، فهمست برقةٍ تليق بجمالها وأناقتها:

" هل تسمحان لي باللعب معكما؟"

حدّجتا بها باستغراب...يا الله كيف لهذه الأميرة أن تكون بهذا التواضع ؟ لا وبل تستأذن منهما وهي سيدة القصر...لم تُمهلانها طويلاً فردّتا معاً:

"بالتأكيد"

تبادلن الأسماء وأخذن باللعبِ بسرور ومضى وقت لا بأس به حتى قتلت هذه اللحظات السعيدة من تقف تضع يدها على خصرها كالساحرة الشريرة في الحكايات ترميها بنظرات شزراً صارخة:

"ألمـــــــى...ماذا تفعلين هنا مع الخادمات؟!"


ابتلعت ريقها وأجابت بصوتٍ مرتبك هادئ:

"ألعب معهما خالة سوزي"


"من سمح لك بذلك؟! أنسيتِ أنك ابنة عاصي رضا ؟!"


صُهِرَ قلبيهما بعد أن رمتهما بحممٍ بركانية بتنمرٍ وعنصرية وولّتا مدبرتان إلى والدتهما، أمّا (ألمى) التي اشتعلت غيظاً من زوجة أبيها هتفت بقوةٍ لا تدرك من أين أتتها او ربما كرهها للظلم واحتياجها للأصدقاء ألهمها على ذلك:

" غنى وجنى صديقتاي في القصر وسألعب معهما"


" لا أصدقاء لكِ...أدخلي العبي في غرفتك"


صرخت بعناد:

"كلا...أريد أن العب معهما"


انقضّت عليها كالثور المصاب بصرع ...تمسكها من ذراعها وتسحبها بفظاظة إلى الداخل مستغلّة اعتصام خالتها هذه الأوقات في غرفتها وصرخت بها:

"أيتها الوقحة تعاندينني أنا؟!...سأخبر والدك بذلك"


" لا...لا...أنا آسفة...أرجوكِ لا تخبريه."

قالت جملتها تعلن استسلامها لظلم (سوزي) زوجة أبيها الامرأة الخبيثة الحقودة ...فهي متوسطة الجمال الذي معظمه من المساحيق وعمليات التجميل...تغار من (ألمى) لجمالها الذي ورثته عن أمها ولاهتمام (عاصي رضا) بها فإنها خط أحمر لا يسمح لأحد بتجاوزه...تتربع على عرش قلبه...يفعل المستحيل لحمايتها....
كانت تلك تستغل انشغاله بأعماله ...تهددها وتخوّفها مدّعية بأن والدها سيطرد خالتها (فاتن) إذا علم بتصرفاتها هذه معها...

خالتها(فاتن) هي الحضن الدافئ والنور لظلامها هي نقطة ضعفها...كرّست حياتها للاهتمام بشقيقتها ومن ثمّ بابنتها...ليست جميلة الشكل لكن صفاء روحها وتواضعها وحكمتها تترك اثراً جميلاً لكل من خالطها....
لم تخبر ولا تحدّث أحداً بمعاملة زوجة أبيها لها خوفاً من فقدان خالتها...فهي لا تستطيع المجازفة بها لو كلّفها حياتها لأنها هي الأمل بحياتها مع أنها فتاة شفافة صادقة لا تكتم شيئاً في داخلها....
لقد تزوج (عاصي رضا) بعد وفاة زوجته مباشرةً حيث كان يرسم لذلك سابقاً رغم حبه وعشقه للأولى...لكن الجشع فاق كل المعايير، فـ(سوزي) هي ابنة أحد أبرز أصحاب المناصب الكبيرة الذين يخدمون مصالِحه...

دخلت (ألمى) غرفتها مكسورة الخاطر بعد شجارها مع زوجة أبيها وحرمانها من اللحظات التي أسعدتها...تنقمُ على حياتها...تشعرُ أنها انسانة مبرمجة لتعليمات الآخرين...تفكرُ بقريناتها في المدرسة كيف ينعمن بكامل الحرية...لو كان الأمر بيدها لبدّلت ثروتها بصديقةٍ تحبها....
تراكمت الهموم عليها فأجهشت بالبكاء...

طرقات متتالية على الباب حاولت اخفاءها بصمّ أذنيها تحت مخدتها لا تريد رؤية أحد هذه الساعة...فليتركوها وشأنها...ألا يحق لها حتى في غرفتها أخذ حريتها من دون برمجتهم اللعينة؟!...هل تذهب الى المريخ ليرتاحوا منها ؟! ...لكن يبدو من على الباب يصرّ... ولمّا لم يسمع ردّها دفعه مصمماً لإغاظتها وهذا أكثر ما يغذي أنانيته كوالدته الأفعى...
اقترب منها يلوح بيده التي تحمل اللعبة وهتف باستفزاز:

"انظري ماذا جلبت لي أمي"

رفعت عينيها المحتقنة بالدموع تنظر بألمٍ وحزنٍ ليس لأنها تريد لعبة فغرفتها مرصوصة بالألعاب ...بل لشدة احتياجها لحضن يحميها دون تردد لأم تقاتل العالم من أجلها... أشاحت وجهها عنه بكبرياء ...لا تريد أن ينال مبتغاه...امّا هو كان مصرّاً فأردف ساخراً:

" أمي تحبني وتفعل لي ما أريد وترافقني حيثُ أشاء..."

أطلق ضحكاته يحرك حاجبيه باستفزاز وأضاف:

" أما أنتِ والدك مشغول دائماً ولا يهتم بكِ...كنتِ بالأمس تتبجحين علينا بذهابك إلى مدينة الملاهي...مسكينة ألمى..."

حسناً هي لا تستطيع مواجهة والدته الأفعى لكن هذا الغليظ لن يمنعها عنه أحد...حسمت قرارها بعد أن لم تعد تتمالك نفسها وانقضّت على لعبته المتباهي بها وألقتها بعرض الحائط تكسرها...نظر لأشلاء لعبته مصدوماً ونفخ أوداجه ومد ذراعيه يشدّها من شعرها بغلٍّ وهي تحاول عضّه بأسنانها وتغرز أظافرها بيديه صارخة:

" اتركــــني...اتركـــني"



"كـــــــرم!!"

صرخت خالتها به بعد أن دخلت تتفحص مصدر الأصوات بالقرب من غرفتها...حاولت فضّ نزاعهما وأردفت بنبرة حادة:

"ماذا تفعل في غرفتها ؟!...أخرج ولا أريد رؤيتك هنا مرةً أخرى"


تقف بخبثٍ على الباب تشاهد بصمت حتى تختار اللحظة المناسبة لتتدخل ثم صاحت بحقد:

"ابني يدخل أينما يشاء...هذا قصر والدته وأنتِ دخيلة هنا"


"سأترك لك القصر الكئيب لتشبعي به...لقد سئمت منكم"


"خذيني خالتي أرجوكِ...لا أريد البقاء من دونك"

هتفت (ألمى) بتوسل بعد أن سمعت قرار خالتها(فاتن)

خطَت ببطء اتجاهها وابتسامتها لا تفارق مُحيَّاها ...جثت أمامها القرفصاء تضم كفيها الصغيران بقبضتيها وهمست بصوتٍ حنون:

" عزيزتي ألمى هذا بيتك ...أنت تبقين أينما يتواجد والدك"

لمعت عيناها وقالت بعتاب:

"أين هو أبي؟ أنا لا أراه!! يأتي متأخراً ويذهب باكراً...أرجوكِ خذيني"


" أعدك سآتي لزيارتك والمربية (سهيلة) ستهتم بكِ...اطمئني"

اخفضت رأسها الى الأسفل خضوعاً واستسلاماً ورفعت كفها الصغير تمسح دمعة انزلقت من عينها ثم اولتهم ظهرها وارتمت بجسدها النحيل على فراشها تدثر نفسها به وتتمتم بحسرةٍ مخنوقة:

"اذهبي خالتي...أنا اعلم لا أحد يحبني"


"لا يا صغيرتي...أنا احبك ووالدك يحبك وكذلك الخالة سهيلة تحبك ...ألا نكفي؟!"

همست لها برقةٍ ودنت منها تقبّلها وقالت بحماس لتغير مزاجها:

"هيا الحقي بي الى غرفتي سأعطيك شيئاً كنتُ أخبئه لكِ ريثما تكبرين...لكنني قررت اعطاءه لك الآن..."

قفزت (ألمى) متناسية آلامها كعادتها ,خاصة بعد أن غلبها فضولها وهتفت متحمسة:

"ماذا ستعطيني؟"

ابتسمت لبراءتها وأجابت:

" قلت الحقي بي وستعرفين"

ثم سبقتها تمرّ من جانب (سوزي) تخرج من الباب ترمقها باشمئزاز...

~~~~~~~~~~~~~~~

بعد أن أنهى عمله في شركته توجّه مجدداً الى الغرفة السرية بمرآبها ...ينتظر دحض الخبر من رجليّه اللذين لم يعودا منذ البارحة....
رفع هاتفه يجري اتصالاً سريعاً للمقر على الحدود لكن لا إشارة بسبب تشويشات بالخطوط الأرضية بعد ان تعرضت تلك المنطقة لعدة غارات أدت الى تلفها...
زفرَ أنفاسه المحبوسة طوال اليوم ماسكاً صدغيّه بكفيْه متمتماً بصوته الجهوري:

" يا رب ألّا يكون هذا صحيحاً يا صديقي..."

كان في هذه الغرفة أريكة جانبية قصَدَ الاستلقاء عليها ينتظر مجيء رسوليّه بالخبر اليقين...
غطّ بنومٍ عميقٍ دون إدراك لساعتين بعد أن جافاه ليومين كاملين...

استيقظ على حركة مقبض الباب ففزّ من مكانه بجسده الضخم واتجّه لفتحه بلهفةٍ...
ارتخت اطرافه عنوةً وجرّ قدميه يرتمي مجدداً على اريكته هروباً مما سيسمع بعد أن رأى ثلاثة وجوه شاحبه لا تبشّر في الخير...القى الرجل الثالث الذي رافقهما ليعطيه الحقيقة الصادمة بنفسه وهو من أصدقاء الثوار ومساعدهم على الصعيد الإعلامي والمعنوي دون الخوض بالمعارك:

" البقاء لله اخي (سليم)...إنا لله وإنا إليه راجعون"

امتقع وجهه وابتلع ريقه وبالكاد أخرج صوته بتحشرج يردّ:

"نسأل الله أن يخلفنا خيراً منه"

~~~~~~~~~~~~

غزلت لنا الأيام اسبوعاً كاملاً بعد ولادة شقيقي(شادي) منتظرين قدوم والدي من الحدود بفارغ الصبر...
كان آخر ما وصلنا منذ يومين أن الوضع مستقر في تلك الجهة الغربية على الحدود ولا مناوشات من الخصميْن مما جعلنا نطمئن عليه خصوصاً بعد اعلامنا من السيد (سليم الأسمر) ان انقطاع مكالماته معنا سببه تدمير شبكة الاتصالات الأرضية...
توقُّف إطلاق النار جاء بالتزامن مع توقُّف الامطار الغزيرة التي اغرقت البلاد ...امطار كانون اول...وكأنّهما اتفقا معاً ليعيدا لنا الحياة في مدينتنا الجبلية الخضراء بأشجارها معلنان عن افتتاح مدارسنا بعد اغلاق دام اسبوعين كاملين بفعل الحرب والطقس...
في هذا اليوم بالذات لم يزرني النوم بعد صلاة الفجر من شدة حماسي...ليس فقط لاشتياقي لمقاعد الدراسة ولقاء أصدقائي...إنما لخروجي للحريّة بعد ان كنتُ حبيس البيت وضقت ذرعاً بين حكايات النساء وبكاء شقيقي ودلال شقيقتي المفرط ودون ممارسة أيّ من هواياتي في الخارج...
استعددت مرتديّاً زيّ المدرسة الرسمي الخاص بالثانوية , أمّا الكسولة (دنيا) كانت خالتي تسّرح لها شعرها الترابي المموج وهي مسترسلة بنومها...
حملتُ لها حقيبتها وسحبتها من يدها لأوصلها لمدرستها في طريقي بعد أن تعذّر على سائقنا الخاص الحضور لظرف صحي...

"هيـــه هادي..."

التفتُّ إلى يساري بعد خروجي من البوابة الحديدية الضخمة الخاصة ببيتنا شبيه القلعة عند سماعي صفير ومناداة لاسمي...فكانا (سامي وأحمد) ينتظراني ليرافقاني للمدرسة...

"صباح الخير...ما هذا النشاط؟!"

القيتُ تحيّة الصباح متفاجئاً لوجودهما في هذا الوقت المبكر لأنهما آخر من يدخلان المدرسة بسبب كسلهما ولا مبالاتهما...

ضحك سامي وأشار نحوي هاتفاً:

"انتبه ستقع شقيقتك وهي تغفو متكئة على يدك"

احنيتُ رأسي فوجدتها متشبثة بكفي وتركنُ وجنتها عليه مستمرة بنومها...
ابتسمت ومسّدت وجنتها هامساً:

"دنيا أفيقي..."

اقترب (سامي) بمكرٍ يجثو أمامها ويهزّها على غفلةٍ لتجفل شاهقة وكأنّ دلو ماء بارد أريق عليها وسط قهقهاتهما فزجرت به مؤنباً:

" ماذا فعلت أيها الغليظ؟!...كدت توقف قلبها؟؟"

قال مستنكراً بتهكم ضاحكاً:

"تلك المدللـه يتوقف قلبها؟؟؟!!"

تشبثت أكثر بساقي ترمقه بنظراتٍ ناريةٍ من عينيها العسليّتين وتخرج لسانها بحقدٍ طفوليٍّ فاستقام بوقفته يمطّ ذراعيه للأعلى مضيفاً على تهكمه:

"هيه أنتما الاثنان ألا تتحملان مزاحاً؟!"

ونظر إلى (أحمد) مشيراً بسخريةٍ مصطنعة يتابع عرضه:

"أعان الله من سيتزوج بشقيقته فلسانها طويل ستنغّص عليه عيشته, هذا إن لم يغَلّفها بعبوةٍ من شدة حرصه عليها ويحتفظ بها كالخيار المخلل في أحد أرفف مطبخهم العريق..."

تفحّصت ساعة يدي وضربته بقبضتي على كتفه آمراً بجديّة:

"كفاك ثرثرة...هيا سنتأخر بسببكما"


(سامي) هو أعزّ صديق وتوأمي الروحي رغمَ اختلاف شخصياتنا الظاهر للعيان...
أنا أتّسمُ بالجدّ أسير على خطٍ ثابتٍ وهو بشخصية متقلبة حسب الظروف المحيطة به, أوقات يخيّل لنا أنه يعمل مهرّجاً على مسرح وتارةً يكون بمئة رجل وكأنه ضابطاً بالشرطة...

في اليوم الثاني من المدرسة دقّت عـ قا رب الساعة السابعة صباحاً ودقَّ معها باب البيت بقوةٍ لِتدقّ قلوبنا أملاً بقدوم الغائب أبي وعودته سالماً لنا...
كنتُ أنا الأسرع بينهم من شدة شوقي ولهفتي له, أريد معانقته واخباره عن كل شيء حصل معنا منذ غيابه...
فالعلاقة التي تجمعنا ليست مجرد أب وابنه...نحن كالأشقاء والأصدقاء وأكثر...

فتحتُ الباب وقبضت به جيداً من قوة اهتزازه وجميعهم خلفي...رياح عاتيّة تصطدم بأجسادنا...تلفح وجوهنا...ترفرف ملابسنا...تحاول اقتلاع جذورنا...
وقفنا مذهولين كأنّ على رؤوسنا الطير...أصنام بلا روح...قلب بلا نبضات لرؤية من يقف أمامنا...

فأدركت أنني أصبحتُ رجلاً...


**********( انتهى الفصل الأول )**********

😻😻😻😻😻😻😻😻😻😻😻
حقدت على الاب واضح كان هيتزوج سوزي حتى لو ما توفت زوجته

ألحان الربيع 11-10-21 01:21 AM

ههههههه وين في مصالح اله هو موجود ...الحسنة الوحيدة فيه انه انجب ألمى :wow11:...لقدام ان شاء الله رح تحقدي عليه اكثر::33-1-rewity:

Mini-2012 11-10-21 01:46 AM

الفصل الثاني مشوق😻😻😻😻😻😻😻😻😻😻😻😻😻😻

ألحان الربيع 11-10-21 02:53 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة Mini-2012 (المشاركة 15708424)
الفصل الثاني مشوق😻😻😻😻😻😻😻😻😻😻😻😻😻😻

أول فصلين هما مثل مقدمة للتعرف على شخصيات الرواية أكثر :shakehands:...الفصل الثالث سيكون باذن الله أطول وفيه احداث مختلفة ...

لبنى البلسان 11-10-21 04:04 PM



مبرووك على الرواية بداية موفقة وجميلة
وسرد جميل سلمت اناملك ان شاء الله تكون بادئة خيرا لمستقبل زاهر في مجال الكتابة تمنياتي لكي بالتوفيك بانتظار الفصل القادم
يعطيك ألف عافية 🌺


ألحان الربيع 11-10-21 04:29 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة لبنى البلسان (المشاركة 15709048)


مبرووك على الرواية بداية موفقة وجميلة
وسرد جميل سلمت اناملك ان شاء الله تكون بادئة خيرا لمستقبل زاهر في مجال الكتابة تمنياتي لكي بالتوفيك بانتظار الفصل القادم
يعطيك ألف عافية 🌺


الله يبارك بعمرك....شكرا على كلامك اللطيف الداعم والدعوة الجميلة ...اتمنى ان تلقى استحسانكم:29-1-rewity:

ألحان الربيع 11-10-21 04:31 PM

كل الشكر للأخت المشرفة منى لطيفي التي اتعبتها معي في رفع الغلاف .....بوركت جهودك اخت منى:eh_s(7)::eh_s(7):

نوارة البيت 13-10-21 03:29 PM

يعطيك ألف عافية 🌺

نوارة البيت 13-10-21 03:30 PM

مبرووك على الرواية
بداية موفقة وجميلة

نوارة البيت 13-10-21 03:47 PM

💋💋💋💋 💋💋💋💋 💋💋💋💋 💋💋💋💋 💋💋💋💋 💋💋💋💋 💋💋💋💋 💋💋💋💋 💋💋💋💋 💋💋💋💋 💋💋💋💋 💋💋💋💋 💋💋💋💋 💋💋💋💋 💋💋💋💋 💋💋💋💋 💋💋💋💋 💋💋💋💋 💋💋💋💋 💋💋💋💋 💋💋💋💋

ألحان الربيع 13-10-21 05:47 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة نوارة البيت (المشاركة 15711631)
مبرووك على الرواية
بداية موفقة وجميلة

يعافيكِ ويبارك فيكِ....شكرا ,كلك ذوق
:29-1-rewity:

shezo 14-10-21 10:42 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة mini-2012 (المشاركة 15707977)
شكرا shezo لاقتراح الرواية😻😻😻😻

مرحبا.صباح الخير حبيبتي
الشكر لك ولكل صديقات المنتدى الرائعات
دمتم كلكم بكل الخير ورضا ربي الرحيم
الذى من علي بصداقة خير الناس
وكل الامنيات الطيبة لكاتبتنا الواعدة
لتشجينا بالحان الربيع
وبجمال وصدق كلماتها
دمتي بكل الخير غاليتي

ألحان الربيع 14-10-21 03:51 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة shezo (المشاركة 15712597)
مرحبا.صباح الخير حبيبتي
الشكر لك ولكل صديقات المنتدى الرائعات
دمتم كلكم بكل الخير ورضا ربي الرحيم
الذى من علي بصداقة خير الناس
وكل الامنيات الطيبة لكاتبتنا الواعدة
لتشجينا بالحان الربيع
وبجمال وصدق كلماتها
دمتي بكل الخير غاليتي


كلماتك هذه كفيلة بأن تجعلني أكمل باذن الله ❤ويارب أكون استحقها فعلاً

شكرا للطفك⚘⚘⚘

موضى و راكان 14-10-21 11:21 PM

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 4 ( الأعضاء 2 والزوار 2)

‏موضى و راكان, ‏ألحان الربيع

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أهلا ألحان منورة روايتك و عساك بكل خير

موضى و راكان 14-10-21 11:26 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة shezo (المشاركة 15712597)
مرحبا.صباح الخير حبيبتي
الشكر لك ولكل صديقات المنتدى الرائعات
دمتم كلكم بكل الخير ورضا ربي الرحيم
الذى من علي بصداقة خير الناس
وكل الامنيات الطيبة لكاتبتنا الواعدة
لتشجينا بالحان الربيع
وبجمال وصدق كلماتها
دمتي بكل الخير غاليتي

:heeheeh:

شيزو الجميلة رأيها ثاقب و نظرتها لا تخيب فى الكاتبات الواعدات و إن شاء الله ألحان ستكون

من الكاتبات المبدعات


:mazpoot:

ألحان الربيع 15-10-21 01:55 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة موضى و راكان (المشاركة 15713306)
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 4 ( الأعضاء 2 والزوار 2)

‏موضى و راكان, ‏ألحان الربيع

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أهلا ألحان منورة روايتك و عساك بكل خير

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

النور نورك ...الحمد لله....الله يسعدك ويعطيكِ:eh_s(7):

ألحان الربيع 15-10-21 02:12 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة موضى و راكان (المشاركة 15713311)
:heeheeh:

شيزو الجميلة رأيها ثاقب و نظرتها لا تخيب فى الكاتبات الواعدات و إن شاء الله ألحان ستكون

من الكاتبات المبدعات


:mazpoot:

كلامكن وتشجيعكن هو فرحة في القلب ..ووقود يدفعني لأمضي على هذا الدرب ...مهما كان طويلاً أو صعب...فأرجو التوفيق من الرب ..عسى أن يلهمني لأسعدكن بكل أملٍ وحب
:elk:

Mini-2012 15-10-21 08:46 PM

😻😻😻😻😻😻😻♥️ شكرا لشيزو لاقتراح هذه الرواية

ألحان الربيع 16-10-21 12:09 AM

الفصل الثالث (( لا مكان لا وطن ))



أن نجد أشخاصاً يدعموننا...يسعون لراحتنا...يهتمون بنا دون مقابل او مصالح خبيثة ....تلك من النِعَم الكبيرة التي نشكر الله عليها...فنحن رغم انزعاجنا من هذه الظروف الراهنة وما آلت اليه أوضاعنا إلّا أننا فخورون ونشعر بالامتنان للسيد (سليم الأسمر) الذي قام بتحضير كل شيء مسبقاً , من سائقٍ إلى سفينة رفيعة المستوى , حتى أنه بعث رجلاً من طرفه ليستقبلنا هناك في تلك الدولة المجاورة ليقوم بكافة الإجراءات الرسمية الخاصة بالإقامة واستئجار شقة ...بل حرص أيضا على إيجاد مدارس لي ولأختي لنتابع تعليمنا دون أن نخسر يوما واحداً...

لا أخفي أنني شعرت برهبةٍ في الطريق!!...فماذا سيكون أصعب من ان أسير على درب لا أعلم ان كنت سأعود لأرى أثر خطواتي مجدداً أو انها ستتلاشى مع الزمن وستذهب على هامش التاريخ بصفحة مملة نتخطاها لا نرغب بقراءتها لا قيمة لها لا تُقدّم ولا تُأخّر... بل عبء على الكتاب لا مانع من تمزيقها ...وحتى المؤلف بنفسه لن ينتبه لاختفائها!!

تساءلت ...هل سأعود قبل أن يجف التراب من أمطار خير هذه السنة؟

أم سيجفّ عمري وأنا أتشوق لأطهّر أقدامي في تراب بلادي ؟؟

هذه التخوفات التي راودتني في رحلة الهجرة وأشعرتني بانقباض خافقي ...جعلتني أُخْرِج من حقيبتي الصغيرة ,المصحف الشريف مصحف والدي...أضمه لصدري علّني أشعر بالطمأنينة!!

كيف لا وهو كلام الله جلّ في علاه؟؟!!

مضينا بطريقٍ خُطِّطَ له آنفاً لنصل باكراً ولا نفوّت سفينتنا...فتلك الشركة الخاصة بها عُرِف عنها الدقة والالتزام في المواعيد احتراماً لزبائنها مما أوصلها ذلك الى تلك النجاحات لتصبح علامة كبرى في المواصلات البحرية بعد كسبها أرقى فئات المجتمع وأغناهم....

بعد مرور ساعتين من الزمن...تفاجأنا بازدحامات سير خانقة لوقوع حادث بين شاحنة ومركبة خصوصية...يظهر انه من الانزلاقات بفعل مياه الأمطار على الشارع وبلا شك السرعة الزائدة...وعلى ما يبدو لا اصابات خطيرة حمدا لله...

وتجري الرياح بما لا تشتهي السفن!!!

أدرت وجهي الى يساري نحو الذي قال من وراء المقود بارتباك:

"لطفك يا الله!!...الوقت يداهمنا ويجب أن نصل خلال ساعة !!"



"ألا يوجد طريق آخر؟؟!"

سألت خالتي...



"بلى...ولكنه ترابي على طرف المدينة والسيد سليم أوصاني بسلك هذا"



دقائق تُحذف من حاضرنا ..تُدفن بالزمن الماضي ونحن متسمّرون مكاننا....فزفرت بملل هاتفاً:

" هيا يا عمي...لا يهم ترابي او غيره...المهم أن نتحرك!!"

تبعتني خالتي وتلتها أمي مؤكدتين على رأيي...اضطر السائق للانصياع لنا ودلف بصعوبةٍ من بين المركبات متخذاً مساراً آخراً...

سارَ في ثباتٍ بطريقه فاستأذنته بفتح المذياع لشعوري بالضجر فأذن لي بذلك:

[ الساعة الآن العاشرة!!...سيداتي وسادتي أهلاً بكم في موجز الأخبار...وصلنا قبل قليل أن قوات الجيش استطاعت السيطرة على مقر كبير للثوار في طرف مدينة(...) على الحدود الغربية وحسب ما نقل مراسلنا ان الطائرات الحربية التابعة لقوات التحالف الخارجية المساندة للدولة ما زالت تحلّق في الأجواء وتستعد لتلقي قذائفها وحتى الآن لم يبلغ عن أي قتلى...الى هنا انتهى الموجز]

" استر يارب!"

نطقتها أمي بفزع..



سادَ صمت لثواني كدت أسمع من خلاله ضربات قلب السائق...نظرت اليه فوجدت جبينه يتصبب عرقاً رغم برودة الطقس....همست له بقلق:

"هل أنت بخير يا عمي؟"

لم يجبني!!..علا وجهه التوتر ..تبعه ارتجاف بيده اثناء محاولته فتح أزرار قميصه العلوية ليحرر أنفاسه...يبلع ريقه بصعوبةٍ!!...فأردفت بقلق أكبر:

"ما بك عمي؟! هل هنالك شيء؟؟!"

تابع بصمته وكأن قطة ابتلعت لسانه ...امسكتُ نفسي لكي ألزم أدبي فأنا اكره تجاهُلي!!..هل يظنني طفلاً ولم املأ عينيه؟؟!!...أخذ يزيد من سرعته بارتباك كاد يقفل ساعة السرعة الخاصة بالمركبة....صاحت خالتي بانزعاج:

" على مهلك يا أخي...معنا أطفال!!"



أجاب مضطراً يدفع صوته المخنوق للخروج:

"اعذروني!!...نحن الآن بمنطقة الخطر!!..و..وفي أي لحظة ممكن أن تسقط علينا قذيفة"



"ماذااا؟؟!!"

صرخنا جميعنا بصوتٍ واحدٍ مرعوب....



يبدو أن صوت الأمطار مع صوت الرعد من حين لآخر إضافة للمذياع أخفى عنا ضجيج محرك الطائرات فلم نتخيل ولو للحظة أننا دخلنا منطقة تستعد لاستقبال القصف...

بدأ التوتر يعترينا...وجوهنا مكفهرّة لا تتفسر نغرق في العرق بعزّ البرد وأصبح حالنا كحال السائق.....نرجو من الله السلامة!!



"انتـــــــــــبه!!"

صرختُ بشدة...



فما كان منه الا الانحراف عن حفرة في الوسط ليرتطم بشجرة على قارعة الطريق أدت لتوقف المركبة..!!



"آاه ...الحمد لله أنك كنت قد خففت السرعة وإلا لانقلبت فينا وأصبحنا كالعجينة"

هتفت بها بعد لحظات من استيعابي الموقف....استدرتُ للخلف أتفقد عائلتي...كانوا يحتضنون بعضهم البعض في حركة لحماية أنفسهم و(شادي) الصغير....

عدلتُ جلستي وأسندتُ رأسي للكرسي ألتقط أنفاسي المتبقية من هوْل الصدمة...ثم وجهتُ كلامي للسائق مُشجعاً:

" نجونا الشكر لله ....هيا تابع من فضلك!!"



ركزتُ سمعي جاحظ العينين بعد أن وصلني صوته المخنوق المتقطع:

"لـ لا استطيع ...دَ...دخل غصن حاد في خاصرتي!!"



"ماذا تقول؟!"

هتفتُ بهلع وأنا أتفقده بردة فعلٍ سريعة ...كان الغصن قد اجتاز الباب بقوة واخترق جسده...الدماء تنزف بغزارة وكأنها نافورة...اصطبغ قميصه تحول من بحر ازرق الى أحمر...هرعتُ الى الخارج ولحقتني خالتي...نحاول مساعدته بسحب الغصن من الخارج!!. ...عاد نزول المطر تدريجياً ...بدأ يشتد!!....أصوات مروحيات تجول في السماء!!...الباب موصد بإحكام ,لم يسهّل علينا مهمتنا...خالتي بدأ حجابها يمتص الماء...حاولتْ الاحتماء بالشجرة ...الرعد يندمج مع هدير المحركات اللعينة ...عـقـارب الساعة تجري ....الرجل يئن , يقاوم ..حاول تحريك جسده ليساعدني...لكن....أبى هذا الغصن أن يتركه بعد عبوره أعضاءه الداخلية ..متمسكاً به متشبثاً كتوأم ملتصق يحتاج لعملية لفصله....كان يتأوه بشدة وصارع ليقول بخفوت:

"اذهبوا انتم...اتركوني انا ونصيبي...لا أمل مني...هيا لا تتأخروا عن سفينتكم...آاه...اهـ...اهربوا قبل أن تـ تحولوا الى أشـ لاء في هذا المكان"

ثم أسبلَ عينيه فاقداً للوعي بعد أن أوصل رسالته..!!

~~~~~~~~~~~~~

لم تتأخر السيدة (اسراء) بتبشير صديقتها عن قرار زوجها السريع بالموافقة للانتقال والاستقرار في تلك البلاد....

كانت هي ورقة ربحها وطوق نجاتها من براثن الطرد المشؤوم الذي هددها به بعد أن يصل لهدفه المنشود......فتخطيطاتها هي للمستقبل البعيد.....(عاصي رضا) لن يقبل ارتباط ابنته مستقبلاً بشخص أقل منه مستوى!!...ولن يجد أفضل من ابن السيد (رائد السيد) ليكون صهره الوحيد الذي يليق بسموّ الاميرة.....صحيح أن ابنته مازالت طفلة إلا أن الأيام تجري بسرعة فلا مانع لأن تضع أساساً متيناً من الان لتنضج الطبخة على نار هادئة وتتبلها بالنكهة التي ترغبها ليتناولوها في الوقت المناسب....

يجب عليها أيضاً أن تكسب ود ابنته ليرضى عنها ولو بالقليل.....فقررت ان تغير تكتيكها ....كانت سابقاً تهاجمها بشكل مكشوف بحماقة ..أما الان ستجذبها لها بلسانها الأملس وقلبها النجس.... والأفعى تبقى أفعى حين تردي ضحيتها قتلاً.. سواء باللدغ او الابتلاع!!

هي تحب صديقتها لكنها تقول في نفسها "سامحيني يا صديقتي فمصلحة ابني أولاً"

خرجت من غرفتها لتنفيذ الخطوة التالية....طرقت الباب برقة لتسمع :

"أدخلي خالتي.."



فتحت الباب وأطلت برأسها ترسم ابتسامة خبيثة!!....انكمشت تقاسيم وجه الصغيرة لرؤية من تقف خلفه وهمست بارتباك:

"ماذا تـ تـ ريدين مني!؟"



دخلت تدنو منها بحنان مصطنع ...والأخرى تزحف على سريرها للخلف...تلتصق بظهره..تحاول إخفاء وجهها بذراعها...هامسة بخفوت:

" ارجوك ابتعدي عني"



"عزيزتي ألمى..لا تخافي لن اؤذيك"

رفعت رأسها تنظر مندهشة لها....فاقتربت اكثر وجلست على طرف الفراش ....تقول بفحيح لطيف لتكمل مشهدها التمثيلي:

" أنا اسفة على كل ما حصل سابقاً.....أنا احبك ألمى وأريد فتح صفحة جديدة معك"

نفثت كلماتها المُبَطّنة بالسم تداري وجهها بكفيّ يديها تدّعي البكاء....رق قلب الصغيرة لحالها ودنت منها بهدوء ...تضع يدها الرقيقة النقية على كتف الافعى تربّت وتهمس ببراءتها:

" لا تبكي يا خالة..سامحتك"

استدارت بمكر تفتح ذراعيها لها تحتضنها وتعانقها كما لم تفعل من قبل وعينيها تلمع بخبث شيطاني...

في هذه اللحظة ولجت (فاتن) للغرفة للاطمئنان على صغيرتها فذهلت مما تراه!!..أيعقل؟!...(سوزي وألمى) تتعانقان؟!! هل اقتربت الساعة؟! ماذا يحصل هنا؟!....ثم قطعت المشهد متنحنحة قائلة:

" جئت لأرى ان كنتِ تحتاجين شيئاً ألمى"



قفزت بخفة من مكانها نحوها تمسكها من يدها وتخبرها عن عقد راية الصلح بينهما ثم هتفت :

"هيا الآن دوركما"



نهضت (سوزي) من الفراش تقترب منها تهمس بلطف كاذب وهي تمد يدها للمصافحة :

" أنا اسفة على كل ما بدر مني...أرجو ان تسامحيني"



مدت لها يدها تقبل المصافحة ثم دنت أكثر برأسها تهمس بأذنها:

"كادت عيني تدمع من شدة اتقانك للدور...هذه المسرحية تنطلي على الصغيرة البريئة لا على فاتن...أنا احذرك من اللعب بمشاعرها..!!"



تبسمت بمكر وهمست :

"سامحك الله..انا فعلت واجبي وانت حرة تصدقين او لا "

ثم اطلقت ضحكة مزيفة لـ (ألمى) وغادرت الغرفة....



لم تتسرع (فاتن) بتحذير ابنة شقيقتها منها فهي تريد التأكد لأنها تخاف سوء الظن وأيضا لا تريد أن تشركها بأمور الكبار والضغينة التي بينهم لتبقى بقلبها النقي المُحب للجميع.....

~~~~~~~~~~~~~

"رباه الطف في حالنا واخرجنا من حولنا وقوتنا الى حولك وقوتك...رباه اننا نشكو اليك ضعف قوتنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس...اللهم انت رب المستضعفين"

رددها لساني ثم قبّلت جبين السائق الذي فقد وعيه طالباً منه مسامحتنا...توجهت الى صندوق السيارة لسحب حقائبنا الكبيرة...بدأنا نسير مسرعين نبحث عمّن يوصلنا الى المرفأ....دقائق عديدة بعد ابتعادنا حيث كنا وإذ بصوت انفجار يدوي يهز المنطقة بأكملها بعد سقوط غارة لعينة....التفتّ الى الخلف حيث مصدرها والتي لم يكن هدفها سوى المركبة التي تركناها ...يا الله كدنا نتحول الى أشلاء مثلما قال!!.....انها تحترق ...دخان اسود متصاعد منها مع اللهيب البرتقالي ليُقتل الرجل مرتين بشكل أليم دون ذمة او ضمير.....

تركت احدى الحقائب الكبيرة مجبراً لأتولّى أمر واحدة... فبالكاد ننجو بأنفسنا ...امي تحمل حقيبتها الصغيرة على كتفها ....تضم اخي بذراعٍ على صدرها....تتعثر في ثوبها....لا تعلم ! تمسك الثوب , الحقيبة أم شادي ؟!!....

خالتي تحمل حقيبة متوسطة الحجم وحقيبة أخرى لشقيقتي ...تجرّ (دنيا) لتسرع في خطاها التي انطفأت من شدة التعب والنعاس..!!

طريق وعرة تملؤها الحفر المغمورة بمياه الامطار....ترسم من طينها لتبدع بأبهى اللوحات على ملابسنا وأغراضنا...

وقفنا بانحناء نلتقط أنفاسنا....ارتمت (دنيا) على الأرض وهي تتشبث بدميتيها التوأم اللتين اهداهما اياهما أبي في يوم ميلادها الماضي.....

رأفْت لحالها ....فجسدي أقوى من جسدها ويتحمل الصعاب الى حدٍ ما...أما هي صغيرة , رقيقة , لم تجري في حياتها...كنا نحملها على كفوف الراحة انها مدللتنا الغالية انها دنيانا....

أجلستها على الحقيبة الكبيرة لأسحبها ...أنفاس أمي وخالتي تخترق طبلتي أذنيّ من قوته...



" توقــــــــــــــــــف"

صرخت بعدما لمحتُ جرار زراعي كاد أن يختفي من أمامنا..!!



تركت كل شيء في يدي ودخلت سباق مع الزمن...أجري وأجري لألحق به بكل ما اوتيت من قوة...اركض وأقول في نفسي " آه يا أبي مهما شكرتك لا أوفيك حقك من فضلك عليّ بعد الله"

لقد كان ابي يهتم بإدخالي كافة أنواع الرياضة...ركض , سباحة , ركوب الخيل , التسلق وحتى علمني الرماية بأنواعها !! ..كان دوماً يقول لي ربما تحتاجها يوماً يا بنيّ..

" ها قد صدق أبي"

أردفت في نفسي بعد أن نجحت بإيقاف الجرار..!!



صعدتُ وعائلتي على عربة الجرار وتنفسنا الصعداء حامدين الله على كل شيء....وصلنا المرفأ بعد نصف ساعة...همّت خالتي لتخرج قطعة ذهب تعطيها للفلاح مثلما اتفقنا ووعدناه ليقبل بتوصيلنا.....تبحث خالتي في الحقيبة الكبيرة لتكتشف أن المجوهرات بقيت في الأخرى!!! وهنا بدأت حفلة البكاء بين أمي وخالتي....

كنتُ ارتدي في يدي ساعة ثمينة أهداني إياها أبي لتفوقي الدراسي...خلعتها بألم وكأنني أخلع نابضي من بين ضلوع صدري...!!...قبّلتها وتمتمت بخفوت :

"سامحني يا أبي...عسى الله أن يعوضني خيراً منها!!.."

ثم شكرتُ الرجل بامتنان وناولته الساعة.



اقتربت من أمي وخالتي اللتين ما زالتا تبكيان مجوهراتهما...ضممتهما الى صدري اشدد من احتضانهما وهمست بحنان:

"سأكبر باذن الله وسأعمل واشتري لكما الأجمل....أما تلك المجوهرات لم تكن من نصيبنا وهذا أمر الله...انا اؤمن ان في كل شر يأتي بعده خير..!..فقط توكلا على الله"



رفعت امي بصرها إليّ لأنني افوقها طولاً...مدت كفّها تمسّد على خدّي هامسة باعتزاز وحياء :

" يا الهي...كم كبرت يا هادي من غير أن أشعر!!..من واجبي انا مواساتك ونصحك!!...انا افتخر بك يا بنيّ...حفظك الله ورضي عنك "



كلمات أمي تثلج صدري...تطرد قهري...هي كوقود يملأ خزّاني لأجابه وأواجه أي شيء سنعيشه في رحلتنا أو الأصح أن أقول هجرتنا....فشتّان ما بينهما!!!

الرحلة هي للمتعة...تكون باختيارنا وارادتنا...اما الهجرة !!..هي شيء اجباري ينزعنا من جذورنا ...يزعزع مضجعنا...ثم يحذفنا الى التيار الذي بدوره يقذفنا بشكل عشوائي حيثما نرسو...

بقي معنا القليل من الأموال لنتدبر به أمورنا , هنا عدت مجدداً لكلام امي ان قرشها الأبيض ليومها الأسود وتبسمت وجعاً للعبة القدر!!...آاه يا أمي أيّ سواد انغمسنا فيه ؟!

أنت تريد وأنا اريد والله يفعل ما يريد.

عندما اقتربنا من مرْسى السفن ..لفت انتباهي منظر مزّق قلبي!!...التفرقة بين الطبقات.....هل ما زلنا هكذا؟ الغني يستقل السفن الجديدة وينعمُ بالراحة اثناء هجرته أما الفقير كُتبَ عليه الشقاء وبالكاد يحصل على قارب أكل الدهر عليه وشرب!!

ان هذه أوضاع طارئة للهجرة وليست برحلة ننتظر الرفاهية منها !! ...كلنا بشر ولنا أرواح نحتاج حمايتها!! ألا يستطيعون التنازل قليلاً لمساعدة الفقراء!!؟؟

كنا نحن من ضمن فئة الأغنياء بما أننا ميسورو الحال بفضل الله وتم الحجز لنا بتلك السفن الفخمة.

دنوتُ بأوراقي من رجل يجلس على حافة منصة تربط بين السفن واليابسة.....رمقني بنظرات ازدراء قبل ان انطق بكلمة وأشار لي بالذهاب الى الطرف الآخر !!...اعتقد انه ظنني من الطبقة البسيطة بفضل اللوحات المرسومة على ملابسي في مغامرتنا الأخيرة!!

لم استجب له واقتربت اكثر أسأله عن رقم سفينتنا...حملق في وجهي مستنكراً وأجاب من رأس أنفه:

"هذه السفينة انطلقت قبل نصف ساعة"

ثم أشاح بوجهه عني....



تجمدت مكاني لوهلةٍ أحاول تقبّل كلامه!!..



" أرجوك يا أخي ألا يوجد غيرها!؟..لقد حجزنا ودفعنا"

طلبت منه وانا الصق الأوراق بوجهه لأثبت له ذلك....



" لا... السفن ممتلئة ...يمكنكم الذهاب بالقوارب"

ردّ بجفاء وأشار الى الجهة الأخرى...!!



عدتُ الى عائلتي مطأطئ رأسي أسفاً على حالنا...أخبرتهم بما دار بيننا...ربتت خالتي على ظهري وقالت:

" لا تهتم المهم أن نصل بالسلامة"



أثناء سيرنا متجهين الى الطرف الآخر الخاص بالقوارب...أخذت خالتي (شادي) من أمي لتريحها قليلاً...قلت بتعجب :

"أمي ..مضى على خروجنا بضع ساعات , لماذا أخي ما زال نائماً؟! ألم يشعر بالجوع!؟"



ردت ضاحكة:

"أخيك يمضي نهاره نائماً ويقضي ليله ساهراً...ميعاد صحوته للطعام عادةً يكون ظهراً"



تبسمتُ لهذا الصغير الذي لم يشاركنا بمغامراتنا اليوم وهو يغطّ بنومه وتابعت طريقي..



" ها هي الغنائم تزداد"

قالها الرجل الخمسيني بمكر, المسؤول عن ختم الأوراق واستلام النقود عند إقبالي عليه...

ففي هذا المرفأ خاصة تتم اكبر عمليات لتهريب البشر, السلاح والمخدرات!!

الإنسانية معدومة...المهم جني الأموال ولو كانت بالحرام على حساب الأرواح !!

أخذ نصف المال الذي بحوزتنا جوراً وأشار للقارب المنشود!!



تأملته!! أكاد أجزم أنه استخدم في الحرب العالمية الأولى ولربما كان في عهد السلاجقة من الوضع القائم عليه !!

بدأ الناس في الصعود الى القارب الكبير الرث ..هممت بمساعدة أمي فشعرت بقبضة يدها تضغط على ذراعي بقوة وأسنانها تخبط ببعضها ارتجافاً....حبيبات عرق تلمع على جبينها!!...رباه!....تذكرت عند خروجنا للساحل كيف كان ابي يحاول اقناعها للنزول للبحر وهي تأبى لأنها تعاني من رِهاب البحار سببه غرق شقيقها امامها في الماضي البعيد!!..اما انا لم اكن اهتم حينها وأواصل سباحتي كأنني اريد ابتلاع البحر الى جوفي من شدة تولعي به.

حبيبتي يا أمي!...ليتني طائرة تحلّق بك في السماء ..تبعدك عن غدر المياه..!!

الجميع الآن في القارب...أمي ما زالت تتشبث بذراعي...أشعر بحرارة جسدها....تغمض عينيها...تصك على فكّيها ...أحاول أن اهدئ من روعها ...بدأت بترتيل ما تيسر من القرآن الكريم هامساً باذنها:

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ(8)}

آيات أشعرتني بارتخاء أعصابها وسكون ملامحها....

التفتّ حولي علّني أرى وجوهاً اعرفها....لكن لا محال!!

فادركتُ أننا نحن الآن ننشئ عائلة جديدة واحدة...لا بيت لنا ولا مكان ..يجمعنا فقط ربنا الرحمن...

كنتُ القي في نظري بين العيون وأرى من بحور الآهات ما لا يتّسع الكون....



" بسم الله مجراها ومرساها...سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا الى ربنا لمنقلبون"

كلمات أطلقتها مع انطلاق القارب الساعة الحادية عشر والنصف قبل الظهر....



رفعت رأسي محدّقاً بعينيّ أكحلها بنظرات ربما الأخيرة التي أرى بها الوطن.....بدأت أصوات الضجيج في الميناء تنخفض.......نحن نبتعد........الناس يختفون من الساحل..........الأشجار تنحجب عن الرؤيا.........البنايات تنصهر.........وآخر ما رأت عيني مآذن بيوت الله .......ومن ثم كل شيء أصبح فضاء........نحن محاطون في المياه.......الجو ساكن......الناس نيام من شدة الإرهاق!!........وبين الفينة والأخرى أسمع فقط اصطدام الأمواج في القارب...

أمي تحتضن أختي وكلتاهما نائمتان...خالتي تحمل أخي ومعركة تدور في عينيها بين النوم واليقظة.....عجوز تتكئ على كتفِ زوجها...زوج يسند رأسه على ساق زوجته...أطفال يغطون في سبات....لكل منا غصّة تؤلف منها قصة...

ألآن نحن في وسط البحر...أرضنا الماء وسقفنا السماء.....أصبحنا في نقطة

لا مكان لا وطن..!!!

لا نعلم أي الاتجاه هو الاقرب لليابسة...

شعرت بالملل قليلاً وليتني ما شعرت...!!

بدأ يتململ (شادي) في حضن خالتي....تدفعه معدته ..تصرخ من الداخل حان وقت الطعام....مترجمة صرخاتها برناتٍ تخرج من حنجرته!!...واخذ يشدو لنا من ألحانه...فذهب الملل الذي راودني قبل قليل.....

أيقظتْ خالتي أمي من نومها قائلة:

"عائشة هيا حضّري وجبة شادي"



فتحت أمي الحقيبة وقالت بحيرةٍ:

"أين الزجاجة؟!َ..أنا وضعتها هنا!!"



ردت خالتي:

"انظري جيداً وتفقدي الحقيبة الكبيرة لعلّها هناك"



"مستحيل انا أغلقت الحقيبة مساءً ووضعتها جانباً"



قلت أنا:

"سأنظر يا امي لا عليك"

فتشتُ جيداً وبكل اسف لم اجدها!!...ازداد بكاء (شادي)...خالتي تهزّه علّه يهدأ....قاومَ واستمر بعزف الحانه..!!

تفقدتُ باقي حقائبنا..حتى حقيبتي التي لا تكاد تتسع لبعض الأوراق آملاً أن اعثر عليها فيها...لربما تحولت الزجاجة لورقةٍ يمكن طيّها!!؟؟

انتهى اخر امل لنا بعد ان صفعت امي جبهتها تُخرج بعض التمتمات:

" يا الله ساعدني...لقد نسيتها في المطبخ بعد غسلها !! ماذا سأفعل؟؟"

وانتقل الشتاء الى عيونها يغرقها بأمطاره!!



صرخت خالتي تؤنبها:

"ماذا فعلتِ؟؟ أين الزجاجة؟؟ أنت تعلمين أنها أهم ما نحتاجه!! هي مصدر الحياة لشادي!!...ماذا سنفعل الآن ونحن في وسط البحر والله وحده يعلم متى سنصل الجهة المقابلة"

أنهت خطابها وانفجرت بالبكاء حسرةً على الحال الذي وصلنا اليه...

انهارت امي مكانها...تركت جسدها يهوي في قاع القارب...تشرد في عالم آخر تنظر الى اللا وجود....

أما انا ضممتُ اختي الى صدري... احدّق بالصغير القابع في حضن خالتي من غير حول ولا قوة مني....أكابر لحصر الدموع في عينيّ....

استجمعت خالتي قواها وتوجهت لأمي وسلّمتها اخي....وصُعقنا بقولها:

"هيا يا عائشة ضميه الى صدرك لتشتمي أنفاسه الأخيرة"

وشرعت بالبكاء....

~~~~~~~~~~~~~

"ولا الضالين ....آمين"

مسحت على وجهها بعد أن انتهت من قراءة سورة الفاتحه لروح والدتها...انها السورة الوحيدة التي حفظتها من اجل قراءتها لها!!... ..قلبت كفّيها البيضاوين الرقيقين ....تتأملهما ...تدقق بهما ..تقارنهما ببعضهما....وهما يرتجفان ...كأنه البارحة ...كأنه لم يمر خمس سنوات عليهما وهي تشعر بلهيبها ....سافرت بها الذكريات المضنية الى ذلك اليوم....بدأت طبول قلبها تتصارع ....يعلو ضجيجها ..يعلو ....يعلو.....لم تعد تحتمل ....اغلقت اذنيها بقبضتيها....تشد عليهما ....تحاول اقتلاعهما...ليذهب ذلك الصوت الذي يتكرر صداه....لا ينفك عنها... شفتاها ترتعشان وكأنهما في مستنقع جليدي بأحد القطبين ....غامت عيناها...والطبول ما زالت تقرع ....دقاتها تلازمها وتستمر بالارتفاع...

"أمــــــــــــــي"

لحظات قليلة ودفعت الباب تفتحه بقوة بعد سماعها صرخة ابنة شقيقتها ...هجمت لاحتضانها ...تضم رأسها لصدرها ...تمسد على شعرها وتهمس بِشَجا :

"بسم الله عليكِ حبيبتي ...بسم الله ...أنا هنا معك ...لا تخافي"



تمسّكت أكثر بخالتها وهي تشهق رعبا وشلال عيناها ينهمر دون توقف تهمس بحروف متقطعة:

"أ أريد أمـ ـي ...خـ ـذيني اليها"



تقبّلها من رأسها بحنان ...تضمها اكثر وتقول :

"حسنا حبيبتي ..سنذهب اليوم لزيارة قبرها مثل كل سنة "



أزاحت رأسها عن صدرها ...تضع اطراف اناملها تحت ذقنها...ترفعه لها ...تنظر لعينيها بعطف ومحبة مبتسمة وتضيف:

" ماذا تريد الجميلة اليوم لنوّزع عن روح والدتها؟؟"



برقت البراءة في حدقتيها وشقت ثغرها ابتسامة بعد ان استكانت بأحضانها وأجابت:

" أريد أن نشتري ملابس الشتاء للأولاد المحتاجين "



" مممم ...حسناً اختيار موفق صغيرتي....اذا نذهب قبل العصر للتسوق وبعدها نبعثها لجمعية (بصمات خيرية)"



"وذاك المكان خالتي ؟!"



" لا هذه المرة سيكون لتلك الجمعية فهي تختص بأولاد المدارس المحتاجين ..من ملابس... مونة ...ولوازم مدرسية "



"لكنك وعدتني خالتي!!"



" الخير بما هو آت صغيرتي لا تتعجلي "



اطمأنت على صغيرتها وتركتها في غرفتها ثم خرجت بِعزم تقصد مكتبه بعد أن قطبت حاجبيها تترجم ضيق صدرها قهراً من تصلّب رأيه بجهالة بحجة المحافظة على سمعتهم لئلا يقول الناس ابنة ( عاصي رضا) مجنونة ومختلّة عقلياً....

" ادخل.."

صرّح بدخول الطارق والتي لم تكن غيرها...السيدة (فاتن)



" صباح الخير.."



" صباح النور....خيراً؟...أم جئتِ لتذكريني بهذا اليوم المشؤوم ؟"



ردت باقتضاب :

" لأذكرك بعواقب اليوم المشؤوم"



ترك القلم من يده وأعاد ظهره للخلف...يرفع يديه للأعلى يريحهما....يميل زاوية فمه بسخرية ويهتف:

" ألا تملّين من تكرار هذا ؟؟....أنا قلت كلمتي ...لا داعي لطبيب نفسي ...غداً تكبر وتنسى "



طرقت طاولة المكتب امامه بطرقات متتالية بقبضة يدها ,حانقة ,تقول بخفوت من بين اسنانها:

"أنا لا افهم كيف تحبها ولا تراعي حالها...انت تؤذيها....هذا لمصلحتها ...كل ذكرى تعود لنفس الحالة ناهيك عن الأيام العادية التي تسمع بها أصوات مشابهة "



أجاب بصرامة منزعجا من اتهامها له:

" أنا أدرى بمصلحة ابنتي...أتودين أن ينعتوها بالمجنونة والمختلة ؟؟....لن أسمح بهذا ابداً....كلنا نتعرض لصدمات ونخرج منها دون داعي لأطبائك الذين أجزم انهم هم المصابون وينقلون عدواهم لزبائنهم"



استقامت بوقفتها تزفر أنفاسها بيأس تنظر للسقف تهز رأسها مستغفره:

" يا الله نفس الأسطوانة ...أين التحضّر والثقافة التي تدّعيها ؟؟...أَكُلّ هذه الكتب التي خلفك لم تستطع تغيير فكرك المحصور بجهل الماضي الذي بسببه تتدمر المجتمعات ...ماذا تركت للأميين ...كيف سنبني مجتمعاً مزهراً ومتعاوناً ونحن نبخس هذه الأمور التي لها دور بإصلاحه ؟؟"



استدار بكرسيه الفخم المتحرك واقترب من درج المكتب الجانبي يخرج غليونه يشعله يقول ببرود متهكماً :

"أأنهيتِ محاضرتك أستاذة التنمية البشرية ؟؟....فأنا لدي أعمال تفوق طموحك ومجتمعك المزهر هذا !!"



ولته ظهرها مدبرة ...مستاءة من تفكيره المتحجر ...فكم حاولت إقناعه لمصلحة المسكينة لكنه لا يتنازل عن مبادئه وأفكاره بجهل وعنجهية وجميعها كي لا يُخدش اسم (عاصي رضا ) ....فهذه العقول التي تقود المجتمع للهاوية بادراك وغير ادراك...عندما لا يعطون قيمة لكل ذي علم علمه ليقوم بدوره وينهض بالأمة ولو بشيء يسير حتى يلحقه بالأكبر!!...

صعدت تجهز نفسها و(ألمى) استعداداً لهذا اليوم الحافل...

~~~~~~~~~~~~

" أخبرني كيف تجري الأمور معك ؟؟"



" ها أنا استعد للانطلاق"



" أنا اثق بك اخي ماجد ...ضعهم في عينيك ولا تخذلني"

شدد السيد (سليم) بطلبه يؤكد عليه بالاهتمام بنا عند استقباله لنا في المرفأ...



" لا توصِ حريصاً اخي سليم"

ردّ يعطيه الاطمئنان...

~~~~~~~~~~~~~

عيناي خرجت من بين جفوني ....قلبي انهار على قدمي....تبخّرت الدماء في عروقي....هل أنا وسط كابوس؟!..أم أنني أقدّم لامتحان بلغةٍ لا افهمها ومواد لم أدرسها!!...يكون النجاح فيه الحياة والسقوط فيه الموت!!...هل نحن مُجبرون على عيش ذلك ؟!....كانت تساؤلات بائسة بعد صدمتي بكلام خالتي...نفضت وساوسي مستغفراً ثم تذكرت قوله تعالى :

{{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ }}

"انا لله وانا اليه راجعون"

هذا قدرنا ونصيبنا...ما باليد شيء نفعله...واجب علينا أن نرضى بقضائه....

لن أجزَع ولن استسلم ...تحدّيت نفسي قائلاً كما قال (علي بن ابي طالب رضي الله عنه):

[سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري .. سأصبر حتى ينظر الرحمن في أمري... سأصبر حتى يعلم الصبر أني صبرت على شيء أمر من الصبر...]

اقتربت من أمي وجثوت أمامها...كانت تضم أخي لصدرها...تحاول ادخاله الى جوفها...تُخَزّن أريج أنفاسه البريئة بفؤادها!!...تضمه ضمة حب ..ضمة أم مقهورة ...وضمة وداع ....

في هذه الأثناء كان قد دخل في نومٍ عميق بعد أن أنهكه البكاء فترة من الزمن...حاوطت رأس أمي بذراعي أدفنه بصدري ...أمسّد عليه ...أقبّله ..هامساً لها بأمل:

" لا تحزني ان الله معنا...ما خاب عبداً قال يارب...فقط قولي يارب"



حررتْ رأسها من حضني ..ترمقني بنظرة استسلام ورجاء...وتنهدت تطرد وجعها الذي يحتل صدرها وهمست بصوت يخرج من أعماقها:

"يااا رب"



مضت نصف ساعة على هذا الحال....قرأتُ على وجه (دنيا) الملل, الذي تجمّع عليه التراب الأسود مختلطاً بالدموع ليخُطّ لنا خارطة ربما ترشدنا الى ضالتنا..!!!

أشرتُ لها أن تتجه الى مقدمة القارب الطويل لعلّها تجد من تؤنسها في سنها...استجابت لي متجهة حيث أمرتها وهي تضم دميتيها تحت إبطيْها وتمسك بيدها شطيرة تأكل منها من اللاتي في حوزتنا زاداً للطريق...!!

تتبعتها أختلس النظر اليها...اراقب حركاتها ...فأنا متفرغ وليس خلفي شيئاً أفعله ...تبسمتُ مرتاحاً بعد أن رأيتها تقترب من فتاة في عمرها ... يبدو عليها الفقر والبؤس!!...(دنيا) هي طفله مرحه في طباعها , شجاعة لا تهاب أحدًا, جريئة واجتماعيه....ورثت جمال عمتي وشخصيتها كذلك....تمتلك بشرة حنطية مثلي شعرها بني مموج بملمس ناعم وعيناها واسعتان بلون الشهد...

" ما اسمك؟"

سألتها بثقة وهي تقضم من شطيرتها...



"سلمى"



"أنا دنيا...هل تلعبين معي في الدمى خاصتي؟؟"



أكثر ما يجذب الأطفال في هذا السن هو الألعاب!!...أما تلك الطفلة لم تنزل عينها عن الشطيرة في يد شقيقتي...تبتلع لعابها...ثم اومأت رفضاً لطلب (دنيا)..

أيها الجوع البغيض كيف سوّلت لك نفسك لاقتحام هذه الروح البريئة ؟؟ أتتقاوى عليها ؟؟ ألا تعلم انها ضحية تشرد ؟؟...لمَ لا ترأف في حالها ؟؟



" اذا اردتما ان تصبحا صديقتين فيجب أن تفعلا كما فعلنا أنا وصديقي سامي"

هتفت بعد ان جالت في بالي فكرة كي لا اجرحها او احرجها عند اقترابي منهما.....



قاطعتني (دنيا) متلهفة:

"ماذا فعلت أنت وسامي؟"



" تقاسمنا طعامنا في يومٍ ليصبح بيننا خبز وملح...وانت تعلمين كم هو قريب مني "

تبسمت وتابعت:

" لذلك هيا تقاسما الشطيرة لتصبحان مثلنا"



قفزت هاتفة تمد يدها نحوي تعطيني الشطيرة لأقسمها :

"اذاً ستصبح سلمى صديقتي وستلعب معي"



ارتسمت ابتسامة نقية على وجه الطفلة وأنا أناولها نصيبها بعد ان قطعتها نصفين...وقالت:

"اشكرك يا اخي "



اعدت لها البسمة هامساً:

" صحه وعافية ..انا اخوك هادي"



اقتربت من (دنيا) وقبّلتها على خدها تشكرها وبدأتا باللهو واللعب بكل بهجة وسعادة....



دقائق أخرى سُحقت مع الزمن فعاد الصغير للبكاء....قصدتُ مؤخرة القارب لأخذه من أمي أتناوب في حمله وعدتُ حيث تلهو الصديقتان....أشارت (دنيا) الى أخي تُعرّف (سلمى) عليه...فقالت الأخيرة:

"وأنا لديّ أخت صغيرة...لكنها اكبر منه بقليل"



صمتت قليلاً وتابعت بعدها بحماس:

" هيا تعالي معي لأعرّفك عليها وعلى امي"

لحقتُ بهما بعدما توجهتا الى والدة (سلمى)....كانت امرأة تبدو بالثلاثينات من العمر ...في حضنها رضيعة ابنة شهور....رغم حالتها الرثّة الا ان عينيها فيهما القوة والصمود والكبرياء!!....فقدت زوجها في السنه الماضية وهي حامل بصغيرتها عندما كان يحرث أرضهم الزراعية قرب الحدود بعد ان انفجرت فيه عبوة ناسفة متروكة بالقرب من ارضه.....

صاحت (سلمى):

" امي امي هذه دنيا صديقتي الجديدة ...تقاسمت معي شطيرتها"

اومأت بإصبعها نحوي مضيفة:

" وهذا شقيقها اخي هادي والصغير شادي"



رحبت بنا ( ام سلمى) ممتنة لنا لإطعامنا ابنتها ثم قالت بعطف بعد ان شد انتباهها بكاء اخي المتواصل:

"يبدو ان اخيك يتألم وان لم يكن كذلك فبالتأكيد جائع.....خذه لوالدتك لتطعمه...مسكين"



احمرَّ وجهي قهراً...ابتلعت لعابي محاولاً ان اخرج أي كلمة!!...لكن لساني بقي أسير الفكين!!



براءة ونقاء الأطفال تُجبرهم على عدم إخفاء شيء او وزن الأمور بشكل صحيح....

ففي هذه اللحظة قفزت (دنيا) وكأنها تتسابق لنشر سبْق صحفي وحدث تاريخي يغير مجرى الكون..!!....هتفت موجهة كلامها للمرأة:

"امي تركت زجاجة أخي في البيت وهي لا تستطيع ارضاعه"



أصابها الجمود!!...لم تحرك ساكناً...وجهها يعبّر عن صدمة مختلطة بشعور الاحراج لتسرعها دون ان تفقه شيئاً...شعرت انها سكبت الملح على الجرح...لكنها سرعان ما تفادت الموقف مبدلة ملامحها من العبوس الى المرح هاتفة:

" انا لديّ الحل!!"



عطايا الله لا حدود لها....تشتد وتشتد لتفرج بواسع كرمه...فلا تقنطوا من رحمة الله!!

لم اصدق!! كنت كأنني دخلت حلم احلق فيه بالسماء الصافية ومن تحتي انهار ومروج خضراء بعد ان تبرعت بكل حنان وإنسانية لترضع اخي بقلبٍ خالص ينبض بروح العطاء ....يا الله ما اكرمك....

أخذته مني واعطتني صغيرتها (سلوى) ريثما تنتهي.....مرت عشرون دقيقة قضيتها بمداعبة الجميلة ابنتها ....



"انظر الى اخيك كيف اصبح بشوشاً ووجهه يشع نضارة....ليحفظه الله كان يتضور جوعاً المسكين"



قلت لها بامتنان كبير:

" جزاك الله خيراً يا خالة....لا اعلم كيف سأرد لك جميلك هذا"



" لا تقل هكذا يا ولدي فخيركم سابق....انا بالخدمة متى احتجتموني"



ابتسمت لها حياءً رامشاً بعيني معبرا عن جزيل شكري وقصدت مجدداً مؤخرة القارب حيث تمكث امي وخالتي.....

"انظرا الى شادي "

هتفت لهما وهما تحتضنان بعضهما مستسلمتان لأمر الله.....



نظرتا سويا للصغير في حضني ترمقاني بنظرات ما بين الذهول والاستنكار لسكونه رغم استيقاظه!!...وبعد ان اخبرتهما بما جرى قفزتا تسحبانني لأخذهما للمرأة الشهمة لتشكراها ...خطفت امي صغيرها من حضني بعد ان عاد وجهها للحياة...تضمه تقبّل كل خلية فيه حامدة الله على عطاياه....

×

×

×

ما زلنا في منتصف البحر....بدأت الرياح تشتد....تحمل معها غيومًا سوداء!!....من شدة سوادها تظن ان الليل قد حلّ وقت الظهيرة!!...تعصفُ بنا ذات اليمين وذات الشمال!!...ترمينا بضوء البرق الذي يشقّ السماء ثم تنهيهِ بصوت الرعد الذي يخترق الآذان...تخبرنا أن الأسوأ قادم!!..غير مكترثة لحالي وحال أولئك البؤساء.....

امتزجت أصوات الرعد بأصوات صرخات الركاب!!...يندفعون تارةً الى الأمام وتارةً الى الخلف...وجوههم مكفهرّة...كانوا مثل بقايا لبن في قعر زجاجة ترجّها يدٍ قوية بعنف....علا الضجيج وأنا لا أميز من اين مصدره؟!!؟...هل هو من السماء ام هو من المياه؟! هل كنّا في هدوء ما قبل العاصفة؟! هل حقاً انتهى الأمل واقترب الأجل؟؟!!

~~~~~~~~~~~~~

في بلادنا الأم ما زالت الحرب في أوجها ...يحاول الجنود السيطرة على الحكم ...والثوار يجاهدون للتصدي لجبهتي الجنود وحلفاء الحكومة المنفكة....حرب شعواء تضحي بابناء وطنها ...فوضى دون أي رقابة ...تحول الوطن الى غابة للوحوش ...البقاء للاقوى بعضلاته وعتاده وليس للأحق ....ما زالت الدول صامته ولم تحاول التدخل ....لم يضع احدٌ حدًا ويوجههم لطاولة المفاوضات لإيجاد حلًا يرضي الجميع!!!

بعد ان اجتاح الجنود مدينتنا الجبلية اعتقلوا بعض الشبان لاشتباههم بانتمائهم للثوار ....مبادئ محكمتهم عكس العالم...فأولاً العقاب والعذاب وبعدها اذا لزم الأمر يباشرون بالتحقق من تهمهم ان كانوا بُرئاء ام لا....محظوظ من وجد سندًا كبيرًا له كأهل لهم مكانتهم ومال... وتعيس من افتقر لذلك.....لا نعلم لأين سيصل الحال بوطننا المطعون!!!....اللهم الفرج....

~~~~~~~~~~~~~~~

تستلقي على فراشها في غرفتها حزينة ...تضمُ دبّها الكبير الأبيض لحضنها....تتكئ برأسها عليه....تلتمس دفء احضانه باردة المشاعر بعد ان عادت هي وخالتها من مشاويرهما....مع أن هذا يوم مشؤوم يكون فيه البيت بحالة حداد الا انها عادة تشعر ببعض الدفء فيه لالتزام والدها على مدار الاربع سنوات السابقة حيث يقوم بتفريغ نفسه من اجلها, يصطحبها لزيارة قبر والدتها ومن ثم ينزهها ويختم يومها في غرفتها يداعب شلالها الأسود... يقصّ عليها قصة حتى تستسلم للنوم!!...أما هذه السنة بالذات يبدو انه نسي او تناسى تلك الذكرى وفضّل مرافقة ملفاته الكئيبة عليها!!....فحتى هذا اليوم الخاص باتت تفقده ليختفي بين أيام السنه المتشابهة بنظرها لتتخذ بديلاً عن والدها ذلك الدب الذي تثق بأنه لن يتركها ويرحل , ويبقى صقيع حضنه اقرب لقلبها من حرارة مشاعره المحرومة منها....

في مكتبه بالأسفل دخلت زوجته تخبره بآخر المستجدات بشأن انتقال عائلة صديقتها لتلك البلاد حيث يقيمون, بعد ان اطلعته سابقا عن سيرة حياتهم وأعمال (رائد السيد) الوفيرة وانجازاته في عالم رجال الأعمال في تلك القارة....كان يسمع به لكنه لم يكن يهتم لأنه بعيد المنال....اما الآن الكنوز تقترب ويجب اقتناصها....

" غدا وقت الظهيرة سيكونون في المطار "

قالت (سوزي)....



" جيد سأبعث السائق كما اتفقنا لينقلهم للفندق لكن عليك تأكيد ذلك عليهم"



"بالتأكيد....وماذا بشأن البيت؟؟...لقد سألتني ان وجدنا ما يرضي طلبهم "



" سأخبرهم كل شيء بعد لقائنا بهم"

اومأت برضى ودقات قلبها تتراقص فرحا ثم انصرفت لتهاتف صديقتها....

~~~~~~~~~~~~

بلبلة عارمة على ظهر القارب!!...المطر يهطل بغزارة ...وصرخات الركاب المرعوبة تجلجل المكان... نحاول حصر النساء والأطفال والكهلة بشبه سقف متواجد وسطه لنبقى نحن الشبان تحت الفضاء نتلقى الامطار...

أيها القارب المسكين ..هل صمدت من الحرب العالمية لتعيش حروباً أخرى؟؟



"يكــــفي ..اصمتــــــوا!!"



وساد الصمت فجأة بعد أن صرخ بها رجل في الاربعينات من عمره.....

جميعنا ننظر اتجاهه بعد أن نجح بإخراج صوته رغم الضوضاء التي عشناها...فتابع بأعلى صوته :

"نحن الان في منتصف البحر لا نعلم أي اتجاه ذاهبون...يجب علينا ان نتكاتف ونتعاضد ونفكر كيف سنخرج من هذا المأزق؟!...لا وقت للذعر والاستسلام !!.....فكروا وادعو الله ان ينشلنا من مصيبتنا وتفاءلوا..!!"



انقشعت الغيوم بعد عدة دقائق ليتوقف المطر , تاركة وراءها مياه تغرق أرضيته...



" الان وقت صلاة الظهر...من كان على وضوء فليشاركنا بصلاة الجماعة جمع قصر ونتبعها ركعتان بنية رفع البلاء عنا وإزالة الغمة "

هتفت بها بعد ان تقدمت جانبه وبعدها اتجهت الى المقدمة لأؤُمّ بالمصلين....



بعد انتهائنا منها بدأنا بالتفكير بحلول ....فصرخ السائق:

"أمامنا ساعة ونصف للوصول....امتلأ القارب بالمياه وازداد حِملاً فوق حمله!!...."

ابتلع ريقه وأكمل:

"من الممكن أن يبدأ بالغرق بعد نصف ساعة!!"



عاد الهلع والذعر للركاب...علينا إيجاد حلول فورية وسريعة....



كان ما لمع في عقلي وأدليْت به:

" نحن على شفا جرفٍ للغوص في أعماق البحر...لذا لو سمحتم وكلي ثقة بكم ان تساعدوني لإلقاء ما بحوزتنا من حقائب كبيرة واغراض ثقيلة يمكنكم الاستغناء عنها"

جثوتُ أحمل حقيبتنا الكبيرة التي تحوي داخلها أغراضاً لأخي وأحذية لنا وبعض الأغراض الأخرى فسحبتها امي رافضة قراري....نظرت لها برجاء وهمست :

" ارجوكِ يا امي لنفعلها اولاً ليقتدوا بنا...أو سنموت جميعاً"

وافقت على مضض تدعمني مجبرة.....مسّدتُ وجنتها هامسا بهدوء :

" رضاكِ يا أمي "



ثم القيت الحقيبة بالبحر ليتبعني الجميع بإلقاء ما في حوزتهم من حقائب كبيرة واغراض ثقيلة ولم يتبقى معنا الا شيئاً يسيراً...

" من منكم يستطيع السباحة؟؟"

سأل الرجل الأربعيني يقصد الرجال والشبان...



أجبته باندفاع من غير تروّي:

"أنــا"



ولحق بي أربعة شبان آخرون....أضاف متفائلاً:

" ممتاز وأنا كذلك !!...اذاً سنقفز ثلاثة في البحر نعومُ لعشرة دقائق نلحق القارب ومن ثم نتبادل مع الثلاثة الآخرون....علّنا نساعد في تخفيف الوزن...."



رغم البرد الا ان هوسي للسباحة أنساني هذا وبالطبع النية في المساعدة.....لكن صوت أعرفه اخترق اذنيّ بفزع:

"أنا لا اسمح لابني فعل ذلك!!....البحر هائج والجو بارد وهذه مخاطرة كبيرة"



إنها أمـي...!!



جدالٌ قصير بين الرجاء والرفض أبطاله انا وامي والرجل الأربعيني سيكتب نهايته شيء ما.....

على طرف القارب في زاوية جانبية رجلٌ عجوزٌ وزوجته يشبكون أيديهم ببعض ويفترشون الأرض...وجوههم ترسم الحزن والهمّ...عيونهم تصرخ وألسنتهم صامتة...تحدّوا الامراض ليعيشوا يوماً هنيئاً بصحبة أبنائهم واحفادهم....لكن القدر سطّر لهما حكاية أخرى...

فقدوا جميع افراد الأسرة إثر سقوط صاروخ غادر على بنايتهم السكنية التي تجمعهم أثناء تواجد هذين العجوزين في المشفى لإجراءات روتينية....

رفع العجوز راسه وسلّط انظاره الى وسط القارب حيث نقوم بمسرحيتنا أنا وأمي وهمس شيئاً في اذن زوجته مما جعلها ترسم بسمة وتومئ برأسها القبول...

ما هي الا لحظات قليلة نسمع بعدها ارتطام قوي يأتي من ذاك الطرف يصحبه رذاذ الماء الذي يتطاير بالهواء بكثافة..

هنا توقف الجدال...توقفت افئدتنا عن النبض ....وقفنا جميعنا مذهولين...مصدومين...لا نعي شيئاً مما رأينا....وشهقنا بصوت واحد :

" لااا ماذا فعل هاذان ؟؟"



كان مشهدًا موجعًا يدمي القلوب لدرجة انني شعرت بالاختناق ....تأملت مكان جلوسهم اعاتبهم بيني وبين نفسي كأنهم يسمعانني!! لم فعلتم هكذا؟؟ لم استسلمتم لليأس؟!

لمحتُ على طرف القارب قرب موضعهم شيئًا مكتوبًا بالاحمر ولم يخفَ عني انها دماء...اقتربت لأرى وإذ به اسمان والأكيد اسميهما [ سامحونا...سليمان وأمل]

لربما كانت دماء من جرح اصابهم لم ننتبه له...



" انا لله وانا اليه راجعون....رحمهما الله وغفر لهما"

هذا ما دعونا به....



مهما بلغ بنا الحال ومهما اشتدت المصائب علينا وضقنا ذرعاً...ممنوع الاستسلام لشياطين اليأس!!.....لا اعلم كيف يستطيع الانسان وضع حد لحياته مهما كانت؟!

الله وهبنا إياها ووحده يقبض ارواحنا متى شاء....

أرجو من الله أن يتجاوز عن فعلتهم هذه ويرزقهم الجنة .....



هذه الحادثة جمّدت عقولنا عن التفكير في الحلول مدة من الزمن.....كنتُ شاردًا بنظري الى الماء....فجأة وجدت نفسي محاطًا بأغراض عديدة!!

حقائب....ملابس....زجاجة رضيع تطفو....أطواق نجاة؟َ!!...ومن ثم قارب مطاطي يكُبّ على وجهه من جهة وفي الأخرى يبدو انه بقايا قارب آخر...



وماذا بعد؟؟!!



جثة..



فأخرى...



فأخرى...

نقترب أكثر والجثث تزداد....



قوّست فمي ساخراً لفطنتي....

لا بدّ أننا داخل مشهد تمثيلي لفيلم صُنع هوليود!!

بحثت عن المُخرج ...لم أجده...نظرت يمنة فيسرة علّني التقط آلات التصوير ولم اجدها.....تساءلت عن الأبطال والمنتج!؟...لم يرشدني أحد...

خجلتُ من فطنتي هذه وقوّست فمي للأسفل حزناً بعد ان تلقيت اجاباتي..!!

نعم نحن في مشهد....!!

انما مشهد حقيقي لمأساة من صُنع الحرب....مخرجها الخونة...آلات تصويرها عيوننا وعقولنا.....أبطالها أناس أبرياء اقصى نجوميتهم أن ينعموا بالسلام والأمان....منتجها قوارب ضعيفة غير آهلة للتنقل....

الى جنات الخلد يا شهداء الوطن...اذهبوا بسلام الى رحمة الله....أنتم السابقون ونحن اللاحقون.

صعاب واجهتنا وتخطيناها بفضل الله...البعض أخذ غفوة والبعض أصيب بالزكام وآخرون اشغلوا أنفسهم بالدعاء وترتيل ما تيسر من الذكر الحكيم...رحلت دقائق أخرى وتركت لنا ما تبقّى للوصول....



" الحمد لله على سلامتكم"



أجمل عبارة سمعتها في رحلتي العصيبة نطق بها السائق...

أحقاً وصلنا اليابسة بالسلامة من غير خسائر إضافية بأرواحنا؟؟!!

قفزت من القارب ساجداً على الأرض شاكرا لله....وبعدها ساعدت عائلتي بالنزول واخرين....

كل عائلة ذهبت تشقّ طريقها ...تسجل أولى خطواتها نحو اللجوء....تعانقنا...تسامحنا... شكرنا بعضنا بعد رحلة عناء دامت ما يقارب الأربع ساعات....

كان من المفروض حسب اتفاقنا ان يستقبلنا الرجل التابع للسيد (سليم) لينقلنا الى المكان الذي سنقيم فيه .....بحثنا هنا وهناك لنعثر على إشارة ترشدنا اليه !!...ولا اثر لشخص ينتظرنا.....الآن لحظة الوداع بيننا وبين عائلة ( ام سلمى).....عناق شديد...عبارات امتنان...من بعدها خلعت امي إسواره كانت ترتديها لتهديها لها شكر وعرفان على ما قدمته لنا بحق أخي فلقد كررت معروفها عدة مرات اثناء الرحلة ولم تقتصر على الاولى فقط.....بدا على وجهها الاستياء ورفضت رفضاً قاطعاً قائلة لها:

"أنا اطعمت لله ولا اريد جزاءً او شكورا...اولادك احقّ بها"



" بارك الله بكِ وأتمنى ان نلتقي في ظروفٍ اسعد...اعتني بنفسك وبالصغيرات"



" وانتم كذلك اعتنوا بأنفسكم...حفظكم الله أينما كنتم"



اما الصديقتان كانتا تنظران الواحدة للأخرى نظرات حزينة , بائسة, يائسة....انهما امضيتا ساعات معا من غير كلل ولا ملل اسستا فيها صداقة جميلة وبريئة....لم تنطق أي منهما بكلمة لكني اعرف ان قلبيهما يتحدثان .....ترغبان بشدة الّا تفترقان...احنيت ظهري الى ( سلمى) اقبّلها من جبينها وقلت:

"استودعك الله يا اختي الثانية"

ودنوت من ( ام سلمى)لأقبّل صغيرتها (سلوى) وهمست للأم:

" لن ننسى معروفك معنا ما حيينا وأتمنى ان نلتقي والوطن يجمعنا"



تلك العائلة الصغيرة دخلت قلبي من غير استئذان بعد أن اسدت لنا فضلاً دون ادنى مقابل...

اوليتهم ظهري بعد سماعي احد الرجال ينادي:

" اختي ام سلمى هيا وصلت مركبتنا"



سرت في خطواتي متجهاً الى احد المقاعد القريبة واختي تمسك يدي...ومن خلفنا (ام سلمى) وابنتيها متجهات الى المركبة.....

افلتت (دنيا) يدها مني وركضت صارخة :

" سلمـــــــى"



فقابلتها الأخرى:

"دنيـــــــا"

ثم اقبلتا على بعض تتعانقان بشوقٍ مع بكاء تودعان بعضيهما ....



تفاجأت بعدها من شقيقتي تمد احدى دميتيها تعطيها لها قائلة بألم:

" خذي هذه لك وسمّها دنيا والأخرى ستبقى معي وأسمّيها سلمى...لكيلا ننسى بعضنا ابداً"



اشرقت بسمة تنير وجه (سلمى) البائس وقالت:

"سأذكرك دوماً يا اجمل صديقة"

ثم عادت الى المركبة تختفي عن انظارنا.....



جلسنا على المقعد ننتظر مصيرنا المجهول!!....لا أي علامة تدل على وجود شخص يبحث عنا !!!....يبدو انه بسبب ضياع تلك السفينة منا وعدم تواجدنا فيها ...فقد الأمل ورحل.....كان المرفأ يعجّ بالمهاجرين ومعظمهم يعرفون وجهتهم ....اما نحن لا نعلم اين نذهب واي جهة نقصد...لكن لا مناص مضطرون ان نفعل كما يفعل الاخرون والّا بتنا في هذا المكان وبرودة الطقس تقتلنا.....تقاسمنا بيننا اخر شطيرتين بحوزتنا....من الجيد ان خالتي قامت بتحضيرهم وكأن حدسها الهمها على ذلك.....فتلك السفينة الفاخرة تقدم وجبتين لزبائنها...لكن خالتي قررت ذلك خافت ان تطول الطريق على اليابسة حتى نصل السفينة وايضا كي لا تفاجئنا (دنيا) بطلبها ونحن في رحلتنا ,لان لا وقت محدد لطلباتها التي لا تنتهي من فرط دلالها ولا تصمت الا بنيل مرادها فهكذا عودّها والدي رحمه الله.....

نامت في حضن أمي ,والصغير في حضن خالتي.....ضجرتُ من جلستنا بلا هدف ....نهضت من مكاني أتجول في الارجاء ذهاباً واياباً....لمحت كشكًا صغيرًا يجلس داخله رجل كبير وبدا لي من ملامحه انه ليس من هذه البلد...اظنه لاجئ متجذر من سنوات ...دنوت منه ملقياً السلام فردّ:

" وعليكم السلام يا ولدي تفضل"



" هل لك ان ترشدني كيف أوصل الى مخيمات اللاجئين؟! لقد ضللنا العنوان ولا نستطيع الانتظار اكثر.."



نظر الى ساعة يده وقال:

" بعد نصف ساعة ستاتي الحافلات لتقلّ أفواج اللاجئين و وهي تأتي كل اربع ساعات.....انت وحظك فاحياناً تجد مكانًا لك واغلب الأحيان تكون ممتلئة لدرجة صعود البعض على ظهرها"

التفتّ بوجهي الى الخلف انظر الى الكتل البشرية الهائلة..فقال الرجل:

" كما ترى اليوم مزدحم"



" هل نحتاج تذاكر للحافلة؟"



" لا....ادفع بضع قروش عند صعودك لها"

شكرته وعدت الى مقعدنا واخبرت عائلتي بذلك....



وصلت الحافلات وايّ حافلات؟؟!!

عند نظرك اليها تعتقد انها تختص بنقل الدواب والمواشي....الصدأ يأكلها.....نوافذ بلا زجاج!! أشبه بهيكل او قضبان السجن....لا تستطيع تمييز لونها فطلائها باهت من كثرة مكوثها بين المطر واشعة الشمس....اطاراتها تستغيث......خردة.!!....اطلقوا عليها اسم حافلات.....

قلت في نفسي " لا يهم المهم ان نصل ولو على حمار"

بدأ الجميع بالتوافد اليها ونحن فعلنا بالمثل....هذا يدعس على قدمك... وهذا يمسك بذراعك يدفعك للخلف...هذه تصرخ وهذا يلكُم...اصبع يدخل في عينك ويد تشد شعرك...طفل أضاع والدته وآخر يبكي...عجوز وقع عكازها....وامرأة انزلق حجابها......لا بد انه صراع البقاء.....

جلس من جلس ووقف من وقف ...بصعوبة حصلنا لأمي على كرسي ممزق مهترئ اسلاكه تطلّ من الجوانب ....وضعتْ (شادي) في حضنها .... خالتي و(دنيا) وقفتا على سلم الحافلة من الداخل....أما أنا وبعض الشبان تسلقنا على ظهرها...نتمسك بقضبانها بين الحقائب....الهواء يلفحنا ودخان الحافلة يخنقنا....اربعون دقيقة الى ان وصلنا الى المخيم القريب لازدحام الطريق بقافلة اللاجئين......

على اعتاب المخيم وقفنا...سمعت عن مخيمات لكن آن الأوان لأكون احد سكانها...الزمن دوّار...اليوم انا وربما غداً انت...لا ندري ماذا يساق لنا؟!

خِيَم بعضها ممزق وبعضها مرقع...تتنوع بين النايلون والقماش....لا تدري اين بدايته وأين نهايته....الطين في كل مكان!!....تختلط مياه الامطار بالمجاري القذرة....ذباب يغطي المكان....قوارض تسرح وتمرح......حشرات تحتفل بالغنائم البشرية....يا الهي لم استطع تحمل هذه الرائحة النتنة!!....تطرفت قليلا ابعد عنهم واخرجت ما في جوفي من غير ارادتي.....أمي تبكي حالنا...خالتي وجهها صُبغ بحمرة الغضب....اختي تبكي مشمئزة...فهي مثلي وُلدنا على ريش النعام وبافواهنا ملاعق ذهب....لم نعتد على هكذا مناظر....احتضنّا بعضنا بشدة لنستمد القوة ...كنا على وشك الانهيار من هوْل ما رأينا....وضع مزري جداً....

لفتَ انتباهي ساحة في وسطه محاطة بسلسلة حجارة بشكل مرتب....هذه أنظف بقعه فيه!!

اقتربت منها فعرفت انها مكان مخصص للصلاة....مصلّى صغير بديل للمسجد في المخيم.....رأيت بئرًا محفورًا بجانبه....لا بدّ انه من أهل الخير صدقات جارية عن أرواح موتاهم....خُصصَ للوضوء...توضأت لأستعد لصلاة المغرب لأن العصر كنا قد جمعناه مع الظهر في القارب....

[[ قُلبت الموازين وتحوّل قصري تراب

راودتني فكرة ..نهايتها كانت سراب

نزحتُ الى الشتات ..احتميتُ بالأغراب

تضرّعت لربي داعياً...تساءلت عن الأسباب

ارشدني يا الله واحفظ ليَ الأحباب

توضأت مقبلاً أصلي في المحراب

أثنيتُ جسدي ساجداً وقلبي طاف فوق السحاب

في الصلاة راحةً يهديها البارئ لمن أناب]]



عدت لأهلي بعد انتهائي من صلاة المغرب مستعيداً رباطة جأشي....كانت (دنيا) تنظر هنا وهناك بانزعاج وتبكي بحرقةٍ هاتفة:

" ما هذا المكان؟ اين سنعيش يا أمي؟! اريد بيتنا وسريري...."



أمي كان يبدو عليها الصدمة ...ملامحها باهتة وتدمع عيناها بصمت...رفعت بصرها لي هامسة بوَهن:

"سامحني يا بني...سامحوني يا اولادي...لا اعلم ماذا افعل وأين نذهب!!...لا استطيع فعل شيء..لا أستطيـــــــــــع"



صرخت باخر كلمة وازدادت بكاءً....أمسكتُ يدها وقبّلتها بحنان هامساً:

" لا تهتمي يا امي..ما كتب لنا سوف نعيشه..نحن لسنا افضل من غيرنا.....سنحاول النهوض معاً ويكفينا رائحة أنفاسك لنشعر بالأمان....فقط تحملي من أجلنا!!"



" نعم يا اختي....البكاء لا يفيد...يجب أن نتقدم ونسأل الله ان يفرجها علينا...أنت الان قدوة لأبنائك في تحمل المشقة.."



قالتها خالتي مواساةً لها فردت :

" انا اقلق عليهم...هم لم يعتادوا عيشةٍ كهذه...سقطوا فجأة من نعيم السماء الى جحيم الأرض..."



قلت:

" اذا حان الوقت الذي يجب ان نعيش الحياة بمرّها بعد ان تذوقنا حلوها.."

تنهدتُ مبتسماً مكملاً:

"لعلنا في امتحان اذا اجتزناه سنعيش افضل من السابق...لا احد يعلم"

ثم اردفت بجدية:

" ابي زرع فينا التواضع والتقشف بالحياة...يجب الّا يكون مجرد كلام ونظريات على ورق....بل جاء وقت تطبيقه على ارض الواقع ليجني فينا ثمار تربيته عسى الله ان يرفعه بها درجات.."



سُرّت من كلامي وارتسمت الطمأنينه في قسمات وجهها وهتفت مشجعة:

" لنبدأ رحلتنا نستعين بالله.."



توجهتُ الى طابور استلام اللاجئين الجدد خيمهم وتوابعها, وبعد طول انتظار حصلت على خيمة مرقمة بـ 86...نصبناها بمكان متطرف وجدته بصعوبة....وضعنا داخلها الأغراض وافرشة واغطية ونايلون سميك خاص كالحصيرة يغطي الأرض....رميتُ بجسدي للفراش الأرضي ...امدّ ذراعيّ وساقيّ وتنهدت قائلاً:

"اوف...وأخيرا سأرتاح بعد ساعات وساعات من الوقوف والسير المتواصل"



دخلت في النوم دون ان اشعر...غير مبالٍ ببكاء شقيقيّ ولا لاحاديث امي وخالتي....استيقظت بعد نصف ساعة على صوت يخرج من مكبر الصوت:

" هيا حان وقت وجبة العشاء...الرجاء الالتزام بالطابور والنظام....لا تنسوا جلب رقم الخيمة"



جاءت في وقتها..نحن نتضور جوعاً...فقفزت من مكاني وقلت لأختي :

"ما رأيك أن تساعديني في جلب الطعام؟!"



نظرت لي ..فكرت قليلا واجابت:

"نعم سآتي معك"



لا اعلم هل هي استسلمت للأمر الواقع ام وافقت للهروب من حالتها ....أم انها تدابير القدر؟!

ذكّرتني خالتي بإحضار زجاجة حليب ل(شادي)..فالجمعيات وظيفتها تلبية احتياجات اللاجئين بكافة أعمارهم.....انطلقنا انا و(دنيا) نحو ذلك الطابور الذي له اول وليس له اخر...وبجهدٍ ومشقةٍ حتى حجزت مكاناً لنا....

بدأتْ تتأفف بضيق وملل ..أنا اعرفها لا تطيق المكوث في مكان واحد ..حركتها زائدة...أخذت تجول في نظرها لتقضي وقت الانتظار بشيء يسليها.....كان على مقربة منا مجموعة أولاد يشكّلون حلقة...حفاة...ملطخون بالوحل...يقهقهون بصوتٍ عالٍ بسخرية ويشيرون الى وسط حلقتهم على شيء لا يظهر لي ما هو.....

اما (دنيا) غلبها فضولها وتوجهت اليهم تنظر للوسط .....وقع نظرُها على طفلة تجلس على الأرض...تضم ركبتيها لصدرها ...متشبثة بشيء في حضنها وتحاول إخفاء وجهها....مغطاة بالوحل من رأسها الى اخمص قدميها...تبكي ...تستنجد وهم يسخرون منها ويلقون الطين اتجاهها صارخين بنغمة:

"هاتي اللعبة....هاتي اللعبة....هاتي اللعبة"



زمجرت (دنيا) بحدةٍ ...رغم الرفاهية والدلال الذي عاشتهما الا انها تتمتع بالتواضع وتمتلك روحًا تحب الغير ولا تزكّي نفسها على أحد....اقتربت اكثر تطرد أولئك المشاكسون...شخصيتها قوية وعندها ثقة بالنفس مثلما ربانا أبي...لا تكترث لمن امامها...صاحت بهم وهي تمسك حجر بيدها:

"انصرفوا...اتركوها أيها السيئون والا رميتكم بالحجر"



فجأة توقفت البنت عن البكاء محدثة نفسها" هذا الصوت ليس بغريب!! هذا الصوت اعرفه..إنـ نـ نها....".ورفعت راسها صارخة:

"دنيــــا"



القت الحجر من يدها ووقفت مكانها من غير حراك....لا تصدق..أحقاً هي؟!...وهتفت:

" غير معقول!!...سلمـــــــــــــى"



وانقضّت عليها تعانقها بشدة تتدحرجان سوياً على الأرض غير مباليتان للوحل....سررتُ للقائهما بعد ان اقبلتا نحوي وعانقتهما معاً فقالت اختي :

" هادي انا الان سعيدة...اريد البقاء مع سلمى"



ارتحتُ بداخلي لان اعتيادها على الحياة الجديدة كان من اكثر ما يؤرقني...فها هو باباً اخراً للفرج يفتح من كرم الله علينا.....

بعد ان استلمنا وجباتنا عدنا الى خيمتنا واصطحبنا (سلمى) معنا لنفاجئ من تركنا خلفنا....ومن ثم توجهنا جميعنا الى خيمة( ام سلمى) في الجهة المقابلة في المخيم....كان لقاءً حافلًا , دافئًا, ليصبح بعده بيننا رباطًا وطيدًا, متينًا, لتكون اول وافضل علاقة اكتسبناها اثناء اللجوء...

~~~~~~~~~~~~~

[عائلة محيي الدين الشامي]

قام بطيّ الورقة التي كتب عليها هذا ووضعها في درج مكتبه في شقته الجديدة في تلك البلاد بعد ان أُنْهِك اليوم وهو ينتظر امانته دون جدوى متذكرا الحديث الذي دار بينه وبين السيد(سليم الأسمر)...فبعد ان طبّق التعليمات على أكمل وجه حاملا ورقة كتب عليها اسم والدي وأخذ يجول وينادي في ذلك القسم الراقي من المرفأ وحتى انتظر ما يقارب الثلاث ساعات ولم يتعثر بطرف خيط يرشده هاتَفَه يطلعه على الأمر ...فانفعل الاخر ذعراً علينا ,مستنكراً اختفائنا وأمره بعدها بالتريث والصبر حتى يعود ويكلمه بعد ان قرر التأكد من المرفأين وجود أسمائنا ...وبعد طول انتظار عاد باتصال يخبره انه تم دمغ تصاريح خروجنا لكن عليه العودة الى المرفأ غداً ليبدأ بالبحث من جديد حتى لو لزم التفتيش بالمخيمات مع انه ابعد فكرة تواجدنا فيها ولولا الضرورة لما اجبره على تَتَبُع كل اسم حتى يعثر علينا...

~~~~~~~~~~~~~

رحبّا بهم بعد ان حجز لهم جناحاً فخماً بأحد الفنادق وارسل سيارة خاصة لنقلهم من غير عناء .....فلنيلِ رضا (عاصي رضا)..... البند الأول والأخير في سجّل مبادئه ان تكون ضمن لائحة الأكثر ثراءً .... السيد (رائد السيد) ممن استوفوا شروطه ليتفرغ له ولعائلته مستقبِلاً إياهم بحرارة كأنهما امضيا طفولتهما يلهوان بأزقة الحارات معاً وانتسبا لنفس الجامعة من شدة تعلقهما ببعض....لم يكن أحد أكثر براعة بإلقاء شباكه لغَرفِ اكثر كمية من الأسماك مثله...انه رجلٌ محنّك ...خسارة ؛ لو أنه استغل دهائه لصالح وطنه, لكن للأسف الكلب يبقى نجساً مهما اغرقناه بالمياه الطاهرة .....

ودّعاهم على امل اللقاء مساءً على مائدة العشاء في قصره لإكرامهم مداهنة.....

×
×
×
في قصر العنكبوت اعتذرت السيدة (فاتن) عن هذا اللقاء لانها كانت على موعد مع صديقتها(ايمان).....

(سوزي) كانت منهمكة تشرف على الطباخين والخدم لينتجوا أفضل ما لديهم من خدمات لضيوفهم....طلبت صنع أشهى أصناف الطعام لتليق بهم....ليس جوداً منها بالتأكيد !! انما هذه فرصتها لتتنمّق بأبهى حلة لحياتها الزائفة ...تدّعي الوفق ...لتريهم المستوى الرفيع لارستقراطيتهم العنكبوتية الزائلة...

قبل حلول المساء توجهت تحمل فحيحها لأميرة ابيها ...تخبرها بقدوم صديق جديد لها فهي تعلم افتقادها لهذا غير مهتمة بذكر او انثى مع ان الأولوية للأخيرة....اختارت لها فستاناً من المخمل الكحلي , حوافه مطرزة بالأبيض وشريطاً ابيضاً من الستان يزيّن شعرها الحريريّ وحذاءً بلون الفستان....ازدادت جمالاً على جمالها...

قرع جرس القصر في السادسة مساءً معلناً عن وصولهم....

تجمّعوا حول الطاولة البيضاوية الضخمة ...أطباق زجاجية بإحجام مختلفة بلونيها الأسود والذهبي مرصوفة جانب بعضها, تُملأ بما لذّ وطاب من المأكولات لترضي جميع الأذواق...توّزع بعناية واتقان !....

" ما هذا الجمال؟!...تبدو ابنتك مثل اللعبة "

وجهت السيده(اسراء) اطراءها لصاحب القصر بعد أن لفتت انتباهها سموّ الأميرة..



" هذا من لطفك...هي نسخة عن والدتها"



قالها بحب دون ان يكترث للتي اشتعلت جانبه وكاد لهيبها يحرق وجه الصغيرة آمله بمحو هذا الجمال الذي يصدعها ويكرهها حالها...لكنها حافظت على ثبات جلدها المرقط تنفث سمّها على هيئة ابتسامة ,تحاول ابعاد الضوء عن غريمتها لتسلطه على ضيف الشرف تقول بفحيح:

" أصبح ابنكما صلاح رجلاً...أين وصل في دراسته؟"



" هو في الأول اعدادي ودائماً متفوق في دراسته.."

اجابت بتفاخر وأضافت مبتسمة بغرور:

" عقله يكبُر اقرانه...كنا نستطيع رفعه لسنة ...لكننا نريد أن يعيش سنّه"



" اوه جيد, هكذا سأضمن من يساعد كرم وألمى في دروسهما"

ربطت الصغيرة بابنها لتظهر امومتها الكاذبة امامهم والتفتت الى (ألمى) تضيف:

"ما رأيكِ...صلاح ولد مجتهد وسيساعد كليكما في الدراسة؟"



بدا على وجهها الاستياء فهي لا تحتاج لمعلم لأنها أيضا متفوقة وتلك أكثر من تعلم وعلى العكس هذا من ضمن الأشياء التي تجعلها تحنق عليها ...أجابت بعفويّة تشع براءة:

" أنا لا احتاج لمساعدة يا خالة...ربما كرم يحتاج لأنه ينجح بصعوبة"



ثار صاحب الأمر غضبا وخصوصاً بعد ان لمح شبح ابتسامة على وجه ضيفهم الصغير وقال دون السيطرة على نفسه:

" من قال أني احتاج؟! من اين تأتين بهذا الكلام؟!"



ردت تؤكد على كلامها :

" لقد سمعت زملاءك يتهامسون ويقولون إنك تحتاج لدروس خصوصية وحتى يشكّون ان كانت تنفعك بشيء عندما جئت الى صفك الأسبوع الماضي لأُعْلمك بوصول سائقنا"



صرخ يداري فضائحه:

"هذا كذب كذب"



قاطعته مصرّة:

" لا ليس كذباً فالبارحة في حصة التربية كانت مربيتي ياسمين التي تدرّسك الرياضيات تقوم بتصحيح اختباركم...ورأت ورقتك زميلتي لين وقالت ساخرة ...كرم أخ ألمى حصل على 7 من 50 "



كانا كمن يلقيا الزجل الشعبي والذي انتهى بسحقها له عندما دفع كرسيه الى الخلف بقوة تاركاً الجلسة بمن فيها بعد ان وضعت له لطخة أمامهم ليتذكروه بها....

رأى(عاصي) الجمرات في حدقتيّ زوجته فعاتبها بلطف:

" حبيبتي ألمى من الخطأ البوح بمسائل تخص الاخرين أمام الجميع"



تدخّل السيد(رائد) قائلا بابتسامة بعد ان دخلت قلبه هذه الدمية البريئة :

" اتركها يا سيد عاصي ما زالت صغيرة لا تفقه شيئاً بعد"



بعد انتقالهم لغرفة الضيوف ليقدموا لهم باقي التضييفات قالت السيدة (اسراء) لـ(ألمى) تحاول اصلاح الوضع المكهرب :

" ما رأيك بالصعود انت وصلاح لمصالحة كرم ؟"

ثم تابعت تقول لابنها:

" هيا يا صلاح انا اعتمد عليك بذلك "



نظرت الى والدها ومن ثم نقلت نظرها لزوجته تنتظر إشارة منهما بالموافقة فأومآ كلاهما ايجاباً.....

نجح ذلك الـ ( صلاح) بإصلاح العلاقة بينهما الى حدٍ ما وشرع من بعدها ثلاثتهم باللعب بألعاب تناسب أعمارهم .....في البداية لم تنجذب هي اليه لكنها قررت بنفسها انه افضل من لا صديق....وانتهت ليلتهم بإرشاد ( عاصي رضا) لضيفه لشراء قصر في حي قريب منهم.....

~~~~~~~~~~~~

توجه السيد(ماجد) في اليوم التالي الى مكتب المرفأ يطلب قائمة الأسماء واستغرق بحثه ما يقارب الأربع ساعات من كثرة المهاجرين...

" واخيراً الحمد لله وجدتهم ..كانوا ضمن الرحلات البسيطة الحافلة بالمخاطر للهجرة"

قالها على الهاتف يبشّر السيد ( سليم الأسمر)...



" الحمد لله كنت اشعر انهم بخير ولن يفلتوا منا....هيا ابدأ بالبحث بين المخيمات"



" أتعلم كم مخيمًا موجودًا في هذه المدينة وحدها وكم لاجئًا يقطن المخيمات؟!....اصبر قليلاً لا استطيع فعل ذلك بيومٍ وليلة....المهم اطمأنّا انهم يتنفسون في هذه البلد"



" حسناً ارح نفسك ليومين وباشر عملية البحث مستخدماً نفوذك دون القلق بأي مصروف....سأحول لك كل قرش تحتاجه.."



كانت مهمة السيد(ماجد) صعبة لأن المرفأ فقط يتكفل بإدراج اسامي الوافدين وليس من واجبه تسجيل اين سيقطن كل واحد منهم....فعليه التوجه الى المخيمات جميعها مستعيناً بالمسؤولين عنها علّه يجدنا بإحداها لانهم وحدهم من يقومون بتوثيق أسماء افراده من أجل الجمعيات التي تقوم بالتبرعات والاعتناء بهم...

~~~~~~~~~~~~~~~~

بدأنا نتأقلم في المخيم رويداً رويداً .....نعتاش على تبرعات أهل الخير والجمعيات المسؤولة....كان اكثر ما يزعجني هو الناس الذين يتبرعون ببقايا اغراضهم الأشبه بالفضلات!!

كيف سمحوا لأنفسهم بإخراج هذه من بيوتهم تحت مسمّى صدقة لله؟!

ألم يقتدوا بأمنا (عائشة رضي الله عنها)؟؟

ألم يسمعوا بقصص سيدنا ( عمر بن الخطاب رضي الله عنه ) مع الصدقات؟!

كنتُ أخجل من أجلهم!!....

أحياناً كنّا نجبر على ارتداء تلك الملابس لأننا فقدنا معظم متاعنا اثناء الهجرة وبقي معنا أقل القليل نتدبر به أمورنا....!!......

لقد مرّ شهران بالتمام والكمال ونحن على هذا الحال ولم يصلنا أي خبر عن أقربائنا في الوطن ولا حتى عمّن وُكلوا للاهتمام بنا في غربتنا اليتيمة....

~~~~~~~~~~

يمشي في أروقة بيته على غير هدى ....تلفت أعصابه ...لا يعقل مرور أيام وشهران ولا أثر !!....يزفر أنفاسه بغضب ...يحاول كبح جماح نفسه.....يتجه الى الشرفة ....ينظر بعيداً للسهول المقابلة له حيث تشققت براعم النباتات بعد أن ارتوت ألأرض بخيرات الشتاء وانتعشت بشمس آذار ...يرفع هاتفه المحمول ...يلقي السلام على من أجاب في الطرف الآخر ويقول بصوته الجهوري بعد ان وصل حدّه بالصبر:

" أنا انتظر ....الى اين وصلت ؟!....هل انشقت الأرض وابتلعتهم؟؟!"



ردّ يحاول مداراة يأسه:

"اخي سليم.. انت تعلم أني فعلت ُ ما بوسعي ومنذ ما يقارب الثلاثة شهور وانا اقف على رجليّ دون ان ارتاح لأعثر عليهم ...."



قاطعه بنبرة مرتفعة:

"ماذا اذاً؟؟؟...هل نستسلم وكأننا اضعنا فاتورة مطعم لا أهمية لها؟؟"



قال ببصيص أمل:

"لم اقل نستسلم ....بقي ثلاثة مخيمات الأكبر في تلك المنطقة....احدهم في مدينة قريبه لمدينتي والآخران في المدينة الساحلية ...الأبعد بينهم يقع وسط الشاطئ والجبال والأقرب في مركزها.... سأبدأ بالقريب مني وبعدها الآخرين..."



" متى هذا ؟"



" احتاج بعض الوقت لا تظنه سهلاً كشرب الماء ....نهاية هذا الأسبوع باذن الله سأتابع مهمتي!!



" حسناً من صبر أسابيع كثيرة , يصبر غيرها....المهم ان نجدهم في النهاية....هم امانة الغالي واذا لزم الأمر سأسافر بنفسي لأقلب تراب تلك البلاد حتى اعثر عليهم "

أنهى مكالمته مع السيد (ماجد) ودخل يتابع آخر اخبار الحرب في البلاد....

~~~~~~~~~~~~~

يأتي لزيارة المخيم من وقت لآخر بعض التجار لتشغيل الأولاد ببيع أغراض بسيطة, صغيرة, يكتسبون منها بضع قروش , كالمسابح والعاب خفيفة وغيرها....

بعد جهدٍ اقنعت امي لتسمح لي بذلك....فنحن نحتاج الى كل فلس في بلاد الشتات....لا نستطيع الاعتماد على التبرعات فقط!!

بدأت العمل من اليوم التالي....اخرج من المخيم الى مركز المدينة في الصباح الباكر....اتجول هنا وهناك....اقابل أناس كرماء وآخرون فظّون لا يمتّون للإنسانية بصلة....أعود في المساء الى المخيم وفي جعبتي قرشان...لا اتناول أي لقمة في يومي ...احيانا اشفق على نفسي وادللها بقارورة ماء ...ريقي يكون هو غدائي وعشائي.... حالتي يرثى لها ....أقدامي متورمة....أنظر الى حذائي الصامد معي من بداية هجرتنا , الشاهد على كل المغامرات...يتمزق شيئاً فشيئاً...تُخيطه أمي ثم يتمزق مجدداً ...نتنافس من منا سينتصر على الثاني....لو أن لسانه يتكلم لألّف موسوعات عن معاناته معي....لو أنه يستطيع الصراخ لصاح في وجهي قف أيها القاسي!!...لو أنه يعرف عنوان المحكمة لرفع قضية ضدي......

أنا آسف يا حذائي فطريقنا واحد...!!!

×

×

×

في صباح احد الأيام أصرّت ( دنيا) بعنادها المعهود على مرافقتي عند سماعها حديثي لأمي وخالتي , ادّعي السرور في عملي لأخفف من همومهما ...فالحقيقة أنا اتعذب نفسياً من معاملة الناس...منهم من يتحدث بتعالي ومنهم من يظهر عنصريته ومنهم من يراوغ حتى اقتنائها بأقل ثمن , مثل هؤلاء لو ذهبوا لشبكات الماركات العالمية ..يدفعون بأسعار باهظة قرش وراء الآخر.. بفمٍ مغلق...لكن عندما يصل الحال للبسطاء يحاولون عرض مواهبهم في فن إدارة الاعمال والمقايضة.....وكذلك أتألم جسدياً من كثرة التنقل على الأقدام لعدة أماكن بينها مسافات!!!

حاولتُ ردعها عن إصرارها هذا فقاطعتني خالتي :

" خذها يا هادي , انها تشعر بالضجر وتصدع رؤوسنا ولعلّها تساعدك اليوم"



وافقت مكرهاً ...وخرجنا من المخيم لبدء ورديتنا في الشوارع لنخوض مغامرة جديدة...!!!

أعطيتها قسماً من الأغراض الخفيفة....كانت مستمتعة تظن نفسها في مدينة الملاهي....ولحُسنِ حظي بوجهها البشوش الجميل , براءتها وخفة دمها ...أقبل الكثير لشراء الأغراض منا....لا يهم احتياجا ام تعاطفا ...المهم ان تسير امورنا على اكمل وجه ....

في ساعات العصر بدأنا نتضور جوعاً كلانا....انا كنت معتاداً لأسبوعين على هذا الحال واصبح لدي قدرة تحمل!!...اما هي ....مسكت بطنها الذي يتقطع بخناجر الجوع...تذرف دموعاً متوسلّة:

" ارجوك هادي ..انا جائعة لا اتحمل"



"اصبري يا دنيا نصف ساعة فقط وبعدها نتوجه الى المخيم وتكون وجبة العشاء في انتظارنا "



ضغطت بيديها على بطنها... تحني جسدها ...زادت عيناها احتقاناً ....تئن ألماً صارخة:

" لا أستطيع.....بطني يؤلمني....آه....أي"



دنوت جاثياً احتضنها هامسا بقلة حيلة:

" تمالكي نفسك حبيبتي "



" اشتري لي شيئاً , معنا الكثير من المال"



" لا يا اختي هذه للتاجر وهو يعطيني نصيبي عند استلامه مني...فإذا علم باستعمالي له سيسبب مشكلة ويطردني ....ونحن نحتاج لهذا العمل"

مسدت على وجنتيها امسح دموعها المختلطة بغبار الطريق هاتفا بحنوٍ:

"بالله عليك اصبري..."



كنّا نتحاور بالقرب من مطعم لبيع ساندويشات الهمبرجر ...الرائحة تخترق انوفنا ...وتُشعل معدَنا ....شردت لوهلة مفكراً ...ثم قلتُ في نفسي "سامحيني عزيزتي" وهمست لها:

" انتظريني هنا....سأعود حالاً"

توجهتُ الى الباب الخلفي الخاص بالمطبخ...تسمّرت مكاني للحظات....عليّ ان افعلها....ما باليد حيلة ...المسكينة لا تتحمل!!...اقنع نفسي انه لا يؤثر اذا اخترت بعناية او انتظرت حتى جلب غيرها امام عيناي.....فالمطعم يرتاده الكثير من الزبائن وحركة نشطة داخله والعمال في حالة تأهب ....يقدمون الطعام وينظفون مخلّفاته في الحال ...يلقونها في هذه الحاوية الخضراء الكبيرة....!!

سمحتُ لنفسي بأخذ بقايا من الوجبات الطازجة بعد ان احضرها العامل ورممتها قدر استطاعتي ...ثم عدت الى اختي ...

تهللت أساريرها عند رؤيتها ما بقبضتي وأقبلت لملاقاتي بلهفة ....تسحبها مني ...وقرّبَتْها لفمها لتقضم أول لقمة......

********** (انتهى الفصل الثالث) **********



توقعاتكم...

اين سيكون أول لقاء للبطلين في مرحلة الطفولة ؟؟
ما هي أسباب حالة ألمى ؟؟


أتمنى لكم قراءة ممتعة:eh_s(7):


لا اله الا انت سبحانك إني كنت من الظالمين

موضى و راكان 16-10-21 02:42 AM

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 8 ( الأعضاء 5 والزوار 3)

‏موضى و راكان, ‏ألحان الربيع, ‏amina min, ‏الماسة الخضراء, ‏AROOJ


الحمدلله على نعمتك يارب و كرمك علينا

اللهم رد الغائب الى وطنه و الشريد الى اهله و ارفع غضبك و مقتك عنا يا ارحم الراحمين

shezo 16-10-21 09:52 AM

مرحبا.صباح الخير غاليتي.
"كيف النجاة؟"رغم الصعاب وقسوة الهجيرإلا أن الله يسخر الأسباب فالسيد سليم قام بما عليه ويزيد ولكن خطورة الوضع وصعوبة الوصول في الميعاد مرعب.
أبدعتي حبيبتي في وصف تفاصيله وانا أحبس انفاسي قلقا ومشهد السائق المصاب وفقدانه وعيه قاس جدا وما يتبعه من التساؤل عن كيفية الوصول؟
ثم بمنتهي المهارة تنقلينا إلي أجواء اخرى لتلك المراة التي تحاول إيجاد سبيل لإنقاذ نفسها وترسيخ وجودها وقد جائها طوق النجاة متمثلا في موافقة صديقتها
فهي عن كانت انتهازية فزوجها عاصى لا يقل سوءا عنها والمرأة تخطط لسنوات قادمة بهذه الصديقة وزوجها وابنهم وكأنها إطلعت الغيب وبدأت ترسم ملامحه.
من يدرى ماذا يحمل غدا وماذا سيكون من مصيرنا نحن وليس اطفالا ابرياءتلعب بمشاعرهم كذبا
وليت وجود فاتن وفهمها لنوايا سوزى يكون مانعا من استغلال ألمي واجتذابها بحنانها الكاذب.
ويكفيها رفض عاصى عرض ابنته علي طبيب نفسي لانهيارها بذكرى موت والدتها
"يا لها من نجاة"الرحلة مستمرة ولكن كل ما تم إعداده تغير وكما فقدوا الوطن يفقدون مالهم ووسيلتهم المريحة للهروب ويتحول الليل لظلام دامس بقارب متهالك ورضيع يصرخ جائعا وليس هناك ما يشبع جوعه صورة صادمة وقاسية جدا.
وللأسف كما هو الحال في الكوارث يتسيد الموقف غلاظ القلوب الجشعين الذين لا تعرف الرحمة الي قلوبهم طريق حيث كل شئ بثمن حتي موت الانسان
بينما ينظر الله بعين الرحمة لعباده فينجو شادي بفضل المراة التي أرضعته والذى سبقها بالخير بتقاسم شطيرة شقيقته مع ابنتها فالخير لا يضبع جزائه.
والرحلة المرعبة التي صورتيها بشكل رائع كأني اسمع الرعد وأرى البرق بقارب متهالك .
وما أبدعك وانت تشجينا بآيات الذكر والادعية الجميلة التي تصدر من قائليها بكل الصدق فقرب الموت لا يكون معه الا المناجاة من القلب لرب الرحمة
هو فعلا فيلما قاسيا رسمته يد الاطماع و الفساد التي شردت الامنين حدأن العجوز وزوجته القيا بانفسهما في البخر ليخفوا حمولة القارب في مشهد يدمي القلوب ما اقسي هجرة الاوطان وما اصعب وسائل التمسك بالحياة بعد فقدان الهوية يقبل المرء ما يجده سبيلا للنجاة حافلة مهدمة بشق الانفس يجدون مكانا مخيمات لاجئين غير آدمية مجهولا غامضا يترصد الجميع.
لكن الجميل أن الشهيد يحي قد أحسن تربية ابنه من بعده فهو صامدا مؤمنا موقنا بقضاء الله وأن فرجه قريب.
كنت موقتة أن اسرة دنيا واسرة سلمي لن تكون نهايتهما بالفراق فها قد عادوا للتلاقي بالمخيمات
وليت السيد ماجد يوفق في ايجادهم فلا اظن ان السيد سليم سيغفل عن الاطمئنان علبهم.
وبالوقت الذى يصارع فيه الشرفاء للابقاء علي حياتهم يحيا ذلك العاصي الفاسد بالقصور ويستقبل الصيد الثمين الذى جلبته زوجته للنيل علي اكبر فائدة ويبدو للآن ان مخطط سوزى يسير كما تحب
وبمرور الوقت الذى بحث فيه ماجد لم يتبق سوى ثلاث مخيمات بعدها يفقد الامل في ايجادهم والرحلة والشتات تخلق من هادى رجلا يعمل خارج المخيم من أجل قروش
يضطر في احدى نوباته أن يصطحب دنيا وعندما تصرخ جوعا يضطر لجلب ما تأكله من مخلفات المطاعم.
حقا الدنيا غير عادلة منهم من يصرف ببذخ ويلقي بقايا طعامه والاخر لا يجد ما يقتاته الا من صناديق القمامة.
سلمت يداكي حبيبتي علي الفصل المبهر وبارك الله لك في موهبتك وايمانك الذى تنضح به عباراتك.
صدقا لو اطلقت لنفسي العنان لأعلق علي كل فقرة بالتفصيل ما انتهيت.
تفاصيلك الصادقة الممزوجة بالمشاعر والضياع والامل
اكثر من رائعة
أما عن توقعي أول لقاء مع ألمي صعب التخمين وإن لم يكن هناك امل طبعا في لقائهم بالمخيم فلابد انه في أحدأيام عمل هادى ربما يلقاها بأحد المطاعم او بسيارتها الفارهة
بالأخير كما الفراق نصيب قاللقاء ايضا نصيب يضع الله له مقاديره واسبابه
دمتي بكل الخير والسعادة ومصحوبة بالتوفيق حتي لو تابعك قارئ واحد فانت ولدت لتكوني كاتبة مبدعة صاحبة موهبة هي رزق وفضل من الله
بانتظار الفصل القادم فإلي لقاء

نوارة البيت 16-10-21 12:57 PM

الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين

ألحان الربيع 16-10-21 03:25 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة موضى و راكان (المشاركة 15714791)
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 8 ( الأعضاء 5 والزوار 3)

‏موضى و راكان, ‏ألحان الربيع, ‏amina min, ‏الماسة الخضراء, ‏AROOJ


الحمدلله على نعمتك يارب و كرمك علينا

اللهم رد الغائب الى وطنه و الشريد الى اهله و ارفع غضبك و مقتك عنا يا ارحم الراحمين

آمين يارب العالمين

ألحان الربيع 16-10-21 04:40 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة shezo (المشاركة 15714979)
مرحبا.صباح الخير غاليتي.
"كيف النجاة؟"رغم الصعاب وقسوة الهجيرإلا أن الله يسخر الأسباب فالسيد سليم قام بما عليه ويزيد ولكن خطورة الوضع وصعوبة الوصول في الميعاد مرعب.
أبدعتي حبيبتي في وصف تفاصيله وانا أحبس انفاسي قلقا ومشهد السائق المصاب وفقدانه وعيه قاس جدا وما يتبعه من التساؤل عن كيفية الوصول؟
ثم بمنتهي المهارة تنقلينا إلي أجواء اخرى لتلك المراة التي تحاول إيجاد سبيل لإنقاذ نفسها وترسيخ وجودها وقد جائها طوق النجاة متمثلا في موافقة صديقتها
فهي عن كانت انتهازية فزوجها عاصى لا يقل سوءا عنها والمرأة تخطط لسنوات قادمة بهذه الصديقة وزوجها وابنهم وكأنها إطلعت الغيب وبدأت ترسم ملامحه.
من يدرى ماذا يحمل غدا وماذا سيكون من مصيرنا نحن وليس اطفالا ابرياءتلعب بمشاعرهم كذبا
وليت وجود فاتن وفهمها لنوايا سوزى يكون مانعا من استغلال ألمي واجتذابها بحنانها الكاذب.
ويكفيها رفض عاصى عرض ابنته علي طبيب نفسي لانهيارها بذكرى موت والدتها
"يا لها من نجاة"الرحلة مستمرة ولكن كل ما تم إعداده تغير وكما فقدوا الوطن يفقدون مالهم ووسيلتهم المريحة للهروب ويتحول الليل لظلام دامس بقارب متهالك ورضيع يصرخ جائعا وليس هناك ما يشبع جوعه صورة صادمة وقاسية جدا.
وللأسف كما هو الحال في الكوارث يتسيد الموقف غلاظ القلوب الجشعين الذين لا تعرف الرحمة الي قلوبهم طريق حيث كل شئ بثمن حتي موت الانسان
بينما ينظر الله بعين الرحمة لعباده فينجو شادي بفضل المراة التي أرضعته والذى سبقها بالخير بتقاسم شطيرة شقيقته مع ابنتها فالخير لا يضبع جزائه.
والرحلة المرعبة التي صورتيها بشكل رائع كأني اسمع الرعد وأرى البرق بقارب متهالك .
وما أبدعك وانت تشجينا بآيات الذكر والادعية الجميلة التي تصدر من قائليها بكل الصدق فقرب الموت لا يكون معه الا المناجاة من القلب لرب الرحمة
هو فعلا فيلما قاسيا رسمته يد الاطماع و الفساد التي شردت الامنين حدأن العجوز وزوجته القيا بانفسهما في البخر ليخفوا حمولة القارب في مشهد يدمي القلوب ما اقسي هجرة الاوطان وما اصعب وسائل التمسك بالحياة بعد فقدان الهوية يقبل المرء ما يجده سبيلا للنجاة حافلة مهدمة بشق الانفس يجدون مكانا مخيمات لاجئين غير آدمية مجهولا غامضا يترصد الجميع.
لكن الجميل أن الشهيد يحي قد أحسن تربية ابنه من بعده فهو صامدا مؤمنا موقنا بقضاء الله وأن فرجه قريب.
كنت موقتة أن اسرة دنيا واسرة سلمي لن تكون نهايتهما بالفراق فها قد عادوا للتلاقي بالمخيمات
وليت السيد ماجد يوفق في ايجادهم فلا اظن ان السيد سليم سيغفل عن الاطمئنان علبهم.
وبالوقت الذى يصارع فيه الشرفاء للابقاء علي حياتهم يحيا ذلك العاصي الفاسد بالقصور ويستقبل الصيد الثمين الذى جلبته زوجته للنيل علي اكبر فائدة ويبدو للآن ان مخطط سوزى يسير كما تحب
وبمرور الوقت الذى بحث فيه ماجد لم يتبق سوى ثلاث مخيمات بعدها يفقد الامل في ايجادهم والرحلة والشتات تخلق من هادى رجلا يعمل خارج المخيم من أجل قروش
يضطر في احدى نوباته أن يصطحب دنيا وعندما تصرخ جوعا يضطر لجلب ما تأكله من مخلفات المطاعم.
حقا الدنيا غير عادلة منهم من يصرف ببذخ ويلقي بقايا طعامه والاخر لا يجد ما يقتاته الا من صناديق القمامة.
سلمت يداكي حبيبتي علي الفصل المبهر وبارك الله لك في موهبتك وايمانك الذى تنضح به عباراتك.
صدقا لو اطلقت لنفسي العنان لأعلق علي كل فقرة بالتفصيل ما انتهيت.
تفاصيلك الصادقة الممزوجة بالمشاعر والضياع والامل
اكثر من رائعة
أما عن توقعي أول لقاء مع ألمي صعب التخمين وإن لم يكن هناك امل طبعا في لقائهم بالمخيم فلابد انه في أحدأيام عمل هادى ربما يلقاها بأحد المطاعم او بسيارتها الفارهة
بالأخير كما الفراق نصيب قاللقاء ايضا نصيب يضع الله له مقاديره واسبابه
دمتي بكل الخير والسعادة ومصحوبة بالتوفيق حتي لو تابعك قارئ واحد فانت ولدت لتكوني كاتبة مبدعة صاحبة موهبة هي رزق وفضل من الله
بانتظار الفصل القادم فإلي لقاء

أهلا يا صباح الأنوار :eh_s(7)::eh_s(7):

صدقًا لا استطيع وصف مشاعري وأنا اقرأ تعليقك المعبر لدرجة تأثرت وكأننا نتكلم عن قصة حقيقية فعلاً....ما شاء الله عنكِ....قراءة تحليلاتك ممتع جداً....أشكرك على روحك الجميلة التي تزيّن روايتي وبارك الله فيكِ على الكلام المشجع للاستمرارية باذن الله


سنرى لاحقا ان شاء الله الى اين ستنجح سوزي بمخططاتها ....اما فاتن سلطتها على ألمى محدودة فهي تعطيها الحنان والاهتمام وتقوم بدورها كخالة قطعة من الأم لكن الآمر الناهي فيما يخصها بين يدي والدها عاصي رضا وسنرى ايضا في المستقبل ان كان بامكانها فعل شيء لمساندتها فعلياً.......
عاصي في نقطة رفضه للطبيب النفسي هو يمثل الكثير من مجتمعنا الذين يرفضون التوجه لطبيب لمساعدتهم لنفسهم او من اجل ابنائهم لأنهم يربطونه بمعالج المجانين والمرضى النفسيين وانها ستكون وصمة عار امام الناس مع الأسف..
وبالنسبة لأم سلمى التي ارضعت شادي هذا مثال ان الله لا يضيع مثقال ذرة وان فعل الخير يأتي الرد عليه عاجلاً غير آجلاً ....
يجب أن نَتَيَقن اذا اغلقت جميع الأبواب فإن باب الله لا يغلق ...اللجوء اليه هو الراحة والطمأنينة والفرج ....والأب محيي الدين نجح في زرع ذلك ببكره لأنه كان قدوة حسنة له وهذا دليل ايضا ان بشكل عام الأولاد هم مرآة لوالديهم فلذلك يجب ان نختار خطانا بعناية لأن أقدامهم ستكون فوقها....
المشهد الأخير ربما يرى البعض انه مبالغ فيه لكننا كم رأينا من اخبار عن مثل هذه الحالات ...البحث عن الطعام في الحاويات !! وسيكون المشهد القادم مكمل لهذا المشهد وسنرى ماذا سيحدث ان شاء الله ...وايضاً لأي درجة ممكن ان تصيبي في توقعك للقاء في الفصل الآتي باذن الله....
آسفة على الإطالة لكنني احببت الرد عليكِ وآسفة على التأخر بالرد بسبب مداخلات الأولاد والطلبيات التي لا تنتهي ههههه

حفظك الله أينما كنتِ


الساعة الآن 08:34 AM

Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.